قضايا

إشكالية تجديد الخطاب الديني بين "الخشت" و"الطيب"!

محمود محمد علي

إن ما حدث بين الدكتور محمد عثمان الخشت رئيس جامعة القاهرة، وفضيلة الإمام الأكبر أحمد الطيب شيخ الجامع الأزهر في اليومين الماضيين  فى إحدى جلسات مؤتمر الأزهر العالمي للتجديد في الفكر الإسلامى بجمهورية مصر العربية، لا ينبغي أبدًا فهمه في إطار أزمة أو صدام، بل هو مجرد سجال علنى بين طرفين، اتفقا كل منهما على هدف واحد ألا وهو "تجديد الفكر الإسلامي"، والذي يمثل عنوان المؤتمر الذى ينظمه الأزهر نفسه؛ فالأزهر الشريف قد تبني هذا الهدف في سعي منه إلي محاولة الوصول الى نقطة تلاقى بين المناهج المختلفة للتجديد، حتي وإن اختلفا كل منهما حول المنهج والأسلوب.

دعونا نفهم ماذا يريد كل من الدكتور الخشت والدكتور الطيب من تجديد الخطاب، ونبدأ أولاً بتوضيح مفهوم تجديد الخطاب الديني عند الخشب.. في البداية، قال الخشت في كلمته إنه «من الضروري تجديد علم أصول الدين بالعودة إلى المنابع الصافية من القرآن، وما صح من السنة النبوية، التجديد، يقتضي طرق التفكير، وتغيير رؤية العالم، ويجب أن تقوم على رؤية عصرية للقرآن، بوصفه كتابًا إلهيًا يصلح لكل العصور والأزمنة».

هنا في هذه الكلمة يريد الخشت (مع حفظ الألقاب) تجديد علم أصول الدين بالعودة إلى المنابع الصافية للقرآن الكريم وما صح من السنة النبوية مباشرة دون وسيط من اجتهادات بشرية، لأن الدين في نظره اكتمل عندما قال الله تعالي "اليوم أكملت لكم دينكم".. إذن هنا الدين اكتمل وما جاء بعد ذلك هو يمثل اجتهادات بشرية تصيب وتخطئ والتراث .. من الخطأ أن نقع في الفخ التالي: البعض يقبل التراث كله والبعض يرفض التراث كله .. والدكتور الخشت هو ضد الموقفين لأن التراث صناعة بشرية توجد به عناصر حية وتوجد به عناصر ميتة، أو عناصر إيجابية وعناصر سلبية، وبالتالي المطلوب منا كما يري الخشت أن نصنع تراث جديد يلائم العصر ويلائم تغير الزمان والمكان، والنظر النقدي في التراث القديم ما صلح منه نأخذ به ومالم يصلح لا نأخذ به أو ندحضه .

وهنا ينادي الخشت بمفهوم التجاوز وهو مصطلح علمي يوجد في العلوم الإنسانية والاجتماعية، والتجاوز في نظر الخشت يعني أن كل العناصر المتناقضة والمتصارعة يمكن النظر فيها من خلال العمل علي مركب جديد مختلف عن العناصر مثل التفاعلات التامة في علم الكيمياء؛ وهنا يريد الخشت أن يقول لنا أن التراث من الخطأ أن نقدسه ومن الخطأ أن نهينه.

ثم يؤكد الخشت علي نقطة مهمة وهي أننا لن نستطيع أن نأت بخطاب ديني جديد إلا إذا غيرنا منهجيات وأسس الدراسات الدينية، فهناك خلط بين المقدس والبشرى، وهناك علم تفسير قديم يقوم على صحة وصواب الرأي الواحد، بينما القرآن يتسع لمعان عديدة ومتعددة كلها تحتمل الصواب وكلها ممكنة التنفيذ لابد من دراسات جديدة تتخلص من سيادة العقائد الأشعرية وتكوين رؤية جديدة للعالم، ولابد التمييز بين درجات الأحاديث الآحاد والمتواترة فلابد أن نفتح المجال للعلوم الإنسانية الحديثة.

