قراءات نقدية

فاطمة أيت الحاج: قراءة في أسباب الجريمة من خلال مرآة الأدب

رواية أمير الذباب أنموذجًا

الأدب مرآة لا تعكس الواقع فحسب، بل تكشف ما يختبئ وراءه من نزعات ودوافع وصراعات نفسية.

ويليام غولدنغ الكاتب البريطاني الحاصل على جائزة نوبل سنة 1983 في روايته الشهيرة أمير الذباب" lord of the flies" الصادرة سنة 1954 يضعنا أمام تجربة إنسانية قاسية: أطفال ينجون من سقوط طائرة، يجدون أنفسهم معزولين على جزيرة مهجورة ويؤسسون مجتمعًا صغيرًا، لكنه سرعان ما ينحدر إلى الفوضى والعنف. تتحول البراءة المزعومة إلى همجية، ويبرز سؤال حارق طالما شغل الفلسفة والعلوم الاجتماعية:

- ما الذي يدفع الإنسان إلى الجريمة؟

- هل هي غريزة أصيلة تستيقظ حين تغيب الضوابط؟ أم نتاج بيئة مفككة وظروف استثنائية؟

في هذا المقال، نحاول قراءة أسباب الجريمة من خلال مرآة الأدب، مستندين إلى أمير الذباب كنموذج يعرّي القشرة الحضارية الرقيقة، ويفضح آليات العنف الكامنة في النفس والجماعة، وذلك من خلال:

- إنهيار النظام والسلطة.

- الخوف الجماعي وصناعة الأسطورة.

- نزعة السيطرة والتلذذ بالقوة.

1- إنهيار النظام والسلطة:

في بداية الرواية يحاول الأطفال بناء مجتمع متماسك يقوم على الديمقراطية والحرية والقانون، ينتخبون رالف قائدا، وتصبح الصّدَفة رمزا للشرعية. في محاولة لضمان الاستقرار والاستمرارية والنجاة. هذا الترتيب يشبه نسخة مصغرة من المجتمع البريطاني الذي جاؤوا منه، حيث القانون والتقاليد يضمنان الاستقرار.

لكن هذا النظام سرعان ما يبدأ بالتصدع؛ فالصدفة، بوصفها رمزًا للسلطة، تفقد هيبتها تدريجيًا كلما اشتد الخوف والجوع، وكلما تزايدت رغبة البعض في نيل القوة المباشرة بدل الانضباط. ومع مرور الوقت، لا يجد رالف ما يفرض به الطاعة سوى التذكير المستمر بقواعد لم تعد تعني شيئًا للجميع. حيت يقول بيأس: "لا أحد يحترم القوانين بعد الآن". هذا الانهيار لم يكن عشوائيًا، فقد تسلسلت أسبابه بوضوح من إهمال المهام الجماعية كإشعال النار وبناء الملاجئ، إلى الانشغال بالصيد والترفيه، ثم الانقسام الصريح بين جماعة رالف الذي يمثل النظام الاجتماعي وجماعة جاك الذي يمثل الوحشية البداية.

في النهاية، لم يعد هناك أي التزام أخلاقي أو اجتماعي، وصار القتل ممكنًا دون ندم. حين تحطمت الصدفة في المشهد الذي قتل فيه بيغي، كانت تلك اللحظة رمزية للغاية: الشرعية ماتت تمامًا، ولم يبق سوى العنف.

يبرهن هذا الانهيار أن النظام الاجتماعي، مهما بدا متماسكًا، قد يكون هشًا جدًا حين لا يستند إلى وعي جماعي ومسؤولية مشتركة، وأن غيابه يفتح الباب لغريزة البقاء العارية التي لا تعترف إلا بالقوة.

2- الخوف الجماعي وصناعة الأسطورة:

في أمير الذباب لا يظهر الشر فجأة، بل يبدأ بهمسات الصغار الخائفين من الوحش المختبئ في الغابة، تنتشر تلك الهمسات لتتحول إلى خوف جماعي، سرعان ما يدركه جاك ويستخدمه لفرض سيطرته على باقي أفراد الجماعة، كونه وحده من يستطيع حمايتهم منه. ففي مقابل رالف الذي تمسك بالعقل والمنطق، اختار جاك أن يضخم الأسطورة ويجعلها حقيقة لا تقبل النقاش. كلما تكرر ذكر الوحش، تعمق الخوف، وكلما زاد الخوف، ازداد اعتماد الأولاد على جاك. هنا ظهر بوضوح كيف يمكن للزعيم أن يصنع عدواً وهمياً ليبرر العنف والطاعة العمياء. "لا أحد يستطيع حمايتكم منه إلا أنا".

