قضايا

الانفلات المعرفي المنظم

حمزة الشافعي (المفهوم، البنية، الأهداف، النتائج، الآليات، الفضاءات والوضعيات)

تعريف "الانفلات":

تدل كلمة "انفلات" في استعمالاتها الشائعة على خروج الشيء من السيطرة، وقوع انزلاق/انزياح أو انسياب/تسرب خطير، انحراف أو فساد الأخلاق، العشوائية والاعتباطية، التخلص والهروب من الشيء، وغيرها من الدلالات والإيحاءات. والملاحظ أن مجمل تلك الدلالات denotations  والإيحاءاتconnotations ، اللصيقة  بكلمة "انفلات"، ترتبط بسياقات ومعاني ذات حمولة سلبية. وفي هذا الصدد، يمكن مثلا الحديث عن صيغ متعددة ومختلفة من الانفلات؛ كالانفلات "الأمني" و"الحراري" و"الأخلاقي/الثقافي" و"المقاصدي" و"النفسي-الروحي" و"الخطابي-التواصلي" إلخ. والمقصود ب"الانفلات المقاصدي" هو عندما تنفصل مقاصد الأحكام والتشريعات عن الواقع، أو عندما يكون هناك سوء تقدير أو تأويل لها مما يولد إما قطيعة، تناقض، اضطراب، فوضوية أو نفي لأحدهما على حساب الآخر (أي إما المقاصد (والأحكام) أو الواقع (التطبيق). أما "الانفلات النفسي-الروحي"، فيحيل على حالة اللامراقبة الذاتية أو سيطرة الانفعال وغلبته على العقل وعلى الضوابط السلوكية والروحية المتزنة، مما يتمخض عنه لا انضباط (لا تحكم) انفعالي، اضطراب نفسي أو لا استقرار روحي، سواء كان ذلك لحظيا أم مزمنا. كما يقصد ب"الانفلات الخطابي-التواصلي" الانزياح أو الخروج عن المعنى أوعن الدلالة الأساسية الخاصة بنص أو بوضعية تواصل(ية) ما، مما قد ينتج عنه تشتت المعنى، تعارض أو انزلاق الدلالة، تأويل أو استيعاب معاكس لغاية/هدف الخطاب، أو فشل في الإقناع إلخ.

مفهوم "الانفلات المعرفي المنظم"

على النقيض من ذلك، يؤدي ربط  كلمة انفلات ب"المعرفة" إلى إفراز دلالات  وإحالات إيجابية، خاصة إذا تم ربط "انفلات المعرفة" بشروط النظام والتنظيم والانتظام. معنى ذلك هو استباق وتقييد كل أشكال الفوضوية والسلبية التي قد تنتج أثناء عملية انفلات المعرفة، من خلال تأطير/تنظيم هذه العملية، لتصير مرتبة ومنهجية. بناء على ذلك، يمكن تعريف "الانفلات المعرفي المنظم" أنه "شكل جديد" من الانفلات الإيجابي و"المرغوب فيه"، ويتميز بالتنظيم والتخطيط المسبق (أي أنه قد لا يقع بغتة)، مع توقع نتائجه. كما أنه انفلات يمنح الحياة والنجاة والتحرر على شتى الأصعدة، وذلك من خلال إفرازاته المحمودة التي تعود بالنفع على الفرد والمجتمع على حد السواء، وعلى الوطن ككل. في حين، فإن الأشكال الأولى من الانفلاتات التي تنفجر أو تحدث بغتة/فجأة، فغالبا ما تقود إلى نتائج (غير) مباشرة  غير محمودة العواقب (كما في الانفلات الأمني والحراري والأخلاقي مثلا)، أو إلى تأويلات قد يكتنفها الغموض والضبابية والتناقض، ومن ثم سوء الفهم، التصادم، القطيعة، النفي إلخ، (كما في الانفلات الخطابي-التواصلي والانفلات المقاصدي مثلا). فإذا كان من الضروري كبح وتقليص أشكال تلك الانفلاتات نظرا لإفرازاتها السلبية على المستوى الفردي والاجتماعي والبيئي والثقافي واللغوي-التواصلي، فإنه من الضروري أيضا تحفيز ودعم كل صيغ "الانفلات المعرفي المنظم"، لبناء وتصنيع  وتأطير الأفراد والمجتمعات معرفيا وعلميا.

