قضايا

القرآن والمرأة

سليم جواد الفهدتأملات في الفكر السياسي الإسلامي (12)

تبين لنا في التأمل السابق (القرآن والعبودية) أن القرآن اسس العدل على التفاوت وان هذا التفاوت أصلا وجوديا قصديا وليس أمر عفوي فالقرآن يؤكد: (نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا) (الزخرف:32).

ولازم التعليل في (يتخذ) تشير الى العبودية والخدمة المؤبدة التي لا تقبل التغيير والتبديل تكوينا وتشريعا.

قلنا إن الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يخلق القيم وهو أيضا الكائن الوحيد الذي يتميز بوجود مزدوج الإنتماء فهو ينتمي إلى الطبيعة باعتباره كائنا ماديا وكذلك ينتمي إلى الثقافة باعتباره كائنا روحيا امتلك العقل الذي ميزه عن باقي المخلوقات فكرا وسلوكا بمعنى أنه يخضع بجسده الى قوانين الطبيعة فاذا دخل النار احترق وإذا سقط من شاهق تحطم جسده لكنه يعيش في بناء آخر من صنعه هو هذا البناء هو الثقافة التي تعلو على الطبيعة وتتفاعل معها وتغيرها الى ما يرغب به الإنسان ويريد وبناء على هذا نستطيع أن نحدد الطبيعي بما هو عام ومشترك بين أفراد النوع البشري والثقافي بما هو خاص ونسبي  بين أفراده وأفراد النوع البشري هما الرجل والمرأة فبدون العلاقة بينهما لا يستمر النوع البشري في الوجود فكيف حدد القرآن هذه العلاقة تشريعا؟

الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ ۚ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ ۚ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ ۖ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا [النساء الآية:34].

يقول تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ ۚ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِن كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ۚ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَٰلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا ۚ وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ ۚ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ ۗ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [البقرة:228].

يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ ۖ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنثَيَيْنِ ۚ فَإِن كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ ۖ وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ ۚ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِن كَانَ لَهُ وَلَدٌ ۚ فَإِن لَّمْ يَكُن لَّهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ ۚ فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ ۚ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ ۗ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا ۚ فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (11النساء).

هذه الآيات تحدد بشكل واضح وجلي وصريح موقف القرآن من المرأة وإليك سبب نزول الآية الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ: (حدثني المثنى، قال: ثنا حبان بن موسى، قال: أخبرنا ابن المبارك، قال: سمعت سفيان، يقول: {بما فضل الله بعضهم على بعض} قال: بتفضيل الله الرجال على النساء. وذكر أن هذه الآية نزلت في رجل لطم امرأته، فخوصم إلى النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك، فقضى لها بالقصاص. ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا عبد الأعلى، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قال: ثنا الحسن: أن رجلا لطم امرأته، فأتت النبي صلى الله عليه وسلم، فأراد أن يقصها منه، فأنزل الله: {الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم} فدعاه النبي صلى الله عليه وسلم، فتلاها عليه وقال: " أردت أمرا وأراد الله غيره ". (تفسير الطبري، ص84).

 "وفي الدر المنثور أخرج ابن أبي حاتم من طريق أشعث بن عبد الملك عن الحسن قال: جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم تستعدى على زوجها أنه لطمها -فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم القصاص -فأنزل الله الرجال قوامون على النساء الآية -فرجعت بغير قصاص. أقول: ورواه بطرق أخرى عنه صلى الله عليه وآله وسلم وفي بعضها قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أردت أمرا وأراد الله غيره". (تفسير الميزان -الطباطبائي-ج4-الصفحة ٣٤٩).

لا شك أن الضمير المكتمل الإنسانية والخالص من لبس المعاندة التي يمليها عليه التنميط البيئي والنسق الثقافي المضمر يقر بأن المساواة الإنسانية اليوم هي حجر الأساس وأكثر الطرق عدلا للتكيف مع الاختلاف بين الأشخاص المختلفين جنسا وقدرة واستعداد وتحمل فالمساواة ليست مجرد التعامل بالمثل وإنما هي أيضا التعامل مع أشخاص مختلفين بطريقة مختلفة إذا كان التعامل معهم بنفس الطريقة سيؤدي إلى الظلم.

مدخلية الزمان والمكان

من وحي هذا العنوان يتبرعم سؤال هو: متى وأين يكون اختلاف شخصين مبررا للتعامل معهما قانونيا بشكل مختلف؟

بهذا السؤال يتحدد معنى المساواة بشكل دقيق لأننا يجب أن نضع المساواة في سياقات تاريخية اجتماعية وثقافية مختلفة. وندرك بكل وضوح أنه لا يمكن بكل بساطة وضع قانون موحد وثابت تاريخيا للأسرة لأن القانون الذي يمكن أن يضمن العدالة في مرحلة تاريخية معينة قد يتسبب في الظلم في زمن وسياق آخرين.

