قراءة في كتاب

الراوي والمروي له والقارئ

1184 aliصدر مؤخراً عن دار الرافدين كتاب "الراوي والمروي له والقارئ" لمجموعة مؤلفين، ترجمه عن الفرنسية بشار سامي يشوع* .

ما يُميز هذا الكتاب أنه من الكتب القلائل التي تُرجمت عن النظرية السردية عن اللغات الأجنبية عموماً وعن اللغة الفرنسية على وجه الخصوص.

حاول المُترجم في مُقدمته للكتاب أن يُسلط الضوء على نتاج جيرار جينت الناقد الفرنسي الذي وضع نظرية في السرد حدد بها مستويات السرد الثلاث: الحكاية والقصة والسرد، وقد إعتمد المترجم على كتاب جينت "(Figures 111) (أشكال 111) الصادر 1972 والمترجم 1999، ولجينت كتابان سابقان "أشكال "11 الصادر عام 1969، و قبله "أشكال 11) الصادر عام 1966.

حاول جينت التمييز في نظريته السردية في تقنيات كتابة أشكال السرد الثلاث بين الكاتب والراوي والشخصية، في تأكيد منه على ضرورة الفصل بين الأشخاص الحقيقيين الذين يُشاركون في عملية التواصل، أي "الكاتب والجمهور" وبين الشخصيات المُتخيلة الذين يظهر لنا تواصلهم في النص "الراوي والمروي له". فالكاتب هو الشخص الحقيقي الذي كتب الشكل السردي، أما الراوي، فهو الشخص المُتخيل في الشكل السردي الذي يروي ويتحرك ويُحرَك بنية النص السردي الداخلية التي رسم حدودها كاتب النص، ولذلك فمهما حاولنا تمثل وجود هذه الشخصية المُتخيلة "الراوي" في الواقع، إلَا أن وجودها يبقى وجودا تصوري أكثر منه وجود حقيقي.

في المُقابل يُميز جينيت بين "المروي له" داخل الشكل السردي وبين القارئ الحقيقي أو الواقعي، فمثلاً في حكايات "ألف ليلة وليلة" نجد هناك راو هي شهرزاد ومرويُ له هو شهريار، وكلاهما شخصيات مُتخيلة داخل النص الحكائي. ولذلك يُمكن تسمية الراوي الحقيقي بأنه "الراوي الخارج حكائي" والمروي له الحقيقي بأنه "مرويُ له خارج حكائي".

لربما يتبادر لذهن قارئنا سؤال هو: هل يُمكن أن توجد هناك أوضاع أُخرى يكون فيها المؤلف والراوي والشخصية في هيئة واحدة؟،

الجواب: نعم كما هو في أعمال السيرة الذاتية، وحين ذاك يُسمى "سرد (إسترجاعي)" يسترجع به الشخص الحقيقي شريط الذاكرة ليُصيغ حياته نثراً، فيه الكثير من الواقعية، لأنه يتكلم عن شخصيته الحقيقية وحياته الفردية، ولكنها في الوقت نفسه ينبغي ألًا تفقد بنيتها الشعرية بحسب جينيت التي تقتضي عدم مُغادرة المؤلف للبناء التخيلي لسرديته، ومحاولته في الوقت ذاته تفعيل مُخيلة القارئ، خُذ مثلاً على ذلك "المنقذ من الضلال" للغزالي، أو "إعترافات" للقديس أوغسطين" أو "إعترافات" لجان جاك روسو، أو "حياتي" أحمد أمين، أو "سيرة حياتي" لعبد الرحمن بدوي.

في الجزء الأول من الكتاب نجد محاولات تطبيقية لما تقدم طرحه في بعض الأعمال السردية، والتي تحاول إظهار تماهي القارئ مع "المروي له" المخاطب "أنت"، وكذلك تماهي القارئ مع أنا "الراوي"، وكلا الصيغتان "الأنت" و الأنا" لا يتحقق التماهي بين "المروي له" و "الراوي" إلَا حينما يكونان في حالة الإصغاء والإدراك الواعي لتحولات الشخصيتين المُتخيلتين داخل النص السردي.

يخوض الكتاب في سرديات بلزاك، ومن دون الدخول في تفصيلات ناقد بلزاك، فذلك أمر نتركه لمن رغب بقراءة الكتاب، إلَا أنه ينتهي مُخاطباً

قارئ بلزاك بالقول: "يجب على القارئ الحقيقي أن يجد لنفسه مكاناً إزاء المروي له المُتحرك: فهو يتماهى مع مروي له لكي يبتعد بمسافة عن مروي له آخر، وإن ولج لموضع الشريك المتواطئ مع الراوي، فسيرى أنه إبتعد قليلاً عن رُتبة التلميذ الجاهل"، لذلك نجد في سرديات بلزاك "نزوعاً نحو قارئ نموذجي، يستطيع التعامل مع النص بالشكل الذي يُعيد بنائه".

