قضايا

شحاذون ونبلاء أم صعاليك يسيرون الى الله..!؟

جعفر نجم نصرمن زمن بعيد شاهدت فلم شحاذون ونبلاء من دون ان أعرف اسمه او افهمه، وذلك قبل عشرين سنة، وبالصدفة عرفت اسمه، وشاهدته مرة اخرى.. وعرفت ان اصله رواية كتبها البير قصيري الروائي المصري المقيم في باريس والذي توفى عام 2008.. ولكن هذه المرة شاهدته بعيون جديدة وبعقلية ونفسية مغايرتين لما كنت عليه سابقا.

ابطال الرواية استاذ التاريخ السابق جوهر (صلاح السعدني) وتابعه يكن (احمد ادم) وصديقهما كردي (محمود الجندي) الموظف.. وغريمهم ضابط الشرطة نور الدين (عبد العزيز مخيون ).. تدور احداث الفلم او الرواية في عام 1945 معاصرة المرحلة الأخيرة لإحداث الحرب العالمية الثانية.. وفي وسط القاهرة..

أستاذ جوهر استاذ تاريخ سابق ترك التدريس في الجامعة.. اذ فشلت جديته ورسالته الاخلاقية في تغيير من حوله وكذلك لانه كشف الإمعان في تزييف التاريخ المستمر.!!؟.. وتابعه فتى فقير معدم يتلذذ بفلسفة أستاذه في الحياة، يأخذ منه الفلسفة ويزوده( بالزوادة).. الافيون.. .والتابع مغرم بأجنبية يناجي خيالها وظلها في بيتها العالي وهو المعدم، ويقرض الشعر ويضحك به على الغانيات لياخذ منهن المال كيما يستمر بشراء الافيون.. وصديقهم الموظف الحكومي يقضي وقته كذلك في بيت الغانيات او المومسات.. والفلم كله يدور حول جريمة وقعت في بيت الغانيات.. التي هنا هي: (الدنيا او العالم) بل هي (السلطة والمتعة، والمؤسسات، والاحزاب) كترميزثقافي حسبما نرى.. فبيت الغانيات مركز الجميع ومنطلقه.. !!؟..

قبل العودة الى تفاصيل تلك الجريمة.. المشهد المحوري يبدأ عندما يستيقظ الاستاذ جوهر (لنتمعن بمغزى الاسم) من النوم في حجرته المتهالكة وهو ينام فيها على الجرائد القديمة (الكلام القديم الكلام الجديد.. لغو المثقفين).. فهو لا يملك سرير.. وإذ يفز مرعوبا وقد تسلل اليه بقوة ماء مخلوط بالصابون، فقال فزعا:اهو الطوفان، وفعلا كان هو الطوفان.. أذ تتبع مصدر الماء واذا جاره كان يغسل في الحجرة المجاورة وفي الخارج منها النساء نادبات.. انها رمزية الموت.. القادم.. الذي لا مهرب منه للشحاذ او النبيل او الحاكم او الفقيه او العارف او للصعلوك.. اذ ساوى الردى بين المخدم والخادم في تراجيديا حقيقية.. مستمرة.. ورمزية الموت هنا كما احسب.. تشير للحقيقة الكبرى التي تتكشف بعدها سائر الحقائق.. ؟.. (وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ۖ ذَٰلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ)(19)(سورة ق).. ولهذا أوصى العرفاء بالموت المعنوي قبل الموت المادي.. ولكن مغزى ما فهمناه هنا :إنما يراد ان يقال في سياق رواية جوهر.. هو ان القدر أكبر من الانسان واهدافه وخيالاته وتوهماته وانهماماته.. واهتياماته.. .في تغيير العالم والإنسانية او السيطرة حتى على النزر اليسير من شؤونه الشخصية.. ؟؟..

