قضايا

اليف شافاك تروي حكاية البلدان التي تقسمها الطوائف

مع صدور رواية جديدة لها تستمر اليف شافاك باثارة الجدل، الكاتبة التركية المغضوب عليها من قبل الرئيس التركي رجب طيب اردوغان، تفضل دائما ان تضع نفسها في بؤرة الاحداث، زادت مبيعات كتبها بعد ما شن عليها اعضاء في حزب العدالة والتنمية الحاكم، متهمينها باشاعة مفاهيم عن الجنس والدعارة في رواياتها، قالت ان الشعبوية أصبحت هي الثقافة السائدة في تركيا، في الوقت الذي تتلاشى فيه مفاهيم العلمانية والدولة المدنية، واتهمت السلطات بانها تحاول اعادة تشكيل التعليم على اسس دينية وقومية . كتبت في صحيفة الغارديان للناس في تركيا انهم عرقياً ودينياً وتاريخياً متميزون عن الشعوب الاخرى .. اصبحت الشعبوية هي الثقافة السائدة، فيما العلمانية تتلاشى مع ارتفاع عدد المدارس الدينية، مع محاولة إعادة تشكيل التعليم على أسس دينية وقومية. لقد كان أردوغان صريحًا عندما قال: إنه يريد أن يربي جيلًا تقيًا ".

تنافس مواطنها الحائز على نوبل اورهان باموق على صدارت المبيعات . منذ ان نشرت روايتها الاولى " الصوفي " في نهاية التسعينيات، وبعد اكثر من عشرين عاما كتبت اكثر من عشرين كتابا، لا تزال تَغضب من اجل حقوق المرأة، تكتب كعادتها كل يوم، ترى في نفسها راوية حكايات .

ولدت أليف شافاك في الخامس والعشرين من تشرين الاول عام 1971 في مدينة ستراسبورغ حيث كان والدها " نوري بلجين " يكمل دراسته للدكتوراه في علم النفس، فيما كانت والدتها موظفه في السلك الدبلوماسي، انتقلت في سنتها الاولى الى أنقرة. بعد ان انفصال والديها،تولت امها تربيتها امها، تقول ان نشأتها في بيئة غير أبوية كان له تأثير إيجابي عليها، اضافت اسم امها " شافاك " الى اسمها كرد فعل على تخلي والدها عنها، أمضت سنوات المراهقة في أنقرة ومدريد وعمان واسطنبول، وبوسطن قبل ان تستقر بشكل نهائي في بريطانيا، لكنها ظلت "تحمل اسطنبول في روحها "، قرأت بنهم الكتب التي كانت تجدها في بيت جدها، كانت ثمة انواع من المجلدات قرب سرير جدتها، في المدرسة ستكتشف تشارلز ديكنز، فتنتها روايته قصة مدينتين:" ظللت اقرأ مؤلفات ديكنز فصار هذا المؤلف الانكليزي من القرن التاسع عشر قرينا لطفلة من انقرة تعيش اواخر السبعينيات "، بعدا ستكتشف غابريل غارسيا ماركيز الذي جعل تصدق حكايات جدتها، فالكاتب الكولومبي مثل جدتها جعل الماء يتحدث والأنهار تغير مجراها، والاحلام تلعب دورا في حياة الناس .. شغفت بالتصوف، إلا ان موضوع النساء ظل يشغلها فقررت ان تكون رسالتها عن الإسلام، والنساء، والتصوف.

أصدرت ما يقارب العشرين كتابا بين روايات وقصص قصيرة ومقالات، روايتها الشهيرة "لقيطة اسطنبول " التي صدرت عام 2006 وضعتها في مصاف كبار الكتاب في الغرب، واحتلت لاشهر قائمة الروايات الاكثر مبيعا، تحدثت فيها عن الماضي الذي يطارد الانسان، بطلة الرواية زليخة تفشل في محاولة قامت بها لاجهاض نفسها، تكتشف انها حامل من علاقة خارج الزواج، تنجب طفلة تسميها آسيا، ترفض الكشف عن هوية والد طفلتها، تعيش في بيت تسيطر عليه نسوة غريبات، الرجل الوحيد في العائلة شقيقها الذي يدرس في اميركا، وعندما يعود يصطحب معه زوجته الارمنية، في الرواية تضع شافاك مقارنات بين أرمن أميركا وأتراك تركيا وهوس الطرفين بنقاء الدم. تقول بطلة الرواية آسيا:"يتحدثون دائماً عن الماضي بنسخته النظيفة فقط، ويبتلعون كل يوم كبسولة جديدة من الكذب". ترى شافاك ان مشكلة الاتراك انهم ينظرون الى الماضي بجهل، ويصرون ان لااخطاء فيه، ويرفضون الاعتذار، تتطرق الى مذبحة الارمن في زمن العثمانيين، وتجد ان المشكلة في ثقافة الكتمان التي يراد لها ان تسود المجتمع . لم تمر " لقيطة اسطنبول " بسلام، في صيف 2006 اقام عدد من من المحامين المتعصبين قوميا في تركيا دعوى قضائية ضد شافاك لورود كلمة"إبادة"في روايتها"، وقد لوحق أورهان باموق أيضاً بسبب تطرقه الى مجزرة الأرمن .

