قراءات نقدية

قراءات نقدية

كتب هذه القصة القاص السوري زكريا تامر ضمن مجموعته القصصية التي تحمل اسم القصة نفسها وقد صدرت عام 1978م عن دار الآداب في بيروت.

سيميائية العنوان في القصة

اختار الكاتب زكريا تامر شخصية النمر في قصته ليدلّ على الثوريّة أو الشخص الثائر من الشعب، وجمع النمر هو "النمور" كناية عن الشعب الثائر

تقوم هذه القصة في مجملها على حدث واحد يتفرع عنه أحداث فرعية تخدمه، وهو محاولة ترويض نمر خلال عشرة أيام، ويسعى المروض أن يجعل هذا النمر مطيعًا، وذلك من خلال تجويعه ومنع الطعام عنه، وقد أثمر الجوع عمّا كان يرغب به، إذ كان هذا المروِّض يطلب من النمر في البداية طلبات صغيرة حتى يطعمه، وكان النمر ينفذ طلباته بعد أن رأى أنّ هذه الطلبات بسيطة، لكنها في الحقيقة كانت تهدم كرامته وعنفوانه، وتمهد لتنفيذ طلبات أكثر وأكبر.

ودلالة العنوان "في اليوم العاشر" تختزل أحداث القصة حول الآليّة التي سوف تخضع  بها السلطة الشعب، وذلك من خلال معركة الأمعاء الخاوية التي يمارسها السجّان ضد السجين، سواء أكان ذلك في السجون الكبيرة أم الصغيرة. يتضح اختيار العنوان وسبب التسمية من الحوار الذي يدور في بداية القصة بين الصيادين الذين يحيطون بقفص النمر، وذلك حينما يقول كبيرهم: "إذا أردتم حقًّا أن تتعلموا مهنتي، مهنة الترويض، عليكم ألا تنسوا في أي لحظة أنّ معدة خصمكم هدفكم الأول، وسترون أنّها مهنة صعبة وسهلة في آن واحد"

وقد كان المروض يمنع عن النمر الطعام في بعض الأحيان حتى مع تنفيذ النمر لطلباته، متعللاً بأنّ النمر لم يتقن تنفيذ المهمة، فكان النمر يتدرب على طلب مروضه طيلة الليل حتى يتقن العمل، وينال نصيبه من الطعام، حتى وصل به الأمر إلى أن قلّد صوت الحمار. ولعل الكاتب أراد من توظيف هذا الحدث أن يرمز لنا عن أمر آخر، وقد دلّ على ذلك خطاب ألقاه أمام النمر، وطلب من النمر أن يصفق له، مع أنّ النمر لم يفهم شيئًا، وكأن الكاتب يحاول أن يصف مراحل ترويض الشعوب، والإمساك بهم وتوجيههم

لشخصيات في قصة النمور في اليوم العاشر تنقسم الشخصيات في القصة إلى قسمين: شخصيات رئيسة، وشخصيات ثانوية كانت تتمثل بالمتدربين، واقتصر دورهم على الضحك من النمر ومراقبة أستاذهم، أما الشخصيتان الرئيستان فتتمثلان بالمروض والنمر، إذ شكّل كل منهما رمزًا، فالمروض رمز للسلطة، أمّا النمر فرمزٌ للشعوب، فكان المروض يستعمل حيله على النمر من أجل ترويضه للعمل في السيرك أمام تلاميذه، وكان النمر يقاوم في البداية لكنه استسلم عندما نفّذ أول طلب للمروض وهو الوقوف عندما يطلب منه ذلك. لم يكن المروض يستعمل العنف الجسدي في ترويضه للنمر، وإنما كان يستعمل الحرمان من الطعام، مما يؤدي إلى عنف نفسي وهو تفتيت كرامة النمر وعنفوانه اللذين كانا يمنعان النمر من العمل في السيرك، لكن بعد أن استطاع المروض أن يهدم كرامته، ويربط أفعاله بمقابل وهو الطعام، أصبح نمرًا من ورق على حدِّ تعبيره فلم يعد يملك من أمره شيئًا.

الزمان في القصة في القصّة الزمان غير واضح، ولكنّه معلوم من حيث الأيّام التي تمر، فهي عشرة أيّام في وقت مجهول تمر على النمر والصيّاد، ولكنّ الزمان غير معلوم، وكذلك الأيّام ليس لها أسماء بل أرقام. كأنّ زكريا تامر أراد أن يقول من خلال هذا الجو الذي وضع القارئ فيه إنّ الأيّام في السجون ليس لها قيمة إذ هي أيّام تمضي لا فرق فيها بين اليوم الأول والثاني والثالث والعاشر وهلمّ جرًّا. مثلًا يقول: "في اليوم الثاني أحاط المروض وتلاميذه بقفص النمر" ثمّ يقول:" في اليوم الثالث قال المروض للنمر: إذا أردت اليوم أن تنال طعامًا، فنفذ ما سأطلب منك"،] وهكذا يمضي في باقي الأيّام، فلا يسمّيها ولا يذكر الزمان سوى بالأرقام. الأمكنة في القصة بالنسبة للمكان في القصّة فلا يذكر زكريا تامر ذلك المكان على وجه التحديد، ولكنّه يذكره من حيث كونه مكانًا مُغلقًا مجهولًا غير معروف، فالمكان هنا مقسوم إلى ثلاثة أقسام: الأوّل هو الغابات التي لا تظهر سوى في المشهد الأوّل حيث يُصطاد النمر فيها، وفي اليوم الثامن حينما يتذكّرها النمر. تمثّل الغابات الحريّة؛ فهي الوطن الذي يعيش فيه الإنسان بحريّة، أو هي الأرض التي كان يعيش فيها الإنسان قبل اعتقاله، إضافة للغابات هناك مكان القفص، وهو أطول الأمكنة التي تدور فيها أحداث القصّة، وهو يمثّل المُعتقل، أو يمثّل الوطن الذي تحكمه السلطة القمعيّة. القسم الثالث من الأمكنة هو المدينة، وهي الوجه الآخر للقفص، فالمدينة التي تحكمها الأجهزة القمعيّة هي قفص بالنسبة للإنسان، وهو ما يقوله زكريا تامر صراحة في السطر الأخير من القصة. يقول زكريا تامر في قصة النمور في اليوم العاشر متحدّثًا عن الأمكنة فيها: "رحلت الغابات بعيدًا عن النمر السجين في القفص، ولكنه لم يستطع نسيانها"، ثمّ يقول: "حدّق غاضبًا إلى رجال يتحلّقون حول قفصه، وأعينهم تتأمله بفضول ودونما خوف".يقول في نهاية القصة: "وفي اليوم العاشر اختفى المروض وتلاميذه والنمر والقفص؛ فصار النمر مواطنًا، والقفص مدينة".

***

ا. م. هديل عادل كمال

الخطاب الشعري يسير في عدة مسارات، تحمل هواجس أعماق الذات المبعثرة في عدة اتجاهات متعددة في مديات الحياة المتوحشة تجاه الانتهاكات الصارخة ضد الحب والانسان والوطن، في البوح الصادق في مشاعرها الانسانية الموجعة من خلال الصور الشعرية الباذخة المعنى والمغزى، في إشاراتها ودلالاتها في مدى اتساع المعاناة بين فتنة الحب الواسع، وبين خيباته التي تتكسر على صخرة الواقع والوجود، ولا تترك مجالاً للحب ان ينتعش ويتنفس الصعداء في الوجود، بل تترك مجالاً واسعاً في الاحباط والهزيمة، لأنه لا يمكن اتساع رقعة الحب، ان ينمو ويكبر في أرض الجفاف واليباب، وفي ظل الانتهاكات الصارخة، هذه الابتهالات الشعرية الحزينة، تملك ارث فكري وثقافي واسع المدى في مناحي الحياة وبوصلتها الفاعلة، يضعها في مجهر الحقيقة المرة وتحت الشمس، كما هي في أرض الواقع والوجود، بدون تزويق ومماطلة، بل يكشفها كما هي من رحم الشقاء والمعاناة، في لغة شعرية شفافة في رشاقتها اللغوية والشعرية في هالة الكلام البهي، الذي يحمل بريق في جمالية اللغة الشعرية، في انزياحات متنوعة تملك الإحساس العميق الداخلي لمعطيات الواقع المأزوم في كل جوانبه وفي الصدى والانعكاس، تملك المنصات التعبير الشعري الخلاق الابداع في الخيال الفني، وابتكاراته في الصياغة الشعرية والفكرية، رصينة التناول . رغم مرارة الالم، يضع القارئ في جمرة الواقع الملتهب في عدة اتجاهات ويدحرجها اليه، لكي يدرك عمق الازمة الحياتية المتشعبة، عتبات النص الشعري تحمل رؤى الرومانسية الحب الحزين في الحنين والشوق، وبين الواقع المأزوم والجاف، الذي يعزف في الرمال أو في الفراغ، لكي تكون فيه الانسانية ضحيته في الانهزام والخيبة، رغم عنفوان في الحب في بريقه العشقي، المشع في الذات والعام، وفي لوعتة الحزينة، التي عيونها تتجه تجاه الوطن الذي يغوص في الحرمان والانتهاك، في سبيل توجيه طعنة الى الحلم والامل حتى ينزف الحب بالدماء والحرمان . تغريدات شعرية في ابتهالات الحزن في القلب الشفاف ومتوجع، الذي لا يجد صدى مسموع مهما كانت فتنة الكلام، لكنها تغوص في ظلام الواقع وطريقه المسدود، ولكن يبقى الحب حياً لا يموت، مهما كانت المعاناة والشقاء الإنساني في دوامة الصراع بين الموت والحياة .

