قضايا

الأصول الشرقية لعلوم الفلك عند اليونان (1)

محمود محمد علينتحدث في هذا المقال عن ملامح الأصول الشرقية لعلوم الفلك عند اليونان، وقد كان قدماء الشرقيين متقدمين قدماء رائعاً في العلوم الرياضية، وقد كان لهذا التقدم أثره فى نشأة الرياضية اليونانية؛ حيث نهل فلاسفة اليونان من أمثال طاليس، وفيثاغورس، وأفلاطون، واقليدس من الرياضيات الشرقية فى تكوين منهجهم الرياضي.

ولما كان قدماء الشرقيين متقدمين فى العلوم الرياضية، فقد كان لهذا التقدم أثره فى نشأ ة علم الفلك؛ حيث ساعدهم على عمل التقويمات الفلكية، والتي كان من جرائها أنهم عرفوا طريقة رصد النجوم والكواكب واستخدام أدوات رصد مناسبة مثل المزولة والساعات المائية وغيرها، كما عرفوا أيضاً التقويم الشمسي والتقويم القمري؛ حيث قسموا السنة إلى اثنى عشر شهرا والشهر الى ثلاثين يوما، فتكون السنة الشمسية 365 يوم، فى حين تكون السنة القمرية 354 يوم، كما رصدوا ظاهرتي الكسوف والخسوف . بالإضافة الى معلومات فلكية كثيرة سوف نوضحها بالتفصيل خلال هذا المقال.

غير أن يعض الغربيين يرون أن الفلك الشرقى موجه لأغراض تتعلق بالسحر والتنجيم،وبالتالى فهم يأبون أن يطلقوا اسم العلم علم تلك المعلومات الفلك الرائعة التى توصل اليها قدماء الشرقيين، فمثلا يقول ((بيرنت)) عن الفلك البابلي أنه ((قائم على أعراض تتعلق بالتنجيم مثل قراءة الطالع وما أشبهه))، فى حين يقول ((سانت هلير))عن الفلك المصري لأنه " يعتمد علي مشاهدات مضبوطة ولكنها ليس لها علم فلكى)).

وفى الوقت الذى يقف فيه هؤلاء الغربيون هذا الموقف من الفلك الشرقى، نجدهم يعزون للفلك اليونانى كل خير؛ حيث يصفونه بأنه فلك علمى منظم أفاد البشرية افادة كبيرة، فنجد ((بيرنت)) يقول: ((أن أهم تطورات تنسب للفلك القديم هى من إنتاج العبقرية اليونانية فقد توصلوا:

أ- الى أن الأرض كروية وليست مستقرة على شىء.

ب- كما اكتشفوا النظرية الحقيقية عن الخسوف.

ج- كما توصلوا الى أن الأرض ليست وسط الكون، بل اكتشفوا الخطوة الأخيرة، أى أنها تدور حول الشمس ونما نذكر ذلك لنبين عظم الفجوة بين علم اليونانيين ومثيلة عند من سبقهم .

وهذه النظرة تنطوى على قدر كبير من التحيز والبعد عن الموضوعية ولذلك سوف نفندها خلال هذا المقال.

وسبيلنا الآن هو عرض اسهامات قدماء الشرقيين فى علم الفلك .

أولا: اسهامات قدماء الشرقيين فى علم الفلك:

كانت شعوب معظم الحضارات الشرقية القديمة شعوبا زراعية، لان هذه الحضارات ظهرت علي ضفاف انهار كبري، وكانت عملية الزراعة تتطلب من اجل نجاحها، معلومات فلكية كثيرة اذ أن من الضرورة حساب المواسم الزراعية حتى يمكن زرع المحصول فى الوقت المناسب، ولابد من توقيت دقيق لعمليات وضع البذور ورى الارض وجنى المحصول ... الخ فضلا عن ضرورة حساب مواعيد فيضان النهر والتغير فى حالة الطقس، وهكذا كان من الضروري أن تعرف هذه الحضارات حساب الفصول والسنين، وكانت أدق التقويمات الفلكية التى عرفتها حضارات زراعية عريقة، كالحضارة المصرية القديمة وحضارة وادى الرافدين وغيرهما.

وكان من العوامل الأخرى التى أدت الى تقدم علم الفلك فى هذه الحضارات، أن كثيرا من شعوبها كانت تمارس التجارة، وتحتاج الى الملاحة البحرية على نطاق واسع، ومن ثم كان الرصيد الفلكى الدقيق ضروريا فى عمليات توجيه السفن فى أعالى البحار.

