قضايا

محمود محمد علي: النزعة الأشعرية في فكر الشيخ الشهيد محمد سعيد رمضان البوطي (2)

محمود محمد علينعود ونكمل حديثنا عن نزعة البوطي الأشعرية، وهنا نقول: .. تعددت المواضيع التي كتب فيها "البوطي" لثقافته الواسعة، واهتماماته الكثيرة، وقدرته الأدبية الكبيرة في إيصال أفكاره ومبادئه للقارئ، وعندما يتصفح المتتبع لأعمال كتاباته، يجد نفسه أمام كم كبير من المؤلفات التي تزخر بالعلم والمعرفة والمواد الصوتية المسجلة كمحاضرات، أو حلقات تليفزيونية، إضافة لموقعه علي الإنترنت، ومع ذلك تبقي كتبه المتداولة بين أيدي القراء مرجعية علمية وثقافية عظيمة يصعب أن تحصي كلها شرحا وتفصيلاً.

وللدكتور "البوطي" إنتاج كبير ومتنوع من الكتابات التي تتناول شتي العلوم الإسلامية، ولا سيما الفقه وأصوله والعقيدة، وكذلك المناقشات الفكرية والدينية مع المخالفين في المنهج أو التوجه الأشعري الذي يؤمن به البوطي؛ إضافة إلي المواعظ الرقيقة، والنفحات الأدبية، والأخلاقية، والروحية، وهو في كل هذا يتمتع بصياغة رشيقة حتي وهو يتناول أعوص المسائل، ولم تخل غزارة إنتاجه بمستوي الكتابة لديه، ويمكنه أسلوبه السهل الممتنع من استخدام مختلف أنواع الخطاب تقريراً، ووصفاً، ونقاشاً، وتحريضاً، ودفاعاً، وانتقاداً، وحتي تقريعاً في بعض الأحيان، حيث لا يخلو أسلوبه من حدة في بعض المواقف ضد منتقديه (10).

ومن أهم ما كتب "البوطي" مؤلفه الشهير، مع الناس، المكون من جزأين، ويتضمن هذا الكتاب الإجابة عن أسئلة وجهات إلي المؤلف من شريحة متنوعة من الناس تصور مشكلاتهم المعاصرة التي تهم كثيراً من المثقفين وتعطيهم رأي الشرع، أما برنامجه التلفزيوني " دراسات قرآنية" الذي أصبح عدد أجزاءه حتي اليوم ثلاثة، فيضم عشرات الساعات الصوتية التي يتناول فيها مواضيع الحياة اليومية ومشكلات المسلمين المعاصرة وغير ذلك من الموضوعات الاجتماعية والفقهية والعلمية بأسلوب واضح (11).

وفي كتابه " كلمات في مناسبات " يتناول "البوطي" كلمات توجه بها في حديث إلي العالم مرة في كل شهر عن طريق موقعه علي الإنترنت تحت اسم كلمة الشهير، وباللغتين العربية والإنجليزية معا . ويبرز في كل منها حدثاً شغل العالم في ذلك الشهر بحديث جامع لما ينبغي أن يقال فيه بإيجاز، يخاطب فيها أشتات الناس ممن يتلاقون علي شبكة الإنترنت علي اختلاف انتمائهم وثقافتهم وأوطانهم، خلال عام ونيف، وقد راعى البوطي في هذا الكتاب التنويع في الموضوعات، بحسب الأحوال والظروف، وعدد قليل منها كان مقالات كتبت في مناسبة ما، ويقول البوطي:" أن هذه الكلمات قد أخذ في رصدها منذ عشر سنوات، وتدوينها في تلك الورقات" (12).

والكتاب الذي يستوقفنا جميعا هو " شخصيات استوقفتني" الذي يبين فيه "البوطي" مواقفه من شخصيات تاريخية هامة استوقفت المؤلف، الفضيل بن عياض - عبد الله بن المبارك - الإمام الغزالي- جلال الدين الرومي- بديع الزمان النورسي- جمال الدين الأفغاني- مصطفى السباعي- روجيه غاوردي، حيث قام حولها كلام "فيه غموض، أو لفظ، أو بطلان دار علي الألسنة، حتي صار الوهم حقيقة" (13).