×× عينات من الديوان الشعري .

1 - الطفولة من رحم الحرمان ،

الطفولة المحرومة من حقها الشرع في الحياة في زهرة برائتها الساذجة والمتواضعة، لاشيء مضيء للطفولة، سوى الإهمال والحرمان، تعيش ايامها السوداء في الجفاف، يغطيها غبار الحزن والشقاء في حضرة المعاناة الواسعة .

تَلِمُّ طفولةً سوداء

فوقَ سريرِ غربتِها

وشالاتٍ من الحزنِ

تعتقُ فيه مِحنتَها

فيا صَمتا

يفَزِزُ صَمتَ دَمعتها

ويا صَوتا

يُؤرق نومَ لُعبتِها

فلا ضَوءٌ يبللها

ولا تَغريدَ أصحابٍ يُعابثها

تبيحُ لنفسِها عُذرا

وعذرا يُزني غَصّتها

فيجهِضها زِحامُ العَزلِ

شوكا فوق شَرشفِها

فيكسرُ روحَها البلورِ أشلاءً

واوجاعا من القهرِ تبعثرُها

ليبني من براءتها

2 - زهرة فتنة الحب والعشق في عسل الكلام الشعري، في مطر الشوق والاشتياق والهيام، في تعابير عذبة في العشق والهيام في شقين في تصاعد النسق إلى الأعلى، وكذلك والنازل الى الأسفل وهي ،

× × حينما ينهمر مطر العشق والاشتياق، تتصاعد انفاسه اللاهثة لتعزف على مزامير الحب في فتنة اسطورية في يواقيت الكلام، في تعابير عذبة في انفاسها وهيامها . في التماهي في غسيل القدمين المعشوق .

حينَما الحِكْمةُ باتَتْ

في فِراشي ذاتَ لَيلَةْ

اَهرَقَتْ خُصلةَ ضَوءٍ

من يَواقيتِ الكَلامِ

فوقَ قلبي ولِساني

فَتَغَطّيتُ بِشَمسٍ

ظِلُّها أَحْلى الكَلامِ

**

حينما ينزف يومي بغزارة

اتماهى

ناعماً كالمطر المفتون بارض

لأغسل قدميكِ

×× ولكن حينما تهبط انفاس الحب نحو الاسفل، لتلوك لوعة ذكرى تجرح القلب، كأنها تودع حبها الخائب .

حينما أفقد جمارَ حضوركِ

تتداعى كلَّ تقوى كلماتي

لم أعد أقدرْ أن أغري القصيدة ! .

3 - مراثي الحب:

حينما تنكشف الاقنعة عن  حقيقتها الاجرامية، لتدلل بدون ادنى شك انها حقاً قلباً وقالباً من سلالات الشيطان، أولئك الذين امتطوا صهوة الواقع، واصبحوا اصحاب الارهاب الشرعي، في فتاوى الدم التي أصبحت شريعة وناموس، تعلو على كل شيء، لكي تنتهي كل الكلمات والحروف، فلا شيء يعلو  سوى مجازر ودماء .

انتهت كلّ الحروف

لا مواويل مجازر

لا مهاميز مراثي

لا ينابيع فواجع

لا بتولات انفجارٍ

لا سديم لا رماد لا دمار

...لا ولا حتى غبار

صَهَلَ القردُ وأثنى الجَحْـشُ وامتدّ الدخانُ

فوقَ غاباتِ البداية

سُمِلَ الأفقَ وأغفَتْ ذاكرة

4 - المال الحرام:

حينما يكون كل انشغال أصحاب السلطة والنفود . في شريعة النهب العمياء، لتصبح اعراساً للخيانة في بهاء بهرجتها المفتونة للمال والنفوذ في السحت الحرام . فيعلو صدى البراغيث، لكل ذميم في الأخلاق والسلوك ليصبح فعله حلالاً وشرعاً، لكي يغتال المنطق والقانون . ويصبح الواقع والوجود عبارة عن سوق النخاسة في الاتساع في الأفق.

وإذا لامستمُ السلطةَ يوماَ فاستحموا

من زلالِ الهاوية

او تضمخْ بالعماءِ

فهوَ حَدُّ الزانية

فالوضوء باختزالات الحلال

سيكون بالحلال

كل شيء بالحلال

فالزواج في شفاعات الفتاوى

بالحلال

والدجاجُ بالحلال

والخياناتُ نذور في مضافات التملك

بالحلال

وليالي الرقص حتى مطلع الفجر المعنى

بالحلال

والخمورُ، وبشرط الستر في حكم البلاء

لذة للشاربين

بالحلال

والقمار تحت اقواس التعري

بالحلال

انما المالُ احتشاما

كرفيفِ اللَذَّةِ المخبوء في سوقِ النخاسَة

5 - ايها الوطن .... عد إلينا:

الوطن المشرد في أرض اليباب والجفاف، تصبح المدن والديار عرضة للتخريب والعبث . في العراق الذي كان قديماً أصل الحضارة والتاريخ المجيد، يصبح غابة وحشية تتحكم به الذئاب البشرية، وزعيقها لا ينتهي، مع هذه المحنة المتشظية، تراود الروح الحلم والحب، أن يخرج الوطن من النفق الى نور . وتعود الصباحات الجميلة تبدأ بالصباح بذكر الحكيم، واغاني فيروز الصباحية، وتعود السماء الصافية، تحلق بها أسراب الحمام والطيور في بهاء النهار الآمن، في اغاني الغزل فوق سطوح الحارات، وتعود البسمة بدلاً من الدموع . ويعود الشهداء أحياء .

أَيُّها الوَطَنُ المُشَّرّدُ في الوَطَن

سِعَةَ الصَّدرِ اَعِدْ لِي

ابتساماتي، هُدوئي

واِهتِـماماتي الصَغيرة

اِبتِداءَ الصُّبحِ بِالذِّكرِ الحَكيمِ

وَشَذى أنغام فَيروز

وساعاتِ الّزِحامِ

هَمرَجاتِ الزُّمَلاءِ الطَّلَبَة

وَمِزاحي للصغارِ

ضِحكَةَ الجّارِ البّهيَّة

حِينَما يَشتِمُ “عَمُّوديَ” اَسرابَ الحَمام

غَزَلَ الصِّبيانِ في حارَتِنا فَوقَ السُّطوحِ

***

جمعة عبدالله – كاتب وناقد

النزوع إلى فضاء الأعالي والهروب من عقدة الأرضي

توطئة: إن الوقوف على دلالات رواية (البارون ساكن الأشجار) للكاتب الإيطالي (إيتالو كالفينو ـ ترجمة أماني فوزي حبشي) ما هي إلا الحدود الدلالية الخاضعة إلى (فعل المحفز) وطريقة تشكله المتقن عبر إمكانية أخاذة للإيحاء بذلك الرمز التمردي الذي غدا بذاته كعلاقة متجاوزة في الهوية والانتماء والحلم بالنزوع إلى ذلك السطح الفضائي من حيز الوازع المكاني من أغصان الأشجار. النموذج الشخوصي هنا والذي يتمثل بالشخصية (كوزيمو) هو في الأصل أبن تلك العائلة الارستقراطية التي ترعرعت في ظل النياشين والأوسمة العسكرتارية، لكننا عندما نبحث في مكونات هذه العائلة نجدها محكومة بأحلام العهود القديمة الكولونيالية وفتوحاتها المتحدرة من طموحات عميقة بالهيمنة والسطوة المستخدمة حتى على مجرى واقعها الحياتي واليومي من تقاليد الأسرة. في ظل هذا وذاك غدا لدى الشخصية كوزيمو حب التمرد على شرائط سلطة العائلة الكولونيالية، لذا كان فعل التمرد وطريقه إضافة نوعية وجادة، حينما تكون معايير الحرية خروجا وانتصارا استثنائيا، وعلى هذا النحو اختار كوزيمو موطنه الفردي فوق ووسط الأجزاء العلوية من الأشجار، موضحا لشقيقه السارد المشارك، جملة تفاصيل تتلاحم في قوة علاقتها الدلالية بمفاهيم (العصيان ــ التمرد ــ الحرية) وللتعبير بدقة فإن موضوعة الرواية متراصة وإشارات وتراكيب مؤولة تنتخبها الأدوار الفعلية في تفاصيل مرويات السارد المشارك.

