قراءة في كتاب

المعرفة عند أبي سعيد بن أبي الخير

مجدي ابراهيمقراءة العراقي لكتاب الجزار

في إطار قُرب الانتهاء من الكتاب التذكاري الذي أزمعت نخبة من أساتذة الجامعات المصرية القيام به تحيةً للأستاذ الدكتور أحمد محمود الجزار أستاذ الفلسفة، وعميد كلية الآداب جامعة المنيا الأسبق، ومُقَرِّر لجنة الفلسفة لترقية الأساتذة والأساتذة المساعدين بالمجلس الأعلى للجامعات؛ نحتفي بمشاركات العديد من أساتذة الجامعات المصرية في: الإسكندرية، المنوفية، المنصورة، حلوان، القاهرة، قناة السويس، العريش، المنيا، الفيوم، أسيوط، الوادي الجديد، سوهاج، ومختلف جامعات مصر لإعداد هذا الكتاب التذكاري تحت عنوان :" الأستاذ الدكتور أحمد الجزار مُفكراً عربياً ورائداً للدراسات الصوفية؛ مَسيرةُ عَالِم وَمَسَارُ فِكْر"، وذلك لتعريف الأجيال القادمة بمنجزاته الفكرية وأعماله المتخصصة في الفلسفة الإسلامية عامة، والتصوف بوجه خاص. وقد اقتربت البحوث التي شاركت في انجاز هذا الكتاب التذكاري من الثلاثين بحثاً بين عروض للكتب التي تمّ تأليفها من قبل صاحب الكتاب وتناولت النقاط المهمة في فكره، وبين دراسات مهداه، وشهادات ذُكرت في مناقبه العلمية ومسؤولياته الإدارية؛ على اختلاف تقسيم محاور الكتاب، وبالاشتراك بين أساتذة كليات الآداب ودار العلوم وبعض المثقفين بوجه عام.

على أننا في هذه المقالة لا نعرض تفصيلاً للكتاب التذكاري بمقدار ما نعرض موضوعاً بالغاً الأهمية هو بمثابة شهادة علمية من أستاذه الأستاذ الدكتور عاطف العراقي عليه رحمة الله؛ إذْ قرأ كتاب المعرفة وكتب عنه دراسة نقدية في إطار العلاقات الثقافية المتبادلة التي نشأت واستمرت بين الأستاذ والتلميذ طيلة سنوات الطلب ثم الحصول على الماجستير والدكتوراه وما بعدهما إلى أن فارق الأستاذ طيّب الله ثراه حياتنا الفانية. وفي ظل ثقة علمية تكاد تكون منقطعة النظير كتب المرحوم الدكتور عاطف العراقي المفكر الإسلامي المعروف وأستاذ الفلسفة عن كتاب تلميذه الأقرب الأستاذ الدكتور أحمد الجزار؛ وهو في أثناء تلك الكتابة يبرز لنا من الوهلة الأولى أهم سمات الكاتب وشخصيته العلمية بروزاً يكشف الصلة الوثقى التي كانت بين العراقي والجزار، وهى بلا شك صلة امتدت في حياة العراقي، ولا زالت مستمرة بعد رحيله، وفاءً من التلميذ الأقرب لأستاذه الأكبر. ولا يكادُ يكون مثل هذا الوفاء موجوداً ذا أثر بين كثيرين، ولكنه عند الجزار علامة فارقة دالة على شخصيته وسمة بارزة يلحظها كل من يتعامل معه عن قرب.

أنا أفهم أن يكتب التلميذ عن أستاذه إجلالاً لقيمته العلمية واقتداءً بحياته الشخصية وأعجاباً بمآثره ومنجزاته الثقافية على التعميم، ولكن أن يكتب الأستاذ دراسات عن تلميذه، ويبرز أهم الخصائص التي يضمُّها عمل من أعماله، والمزايا التي يشملها منجزه الفكري؛ فهذا كله يكشف عن بعدين:

البعد الأول: معرفة الأستاذ لتلميذه معرفة خاصّة تقوم على التقدير المتبادل الأمر الذي يجعل الثقة الصلة صلة روحية يغلب عليها الصدق ولا يتطرق إليها الإنكار والجحود.

البعد الثاني : يشمل الإحاطة بالأعمال العلمية التي وُفق إليها التلميذ، والدراية التامة بمنجز الأصالة والتحقيق فيها. لو لم يكن الأستاذ يرى ثمرة غرسه واضحة في تلميذه من خلال أعماله الفكرية ومنهجيته العلميّة لما آثر أن يكتب عنه كتابة تبرز الصلات الروحية المتَبَادلة بين المعلم والتلميذ؛ ذلك الذي أصبح اليوم، بفضل جدّه واجتهاده، يحتل نفس المكانة التي كان الأستاذ يحتلها في زمنه في قلوب تلاميذه ومريديه. وأنا شخصياً أشهد : كم كان الأستاذ يشيد بفضائل تلميذه في المحافل العلمية والثقافية، ولم يكن الجزار في أكثرها من الحاضرين، كان يُقدّره في غيابه، ويرى في قلمه نموذجاً من الكتابة العلمية يحتذى في الدراسات الأكاديمية الجادة.

