قراءات نقدية

بيتي ... ونفسي!!

صادق السامرائي

"الشعراء إكتشفوا اللاوعي ولستُ أنا"

قراءة نفسية لقصيدة "بيتي" للدكتور وليد العرفي.

هذه القراءة ضمن المحاولات التي جربتها منذ سنوات فيما أسميه بالتشريح النفسي أو النقد النفسي، وقد بدأتها بقصيدة أنشودة المطر ومعلقة إمرؤ القيس،  وغيرها من القصائد التي يحثني على قراءتها ما تكنزه من طاقات نفسية، وتعبيرات سلوكية تعيننا على فهم الإنسان، وهذه القصيدة تقع ضمن الموضوعات التي أهتم بها، وأحاول فهمها وتشريح آلياتها النفسية.

البيت موطنٌ ووطن والذي لا بيت له لا وطن عنده، والوطن الذي لا يأوي مواطنيه يخلعهم من ذاته وموضوعه، والبيت كيان أهملته الأجيال وقلّ الإبداع فيه، فكأن المنهج المطلوب أن يتحقق تغييب البيت من الوعي الفردي والجمعي،  ليتحقق إستباحة الأرض والهوية.

وتناولتُ هذه القصيدة لأنها تجمعني بذات الموقف والمشاعر عندما وقفت على البيت الذي ولدت فيه وأمضيت بعضا من طفولتي بأرجائه، وقد تحوّل إلى ركام، وشكله وغرفه وطوابقه منحوتة في ذاكرتي، وما كان يدور فيه من نشاطات إجتماعية، ووجدتني في محاورة دامعة معه.

"والأهم أن موضوع البيت قد تناوله شاعر من وطن مُستلب يتم الإستحواذ على بيوته، والعمل على محق هويتها ودلالاتها الإنسانية والوطنية"*.

فالقصيدة تشكل إنثيالات نفسية وفكرية ذات قيمة معرفية، وكأنها رعدة مدوية في فضاءات الصمت العربي، التي تتمادى بالقنوط والتماهي بالخسران.

القصيدة تبدأ بصرخة عودة، وثورة إرادة ونداء روح يجزم بأن البيت بيتي، والوطن وطني والصوت صوتي، فشلال الذكريات والتفاعلات الإنسانية يتردد في أرجاء بيتي وإن توطنته أيها الغريب، نعم أعود إلى بيتي الذي لم يفارقني أيامَ بُعدي عنه، وقد عانيت كثيرا من هذا النأي عن بيتي، وأني أعود وسأعود إلى بيتي!!

أعود فعل مضارع يفيد الحاضر والمستقبل، ويكشف عن الإصرار والمثابرة والعمل الدؤوب الذي عليه أن يُثمر، ويقضي على الشعور بالغربة في المكان الذي عاش فيه الإنسان.

وهي ذات المشاعر عندما يعود المهاجر إلى وطنه ومدينته وبيته فيمتلئ إحساسا بالغربة، لأن نهر الأجيال قد جرى فيبدو وكأنه غريب بين أهله وناس مدينته.

 أعودُ إلى بيتي غريبا وما درى

بما كنتُ ألقاه ببُعدي وما جرى

فما مرّ يومٌ دون ذكرى وغصةٍ

وما ذقت طعم الفرح إلاّ تمرمرا

أيها الغاصب لبيتي حرمتني من الفرح والبهجة لأنّ بيتي يمثل حياتي ويحمل ذكرياتي، ومسيرة طويلة من الأحداث والتفاعلات الإنسانية المدوية في أرجاء أعماقي.

حوارية رائعة بين البيت والإنسان الذي غادره عنوة، فأول ما تتأجج في أعماقه في هذا الموقف هي الذكريات النابضة بالحياة والمشحونة بالعواطف والإنفعالات، التي تجعل أي فرح لا يُقارن بفرح الكينونة الإنسانية في البيت.

وأنّيَ في بُعدي القريبُ بلهفتي

وما اخترتُ بُعدي طائعا كنتُ مجبرا

ومن ديناميكية التفاعل مع الموقف أن يحضر الإجبار، وأن يُقنع الإنسان نفسه بأنه لم يهجر مكانه بخياره وإنما لأسباب خارج إرادته .