ولم يكتف الخشت بذلك بل يعلن بصريح العبارة أن جميع الإصلاحيين المعاصرين بشأن الخطاب الدينى لم يقوموا بالعودة إلى الكتاب فى نقائه الأول.. بل عادوا إلى المنظومة التفسيرية التى أنتجتها ظروف سياسية واجتماعية واقتصادية لعصور غير عصورنا.. واعتبروا أن كل الكتب القديمة هى كتب مقدسة.. وهى تمثل المرجعية النهائية فى فهم الدين.. مع أنها فى النهاية عمل بشرى.. وتجديد الخطاب الدينى لا يمكن أن يأتى من المؤسسات الدينية الكلاسيكية فى أية بقعة من العالم، إلا إذا كانت لديها القدرة على التخارج والتعلم من دائرة معرفية أخرى.. كما أنه لا يمكن تأسيس خطاب دينى جديد دون تكوين عقل دينى جديد.. وإن من أهم الشروط لتكوين عقل دينى جديد: إصلاح طريقة التفكير، وفتح العقول المغلقة وتغيير طريقة المتعصبين فى التفكير، والعمل على تغيير رؤية العالم وتجديد فهم العقائد فى الأديان ونقد العقائد الأشعرية والاعتزالية وغيرها من عقائد المذاهب القديمة.

وثمة نقطة مهمة يؤكد عليها الخشت وهي أنه لابد من تأسيس خطاب دينى جديد، وليس تجديد الخطاب الدينى التقليدي.. وإن تجديد الخطاب الديني عملية أشبه ما تكون بترميم بناء قديم، والأجدى هو إقامة بناء جديد بمفاهيم جديدة ولغة جديدة ومفردات جديدة إذا أردنا أن نقرع أبواب عصر دينى جديد.

إن تأسيس عصر دينى جديد في نظر الخشت يقتضى تكوين «مرجعيات جديدة» فى فقه جديد وتفسير جديد وعلم حديث جديد، ولن يحدث هذا إلا إذا تعددت وتنوعت مصادر المعرفة، إن التجديد من داخل العلوم الشرعية غير ممكن، لأنه سوف يجعلنا نقع فى حالة من الاجترار الذاتي، ومن ثمَّ نعود دومًا إلى نقطة الصفر، ولذا من الضروري فتح الباب لدخول عناصر جديدة حتى يتفاعل القديم منها مع الجديد.

هذا هو باختصار شديد مفهوم تجديد الخطاب الديني عند الدكتور الخشت، وننتقل عن مفهوم الخطاب الديني عند الإمام الأكبر أحمد الطيب، وهذا المفهوم اسمحي لي عزيزي القارئ أن أوضحه وأستوضحه من خلال المداخلة التي كانت بينه وبين الدكتور الخشت في اليوم الثاني من المؤتمر، وذلك في النقاط التالية والتي قالها فضيلة الإمام بصريح العبارة:

أولاً : يقول : إن هذا التراث الذى نهون من شأنه اليوم حمل مجموعة من القبائل العربية التى كانت متناحرة ولا تعرف يمينا من شمال فى ظرف 80 عاما إلى أن يضعوا قدمهم فى الأندلس وقدمهم الأخرى فى الصين لأنهم وضعوا أيديهم على مواطن القوة .. وإن هذا التراث خلق أمة كاملة وتعايش مع التاريخ .. وإن تصوير التراث بأنه كان شيئا يورث الضعف ويورث التراجع هو مزايدة على التراث .

ثانياً:  يقول: إن مقولة التجديد مقولة تراثية وليست مقولة حداثية وهى موجودة فى كتب التراث والحداثيون يصدعوننا بهذا الكلام وهو مزايدة منهم لا أصل لها.. وإنها لحرب بين التراث والحداثة شيء مصنوع صنعا لتفويت الفرص علينا (المسلمين).. وإن هناك ماكينة خبيثة تدير نمط التفكير لدينا.

