قضايا

محمود محمد علي: الفقيه والسلطان.. قراءة في تراثنا العربي – الإسلامي

محمود محمد عليلا شك في أن تحرير العلاقة بين الفقيه والسلطان بات أمرا ملحا، بعدما لاحت بوادر عدة أشاعت قدرا من الالتباس ينذر بإهدار دور الفقيه ومرجعتيه الدينية، والوطنية، والتاريخية، والمتتبع لتاريخنا السياسي العربي – الإسلامي، يمكنه أن يدرك بأن قضية السلطة وعلاقته الفقيه بها مسألة قديمة وسابقة علي مراحل تراجع الدولة العربية – الإسلامية، أي أنها قضية شغلت المثقف العربي منذ بدايات تأسيس السلطة بعد وفاة النبي (صلي الله عليه وسلم)، وقد يكون انشغال الفقيه بقضية السلطة في ذلك الوقت المكبر من التاريخ السياسي العربي- الإسلامي مسألة طبيعية، إذ أن موضوع السلطة في المجتمع القبلي الجاهلي السابق لظهور الإسلام كان مرتبطاً بالتنظيم السياسي القبلي، ولهذا التنظيم تقاليده وأعرافه التي تحدد من يتولى السلطة وشكلها وكيفية إدارتها، غير أن الخبرة السياسية الإسلامية في عهد النبي (صلي الله عليه وسلم) قد جاءت بمفاهيم وقيم دينية جدية، ويبدو أن وفاة النبي (صلي الله عليه وسلم) دون أن يحدد خليفة له قد وضعت الجماعات الإسلامية والدولة الإسلامية في مواجهة جديدة مع مسألة السلطة (1).

فقد أثارت هذه القضية للمرة الأولي في التاريخ السياسي الإسلامي في الخلاف الذى دار في سقيفة بني ساعدة حول من يتولى أمر المسلمين بعد وفاة النبي (صلي الله عليه وسلم)، صحيح أن ذلك الخلاف قد حُسم لصالح " أبي بكر الصديق" بعد ترشيح " عمر بن الخطاب " له، ومبايعة نفر من جماعات المسلمين .  لكن ذلك لا يعني أن الخلاف حول السطلة قد انتهي . وقد حاولت السلطة من جانبها الاستناد في شرعيتها على مبدأ الشورى كما دعا إليه الإسلام، لكن ذلك لم يكن كافياً ليحد من الخلاف والصراع حولها، إذ كان الخلاف حول الشورى وشرعية السلطة أساساً لظهور التيارات الفكرية، وبروز تيار ينادي بالشورى والبيعة كأساس لشرعية السلطة، في مواجهة تيار آخر ربط شرعية السلطة بالوظيفة التي وجدت من أجلها، ومن ثم قدم وحدة الجماعة – وهي أساس الدين –علي مبدأ الشوري (2).

لقد كان ذلك الخلاف المبكر حول السطلة أساسا لبروز التيارات الفكرية والفرق والمذاهب، كما كان محركاً للعديد من الأحداث والصراعات علي امتداد التاريخ الإسلامي . وانبعث ذلك الخلاف الفكري من جديد حول السلطة عند الخلاف بين " علي بن أبي طالب" و " معاوية بن ابي سفيان"، وثار مرة اخري وبصورة أكثر حدة عند تحول الخلافة إلي مُلك علي يد بني أمية (3).

لقد بقى الخلاف حول تلك المسألة لدى البعض عند حدود الجدل الفكري، بينما  تجاوزه لدي البعض الآخر إلي الحركة والفعل، إذ ظهرت الحركات المناوئة للسطلة والداعية للخروج عليها، وإعادة الأمر مرة أخرى لجماعة المسلمين بدأ بطلب التحكيم لإنهاء حالة الصراع علي الحكم بين جماعة المسلمين، وإن انطوى ذلك المطلب علي الخديعة السياسية، وانتهي بخلع الإمام علي من الحكم وتثبيت معاوية، مروراً بظهور الخوارج، واعتصام عبد الله بن الزبير في مكة بعد مقتل " الحسين بن علي " عام 63 هجرية داعياً لإعادة الأمر شورى مستخدماً هذا السلاح الإيديولوجي لتقويض نظام بنى أمية، وإن كانت السلطة من جانبها ممثلة في بنى أمية لم ترد بشكل مباشر علي دعاة الشورى، فإنها قد استخدمت لمواجهتهم العديد من الأسلحة، فتارة " وحدة الجماعة" وشق " عصى الأمة"، حتي سمى العام الذي اتفق فيه الناس علي حكم بنى أمية بعام الجماعة (4).

وما كاد القرن الهجري الأول أن ينتهي حتي تبلورت فكرتا (الشورى) و( وحدة الجماعة)، وبدأت جدليات العلاقة بينهما تتضح . ويبدو أن الخلاف بين تيار الشورى وتيار وحدة الجماعة قد حسم تدريجياً لصالح وحدة الجماعة، فمع التطورات التي شهدتها الأمة الإسلامية لم يعد يوسع الفقهاء، إلا التأكيد علي هذا المبدأ، غير أن هذه القضية أفرغت من مضامينها تدريجياً، بحيث ضاعت في النهاية حتي من الناحية الشكلية، وإن كان ذلك الحسم الواقعي لم يحل دون بروز الآراء المؤكدة علي الشورى، وعلى جماهيرية الإمام (الشورى فالعقد والبيعة)، وان الشورى قضية متصلة بالوحدة ولا يمكن تحقيقها بدونها، إذ أن وحدة الجماعة غير المبنية علي الشورى يمكن أن تتحقق في غياب الشرعية عن طريق القوة والتسلط المجردين، لكنها حينئذ لا تبقى وحدة إسلامية بل وحدة " كسروية" أو " قيصرية" كما رأي ذلك عدد من كبار الصحابة، مثل الحسين بن علي، وعبد الله بن عمر، وعبد الرحمن بن أبي بكر رضى الله عنهم (5).

