قضايا

جورج سارتون وأطروحته للدكتوراه بعنوان: دافينشي العلم والفن (1)

محمود محمد عليمتى بدأ العلم؟ وأين بدأ؟ وهل يرتبط العلم في أصوله البعيدة أو القريبة بالحضارة الغربية حصراً أم أنه منجز حضاري ساهمت في تشكيل لبناته جميع الأمم والأعراق؟

هذه أسئلة أجاب عنها لأول مرة "جورج سارتون" (العلامة الأمريكى من أصل بلجيكى) (1884-1956) الذي يعد أهم أعلام تاريخ العلم في النصف الأول من القرن العشرين لإسهاماته المتعددة في مجال تاريخ العلوم بشقيه العام والخاص بجوانبه المتعددة .. ومع أنني عشت مع جورج سارتون وكتاباته ومقالاته زمناً طويلا، إلا أن عمق الرحلة معه بدأن منذ حوالي أكثر من عشرين عاماً، ومن خلال رحله علمية مع أعمال ليوناردو دافنشي .

والأستاذ جورج سارتون هو أهم من شرع فى تدوين تاريخ العلم، مشروع كرس له حياته التى انتهت للأسف دون أن يكمله، لكنه وضع الأساس لواحد من أهم فروع العلم والمعرفة؛ فى البداية ظن سارتون أنه سيكتب مقالة مستفيضة عن الموضوع ولكنه فى النهاية أصبح على يقين أنه لا يمكن الإحاطة به إلا فى ثلاث مجموعات من الكتب: الأول بعنوان (من هوميروس إلى عمر الخيام) والثانى (من رابى بن عذرا إلى بيكون) والثالث (القرن الرابع عشر)، ولقد استغرقت كتابة كل من تلك الأجزاء ما لا يقل عن عشر سنوات! حقا إنجاز فذ سجل فيه تاريخ العلم ليس فقط عند المسلمين ولكن عند الإنسانية جمعاء بدءا من العصور القديمة والعصور الوسطى وبدايات تاريخ العلم الحديث من خلال رسالته في الدكتوراه والتي نشرها بعنوان "دافينشي: العلم والفن".

وجورج سارتون يعد بحق كما يصفه أستاذنا الدكتور إبراهيم مدكور في تقديمه لكتابه (تاريخ العلم) -رأس المشتغلين بتاريخ العلم في نصف القرن الأخير، اتجه نحوه منذ عهد الشباب، ووقف عليه حياته كلها، وقلَّ أن تفرَّغ باحثٌ لموضوع مثلما فعل؛ وفي وصف بليغ وترجمة دقيقة له من قِبَل مجلة (المجمع العلمي العربي) الذي هو عضو فيها جاء عنه النص التالي: "أخلص الحب للعرب ولغتهم، وجلا فضل علمائهم على العالم القديم في تجرُّد وإنصاف".

تقدَّم إلى جامعة "جان" البلجيكية، حيث مسقط رأسه برسالة للدكتوراه موضوعها "ليونارد دافنشي" وكانت هذه نقطة البدء في حياته العلمية الحافلة، ومنذ ذلك التاريخ أخذ يحاضر ويؤلِّف في العلم وتاريخه؛ فحاضر في بلجيكا وإنجلترا، ثم رحل إلى الولايات المتحدة عام 1916م، فكان مدرس (تاريخ العلوم) في جامعة هارفارد (1917 - 1949)، وهناك امتدَّ نشاطُه إلى كبريات الجامعات الأميركية، يحاضر فيها ويراسل، وينشئ جيلاً من الباحثين؛ وزار سارتون مصر وبلاد الشام وأفريقيا الشمالية سنة (931 – 1932م)، وألقى محاضرات حول بيان (فضل العرب على التفكير الإنساني) .

