قراءات نقدية

الشاعر احمد محمد رمضان بين التغريب والترميز مضمونا والومضة والمقطعية شكلا

wejdan abdulazizلا شك حينما نجد انفسنا امام النصوص الشعرية الا ان نتسلح بالقراءة، فهي العمود الفقري في بناء الرؤية النقدية، سواء في النقد القديم او الحديث، وكلنا يتذكر مقولة أبي تمام عندما سئل: لم لا تقول ما يفهم؟ فقال: لما لا تفهمون ما أقول! وهذه صلب قضية القراءة والتذوق، (وقد ازدادت هذه الإشكالية مع الشعر الحديث، وغدت أكثر تعقيدا فلم يعد النص الشعري مجرد بستان وارف الظلال يقصده المرء طلبا للراحة والاستجمام، وإنما أصبح هماً مؤرقا، وأصبحت عملية قراءة النص عملية شاقة تحتاج إلى قارئ حاذق مزود "بأسلحة الفن" كما قال الناقد الجزائري المرحوم (محمد مصايف) قارئ لا يكتفي باستهلاك النص وإنما يساهم في عملية انتاجه)، واني اميل الى كفة التحليل كثيرا وآلياته مثل : التأمل والوصف والتحليل، والمنهج العلمي القائم على أسس معرفية وأدوات إجرائية خاصة. وان من سمات اللغة الشعرية التي تتبدى من خلال النص الشعري، هي الكثافة والايجاز والتركيز ناهيك عن مغايرة سياقات اللغة في قواميسها المتعارف عليها .. تقول الدكتورة بشرى موسى صالح: (لايفوتني ان الى منطقة الضوء حقيقة مهمة شديدة الصلة بموضوعة التحليل وعلاقتها بالنقد الادبي يمكن تلخيصها بالقول ان التحليل مرحلة موطئة او مزامنة له، ولكنها ليست هو، لان فاعلية النقد ووظائفيته تكمن في القدرة على تأويل الاوراق الموضوعية التي صففها التحليل ومايمكن للناقد استخلاصه منها من محمول جمالي او ابداعي خاص ومميز)، وهذا يتفق مع اتجاهاتي في قضية التحليل، فلابد ان تترافق مع استخلاص الدوال عبر منهجية معينة، لهذا حينما قرأت اشعار الكاتب احمد محمد رمضان وجدت في شعره حالات التغريب والترميز مضمونا والومضة والمقطعية شكلا في ديوانه (اغنية الشتاء) .. يقول الشاعر في قصيدة (ثمالة التفاح):

 

(السَّماءُ تَنفتحُ،

أُنظُروا... يَاه الفِيلةُ تَطيرُ؟!

 

سَأبدأُ بِنحتِ البُخارِ،

حتَّى...

تَزهوَ لآلئُ البَحرِ مِن جَديدٍ،

 

إِرتَفعتْ إِنتِصارَاتُ الحدِّ الأَدنَى،

جِسمٌ مُثقَّبٌ و غَريبٌ،!

مُقامرةُ نَدى مَفرُوشٍ،!

 

جَوِّيٌ لُطِّخَ بِالإمْتعَاضِ،!

بِشمسِ أَمانِ المَنطَقةِ المُتوسِّطةِ،

تُضيءُ فِي اللَّيلِ اسْتعمَالهُ،

تُزبِّدُ غُيومهَا الخَاصَّةَ،

 

أَجبَرتُ سَماءَ القَطنِ،

لَكنَّ المَوجةَ الكَاملةَ

و الجُروحَ المُحترِقةَ قَبلَ الرِّياحِ

هُناكَ تَمضِي حِجابَا حَريرِيَّا،!)

