قضايا

كل حديث ما خلا كورونا.. باطل!

محمود محمد عليمنذ أقل من شهرين كنا نتحدث صباح - مساء عن قضايا كثيرة، كانت تشغل الرأي العام العربي والعالمي : مثل صفقة القرن، والحرب الاقتصادية التي كان يشهنا ترامب علي الصين، وحروب الجيل الرابع والخامس، وخروج بريطانيا من الاتحاد الأوربي، وإرهاب الإخوان المسلمين علي الدولة المصرية، والسترات الصفراء في فرنسا، وصراعات أردوغان مع الأكراد وروسيا، ومشكلة إدلب.. وهلم جرا.

حتي فوجئنا ما بين عشية وضحاها بأنه لا حديث يعلوا علي حديث فيروس كورونا، والذي اجتاح العالم فجأة، فما يشهده العالم الآن عن هذا الفيروس اللعين هو مثلث مخيف، حيث إن انتشاره غير معروف إمكانية التعامل معه.. سريع الانتشار.. لا مصل ولا لقاح له.. وهذا أدي إلي ذعر نفسى، وارتباك إعلامي.. إجراءات صارمة غير مسبوقة تخلق جواً من كابوس مالي اقتصادي مع تأثيرات سلبية على أسواق العالم واقتصاداته وأحوال البسطاء.

إن أخطر ما فى ملف كورونا أنه فيروس خارج عن السيطرة.. لم يتم اختراع مصل مضاد له.. معظم الناس فى هلع لأنهم لا يصدقون ما يقال عنه.. فى فيروس كورونا جرى تأسيس «الوسواس القهرى» باعتباره منهجاً للنجاة.. عليك أن تنشغل بغسل الأيدى على مدار الساعة.. عليك أن تعيد ذلك بعد كل مرة تلمس فيها أى شىء.. كل الأشياء باتت محرمة، الأبواب والمناضد والمصاعد، وراح البعض ينشر فترة البقاء الطويلة للفيروس على الأسطح، وهو ما يعنى تقريباً فرض حصار على كل مكونات الحياة، ومن دون استثناء.. وذلك حسب قول أحمد المسلمانى في مقاله بعنوان "علم اجتماع كورونا".

ورغم أننى لا أحب الذين يتاجرون بالشعارات الدينية، أو يوغلون فى التفسير الغيبى إلى حد الدروشة والانحراف عن صحيح الدين وحقيقة الإيمان، فإن ما نشهده الآن هو حدث جلل يجب أن يفهمه أصحاب العقول والقلوب والنفوس المؤمنة.. لقد فرغت المدن من ساكنيها.. هجرتها الحياة، وطغى عليها الحزن ورائحة الموت في كل مكان.. لقد تغير وجه الحياة.. وبالقطع لن يعود العالم بعد انتهاء هذه الجائحة إلى ما كان عليه.. ثمة متغيرات ستعلو وجه العالم، بعد أن قهره تفشى المرض، فألبسه ثوب الهزيمة حتى هذه اللحظة.. عصف كورونا بحياة الآمنين، وتركهم يواجهون مصيرهم، مثل إيطاليا أكثر الدول الأوروبية تضرراً، تلك البلاد المحبة للحياة، باتت مدنها مهجورة تتجول فيها الأشباح، مشاهد حزينة تخرج منها، مثل فيديو الشاحنات التى تحمل جثث الأموات جرّاء الفيروس فى صمت مهيب، متجهة إلى «أفران الحرق»، دون مشاركة ذويهم خوفاً من انتقال العدوى، والاكتفاء بالاحتفاظ برمادهم!! مشهد يُدمى القلوب ويضاعف الأحزان.. كما تقول جيهان نصر في مقالها بعنوان «كورونا» يضرب غرور العالم.