المنظور السردي بين موقع المبأر والشواهد في وجهة نظر السارد

يبدو أن آلية الوصف سيد الموقف في فقرات ووحدات الرواية، والملفت للنظر أن الوصف لجل الحالات المكانية والزمنية والشخوصية يتنامي بين (الحركة ــ السكون) وهذا الاختيار وإن كان مناسبا لطبيعة الموضوعة الروائية التي تجعل من وجبة طبق الحلزون المقرونة، سببا قاطعا في حروب كوزيمو فوق موطن الأشجار، إلا إنه بداية تشكل الفعل التمردي على شقيقته التي كانت تطبخ ما يحلو لها من أصناف شتى من الأطعمة المقززة بالنسبة لكوزيمو وشقيقه. ولعل القارىء عندما يقرأ تفاصيل الأحداث في الرواية الثلاثية (السلافنا) يكتشف أن هناك جملة واسعة من الأسباب التي تجعل البارون كوزيمو يباشر فعل ذلك الانتقال فوق الأشجار، امتثالا للمعنى التمردي على تقاليد وأعراف حيوات تلك الطبقات الأيديولوجية الراسخة في الانتقاء الموضوعي.

1ــ الذات الساردة وتشييد مسافة الاتصال السردي:

ربما تعكس العلاقة القائمة بين الإنتاج بالواقع المتبدي للذات الواصفة وأفعال الأواصر (الزمنية ــ المكانية) فعلا كبيرا في امتلاك الماثلات من المواضع النصية، فعلى سبيل المثال، ندرك حقيقة إطار الزمن من خلال محددات المدار السياقي في مثل هذه الوحدات: (كانت المرة الأخيرة التي جلس فيها أخي كوزيمو معنا هي يوم الخامس عشر من يونيه من عام 1767 . . أتذكر هذا وكأنه حدث اليوم. /ص9 الرواية) إن حالات الخطاب تتأسس على صعيد (الماقبل ــ المابعد) لتبرز لنا جملة مؤشرات من التركيز بين الذاكرة ــ المعاش، بين إطار تفاعل السارد الاستذكارية وترتيب الأحداث وتسلسلها. وعلى هذا النحو تتحرك المشاهد المختلفة زمنيا. لكن الواصلة الدلالية تبقى حدثا مركزيا يظل تستوعبها الذات الساردة ضمن صيغة الحكي موضوعا للتفكر والتأمل، كما الحال هنا: (كانت عائلتنا تجتمع على مائدة الطعام في تلك الساعة للمحافظة على تقاليد العائلة القديمة، على الرغم من شيوع الموضة القادمة من البلاط الفرنسي. /ص9 الرواية) لعل المسافة الزمنية الواردة هنا، تعرفنا بحجم الوقوف على التمفصلات الزمنية، ومن ضمنها يمكننا معاينة المرحلة الحاضرة في التسلسل على صعيد سلوك الأفراد.

2 ــ عقدة التمرد والكشف عن تجليات الانتقال:

لعل زمن الخطاب الروائي لا يقدم زمن ولادة الإشكالية المعاينة في سلوكيات الشخصية كوزيمو، إلا في ذات دائرة الحكي بشكل أكثر تشخيصا: (أتذكر أن الرياح كانت تهب من جهة البحر. . وتحرك الأوراق، قال كوزيمو: لقد قلت أنني لا أريده، يعني أنني لا أريده ! وأزاح من أمامه طبق الحلزون، ولم يحدث قط أن شهدنا تمردا أشد من ذلك. /ص9 الرواية) ولو قمنا بتحليل دوافع الرفض لدى العامل الشخوصي، للاحظنا مدى السمات والخصائص التساؤلية عما يخفيه هذا الرافض أبدا؟. في الحقيقة يثير التوجه التمردي لدى الفاعل الشخوصي عدة عناصر، أولها ، كونه يعبر عن السياق اللاملتزم بالطبقة السياسية التي تتبعها تقاليد العائلة الارستقراطية من النفوذ والغطرسة، أما السبب الآخر فربما يمكن في أن الشخصية دليلا على صعيد السعي في تجاوز التابو ونمطيه السائد والأكثر شيوعا في تقاليد العائلة الصارمة على كاهل أفرادها.

3ــ الوصف والمخبوء من هجرة الأرضي:

يجد الشخصية المحور ــ كوزيمو ــ حدود العنف التقاليدي على أقصى درجاته ضيقا على حياته كفردا رافضا لجل الممارسات في مشهده المنزلي.. لذا بات يشكل في ذاته الجو المجتمعي في سلوك والديه، العبودية والاضطهاد في عينه: (بعد قليل ، رأيناه من النافذة وهو يتسلق ليصعد على شجرة البلوط. /ص20 الرواية).

ــ تعليق القراءة:

إن آليات السرد الروائي في رواية (البارون ساكن الأشجار) ذات علاقات وصفية موحية، فهي من جهة غاية في الأهمية تترجم لقارئها مستوى الوصف وهو يقدم المحاقبة الزمنية بين (الرؤية ــ تدفق الأحداث) غير أنها أحيانا تبدو عبارة عن حالات في معرض زمن السرد ليس إلا. كما وهناك جملة واسعة من مدار الأحداث، ما تكشف لنا بأن الشخصية ــ كوزيمو ــ حقيقة قادرة على النفاذ من هموم وأعباء مظاهر قيود العبودية وأغلال تفاهات عنصرية التسييد إلى فضاءات الأعالي حيث ممارسة حرية جذور الفرد الشخصانية بعد قلب جملة مظاهر ذلك الرجل الارستقراطي الذي يتخذ من الأرض ومخادعها عنفوانا له على من يطفون عليها من الكائنات الآدمية الضعيفة. . هكذا تتضح دوائر المفارقات والتناقضات التي تملأ المسافة الفاصلة ما بين (فضاء = الشخصية المحور / الأرضي = الحلزونات في المخزن = وهرطقة البارونات وتحالفاتها وخصوماتها) ومن خلال كل هذا يتضح أن فكرة الرواية هي مغامرة الخروج من جحيم الداخل الأرضي الذي يجسد حيوات الأوهام النبيلة، فيما ظل البارون كوزيمو يعلن حريته الظاهرية بين فضاء رفيق أعالي الأشجار هاربا ومنتصرا على نقنقة التقاليد والأعراف والأغراض المحنطة في مداليا النياشين وأحقاد وأضغان ملامح وجوده الأجداد الأسلاف اللذين رحلوا وأصفرت تعابير وجوههم مع ما تراكم عليها من غبار وحشرات ليلية واخزة.

***

حيدر عبد الرضا

المتن الروائي يتحدث عن أحداث الدراماتيكية حدثت فعلاً في فترة حكم البعث، وجاءت بشكل عمل توثيقي وتاريخي وبكل الادلة المتوفرة (مدونات. وقائع، وثائق، خزين الذاكرة. مشاهد عملية وحياتية، أفعال ظاهرة الى غير ذلك) لتكون شهادة عيان للنهج الشوفيني والإرهابي في سلوك البعث المتسلط في البطش والتنكيل لجموع شرائح المجتمع العراقي عامة، وخاصة الشريحة الاجتماعية الاكراد الفيلية التي وقع عليها العبء الاكبر في التهجير وسحب الجنسية العراقية، وتعرف عن هذه الشريحة الاجتماعية حضوراً فعالاً من النشاطات المتنوعة في الجسم العراقي، في نشاطاتها السياسية بصبغة وجهة نظر تقدمية متنورة تصب عكس عقيدة البعث الفاشية ونهجه الارهابي، كما أنها برزت بالشخصيات البارزة والمرموقة في النشاط الحياتي والتجاري والعلمي والأكاديمي، وكذلك انتمائها الى اليسار العراقي. لذلك هم بالضد من الاسلوب الارهابي المستبد في طغيانه في فرض عقيدة البعثية بالقوة والاكراه على المواطنين، وخاصة بعد استلام (صدام حسين) مقاليد السلطة بعد ارتكاب المجزرة الرهيبة في قاعة الخلد، ضد مئات من القيادات والكوادر البعثية المتقدمة. وبدأ يدخل العراق في نفق مظلم لا مخرج له، بتصاعد الهجمة الشوفينية في إسقاط الجنسية والتهجير الاكراد الفيليين، وزج شبابهم في السجون والزنازين للابادة الجماعية، بدأ بقراره الشوفيني الصادر من مجلس قيادة الثورة عام 1979 الذي يقول صراحة (تسقط الجنسية العراقية من كل عراقي من أصل أجنبي) بحجة التبعية الايرانية، والمعروف ان الشعب العراقي حسب الوثائق الرسمية منقسم الى فئتين، التبعية العثمانية والتبعية الايرانية، وبعض العراقيين للهروب من التجنيد، سجل أنه من التبعية الايرانية. والهدف الواضح بأن شريحة الأكراد الفيليين معروفين بشكل عام بالتوجه الى الايديولوجية التقدمية، وحتى يتخلص (صدام حسين) منهم حتى يفتح الطريق للتسلطه الطاغي، ولم يكتفِ بهذا فقط في نهج الارهاب وانما طارد تجار الشورجة وهو اكبر سوق في بغداد يديره الاكراد الفيلية بشكل عام. والحدث السردي يتطرق باحداثه اليومية، يتعقب هذه الظاهرة الشوفينية من كل زاوية، ويتوغل في عمق محنتها وازمتها المريرة في مأساة التهجير بشكل فظيع ووحشي، في معاناة قاهرة لا توصف، لتجعل العراق ينزف بجراحه المؤلمة، أن تكون حياة المواطن مهددة : اما بالسجن أو التهجير، من اجل تكريس كرسي القائد الاوحد، الذي نصب نفسه الرب الاعلى، أو رب الارباب الذي يمنح الموت والحياة كما يرغب ويشاء، وبرعونته المجنونة والمتهورة والحمقاء، ثم يلوح شبح إعلان الحرب ضد ايران، ليحرق الحرث والنسل، بحرب مدمرة لا الناقة والجمل فيها ولا مصلحة للشعب في اشعالها، وانما هي رعونة جنونية لإشباع نفسيته المريضة المصابة بمرض جنون العظمة أن يلعب بمقدرات ومصير العراق ويدفعه الى التهلكة، الحدث السردي يلاحق السيرة الحياتية لشخصية (إجباري) في رحلته الحياتية الطويلة والمعقدة. كان منذ طفولته يمقت اسمه (اجباري)، لأنه محل تندر وتهكم واستهزاء، فطلب من أمه أن تغير اسمه، لأنه لم يعد يتحمل. فاخذته الى المحكمة لتغيير الاسم وأصبح اسمه الجديد (نوح) تيميماً ب (نوح) القديم الذي أنقذ الناس من الطوفان، ولكن (نوح) الجديد هل يكون قادراً على إنقاذ الناس من طوفان البعث المدمر؟ هذا ما يحاول أن يفسر ويحلل في عتبات الحدث السردي أن يلاحقه ويتابعه في التفاصيل اليومية الدقيقة عبر سيرته الذاتية الطويلة، وهي سيرة مصغرة من سيرة العراق الكبرى. ولادته في مدينة العمارة (ميسان) مدينة الطين والماء والانسان البسيط المتواضع والسخي والكريم، تدرج (نوح) بكل جدارة وتفوق في الدراسة والتعليم من المدرسة الابتدائية حتى حصوله على شهادة الماجستير ويتطلع الى الحصول على الشهادة العليا الدكتوراه، ولكن يجد نفسه يدور في حلقة الأحداث اليومية العاصفة، التي تعمل على تحويل الناس الى كبش فداء للإرهاب والحرب، ان ينحني أمام العاصفة المدمرة، وانشغال الناس بقلق عن مصيرهم (ولماذا أهتم به، ولأي شيء ؟

