قراءات نقدية

تسريد النص الشعري

وليد العرفي قصيدة: "أنا وجمال والذئب"  للشاعر:حسين فاعور الساعدي أنموذجاً

مما لا شك فيه أن النص يحمل مفاتيح الولوج إليه، ومن هنا يبدو النص منفتحاً على الدلالة التي يريد المؤلف أن يوصلها؛ فالنص في نهاية المطاف إنما هو رسالة بين ذات المبدع ومتلق غير محدد، وفي هذه المقاربة لنص الشاعر حسين جميل الساعدي أحاول أن أقارب النص من زاوية اعتماد الكاتب على  أحد عناصر القص، وهو الحوار، والحوار عادة يكون في السرد القصصي أما أن يكون في الشعر فلا بد أن يحمل دلالات ويحيل على مرجعيات ومن نافل القول إن الحوار ليس تقنية جديدة في الشعر العربي قديمه وحديثه  منذ مغامرات امرىء القيس ومروراً بنرجسيات عمر بن أبي ربيعة وليس انتهاء بامرىء هذا العصر .

أولاً ــ النص

يبدأ الشاعر نصه بوصف ينم على حميمة العلاقة الجامعة بين الجد

(الشاعر) والحفيد (جمال) والاستهلال أشبه ما يكون بمحاولة تقديم صورة حسية مشحونة بعاطفة الحب الأبوي بين الشاعر وحفيده الذي يقدمه للقارىء بنمطيه الجسماني والنفسي فهو اسم على مسمى رمز  للجمال والحيوية والشفافية وحب المعرفة والاكتشاف يقول:

صديقي الوحيدُ الوفيُّ الذكيُّ الشجاعُ جمالْ

صديقي يا ابن الثلاثِ الطوالْ

جميلٌ كزهرةِ لوزِ

كطلّةِ صبحٍ

نديٍّ كنسمةِ صيفٍ

وعيناكَ عينا غزالْ

فيهما عالمان: شتاءٌ حزينٌ

وصيفُ أمانْ

أحِبّكَ يا ابنَ الثلاثِ الطوالْ

وأهوى سؤالَكَ حين يليه سؤالٌ

يليهِ سؤالْ

ليبدأ بعد هذا المشهد الوصفي الذي قام على بنية الصورة والتشبيه إذ توالت درجات التشبيه ما بين التشبيه البليغ والتام والمؤكد والمجمل، وبهذا كأنني بالشاعر يريد أن يحيط بالحفيد بصورة جمالية لا يترك مجالاً للتشبيه فيه إلا واستعار منه بعض وجوهه التي استند فيها الشاعر على ثنائية النبات والحيوان من عناصر البيئة والطبيعة البكر إذ نلحظ: (زهرة لوز، غزال) مثلما تظهر ثنائية الزمن: (شتاء، صيف)

لينتقل بعد ذلك إلى ثنائيات الحوار التي تُشكل معمار القصيدة كلها، كما تُبيّن  الثنائيات التي تتكشف وفق الصيغة الفعلية بين الطلب بصيغة الأمر والتلبية بفعل الحاضر: (احكِ عن الذئب) ـــــــــــــــ فأروي

تلوذُ بحضني وتهمسُ:

"احكي عن الذئبِ. جدي!"

فأروي الحكايةَ...

تُصغي بعينينِ جاحظتينِ

وتسألني بانفعالٍ:

ويُلاحظ بجلاء أن معمارية القصيدة تتسلسل وفق هندسة متوالية الثنائيات التي جاءت عبر الأسئلة المتوالية فالأسئلة التي جاءت مستفسرة عن شكل الذئب بنيت على الثنائيات أللذئبِ رأسٌ؟

أللذئبِ عينٌ؟

أللذئبِ أنفٌ كأنفكْ؟

أللذئبِ  فمٌّ؟

وكذلك الأسئلة التي جاءت مستفسرةً عن المجتمع الذي ينتمي إليه بصلات القرابة: أللذّئبِ عمٌّ؟

أللذّئب خالْ؟

والأمر نفسه يُقال عن الأسئلة التي استفسرت عن حالاته في الفرح والألم: هل الذئبُ يبكي؟

هل الذئبُ يضحكْ؟

ليعود الختام على الاستهلال إذ نلحظ عناية الشاعر بالصورة المشهدية التي عادت إلى التشبيه التي تتناوب في ثنائتي:

الحركة بين ثنائتي السرعة التي يمثلها الحفيد والبطء التي يمثلها الجد:

تسيرُ أماميَ كالشبلِ...