بنية "الانفلات المعرفي المنظم":

يتشكل مفهوم "الانفلات المعرفي المنظم" من ثلاثة عناصر/كلمات، وهي بمثابة أهم آليات بلورة، بوتقة وتفعيل عملية الانفلات بالمفهوم الجديد، وذلك في إطار علاقة تفاعلية هرمينوطيقية داخلية لتلك العناصر الثلاثة. وما يميز هذه العلاقة هو التفاعل، التتالي، التجدد، الحركية واللاتناغم/اللاتناسق الدلالي المفضي الى التناغم/التناسق على صعيد الغاية/ الهدف عند كل "انفلات منظم للمعرفة". وبذلك تتولد علاقة خارجية جديدة سمتها التماسك والتفاعل ضمن السياق/ المعطى الخارجي كشرط أساسي لنضوجها، حياتها واستمراريتها، لأنه في آخر المطاف صيرورة، تتغيى إحداث تغيير خارجي ملموس وفعلي خدمة للجميع (المجتمع والدولة أو الوطن)، وإن كان منطلقه داخليا وفرديا، أي بنيويا structural. ف"الانفلات " من منظور هذا الانفلات الجديد يجب أن يقترن بالمعرفة، وفق عملية أو صيرورة منظمة ونسقية بعيدا عن العشوائية والفوضى واللاتنظيم/اللانسقية. وتجدر الإشارة أنه يمكن الحديث أيضا عن "انفلات معرفي عشوائي/فوضوي/غير منظم"، وهو انفلات يمكنه في حالات وسياقات أن يؤدي الى نفس نتائج الصنف المنظم، لكن مع التحذير من جعله بديلا له، لأنه مفاجئ، غير مدروس من حيث الاستراتيجيات والمنهجيات والمآلات. بمعنى فالصنف المنظم المنشود، "انفلات معرفي منظم ونسقي" يمكن التكهن بنتائجه وتحديد آلياته وأهدافه،  وتنويع فضاءات وقوعه، ووضعيات تنفيذه.

أهداف "الانفلات المعرفي المنظم"

يهدف "الانفلات المعرفي المنظم" إلى تحرير الإنسان من تجليات الجهل بكل صيغه ودرجاته وتجلياته: مركب-متشابك، ممؤسس-مرسم-رسمي مدقع ومستفحل، مستورد عن طريق التقليد، ثقافي-محلي... كما يهدف أيضا إلى تفجير البعد المشرق "اللامرئي"   unseen/hidden في الذات الإنسانية، وصقل هذا البعد حتى ينعكس على الفرد في علاقته مع نفسه ومع غيره، ومع المجتمع ككل (القدرات والإبداع والابتكار)، مع الاحتفاء بالجوانب المشرقة "المرئية"seen/obvious  وتثمينها ومواكبتها وتعزيز استمراريتها. من إيجابيات هذا الانفلات، أنه يشرك جميع أفراد المجتمع دون استثناء، أي أنه لا يخص فئة/نخبة مثقفة دون أخرى، أو طبقة اجتماعية دون غيرها. إنه انفلات  لاطبقي يمنح لأكثر المنفلتين معرفيا، خاصة العضويين منهم organic، فرصا أكبر للانتساب لمجتمع الانفلات المعرفي والوصول إلى أعلى الهرم المعرفي-العلمي، ومن ثم يسلحه بآليات أنجع لخدمة مجتمعه ووطنه.

ولا شك أن نجاح هذا المشروع-الرهان، أي البناء والتكوين المعرفي للفرد، سيسهم مباشرة في تحقيق مجتمع مؤطر وقوي معرفيا وعلميا. وهو الأمر الذي سينعكس ايجابا على سلوكه ونظرته للحياة ورغبته في الانتساب/الانتماء والولاء لوطنه الأم وللإنسانية جمعاء. كما سينتقل به من مجتمع مستهلك لشتى أصناف المعرفة واللامعرفة  إلى آخر مغاير، ينتج ويصنع ويصدر المعرفة، وفي أضعف الأحوال، مجتمع يحلل وينتقد معرفته قصد تطويرها وتنميتها، كما يستطيع انتقاء وترشيح  filtration معرفة غيره التي تصله عبر مختلف الوسائل والوسائط.

