قضايا

جائحة كورونا المستجد بين التخفيف والانتكاسة!

محمود محمد علينجحت كثير من الدول في تطويق فيروس كورونا المستجد الذي أودي بحياة ما يقارب 348 ألف شخص في مختلف أنحاء العالم (حتي تاريخ كتابة المقال)، وبدأ يتنفس سكان مدن أوربية وعربية وأسيوية الصعداء، وذلك في ظل تدابير تخفيف العزل التي أعقبت إجراءات إغلاق صارمة يسود قلق في مناطق أخري من العالم كأمريكا اللاتينية التي باتت بؤرة الفيروس الجديدة ومنظمة الصحة العالمية ولا يزال الجدل مستمرا يؤيدون تخفيف القيود ويتحدثون عن الرغبة في وقف نزيف الوظائف ويستشهدون بانتعاش بورصات وأسعار النفط .. أما المعارضون فحجتهم المخاوف من موجة ثانية للفيروس ومن خطورة الاعتماد فقط علي وعي المواطن في أمر يتعلق بالصحة والمصلحة العامة..

لا تحتمل اللامبالاة الحياة في زمن كورونا .. لا يهم إن كنت في باحة مقهي لم ترتاده أكثر من 10 أسابيع، أو في البحر بصدد الاستمتاع بنسيمه العليل بعد عزل صارم وطويل، فقواعد التباعد الاجتماعي مثل المسافات الفاصلة بين الأشخاص والكمامات تبقي ملزمة .. ففي مدينة برشلونة ومدريد الإسبانيتين  وفي الدول الأوربية التي بدأ معظمها فعليا في الرفع التدريجي من حالة الإغلاق، لتذكرهم أن تخفيف العزل للذي اختبروه قابل للتراجع عنه في أية لحظة تستلزم ذلك ..

قد تكون هذه هي الحقيقة الوحيدة التي تمتلكها السلطات السياسية في دول العالم، وهي تأمل أن تكون بمثابة بوصلة أمان لخطوات رفع الإغلاق التي تنفذها .. عدا ذلك وفي مواجهة فيروس لا لقاح له ولا علاج له حتي الآن، لا تزال استفهامات كثيرة بشأنه دون رد علمي ثابت .. هل ستكون هناك موجة ثانية للجائحة وما هي خصائصها ؟ .. متي يمكن رفع الإغلاق ؟ .. هل انحسار العدوي مع استمرار ارتفاع عدد الإصابات كافي لاتخاذ هذا القرار ؟.. أبعد من ذلك ذهبت وسائل إعلام أمريكية إلي حد التساؤل في تهكم  مرير عن عدد وافر من الوفيات المسموح بها لرفع الحجر الصحي التام، وذلك علي ضوء توجه الرئيس الأمريكي "ترامب" نحو إعادة مظاهر الحياة الاقتصادية والاجتماعية في بلد بتصدر العالم في عدد الوفيات بنحو أكثر ثلاثمائة ألف وفاة ..

حددت منظمة الصحة العالمية معايير لمساعدة أصحاب القرار في العالم علي إدارة أزمة كورونا، لعل أهمها : ضرورة أن تكون إجراءات رفع الحجر التام تدريجية وقابلة لوقفها، مع احترام تدابير للتباعد  الاجتماع، وتكثيف جهود الفحوص ورصد خارطة انتقال العدوي للمصابين والمخالطين، واعتماد اجراءات اجتماعية لمساعدة الفئات المصابة والأكثر عرضة للفيروس، والرفع في طاقة استيعاب المستشفيات لتكون جاهزة في حالة تفشت موجة جديدة ..

ويبقي تمثيل هذه المعايير منوطا بإمكانيات دول متفاوتة ووضعها الاقتصادي .. في هذا السياق يمكن قراءة رفع اليابان حجرا تمهيديا لخطوات إنعاش اقتصادها المصنف ثالثا عالميا، وكذلك خيار دول عربية أخري، وخاصة منها تلك التي تشكو من ضعف منظومتها الصحية التريث قبل اتخاذ مزيدا من خطوات الانفتاح ..