أمشي ورائك كالسلحفاةِ

فتصرخُ: أسرِعْ!

كما تتبدى من خلال قوة الحيوية التي تنبعث بدافع خارجي أحدثه صوت الحفيد في داخل الجد، إذ تبرز تلك الثنائية في تجدد الطاقة وحيوية الحركة المتبدية في الأفعى والظبي:

تعودُ الطفولةُ تَسْري بجسمي كأفعى

وأنت كظبيٍ صغيرٍ أماميَ تسعى

فأحبو وراكَ،

أعدّلُ ظهري

ويشتدُّ بين الضلوعِ الحراكْ

تغيبُ وراءَ الشجيراتِ،

تبعدُ عني،

أخافُ عليكَ الأفاعي

أنادي بصوتٍ أجشٍّ وكلي ارتباكْ:

تعال نعدْ...

كم أنا خائفٌ يا جمالْ!

فتصرخُ بي من بعيدٍ: "وماذا تخاف؟"

تعودُ وعيناك تقدح ناراً

وتُمطرني بالسؤالِ وراء سؤالْ:

هل الذئبُ خلفَ التلالْ؟

أم هنا خلفَ هذي الشجيراتِ،

حدّ الطريقِ هنا؟

هل الذئب يسكن في بيتنا؟

أم الذئبُ بين الجبال؟

وأتعبُ...

أخشى عليكَ

فأطلبُ منكَ:

تعال نعدْ... يا جمالْ

فتصرخُ بي باحتجاج شديدٍ:

لماذا تخافْ؟

سأضرِبُهُ بالعصا

ألستُ أنا من سيحمي الخراف؟؟

تبنى قصيدة أنا وجمال والذئب على ثنائيات  الإنسان ممثلة بشخصية الجد الذي يقوم بدور السارد الراوي،  وفي لغة القص الشعبي (الحكواتي) وشخصية الحفيد جمال ابن الثلاث سنوات،  وهنا تتكشف لنا ثنائيات الشخوص فشخصية الجد تتماهى بين: المجيب المعلّم بالمعنى التربوي، والرسام الذي يُشكّل صورة للذئب  أما الحفيد فيتبدى بثنائية الطفل الجاهل والطفل المستكشف، وهو ما يتجلى باستمطاره الأسئلة، والسؤال هو مفتاح المعرفة في علم النفس، وهو ما تُشير إليه نظريات التطور النمائي لدى الأطفال الذين غالباً ما يكون السؤال عندهم محاولة لاستكشاف العالم المحيط بهم، وهذه الأسئلة التي غالباً ما يضيق بها الأهل ذرعاً، وربما سببت لهم حرجاً ما في تقديم الإجابة في بعض الأحيان، ومن هذه الثنائية نصل إلى ثنائية  الذئب، وما تحيل عليه تلك الصورة بين واقعية الحيوان  المُشاهد في الحقيقة والذئب بدلالته الرامزة إلى كل فعل قائم على الغدر والمخاتلة سواء أكان هذا الفعل من قريب مجاور أم من بعيد ناء، وعلى هذه الثنائيات تتبدى البنية اللغوية التي ارتكزت على أسلوبي الكلام الذي تناوب بين الجمل الخبرية والجمل الإنشائية التي جاءت هنا بحمولات أسلوب الاستفهام بالهمزة  والهمزة وفق النحاة تستخدم وفق ثنائية التصديق أو التصور، وبناء على هذه الثنائية تتوضح دلالات النص  الأخرى بين ثنائية المقول والمسكوت عنه، فثمة ما هو معلن وآخر مختفٍ، وما بين القول والصمت ثمة إيحاءات ودلالات جاءت مرتدية ثنائية الوعظ والإرشاد من جهة، والتعليم والكشف من جهة أخرى

ولا بدّ من الإشارة أخيراً إلى ثنائية تتمثل في شخصية الطفل  بوضعه الراهن  (الآن) فهو مرافق للجد، ولكنه في المعتقد المتصوَّر ذهنياً هو من سيقوم بفعل حماية الخراف في المستقبل، وهو ما يُحيل في مراميه الأخيرة إلى ثنائية النضال لدى الشعب الفلسطيني الذي يتواصل من الأجداد إلى الأحفاد في حركة الحياة والعداء التي تتمثّل في ثنائية: الخراف والذئب في إحالة إلى فلسطين والكيان المحتل في دلالات النص الأخيرة .

 

 د. وليد العرفي

 

 

في المثقف اليوم