فجلتُ به عيني أراقبُ ساحهُ

وفي الأرض بلّور الشبابيك بُعثرا

وحالما تتحقق المواجهة بين البيت والإنسان تنهض المراقبة وتتجسد، لأن النفس تريد أن تفتش عن آثارها وما يشدها للمكان من مفردات وعناصر أسهمت في تحرير الذكريات وتوثيقها، فيتحوّل كل ما في المكان إلى حيٍّ ناطق، وقد تناول هذا الموضوع العديد من الشعراء منذ سالف الأزمان، وهناك الكثير من القصائد التي تترنم بالوقوف على الأطلال.

وفي الباب مفتاح الحنين يهزني

وقد أسقطَ الركن العزيز وهرهرا

وأول ما يشد الإنتباه عند النظر إلى البيت هو الباب المشحون بقوافل الذكريات، فكل حدث ينطلق من الباب ويأتي منه، وعند الباب تتسع مساحة الرؤية وتحضر المشاهد والتفاعلات التي تحققت في أوانها.

ومن سقفه المودي إلى عرصاتهِ

رأيتُ به وجه السماء منوّرا

وفي هذا البيت حضرت السماء بما فيها من تبدلات وتصورات نهارية وليلية وكيف تترسم مواضعها، التي تخيَم على البيت بألوانها ونبضات نجومها وغيومها.

وشجرةَ زيتونٍ تسوّد جذعها

وما اخضرّ من أوراقها صار أصفرا

إنها مواجهة توقظ الموجودات وتبث فيها الحياة والقدرة على التواصل مع خيط الذكريات المتين، فأغصان شجرة الزيتون تتحدث عن تلك الضحكات والكركرات واللعب الذي كان يدور حولها، فهي تتذكر ولا تنسى وتبتهج برؤية أهلها.

وكأنها حزنت على فراق أصحابها وشحبَ لون بعض أوراقها المشحونة بالذكريات، ومن شدة الشوق إحترقت.

بكتني لمّا أبصرتني بدهشتي

كأنّيَ أستجدي الدخول محيَّرا

هذه الشجرة المثقلة بالذكريات أصابتها الصدمة وانفجرت باكية، وهي تنظر إلى أهلها الذين عاشروها ردحا من الزمن، وقد ترددوا وتحيّروا من الإقتراب منها، وكأنها ترفض الغرباء الذين ألقموها مشاعر السوء والبغضاء والتأسّد على الآخرين.

وقفت غريبا إذ أحاور مَن سطا

وقد بدّل الألوان فيه وغيّرا

وظنّ بأن اللون يُذهبُ أصلهُ

وأنّه بالمرئي يحجب مُسترا

فها هي (غفرانٌ) تضاحِكُ لعبةً

وما زال منها الرسم يحضنُ دفترا

وهكذا تبلغ المواجهة ذروتها وتنطلق الروح محاورة الغاصب المستحوذ على حق الإنسان، فصاحب الحق صار غريبا والغاصب مالكا حقيقيا، وحاول أن يعبث بكيان البيت ويغير ملامحه ومواصفاته لكي يخدع نفسه بأنه يعيش في بيت يمتلكه، وليبرر لنفسه بأنه لم يغتصبه، لكنه يعجز عن محق ذات البيت وكيانه وروحه وما يعج فيه من الذكريات والتفاعلات، التي توقدت أمام صاحبه الذي تسمر أمام بابه متحيرا.

وصوتُ أبي في الفجر يُسمَع خطوه

يقومُ إلى ماءِ الوضوء مُشمّرا

وتنهض الطقوس السلوكية والروحية التي كانت تؤدى في البيت وتتحرك بحيوية كأنها تحدث لتوها، وأظن الكاتب حين كتبها،  كان يسمع خطوات أبيه وصوت الماء الذي يتوضأ به، وما يرتله من آيات وهو يؤدي صلاة الفجر.