ومما يزيد مشهد اليوم التالي من مرحلة الحرج الصحي التام ضبابية، بروز دراسات تستبعد قضاءاًَ نهائياً علي الفيروس وترجح تعايشه معنا، وهو ما يعني أن تتحول كل هذه التدابير التي تأمل البشرية أن تكون مؤقتة إلي تدابير دائمة، فالفيروس قد ينحسر وفق هذه الدراسات ولكنه سيبقي هنا ..

ولذلك اختارت بعض الدول، مؤخرا، أن تخفف القيود المفروضة لتطويق فيروس كورونا المستجد (كوفيد 19)، في مسعى إلى إعادة الحياة للاقتصاد الذي أصابه الشلل، لكن إعادة الافتتاح صارت تنذر بـ"انتكاسة" وعودة منحى الإصابات إلى الارتفاع ؛  فقد سجلت ألمانيا، مثلا، وهي بلد تعامل مع الوباء على نحو "ناجع"، ارتفاعا في معدل انتقال الإصابة، أي أن الشخص المصاب في البلاد صار أشد عدوى وفقا لصحيفة "الغارديان" البريطانية، وأورد المصدر أن هذا المعدل الذي يعرف في الوسط الطبي بمعدل إعادة إنتاج الفيروس ويتخذ رمز "R" قفز إلى 1.1 في المئة، بعدما كان أقل من ذلك، لكنه تفاقم بعد أيام قليلة من تخفيف القيود المفروضة بسبب كورونا.

أما كوريا الجنوبية التي نجحت بشكل كبير في تطويق الفيروس، بعدما كان ثاني بلدان العالم من حيث عدد المصابين، في فبراير الماضي، فصارت تلاحظ أيضا ارتفاعا في عدد من يصابون بفيروس كورونا؛ وفي أحدث قرار لكبح انتشر فيروس كورونا في البلد الآسيوي، أمرت سلطات العاصمة الكورية الجنوبية سيول بإغلاق الحانات بعدما كانت تلزمُ المحلات بإجراءات أخف، في وقت سابق، من خلال مراعاة مبدأ التباعد الاجتماعي وتفادي الاكتظاظ، لكن من دون إغلاق شامل.

وتم اتخاذ هذا القرار بعد تسجيل ما يقارب 20 حالة مرتبطة بشاب في التاسعة والعشرين من عمره سبق له أن قضى وقتا في خمس حانات داخل العاصمة، خلال نهاية الأسبوع الماضي، وتجاوز عدد المصابين بفيروس كورونا المستجد في العالم حاجز أربعة ملايين، فيما تجاوزت حصيلة الوفيات 280 ألفا، في ظل غياب أي لقاح ناجح للوقاية من العدوى التي ظهرت في الصين، أواخر العام الماضي.

في غضون ذلك، ذكرت صحيفة "صنداي تايمز" أن حصيلة الوفيات الناجمة عن كورونا في البلاد قد ترتفع إلى 100 ألف، في حال رفعت القيود على نحو سريع، وتأتي هذه التحذيرات فيما يستعد رئيس الوزراء البريطاني، بوريس جونسون، لإعلان خفض تدريجي للقيود لكن العلماء يحذرون من موجة تفش ثانية، إذا تم التراجع عن الإجراءات الصارمة.

أما في السويد التي راهنت على ما يعرف بـ"المناعة الجماعية" أو "مناعة القطيع" لأجل السماح بإصابة الناس في نطاق محدود بالفيروس حتى يكتسبوا مناعة ضد المرض، مقابل حماية كبار السن باعتبارهم الأكثر عرضة، فأقرت الحكومة بأنها فشلت في حماية هذه "الشريحة العمرية" ووصفت ما حصل بـ"الفشل الجماعي".

وتشير الأرقام إلى أن 90 % من حصيلة وفيات كورونا في السويد سجلت لأشخاص تجاوزوا السبعين من العمر، وهذا الأمر دفع حكومة البلد الأوروبي إلى تقديم اعتذار عن عدم حماية كبار السن على النحو المطلوب، وتجد حكومات العالم نفسها أمام خيارين صعبين، فإما أن تخفف القيود حتى تسمح ببعض التعافي في الاقتصاد، أو أن تتشبث بالإجراءات الوقائية المشددة، مما يعني ارتفاعا مهولا في معدل البطالة وتراجع الإنتاج.