وأخيراً فقد كان للمعتقدات والأديان الشعبية تأثير هام فى نمو معارف فلكية عملية كثيرة، وحسبنا أن نذكر فى هذا الصدر أهمية العقيدة الدينية عند الفراعنة فى عمليات البناء الهائلة، التى تحققت تلبية لمطالب دينية، كالأهرامات والمعابد الضخمة وكذلك الحاجة الى تخليد الانسان،والرغبة فى قهر الاحساس بفائه التى حفزتهم الى اكتساب المقدرة الخارقة على التحنيط والايمان بالتنجيم ومعرفة الطالع من التطلع الى النجوم الذى أعطى الناس فى تلك العهود طاقة هائلة من الصبر أتاحت لهم أن يومية بملاحظات وعمليات رصد مرهقة،أضافت الى رصيد البشرية فى ميدان الفلك معلومات لها قيمة لا تقدر.

ولنذكر فى هذا الصدد أن الارتباط بين التنجيم وعلم الفلك لم يكن فقد قائما فى حضارات الشرق القديم ، بل كان موجودا في كل العصور، حيث كانت ممارسة التنجيم تتطلب معرفة واسعة بالحقائق الفلكية، والابراج التى يقول المنجمون انهم يعرفون بها الطالع هى اشبة ما تكون بخريطة كبرى للسماء، تضم كثير من المعلومات الفلكية الصحيحة، واسم التنجيم ذاته يفترض معرفة النجوم، ومن ثم كان تدخلهم مع علم الفلك، بل ان كبار الفلكين كانوا فى الوقت ذاته منجمين، فمثلاً كان العلم الألماني العظيم (كبلر) الذى حدد المدارات البيضاوية للكواكب واهتدى إلى مجموعة من أعظم القوانين الفلكية الرياضية، كان يؤمن بالتنجيم ويمارسه، ولم يكن يعتقد ان ممارسته له تتعارض – على أى نحو مع عمله الدقيق – بل إن السعى إلى جعل التنجيم والتنبؤ بالطالع، ربما كان واحد من اهم الاسباب التى حفزت العلماء على الانشغال بعلم الفلك، والتى جعلت هذا العلم الذى يتناول ظواهر تبدوا بعيدة كل البعد عن اهتمام الانسان على وجة الارض، يصبح واحد من اقدم العلوم البشرية عهدا، ومن ادقها منهجا، ولولا ان الحكام كانوا يحرصون على معرفة طالعهم ويستشيرون المنجين فى قرارتهم الهامة لما اولوا لعلم الفلك ذلك الاهتمام وقدموا اليه ذلك التشجيع الذى ادى الى نهوضه منذ وقت مبكر.

واذا كان بعض الغربين يفرقون بين الفلك الشرقى والفلك اليوناني، حيث يرون ان الفلك عند الشرقيين قائم على السحر والتنجيم، فى حين أن الفلك عند اليونانين قائم على التنظيم العلمى،. فهذه التفرقة ليست موضوعية إذا اخضعناها للبحث العلمى الدقيق، ان المنطق والتاريخ يشهدان على ان قدماء الشرقيين قد وصلوا الى مبتكرات فلكية افادت اليونانيين الذين جاءوا بعد ذلك . حيث استفادوا من الموروث الفلكى عند السابقين عليهم ثم وظفوه وبلوروا فكانت اعمالهم الفلكية تعد ثمرة تأثير الشرقين عليهم .

وعلينا هنا ان نثبت ذلك فنوضع مظاهر اهتمام الشرقين القدماء بعلم الفلك، حيث نتكلم عن علم الفلك عند قدماء المصريين ثم البابليون ثم الهنود

1-  علم الفلك عند قدماء المصرين:

تشهد بعض كتابات الغربين فى تاريخ العلم نقدا شديدا للفلك المصرين، فنجد ((تاتون)) يقول : ((من العبث البحث فى النصوص المصرية عن اشارة واحدة الى كسوف، وهذا النقص فى الملاحظة يتعارض مع النصوص البابلية والكلدانية المعاصرة لهم، والتى تضمنت اشارات عديدة حول الوقائع الملحوظة من قبل الفلكيين . والصحيح ان حالة معارفنا عن علم الفلك المصرى هى من الضالة بحيث يصعب ان نرى فى هذه الواقعة ظل جهل او لا مبالاه من قبل المصريين اكثر مما هى نقص فى المصادر.