هذا البعد ولا شك عندي يكشف الغطاء عن فاعلية القيم وانتقالها من جيل إلى جيل، ومن نفس إلى نفس من طريق ذوق الصحبة الطيبة، والإخلاص في الأعمال، والتعامل مع الآخرين بصدق وأريحية، ومن طريق فهم متبادل مشترك لا يشق له غبار لقضايا العصر ومشكلات الفلسفة وآراء المذاهب والأفكار.

وفي ضوء هذين البعدين يمكننا تناول الدراسة التي كتبها أستاذنا الدكتور عاطف العراقي، عليه رحمه الله، عن كتاب المعرفة عند أبي سعيد ابن أبي الخير من تأليف الدكتور أحمد الجزار؛ وذلك في الفصل العاشر من كتابه: "ثورة النقد في الفلسفة والأدب والسياسة"، (الصفحات 740 - 749). وقد مهّدَ العراقي في مطلع دراسته بعبارات دقيقة تدل من الوهلة الأولى على البعد الأول الذي ذكرناه فيما تقدّم وهو الذي يلمس عن قرب معرفة الأستاذ لتلميذه معرفة خاصّة يمكن من خلالها أن يكون أقدر الناس حديثاً عنه وعن أعماله العلمية :" قد لا أكون مبالغاً إذا أنا قلتُ : إنّ المهتمين بالفكر الفلسفي العربي، والتصوف الإسلامي على وجه الخصوص سيحتفلون بهذا الكتاب احتفالاً كبيراً . إنّ هذا الكتاب يعدُّ من الكتب الجادة الأمينة والموضوعية، بذل فيه مؤلفنا الدكتور أحمد الجزار جهداً، وجهداً كبيراً، ورجع فيه إلى العديد من المصادر والمراجع العامة، والتي أشار إليها، مما يدلنا على أمانته العلمية وموضوعيته في البحث والدراسة، وخاصّة ونحن في وقت انتشرت فيه السرقات العلمية، وأنكر فيه أشباه الدراسين، ما للمؤلفين السابقين، من أفضالٍ على من عاشوا بعدهم".

فالملاحظ أن العراقي - طيّب الله ثراه - وهو يقرأ كتاب المعرفة لمؤلفه الدكتور أحمد الجزار إنما يقرّر قيمة من القيم العلمية ليثبّت أمام الأذهان فضيلة باقية هى الفضيلة التي لا يجوز أن يمضي البحث العلمي في طريقه على خطى ثابتة ما لم تُقرَّر سلفاً في عقول القائمين عليه. ولا شك هى الأمانة العلمية والموضوعية في البحث والدراسة. وهما ركنان ثابتان في كل عمل عقلي أو منجز علمي يدفعان الباحث دفعاً فيما لو توخّاهُما إلى اقتران العلم بالفضيلة وتوحيد النظرية مع التطبيق، وبخاصة في ظل انتشار السرقات العلمية التي شاعت مع شديد الأسف بين طلاب البحث العلمي الأمر الذي يخرّج نسخاً مشوهة : أشباه لصقاء ولا يخرج دراسين نبلاء.

فإنّ الذي توافر عليه "الجزار" جدية العمل وجهد المثابرة في التصنيف مع أمانة علمية، وموضوعية في البحث والدراسة. و هذه الصفات هى فضائل العمل العلمي تعكس شخصية صاحبها أولاً بمقدار ما تنعكس بالإيجاب في محراب التعليم على تلاميذه وطلابه ولمن يوالي التدريس لهم من ذوى الثقافات المتخصصة أو الثقافة العامة.

وفي المقابل؛ لا تجد إلّا الفساد العلمي والخُلقي، وإلّا الدعوى العريضة لا يقوم عليها دليل، لدى من اعتمدوا السرقات العلمية، واستحلوا السطو على أعمال الآخرين في عصور ندعوها عبطاً وغفلة بعصور التقدُّم والازدهار، وهى تحمل في الحقيقة كل الصفات الموبوءة، ولا تحمل صفة واحدة تهيء للقيمة وجودها، وأقلُّ ما يُقال فيها : إنكار ما للسابقين من أفضال على من عاشوا بعدهم. وإذن؛ ففي غيبة القيم يشيعُ الفساد.

ثم ينطلق العراقي إلى الحديث المفصل عن الكتاب الذي يقع في (197) صفحة، إذْ يتضمّن مقدمة وثلاث فصول على الوجه التالي :

الفصل الأول : المعرفة بين الوهب والكسب.

الفصل الثاني : المعرفة والولاية.

الفصل الثالث : المعرفة والفناء.

فصولٌ مقسمة تقسيماً هندسياً، محددة العناصر مبينة الأغراض، يسبقها مقدّمة منهجية. ولم تكن الإشادة بهذا الكتاب من جانب الدكتور عاطف العراقي مجرد تقريظ يأتي كيفما أتفق، ولكنها إشادة مؤسسة على دلائل من فحص العمل العلمي، ملموس فيه " الجهد الأكاديمي البارز الذي قام به المؤلف، ولا تكاد صفحة من صفحات الكتاب؛ هكذا يقول العراقي، تخلو من أسماء عديد المصادر والمراجع فهو بحق يعدُّ نموذجاً يحتذى في الدراسات الأكاديمية الجادة؛ فمؤلفه الدكتور أحمد الجزار ينتقل بثقة ويقين من صفحة إلى صفحة بعد أن قرأ مئات المراجع في موضوعه".

(وللحديث بقيّة)

 

بقلم : د. مجدي إبراهيم

 

 

في المثقف اليوم