تحولت هذه اللعبة النفسية إلى طقوس دموية، حيث صار الصيد، والرقص حول النار، والتلويح بالرماح وسائل لتفريغ الرعب الجماعي وتبرير القسوة. وهكذا، نجح جاك في توجيه خوفهم إلى توحش منظم يخدم غايته في الهيمنة. وحين قتلوا سيمون ظنًا أنه الوحش، لم يعد هناك أي فارق بين الخوف والشر؛ فقد صارا وجهين لعملة واحدة صكها جاك بمهارة. ومع تحطم النظام، تلاشت القدرة على التمييز بين الخطر الحقيقي والوهم، وانفجر العنف بلا ضوابط. هكذا يبرهن وليم غولدنغ أن الشر ليس دائمًا قوة غامضة تولد وحدها، بل هو أحيانًا نتيجة زعيم يستغل خوف الجماعة ليزرع التوحش ويصنع سلطة تقوم على العنف.

3- نزعة السيطرة والتلذذ بالقوة:

منذ بداية الرواية، يظهر جاك كشخصية تتوق للسلطة والهيمنة. لم يكن هدفه البقاء على قيد الحياة مثل الآخرين، بل أراد إثبات تفوقه وتأكيد مكانته قائداً مطاعاً. هذه النزعة للسيطرة بدأت أولاً في صدامه مع رالف حول قيادة الجماعة، ثم أخذت شكلاً أكثر خطورة حين صار العنف وسيلته المفضلة لإظهار القوة.

في البداية، بدا الصيد ضرورةً للبقاء، لكن بالتدريج تحول إلى طقس وحشي يمنحه متعة السيطرة على الحياة والموت. اللحظة التي قتل فيها الخنزير لأول مرة لم تكن مجرد انتصار للصياد، بل كانت لحظة اكتشاف لذة القوة الخام: شهوة التسلط على الكائن الأضعف.

مع تصاعد الأحداث، صار جاك يبني سلطته على إذلال الآخرين وترويعهم. ومع كل مشهد جديد، نلاحظ كيف يغذي التوحش ذاته. العنف يمنحه احترام الجماعة وخضوعهم، والخضوع يغديه بالمزيد من الغرور والقسوة. حيت جاء على لسانه: "لا حاجة للصدفة بعد اليوم. أنا الذي يتكلم". وحين تحطمت الصدفة —رمز القانون والنظام— شعر جاك بنشوة مطلقة. لم يعد هناك من يقيده؛ لم تعد القوانين تعني شيئًا، ولا الرأفة ضرورة. وحتى الصبية الذين ترددوا في البداية صاروا يشاركونه العنف كأنه احتفال جماعي بالقوة.

ذروة هذا التلذذ جاءت حين قاد مطاردة رالف، ليس بدافع الدفاع أو الخوف، بل بدافع الرغبة في محو خصمه وإثبات تفوقه الكامل. "سنجعله يركع… ثم نفعل به ما نشاء".

هكذا تكشف الرواية أن نزعة السيطرة، حين تنفلت من كل وازع أخلاقي، تتحول بسرعة إلى لذة مرعبة في إذلال الآخر وتدميره. وهي نزعة كامنة في النفس البشرية، تنتظر الفرصة المناسبة لتتفجر إذا غاب القانون وخنق الخوف صوت الضمير.

في الختام يمكننا أن نقول إن الرواية تثبت أن الشر ليس أسطورة خيالية تسكن الغابات أو الكوابيس، بل هو طاقة كامنة في النفس البشرية، تنفجر حين يغيب الضابط الأخلاقي ويستبد الخوف بالعقول. في هذه الجزيرة الصغيرة، نشأت منظومة كاملة من العنف: زعيم يتلذذ بالقوة، جماعة تبحث عن الأمان بأي ثمن، وأساطير خرافية تبرر القسوة.

عبر شخصية جاك، يكشف غولدنغ كيف يتحول الخوف إلى أداة سلطة، وكيف تصبح السيطرة متعة في حد ذاتها، لا مجرد وسيلة للبقاء. ومع انكسار النظام وانهيار الرموز التي كانت تحفظ التوازن —الصدفة، الاجتماعات، فكرة الديمقراطية— يتلاشى الخط الفاصل بين البراءة والتوحش.

إنها حكاية تختصر كثيرًا من وجوه التاريخ الإنساني: حين يُسمح للخوف والبحث عن القوة المطلقة أن يقودا الجماعة، تكون النتيجة دائمًا كارثة. وهكذا يطرح الأدب سؤالًا أبديًا لا يفقد راهنيته:

من يحمي الإنسان من شره حين يسقط عنه قناع الحضارة؟

***

فاطمة أيت الحاج

 

في المثقف اليوم