بكى منزلي لما رأى الذئب حارسا

وأنَّ قُطيط الحيّ فيه تنمرا

وأنّ شموس الأمس غيرَ رواجعٍ

وأن سواد الليل أمسة مقدّرا

وأنّيَ أصبحتُ المُذلَّ بموطني

وأنّيَ بعد العزّ أغدو مهجّرا

ونأتي للإنحدار ووصف واقع الحال المرير الذي يحفل بالدموع والتأوهات والحسرات، فالبيت يبكي وأهله في المهجر، ولا قدرة لديهم على إستعادته والسكن فيه، لأنّ مَن حوله قد تغيّر، وداهمته آفات العدوان الأليم، فأهل الحي قد تبدّلوا وتذأبّت الموجودات وتنمّرت، وساد التوحش والإفتراس.

توكأتُ عجزي فالعصا ليس مُعجزي

ولا البيت بحري كي أشق وأعبرا

وفي هذا البيت وما يليه حوارية تبريرية وإقناعية  لتفسير واقع الحال المرير، والشعور بعدم القدرة على تبديل الموقف وإستعادة البيت المغتصَب، ولا بد من تعليل ذلك بوضوح كما في الأبيات التالية.

وهذا زمانٌ اسودٌ بغرابهِ

يُذلُّ به الأسيادُ والعبد أمّرا

زمانٌ به صار الغواة هداته

وفي عرفهم شيخ المساجد كفّرا

فلوحت بالكف اليمين مودعا

ومسحت بالأخرى الدموع تصبّرا

فاللوم يقع على الزمان الذي أذل الأسياد وتسيّد فيه ما دونهم، زمان منكوب بالموبقات والسيئات وفقدان الحق والعدل والإنصاف، ولابد من وداع البيت الذي توقفتُ عنده باكيا مستحضرا ما لا يمكن عودته من الأحوال والحياة، التي كنتُ أتمتع بها وأمارسها بعزة وكبرياء وإنتماء صادق.

وعظّمْتُ بالإنسان يَسْرق أهله

وأكبرني عمّا بفعله صغَّرا

وكم زيّفَ التأريخ خطّ كتابه

وغيّر شُهّاد الرّواة وزوّرا

ويمكن القول بأن في هذين البيتين إعتراف بأن الإنسان يجحد حقوق الآخرين، ويفعل ما يستطيعه لأخذها منهم، والتأريخ يمكن تزويره وتلفيقه لكي يضمن تلك الحقوق، وهذا ما يجري للأرض المستباحة والبيوت المسروقة من أهلها.

فيا وطنا باع الجباة هواءه

ومَن باع بالمال البلاد سيُشترى

ويحضر الوطن الذي فيه البيت، ويُلام لأنه صار مباعا مباحا، والذين باعوه تحوّلوا إلى بضائع في مزادات الإمتهان والإذلال والنيل من الإنسان.

وراحت بي الذكرى تردد كالصدى

وما انهد بالجدران بالروح عمّرا

والبيت الأخير يعبّر عن آلية التسامي التي إستبدلت البيت بكيانه المادي، بهيكل معماري خالد في أروقة الروح، التي تتمكن من بنائه والإرتقاء به ليكون صورة حية في أعماق عاشقه وصاحبه المنتمي إليه.

وبهذا تتم القراءة النفسية النقدية، التي تحاول أن تسبر أعماق الكلمات وتستشف منها المشاعر والأحاسيس والتصورات والتجليات النفسية المرافقة للوقوف قبالة البيت الذي ترعرع فيه الإنسان.

تحية للدكتور العرفي على حواريته الشعرية المكثفة، الكانزة لعبق التذكر والإنثيال الروحي والفكري، أمام رحم الوجود الإنساني الذي يمثله البيت، وكأنها صيحة إستغاثة تشعرنا بأنّ الإستقرار في بلداننا مفقود.

*عندما قرأت القصيدة حسبتُ كاتبها فلسطينيا، وأدهشني بعد أن إنتهيت من كتابة هذه القراءة بأنه سوري، فرأيت أن أبقيها على حالها، لأن أبناء الأمة أصبحوا يشتركون بذات المعاناة اليومية المتصلة بالبيت والأرض، فالغاصب غاصب وإن تنوّعت هويته، والظالم ظالم مهما كان أصله ومعتقده، وتلك عجيبة من عجائب ويلات بلاد العُرْبِ أوْطاني!!

 

د. صادق السامرائي

.....................

للاطلاع على قصيدة الشاعر في صحيفة المثقف

بيتي / د. وليد العرفي

 

 

 

 

في المثقف اليوم