تنبيه: نعتذر عن نشر المقالات السياسية بدءا من يوم 1/5/2024م، لتوفير مساحة كافية للمشاركات الفكرية والثقافية والأدبية. شكرا لتفهمكم مع التقدير

قراءات نقدية

داود سلمان الشويلي: التحولات في القصص الشعبي

داود سلمان الشويليتؤكد الدراسات الفكرية العديدة على ان الفكر الانساني بدأ بين الشعوب والمجتمعات بالسحر، والممارسات السحرية، والسحر هذا، كما اعتقده الانسان القديم، عبارة عن قوة، أو طاقة، تتحكم بالكون ويمكن للبعض من البشر مخاطبتها والطلب منها في تحقيق شيئا ما، وهذا ما نقله لنا القصص الشعبي على المستوى الأجنبي، والعربي، والعراقي.

ولما كانت أجناس الكائنات الأربعة (البشر، الحيوانات، النباتات، الجمادات) منذ الخلق الأول لها لا يمكنها التحول من جنس إلى آخر مهما كانت الأسباب والدوافع، ومهما كان الاعتقاد بذلك، فاننا نجد في القصص الشعبي ان مثل هذا التحول قد يحصل بينها، وكما في الفكر الديني كذلك، ويتم بصورة سريعة أسرع من لمح البصر، وبدون مسببات.

وفي الوقت نفسه فاننا لم نجد في القصص الشعبي حكاية يتم فيها التحول من حيوان إلى انسان، ولكننا نجد ان حيوانا ما سلك سلوك الانسان من حيث النطق، والطيران، وبعض الصفات، وغير ذلك(1).

وكذلك يمكن للانسان التحول إلى حيوان، أو طائر، أو نبات، أو جماد، وذلك من خلال ما يقوم به من تصرف، أو سلوك، أو فعل، اضافة للقوى السحرية التي تعمل ذلك.

جاء في أسطورة "جلجامش" ان أنكيدو كان يعيش في البراري مع الحيوانات، ويسلك سلوكها، ويفعل أفعالها. وفي القصص الشعبي يستطيع الانسان، وقبله البشر، أن يتحول إلى حيوان ما. فهو يتحول إلى حمار من خلال اتباع سلوك الحمار في أن يصفن "يطنحر"، وكذلك من خلال غبائه. ويستطيع ان يتحول إلى قرد من خلال فعله وتصرفه بالقفز من مكان إلى آخر. ويستطيع ان يتحول إلى طائر من خلال التقاطه غذائه كما يلتقط الطائر الحَب. ويستطيع ان يكون مثل الذئب في افتراسه لاخوانه من البشر...وهكذا.

***

ولما كانت الكائنات تصنف إلى كائنات حية (البشر، والحيوانات، والنباتات)، وكائنات غير حية (الجمادات)، فان الراوي الشعبي الذي حكى لأوّل مرة الحكاية، يضطر إلى اللجوء لبعض الحيل القصصية لاضفاء بعض التشويق، مع العلم انه يؤمن بما يمنحه للكائنات الحية وغير الحية من صفات غير صفاتها التي تتناسب وطبيعتها التي جبلت عليها، وهذا الايمان مستمر إلى يومنا هذا عند الغالبية من الناس في المجتمعات العالمية، الخاصة والعامة، من مثل:

- تبادل الصفات بين الكائنات كافة.

- استخدام بعض الكائنات غير الحية لبعض الأعمال والسلوكات التي يقوم بها الكائن الحي.

- يجعل الكائن الحي من غير البشر كائنا متحولا من حالة إلى أخرى.

هذه الحيل تساعد الراوي الشعبي على إجتياز عتبة كأداء في المنظومة العامة للحكي والتي تكبله وتبقيه انسانا لا حول ولا قوة له فيمتلك، عندئذ، حرية أكثر في اجتيازها فينشيء آليات جديدة ليكسر بواسطتها كل مكبلاته ليعيش حرا مع كل الكائنات الحية وغير الحية، كالسحر، مثلا، وجعل الكائنات الحية، من غير الانسان، وغير الحية، الجمادات، مفكرة، تعمل وتسلك غير ما كانت عليه، أي انه يؤنسنها. وكل ذلك في سبيل رفع الظلم، والقهر، والحيف، والكبت، والحرمان، عنه، حتى ولو كان في متخيله القصصي من خلال استراتيجية أنْسَنة باقي الكائنات لتكون عونا له.