والرسالة التي يقدمها لنا فيروس كيرونا تقول أيها الإنسان إعرف حقيقة حجمك ومكانك ومكانتك فى ضفاف هذا الكون العظيم.. ها هى اقتصادات العالم - جميعها - تعانى من خسائر مجمّعة مباشرة وغير مباشرة تتجاوز التريليون دولار حتى تاريخه.. ها هى صناعات مثل النقل الجوى، والسياحة، والسفر والفنادق تحتضر.. ها هى صناعات النفط للشهر المقبل تنذر بأقل هبوط تاريخى لبرميل النفط حتى يكاد يصل إلى 25 دولاراً.. ها هى شركات كبرى ومتوسطة وصغرى لا تعرف ماذا تفعل مع جيوش موظفيها وعمالها وكيفية التعامل مع تأمينهم صحياً ومادياً؟..ها هى المساجد والكنائس والمعابد وملاعب كرة القدم والاحتفالات والاجتماعات العامة والمقاهى والمطاعم بلا جمهور.. ها هو الحرم المكى والحرم النبوى محددا الزوار، وها هو بابا روما يلقى، لأول مرة، عظته الأسبوعية بلا «مؤمنين»..الاقتصادات، والحكام، والحكومات، والعلماء، والأطباء، والنظام الصحى والعملات، والبورصات، والتجارة العالمية، والانتقالات فى الداخل والخارج تحت ضغط غير مسبوق.. باختصار.. البشرية - فجأة - فى أزمة!.. إنه درس يدعو كل من على كوكب الأرض إلى أن يتأمله بعمق ويتدارسه.. عالم ما بعد الكورونا ليس كعالم ما قبله، وقيم ومشاعر وأحكام البشر بعد الكورونا سوف يعاد تقييمها وتدارسها بمنظور الإنسان المتواضع البعيد عن طغيان قوة العلم والمادة..كما يقول عماد الدين أديب في مقاله بالوطن بعنوان «كلا إن الإنسان ليطغى» .

إن فيروس كورونا الذي تشن عليه البشرية أشرس حرب، واتفقت على ملاحقته بكل أطيافها العرقية والدينية والأيديولوجية للفتك به هو ذاته الفيروس الذي رمم العلاقات البشرية الاجتماعية التي نخرتها الحفلات المتنوعة، وخلخلتها رحلات العمل، وأضعف رابطتها المولات واللهاث وراء الماركات، هذا الفيروس الهزيل هو الذي ألغى رحلات العمل والسياحة، وهو الذي ختم بالشمع الأحمر على المولات، وأعاد كل أعضاء العائلة إلى عشها، فأمسوا يقضون في كنفه ودفئه اليوم كله، وصارت العائلة تأكل وجباتها و« سناكاتها» في البيت، فتعززت الحميمية وتوثقت العلاقة..إن فيروس كورونا نكش بمنقاشه الدقيق تضخم الذات البشرية التي تفاخر بالسباحة في فضاء الكون السحيق، فتلامس القمر وتمشي على زحل وتتبختر بمركباتها في المجرة، وتباهي بتقنياتها المذهلة، وتفخر بمخترعاتها الرهيبة، ومع هذا كله تعجز بكل تقنياتها وخبراتها وعلمائها ومعاملها وجامعاتها وتجاربها وتريليوناتها أن توقف الغزو الفيروسي بقيادة الجنرال كورونا، الذي بالكاد يُرى بالمجهر الدقيق جداً، لتبرز عظمة الخالق في مخلوق صغير كما يقول حمد الماجد في بمقاله بالشرق الأوسط بعنوان كورونا» ضَبَطَ إعدادات العلاقات الإنسانية .

لقد عجز العلم حتى الآن عن إيجاد علاج فعال يوقف تأثير «فيروس كورونا»، الذى كسر كبرياء العالم وهيبته، وحطم غروره، وأخرج له لسانه مستهزئاً بأن السيطرة ما زالت فى حوزته.. العالم أمام تحدٍّ حقيقى، إما أن يتكاتف ويتعاون لقهر هذه الجائحة، وإما أن يستمر فى غروره وتيهه، فيفوّت الفرصة على تغيير جذري حان وقته.. فهل يقبل التحدي ويسرع فى هزيمته، ووقف انتشاره؟ نتضرع إلى الله أملاً فى رحمته.. كما تقول جيهان في مقالها السابق..

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل

 

في المثقف اليوم