أما كتابه الذي ترجم إلي للفرنسية " منهج الحضارة الإنسانية في القرآن"، فيتضمن كشفا عن بنيان قرآني متكامل لتربية اجتماعية فذة تتكفل بنهضة حضارية سليمة راسخة علي طريقة الإمام محمد عبدة في كتابه" الإسلام بين العلم والمدنية"، ويبدو واضحا من خلال المقدمة التي قدمها البوطي والتي نقتطف جزء منها هنا؛ حيث يقول:" وبعد، فإن حديث الحضارة الإسلامية يعد في مقدمة البحوث التي حفلت بها المؤلفات والمقالات المعاصرة بقطع النظر عن مؤلفيها وكاتبيها مسلمين كانوا أو غير مسلمين، ولكن الذي يلفت النظر أن جل هذه البحوث، بل أكاد أقول كلها إنما يتناول من حديث الحضارة الإسلامية منجزاتها وآثارها، في بحوث وصفية لا يري القارئ من خلالها إلا مشاهد وصور من للحضارة الإسلامية التي انبسطت خلال قرن علي ثلاثة أرباع المعمورة آنذاك، ثم امتدت علي أعقاب ذلك بالتأثير والانتشار، حتي شملت معظم العالم، تتمثل في علوم وفلسفة وطب وفنون مختلفة" (14).

وفي كتاب " فقه السيرة النبوية " يستعرض "البوطي" أحداث السيرة النبوية بطريقة واضحة متسلسلة، حيث يبدأ سرد السيرة النبوية على مراحل تاريخية من ميلاده حتى وفاته صلى الله عليه وسلم. ويختم بموجز جامع لتاريخ كل خلافة من الخلافات الراشدة، ويتحدث عن أهم الأحداث التي جرت في عهد كل خليفة، ويعقب عليها خاصة حين تتعلق بفتنة أوشبهة؛ ثم يعقب علي أهم أحداثها ويستنبط منا الأحكام الدقيقة والدروس المستفادة والعبر (15).

وإذا انتقلنا إلي إبراز النزعة الأشعري عند "البوطي"، فنجد أنه خالف علماء السلف الذين يأخذون بخبر الآحاد في العقيدة، كما قرر في مسألة خلق القرآن طبقاً لمذهب الأشاعرة، وأكد أن الخلاف بين أهل السنة والجماعة من جهة، وبين المعتزلة من جهة أخري في هذه المسألة، إنما هو لفظي، وأنهم متفقون في المضمون، كما يجير البوطي التوسل بجاه النبي صلي الله عليه وسلم بعد وفاته، وأكد أن الأدلة الشرعية لا تفرق بين التوسل بحياة النبي صلوات الله عليه أثناء حياته أو بعد مماته (16).

وقد مثل "البوطي" في منهجه الدعوي وفكره ما يسمي التيار الوسطي، وهو تيار يقف في الخط الوسط بين السلفية والصوفية، فيرفض ممارسات الصوفية وسلوكياتها، كما يرفض في الوقت ذاته تشدد السلفية في إنكار البدع، وتضليل الآخر، مع المحافظة علي الفهم الأصولي للإسلام، ويتميز "البوطي" بتركيزه علي العبادات، والأذكار، والأوراد، ويعيب علي المفكرين انصرافهم عن هذه الأمور التي تعد الزاد الأول في طريق الدعوة إلي الله (17).

وفي مجال العقيدة قسم "البوطي" مباحث العقيدة الإسلامية أربعة أقسام، وهي: الإلهيات، والنبوات، والكونيات، والغيبيات، جرياً علي منوال "أبو حامد الغزالي" ومن قبله أستاذه "أبو المعالي الجويني"؛ كذلك يؤيد البوطي الأشاعرة في فكرة "دليل الغائية أو الحكمة والتناسق"، خلاصة هذا الدليل أنه يتخذ من المخلوقات دليلاً علي وجود الخالق، وهذه المخلوقات تدل عن قصد في تكوينها، وحكمة في تسييرها وتدبيرها، فالنظام، والقصد، والانسجام، والحكمة الظاهرة في الطبيعة ومظاهرها المختلفة المتنوعة طرق ظاهرة لإثبات وجود الله تعالي؛ وهنا نجد "البوطي" يعلق علي هذا الدليل فيقول:" إن هذا الدليل قد نبه إليه القرآن الكريم، قال تعالي (أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ أَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ- "سورة الواقعة 68-69") إلي غير ذلك من آيات الله عز وجل التي تنفي أن يكون هذا الكون قد جاء بالصدفة والاتفاق، بل لا بد من وجود خالق دبر هذا الكون وجعله متألفا (18).