والسؤال : ما الذي يبرر هذه الإجراءات أو الاتجاه إلي رفع الحجر تدريجياً والحد من إجراءات الإغلاق؟ وهل الظروف مواتية ومهيأة الآن لمثل هذه الخطوة؟

اعتقد أنه من الذكاء بمكان لهذا في دول كثيرة؛ حيث كل دولة تتخذ قرارها بنفسها وفق المناطق المختلفة علي نحو بطيئ وكأنك تضع قدمك في مسبح، وتحاول أن تتحسس حرارة المياه، ومن ثم تغطس وتفقز في المياه، وبالتالي درجة بعد درجة وعلي نحو ذكي تدريجي يمكننا الوصول إلي مبتغانا، فما يحدث في دولة ما قد لا يتفق مع دولة أخري ؛ فمثلا في ألمانيا واليابان وبلجيكا أكدت وسائل إعلام رسمية أن تلك الدول سمحت بفتح الحدائق العامة والشواطئ الخاصة بالفنادق أمام النزلاء، كما سمحت باستئناف رحلات الترام ووسائل النقل البحرية، وممارسة الأنشطة الرياضية والترفيهية في الأماكن المفتوحة فقط، بحيث لا يتعدى عدد الأفراد خمسة، وستظل المساجد ودور السينما والشواطئ العامة والملاهي الليلية مغلقة وذلك في ظل تخفيف تدريجي للقيود المفروضة لمكافحة فيروس كورونا.

وقالت رئيسة وزراء بلجيكا صوفي وليمز خلال مؤتمر صحفي بعد مناقشات استمرت سبع ساعات يوم الجمعة إن بلجيكا قد تشدد القيود أو تؤجل تخفيفها اعتمادا على الوضع الصحي.. وتابعت: "حان الوقت الآن للنظر إلى المستقبل، ولكن كوفيد لم يتلاش فالفيروس ما زال معنا وخطر على السكان. من الضروري تماما احترام تدابير السلامة خلال الفترة التدريجية". وأضافت وليمز إن بلجيكا ستحتاج لإجراء ما بين 25 ألفا و30 ألف اختبار يوميا للخروج من العزل العام.. وابتداء من الرابع من مايو/أيار سيتم السماح لعدد أكبر من الأعمال التجارية استئناف نشاطها. وسيتم السماح للناس بلقاء شخصين لا يعيشان معهم لدى خروجهم والحفاظ على مسافة بين الشخص والآخر..

وسيتعين على البالغين والأطفال الذين يبلغ عمرهم 12 عاما بوضع كمامات في وسائل النقل العام. وللمساعدة سيتم السماح بإعادة فتح المتاجر التي تبيع أقمشة ولوازم الخياطة. وبعد ذلك بأسبوع سيتم السماح بإعادة فتح كل المتاجر بموجب أوضاع تباعد اجتماعي صارمة.

ولا أريد من هذا الاستطراد إلا أن أؤكد بأن التخفيف دون دراسة وبحث ورويه له عواقب وخيمة لا يتحمل تبعاتها إلا البشر، ولذلك علي الحكومات أن تعي ذلك.. وللحديث عن كورونا بقية في مقبل الأيام..

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل بجامعة أسيوط.

..................

المراجع

1- قناة الجزيرة: الحصاد- جائحة كورونا.. بين التخفيف والإغلاق (يوتيوب).

2- قناة العربية : كورونا.. بلجيكا تستعد لتخفيف تدريجي للعزل بدءاً من 4 مايو (تقرير)

3- قناة العربية نيوز : دول تعاني "انتكاسة كورونا" بعد رفع "جزئي" للقيود (تقرير)

4- قناة DW  كورونا في ألمانيا- تخفيف تدريجي جديد للقيود على الحياة العامة (تقرير)

 

في المثقف اليوم