ثالثأً: يقول: إن الفتنة التى حدثت بين الصحابة هى فتنة سياسية وليست دينية.. وإن السياسيين يختطفون الدين ليحققوا به أغراضا ومصالح شخصية تنأى عنها الدين.. وأن السياسة تختطف الدين اختطافًا فى الشرق والغرب حينما يريدون أن يحققوا غرضا لا يرضاه الدين.. وهذا ما حدث فى حرب الـ 30عاما والحروب الصليبية.. وما مبررات الكيان الصهيونى لكى يبقى فى بلاد الآخرين غير نصوص دينية فى التوراة يحرفونها ويزيفونها.

رابعاً: يقول: كل فترة نعقد (يعنى الأزهر) مؤتمرات وندوات نحاول فيها أن نبرهن أن الإسلام من الإرهاب براء، والإرهاب ليس من الإسلام، والكل يعلم هذا، فأصبحنا نُتهم ونحن من هذا كله براء.. وهذه معركة وعي.. ولسنا (أى الأزهر أيضا) بحاجة لندافع عن أنفسنا.

خامساً: يقول: إن إهمال التراث بأكمله ليس تجديدًا وإنما إهمال، مشيرًا إلى أن الأشاعرة لا يقوم منهجهم على أحاديث الآحاد، ويعتمدون على الأحاديث المتواتر، مشيرًا إلى أن التراث حمله مجموعة من القبائل العربية القديمة الذين وضعوا أيديهم على مواطن القوة والتاريخ. سادسا: يقول: إن إهمال التراث بأكمله كارثة، والأشاعرة لا يقيمون منهجهم على أحاديث الأحاد، ولكن يعتمدون على الأحاديث المتواترة.

سابعا: يقول:  إن التراث حمله مجموعة من القبائل العربية القديمة الذين وضعوا ايديهم على مواطن القوة والتاريخ، وأن العالم الإسلامي كانت تسيره تشاريع العلوم الإسلامية قبل الحملات الفرنسية.. وأن توصيف التراث بأنه يورث الضعف والتراجع فهذا مزايدة على الإراث، وأن مقولة التجديد مقولة تراثية وليست حداثية، موضحا أن الفتنة التي نعيشها الآن هي فتنة سياسية وليست تراثية، وأن السياسة تخطف الدين اختطافا حينما يريد أهلها أن يحققوا هدفا مخالفا للدين كما حصل في الحروب الصلبية وغيرها.

هذا هو باختصار موقف فضيلة الإمام من تجديد الخطاب الديني من خلال أقوله التي ذكرها في المؤتمر... ولا شك في أن المناظرة الحوارية التي دارت بين فضيلة الامام، والدكتور الخشت خلال المؤتمر الأزهر العالمي للتجديد في الفكر والعلوم الإسلامية، قد أثارت جدلًا كبيرًا في الشارع المصري والساحة السياسية من خلال مواقع التواصل الاجتماعي بكافة أشكالها .. وفتحت الباب للخلاف الجدلي بين الحداثة والتراث الذي كان وما زال حديث كل العصور مثار خلاف العلماء، فمع مطالبة البعض بالتجديد وتنقية التراث من السموم ومصطلحات العنف والمفاهيم المغلوطة التي تروجها الجماعات الارهابية.. يرى آخرون أن الهجوم على التراث غير مبرر ويدعو للتخلي عن الهوية التي هي أساس التقدم، فضلًا عن أن التراث الإسلامي ليس تراثًا تصادميًا ويعمل على تقبل كافة الآراء ولا يستطيع أي إنسان ينتمي إلى الإسلام أن يغلق باب الحوار.

كما رأي آخرون أن المناظرة تؤكد أن الازهر لن يقبل أي رؤية مخالفة لتوجهاته وأنه ليس مع تجديد الخطاب الديني، والإساءة لمن يهاجم التراث... أما آخرون فقد أكد أن ما حدث ليست مبارزة أو مناظرة، ولكن هي مداخلة لا أكثر وأقل