إذن في القصص الشعبي يحدث كل شيء، وفيها ان أي شيء جائز الحدوث، وممكن.

***

- التحولات:

عندما نناقش هذه القضية في القصص الشعبي علينا أن ننسى ما كان يعتقد به البعض من الناس من تأثير ديني، عن كل المسميات التي ترد في هذه السطور والتي يرجعها هذا الفكر إلى الجن، وذلك لأنها سبقت في ورودها في القصص الشعبي كل دين، حيث ان هذه القصص هي أسبق تاريخيا، من كل دين توحيدي أو وضعي.

والملفت للنظر ان الفكر الديني (الاسلامي خاصة) يرى ان مساكن هذه المسميات، كالغول، والسعالي، والمردة، هي مواضع النجاسات: (كالحشوش، والمزابل، والحمامات)(2)، فيما يرى القصص الشعبي انها تسكن في قصور فخمة. قال عنها الأستاذ قصير (أعتقد أن القصاصين اتخذوهم رمزاً للملوك والحكام الظالمين الذين همهم امتصاص دماء الناس واستعبادهم والسطو على خيرات البلاد.)(3).

في حكاية "شكر وخلف الراعي" نرى بوضوح كل تحولات الانسان إلى حيوان، أو طائر. فخلف يتحول من بشر إلى حيوان بلمح البصر، وبسهولة، ودون أن يتفوه بأية كلمة. يتحول إلى بغل، ثم إلى ناقة، وإلى جرذ، وإلى طير، وإلى وردة، وإلى رمانة، ثم إلى حبة رمان، ثم إلى ثعلب، فيما كان يقابله شكر في هذا التحول. فعندما تحول خلف إلى جرذ تحول شكر إلى قط، ثم صقر، وبعدها إلى درويش، ثم إلى ديك، فأكله خلف المتحول إلى ثعلب، ثم عاد إلى هيئته البشرية.

أما تحول المارد، أو الغول، أو السعلاة، إلى هيئة البشر فانه يساعد البطل وهو في طريقة للحصول على غايته. أو بهيئة حيوان مفترس يحاول ان يفترس البطل. فان تحوله هذا لا يعد تحولا بالمعنى المفهوم من التحول.

المارد، أو الغول، أو السعلاة، هي كائنات اسطورية، خرافية، غير موجودة في الواقع، ولهذا فان تحولها من هيئة إلى أخرى تتم بطريقة "تصوّر بصورة ...". فتتغير هذه الكائنات في أكثر من صورة، فهي في صورة بشر، وفي صورة أخرى، حيوانا مفترسا، وفي أخرى طائرا، وهكذا.

فالمارد في صورته البشرية كما في حكاية "حسن آكل قشور الباقلاء". والسعلوة في صورتها البشرية كما في حكاية "الأمير نور الدين والأميرة فتيت الرمان". وهي في صورة حيوان مفترس كما في حكاية "حديدان". والغول في صورته البشرية كما في حكاية "الأمير نور الدين والأميرة فتيت الرمان". أو في صورة حيوان مفترس كما في "العصا السحرية"، أو حكاية "الشواك".

هكذا تتم التحولات في الكائنات الحية وغير الحية بكل سهولة ويسر، ودون ترديد أي عبارة، أو استخدام أي قوة أو طاقة، وهذا سلوك يتبّع في كل القصص الشعبي من النوع الخرافي خاصة.

***

- السحر:

جاء في تعريف السحر انه: (مصطلح عام يستعمل لوصف فعالية تقوم بتغيير حالة شيء ما أو شخص ما في نطاق التغيير الذي يمكن للشيء أو الشخص أن يتعرض له دون خرق لقوانين الطبيعة والفيزياء. ويعتقد البعض أن بإمكان هذه الفعاليات خرق قوانين الفيزياء في بعض الحالات. وهناك على الأغلب التباس بين السحر وخفة اليد والشعوذة. وتستعمل كلمة السحر كمرادف لجميع هذه المصطلحات التي تختلف عن بعضها البعض.