إن "الانفلات المعرفي المنظم" قادر إذن على نقل الفرد والمجتمع  من حالة التوحش والفظاظة، الجهل المدقع، السطحية المدمرة للإبداع، النفاق الاجتماعي و"التقني" technical hypocrisy، السذاجة المتفشية،  والاستهلاكية اللاواعية، إلى حالة إدارة كل أصناف التوحش والجهل والسيطرة عليها، وإلى الأمن الواعي المستدام، الاستقرار البيئي المتوازن، الاتزان الأخلاقي-السلوكي المحمود، الاتصال/الحوار المجتمعي-الحضاري الواضح والصريح. فهذا الانفلات إذن، قمين بالقضاء على الانفلاتات الأخرى التي إن لم تقض على الفرد والمجتمع نهائيا، فإنها قد تضعهما في مواقف سمتها الخطر والتهديد والورائية تارة، والغموض والضبابية والقطيعة تارة أخرى (كما في الانفلات الخطابي-التواصلي مثلا). إن "الانفلات المعرفي المنظم" صيرورة تتصف بالتجدد، البناء، التوسع والانتظام، ضمن نطاق فلسفي-منطقي، منهجي-منظم غايته الحاضر والمستقبل، مع التشبث والانتفاع من إيجابيات الإرث الماضوي الإنساني.

النتائج المتوقعة لعملية "الانفلات المعرفي المنظم"

إن النتيجة الأساسية المتوقعة من هذا الانفلات، هي بناء إنسان يعرف حريته وحدودها، يقدس حياته وحياة غيره مهما كانت درجة الاختلاف والصراع بينهما (فكري-إيديولوجي، فلسفي-وجودي، لغوي-ثقافي، اثني-عرقي، سياسي-حزبي). إنسان متحرر من قيود الوهم والخرافة والسوريالية، ومتسلح بالمعرفة والعلم والواقعية. إنسان يحافظ على حياته ويدافع عن حياة المجتمع والبيئة التي تحتضن الكل بحب وطواعية وإخلاص، بعيدا عن الأنانية والتسلط والجشع والإقصاء ونهب الحقوق والثروات وسلب حرية الآخرين وإرغامهم على الخضوع. و"الملكية/الثروة" الوحيدة المتحصلة التي لن تكون أبدا موضوع مساءلة أو مناقشة أو مفاوضة أو متابعة أو شبهة في "مجتمع الانفلات المعرفي المنظم" هي الملكية أو الثروة المعرفية-العلمية والسلوكية-الأخلاقية، وهي بمثابة الرأسمال الوحيد والرمزي "للإنسان المنفلت معرفيا"، والذي يحق له ترصيده وتعزيزه وتنميته وتخزينه أو إظهاره للعموم وتسويقه دون ضرائب أو حواجز جمركية أو متابعات زجرية أو تأويلات اجتماعية أو تأنيب ضمير.

بالإضافة إلى ذلك، يعد تكوين مجتمع مكون من أفراد يمتلكون معرفة موسوعية نافعة وأخلاق راقية عابرة للأمكنة والأزمنة والسياقات والوضعيات نتيجة أساسية متوقعة من وراء عملية "الانفلات المعرفي المنظم". إنه مشروع معرفي-أخلاقي ينشد تحرير الإنسان من  بؤس الجشع المادي، وتعطيل محركات القيم الإنسانية الجميلة، من أجل المصالح والامتيازات الشخصية، والقبول بالجهل من أجل حياة بلا معنى أو قضية، وتقديس الجهل والخرافة من أجل انتماء مزيف، والإيمان بالعنف والإخضاع من أجل اثبات الذات والسيطرة...

آليات "الانفلات المعرفي المنظم":

تعد الكتب بكل أصنافها (مطبوعة ورقمية ومسموعة ومشاهدة) أبرز آليات عملية "الانفلات المعرفي المنظم". فمتى آمن الأفراد بأهمية المصالحة مع الكتاب مدركين ضرورته وحيويته في حياتهم اليومية، أمكن أنداك مباشرة عملية الانفلات المنشودة. لكن هل تصلح كل الكتب في هذا المشروع الكبير؟ الجواب من وجهة نظر هذا المنهج هو النفي. وبما أن الأمر يتعلق ب"انفلات منظم"، فيجب انتقاء وبعناية شديدة الكتب التي ستوزع و تقرأ وتحلل وتناقش؛ أولا، تفاديا لهدر الزمن النهضوي في ما قد لا يفيد الفرد والمجتمع والوطن إذا ما تم فتح المجال أمام جميع الكتب، وثانيا لأن الاعتماد على جميع الكتب وما يحتويه جزء منها من معارف ومضامين واستنتاجات غير مجدية أو متناقضة أو غير معتمدة أو مزورة أو عنيفة-مدمرة-إقصائية، قد يقود إلى "انفلات معرفي غير منظم" الذي من شأنه تقويض أهداف وأركان "الانفلات المعرفي" المنشود.