 تابعت شافاك رحلتها مع الرواية، ولشغفها بالتصوف اصدرت عام 2009 روايتها الشهيرة " قواعد العشق الاربعون "، حيث تستدعي شخصية جلال الدين الرومي وصديقه شمس التبريزي، من خلال بطلة الرواية إيلا روبنشتاين، ربة منزل عادية غير سعيدة ولديها ثلاثة أطفال وزوج غير مخلص، لكن حياتها تبدأ في التغير بشكل كبير عندما تتولى وظيفة قارئ في دار نشر . اول مهمة لها كانت مهمتها فحص رواية، عن الشاعر جلال الدين الرومي ومعلمه شمس التبريزي، مؤلف الرواية اسم مجهول في عالم الادب، يكتب لأول مرة، يعيش في تركيا اسمه عزيز زهار، سرعان ما تجد إيلا نفسها مفتونة بالرواية والرجل الذي كتبها، حيث بدأت بمراسلته عبر بريده الالكتروني، تسأله عن الحياة التقليدية الخالية من العاطفة والحب الحقيقي..لتنشأ بينهما قصة حب، تحاول شافاك ان تمتزج التجارب الإنسانية بين مسارين زمنيين مختلفين ومكانين متباعدتين، لتنحت من خلال الاحداث خطوطا كبرى للتجربة الإنسانية .. قالت أن عصر الرومي والتبريزي يشيه كثيرا عصرنا، إذ أن القتال والاقتتال باسم الدين، وزُجَّ بالأديان في حروب الهويات المتناحرة والإثنيات القاتلة والمقتولة. وهي بهذا تمثل صدى للتبريزي واستحضارا لمقولاته في التسامح والمحبة وقبول الآخر، قالت في حوار صحفي ان نطقة انطلاقها في كتابة " قواعد العشق الاربعون هي:" مفهوم الحب. أردت أن أكتب رواية عن الحب ولكن من زاوية روحية. بمجرد أن تجعل هذه الرغبة الخاصة بك يأخذك الطريق إلى الرومي، صوت الحب. شعرت به، كلامه يتحدث إلينا عبر القرون والثقافات. لا يمكن للمرء أن ينتهي من قراءته، إنها رحلة لا نهاية لها"، وجدت نفسها امام تحدي وهي تستحضر شخصية جلال الدين الرومي الذي قرأت عنه في طفولتها بواحد من مجلدات جدتها، وظلت تسمع اسمه يتردد في البيت، لذلك ارادت بعد سنوات ان تستعيد هذه الاصوات التي كانت تسمعها، تؤمن أن النساء في الغرب يتحررن بينما النساء في الشرق يتعرضن للاضطهاد طوال الوقت:" عندما كنت أكتب رواية، أريد ان اوصل صوت هذه المرأة التي لايزال ينظر اليها بريبة " .

تنتصر في كتابها " حليب اسود " للانوثة والأمومة، شعرت بانها مطالبة ان تؤدي واجبها تجاه امها التي كان اسمها يرمز الى الفجر " شافاك " تؤمن ان النساء أعظم من يروي القصص:" لم أنشأ في أسرة تقليدية ذات نظام أبوي، وذلك جعلني أكثر استقلالية وأتاح لي فرصة القيام بأشياء كثيرة ربما منعت منها مثيلاتي ممن عاشوا تحت سلطة الأب"

من وجهة نظر شافاق أن الهجوم على المرأة إذا تحدثت او كتبت عن الجنس جعل كثير من الأديبات يشعرن بالخوف من نظرة المجتمع . يعكس أدبها حياتها وروح الثقافات التي تعيش فيها ابطال رواياتها، لا تكتب الروايات من اجل ان تصبح بطلة لقضية المرأة:" أنا مسرورة لأنني امتلكت الحس السليم لأرى ذلك، لا أوصي الأخريات بالاقتداء بي، فما فعلته يخص حياتي وحدها ". اعلنت قبل ايام أنها تلقت العديد من الرسائل المسيئة، بينما طلب المدعي العام بالتحقيق في كتبها، خاصة روايتها "بنات حواء الثلاث" الصادر عام 2016.