أما السحر في اللغة فعبارة عن كل ما لطف مأخذه وخفي سببه ومنه الساحر للعالم. وسحره خدعه، والسحر الرئة، وفي الشرع: مختص بكل أمر يخفى سببه ويتخيل من غير حقيقة ويجري مجرى التمويه والخداع. ومتى أطلق ولم يقيد أفاد ذم فاعله. (...) ويقول القرطبي كما ذكره السيوطي في "لفظ المرجان في أحكام الجان": "السحر أصله التمويه بالحيل والتخاييل، وهو أن يفعل الساحر أشياء ومعاني، فيُخيّل للمسحور أنها بخلاف ما هي به كالذي يرى السراب من بعيد فيُخيّل إليه أنه ماء، وكراكب السفينة السائرة سيرًا حثيثًا يُخيّل إليه أن ما يرى من الأشجار والجبال سائرة معه. وقيل: هو مشتقّ من سَحرتُ الصبيّ إذا خدعته، وقيل: أصله الصّرف، يقال: ما سَحَرك عن كذا، أي ما صرفك عنه. وقيل: أصله الاستمالة، وكلّ مَن استمالك فقد سحرك")(4).

وللسحر عند عامة الناس دور كبير، فهي تستعمله دون أن ترى نتائجه، إذ ان نتائجه تحصل في بعض الأحيان عن طريق الصدفة، أو لا تحصل، وهو الأغلب، إلّا انهم يصرون على استخدامه.

في حكايات ألف ليلة وليلة، هناك ثيمة مكررة في أغلبها هي ثيمة تحول الانسان إلى حيوان "مسخه"، وتتم على يد انسان يملك قدرة السحر، وهي قدرة غير موجودة في الواقع، إلّا ان القاص الشعبي تخيّل وجودها عند البشر لسد النقص الحاصل في ضعفه، وقلة حيلته، أمام الصعاب التي تواجهه في حياته. ان هذه القدرة تملكها أغلب نساء حكايات ألف ليلة وليلة، ولا تتم إلّا برش الماء على الانسان المراد تحويله إلى حيوان أو اعادته(5)، حيث ان للماء قوة سحرية فائقة لم نتلمسها في الواقع والحقيقة.

وهذا التحول الذي يأتي جراء رش الماء على الكائن، لا يمكن القول انه قد جاء في القصص الشعبي التي تروى في المجتمعات الاسلامية تحت تأثير الآية القرآنية التي تقول (وخلقنا من الماء كل شيء حي)، لاننا نجد الكثير من الحكايات في مجتمعات غير اسلامية تستخدم هذه الحيلة.

في القصص الشعبي  نجد انه قد استغنى عن أداة التحويل هذه، فاستخدم أدوات أخرى، مثل: العصا السحرية، كما في حكاية "العصا السحرية". أو الأزهار، كما في حكاية "تضحية أخت". أو الخاتم السحري، كما في حكاية "الأمير نور الدين والأميرة فتيت الرمان". أوالشمعة السحرية، كما في حكاية "الجندي والملك". وغير ذلك.

هكذا تتم التحولات على الكائنات الحية وغير الحية بواسطة السحر بكل سهولة ويسر، وهذا سلوك يتبّع في كل القصص الشعبي.

***

داود سلمان الشويلي/ العراق

.................

الهوامش:

(1) وهذا ما طرحناه في كتابنا المخطوط "كائنات تفكر - أنسنة الكائنات في القصص الشعبي العربي".

(2) لقط المرجان في أحكام الجان – جلال الدين السيوطي – مكتبة القرآن – ب. ت. – ص38.

(3) حكايات وفلسفة - يوسف أمين قصير – ص41.

(4) ويكيبيديا.

(5) في الحكاية الفلسطينية "حكاية القرصة" ترش الأخت الماء على أخوتها فيعودون إلى حالتهم الأصلية. راجع: الحكاية الشعبية الفلسطينية – نمر سرحان – ص182.

 

في المثقف اليوم