إن الأمر يتعلق بالقيام بعملية انتقائية للكتب التي يجب التركيز عليها خلال مرحلة الانفلات تماشيا مع الرهان الكبير: بناء مجتمع أساسه ومحركه المعرفة النافعة والأخلاق النبيلة التي تحفظه وتصونه وتعيد الهبة لضوابطه ومعاييره وقيمه وأخلاقه المقبولة اجتماعيا وأخلاقيا وعقليا ومنطقيا وثقافيا. كتب في الأدب الراقي الهادف (محلي وعالمي) بكل لغات الأرض دون تحيز للغة من اللغات أو تمجيد لثقافة معينة على حساب أخرى مخالفة، إلى جانب كتب في العلوم  بكل أقسامها وتخصصاتها، وأخرى في الأخلاق والتواصل والحوار الحضاري والمنطق والعلوم الإنسانية بكل فروعها؛ كتب سمتها الموضوعية والتسامح ونبذ العنف ومناصرة قضايا الإنسان والإنسانية.

فضاءات "الانفلات المعرفي المنظم":

كل الفضاءات متاحة لعملية "الانفلات المعرفي المنظم"، بل إن أي فضاء مهما كان، قادر على إنجاح هذه العملية، لكونها عملية بسيطة وغير معقدة التطبيق لكن بأبعاد وغايات عميقة وبليغة واستراتيجية. تتوزع هذه الفضاءات إلى فضاءات مكانية وزمانية. فالفضاءات المكانية المفتوحة والمغلقة والشبه مفتوحة/مغلقة والقريبة والبعيدة والعريقة والمحدثة والمرتفعة والمنخفضة والشخصية والعمومية والمجانية والمؤدى عنها والمنظمة والمهجورة، كلها مستعدة لاحتضان عملية "الانفلات المعرفي المنظم". ألن يعود نجاح هذا الانفلات بالنفع على تلك الفضاءات المكانية بكل أنواعها؟ ألن يساهم الرقي المعرفي-السلوكي-الأخلاقي للأفراد في الرفع من تقديرهم لتلك الأمكنة وفي تحسينها وصيانة الجميلة منها وخلق مزيد منها تكون أكثر جمالا وأمنا؟ حتى الأمكنة إذن، تريد للفرد أن يكون إنسانا جميلا لطيفا مؤدبا مثقفا واعيا؛ لذلك اطلعته على كل جوانبها وخباياها حتى المغلقة والبعيدة والقديمة والمظلمة والتي على وشك السقوط والبناء راجية منه أن يحمل كتابا في يده يحاوره ويناقشه من أجل انفلاته المعرفي المؤدي إلى رقيه المعرفي-الأخلاقي...يكفي فقط التأمل في أو "قراءة" مكان خراب أو مهجور مع نية تحسين وضعيته والتفكير في أسباب خرابه أو هجره لتبدأ علمية "الانفلات المعرفي المنظم" التي ستعيد إليه رونقه وجماله وجاذبيته وحقوقه، لأن ذلك حتما سيتمخض عنه إنسان يفكر ويتأمل، يصلح ويصون المكان... إنسان لا يتوحش (لا يصير كالوحش) وفضاء لا يتوحش (لا يصير قفرا خاليا من الحياة)...

بنفس وتيرة ترحاب الفضاءات المكانية بعملية "الانفلات المعرفي المنظم"، يضع الفضاء الزمني بصنفيه المادي والنفسي كل المفاتيح في عقل وقلب ويد الفرد ليباشر عملية "الانفلات المعرفي المنظم". في إطار هذا الانفلات، فكل لحظة، متاحة للفرد للقراءة ليسلك مدارج العلم والمعرفة، ويتسلق معارج الأخلاق والإنسانية الحقة. سيسمح إذن للفرد أن "ينفلت معرفيا" وقت العمل وخارجه، ولحظة ما بعد النوم بكثير وقبيل النوم وبعيده، وحتى أثناء نوم الفرد، فيمكنه استرجاع ما اطلع عليه طيلة يومه أو يفكر في ما ينوي قراءته...أليست "الأحلام المعرفية"، وحتى إن غلب عليها الغموض والحيرة والجهد، أفضل بكثير من الكوابيس الجوفاء التي يغلب عليها الفزع والخوف واللامعنى. يا لها من لحظة فردية وجماعية (ووطنية) فارقة ومفصلية وواعدة عندما ينفلت الإنسان معرفيا في أزمنة وعيه/شعوره و لاوعيه/لاشعوره المختلفة، في لحظات منطقه ولامنطقه المتعاقبة والمتجددة، في يقظته وحلمه،  وإبان احتفالات الإيجاد والتأمل وفي غمار متاهات الفقدان والتيه...

