قضايا

فايروس الكورونا أمام العدالة

تماضر مرشد آل جعفروضع (المواطنة) في العالم العربي في قفص الاتهام

في الوقت الذي اعتبرت فيه منظمة الصحة العالمية مخاطر فايروس كورونا ـ جائحة ـ طالت مخاطرها البشرية كلها، تفاوتت الحكومات في دول العالم في طريقة حماية مواطنيها، كذلك تفاوتت الشعوب في طاعتها واستجابتها لتلك القوانين التي ستحد من انتشار المرض.

الأمر الذي جعلني أقارن بين تلك الشعوب وأسباب تفاوتها في الاستجابة لقوانين الحماية الصحية ومن الطبيعي أن تكون الشعوب العربية في الواجهة لضعف البلاد العربية كافة بسبب الحروب التي أنهكتها بعد ثورات الربيع العربي والتي خرجت أصلاً للمطالبة بحريتها وحقها في ـ المواطنة والعدالة ـ.

المواطنة أولاً

أصبحت جائحة كورونا ـ مقياس حرارة المواطنة ـ لدى الإنسان العربي من خلال التزامه بقوانين الدولة بما يُخاف على سلامته وسلامة بلاده.

هنا تحضرني عدالة رولز وقانونه المعتمد على: أن مجتمعًا لا يتوفق في حماية حريات مواطنيه، لا يمكن أن يتوفق في تدبير أي مهمة أخرى.

هكذا تكون المهمة الأصعب هي الصحة والاكتفاء الاقتصادي.في ظل حكومات عربية تتسم غالبها بالجمهورية أو الجماعاتية يُناقش دكتور علي الربيعي(1)، مسألة المواطنة بقوله: (يتهدد الجمهوريات العربية من مخاطر الانقسامات العمودية على أسس طائفية أو عرقية وإلغاء فكرة المواطنة لصالح الانتماء إلى جماعات ما قبل الدولة الحديثة، ما يدفع إلى التساؤل حول هل لا يزال بناء دولة المواطنة ممكنا؟

فطبقا للتصور الجمهوري للأمة مجتمع الواجب والالتزام. وهذا يعني أن يكون كل شخص مستعدا وراغبا في التضحية من أجل وطنه، ويشارك الآخرين من خلال النقاش السياسي في صياغة اتجاه المستقبل لمجتمعه).

هنا نضع أمام أعيننا التصرفات التي نتجت من مواطني الدول العربية مع تحذيرات انتشار الأمراض لنرى هل التزموا بواجب المواطنة الذي اعتقدت تلك النظم أنها صنعته؟

في المقارنة بين حرية دولة الامارات والكويت وقطر عل سبيل المثال وانفتاحها على شعوبها في مفهوم حقوق المواطن كان الالتزام واضحًا وعودتهم إلى بلدانهم وإعلانهم للدولة عن إصابتهم من زيارتهم للجارة إيران،  وبين إنغلاق السعودية وعدم تصارحها مع مواطنيها ممن يتخذون مذهبا شيعيا مخالفا لعقيدة الحاكمين، جعل المواطن غير ملتزم بتعليمات الدولة وحصل انفلات الإنسان السعودي من تحت عباءة الحكام كونه فقد سمة (مواطن) من حرية العقيدة التي يختار والعمل الذي يعمل بما لايخالف سيادة البلد.

ثم الفوضى التي أحدثتها الحروب الطائفية في العراق وسوريا واليمن ولبنان كان أثرها كبيرا جدا في فقدان الإنسان لإنسانيته أولا وعدم اكتراثه بالمرض والموت، ثم فقدانه لمفهوم المواطنة فتعاطف الشيعة مع إيران ومحاولة مساعدة الشعب الإيراني على حساب أمن بلدانهم الصحي، والتزام السنة والمسيح  بقوانين الحجر الصحي لايعني شعورهم بالمواطنة بقدر شعورهم بالخوف من نكبات جديدة.

ثم تأتي باقي الدول العربية الفقيرة وفقدانها للأمان مع استمرار الحروب على أرضها واستمرار مظاهر الموت قتلا وجوعا وفقرا وانتحارا وجهلا أفقد كذلك المواطن فيها شعوره بالمسؤولية تجاه بلده.

إن عدم احترام حرية المواطن العربي دفعته إلى اللجوء ألى الجماعات سواء أكانت دينية أو عشائرية، ولم يكن التوجه نحو النقابات أو الاتحادات كما هو الحال في الغرب لتكون في مأمن من سلطة لا تعتبر حرية الأفراد أولوية في تحقيق وحدة الدولة. فأبعدته انتماءاته للمجموعة الدينية عن مسؤليته تجاه الوطن وأفراده ليجد نفسه منفذاً لتعليمات مجموعته الدينية خارج حدود هذا الوطن ليجلب لبلاده الأمراض الوبائية محاولة منه لمساعدة أبناء جماعته الدينية على حساب الوطن الذي أفقده الشعور بالمواطنة.

