قضايا

جون هرمان راندال ومكانة ليوناردو دافنشي في ظهور العلم الحديث (2)

محمود محمد علينعود ونكمل حديثنا عن مكانة وأهمية دافنشي في ظهور العلم الحديث، يقول راندال: ولكن إذا لم تكن لليوناردو مكانة أو إسهام في ظهور العلم الحديث باعتبار أنه يأسس نظريات علمية مهمة، كتلك التي جاء بها جاليليو، فإن  الإنصاف يقتضي علي الأقل أن نفرد له مكانة هامة في ظهور معرفتنا لتاريخ العلم الحديث" .

فبعد أن طبع كتابه "مجموعة القوانين" في سنه 1881 كما يقول راندال بدأ المؤرخون يقتفون أثر العوامل والإرهاصات التي كانت سائدة في بداية القرن السادس عشر، وما كان من قبل سائدا في عصر ليوناردو نفسه، وهي العوامل التي أدت بجاليليو في نهاية المطاف إلي بلورة نظرياته الفيزيائية، وحيث أن الباحثين وقفوا في اقتفائهم مسيرة العلم الحديث عند ليوناردو، فإنه اعتبر من أكبر المساهمين في تطور المنهج والنظريات العلمية، فلا عجب أن يري فيع بعض المؤرخين للعلم أنه كان " عبقريا " لكونه استطاع أن يأتي بأفكار عجيبة وآراء مبتكرة توالت عليها محاولات التعديل والتصحيح حتي كتب لها أن تكتمل علي يد جاليليو في عصر لاحق .

لكنه ظهر من بين المؤرخين من بحث في العلم في العصر الذي سبق مجئ جاليلو ؛ كان ذلك هو "بيير دوهيم" كما يقول راندال الذي اتخذ من ليوناردو نقطة بداية لبحوث مستفيضة . فلقد أظهر " دوهيم " كيف أنه تراجع بعد دراسات وعمليات استقصاء دقيقة عن فرضية كان يأخذ بها حول ظهور عبقرية متفردة فذة، وأدرك في المقابل أهمية التيارات الفكرية المنظمة التي ظهرت في القرن الرابع عشر، وهي التي تمثلت علي وجه الخصوص بأتباع وليم أوكام في باريس وأصحاب المنطق من جماعة أكسفورد . أما الفكرة الهامة  التي خلص إليها دوهيم من أبحاثه، فهي أن كل رأي هام طرحه ليوناردو لابد وأن يكون مصجره الباحثين في علم الهندسة في العصر الوسيط.

ولقد كانت وجهة نظر "دوهيم" كما يقول راندال نفسها هدفا للنقد والشك من قبل كثير من الباحثين، فلقد كان دوهيم فرنسيا وكان معجبا إلي حد كبير بتيار المدرسة الفرنسية في باريس، وكان إلي جانب ذلك كاثوليكيا يميل إلي تعضيد المذهب الأرثوذكسي، وهو المذهب الذي أخذ به الأعلام البارسيون الكبار أمثال " برويدان "، ولكن جاء بعده ايرنست مودي الذي أظهر بدوره أن الأفكار التي قال بها الأعلام الذين كان " دوهيم " معجبا بهم، ويظن أنهم ابتدعوها، إنما ترجع في أصولها إلي عصر سابق علي عصر أولئك . فقانون التجانس أرجعه في سرعة الحركة المطرة الذي أرجعه دوهيم إلي نيقوك الاورزمي أحد الطلة في الكلية ميرتون التابعة لأكسفورد، وكان ذلك حوالي سنة 1335 .

وبعد أن قرأت لبعض الكتاب الإيطاليين المناوئين للسلطة الكنسية، والذين كتبوا في الفلسفة الطبيعية إبان القرن الخامس عشر، فإني قد توصلت كما يقول راندال إلي أن كتابات دوهيم لم تكن منصفة للمفكرين الإيطاليين نظرا لميول دوهيم الكاثوليكية المتطرفة . هذا من ناحية، ومن ناحية أخري فإني قد خلصت بعد إطلاعاتي واستقصاءاتي إلي أنه ما من فكرة طرحها ليوناردو، وتوهم بعض المفكرين أنه ابتكرها إلا وكانت معروفة لدي الجامعات الإيطالية في القرن الخامس عشر، وخاصة في جامعات "بادوا وبولونيا وبافيا" كما  نجد هذه الأفكار في كتاب " بول الفينيسي " .

كذلك كشف " مارشال كلاجيت " وهو المؤرخ البارز في العلوم إبان العصر الوسيط كما يقول راندال – أن المناطقة من جامعة أكسفورد كانوا معروفين في جامعتي بادوا وبولونيا بعد سنه 1350 بقليل ؛ ومما أن دخلت الطباعة ميدان الحياة الفكرية في إيطاليا، حتي انتشرت كتابات المناطقة أولئك وظهرت إلي جانب ذلك أعمال المفكرين الكبار أمثال " وليم اوكام " في القرن الرابع عشر و " تسيبيروس " و"سوايزيد" كما يقول راندال .