من خلال العرض السابق عن الجدل حول الشرعية ووحدة الجماعة، يمكننا أن نميز بين أربعة مواقف أساسية للمفكرين الإسلاميين في تلك المرحلة  (6) :-

أ- فئة تواطأت مع السلطة، وسوغت وجودها، وبررته بالحجة الدينية والمنطقية، وفي مقدمتهم كل من خطب لحكم بني أمية، وبين أحقيتهم في السلطة، سواء في عهد بني أمية، أو فيما تلاه من آراء فقهية بررت وجود السطلة غير المستندة علي الشورى، كما يمكن أن تجد جانباً من هذا النتاج الفكري، فيما عُرف بالأدب السياسي، ومن أبرز المفكرين في هذا المجال المواردي"، وقد دافع في كتابه الشهير " الأحكام السلطانية" عن بطلة الخلافة العباسية في وجه البويهيين، ثم في وجه السلاجقة، ويعد من المقربين إلي سلطة الخلافة بوصفه أحد المتحدثين باسم السنة والجامعة، ويعترف المواردي في مقدمة كتابه الشهير بأن اهتمامه بالموضوع وتأليفه فيه جاء بأمر من تجب طاعته، قائلاً:" ولما كانت الأحكام السلطانية بولاة الأمور أحق، وكان امتزاجها بجميع الأحكام يقطعهم عن تصفحها مع تشاغلهم بالسياسة والتدبير، أفردت لها كتابا امتثلت فيه أمر من لزمت طاعته ليعلم من مذاهب الفقهاء، فيما له منها فيستوفيه، وما عليه منها فيوفيه توخياً للعدل في تنفيذه وقضائه، وتحرياً للنصفه في أخذه وعطائه. وضمن نفس السياسات يمكن أن ندرج كتابات عدد من المفكرين الذين دافعوا عن السطلة، ونظروا لها، والتي أطلق علي بعضها " مرايا الأمراء"، مثل " التاج في أخلاق الملوك" المنسوب للجاحظ، و" الأدب الكبير" لا بن المقفع " وقوانين الوزارة وسياسة الملك للمواردى و" التبرك المسبوك في نصيحة الملوك" لأبي حامد الغزالي .

ب- وجماعة لم تعارض السلطة وربما تعاونت معها لا من منطلق التواطؤ أو التحالف، بقدر ما جاء موقفها حفاظاً علي وحدة الأمة العربية – الإسلامية، وخوفا عليها من التمزق والفرقة، ويمكن أن نجد في رأي الإمام أبي حنيفة ومالك والشافعي مثالا علي ذلك التوجه.

ج- وجماعة عارضت السلطة وأسست تيارات فكرية وسياسية مناوئة لها، كالخوارج، وحركة عبد الله بن الزبير، وابن حنبل في قضية خلق القرآن.

د- وجماعة التزمت الحياد وفضلت عدم التعاون مع السطلة أيا كان توجهها، مثل المتصوفة.

واعتقد أن تلك المواقف الفكرية من السطلة بقيت تمثل القاسم المشترك الأعظم – إن جاز التعبير – لموقف المثقف من السلطة علي امتداد التاريخ الإسلامي حتي سقوط دولة الخلافة الإسلامية، ووقوعها تحت الهيمنة الاستعمارية.

إن التطرق لموضوع المعرفة والسلطة ضمن النسق الشرعي السني، تحكمه في غالب الأحيان، سياقات موحدة، تماشيا والضوابط الشرعية التي تقوم عليها الشريعة الإسلامية، وهذا تجل واضح لنظام التوازن، الذي يقوم عليه الفكر السياسي الإسلامي السني،. وعليه، تقوم قضية الفقيه وتأسيس مفهوم الطاعة السياسية، ثم الفقيه ومشروعية المعارضة، نظرا لكون العلاقة بين الفقيه والسلطان حكم عليها بالازدواجية على طول المسافة التاريخية. وما يبدو جليا وواضحا، هو أن التطرق إلى هذا الموضوع، يعكس وضعا تاريخيا، وفقهيا معينا، ارتبط أشد الارتباط بجملة من التحولات التاريخية والفكرية.

نخلص مما سبق، إلى أنه، بالرغم من اعتراف الفقهاء، بحق الرعية في معارضة السلطان، إلا أنهم قيدوا هذا الإجراء، وجعلوه استثنائيا، لا يلجأ إليه إلا عند الضرورة القصوى، وذلك سدا منهم . للذرائع، وهكذا لا تجري محاكمة الظالم إلا في ظروف جد خاصة.

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل- جامعة أسيوط

............

هوامش المقال

1- مريم سلطان لوتاه : المثقف العربي والسلطة: تحديات الماضي والحاضر، مجلة الديمقراطية، مؤسسة الأهرام، مج 5 ,ع 18، 2005، ص 56.

2-المرجع نفسه، الصفحة نفسها.

3- المرجع نفسه، الصفحة نفسها.

4- المرجع نفسه، الصفحة نفسها.

5- المرجع نفسه، ص 57.

6- المرجع نفسه، الصفحة نفسها.

 

في المثقف اليوم