يُنهي المترجم كتابه بدراسة له بدراسة لرواية "موبي ديك" للروائي الأمريكي الإنكليزي الأصل "هيرمان ميلفل التي صدرت في عام 1851، هي رواية تتحدث عن قُبطان يُدعى "أهاب"، له قدم خشبية يتكأ عليه، رجل شديد، كان يهوى صيد الحيتان ليستخرج منها الزيت، لأن هذا الزيت غال الثمن، فإنطلق ومعه مجموعة الصيادين، ولكنهم لم يعلموا أن غاية "أهاب" لم تكن صيد الحيتان كما يرومون، إنما هي للإنتقام من الحوت الأبيض الذي تسبب بفقدان ساقه، وقد أطلق عليه أسم "موبي ديك"، وبعد قضاء ثلاثة  أيام بلياليها في البحر يجد القبطان ضالته، ليكشف "ميلفل" عن صراع الإنسان مع الطبيعة اللانهائي، ليقضي الحوت "موبي ديك" على كل أفراد المركب من البحارة، ولم يبق منهم سوى إسماعيل الذي يجد له تابوتاً يختبئ به، فيكون هذا التابوت طوق النجاة له.

كان إسماعيل هو "الراوي" الذي يروي "موبي ديك" روايته على لسانه، فقد كان أحد البحارة الذين ذهبوا مع "أهاب" على متن السفينة "المركب"  "بيكود" التي جابت البحر لإصطياد الحيتان، لكنه إكتشف أن هم "أهاب" لم يكن مُنصباً على صيد الحيتان، إنما همه الحقيقي كان مُنصباً على صيد الحوت الأبيض والإنتقام منه.

 حاول المترجم بدراسته لرواية "موبي ديك" إظهار "الهوية المزدوجة" بين "الراوي" والمروي له"، فمرة يكون إسماعيل هو "الراوي" وأُخرى يكون هو "المروي له". ولكن "الراوي في رواية "موبي ديك" لا يتواجد في حقيقة الأمر إلَا في داخل النص،... (لذلك)، فالتمييز بين القارئ والمروي له مُناظرٌ للتمييز بين المؤلف والراوي، ولكن القارئ هو الحقيقي الحي الذي يُمسك الكتاب بين يديه، وليس للمروي إلَا وجود نصي" "مُتخيل".

يروم المُترجم التمييز بين "السرد الراديكالي" الذي يستبعد "المروي له" داخل الشكل السردي، وبين السرد المُعتدل" الذي يجعل هناك مساحة لحضور وفاعلية "المروي له" وللمُتلقي "القارئ الحقيقي" ليكونا فاعلين، الأول في النص السردي المُتخيَل بوصفه حضور لازم للـ "الراوي" "المُتخيَل"، والثاني بوصف حضوره لازم ومكمل للإعتراف بالمؤلف لمنح سرديته حضورها الحقيقي، ليتحقق فعل التواصل "المُتخيَل" بين "الراوي" و "المروي له" داخل النص السردي، وأيضاً ينبغي أن يتحقق فع التواصل "الحقيقي" بين "المؤلف" "السارد الحقيقي للنص، والمُتلقي "القارئ الحقيقي للنص"، وشرط وجود "السارد المُعتدل" يكمن في مقدار قدرته في جعل القارئ "الخارج نصي" مُتماهياُ مع "المروي له".

وما يُميز "السرد حكائي "نصي" عن "المُتماثل حكائياً" هي المسافة الزمنية الفاصلة بين فعل السرد والأحداث المسرودة، تخلق هذه المسافة "هوية مُزدوجة" للراوي: الأولى، هوية الذي يعيش أحداث ومراحل قصته بوصفه شخصية، والثانية، أكثر نضوجاً منها، هوية الذي يحكي القصة".

 

د. علي المرهج

.....................

ـ الراوي والمروي له والقارئ: مجموعة مؤلفين، ترجم عن الفرنسية: بشار سامي يشوع، دار الرافدين، بغداد، بيروت، ط1، 1918. الكتاب من القطع المتوسط، عد صفحاته: 76. 

* المترجم: أستاذ الأدب الفرنسي المساعد في كلية الآداب في الجامعة المستنصرية. يُترجم عن الفرنسية، له ترجمة لكتاب سلطة التفاؤل لآلان لوي مك جينيس، صدر أيضاً عن دار الرافدين، بفداد/بيروت، ط1، 2017. وله بحوث ودراسات في الأدب الفرنسي.

 

 

 

في المثقف اليوم