وضعيات "الانفلات المعرفي المنظم":

إلى جانب الفضاءين المكاني والزمني، كل الوضعيات التي يكون عليها الفرد، سواء المختارة أو المفروضة (أثناء التعب أو المرض مثلا)، لا تمانع في أن يقوم الفرد ومن خلاله كل مكونات المجتمع بعملية "انفلات معرفي منظم". فالمشي أو الجلوس، فوق الكرسي أو على الأرض، والاستلقاء على الظهر أو البطن، والتمدد على الجانب الأيمن أو الأيسر، ووضعية القرفصاء وغيرها، كلها تسمح وإن كانت بدرجات متفاوتة بالتقاط المعارف وتهذيب النفس وترقيتها سلوكيا وأخلاقيا. يا لها من محطة تاريخية لا تقبل الانفلات حينما نرى الأفراد ينفلتون معرفيا في وضعيات عادية وغير عادية، ملائمة وغير مساعدة، وأثناء نظام واستقرار الجسد، وفي لا انتظامه/ارتباكه أو انشغاله...

مشهد متخيل ل"الانفلات المعرفي المنظم":

لنتخيل مشهدا صغيرا من مجتمع "الانفلات المعرفي المنظم" المنشود. ويتعلق الأمر، على سبيل الذكر لا الحصر، بمجتمع المقهى ومحيطها القريب: كل الجالسين والواقفين والعاملين والمارين بالقرب من المقاهي المتسلسلة والكثيرة والمفتوحة لأوقات طويلة، وفي كل الفصول...كلهم ومن كل الأعمار والطبقات الاجتماعية والمستويات الفكرية والأوساط الثقافية المختلفة، وبدون استثناء، يحملون كتبا مختلفة  (لكن منظمة) المواضيع والحقب والأحجام والصفحات والمصدر ودور النشر، منكبون على القراءة والمطالعة لساعات طويلة، يخطفون جرعات شاي أو قهوة أو هواء أو ماء مع لحظات "ثرثرة مولدة للطاقة" أو "صمت تأملي" قصيرة أو متوسطة، ووتيرة القراءة طبعا ستختلف لاختلاف الأدوار، لأن النادل ليس كالجالس، والواقف ليس كالمار...وبالرغم من ذلك، فمجتمع "الانفلات المعرفي المنظم" لا يعفي أحدا من المطالعة والانفلات معرفيا، وإن كان نادلا يخدم الجالسين، إنه لا يعفي أحدا لكنه إجبار مرفوق ب"الليونة" المطلوبة في كل سياق ووضعية مهنية أو زمنية أو مكانية أو جسدية أو نفسية أو اجتماعية أو فكرية... لنتخيل ذلك المشهد ونتصور مشاهد كثيرة وشاملة،  وبنفس رغبة وطموح "الانفلات المعرفي المنظم"، في كل أمكنة البلد وفضاءاته (قطارات، محطات، حافلات، منازل، فضاءات عمل، أماكن ترفيه، شواطئ، سفن، ممرات، مسابح، حقول، مدارس، جامعات، ممرات، قاعات انتظار، مستشفيات، محاكم، سجون، شوارع، منتزهات، دكاكين ومتاجر، معابد، مساجد، مقابر، أطلال، عيادات...). لنتصور أن جميع الأفراد انفلتوا معرفيا، ألن يكون المجتمع أقوى وأشد تماسكا وتطورا علميا ومعرفيا وأخلاقيا وقيميا وسلوكيا؟ ألن يؤدي ذلك إلى رقي الوطن وازدهاره؟ بالموازاة مع ذلك، ألن يتمخض عن الانفلات المعرفي المنظم القضاء بطرق أقل جهدا وطاقة عن كل أشكال وأصناف الانفلات المؤذية والمضرة بالوطن (الانفلات الأمني والقيمي والاجتماعي والتربوي، والأخلاقي، والثقافي، والبيئي والحراري والمقاصدي والخطابي-التأويلي والمعرفي غير المنظم ...)؟

خلاصة:

"الانفلات المعرفي المنظم" نجاة بطريقة ذكية، سلمية وسلسة من كل أشكال الانفلات المدمرة لحياة الفرد، المجتمع والوطن، وبناء جماعي لحياة أفضل في المستقبل.

 

حمزة الشافعي

تنغير/المغرب

 

في المثقف اليوم