أما عن مصنفاته فقد كتب وألَّف كثيرًا، ولعلَّه لم يكتب في شيء إلا في العلم وتاريخه، أو ما يتصل بهما عن قرب، وكان أجَلَّ كتبه: (المدخل إلى تاريخ العلوم) بالإنجليزية، وهو يقع في خمس مجلدات، خصَّ منه تاريخ العلوم عند العرب بجزء وافر؛ وله أيضًا: (حضانة الشرق الأوسط للثقافة الغربية)، محاضرة ترجمها إلى العربية عمر فروخ. وله كذلك: (تاريخ العلم) الأول والثاني ترجمتهما إلى العربية لجنة نشر مؤسسة فرانكلين، وكان سارتون أيضًا قد أنشأ مجلتين إنجليزيتين علميتين، وُقِفَتا على تاريخ العلم، هما: (إيزيس) و(أوزيريس)، فأصدر منها 43 مجلدًا، وتخلَّى عن الإشراف عليهما بعد ذلك لبعض العلماء .

في هذا المقال أنشر نصوصاً لم تنشر من قبل لجورج سارتون للقارئ العربي، وهي تفاصيل أطروحته للدكتوراه، وهي كما قلت بعنوان " دافينشي: الفن والعلم".

في مقدمة الأطروحة قال جورج سارتون: " يوضح ليوناردو دافنشي بصورة جميلة أفضل جوانب عصر النهضة. في الفصول الأولي كنت مضطرا إلي تناول بعض ملامحه الأقل جاذبية، ومن اللائق أن أبدأ حديثي بإحدى ملامحه الخالدة، إن ليوناردو حي اليوم مثلما كان من قبل، وحيث أن نمو المعرفة هو محور التقدم . كان ينبغي أن يكون تاريخ العلم، ومع ذلك فإن مشاكل الحياة الأساسية لا يمكن حلها بواسطة رجال العلم  وحدهم أو بواسطة الفنانين والفلاسفة الإنسانيين، فنجن نحتاج إلي تعاونهم جميعاً . فالعلم لا غني عنه دائماً ولكنه غير كاف أبداً، ونحن تواقون إلي الجمال، وحيثما يكون العطاء غير موجود لا تكون هناك جدوي من أي شئ آخر، وحيث إن معظم الناس درسوا عمل ليوناردو كانوا من الأدباء، أو النقاد، أو الفنانين، إلا أنه يلزم أن نوضح أن مؤرخ العلم لا يستطيع أن يطرق منهجه بدون أن تكون هناك مخاطرة، فجملة فصيحه أو بليغة نجدها في مخطوطاته تشهد بعبقرتيه الأدبية، ورسم تخطيطي ناقص واحد يؤكد لنا أنه فنان عظيم . غير أنه لا يمكننا استخلاص استنتاجات كبيرة من تعليق واحد علي موضوع علمي، إلا إذا نمت الفكرة وتطورت، فمثلاً لا يمكننا أن نقول أن ليوناردو كان سابقاً لكوبرنيكوس لمجرد أن أعلن ذات مرة قائلاً " أن الشمس لا تتحرك "، فما الذي يعنيه ليوناردو من هذه المقولة بالضبط ؟

اعتقد أنه ليس هناك سبيل للمعرفة حيث إن رجل العلم يجب أن يثبت أو علي الأقل يشرح ويفسر بوضوح ما هو موجود بعقله، وقد حاول "سيجموند فرويد" الشهير أن يعيد بناء سيكولوجية ليوناردو السرية، علي أساس جزء صغير واحد يلمح فيه ليوناردوا إلي حلم بطفولته. غير أن مثل هذا التفكير الاستدلالي غير علمي تماماً، إلا أن شهرة " فرويد " أعطت لكتابه عن ليوناردو مكانة لا يستحقها .

ومن ناحية أخري، فإن تقييم عبقرية ليوناردو العلمية أصعب بكثير من تقييم العبقرية العلمية لرجال العلم الآخرين الذين نشرت أعمالهم في حياته، ولعل مرد ذلك يرجع إلي ثلاثة أسباب:-

أولاً : إن بحوثه العلمية لم تكن معدة للنشر، وبالتالي كانت ملحوظاته صعبة وغير مسلسلة ومكررة .

ثانياً : كان ليوناردو طفلاً من أطفال عصر النهضة، وكل فكرة من أفكاره تقريباً هي بسط لبحوث من سبقوه في العصور الوسطي، حتي إضافاته العلمية فهي تمثل قمم عادية علي هضبة عالية من العلوم القديمة.

ثالثاً : وعلاوة علي ذلك، فإن التقليد الذي جمعه ليوناردوا، لم يكن تقليدا أدبياً، ولكن بالأحري كان تقليداً شفهياً ويدوياً .