هذا تلخيص ما حدث ولذلك أؤيد الأستاذ "مجدي سرحان" في مقاله (لله وللوطن بين الخشت والطيب والمنشور جريدة الوفد) حين أكد أن الذي دار بين فضيلة الإمام والدكتور الخشت في المؤتمر يمكن اعتباره خلافا حول "أجندة تجديد الخطاب الديني" وليس حول الهدف.. ولا نجد فيما قاله العالمان الجليلان أى غضاضة.. الدكتور الخشت يرفض فكرة "التجديد" ويدعو إلى "تأسيس جديد".. بينما ينبه الدكتور الطيب إلى خطأ اعتبار أن أزمة الفكر الدينى هى "أزمة تراثية"، لكنها أزمة خلط بين الدين والسياسة.. وهو ما عبر عنه بقوله: "إن السياسة تختطف الدين اختطافا".. وهو بذلك يدعو إلى ما يمكن اعتباره "تجديد الفكر السياسي" بالتوازى مع تجديد الفكر الدينى الذى يجب أن يُبنى على ما سبق تأسيسه بالفعل من تراث دون تشويه أو مزايدة على التراث.. لأن كتب التراث نفسها تتبنى فكرة التجديد وتدعو إليه... هل ترى فيما قاله الرجلان خطأ أو تجاوزا أو افتراء على الدين والعلم؟.. لا أعتقد ذلك (وذلك حسب قول مجدي سرحان : لله وللوطن بين الخشت والطيب في جريدة الوفد).

هذا من ناحية ومن ناحية أخري فإننا لا نريد أن يخرج الحوار الذي دار بين فضيلة الإمام والدكتور الخشت عن سياقه، ونحوِّله إلى معركة ينتصر فيها فريق لشيخ الأزهر، وفريق مع رئيس الجامعة، فالرجلان عالمان جليلان يقدر كل واحد منهما الآخر، ولقد سمعنا من رئيس جامعة القاهرة أثناء كلمته أعظم الإشادة بالأزهر وإمامه، كما أنه هو الذي عرض على من يخالفه في الرأي أن يبدي رأيه وهذا شأن العلماء الثقاة الذين يؤمنون بالرأي والرأي الآخر.

كما لا ننسي أن هناك علاقة حميمة بين فضيلة الإمام الأكبر والدكتور الخشت، وهذه العلاقة لا بد من أن تتضمن في ثناياها بعض المناوشات العلمية، وهذا أمر مقدر بين العلماء، وهو يقوم على قاعدة: أن الخلاف في الرأي لا يفسد للود قضية، فنرجو من أهل الفتن عدم الصيد في الماء العكر، وإذكاء نار الخصومات بين مؤسسات الوطن، والانشغال بها عن القضايا الكبرى والخطيرة التي من أجلها عقد المؤتمر، ولابد لنا أن نتعود على الاختلاف في الرأي فهذا منهج إسلامي أصيل سار عليه السلف والخلف، وفي إطاره نحافظ على علاقات الود والرحمة التي يجب أن تسود بيننا، وأن لا نسلم لهؤلاء المتطرفين المتشددين ورقة يتلاعبون من خلالها بعقول الشباب، ليقولوا لهم هاكم انظروا: كيف أن علماءكم يختلفون فيما بينهم، ونحن الذين بفكرنا نعصمكم من هذه الخلافات... فنرجوا من أصحاب العقول الرشيدة ألا يضيعوا ثمار هذا المؤتمر (وذلك حسب كلام أستاذنا الأستاذ الدكتور غانم السعيد أستاذ الأدب والنقد بجامعة الأزهر).

وفي ختام هذا المقال أقول وبلا أدني شك بأن كل من فضيلة الإمام الأكبر أحمد الطيب والدكتور الخشت كانا مجددان ولم يكونا مقلدان بأي وجه من وجوه التقليد. والمجدد ينظر إلى الأمام، والمقلد ينظر للخلف والعياذ بالله، المجدد يمثل النور، والمقلد يمثل الظلام، ألم يقل الفيلسوف ابن سينا في دعائه إلى الله تعالى: فالق ظلمة العدم بنور الوجود. ومن حكمة الله تعالى أنه خلق عيوننا في مقدمة أدمغتنا، ولم يوجدها في مؤخرة الأدمغة.... تحية طيبة مني لهما.

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

 

في المثقف اليوم