أما الأمر المهم هنا، فهو أن تلك الكتب التي شاعت آنذاك هي ذاتها التي قرأها ليوناردو وأطلع عليها كذلك كل الذين كان يعتقد بأنهم تأثروا به، فحاصل القول هنا إذن كما يقول راندال هو أن الأفكار التي طرحها ليوناردو، واعتقد بعض المؤرخين أنها كنت من ابتكاره هي في الحقيقة شائعة من قبل .هذا ناحية، أما من ناحية أخري فإن ليوناردو لم يؤثر في معاصريه من المفكرين بقدر ما كان هو ومعاصروه متأثرين بالتيارات الفكرية التي شاعت في زمانهم وفي ومان سابق علي زمانهم بقليل .

والدليل علي ذلك كتاب " نيقولا الاورزمي " طبع في " بادوا " سنه 1482 مع مناقشة للكتاب كتبها " بلاسيوس دي بارما " في مذكراته كما يقول راندال يرجع ليوناردو إلي طبعه ج.لوكيرت (باريس 1516 ) لالبرت الساكسوني وجين بيوريدان .

والأكثر من ذلك هو أن جماعة من الباحثين بعد شيوع أفكار دوهيم قد بينوا أن هنالك فرقا كبيرا بين ظهور نظرية الحركة التي أبرزها كتاب " مجموعة القوانين " لليوناردو، وبين علم الديناميكا الذي تمكن جاليلو من ترسيخه سنه 1632 كما يقول راندال. نعم قد تكون هناك صلة بين فكرة أو نظرية طرحها ليوناردو – ونعلم الآن كما يقول راندال أنه لم يكن هو مبتكرها، وبين علم راسخ يتم تأسيسه بعد قرنين من الزمان كثلا، ولكن يجب ألا يغيب عن بالنا أن جملة التحليلات التي طرأت علي الفكرة أ, النظرية في بداية أمرها وعبر مسيرتها الطويلة، قد باعدت بين الفكرة في سابق أمرها ولاحقه، حتي ليصعب تصور علاقة بينهما .

ولقد أوضح ذلك الكتاب " دراسات عن جاليليو " لالكسندر كوارييه " كل هذا، واوضحته كذلك كتابات الدكتور "انيليز ماير" لقد أوضح "ارنست مودي" في دراسته المتميزة " جاليليو وابن باجة " أن جاليليو في كتابه وحواره عن الحركة، قد بدأ محاولاته لصياغة قانون الأجسام الساقطة بإتباع نهج ابن باجة العالم العربي المنتمي للأفلاطونية الجديدة، والتي تحدث عنه ابن رشد في شرحه لكتاب الطبيعة، الكتاب الرابع النص 17، وهي فكرة تأتي من نقد النص في شروح الطبيعة ل " جوانيس فيليبونوس " في القرن السادس . ولم يطور جاليليو موقفه الأرسطي إلا فيما بعد في كتابه " حوارات حول النظامين الرئيسيين : النظام البطليموسي والكويرنيكوسي " كما يقول راندال.

ورغم أنها قد تم توضيح الفكر السابق لجاليليو في الديناميكا، فليس هنالك كما يقول راندال ما يدعم القول بأصالة ليوناردو في النظرية الفيزيائية . لكنه يبقي في هذا الجمال قارئا ذكيا واسع الإطلاع علي الموروث العلمي الفرنسي في القرن الرابع عشر، والإيطالي في القرن الخامس عشر، وهو نوع من القراء ينتمي كل مبدع أن يكون مثله .

ولذلك ليست هنالك أية أدلة كما يقول راندال علي أن أحدا في القرن السادس، ممن كانوا يفهمون الأفكار العلمية قد أطلع علي القوانين لليوناردو، إن التاريخ المذهل لهذه المذكرات وتجولها في إيطاليا وإسبانيا وإنجلترا تثير الاهتمام في رحلتها من خلال الخاصية الجمالية للرسوم، وهي النظير الحديث للمغامرات الأسطورية لكتابات أرسطو، وعندما استقرت تلك المذكرات في أمبروزيانا، وكان التطور العلمي كما يقول راندال قد جعل من الأفكار التي تحويها تلك المذكرات مجرد تاريخ – ماعدا الاختراعات التكنولوجية التي انتشرت فيها. ولم يهتم أحد بما يريد ليوناردو أن يقول في كتاباته المعكوسة إلا عندما بدأت المذكرات رحلتها من جديد عندما أخذها الفرنسيون إلي باريس سنه 1796. ولأن الأفكار العلمية التي احتوتها المذكرات كانت كلها أكثر تفصيلا في الكتب التي كان العلماء يقرئونها، كما لم تكن هنالك مشكلة في تتبع أثر ليوناردو علي تطور الفطر العلمي في القرن السادس عشر في إيطاليا .

ولم يطبع كتاب أو قبل سنة 1650، ولكن وجوده في شكل مخطوطه يشير إلي أنه كان معروفا في دائرة أوربينو كما يقول راندال، ثم جمع هذا الكتاب من مخطوطات متعددة لليوناردو شخص غير معروف، كان السبب وراء تنظيمها، وحاول المحررون فيما بعد تطوير هذا التنظيم .

وأما فيما يتصل بالدراسات التشريحية لليوناردو، فالقصة مختلفة إلي حد ما كما يقول راندال، حيث إنه ليس هناك دليل علي أن فيساليوس قد رأي بالفعل رسومات ليوناردو، ولكن بالنظر للتشابه بينها وبين رسومات فيساليوس الأكثر تنظيما ومنهجية وتخطيطا من الصعب القول بأنه لم ير هذه الرسومات، ولكن لا يتسع المقام هنا لحل تلك المشكلة ... وللحديث بقية..

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

 

 

 

في المثقف اليوم