قراءات نقدية

جغرافية المكان في الشعر العراقي

وليد العرفي قصيدتا الشاعرين: الزويد وسرمد أنموذجاً

تهدف هذه المقاربة إلى دراسة دلالات المكان بما يحمله من إشارات رامزة ومضمرات تكشف عن القيم النفسية والرؤى الجمالية التي يكتنفها المكان في لغة الشعر، وسأتوقف بداية عند دلالة المكان في نص الشاعر: د. حسين يوسف الزويد الموسوم بـ: (مراجعة لهوى مقيم) وهو عنوان ينمُّ على تعلّق بإرثية المكان بما يعنيه من ذكريات وخصوصية ببعديه القريب والبعيد ؛ فالمكان ذاكرة وحياة، وعلى هذا يُؤسّس الشاعر بناء العنوان لهوى مقيم، فالبنية الاسمية التي جاءت في تركيبة العنوان إحالة على سكونية الموقع المذكور والثابت في وجدان الشاعر والقار في إحساسه المتنامي به .

يتوزع النص في نمطين تعبيريين من حيث الشكل ‘ إذ يبدأ النص بالشكل الحديث فيما يبدو أنه تأكيد لارتباط الشاعر بالزمن الحاضر وارتهانه للحظة الآنية، وهو ما يكشف عنه المطلع الاستهلالي الذي يُضمر فيه الزمن الذي يبدو مرتبطاً بالحالة العاطفية:

ذاتَ شوقٍ وانغماسٍ في متاهاتِ الحنينْ

حَلَّ في القلبِ صداعُ الوجدِ

و انداحَ اليقينْ

جَبلُ الغيمِ مِنَ التهيام أغوتْهُ الهُبُوبْ

من رياحٍ أغرَتِ السفّانَ في نشر الشراعْ

يُنشِدُ الضلِّيلَ من (توضِحَ) و(المقراةِ)

مِنْ أرضِ (دَمُونْ)

سارَ حادي السُفْنِ لا يلوي على

أيِّ ضياعْ

سادراً ينوي رُسُوَّاً عِنْدَ

شُطآنِ المتاعْ

لكنِ الأقدارَ شاءَتْ

غَسَقٌ بالجوِّ لاحْ

وعلى الأفقِ تمطّى من عَتيٍّ ورياحْ

عَبَثاً حاوَلْتُ تثبيتَ شِراعي

في عتوٍ في أقاصي الكونِ  صاحْ:

لا صدى بينَ يدينا

لا دواءً من جراحْ

ضاقَتِ الفكرةُ عندي

أينَ ذيَّاكَ (البسيطْ)؟

أنتَ بحري يا بسيطاً

وبه يعلو الصياحْ

يكشف المطلع عن عمق التعلق بالمكان الذي يتجلى بظهورات جغرافية حاولت الاتكاء على إرثية معلقة امرىء القيس فتوضح والمقراة أسماء أمكنة استثمر الشاعر إحالاتها القديمة في انعكاسها الدلالي لتشي بما يُعبّر عن الحال الحاضرة في قصيدة: الشاعر حسين يوسف الزويد التي تنفتح على جرح مفتوح، ونزيف مستمر لا يجد الشاعر من سبيل إلى التخلص من ألامه إلا باستعادة الشكل القديم الذي يرى فيه القدرة على إعادة الاعتبار للوقفة الطللية التي تتبدّى في وقفة الشاعر متأملاً ومُعتبراً، ومن هنا تتبدّى دلالات الفعل التي جاءت بصيغة الأمر الذي يعني في دلالته لفت انتباه الآخر الافتراضي، أو النفس المستنسخة بهيئة شخصٍ آخر بهدف اتخاذه موقفاً ما، وعلى هذا يبدو معنى دلالة التوقف أو استيقاف المخاطب، وطلب التأمل عبر ترداد فعلي قفْ، وانظرْ في مطلع النص العمودي:

قِفْ بالنمِّيصةِ  وانظرْ في روابيها

                عَمّا جرى من عذاباتٍ، سَترويها

يحضر المكان باسمه الدال النميصة، وهي مسقط رأس الشاعر، وكما جاء في التحديد الجغرافي لها أنها تطل على مقبرة، وبهذه الجغرافية تتحدد قيمة الوقفة الطللية في هذه التأملية القائمة على الاعتبار، واستعادة ذكريات الشباب والأيام الماضية:

إبّانَ كانَ الهوى في القلبِ مُضْطَرِماً

                 والنفسُ لا ترعوي، تبغي أمانيها

و كيفَ صبري ودُنيا الحسنِ دانيةٌ

            سكنى الدوارسِ هامت في مآقيها

قد عِيْلَ صبري ودُنيا الحسنِ دانيةٌ

               قـطـوفُـها وأنـا كالـطـفـلِ أبـغـيـهـا

لو أبصرَتْ ميتاً في التُربِ عاشقتي

                كأنـمـا ذاقَ  مـاءَ العيشِ مـن فيها

قد كانَ بَحر هواها لاطماً لَجِباً

              وكنتُ غُمْراً، تـجـاريـبـي تُماريـهـا

وتظهر المشاعر اللائبة في هذه الاستعادة لأيام الشباب عبر تشكيل في الأسلوب التعبيري الذي ينتقل فيه بين الخبر حيناً، والإنشاء حيناً آخر ما يشي بحالة الحيرة والقلق التي تسري في فكر الشاعر:

تجري السفينةُ لا يـنـتـابُها خللٌ:

                  ها قَدْ حَجَجْتُ الى أسوارِ واديها

وَ ذاتَ نَحْسٍ طَغَتْ في الأفقِ زوبعةٌ

                  وهاجَ في اليَمِّ شيءٌ من عواتيها

حاوَلْتُ أنْ أمنحَ الأحلامَ أشرِعَةً

              كي أُرسيَ النفسَ في أحلى مراميها

لكنَّها سَوْرةُ الأحزانِ قد هَطَلَتْ

               أرْخَتْ سدولاً وما أدرَكْتُ شاطيها

لكنني سوفَ أرقى للنجومِ وإنْ

              تأتِ العواصفُ قلبي، سوف يُدْميها

        وسوفَ أنشرُ فوقَ الغيمِ أجنحتي

               وسوفَ أقطفُ في الأحلامِ، عاليها

و سوفَ أنهضُ كالعنقاءِ مشتعلاً

                 من الرمادِ  ويحبوني المدى فيها

بينما تنهض القصيدة في أبيات الختام بنائياً على مستويين هما:

مستوى الحركة  ومستوى السكون ؛ ففي المستوى  الأول: تتكشف الحركة بالفعل الحاضر تجري السفينة، وهو ما يُحيل على حالة من الاستقرار، ومواءمة الحالة الخارجية للمشاعر النفسية التي تبدو في حالة من الرضى والارتياح التي سرعان ما تتعطّل بعارض خارجي الذي يظهر بتمظهراته اللغوية بألفاظ دالة: " نحس، زوبعة، هاج، نحس، عواتيها " وهي ألفاظ تشير إلى تغير مباغت في حركة المنحى المستقر للنص في سياقه المستوى الأول الذي يوصلنا إلى المستوى الثاني، وهو مستوى السكون الذي يحاول الشاعر أن ينعتق من خلاله من حالة الجغرافية الطبيعية للمكان إلى الحالة العاطفية التي يسعى  الشاعر إلى تأكيدها بتفاؤله الذي جاء تعبيراً عن رغبة في أن يتخلّص من واقعية الحالة و جغرافيتها المكانية الموضوعية ؛ ليعيش حالة التخييل الشاعرية التي يتمنَّى تحقيقها، وبلوغ جغرافية مكانه المأمول فيها .

تُحيل قصيدة:"مرثية سوق الصفارين"  للشاعر: د. جميل سرمد على المكان بما يحمله من خصوصية ؛ فهي مرثية بالمعنى الموضوعاتي، وإشهار حالة مهنة كانت تعنى بتكييف المعدن لذائقة الصانع، والسؤال الذي يقفز إلى الذهن لماذا يرثي الشاعر المعاصر مهنة ما، وما دلالة تلك المرثية، وهل للجماد من حياة لتموت؟