 

وهنا نلاحظ حالة التغريب والترميز، للتعبير عن حالات قد نجد كلها افرازات الواقع المر اي واقع الماحول الشاعر .. يقول جاك لاكان: (ربط البناء الفني بالبناء النفسي للأديب، ثم بالبناء الاجتماعي)، قد يوضح الاهداف والرؤى التي يقصدها الكاتب من حالة التغريب .. ونبه بهذا الصدد (شكلوفسكي بوضوح الى ان الموضوع هو خارج دائرة الفن، وهو لا يدخلها إلا عبر تغريبه، وجعله شكلا لانظير له في الواقع وبدا واضحا ان عملية الإدراك الفني، هي عملية غير عقلية تماما، ولابد من الإحساس بمتعتها، وجعلها تنطوي على غاية جمالية، وان ذلك يتم بطرائق وتقنيات لابد من تعريتها والتعبير بها، فالتغريب يغير من استجابتنا للعالم، ولكن عن طريق تعريض مدركاتنا التي تعودنا عليها الى إجراءات الشكل الأدبي كما يرى رامان سلدن)، فكان الشاعر رمضان بدأ في قوله : (أُنظُروا... يَاه الفِيلةُ تَطيرُ؟!/سَأبدأُ بِنحتِ البُخارِ،)، وهذه احالة للمتلقي ان يبحث الامر في قراءات متعددة وممتدة مع الدوال .. وعمد الى لغة سهلة الا انه حملها حمولات خارج سياقاتها القاموسية المتعارف عليها، فهو يردد : (أَجبَرتُ سَماءَ القَطنِ،/لَكنَّ المَوجةَ الكَاملةَ/ والجُروحَ المُحترِقةَ قَبلَ الرِّياحِ/هُناكَ تَمضِي حِجابَا حَريرِيَّا،!)، ثم يقول:

 

(أُذكِّرُكُم، البَحرُ رِوايةٌ عَن الغَرقِ...

 

لِلعَصافِيرِ ذُنوبٌ،

و لَم نَسمعْ لَها لَحنَا،

يَا نَهرَ مِمحَاتِي...،

 

زَوارقُ الوَرقِ الأَبيضِ

تُراوِدنِي،

لِلأَقلَامِ شَهوَاتِي،

 

آمَالنَا بَاذِخةُ الحُلمِ،

تُرى هَل مِن أَملٍ لِأحْلامنَا...،؟!

تَقولُ عَجوزٌ حَمقَاءُ،!

 

فِي لَيلةٍ لَازوَردِيّةٍ بَارِدةٍ،

هَا هِي أَناملُ اللَّيلِ،

تَقرعُ أَبوابَ شَيبَتي...،!)

 

وهنا استعمل قضية الترميز على منوال التغريب ومحاولة ادهاش المتلقي الذي سيبقى يبحث ما بين السطور لمحاولة مشاركته المعنى، لكن انّى هذا ؟ كانت محاولاتي هنا لتحليل النص ومدلولاته الا اني انجر لوضع الكاتب قبالتي ومحاورته .. لاجد النص يساوي الشاعر رمضان واحيانا يفارقه، يقول الشاعر فالح الحجية : (فالرمز– إذن– يلازم اللغة الشعرية الخيالية القائمة على المجاز والمفارقة للغة العقل والمنطق والسهولة، فهو من افضل و أنسب المسالك للتعبير عن الذاتية النفسية وسبر اغوارها لأن جوهر الشعر الذي يعبر عن عمق التجربة قد لا يبدو واضحا او محدد المعالم . فالغموض بصورة عامة صفة مشروعة من صفات الحداثة حين يصدر من أعماق تجربة ذاتية تحافظ على عمق الرؤية الفنية والخيالية الشعرية عندها تكون بعيدة عن النثرية او الحالة التي تحول بالفعل الخطاب الشعري إلى كلام عادي اقرب الى النثر منه الى الشعر على ان يكون قوامه العقل والمنطق والوضوح.)، اي ان الشاعر رمضان حضر ذاتيا في نصوصه وحاول ترميزها وتعميتها، وكما اسلفنا ترك للمتلقي محاولة المشاركة في استرداد معانيه، على عكس قضية الوضوح في المقاصد .. وفي قصيدة (حورية شرقية) يستغرق في الحلم بدالة الانتظار ومحاولة استجداء الحالات الجمالية .. يقول:

 

(الطَّمأْنيِنةُ : سِحرُ مَا لَم تَرهُ الرُّؤى...

 

مِن رَوضةِ السِّحرِ

المَفرُوشِ عَلى شُموسِ الشِّتاءِ الدَّافئِ،

يَكتبُ البَردَ رِمشِي،

 

الأُمنِياتُ المُطرَّزةُ بِحنِينِ الرَّبابِ،

تَنثرُ الهَديلَ...