وبينما يهم الاستاذ في لبس ملابسه، ويخرج مسرعا للبحث عن تابعه يكن.. نسى الإفطار.. اذ هو يطلبه لاجل ان يزوده بالافيون.. عضة النسيان والسكينة والتأمل، فالنسيان مطلب الحرية والتذكر مطلب العبودية.. الا في حضرة الحق سبحانه(نسيان النفس يعني حضور الله.. )ونقيضها.. (وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (19) سورة الحشر).. فرمزية التخدير هنا هو نسيان الجسد ومطاليبه الملحة المخرجة عن أطوار الانسانية الموصلة للبهيمية..

ويبحث جوهر عن تابعه، ويقال له انه عند الغانية (أرنبة) وهذا اسم (المومس الصغيرة) التي تعمل عند قوادة كبيرة في السن دون علم أهلها،.. وأرنبة رمز للمنقب في الارض المتوراري عن الأنظار من سوء فعله وللجبنه.. ، وهنا عدنا مرة اخرى، فالفلم يدور حول الغانية تلك.. .التي سوف تقتل بعد قليل.. والعالم كله يدور حول بيت (الغانيات).. (السلطة /السياسيين/المؤسساتيين/التجار.. ).. ؟؟..

والعالم كله (أرنبات) مختفيات لكنهن مهيمنات؟؟.. ، ويذهب لدارها جوهر ويسأل عن يكن، وتقول :سوف يأتي.. انتظره.. وهنا يغمض جفنيه وينام مسندا رأسه على عصاه.. فهذه الدنيا (بيت الغانيات)تغوي وتبعد!!.. وتجلس.. وتخدر كذلك؟.. (وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلَا تَعْقِلُونَ * أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ)(القصص ٦٠، ٦١)

(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بالله الغرور )(لقمان، ٣٣).

وتطلب منه ان يكتب رسالة الى أهلها وأنها ستجريه مالا عن ذلك.. فيرفض ثم يقبل.. غوايات الجوع والضعف.. ممكن ان تسقط من يسير الى الى الله ولايحمل سوى مدرعته.. !؟؟.. وتلعب بأسورتها.. يخيل انه سيسرقها.. او يقتلها لاجل ما ظن انه ذهبا.. وينظر اليها وهي تملي عليه:اخبر اهلي اني بخير ومستمتعة بعيشي الرغيد.. !؟.. فالعالم رغم عفونته وسقوطه الاخلاقي لايعترف بحقيقة حاله ك (أرنبة).. وتجره اليها، فيسقط طربوشه(حكمته وورعه)كما كنا نظن.. فيقوم بخنقها لاشعوريا من دون ان يمسها بفحش.. فمن هرب من العالم والمناصب في بدء طريقه لن ينتهي في احضان (أرنبة)، بل سيقتلها معنويا كأي مرتحل الى لله.. يغذ السير..

وهنا يحاول الضابط نور الدين (عبد العزيز مخيون) الجاد الملتزم مهنيا الذي يريد تطبيق القانون باي وسيلة.. ان يبحث عن القاتل.. وكيف لا؟ والضباط هم تروس ماكنة الحياة الفاسدة وهم أعمدة السلطة والتجار والمؤسساتيين.. لكن دائما من يريد ان بحافظ على القانون هو معطوب، مفارقة دائمة منذ فجر نشوء (الدولة والمؤسسات )!؟..

اذ كان الضابط في الجزء الاخر.. المضمر.. من شخصه (شاذا).. لكن رغم شذوذه هو يؤيد ان يقلد والده الذي كان شرطيا كبيرا كذلك.. وهو يضع زيه الرسمي أمامه في البيت لكي يشد ازره.. وهنا يشتد ساعده للبحث عن الجاني، وفي الحقيقة انه لايوجد جناة بل توجد جانية على نفسها بقدرها المشؤوم ان تكون في بيتا للغانيات.. بيت العالم والدنيا.!!؟..