وقد ولد ليوناردو في الرابع والعشرين من شهر أبريل عام 1452 في "بورجيودي فينشي"  بفلورنسا ؛ وهو ينتمي من ناحية أبيه إلي أسرة شهيرة، ولكن من أبوين غير متزوجين، وعقب ولادته تزوج والده إمرأة من طبقته، في حين أن أمه اضطرت أن تتزوج من إنسان آخر، وأسلمت ابنها الذي كان ثمرة اتصالها بعشيقها إلي أبيه وزوجته، ولم يكن ليوناردو محبوباً في بيت أبيه، ولو كان ولد من أصل أحسن لربما كان والده أخذ في الحسبان تعليمه وأرسله في النهاية إلي جامعة فلورنسا، حيث يعتقد في دائرة الأسرة أن العمل كصبي في حرفة تتطلب مهارة سيكون حسناً بدرجة كافية بالنسبة له . وبالفعل تم إرساله إلي أستوديو " اندريا ديل فيروكيو " (1435 - 1488) وكان هذا نعمة متخفية لأنه بدلاً من تعليم أكاديمي ينقصه الاتصال بالواقع، تلقي أفضل نوع من التدريب بالنسبة لولد له مزاجه وطابعه وعبقريته، واختيار والده لفيروكيو كان احتياراً سعيداً للغاية، ولا يمكن أن نمنع أنفسنا عن الامتنان له لترك الوصية بتربية ليوناردو الصغير لرجل كان في ذلك الوقت أحد الفنانين والحرفيين والبارزين يفلورنسا .

وفي أستوديو "فيروكيو" سنجت لليوناردو فرصة تعلم كثير من الحرف، ومناقشة سنحت لليوناردو فرصة تعلم كثير من الحرف، ومناقشة كل قضية من قضايا العصر، وحل مشاكل حقيقية وملموسة تقترحها الحياة والفن . إن فيروكيو لم يكن فقط فناناً عظيماً، ولكن كان أيضاً مفكراً، أو حرفياً أصيلاً . وباختصار فإنه كان ذلك هو النموذج الأصلي لليوناردو . وكان ليوناردو ويبلغ من العمر حوالي اثنتا عشرة سنة، أو ثلاث عشر سنة، عندما عمل كصبي لفيروكيو، وقضي نحو اثنتا عشرة سنة في أستوديو " فياديل أجنولو "، وكانت هذه هي سنوات تكوين حياته. وقد نقول أن ليوناردو تلقي تعليمه بالكامل من فيروكيو، ومن الفنانين الكثيرين الآخرين الذين كانوا يأتون كل يوم إلي الأستوديو .

وليس هدفي هو الحديث عن ليوناردو دافنشي كأديب، فأعماله الأدبية تتكون من مجموعة ضخمة من الأجزاء علي شكل ملحوظات ورسومات، جاءت إلينا بأكبر درجة من الفوضي، والخلط، وعدم النظام . وبعض أفكاره عميقة جداً، لدرجة أنها تذكرنا جداً بأفكار " باسكال "، ولكن ملحوظات ليوناردو عبارة عن أجزاء من كثير من الكتب المختلفة جداً جميعها مختلطة معاً، وتضاف إلي هذا الركام الأحلام والهلاوس .

وهناك شئ آخر حير النقاد وسيظل يحيرهم دائماً، وهو حقيقة أن الملحوظات مكتوبة بكتابة المرآة، فلكي يقرأها المرء يجب عليها أن يرفعها أمام المرآة، وهنا أسال لماذا؟ إن تخميني هو أن ليوناردو كان أعسراً (أي يستخدم يده اليسري)، وإنه عندما بدأ الكتابة بدون إشراف من أي حد، كتب بشكل طبيعي بصورة معكوسة مثلما يفعل معظم الأطفال الأعسرين في الغالب . وبعد ذلك أدرك ميزة هذه الكتابة من أجل السرية وواصل استخدامها، وليس هناك أي شك في أن كتابة المرآة لديه كانت تتسم بالطلاقة والسهولة؛ فمن الصعب أحياناً حل شفرتها ورموزها حتي بمساعدة مرآة .