 - الموضوع سيدي يتعلق بالحرب

 - أي حرب !

الحرب الي ستشتعل قريباً) ص97. هذه الطعنة القاتلة ترتكبها السلطة البعثية والقائد الارعن المصاب بجنون العظمة، ان يقود العراق من حربٍ الى حربٍ، سواء في الداخل أو في الخارج، بأسلوب شوفيني عرقي صرف. والمواطن المسكين والضعيف يتلقى الطعنات القاتلة تحت سيف البعث، وكل الابواب مسدودة في وجهه، أين يذهب وأين ويلجأ، هل هناك مأوى أو وطن آخر (وهل لي وطن آخر، غير هذا الذي أنبتني كأعشاب البراري، ولوحتيني شمسه السخية، ولفعتني ريح السموم، فأحرقت ونضج جلدي، كما تنضج جلود الكفار في نار جهنم، هناك في كل مكان آثار أقدامي، وعلى تراب واوحال الازقة، اعيدوا لي أحلامي، حينما كنت اغفو كفراشة تحت أفياء نخيل البساتين في عواشه، والجدة، اعيدوا لي همساتي العاشقة للنهر وولهي الحزين المجنون بليل ميسان) ص144. ومن مهازل سلطة البعث، في توجيه التهم الى المواطنين، وتقديمهم كمجرمين الى محكمة الثورة السيئة الصيت والسمعة، ان تكون الاحكام معدة سلفاً، ولا يحق للمتهم أن يختار محامي يدافع عنه، بل المحكمة تعيين محامي، يقوم بدوره تأييد الأحكام الصادرة (- لأنه لا يحق للمحامين مستقلين القيام بذلك

 - وهل يستطيع حقاً أن يقوم بواجبه كما نبغي

 - هنا تكمن المشكلة، لأنه في المحاكم يجب أن يتصرف محامي الدفاع كالمدعي

 - كيف ستتحقق العدالة إذن !

 -لا أهمية لذلك في محكمة الثورة) ص225. ازاء تدهور الاوضاع الى الأخطار الجسيمة في سلطة تدار بعقلية شوفينة حمقاء مهووسة الى الارهاب ونزيف الدماء، وجد (نوح) نفسه عاجزاً في الإنقاذ الناس كما فعل (نوح) القديم، لذلك وجد أسم (نوح) غير ملائم ومناسب أمام الأهوال والمصاعب التي تصيب الناس بشكل غريب وغير عقلاني، وانه مجبر على الرضوخ، لذلك وجد اسمه القديم (اجباري) اكثر واقعية و ملائم ومناسب لهذا المناخ المتوحش، لان كل الناس مجبرين بالاجبار على الاحباط والرضوخ والهزيمة، لذلك تقدم بطلب الى المحكمة في العودة الى اسمه القديم (- لا يهمني... لم أعد أهتم بذلك. إنما جئت لاعرف هل استطيع أن اعود لأسمي القديم اجباري؟

 تفاجأ القاضي بسؤاله، وظل صامتاً لا يجد جواباً.

 - ألم تسمع السؤال، هل ينبغي عليَّ ان اعيده عليك؟

- ولكن لماذا تريد أن تغير أسماً اخترته أنت، وصار الناس يعرفونك به.

- لأنه لم يعد يناسبني، ولا استحقه) ص325.

***

 جمعة عبد الله

هذه الرواية التي أتحدّث عنها فيما يلي، هي واحدة من 450 رواية كتبها وألفها الكاتب جورج سيمنون (1903-1989)، إضافة إلى مائة ألف من القصص القصيرة، وسيرة ذاتية وقعت في عشرين كتابًا!!. لقد قُرئ سيمنون في العديد من لغات العالم، بما فيها لغتنا العربية، واعتبر من أسرع الكتّاب تأليفًا ومِن أغزرهم إنتاجًا. ومن طريف ما يُذكر عن سرعته في الكتابة (كان يكتب خمس روايات في الشهر أحيانًا)، أن صديقه الفريد هتشكوك، مخرج أفلام الرعب الشهير، سأل سكرتيرته ذات زيارة لمكتبه عنه فأجابته إنه دخل لتأليف رواية، فما كان منه إلا أن نظر في ساعته وقال إنه بإمكانه ان ينتظره.. وجلس ينتظر..

عرفتُ روايات سيمنون، وهو بلجيكي المولد، فرنسي القلم، أمريكي المهجر، عالميّ الوطن، منذ سنوات السبعينيات عندما قرأت عددًا من رواياته أذكر منها "الساحر"، وقرأت له فيما بعد عددًا وفيرًا من الروايات لعلّ أهمها " هذه المرأة لي" التي تسبّبت بترشيحه لجائزة نوبل الادبية، فاخطأته الجائزة، وأكسبته الرواية محبة القراء في أنحاء مختلفة من العالم.

تعتبر رواية الابن رسالة طويلة منذ بدايتها حتى نهايتها، يوجّهها والد إلى ابنه، ويسرد عليه تاريخه العائلي، المتذبذب بين الفرح والحزن، ابتداءً من جدّته وجده، اللذين تبدأ الرواية بتصوير رحيلهما واحدًا وراء الآخر، ثم تنتقل إلى الوالدين، وهناك صفحات رائعات في الرواية حول تعرّف كلّ منهما على الآخر، بعد إصابة الاب بنزلة رئوية وانتقاله لتلقّي العلاج، منتقلًا من جبهة القتال، إلى المستشفى، وهناك يتحدّث الاب، في رسالته الطويلة إلى ابنه، عن تعرّفه على والدته وارتباطه بها.. بعد أن يقع في غلالة حبها.

الرواية تتحدّث عن جيل الحرب، ذلك الجيل الذي شهد أهوالًا مُرعبة، ويرصد التحوّلات التي عاشها الآباء، وتلك التي عاشها الابناء، ويتوقّف عند معنى الابوة، مازجًا بينها في إطاريها العام والخاص:" إنها قصة قديمة تتكرّر كلّ جيل، الابناء يرقبون الآباء، كما كان هؤلاء يرقبون الاجداد، قرأت ذات مرة عبارة لأحد الكُتاب: ان أبناءنا صورة منّا وأرواحنا تتحدّث على السنتهم! " ثم يقول:" أظنه يؤمن بقضية تناسخ الارواح القديمة ويعتقد أن أرواحنا تنتقل في مدى مائة عام، من الاب إلى الابن إلى الحفيد، تؤثّر فيهم إلى أعماق نفوسهم، يظلّ الحفيد يذكر ما يقوله الاب عن الجد ويراه بعين الخيال يتحرّك أمام بصره حتى إذا ما صار الحفيد أبًا اندثرت ذكرى الجد، اختفت بين طيات النسيان وأصبح اسطورة قديمة بين الحكايات والاساطير، وهكذا تمضي الاجيال موجة بعد موجة كأمواج البحر الذاهبة وتعطي تاليتها الصاعدة ما يجيء بعدها إلى آخر الزمان".

