قراءات نقدية

قراءة في قصيدة: يمنح الأرض زهراً بلا رائحة

وليد العرفي للشاعر: نجيب القرن

ترتبط قصيدة الشاعر: نجيب القرن بالواقع الذي يحيلها على ظروف البلاد العربية فيما سُمّي بالربيع العربي الذي كان خريفاً وشتاء لم تحمل غيومه إلا مزيداً من دخان الأجنبي وسطوته على مقدرات البلاد العربية التي أصبحت مرتهنة بشكل أو بآخر للأجنبي الذي عاد إلى الوطن العربي تحت مُسميَات وأغطية من تحرير إلى  مساعدة؛ وإحلال ديمقراطية؛ وإحلال عدالة؛ وما كانت في حقيقتها إلا أشكالاً من أشكال الاحتلالات أو الانتداب في أحسن حال .

بداية نتوقف عند تاريخ القصيدة الذي يبدو إشارة مرجعية إلى تحديد الزمن الذي كُتبت فيه وهو العام 2013 م؛ وهو ما يشير إلى ذروة احتدام الربيع العربي الذي كانت غيومه قد  بدأت بجلاء كثير من انقشاعات بواطنها؛ وما تخفيه من تغييرات عصفت بالبلاد العربية؛ وبذلك يبدو الشاعر ناقلاً الحدث بوصفه شاهداً للحدث؛ ومشاركاً في مواقفه التي لم يكن بلده اليمن بعيداً عن أتون نارها؛ وما زال يعاني مأساتها .

يبدأ النص باسم الإشارة؛ وهو ابتداء يشي بالعلمية والوضوح؛ وهو ما يُجلي حقيقة الموصوف بتجاوز جمالية التسمية التي أريد لها مخادعة البصر؛ وحرف البشر عن المجرى الحقيقي لسيرورة الأهداف المرتسمة لما وراء هذا التنميق اللفظي للتوصيف الذي لم يُضمر للأمَّة العربية إلا مزيداً من الانهدام النفسي قبل الانهزام الواقعي في ميادين المعركة التي جاءت بأبعادها الإيديولوجية لتمحي الوجود الحقيقي لكل ما يمت بصلة إلى العروبة والإسلام على حدٍّ سواء؛ وعمَّقت الهوَّة ليس بين الأقطار العربية وحسب؛ بل بين أبناء الوطن الواحد؛ والمدينة الواحدة؛ والحي الواحد؛ وحتى وصل الأمر إلى التفريق بين الأخ وأخيه في المنزل الواحد؛  فهذا الربيع الذي كان يؤول منه الخير ويحمل البشارة إلى منتظريه في تحقيق الآمال بنهاية مظالم وزوال مظاهر مفاسد الذي حُمّل برمزية قرقوش الذي يرمز به إلى كل حكم جائر وغريب1؛ وهو ما قصد إليه الشاعر في تحميله تلك الرمزية فقراقوش لدى الشاعر رمز للحاكم العربي الذي تحوّل من طبيعته البشرية ليصبح إلهاً يستبد بحكمه في الشعوب العربية

هذا الربيع الذي انتظرته المدينة

قبل حلول الخَرَف

لينهي حكاية (قَرَقُوشها)

حين تعالى

حتى استوى فوق عرشٍ إلها

فأضحت بيوتُ المدينةِ شاحبة

والنوافذ عطشى

وكل المسافات ليس لها مبتدأ

إنه الحاكم الذي يبني يجمع حوله فئة من التابعين الذين يُجندهم لخدمته؛ فيطبلون ويزمون له ليل نهار :

الإله الذي

ظل ينفخ أرواحنا بالسديم

ويفتح جنته لزبائنه المخلصين

الإله الذي

على فلك العمر يسبح دون انتهاء

ويوم يؤرقه ومض مشكاتنا

تجيء العبيدُ إليه بعشر لغات

تترجم سيرة نطفته في الهواء

هذا الربيعُ الذي انتظرته المدينة في ولهٍ

ليطمس كل فصول العناء

ويخضر شارعنا

وتبدو المأساة في حالة المفارقة التي آلت إليها تلك الرغبات في أن يحمل الربيع ما يأمل الفقراء منه؛ وهنا تنهض على لسان الشاعر الأسئلة الموجعة التي تبحث عن إجابات لها من غير أن تجد لها أية إشارة إلى إمكانية وجود رد عليها؛ فتتردد الأسئلة بين السؤال عن الزمن الذي أتى في غير أوانه؛ و بين الهيئة التي جاء فيها :

هل أناخ على غير موعده

كيف استطاع خداع جماهيرنا بسراب الخلاص

إنه الربيع الذي منح الأفواه المكبوتة قدرة  على القول؛ وطاقة  على الحراك؛ والمجاهرة؛ والمواجهة؛ ولنلاحظ كيف عبّر الشاعر عن مدى العفن الضيق الذي أطلق تلك الحناجر؛ وسيّر تلك الحشود لتخرج في وجه حكامها بتصويره اللافت: (رصيف تكلس بالأمنيات)

أطلق حنجرة البؤساء

فوق رصيف تكلس من سَفَر الأمنيات

جاء يردد أنشودة نصفها حائرة

ينثر حول الميادين ريش حمام

وهتاف سقوط بغير ارتطام

هذا الربيع

زمجرة من وعود

تاهت عقارب ساعته فجأة

ليرحل دون اكتراث بأنوائه

غادرنا

والعصافير بين فضاءاتها واجمة

أسلمنا للحقود يرمم آمالنا

لغزاة يجيئون رغم أنوف شوارعنا

يمدون ظل إله جديد

على ظهر خارطة تائهة

يا لهذا الربيع الذي

يمنح الأرض زهراً بلا رائحة

غير أنَّ ذلك الحراك السلمي الذي جاء  كان في غير أوانه؛ وقد غادر من دون أن يُحقّق ما كان، وهم يعيدون تشكيل خارطة الوطن العربي بأشكال جديدة؛ وبمرتسمات حدود مصطنعة أخرى تؤدّي كلها في النهاية إلى متاهة جديدة لم يكن العرب قد وجدوا أنفسهم من قبل للخروج من متاهتهم الأولى؛ وبذلك البعد المأساوي وشّح الشاعر نجيب القرن قصيدته بوشاح الحزن والإحباط انطلاقاً من واقعية الحال و راهنية الحالة التي عاشها الشاعر ويعيشها العرب جميعاً؛ ليكون ربيعهم الموعود ربيع استلاب واستعمار لم يمنح منتظريه غير أشكال أزهار صناعية لا حقيقية؛ فما هي إلا أزهار زينة لا حياة فيها؛ ولا رائحة تنبعث منها؛ وهل الأزهار إلا بجمال عطرها؟!.

***

للاطلاع على قصيدة الشاعر في صحيفة المثقف

يمنح الأرض زهراً بلا رائحة / نجيب القرن

 

د. وليد العرفي

...........................

1 ــ  قراقوش أحد وزراء صلاح الدين الأيوبي وحول شخصيته اختلاف كثير بين من يقول بصلاحو ومن يدّعي ظلمه وجور أحكامه وغرابتها .

 

في المثقف اليوم