إنَّ هذه الأسئلة وغيرها التي قد تتفتّق في ذهن القارىء تجعل من مرثية د.جميل سرمد أنموذجاً للاستلاب الذي يشعر به الإنسان المعاصر نتيجة التحولات الكبيرة التي تعصف بكل ما هو موروث وإنساني بمعنى من المعاني، وهذه الثورة الصناعية التي تُبدّد تلك المهن اليدوية بما تحمله من رمزية وانتماء وتعبر عن خصوصية مجتمعها، وإزاء هذا الواقع المتغير يبدو الشاعر ابن مدينة عصفت بجماليات تراثها الشعبي المهني النهوض الصناعي، وقبل أن ألج النص، أود الإشارة إلى أن الشاعر قد اعتمد روي العين المكسورة في إشارة إلى مطاوعة الروي للسياق النفسي الدال على مشاعر الحزن لمآلات السوق المرثي في هذه القصيدة، فجاء الكسر تعبيراً عن المنحى العام والعاطفة الحزينة التي تبدأ نصياً بفعل التغيب الذي  قد طال مجمل مناحي الحس الجمالي لديه على مستوى السمع والبصر:

غابتْ مطارقُهم عنِ الأسماعِ

            والصمتُ رانَ على صدى الإيقاعِ

كانَ الضجيجُ الشاعريُّ ملاذَهم

         من صرخةِ الموتِ التي في الناعي!

لكأنما الإزميلُ ريشةُ عازفٍ

            نحتوا بها صَرْحَ الهوى المُتداعي

تتبدى جمالية الاستهلال بفعل غابت بكل ما يُشعر به من حالة افتقاد وما يعتمل في النفس من أسى على ذلك الفقد، إذ تتوالى ألفاظ حقل معجم الموت فنجد: الصمت، الموت، الناعي، المتداعي، وقد أسهمت الصورة الفنية القائمة على عنصر التشبيه بمدّ النص بزخم إضافي؛ لينهض بجماله على مستوى التعبير الذي يبدو غير متجانس من حيث تشكيله على مستوى المفردات غير أنه اكتسب جماليته من خلال تلك المباعدة بين طرفي التشبيه بجمع القسوة والمادية مع الليونة والمعنوية في جعله الإزميل ريشة عازف

وحَسِبتُهم من آلِ داؤودٍ؛ لهم

                   لانَ النحاسُ بشكلِهِ المِطواعِ

مالُوا على تلكَ الكؤوسِ لِيثمَلُوا

                   فَرَأَوْا وجوهَهُمُ ببطنِ القاعِ!

وهكذا تتنقل قصيدة الشاعر عبر مساقات التراث التي تسبغ عليها هالة من التقديس والجمال في آن معاً من خلال إسقاط رمزية داوود ومزاميره التي تقارب طرقات النحاسيين تلك الأناشيد، وهي صورة تبدو فريدة بمفارقتها المألوف، ومباعدتها بين الأطراف البانية للصورة التي يجعل الشاعر فيها الجماد كائناً حياً فيتجه إليه محاوراً وراثياً فدلة القهوة تشعر الألم العربي الذي طال كل مفاصل الحياة، والفناجين التي تشير إلى رمزية الكرم والقوة العربية قد انكسرت في صورة باعثة على عمق الفجيعة ومأساة الواقع الذي صار فيها الضباع أصحاب المجالس وشاربي القهوة

:يا دلَّةً عربيّةَ الأوجاعِ

                   كسَرَتْ فناجيني شِفاهُ ضِباعِ

خلَتِ الرفوفُ منَ الصحونِ فما ترى

                       إلّا طُيُوفَ بريقِها الخدَّاعِ

كانت لمعجزةِ النحاسِ حكايةٌ

                        تُتلى من الأجدادِ للأتباعِ

يُحكى بأنَّ العُمْيَ يوماً أبصروا

                     لمّا رَأَوا من وَمضِهِ اللمّاعِ

هذا الهدوءُ المُستفِزُّ سينتهي

               وبريدَ خيرٍ سوفَ يُلقي الساعي

ويُعيد الشاعر: د. عبد الله سرمد الجميل إلى الذهن أسطورة النحاس، وما وقر في الذهن حول شفائه العميان ؛ لينهي بتفاؤل أن المستقبل يحمل بشارة للمنتظر، وكأني بالشاعر أراد أن يمنح القارىء جرعة من التفاؤل، وهو الطبيب المعالج الذي لا بدَّ أن يكون متفائلاً بشفاء مريضه، ولو بافتراض الخيال، والممكن الشعري .

 

د. وليد العرفي

....................

للاطلاع على القصيدتين في صحيفة المثقف:

             

مُراجعةٌ لهوىً مقيم / د. حسين يوسف الزويد

 

مرثيَّةُ سوقِ الصفّارين / د. عبد الله سرمد الجميل

 

في المثقف اليوم