تكشف هذه الرواية عن الوجه البريء للطفولة واليفاعة، ذلك الوجه الذي يريد أن يعرف كلّ شيء وأن يكتشف كلّ شيء، وفي المقابل تكشف عن الوجه المُختلف، بطبيعة الحال، للأب والأم، وما يمكن أن يدور بين الطرفين من مشاعر وأحاسيس متناقضة، والطريف في هذه الرواية أنها تركز على المشاعر والاحاسيس، مبتعدة عن الحَبكة التقليدية، وتكتفي بسرد أحداث تقدّم الابوة في أطرف حالاتها وأجلى معانيها.

ترجم الراوية إلى العربية بأسلوب رشيق الكاتب حسن محمد أحمد، وصدرت ضمن سلسلة روايات عالمية، حاملة رقم 267، إحدى السلاسل التي تصدر عن وزارة الثقافة والارشاد القومي- الدار القومية للطباعة والنشر في أرض الكنانة.. مصر العربية.

***

ناجي ظاهر

كانت بداية اطالة ديوانه الشعري لـ(متحف الندم) كلمات كقطرات الندم ختم بها أوراقه وهي: (في الطريق إلى متحفنا ستسمع هرج الكائنات، فأبدأ رشفتك الأولى من نبيذ العصافير وغني معي)، فكان الاختيار موفق بذكاء الشاعر وفكرهُ الثوري النيّر ليصل بها إلى دلالاته الرمزية بما يبتغيه من نصوص شعرية تجاوزت خمسة عشر نصاً، منها: (فائضُ الخرابِ وبعدْ، الرسام، متحف الندم، الظلام الذي حولك هو الذي دلني إليك، شاعر الخليفة، بغداد والبرابرة، الطريق إلى الجنةَ، الهرطوقي، منفى، أبجد هوز حطي صنمٌ، مذكرات كيس صيني، أبا النهرين، مدن طائرة، نجمة آشور، مدينة الندى). وقد زين الشاعر ديوانه برسومات جميلة ومعبرة من أعمال الفنان فيصل لعيبي.

سأختار من خلال ديوانه الذي وصلني عِبرَ الدكتور باسم العسماوي يوم أمس قصيدة (متحف النَدَم)، لألقي الضوء عليها وفق بساطة معرفتي بالنقد الأدبي والشعر، فليسامحني من احصى عثراتي، فأنا بعيداً عن هذا المجال، لكن أي هدية تصلني لا بد لي من أن اطلّع عليها وأكتب الشيء اليسير عنها، ومن تلك الهدايا ديوان الشاعر المغترب عامر حسن (مَتْحَفُ النَّدَمْ).

قصائد الشاعر عامر حسن تمتلك العلاقة الخصوصية الثورية في أغلب نصوصه، فعرفته ذلك اليساري الماركسي الذي لا يهادن أحداً، فهو عاشق ومتمسك بفكره. وفي قصيدة (متحف الندم) نلمس فيها منطق الشعر السياسي، فيُعبّر عنها ويجسدها في الفضاء النصّي حسب رؤيته الشعرية ورؤياه لهذا الواقع، ففي الصفحات 27- 31 من ديوانه وقصيدته يذكر قائلاً:

أمس واليوم (ما مروا) عليَّ

ليلتان تنتحران..

وضجة من سُكون

رممت كل الهياكل.. والمداخل..

وغسلت الشوارع بقهوة الخبراء

ليلتان بلون البراءة

لم يتبين منهما الخيط الأبيض من الخيط الأسود

من خلال هذه الأبيات يعبر الشاعر عن واقعاً متفجراً، هو صورته الجديدة المغلفة بالترميم لكل الهياكل والمداخل ليتبين من خلالها الخيط الأبيض من الخيط الأسود، فيؤسس عالماً متخيلاً بكلمات أحكم هندستها، ويعلن عبرها عن رؤيته وانتظاراته لفضاء مقبل يستحضره عبر حُلًم يرى فيه نفسه، وهو ما يستوقفنا في هذه القصيدة (متحف الندم)، التي يطلق فيها العنان لأحلامه، ويعرض هواجسه دون قيد، لعله من ضروب التجسيد للبعد الرؤيوي، قد لا يترك هذا الالتزام أثره في القصيدة بما تقوم عليه من عمل تركيبي درامي، تتصارع فيه الأفكار والرؤى، وتتعدد داخله الأصوات وتتنوع الضمائر، كل ذلك في إطار نسق فني أقيم على حركة وديناميكية قد تكونان أساس الشعرية فيه.

مع كل هذه المعطيات يصدح في المتن النصّي صوته ليهيئ انبثاق غنائية تنبجس من هذا الرمز الذي يفصح عن إيقاع الذات الموجعة، بما تحمله من أحوال متناقضة ومتغيرة، لتدل على مَتحفهُ النادم على السفر والرحيل والقلق على جنازة الوطن، مما يجعله ينغمس في وجدانية تخرج عن لونها الكلاسيكي إلى نوع آخر في خطاب قصيدته:

وأنا أغني بلغة الصمت..

وأسمع هرج الكائنات في حُلم بائر

وحيداً أمشط سماءَ الضائعين في نُزهة التقاعد

في تأثيث مقاهي الندم

وحتى لا يفلت مني ويضيع بين الرجلين

لظمتُ ظلي المتخوم بثرثرة الخمر

بإبرة المنتهى

انتظر فمساؤنا مثقلٌ بالخطايا

وأخا عليكَ من شهقة كاتمِ

فمنذ الوهلة الأولى تتشكل في قصيدته هذه الغنائية، وذلك عبر حركة أقوال تنطلق متحفزة، فتميز النص بطابع سردي حكائي تجعلهُ قول متزامن ولحظة الحدث المثقل بالخطايا وشهقة الكاتم. ويستند الشاعر إلى أركان الخطاب ليحضر فيها متحف ندمه شريكاً فعلياً في عملية التخاطب لجواز عالم القصيدة. فيتأرجح وجودها بين الحضور والغياب حتى لا يفلت منه ويضيع بين الرجلين تخوم ثرثرة الخمر.

وفي حركة نصية بين طرفين بفعل الحاضر والماضي ليستحضر متحفه ويخاطب مقص الرقيب الذي كان أول الحاضرين ليقول:

مقص الرقيب كان أول الحاضرين

أباريق من نبيذ جهنم

وأكوام من حلوى الزقوم

الشريط يترنح

تحت وطأة الحمام الرابض على شغاف انتظاره

أبواب المتحف مشرعة

مثل فخذي ثُريا التي أحبها عبد الجبار عباس

الحشود في الطريق إلى متحف الندم

كثيرون اعتذروا

كونفوشيوس ما زال يبحث عن صحراء

كي يرمي فيها حيتان البحر

أفلاطون فضَّلَ البقاء في مدينته الفاضلة

ماركس حتى هذه اللحظة يناور مع قناص الحداثة

دريدا مشغول بتفكيك خلايا الإرهاب

سارتر للتو بدأ اعتصامه فوق الأهرامات

مردداً – ما ابشع الظُلم –

أبو ذر ممنوع الخروج من الربذة

مانديلا يتجول بين عالمين

ميتٍ وآخر عاجز أن يولد

الجواهري حائر في طرطرت الأحزاب الساخرة

سلام عادل ما زال يرسم لوحة الخلاص

من خلال هذا النص تتداخل في كلماته لغة ساخرة معاتبة لواقع حياتنا السياسية والفلسفية، وهذا ما يعزز حضور المنهج الشعري الذي يقيمه على أساس الحركة والتحول من كونفوشيوس إلى ماركس ودريدا وأبو ذر وماندلا والجواهري والشهيد سلام عادل، فالشاعر لم يخرج عن حدود التمثل الذهني فتغدو القصيدة بأسرها مشهداً منقولاً عبر العصور، من زمن أبا ذر حتى زمن سلام عادل، فلم يخرج الخطاب عن حدود التصور والانفعال، فقد وظف الشاعر الصورة الفنية من خلال ذاكرته المتخمة بالتأريخ الإسلامي والحديث، ومعلوماته حول تاريخ الفلسفة، وهي تدل على تمكنّات الشاعر التي تتجاوز أفق توقع القارئ، فلم يعد العنوان بذلك اختزالاً للمتن، بل وسيلة للتيه وتقريب المدلول بقدر ما تدل على التقابل.