 

هُدى يَحملُ ظِلِّي،

 

بِعزفِ النَّغمِ السَّاقطِ

مِن عُنقُودِ

اللَّحنِ

الهَاربِ،

 

مَوجَاتُ

خَمرٍ

يَحملُها السَّنَى،

 

المُترَاقصُ

كِنايةً بَنفْسجِيّةً

تَهطلُ

عِطرَا

يُغنِّي،!

يَحملُ الدَّمَ إِلى أَبوابِ النَّهرِ المُلتَحفِ

بِاليَاسَمينِ،

 

يَا نَبعَ القَصيدةِ المُلظَّاةِ

بِصفْصافةِ المَساءِ الغَجرِيّ،!)

 

ليوغل الشاعر رمضان في حالات الرمزية وايحاءاتها المغرقة والمحملة بالمعاني التي من الصعوبة بمكان استردادها والوقوف عندها، فمن وسائل الرمزيين ما يسمونه " الالفاظ المشعة الموحية" التي تعبر في قرائنها عن أجواء نفسية رحيبة. إذا كانت الكلاسيكية تنقل المعاني عن طريق العقل، والرومانسية عن طريق الانفعال "العاطفة"، فإن الرمزيين قد اهتموا بنوع آخر من هذه المشاركة الوجدانية ما بين الكاتب والقارئ تقوم على نقل حالات نفسية من الكاتب إلى القارئ وهو الإيحاء ومن هذه الكلمات الموحية مثلا : "الضوء الخافت، الشمس المرة المذاق، الضوء الباكي، السكون المقمر، القمر الشرس، الألوان الهاربة، كما اهتموا بالألوان. من ذلك أن "رامبو" قد جعل لكل لون معنى: اللون الأحمر يرمز إلى الحركة والحياة الصاخبة والقتال والثورة والغضب والأعاصير .والأخضر يرمز إلى السكون والطبيعة والانطلاق وفكرة المستحيل والخلاص من عالم المادة. والأزرق يرمز إلى العالم الذي لا يعرف الحدود وفيه انطلاق إلى ما وراء المادة الكونية . والأصفر لون المرض والشعور بالحزن والضيق والتبرم بالحياة. والأبيض يمثل الطهر المثالي وهدوء السكينة ويرمز إلى الفراغ والجمود. واللون البنفسجي لون الرؤى الصوفية. لقد انبثقت الرمزية عن نظرية "المثل" لدى أفلاطون، وهي نظرية تقوم على إنكار الحقائق الملموسة، وتعبر النظرية عن حقائق مثالية، وتقول: إن عقل الإنسان الظاهر الواعي عقل محدود، وأن الإنسان يملك عقلاً غير واعٍ أرحب من ذلك العقل. ومن هنا نلاحظ كلمات عند الشاعر رمضان تشابه في منحاها منحى الرمزيين .. يقول في قصيدة (مَلحَمةٌ):

 

(فِي الحَربِ

حَامِلَا السَّيفَ

يَتبعُ الجُنديُّ ظِلّهُ...،؟!

 

سُخريةٌ

فِي دَبدَبةِ مَأتَمِ الرَّمزيَّةِ...،؟!

هَكذَا تَقولُ الحِكايةُ،

 

كَانَ يَقصُّني...

شَبحٌ،

بَينَ الشَّابِ و العَجوزِ،

 

يَحمِلُ فَراشَاتٍ و وَردةً،

عِندَ جَبينِهِ،

يُلاحقُ الصَّبيَّاتِ،

عَلى دَرَّاجتِهِ الهَوائيَّةَ،

مِن حُلمٍ إلى آخرَ،

 

حتَّى يَستَيقِظنَ...

و الخَجلُ يَجرِي...

مِن بَكارةِ عُيونِهنَّ،

 

يَسقِينَ بِالنَّهدِ

أَرضَ النُّعاسِ،

لِيعُدنَ...

كَزورَقٍ بَينَ المِياهِ،

و يَروينَ...

 

ثَمَّة...

شلَّالٌ يُهدرُ بقَسوةِ

فِراقٍ

و عَازفٍ،)

 

وهكذا يستمر في مجمل ديوانه بهكذا اسلوب .. رغم ان الديوان يحمل الكثير بين ثناياه من معاني تحتاج لاكثر من قراءة واكثر تأمل وتحليل

 

وجدان عبدالعزيز

 

 

في المثقف اليوم