ويسايره (فوريس) و(ديكستور هوز) يقولا: (بالغ اليونانيين كثيرا، كما بالغوا فى حالة الرياضيات، فى تقدير المصريين فى علم الفلك، والحقيقة ان علم الفلك المصري لم يتخط مطلقا المرحلة الابتدائية، الا حين اتصل بعلم الفلك البابلى فى الفترة اليونانيين(300ق.م) فليس لدينا سوى برديتين مصريتين ديموطيقيتين مبنيتين على أصول أخرى تتناول علم الفلك)).

والحقيقة ان هذة النقد يعتبر غير صحيح الى حد ما، فلم يكن الفلك المصرى بدائيا بسيطا ساذجا لمجرد انه لم توجد برديات كثيرة لشرح النظريات الفلكية، فقد كان الكهنة المصريون يعتبرونها (من اسرار المهنة) التى لا يجوز الاطلاع عليها.

ورغم انعدام الوثائق عن معرفة الفلك المصري ظاهريا وإلا أنه كان يوجد فى مصر كتب فلكية او على الاقل مجموعة تشبه المجموعات المماثلة بالنسبة الى الحساب والطب . وقد كتبت فى العصر الهيلينستى مثل (بردية كارلسبرغ) التى دونت بعد الميلاد، هذا بالإضافة الى وجود معلومات فلكية كثيرة يمكن تلمسها فى نقوش المقابر والمعابد مثل معبد (رمسيس الثلث) ومعبد (ابيدوس) ومعبد الالهة (حتحور) بدندرة ...الخ وهى تبين ان القدماء المصريين قد بذلوا جهودا مبتكرة فى علم الفلك، وان علماء الفلك المصريين مشغولون بقضايا علمية مثل قضية التقويم، وابتكار العام والشهر واليوم كوحدات فلكية لقياس الزمن وتقسيم النهار الى 12 ساعة والليل الى12 ساعة، وكان اهتمامهم بالعالم غيرالمرئى قاصرا على الحياة بعد الموت، ولذلك لم يتحمسوا للتنجيم في حين كان اهتمام اليونانيين لهذا العالم قاصرا على هذه الحياة المادية الملموسة، وظنوا ان التنجيم يمكن ان يؤدى بهم الى فض مغاليقه .

فقد اكتشف المصريين القدماء منذ عهد الاسرة الاولى فكرة التقويم الشمسي، وقسما السنة الى اثنى عشرا شهرا وكل شهر الى ثلاث عشرات، بحيث تتكون السنة من ستة وثلاثين عشرة (360 يوما)، لكنهم سرعان ما اضافوا موسما للاعياد مؤلفا من خمسة ايام، فأصبحت سنتهم 365 يوم، وتبدأ السنة العادية فى أول يوم من الشهر (توت) وتبدأ السنة الفلكية أو سنة (الشعرى اليمانية) يوم يطلع هذا النجم بعد ان رصدوه عدة سنين، وذلك لان مدة السنة العادية 365 يوما،ومدة سنة الشعرى 365 وربع يوم، وهذا الاختلاف يجعل توافق طلوع الشمس والشعرى بصفة رأس السنة الفلكية، بأخير يوما كاملا عن راس السنة العادية كل اربع سنوات، ومعنى ذلك أنه إذا وقع  الفلكية فى أول شهر (توت) فانه بعد اربع سنوات يقع فى اليوم التالى له، وبعد أربعين سنة في آخر رأس السنة الفلكية من راس السنة العادية عشرة ايام وهكذا، وبالتالي ادرك الفلكيون المصريون ان اول السنة الفلكية لا يقع اول السنة العادية الا مرة كل 1460 عاما، وهو ما يعرف بدوره (الشعرية اليمانية).

ولما كان من غير المقبول ان يبدأ فى مستهل السنة بعد مضى جزى منة (ربعه)، وحتى لا يتسبب كسر اليوم فى تغيير مبدأ السنة على مر الايام فقد تغلب المصريين القدماء على هذة المشكلة باسنباط السنة (العادية) ذات الايام الكاملة بدون الكسور، فيما يختص بعد السنيين فجعلوا فى كل دورة من اربع سنيين ثلاث كل منها 365 يوما، والسنة الرابعة 366 يوما، مما جعل متوسط السنة-365 يوما، والطريف ان كلمة (دورة) لازالت تعنى الرقم اربعة عند المصريين ويستخدمونها فى الريف المصرى في احصاء وعد بعض المنتجات الزاعية وغيرها، وتروى الاساطيل المصرية ان اله الحكمة المصرى (تحوت) قد اخترع العلوم كلها من 18000 سنة قبل الميلاد، وذلك خلال حكمة على ظهر الارض البالغ ثلاث الاف من الاعوام . وان اقدم الكتب فى كل علم من العلوم كانت من بين السنة والثلاثين الف كتاب من الكتاب التى وضعها (توت) كما يروى المؤرخ المصري السمنودي (ماينتون) الذى عاش حوالى 300 سنة ق.م ومن بين هذه العلوم علم الفلك والتقويم، وانه قسم اليوم عشر ساعات، وكل ساعة مائة دقيقة، وكل دقيقة مائة ثانية .