في الجهة الاخرى الاستاذ جوهر لايحزن على فعله او يندم، بل يعتبر ذلك قدرا مقدروا، ورغم ذلك فهو لايدعي لنفسه الطهر.. او انه قتلها لرذائلها.. !؟.. بل لان الامر تم في سياقات القدر الذي المهرب منه.. وأخبر تابعه بفعله ذلك.. ولكن المشكلة لديه ليست(أرنبة).. إنما في القنبلة الذرية التي أنتجتها امريكا وتهدد بها اعدائها في أتون الحرب،.. وهنا يتذكر محاضراته وكتاباته التي لم تؤثر في احد ولم تغير شيئا.. لان الناس مشغولون على الدوام بالجسد ومهممون بالسلطة.. وبين الجسد والسلطة لا وقت للبحث عن معرفة.. او حكمة اخلاقية..

ويقبض الضابط على جمع غفير ليحقق معهم.. ويفلت الموظف المتحذلق (كردي)اَي محمود الجندي من التحقيق اكثر من مرة.. اما يكن (التابع او المريد)تم التحقيق معه اكثر من مرة،.. فالتابع دائما يعلم حقائق الاستاذ او الشيخ.. !!?.وهنا يسأله الضابط :هل قتلت أرنبة.. ؟.ويجيبه يكن بسؤال اكبر.. وانا أسالك :هل تستطيع منع امريكا من استخدام القنبلة الذرية؟!!!.. .

وكأنما السؤال :هل تستطيع تغيير أقدار العالم ؟هذا السؤال؟.. اما بقية الاسئلة تافهة.. او عادية للغاية!!.بطبيعة الحال لايستطيع تغيير الأقدار سوى الله

(يَوْمَ هُم بَارِزُونَ ۖ لَا يَخْفَىٰ عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ ۚ لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ۖ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ )(16:سورة غافر).. وكانما هي دعوى للتأدب عن دعاوى تغيير مجرى حياة الناس او ضبط إيقاع حياتهم.. (وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَىٰ أَمْرِهِ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ )(21:سورة يوسف)..

في ثنايا ذلك يلاحظ الضابط الصارم المتشدد متعة هولاء الصعاليك.. بل واللذة الشديدة.. لديهم.. وهم صعاليك حول الاستاذ جوهر يطوفون.. رضوا بالمقسوم وتأدبوا!!.. ولم يطلبوا أشياء باهضة الثمن.. بل رغم حرمانهم الشديد يستمتعون.. ورغم سطوته ورتبته وراتبه فهم مغموم!!؟.. بماذا بتطبيق القانون لسلطة فاسدة.. ؟.

وفي عيون الاستاذ جوهر الطمأنينة والسكون والتسليم الكلي.. وفي عيون الضابط الحيرة والاضطراب والشك.. ويقول الاستاذ لاصحابه ان الضابط يحسدنا على سكينتنا على الرغم من فقرنا وعوزنا، ولكننا سعداء، فالسعادة هنا:ليست الألقاب والرتب.. إنما السعادة هي :الرضا والتسليم (وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَىٰ صِرَاطِ الْحَمِيدِ )(24 سورة الحج)..

وتأتي اللحظة الحاسمة وتضرب امريكا اليابان بالقنبلة الذرية وتحصد الأرواح وتغير العالم!!؟؟.. فيخرج الناس للشارع مهرولين على هول الخبر عند سماعه.. فيهرول الجميع البشوات والصعاليك والضابط معهم.. وهنا يدرك الضابط نور الدين (لاحظ الاسم) بان النور شئ والجوهر شئ اخر.. يدرك الضابط انه لايملك شيئا امام (المقادير الالهية)(وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ ۚ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ۚ ذَٰلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا) (82سورة الكهف)..

ويكون مشهد النهاية.. الاستاذ جوهر جالس بملابسه المهترئة والرثة على المقهى ممسكا بعصاه.. بكل ثقة وطمانينة وسكون وتسليم.. والقادم اليه من اصبح صديقا له... او لنقل من اصبح مريدا.. .الضابط الذي ترك وظيفته واطلق لحيته مرتديا ملابسه الرثة وبعينه الفرحة واللذة والسكون والوقار والتسليم وهو يتقدم نحو الاستاذ.. وكأنها عودة الفقيه لحضرة العارف.. !!؟؟..

 

د. جعفر نجم نصر

 

 

 

في المثقف اليوم