وفي لا وعيه يرسم لنا الشاعر فضاءً ذهنياً لا حدود له، وهو يقول كما يقول أدونيس (إضاءة للوجود المعتم واندفاع صوب الجوهر)، فالقصيدة تحمل فيها معانٍ كثيرة، قد توحي من سرعة الذبول إلى الندم، وهذا من شأنه أن يكشف لنا عن عمق مأساة الشاعر، فكشف لنا عن حركة أقوال الشاعر والفيلسوف ويسارية أبا ذر. فتشكلت من خلال ثنائية القصيدة الذي تداخل فيها الغنائي والملحمي، فهي حركة أقوال عبرت عن رؤيا الشاعر:

بائعات الهوى.. لم يبعنَ سوى نصف نهدٍ أثري

الُشاق رزموا بريد العطور واشلاء القُبل

عمال البلدية تعبوا من تدوير نفايات السياسة

البناءون التصقوا بأسمنت... المصايب

الكناسون يحتفلون بمرور سبعة أعوامِ

على رحيل عادل عوفي

السياسيون شيدوا كُناً لدجاج المنطقة الخضراء

وأكتفوا بـ(عاشت إيدك) (وبعد ما ننطيه)

الرأسماليون الجُدد بعثوا باقاتٍ من فاتورات الظلم

الحطابون اشعلوا الحرائق

لتنير الطريق إلى العالم السفلي

المتنبي يفرك عينيه..

(دمعٌ جرى في الربع ما وجبا)

النفري اعتذر أيضاً

لأنه لا يملك نعلاً ولا ربطة عنق حمراء

أمي ومن مقبرة السلام ارسلت عتابها

(غريبة من بعد عينك ييمه)

العرب اعتذروا.. الكُرد اعتذروا

الكلدان.. المندائيون.. الإيزيديون..

الشَبك.. اعتذروا

القطط السُمان.. وواوية الفلسفة.. أبقار الصدفة..

خرفان الانتخابات وكلاب النزاهة... اعتذروا

من خلال مشاهد أبيات القصيدة التي تشكل شعرية الفضاء الذهني واليأس من مستقبل بلدٍ سرق بوضح النهار، فالشاعر كان يتعامل مع الصور اليومية والأحداث بواقعية، فكان يغص بتفجرات مأساوية تعمق لديه النفس التراجيدي الحامل هموم سياسية واجتماعية وثقافية، وهو ما ندركهُ من خلال الانزياح عن المعنى، مما يجعل من (متحف الندم) رمزاً للفكرة التي يقتنصها الشاعر من خلال ذهنيته وقصيدته وهي عبارة عن حركة زمن بين مدٍ وجزر، تستشرف المستقبل وبها يتقاطع الرومانطيقي مع الغنائي لعتاب والدته في وادي السلام في صورة تقلب فيها الأشياء تماماً كالحُلم. وتتضمن الصور الشعرية ملامح بؤس تقابل أخرى دالة على التمرد والثورة، فالشاعر عرفته يحمل في داخله الثورية اليسارية، لذلك دلّ الاستشراف للثورة عن هذا البؤس، ونستشفهُ في ثنايا أبيات قصيدته (متحف الندم)، وهذا ما يؤكده الفضاء الذهني الذي يحتضن المقام الشعري، وفضاء التحرك في صفحات التاريخ والعودة إلى بلده كعاشق يستعير من صور الملاحم وصحائف مسيرة الجمر، فتتشكل الصور الفنية الشعرية لتعيد لذاكرتنا الميثيولوجيا الاغريقية ورماد الاحتراق فقرن فيه الشاعر واقع بلده المتردي، ليستحضر النص الغائب والنص الغنائي للزمن الغابر بأسلوب انشائي:

الموسيقيون دفنوا حتى نوتات الهمس..

وهم يشخرون على رصيف التقيّة

وحيداً مع صوت وحيدة خليل

وهي تدندن بجالغي الحضارة

أمس واليوم ما مروا عليَّ

أمس واليوم ادك واصفك بدية

وحيداً سأفتح متحف الندم

كلهم اعتذروا..

فالكل سائر في جنازة أوطان.

ومن خلال أبيات الشعر اعلاه قادنا الشاعر لحركة الذهن في علاقة وشيجة بحركة إيقاع اغنية وحيدة خليل، لتحرك فينا لحظة الحُلم والتذّكر والرؤيا، فلغة النص في قصيدة النثر تشد الانتباه لما ضاع من الشاعر وطنه فأعتبره جنازة ليستعجل بدفنها فقد زكمت أنف المتلقي رائحتها. هنا أنطق الشاعر اللغة وقد بعث فيها من خلال (متحف الندم) من الصمت وأنطقها من الغياب، وربطها بزمن الحُلم وهو من أهم ركائز الفضاء الذهني، فأخضع عامر حسن الرمز إلى رؤية النص وما فيه من أداء، فتسافر عبر الذهن إلى حيث ربوع الوطن.

***

نبيل عبد الأمير الربيعي

الحلة 11 /10 /2023

 (دراسةٌ بيئيَّةٌ في المُثُل والجَماليَّات)

ذكرنا في المساق السابق أنَّ الشاعر الجاهليَّ حين يشبِّه ناقته بـ(ذَكَر المها/ الثور الوحشي) ثمَّ يعود إلى المشبَّه (الناقة) فإنَّ هذا من أدلِّ الأدلَّة على أنَّ الشاعر، إذ يَستغرق في تصوير الثور، فإنَّما كان يَفْتَنُّ في تصوير (ناقته)، أو بالأحرى تصوير نفسه، وما يقاسيه من شَظَفِ العَيش ومتاعب الحياة، وذلك بأسلوبٍ غير مباشر، يُمعِن في تكثيف عناصر التأثير فيه بهذا السياق الدرامي حول حيوان تستدرُّ صورته تعاطف المتلقِّي،  فضلًا عمَّا تحمله الصُّورة من رمزيَّةٍ خاصَّةٍ لدَى الإنسان الجاهلي، الذي كانت (المها) ضمن معجم القداسة لديه من عالم الحيوان، المرتبطة ببعض الكواكب والنجوم، ولا سيما الشمس والقمر. 

ولمَّا لم يكن الأمر من قَبيل الاستطراد، أو الانقطاع الساذج عن المعنى الأوَّل، فإنَّ الصُّورة في بعض أشعارهم تعود إلى التداخل ضِمن سياق صُورة الثور نفسها؛ فإذا الشاعر يشبِّه أفعال الثور بأفعال الإنسان.  وذلك ما نجده عند (لَبيد)(1)، حيث يقول:

فـتَـداركَ الإشـراقُ باقِـيَ نَفْسِـهِ        

                                     مُـتَـجَـرِّدًا  كالمـائـحِ   العُـرْيــانِ

فحَمَـى  مَقـاتِلَـهُ  وذادَ بِـرَوْقِــهِ        

                                     حَمْـيَ المُحاربِ عَـوْرَةَ الصُّحْبـانِ

شَزْرًا على نَبْضِ القُلوبِ ومُقْدِمًا      

                                     فـكـأَنَّمـا يَخْـتـَـلُّـهـا بِـسِــنـانِ

ومن وجهة نظرٍ نفسيَّة، فإنَّ مثل هذه الصُّوَر المتداخلة تنشأ نتيجة «التكثيف اللَّا شعوري». ويسمِّيها (عِزُّ الدِّين إسماعيل)(2) بالصُّوَر المكتظَّة، التي يقول عنها: إنَّ «هذا التأليف لا يحمل صفةً منطقيَّةً، وإنَّما هو يُمثِّل الصُّوَر الحبيسة في اللَّا شعور، عندما تطفو على السطح في حالة إغفاءٍ من الشاعر، فتظهر في نظامٍ كأنَّه لا نظام».  بَيْدَ أنَّه إذا كان يصحُّ مثل هذا التأويل النفسي في بعض الصُّوَر الشِّعريَّة الجاهليَّة المكتظَّة، فإنَّ البُعدَين الرَّمزيَّ والفنِّيَّ يبدوان- جنبًا إلى جنب- أهمَّ الأسباب وأوضحها وراء الاستغراق في مشهد (الثور الوحشي).  ولذا فإنَّ تلك الصِّلَة الجدليَّة، بين الثور والإنسان، قد نشأت عنها معايير جَماليَّة وقِيميَّة لهذا الحيوان، تمحورت حول الإنسان بجَماليَّاته وقِيَمه، وجاءت أحيانًا صريحة، متبادلة، كما في المثال الأخير.

وأغلب الظنِّ أنَّ (الجاحظ)(3) قد أومأ إلى شيءٍ من هذا، لمَّا ذكر أنَّ الشاعر الجاهليَّ إذا مدح جعل (الثور الوحشي) هو المنتصر على الكِلاب- ونظير ذلك أبيات (الأعشى) السالفة في المقال السابق- وإذا رثَى أو وَعَظَ جعل الثور هو المقتول، «ليس على أنَّ ذلك حكايةٌ عن قِصَّةٍ بعَينها».(4)  فهو بهذا يومئ إلى أنَّ في قَصْد الشاعر شيئًا يتجاوز حرفيَّة صورته القصصيَّة وعينيَّتها، وهو ما يمكن تصوُّره في تلك الرابطة الفنِّـيَّة الرَّمزيَّة المزدوجة بين الإنسان والثور الوحشي.