انبثقت الأحكام الفقهية من مجتمع قبلي ونظام اجتماعي يتأسس على علاقات القرابة. تضمن القبيلة أو العشيرة حقوق أفرادها وأمنهم وكذا الغرباء الذين يصبحون تابعين لها. وحددت تراتبية اجتماعية صارمة لمن يحصل على الحقوق حسب السن والجنس والمكانة الاجتماعية.

وأكدت الآيات القرآنية هذه التقاليد التمييزية المبنية على الذكورية لتلائم البيئة الاجتماعية الصحراوية القائمة أساسا على القوة والغلبة فالصحراء كالسجن الضعيف فيها خادم ذليل يضمن حياته بخدمته للأقوى وللضعيف مصطلح تسمية في السجون العراقية هو (عنقرجي) فهو خادم (للشقي) القوي الذي يحميه وكذلك شاع في السجون المصرية مصطلح (صخرة وعجينة) صخرة للقوي وعجينة للضعيف.

مدخلية الزمان والمكان معناها التغير العميق في النظام الاجتماعي والاقتصادي والسياسي وهو أمر يجب أن يحث الفقهاءَ على إعادة تقييم الأحكام الفقهية الموجهة للمجتمع القبلي الذي لم يعد موجودا الموجود اليوم هو المفاهيم المعاصرة للمساواة أمام القانون والعدل المبني على الحقوق الفردية وليس على التراتبية الاجتماعية القبلية. اليوم أصبحت الولاية والقوامة معيقات بدل أن تكون وسائل لتحقيق الحماية. فيمكن مثلا أن يسيء الآباء والمحاكم استعمالهما عند إنهاء عقد زواج أبرمته امرأة راشدة ومؤهلة عقلا بكل حرية أو بالعكس فقد يستغل لإجبار فتاة على زواج ترفضه فتقع ضحية لهذا الاجبار وعندها لا يمكن أن تبني أسرة ناجحة.

يجب أن يأخذ الفقهاء بنظر الاعتبار أن الحقوق الطبيعية في هذا العالم لم تصنعها يد الإنسان وهي لها هوية مستقلة عن إرادته ولذلك توصف بالطبيعية لكونها ثابتة بالذات وليست ناشئة من الوضع والاعتبار الإنساني وذلك في مقابل الحقوق التي تستمد اعتبارها من واضعي القوانين الوضعية (أو من المشرع في الحقوق الشرعية) حيث تسمى بالحقوق الوضعية. هذا هو الفرق الدقيق بين الحق الطبيعي والحق الوضعي.

ويؤكد التصور الطبيعي على الصيغة التعاقدية ففي هذا العقد يحمي الإنسان حياته واستقراره وهذا ما يدفعه إلى التفكير في أن يعيش حياة مطابقة لمقتضيات العقل وممارسة الحرية في حدود ما يسمح به العقل والتعايش مع الغير.

 المساواة إذن لا تتأسس على القوة والغرائز لأنه ستتحول إلى ظلم وجور المساواة تتأسس على نور العقل لأنه عن هذا الطريق فقط يمكن إحلال الاتفاق والتعاقد محل الاختلاف والصراع والتنافر والواقع أن الحقوق الطبيعية هي أساس وقاعدة كل الحقوق الأخرى.

نستنتج مما سبق إن العدل المبني على المساواة كقيمة إنسانية وأخلاقية عليا تجسيد للحق وتحقيق له بل هي الإساس له وهي الضامن لوجوده لأنه هو الذي يؤسس القانون كقوة وسلطة إلزام يخضع لها الجميع على أساس مبدأ المساواة بين جميع الأفراد: بين الرجل والمرأة بين الفقير والغني بين المسلم وغير المسلم فلا حق إذن بدون عدل مبني على المساواة.

والخلاصة العدل المبني على المساواة هو الإنصاف فهو الشرط الأساسي لتصحيح ما يلحق بالعدل من أخطاء عندما تطبق عمومية قوانينه على الحالات الجزئية والخاصة فالإنصاف يكيف قوانين العدل ويجعلها تستقيم مع الحالات الخاصة. وأخيرا يجب التأكيد على أن العدال يقوم على قاعدة الإنصاف وهي قاعدة تقتضي من جهة حق كل شخص في الاستفادة بالتساوي (المساواة) من الحقوق الطبيعية.

للحديث بقية.

 

سليم جواد الفهد

 

في المثقف اليوم