قالت لصحيفة الغارديان البريطانية، إن سلطات العدالة والتنمية تركز الآن على الروايات التي تتضمن قصصاً عن التحرش الجنسي، مبديةً استغرابها من هذا الأمر، لأن " تركيا تشهد الآن ازديادا في جرائم العنف الجنسي ضد الأطفال والنساء" .

شافاك التي تعيش في بريطانيا منذ سنوات ظلت تحذر من موجة صعود اليمين المتطرف في دول أوروبا، وأشارت في مقال نشرته في صحيفة الغارديان الى ان العالم لا يخوض "حرب حضارات"، كما يصر صموئيل هنتنغتون في كتابه الشهير " صدام الحضارات "، وانما يخوض حرباً اكثر تعقيدا وتفاوتا اسمتها " صدام الثقافات " وهذا الصدام كما نبهت في مقالها يمزق المجتمعات لأن الثقافة كما تقول شافاك أمر بالغ الأهمية، لا يلتفت له علماء السياسة، واضافت:" لقد افترض علماء السياسة بعجرفة ذات مرة أن ثمة بلدان حيث لن تستطيع الفاشية أن ترفع رأسها القبيح مجددا. وبعد أن مرت ألمانيا وإسبانيا، بأهوالها، كان يُعتقد أنها محصنة ضد الوعود الكاذبة لليمين المتطرف، ولكن بعد ذلك، جاءت احزاب يمينية، لتثبت لنا مدى خطأ تلك الافتراضات " .

في روايتها الصادرة حديثا " جزيرة الاشجار المفقودة " – ترجمة احمد حسن المعيني - تتناول شافاك موضوعا حساسا وهو القضية القبرصية،فالاحداث تدور على هذه الجزيرة عام 1974 ونتعرف من خلال على حياة صبي يوناني مسيحي يدعى كوستاس وفتاة تركية مسلمة تدعى دفني، انها قصة قبرص المنقسمة بين الجانب اليوناني والجانب التركي، والثمن الباهض الذي يدفعه الصبي والفتاة في ظل هذا الانقسام، تكتب شافاك: "أنت لا تقع في الحب وسط حرب أهلية، حين تطوقك المذابح والكراهية من جميع الجوانب... ومع ذلك فقد كانت هناك".

تبدأ احداث الرواية عام 2010 مع الفتاة آدا البالغة من العمر ستة عشر سنة وتعيش مع عائلتها في لندن، تجلس في درس التاريخ مع زملائها فتكلفهم المدرسة بإجراء حوار قصير مع أحد أقاربهم المسنين خلال العطلة الدراسية، شرط أن يكون مدعماً بحقائق تاريخية. تعترف الفتاوة بانها لم تقابل أحداً من أقاربها من قبل. تعرف أنهم يعيشون في جزيرة في البحر الأبيض المتوسط في قبرص. تعود بنا اليف شافاك الى السبعينيات عندما كان والدا كوستاس ودفني يلتقون سرا في حانة اسمها " التين السعيد"، والتي هي المكان الوحيد الذي لا توجد فيه اختلافات عرقية وطائفية، في هذه الحانة تنتصب شجرة تين سامقة كشاهد على الأحداث، فهي تنمو وسط المقهى الذي يلتقي فيه العاشقان وتتفرع عبر السقف، تراقب مجيئهما وذهابهما أثناء قصة الحب الرائعة. وتصبح الشاهد فيما بعد على حجم الدمار الذي خلفته الحرب، وحالات الاختفاء، والحزن، إلى أن ينتزع كوستاس قطعة منها وينقلها إلى لندن، حيث تجلس آدا، وتستكشف جذورها الدفينة.