وعلى قدر ابتعاد العَرَب التدريجي، بعد الإسلام، عن بيئتهم الأُولى، الصحراويَّة والوثنيَّة، لوحظ، في ما وصل إلينا عنهم من شِعرٍ، ابتعادٌ عن هذا النمط من الوصف القديم (للثور الوحشي) وصراعه.  يُستثنى من هذا أولئك الشُّعراء الذين تشرَّبت أنفسهم روح الشِّعر الجاهليِّ وأنماطه، من مخضرمي الشُّعراء، كـ(ابن مُقْبِل، عاش إلى 70هـ= 689- 690م)(5)، الذي عَرَضْنا نماذج من شِعره في المقالات السابقة.  من حيث إنَّ النمط التصويريَّ هنا ليس بوليد البيئة وحدها، بل هو وليد الثقافة الأُسطوريَّة فوق ذلك، ووليد العقائد الطوطميَّة التي كانت سائدة في العصر الجاهلي.  ولهذا لا نجد هذا النمط التصويريَّ عند الشُّعراء الذين عاشوا في بيئات صحراويَّة مشابهة، أو عاشوا في البيئة العَرَبيَّة نفسها بعد الإسلام.  وأمَّا الذين جاء في شِعرهم وصفُ الثور الوحشي- ممَّن عاشوا في فترة متأخِّرة عن صدر الإسلام، كـ(ذي الرُّمَّة) وغيره- فإنَّما اتَّخذوه تقليدًا، في الغالب، لا يتمتَّع بما تمتَّع به الشِّعر الجاهلي من صِدقٍ واقعيٍّ حَيٍّ، ولا تُلمَس فيه هاتيك الآفاق الأُسطوريَّة العتيقة، التي مرَّت الإشارة إلى أنَّها كانت وراء جَماليَّات صُورة الثور الوحشي، بل ليس من المبالغة القول: إنَّها كانت المحرِّك إلى الاهتمام بتصوير هذا الحيوان أصلًا، إنْ لم يكن في كلِّ الأحوال ففي جُلِّها.  ومن ثَمَّ اتَّضح تصاقب الطُّرق في تصويره ونمطيَّاتها، المتأتِّية عن المشترَك الرَّمزيِّ بين الشُّعراء، على الرغم ممَّا قد يظهر بينهم من تنوُّعٍ، أو من تفاوتٍ في تمثُّل الرمز الأُسطوريِّ على الوجه الأوفَى.

***

أ. د. عبد الله بن أحمد الفَيفي

.....................

(1)  (1962)، شرح ديوان لَبيد بن ربيعة العامري، تحقيق: إحسان عبَّاس، (الكويت: وزارة الإرشاد والأنباء)، 144- 146/ 19، 23- 24.

(2)  يُنظَر: (1963)، التفسير النفسي للأدب، (القاهرة: دار المعارف)، 94- 96. 

(3)  يُنظَر: (1965)، الحيوان، تحقيق: عبدالسَّلام محمَّد هارون، (مِصْر: مطبعة مصطفى البابي الحلبي)، 2: 20.

(4)  قد يقال إنَّ (الجاحظ) إنَّما أراد أنَّ الشُّعراء يتوقَّون عادةً ما يثير التشاؤم لدَى ممدوحيهم، فيجعلون (الثور) فائزًا.  وفي المقابل يعبِّرون عن المصير والعِظَة بتصوير مصرع الثور في الرثاء أو الموعظة.  غير أنَّ هذا محض افتراض، ولم يقل الجاحظ بشيءٍ منه.  ولعلَّ تصوير (خسارة الصائد) في المدح أدعى إلى تشاؤم الممدوح.  هذا بالإضافة إلى أنَّ في عبارة الجاحظ ما يوحي بأكثر من ذلك الاستنتاج الافتراضي.

(5)  يُنظَر: الفَيفي، عبدالله بن أحمد، (1999)، شِعر ابن مُقْبِل: قَلَق الخَضْرَمة بين الجاهلي والإسلامي (دراسة تحليليَّة نقديَّة)، (جازان: نادي جازان الأدبي)، 1: 76- 77.

ربما حضر مبكرا، أو يكون صديقاه قد تأخرا عن الموعد المتفق عليه لاعتبارات بات يدركها بسبب تكرارها، لكن وفي الحالتين لا بأس، فصاحبنا قام باستثمار الوقت وعلى طريقته الخاصة وكما في كل مرة. أعدل من جلسته ثم تبعها بأن استل سيكاره من علبة الدخان المفضلة لديه وراح موقدها. بعد ذلك وما إن شعر بحالة من الاسترخاء، نادى على النادل ليؤتيه أو ليسعفه بكأس من الخمر، شارطا عليه وبلغة طغت عليها روح الدعابة، أن يكون كذاك الذي كان يحتسيه في بلاده، بباراتها المطلة على أبو نؤاس. أو كذاك الذي لا زال مذاقه عالقا في فمه، يوم شربه في حاضرة شريف وحداد، فحتى الخمر هناك أطيب. وما أن أوشك الإتيان على مُدامه الأول حتى بدأت تداعيات الماضي تنهال على ذاكرته ولتتدافع فيما بينها، فإحتار صاحبنا في بادئ الأمر بأي منها سيبدأ، حتى إستقر أخيرا على أبعدها رجعا.

ففي أواخر السبعينات كان فتى يافعا. لديه من الفضول ما يكفي ليصغي لما يقوله الكبار. فمثلا وعلى ما وصل مسامعه ومن دون أن يدرك دلالته وما الأسباب التي وقفت خلف هذا القرار، فإن فلان الفلاني، إضطر مغادرة البلاد لأسباب سياسية. وسمع أيضا ما دار من حديث بين كبار عائلته حيث تبادلوا خبرا مفاده، بأن سكنة البيت المجاور لهم، قرروا الإنتقال والعودة بشكل نهائي الى مدينتهم الأصل والواقعة في غرب البلاد. وحين دفعه واعز الطفولة للإستفسار أكثر عن خلفية هذا القرار، كان ردَّهمم أن إكتفوا بإلتزام الصمت، لإعتبارات تتعلق بصغر سنه وصعوبة البوح له بأمر كهذا. وثالث آخر وبعد أن تم إختطاف إبنته الكبرى، الطالبة الجامعية وقرة عين أهلها، وبعد أن عجز عن إقتفاء أثرها رغم ما بذله من جهد، قرر هو الآخر وفي ليلة حالكة الظلمة والوحشة، مغادرة حيّه العتيق ليتجه الى المجهول، تاركا خلفه ذكريات الطفولة والشباب. لكنه وعلى تواتر الأنباء التي كانت تصل أبناء حيّه القدامى عنه، من هنا وهناك، فالرجل ظل وفيا لتلك الأيام التي قضاها، وليحملها على كتفيه أينما حلَّ وإرتحل.

أمّا عن فترة الثمانينات فالحديث عنها ذو شجون وأسى لا يعرف الحدود، فبها إبتدأت الحرب الضروس، وبها إحترق السهل كل السهل، وبها شهدت البلاد سقوط عشرات الآلآف بل قل الملايين من الشهداء، من خيرة الشباب وأكثرهم بسالة، لرعونة طرفي النزاع وإصرارهما على مواصلتها، ليبقى كل منهما متشبثا ماسكا بكرسي الحكم، وتحت ذرائع شتى كالحفاظ على وحدة البلاد والسيادة وصونا لكرامة العباد. وما أن وضعت الحرب أوزارها حتى بانت آثارها وما ترتب عليها من كوارث، طالت الحرث والنسل وكل ما تملك البلاد من موارد وخيرات، كانت تُعَدٌ ذخيرة وإحتياطا للأيام الصعبة وأيام القحط .

ما أن أنهى صاحبنا كأسه الأولى حتى نادى على النادل ليسقيه بأخرى ولتكن أكبر حجما من سابقتها، فأرادها أشد مضاضة بعد أن هزَّه الشوق وذهب به الحنين بعيدا، مقلباً أوجاعه وذكريات الماضي وما حلَّ ببلاده من مآسٍ لا قرار لها. وسيتوقف كذلك عند فترة الحصار وأي حصار ذاك الذي فرضته دول ما يسمى بالعالم المتحضر والخمسة الكبار منهم، المتربعين على عرش سلطة مجلس الأمن، ممن أرادوا للعالم أن يميل كما يميلون.

ما جال في خاطره من أفكار وأحداث وأسماء وهو في لجّة الخمر، سيقوم بكتابتها على شكل رؤوس أقلام، كي لا تفلت من بين يديه، وليعود اليها في القادم من الأيام وهذا ما جرى فعلا. فبعد أن أكمل عدته وبات على أهبة الإستعداد، شرع سنان أنطون بتدوين سرديته لترى النور وتنتشر بسرعة، فكان لي منها نصيبا. وبعد قراءتها والوقوف عليها مطولا، رحت بدوري مسجلا بعض من الإنطباعات والملاحظات والرؤى، مبتدءأً من حيث إنتهى، حيث سَيُورد الكاتب في نهاية سرديته ملاحظة مهمة، أسوة بالكثير من الكتاب وما درجوا عليه، تشير الى أنَّ: النص وشخصياته من نسج الخيال، وأي تطابق أو تشابه في الأسماء غير مقصود.