ولم تقف جهود القدماء عند حد ابتكارهم للتقويم الشمسى، بل كانوا أول الشعبوب معرفة بالنجوم،معرفة ترجع الى أبعد عصر من عصور ما قبل التاريخ، لأن جو مصر الصافى ولطافة طقسها المنعش أثناء الليل حدا بالناس الى التأمل فى حركات الأجرام السماوية ولا بد أنهم لاحظوا أن النجوم موزعة توزيعا غير متساو، وأنها مجموعات أو أبراج لها أشكال معينة يسهل التعرف عليها، ومن أساطيرهم الموغلة فى القدم أنهم تصوروا السماء كلها محاطة بجسم اليهة السماء ((توت)) التى تحمل جسمها على يديها وقدميها، وهذه النظرة الشاملة الى السماء مكنت  المصريين من التعرف على مجموعات سماوية شاسعة بالقياس الى المجموعات الفلكية الحديثة التى توصل اليها الانسان المعاصر بأحدث الأجهزة التكنولوجية وأكثرها تعقيدا . بل أنهم قاموا بدراسة منهجية لهذا المجموعات من خلال تقسيم منطقة واسعة على طول خط الاستواء الى سته وثلاثين قسما، يشمل كل منها أسع النجوم والمجموعات أو أجزائها مما يمكن رصد ظهوره كل عشرة أيام متعاقبة، كما اكتشفوا العلاقة بين شروق الشعرى اليمانية والفيضان السنوي للنيل باعتباره أهم حدث فى الحياة المصرية وقوة الدفاع المتجددة لحضارتها، ومصدر الرخاء لكل الشعب أو السبب فى ضنكه إذا جاء منخفضا، فعلى الرغم من أن فيضان النيل لم يكن منتظما دائما، الا أنهم اكتشفوا اتفاق هذا الحدث تماما أو تقريبا مع شروق الشعرى اليمانية بصفتها أكثر النجوم تألقا فى السماء .

كذلك تتجلى ريادة علماء الفلك المصريين فى استخدام أدوات فلكية بارعة مكنتهم من اجراء الرصد بدقة، ومن هذه الآلات المزولة الشمسية (وهى عصا مستقيمة تنصب على سطح أفقى، ويكون لها ظل يتغير بتغير مسار الشمس، وتتجدد الساعة من طول ظل العصا، الذى يكون أقصر ما يمكن عند الظهيرة)، والساعة المائية التى تستخدم لتحديد الوقت فى الليل بصفة خاصة، وهى آلة ذات شكل أسطوانى بها ثقب من أسفل يسمح بمرور الماء بصورة تدريجية، وعلى الآلة خطوط تدل على الساعة بصورة تدريجية كلما انخفض مستوى الماء فيها،وهناك نوع أخر من هذة الساعات يعتمد على الامتلاء، حيث يسقط الماء فيه تدريجيا من اناء اخر.

ولاشك فى ان هذه الآلات قد ساعدت المصريين فى معرفة الكسوف والخسوف يقول (بلوتا خوس) اليونانى فى كتابة (ايزيس واوزوريس): (ان المصريين اكتشفوا ظاهرتى كسوف السمش وخسوف القمر، وانهم عللوا هاتين الظاهرتين مثلما تعللها نحن الان، وكانو يعتقدون ان السمش والقمر ابديان ومثلوها بثعبان يلتف على شكل دائرة، كما انهم رمزوا للبروج التى تعرفها باسماء بعض البلاد مثل برج الدلو الذى رمزوا له بجزيرة "فيلة" (امام اسوان) وللمريخ برمز (ابو للونوليس) (ادفو) برمز (اسنا) وللمشترى برمز (ارمنت) وللحمل برمز (طيبة) وللزهرة برمز(دندرة)... وهكذا.

مما سبق تقدم يتضح لنا ان الفلك المصري ليس فلكا بدائيا بسيطا كما يزعم بعض الغربيين وانما هو فلك علمى منظم .. وللحديث بقية..

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

 

 

في المثقف اليوم