قضايا

هاني جرجس: المحكمة الإلكترونية.. استجابة قانونية لعصر الجرائم الرقمية

في ظل الطفرة التكنولوجية الهائلة التي يشهدها العالم، شهدت الجريمة تحوّلًا نوعيًّا من الشكل التقليدي إلى نماذج جديدة أكثر تعقيدًا ترتبط بالفضاء الرقمي. فقد ظهرت جرائم مثل سرقة الهوية، والابتزاز الإلكتروني، واختراق الحسابات البنكية، وتزييف المحتوى، وكلها تتطلب استجابات قانونية تختلف عن تلك المعهودة في المنظومات التقليدية. ومن هنا برزت الحاجة إلى إنشاء ما يُعرف بـ "المحكمة الإلكترونية".

المحكمة الإلكترونية هي هيئة قضائية تعتمد بشكل رئيسي على التكنولوجيا في إدارة إجراءاتها، حيث تُقدَّم الدعاوى عبر منصات رقمية، وتُعقد الجلسات عن بُعد باستخدام الوسائط المرئية، وتُتداول المستندات والبيّنات إلكترونيًّا، ويُصدر القضاة أحكامهم من خلال أنظمة إلكترونية موثوقة. ولا يقتصر الأمر على الشكل فقط، بل يمتد ليشمل تعديلًا في طبيعة إدارة العدالة بما يتلاءم مع تحديات العصر الرقمي.

تُساهم هذه المحاكم في تقليص الوقت والجهد المبذول في العملية القضائية، كما تُوفّر بيئة مرنة تُمكن الضحايا من رفع قضاياهم من أماكنهم، خصوصًا في الجرائم التي قد يتعرض فيها الضحية للتهديد أو التشهير. كذلك، فإن اعتماد المحكمة الإلكترونية يُعَدُّ خطوة مهمة نحو تحقيق العدالة الشاملة، خاصة لأولئك الذين يعانون من بُعد المسافة أو ضعف الإمكانيات.

من جهة أخرى، تُعد المحكمة الإلكترونية أداة فعّالة في التصدي للجرائم السيبرانية، وذلك عبر قدرتها على مواكبة طبيعة هذه الجرائم التي غالبًا ما تُرتكب عن بُعد، وعبر شبكات معقّدة، وبأدلة يصعب تتبعها. إن سرعة التعامل مع مثل هذه الجرائم يتطلب نظامًا قضائيًّا قادرًا على التحرك بالتوازي مع تطور الجريمة.

إلا أن تفعيل المحكمة الإلكترونية لا يخلو من التحديات، فهناك حاجة ماسّة إلى تحديث التشريعات الوطنية لمواكبة هذا التحول، وإدراج قواعد إثبات جديدة تراعي طبيعة الأدلة الرقمية. كما ينبغي تدريب القضاة والمحامين والعاملين في السلك القضائي على استخدام التكنولوجيا الحديثة، وتوفير بنية تحتية رقمية متطورة وآمنة.

علاوة على ذلك، فإن الطبيعة العابرة للحدود التي تتميز بها الجرائم الإلكترونية تُثير تساؤلات حول الاختصاص القضائي، وإمكانية محاكمة المتهمين من دول مختلفة، ما يستدعي تعاونًا دوليًّا وتشريعات موحّدة لضمان ملاحقة الجناة وتحقيق العدالة دون اصطدام بالسيادة القضائية للدول.

إن العديد من الدول قد بدأت في تطبيق أنظمة قانونية إلكترونية لمواكبة تطور الجرائم الرقمية. على سبيل المثال، في استونيا، التي تُعدّ من الرواد في مجال الحكومة الإلكترونية، طوّرت الدولة منصة قضائية إلكترونية تتيح للمواطنين تقديم الدعاوى، والتواصل مع المحاكم، وحضور الجلسات عن بُعد. هذا النظام سمح بتسريع الإجراءات وتقليل التكاليف المرتبطة بالمحاكم التقليدية، وأدى إلى زيادة فاعلية النظام القضائي في محاربة الجرائم الإلكترونية.

أما في الولايات المتحدة الأمريكية، فقد تم إدخال النظام الإلكتروني في العديد من المحاكم الفيدرالية والمحاكم المحلية، بحيث يُمكن للمحامين والمواطنين تقديم القضايا إلكترونيًّا، وتُتخذ القرارات عن طريق الأنظمة الرقمية. هذا التوجه يشمل كذلك محاكم مختصة في القضايا السيبرانية، حيث يُستعان بخبراء في التكنولوجيا لتقديم الأدلة الرقمية وتقييمها في سياق قانوني.

وفي دول الاتحاد الأوروبي، تجري الجهود لتطوير نظام محاكم إلكترونية قادر على ملاحقة الجرائم التي يتم ارتكابها عبر الحدود. تمثل المحكمة الأوروبية للعدالة أحد الأمثلة المهمة في هذا السياق، حيث تم تطوير آليات التعاون بين الدول الأعضاء في ملاحقة الجرائم الرقمية العابرة للحدود.

إجمالًا، تُعَدّ المحكمة الإلكترونية من أبرز ملامح التكيّف القانوني مع متغيرات العصر، وهي ليست مجرد خيار، بل ضرورة حتمية في ظل تسارع الجرائم الرقمية واتساع نطاقها. إن إنشاء هذه المحكمة، إذا ما تمّ ضمن بيئة قانونية وتشريعية وتقنية متكاملة، قد يُشكل نقلة نوعية في تحقيق العدالة الرقمية ومكافحة الجريمة الإلكترونية عالميًّا.

***

أ.د. هاني جرجس - استاذ علم الاجتماع

في المثقف اليوم