تدخل الدول العربية بسياسات بعضها أفقدها قدرتها على التطور العلمي والثقافي والاقتصادي والذي انعكس على المستوى الصحي في البلد كما أظهره فايروس كورونا ، في الوقت الذي رأينا فيه الصين تتكأ على اقتصادها واعتمادها منظومة صحية جيدة مع الفارق الكبير في تعداد السكان كون الصين تحاول غزو العالم اقتصاديا ولا تتمدد إلى البدان بالحروب العسكرية والسياسية كي تحافظ على ولاء مواطنيها بعدم إدخالهم في حروب ودفعهم للموت. في التجربة الصينية لم يستفد العرب وإن كانوا راغبين بأن تكون الصين هي رائدة العالم لعدائهم ـ الاجتماعي أو النفسي ـ لأمريكا، ولكنهم لم ينتفعوا لعدم وجود رؤية عربية اقتصادية موحدة مع عدم توافقهم في مفهوم الحرية. والتفاوت في وجهات النظر في السياسة والاقتصاد.

لم يستفد العرب من تعاملهم مع الصين في عدم التدخل في شؤون الدول الأخرى، كما لم يستفيدوا من حريات أمريكا وأوربا التي استطاعت كسب ولاء مواطنيها من التزامها تجاههم بميثاق الحرية الفردية والجماعية على اختلاف أديانهم وقومياتهم.

فهل ستتمكن الحكومات العربية من الإستفادة من تلك الجائحة العالمية لبناء دولة مواطنة؟ وفق ما قاله دكتور علي الربيعي :ان تناول مسألة العلاقة بين المواطنة كهويّة موحدة وتعددية الهويّات الجماعاتية تبدو سهلة الطرح للوهلة الأولى ولكن يبرز مكمن الصعوبة عند محاولة إيجاد حل لها....

وهنا يجب أن نستفيد من فكرة رولز في بناء مجتمع العدالة الذي يدعم شعور المواطنة: المجتمع لا يصمم فقط من أجل تحقيق الخير لأعضائه، ولكن يجب أن يكون أيضاً منظماً من خلال تصور عمومي للعدالة. بمعنى أنه مجتمع يقبل كل شخص فيه ويعرف أن الآخرين يقبلون مبادئ العدالة نفسها. وتفهم كذلك كيف تكون المساواة في تكافؤ الفرص بين المواطنين.

أيضًا يجب أن نستفيد من مفهوم التسامح في ظل الأزمات

مفهوم التسامح في دلالته الإيجابية (التي تخرج عن مجرد التعايش والتحمّل) يتضمن مبدأ التحاور والتفاهم ضمن ما دعاه الفيلسوف الأميركي جون رولز  يمكن أن يكون قاعدة صلبة لسياسات تضامن فاعلة وناجعة.

كما قرأنا تلك الواقعة التي يمكن أن نستفيد منها ونحن نبني مفاهيم المواطنة: (لم يجد مارتن لوثر من وسيلة للدفاع عن نفسه ضدّ تهمة الزندقة غير مقولة «حرية الضمير» التي تحوّلت بسرعة إلى بيان أخلاقي شمل كلّ ثقافات أوروبا. وقد أسّس لوثر هذه الفكرة على اعتبار أنّ الإيمان هو هبة حرّة من الله وأنّه لا يمكن إكراه أحد عليه، ومن ثمّ لا يجدر بنا الانتصار على الهراطقة بالنار بل بالمواعظ المكتوبة).

ولكن افتقار العالم إلى (بوصلة أخلاقية)، يجب أن لايكون في الدول التي كانت مهبط الرسالات السماوية جميعها. والتي دعت إلى التسامح والمغفرة والعفو عند المقدرة، بين الغرباء فمن باب أولى أن يكون بين أبناء الوطن العربي الواحد، فبدءا بالإنجيل: "كُونُوا لُطَفَاءَ بَعْضُكُمْ نَحْوَ بَعْضٍ، شَفُوقِينَ مُتَسَامِحِينَ كَمَا سَامَحَكُمُ اللهُ أَيْضًا فِي الْمَسِيحِ" (رسالة بولس الرسول إلى أهل أفسس 4: 32)

ولم تضع الفلسفات والأديان قانونا للتسامح وفق ماذكره الشارع : (فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ) قرآن كريم، سورة البقرة(109). وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (22)سورة النور

وكانت «صحيفة المدينة» التي وُضعت سنة 623 للميلاد ، أوّل قانون مدني لقضية التسامح بين الطوائف والأديان في التاريخ العربي والتي وضعت أسس للتسامح ليس فقط مع أهل الأديان السماوية ـ أهل الكتاب ـ وإنما فرضت حسن التعامل مع المشركين والملحدين ـ مالم يبدر منهم مايسئ للمدينة وأهلها ـ ولهم حسن الجوار مع من هم خارجها. فكان ذلك أول تأسيس لمفهوم المواطنة .

وأخيرًا

يمكن أن نقول أنه يمكن للحكومات والساسة في الوطن أن يغضوا النظر عن آراء مخالفيهم إذا ما التزموا أخلاقيا برأي سبينوزا القائل: (لا يتمثل التسامح باعتبار أن أي رأي يكون صحيح، ولكن الاعتراف بالحرية الكاملة للغير في التفكير بذاته، والتعبير عن آرائه)، وإن العفو عند المقدرة فضيلة.

عسى أن تضعنا جائحة كورونا شعوبا وحكومات أما مسؤولية صحة المواطن العربي حق وواجب.

 

د. تماضر آل جعفر- بغداد

25ـ 3ـ 2020(عصر الكورونا)

...................................

1- مقال وحدة المواطنة وتعدد المجموعات/ 15/يوليو/2016/ مؤسسة مؤمنون بلا حدود

 

في المثقف اليوم