كذلك تأثر "البوطي" بالأشاعرة في قضية إثبات وجود الله فهو يؤيدهم متبنيا وجهة النظر الغزالية فيقول: لإثبات وجود الله عز وجل وما يتبعه منهجان: منهج التدرج من الأعلى ومنهج الصعود من الأدنى؛ وطريق "التدرج من الأعلى" (19)، وطريق "التدرج من الأدني" (20)، كذلك يتحدث "البوطي" عن صفات الله تعالي علي نهج الأشاعرة؛ حيث نراه يقسمها إلي ثلاث صفات: نفسية وهي صفة الوجود، وسلبية وهي صفة الوحدانية، ثم الصفة المعنوية، وهي التي خالف فيها المعتزلة، ثم ذكر "البوطي" بإفاضة هذه الصفة وبيان معني كل منها ودليله من حيث العمل، والإرادة، والقدرة، والسمع، والبصر (21).

كذلك أيد "البوطي" الأشاعرة في قولهم بالإيمان، حيث اعتبر الإيمان مجرد التصديق القلبي فحسب، وأن صاحبه ناجي يوم القيامة (22)، كذلك أيدهم في الإيمان بالملائكة والجن، كما أيدهم في نظرية الرؤية وبالذات في حديثه عن اليوم الآخر وأحداثه، وأثبت رؤية المؤمنين لربهم – عز وجل – يوم القيامة، إلا أنه نفي الجهة مطلقا مؤيداً بذلك رأي المعتزلة، كذلك أيدهم عندما اعتبر حكم المرتد من باب الإمامة والسياسة الشرعية مخالفاً بذلك المعتزلة ومؤيدا للأشاعرة عندما اعتبر علة قتل المرتد الحرابة لا الكفر (23).

لم يكتف "البوطي" بذلك بل أيد الأشاعرة في قولهم في معارضة المعتزلة، عندما قال معهم بفكرة أنه:" لا يجب علي الله شئ والحسن والقبح في الأشياء اعتباري، حيث تحدث عن معني هذا الكلام ودليله بقوله:" فإن قلت كيف أفهم أن حسن الصدق وقبح الكذب اعتباري فالجواب: الله هو الخالق للأشياء والخالق لصفاتها، وهو الجامع بينهما – إذا أدركت ذلك علمت أن الله ليس مجبورا في خلقه أو حكمه علي شئ – يترتب علي هذا ثلاث حقائق –أولا: الأشياء خالية في أصلها عن سمة الحسن والقبح – ثانيا: يصدق قولنا بأن الله خلق القبيح وخلق الضار –ثالثا: ليس من صفات النقص التي تنزه الله عنها كونه خالقا للقبيح والضار (24)؛ وهنا نفي "البوطي" تعليل أفعال الله وقال بنظرية الكسب الأشعري التي نادي بها "الباقلاني" ومن قبله أستاذه "أبو الحسن الأشعري" في ركن القضاء والقدر، واعتبر "البوطي" الحسن والقبح في الأشياء اعتبارياً وليس جوهريا (25).

ومن مظاهر النزعة الأشعرية أيضا ما ذكره "البوطي" حول مصير الإرادة الإنسانية أما إرادة الله، حيث يقول كيف يكون الله مريداً ويكون الإنسان مع ذلك مريداً وتكون الإرادتان صحيحتان، وهنا يقول البوطي:" لعلك تسأل: فكيف يعاقب الله الإنسان علي فعل من هو من مرادات الله عز وجل، والجواب هذا الإشكال فرع من توهم أن الإرادة والرضي بمعني واحد وهو خطأ – لا تنافي بين كون الإنسان مريدا وكونه لا يخطي الإرادة الإلهية فإن قلت: فهذا مقنع لولا قوله تعالي " وما تشاءون إلا أن يشاء الله "، وهنا نجده يصول ويجول لمناقشة هذا الأمر علي نهج الأشاعرة (26).