تنتقل بنا اليف شافاك عبر فصول روايتها الشيقة بين عدة بلدان لتبحث عن لغز الطكراهية والضغينة، نشاهد كوستاس عندما كان شابا في قبرص وكيف اصبح بعد اربعة عقود عالم نبات شهير في بريطانيا، وعندما تحاول ابنته المراهققة ان تعرف شيئا عن بلاد والدها " قبرص " يتردد في الحديث عن الماضي . لكن رغم ذلك فان القارئ سيتعرف على معالم قبرص من خلال كوستاس، عالم النبات، الذذي كان في صباه يجد الملاذ عند الاشجار، وعندما تموت حبيبته وينزوي مع حديقته وابحاثه في علم النبات مفضلاً العيش مع لأشجار على العيش مع البشر الذين يتقاتلون بلا سبب .

تبدأ "جزيرة الأشجار المفقودة" ببحث آدا عن تاريخ عائلتها وتنتهي بأحلام شجرة التين التي حملها موستين معه من قبرص، حيث تروي لنا اليف شافاك قصص الحب والعنف والحرب والهوية .

تقول شافاك في حوار معها نشرته تيويورك تايمز: لطالما آمنت بالألم الموروث. قد لا يكون هذا علمياً، ولكن الأشياء التي لا يمكننا الحديث عنها بسهولة ضمن العائلة تنتقل من جيل لآخر دون أن تُقال. في العائلات المهاجرة غالباً ما يريد الجيل الأكبر حماية الجيل الذي يليه من أحزان الماضي؛ لذلك يختارون عدم قول الكثير. والجيل الثاني يكون منشغلاً بالتكيف؛ ليكون جزءاً من البلد المضيف فلا يدقق، لذلك فالأمر متروك للجيل الثالث، لينبش في الذاكرة. لقد قابلت العديد من مهاجري الجيل الثالث الذين يحملون ذكريات أقدم حتى من آبائهم. يقول لهم آباؤهم وأمهاتهم، هذا هو بلدك، لا تفكر بالماضي؛ ولكن الهوية مهمة للغاية بالنسبة إليهم".

في الرواية نواجه سؤال مهم: هل يمكن للنسان أن يشتاق إلى وطن لم يزره قط، ولا يعرف عنه إلا القليل؟ تعتقد شافاك أن ذلك ممكن" لاننا نحمل المكان في ارواحنا، حتى من خلال القصص التي لم تروى لنا. يمكننا أن تشعر بالماضي ؛ لأنه هو ما يشكلنا سواء أكنا نعرفه أم لا" .

لماذا اختارت شجرة التين لتكون بطلا من ابطال روايتها قالت اليف شافاك:" أردت مراقبا يعيش أطول من الإنسان،الأشجار لديها هذا، كما تعلمون، طول العمر. لقد كانوا هنا من قبلنا، ومن المرجح أنهم سيبقون هنا لفترة طويلة بعد اختفائنا نحن البشر - ولكن أيضًا للتفكير عن كثب في قضايا مثل، ما الذي يعنيه أن تكون متجذرا ومقتلعًا وجذرًا؟ لذلك إذا كنت تحكي قصة المهاجرين، فقد عانى الناس من النزوح، إما داخل الجزيرة أو خارجها. ثم أن التفكير في هذا من خلال الجذور والاقتلاع كان أمرًا مهمًا ليس فقط استعارة بل ارتباطًا عاطفيًا مهمًا بالنسبة لي"

وعن اختيارها قبرص لتكون مكانا وحكاية لروايتها " جزيرة الاشجار المفقودة " قالت انها كانت ترغب فى الكتابة عن قبرص منذ فترة طويلة جدا، فهى ترى أن تاريخها معقد للغاية، ويصعب حصره، وهناك جروح لم تلتئم وذكريات متنافرة. فالماضى يختلف باختلاف من يخبره ومن لا يخبره:" أنا من سكان اسطنبول. مواطنة تركية . وأنا أحمل اسطنبول معي. أعتقد أنه واضح جدًا في كتاباتي، حبي للمدينة. ومع ذلك، أشعر أيضًا أنني مرتبطة ببلدان البلقان، لدي الكثير من القواسم المشتركة مع مواطني هذه البلدان . وبالمثل، لدي عناصر في روحية من الشرق الأوسط. وتضيف:" أريد أن أطلق على نفسي مواطنة من العالم" .

***

علي حسين – كاتب

رئيس تحرير صحيفة المدى البغدادية

في المثقف اليوم