وعدد قليل من الأجزاء في مذكراته مؤرخة أو يمكن تأريخها . ومن أكبر الصعوبات أو المشاكل التي تواجهنا أن ليوناردو كثيراً ما كان يناقض نفسه في المسائل والقضايا الجوهرية، ومن غير الممكن معرفة رأيه النهائي .

وأكثر وثيقة تدعو للأسي فيما يتعلق به هي مسودة خطاب كتبه عام 1482 - 1483 م لدوق ميلان " لودفيكو سفورزا " ليعرض عليه خدماته وعدد كل مميزاته كمخرع ومهندس عسكري. وفي النهاية يذكر قدراته الفنية، وفي ذلك الوقت كان يبلغ من العمر ثلاثين عاماً، وكان بعض أصدقائه الأقل موهبة قد أثبتوا وجدودهم فعلاً وأصبحوا مشهورين .

وقبل دوق ميلان خدماته، وما هو أفضل هو أنه يبدو أنه ترك لليوناردو قدراً وفيراً من الحرية، لأن هذه الفترة الميلانية الأولي (1483 - 1499) كانت خصبة في مجال من مجالاته المختارة (الرسم، والتشريح، والرياضيات، والتكنولوجيا) . وبعد هزيمة الدوق في الاستيلاء علي ميلان، أصبحت حياة ليونارد حياة منفي ومشرد ولاجئ منتقلاً من مدينة إلي أخري بلا راحة، وقضي أفضل هذه السنوات (1499 - 1512) مرة أخري في ميلان ؛ وهذه المرة كانت تحت الحكم الفرنسي .

وفي فترة الميلانية الثانية هذه واصل جهوده لشق المجاري والقنوات، ودرس الهندسة مع " لوكا باكيولي "والتشريح مع" مارك أنطونيو ديلاتور "، علي أنه في عام 1512 قام الفرنسيون بغزو ميلان مرة أخري، واضطر ليوناردو للخروج منها (إنني أتخيل أنه تمت مساومته كمتعاون) . وحصل علي رعاية وإحسان " جيولياتو دي مديتشي "، وذهب إلي رومانيا عام 1513 بصحبة صديقه وتلميذه الشاب فرانشيسكو ميلزي، وقضيا عامين بقصر البلفيدير بالفاتيكان، ولكن قرب "مايكل انجلو" الذي كان يكرهه و"جيوفاني ديجلي سيبشي الألماني "، الذي كان مخادعاً آثار غضبه ودفعه بعيداً وفي النهاية قبل ضيافة فرانسوا الأول في كلو بالقرب من امبواس وسافر ليوناردو وميلزي إلي "كلو" عام 1515، وأحضرا معهما ثلاثة رسومات أو لوحات هي : لوحة القديسة آنا مع العذراء المقدسة والطفل، ولوحة يوحنا المعمدان،  لوحة تمرأة (ربما الموناليزا أو الجنوكندة) وأيضاً كل ملحوظاته ورسوماته التشريحية التي ورثها بوصية لفرانشيسكو ميلزي . وتوفي في " كلو " في الثاني من شهر مايو 1519 .

وعودة إلي عمله العلمي، نلاحظ أنه قد بدأ منه جانبان في وقت مبكر في أستوديو فيروكيو وهما "علم التصوير" و"الميكانيكا" إن فكرة ليوناردو التي تقول أنه يمكن أن يكون هناك " علم التصوير " قد تكون وهما، ولكن برغم ذلك لماذا لا ينبغي أن نتحدث عن علم التصوير تماماً، مثلما نتحدث عن علم الطب؟، وفي كلتا الحالتين، تطبق الحقائق، أو النظريات العلمية علي فن، مثل فن التصوير، أو العلاج . وكان علم التصوير يشتمل في المقام الأول علي المنظور الخطي، الذي كان يثير فناني فلورنسا من أمثال فليبو برونيليش، وليون وبييرو ديلا فرانشيسكا واندريا ديل فيروكيو، اختلطت لقرون بعلم البصريات، والأرصاد الجوية، ونظرة الألوان، والظلام، وكثير من الأشياء . وقد قام الصينيون بملاحظات ثاقبة عن هذا الموضوع في القرن السادس علي الأقل، وكان ليوناردو هو أول من أعاد اكتشاف بعضها في الغرب.. وللحديث بقية.

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل - جامعة أسيوط

 

 

 

في المثقف اليوم