وأما في مبحث النبوات رأينا "البوطي" أيضا متأثرا بالفكر الأشعري وخاصة في الحديث عن معنيي النبوة والرسالة، وظاهرة الوحي من خلال الخبر التاريخي القطعي،والحديث عن المعجزات وبالأخص معجزة القرآن، وكذلك حديثه عن النبوة التي لا تأتي عن طريق الكسب (27)، وكذلك تأثر "البوطي" بالأشاعرة في حديثه عن الغيبيات؛ مثل حديثه عن الموت وقبضة الأرواح وعذاب القبر ونعيمه، وأشراط الساعة، ويوم القيامة وأحداثه معللا ذلك بأنها واردة من خلال خبر الآحاد (28).

وفي نهاية مقالي لا أملك إلا أن أقول: إن الكلمات لا تستطيع أن توفي هذا المجدد العظيم حقه بعد أن قُتل غيلة علي يد الداعشيين، فتحية طيبة للشيخ الشهيد محمد سعيد رمضان البوطي الذي كان يمثل لنا نموذجاً فذاً لرجل الدين المتحرر، والذي يعرف كيف يتعامل مع العالم المحيط به ويسايره في تطوره، وهذا النموذج هو ما نفتقده بشدة في هذه الأيام التي يحاول الكثيرون فيها أن يثبتوا إخلاصهم لوطنهم بالانغلاق والتزمت وكراهية الحياة، وإغماض العين عن كل ما في العالم من تنوع وتعدد وثراء.

رحم الله الشيخ البوطي، الذي صدق فيه قول الشاعر: رحلتَ بجسمِكَ لكنْ ستبقى.. شديدَ الحضورِ بكلِّ البهاءِ.. وتبقى ابتسامةَ وجهٍ صَبوحٍ.. وصوتًا لحُرٍّ عديمَ الفناءِ.. وتبقى حروفُكَ نورًا ونارًا.. بوهْجِ الشّموسِ بغيرِ انطفاءِ.. فنمْ يا صديقي قريرًا فخورًا .. بما قد لقيتَ مِنَ الاحتفاء.. وداعًا مفيدُ وليتً المنايا.. تخَطتْكَ حتى يُحَمَّ قضائي.. فلو مِتُّ قبلكَ كنتُ سأزهو.. لأنّ المفيدَ يقولُ رثائي.

 

أ.د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

......................

الهوامش

10- سمير روبين عبد الحليم الجعبري: الشيخ محمد سعيد رمضان البوطي وآراءه الاعتقادية – عرض ونقد في ضوء عقيدة السلف، متطلب الماجستير في أصول الدين (العقيدة) بكلية الدراسات العليا في جامعة الخليل،2015، ص49.

11- ربي محمد ديب الدرع: محمد سعيد رمضان البوطي .. الفقيه والمفكر السياسي، الوعي الإسلامي، الكويت، س 44، ع 502، 2007م، ص 18.

12- محّمد سَعيد رَمضان البوطي: كلمات في مناسبات، دار الفكر، سوريا، 2013، ص 34.

13- محّمد سَعيد رَمضان البوطي: شخصيات استوقفتني، دار الفكر، سوريا، 1999، ص11.

14- محّمد سَعيد رَمضان البوطي: منهج الحضارة الإنسانية في القرأن، دار الفكر – بيروت، 2015، ص 4-5

15- محمد سعيد رمضان البوطي: فقه السيرة النبوية مع موجز لتاريخ الخلافة الراشدة،: دار الفكر، سوريا، 2018، ص 33-45.

16- سمير روبين عبد الحليم الجعبري: المرجع نفسه، ص 55.

17- المرجع نفسه، ص 56.

18- محمد سعيد رمضان البوطي: كبري اليقينيات الكونية وجود الخالق ووظيفة المخلوق، دار الفكر، سوريا، 1997، ص 148.

19- المرجع نفسه، ص 142-149.

20- المرجع نفسه، ص 106.

21- المرجع نفسه، ص 120-121.

22- المرجع نفسه، ص 156-159.

23- سمير روبين عبد الحليم الجعبري: المرجع نفسه، ص 160-161.

24- محمد سعيد رمضان البوطي: كبري اليقينيات الكونية، ص 149-154.

25- سمير روبين عبد الحليم الجعبري: المرجع نفسه، ص 161.

26- محمد سعيد رمضان البوطي: كبري اليقينيات الكونية، ص 155-159.

25- سمير روبين عبد الحليم الجعبري: المرجع نفسه، ص 161.

27- محمد سعيد رمضان البوطي: كبري اليقينيات الكونية، ص 179-182

28- سمير روبين عبد الحليم الجعبري: المرجع نفسه، ص 162.

 

 

في المثقف اليوم