***

أسمى روايته يا مريم، لعله أراد الإستجارة بالسيدة العذراء، فهو كما أبناء الشرق الآخرين وكما الديانات السماوية الأخرى وعلى ما درجوا عليه من تقاليد وأعراف وتمنيات، آملاً أن تكون له شفيعا ونصيرا عند المصائب والمصاعب، وحين تُغلق المنافذ والطرق، لتأخذ بيده وتشد من أزره يوم أنينه وأوجاعه. ولتقف الى جانبه في محنته ومحنة شعبه، طامعا الى شفاعتها مما يعانونه و يمرون به من عذابات طال أمدها وغار جرحها.

سيختار الكاتب لشخصياته أسماء أليفة على السمع وعلى الذاكرة العراقية وأيضا سهلة على التداول، وتعكس كذلك مدى هدأة المجتمع ومستوى وعيه وإنتماءه وميله الى الإنفتاح والتعاطي مع أكثر الأسماء وقعا وجمالاً وشيوعاً، وإذا أردنا الإستشهاد والتعرف عليها، فلكم منها بعض أمثلة، كيوسف ومها وبشار ولؤي وشذى وجميل ومخلص وجاسم وأسماء أخرى قريبة منها.

لغة الكاتب في سرديته، تداخلت فيها الفصحى المبسطة والواضحة في آن والتي درج البعض على تسميتها بلغة الصحافة، وأظنه حسنا فعل، فللنص أحكامه وشروطه وعالمه. وبين بعض اللهجات المحكية كالبغدادية منها بشكل أساسي، حيث تعكس طبيعة المكان الذي تتحرك فيه روايته، وأيضا لطبيعة العلاقة التي تجمعه بها، بإعتباره أحد سكان العاصمة بل ومتأصلاً فيها. كذلك فهي (اللهجة البغدادية) تُعَدٌ بمثابة القاسم المشترك الأعظم وهمزة الوصل التي لا خلاف عليها، فعندها سيلتقي كل أبناء العراق الواحد وعلى مختلف مناطق سكناهم، من شمال الوطن الى جنوبه، ومن شرقه حتى غربه. وما دمنا نتحدث عن لغة الكاتب، فسيعمد وفي بعض الصفحات الى إستخدام إحدى اللهجات المحلية التي ينحدر منها ويعود بجذوره البعيدة اليها، وأحسبها تنتمي الى ما يتداولونه سكنة سهل نينوى وبشكل خاص إحدى طوائف أهلنا وأبناء جلدتنا من المسيحيين.

وللخوض في نص الكاتب، فلا بأس من أن نأتي على فاتحة سرديته، فمن هناك ستبدأ الحكاية، حيث ستتعرض إحدى العوائل كغيرها الأخريات الى مخاطر جدية، تتمثل بما بات يعرف بالعنف والشد الطائفيين، والتي ستتحول وتتطور فيما بعد لتأخذ شكل حرب أهلية داخلية، ضحاياها وللأسف من كل مكونات المجتمع العراقي. وما كان لها أن ترى النور وتظهر لولا قيام المحتل الأمريكي وَمَنْ دخل معه وعلى مطيته بفتح أبواب العراق لمن هبَّ ودب، من نطيحة ومتردية، ليعيثوا في الأرض وفي الشعب فسادا وينزلوا فيه ذبحا. ففي ظل هذا المناخ الذي شهدته البلاد والعاصمة بشكل خاص، الذي لحقته البلوى وبات ملبدا وملوثا بالأحقاد والإنتماءات المتخلفة، إضطرت هذه العائلة الإنتقال الى بيت آخر لعله يكون كثر أمناً.

وتحت ضغط الظروف الآنفة، إضطر الزوجان، مها ولؤي أن يتخذا من بيت العم يوسف ملاذا مؤقتا لهما، ريثما تعود الأمور الى حالتها الطبيعية. أحيانا وبحكم العيش المشترك ستدور الأحاديث بينهم طويلا، وقد تصل في بعض منعطفاتها الى حد الإختلاف خلال سيرورة النقاشات. فيوسف الذي كان قد عاش حياة حلوة، سيسمع كلاما ثقيلا من مها، إذ دائما ما تتهمه، بالتهرب من الحاضر واللجوء الى الماضي ..... . ليرد عليها وبلغة غَلبت عليها روح الإحتجاج (وما العيب في ذلك، حتى لو كان صحيحا، إذا كان الحاضر مفخخا ومليئا بالإنفجارات والقتل والبشاعة).ص11 . يوسف كان صادقا وصريحا، ففي وجهة نظره هذه سيعلن عن رفضه المطلق للواقع المر الذي يعيشه. في ذات الوقت ودعما لما يحمله من رأي، فسيعقد الرجل مقارنة سريعة بين زمنين وجيلين مختلفين، كان قد عاصرهما، ليثبت وبالأدلة القاطعة ما ذهب اليه.

العم يوسف كان قد ورث البيت الكبير الذي يسكنه من عائلته، ليبقى ويتقاسمه فيما بعد مع شقيقته حنّة حيث عاشا سوية. من ثم ظلَّ وحيدا بعد أن وافاها الأجل قبل سنوات وتصعد روحها الى السماء، بهدوء وسكينة. فوخر لقاء بها يوم دخل غرفتها ظنا منه بأنها قد إستغرقت طويلا في النوم. من ثم راح ممسدا كعادته بيده اليسرى على شعرها الأشيب أملا في إيقاضها، لكن وللأسف فقد كان هذا اللقاء الأخير بها وليودعها الى مثواها حيث الطمأنينة والسكينة الأبدية.

تداعت الأحداث وأيام الماضي على ذاكرته، فها هو الآن يدور البيت غرفة غرفة، مستعيدا بحسرة ما كان يجري يوم كان البيت زاهيا بأهله. وعن تلك اللقطة التي إستغرق فيها الكثير من الوقت دون أن يشعر، يقول يوسف: نظرت الى صورة العذراء المعلقة .... الى اليسار منها كانت هناك صورة لأخي، جميل، الذي هرب من العراق عام 1969 بعد أن أعدموا صديقه بتهمة الماسونية. ص18. بصرف النظر عن الإتفاق أو الإختلاف في إيراد هكذا خبر، وبصرف النظر أيضا عن البعد الإنساني الذي يترتب عليه، الاّ أنَّ التساؤل سيبرز هنا: ماذا أراد يوسف أن يقول؟ هل أنَّ العراق لم يكن آمنا حين مجيء ذلك الحزب وقيادته للدولة في عام 1968 ؟ ممكن بل صحيح والى حد بعيد. ولكن هل كان لأخيه حقا صديقا، على صلة بتلك المنظمة المشبوهة؟ وإذا كان الأمر كذلك فلكل واقعة حديث وموقف، فللوطن حقوقه وللشعب رأياً.

ومن شدة إرتباطه وحبه لشقيقته الراحلة حنّة، فسيستطرد العم يوسف في إستعادة الماضي،. فما من زاوية داخل البيت الاّ وله منها رائحة عطرة. وما من حديث دار بينهما الاّ وكانت لكلماتها حضورا وصدى ساحراً. ففي إحدى المرات وأثناء زيارتها لروما، قد أسرَّت لشقيقها كم أعجبتها تلك المدينة. لكنها في ذات الوقت (كانت دائما تتحسر على القدس التي زارتها عام 1966، تكرر بإستمرار وبلهجتها المحلية: أي شوقت ترجع القدس حتى نقدر نروح للكنيسة).. تساؤل (حنة) آنذاك، كان لا يعكس مدى صدق مشاعرها الإنسانية والروحية فحسب، بل أيضا يُعد إعلانا لا يقبل الشك أو اللبس في طبيعة موقفها وما تحمل من مشاعر وطنية وقومية، فهي لم ولن تنسى يوما، القدس وكنيسة القيامة وفلسطين.

وعلى صفحات أخرى من الرواية، ستتواصل النقاشات وتتكرر، فالدم حار والجروح لم يتوقف نزيفها بل راحت تزداد غورا. وما عاد لسكنة البيت الواحد من موضوع يتداولونه غير الإنفجارات والإغتيالات والسرقات والخطف ووو... . فعلى الصفحة 24 وفي لفتتة تنم عن حس وطني وقراءة موضوعية لما يحدث، سيرد النص التالي: مو بس كنايس قتنحرق بنتي. الجوامع اللي إنحرقت أكثر بكثير، والإسلام اللي انقتلو عشرات الآلآف. لذا فلا تمييز في القتل، فالقاتل لا دين له ولا أخلاق ولا قيم. والعلة يقول آخر في ردَّه على صديقه، محاولا تصحيح فكرة ما بُنيت على خطأ: مو قصة علينا لو مو علينا، بس دولة ماكو والأقليات ما حد يحميها غير الدولة القوية. إحنا لا عدنا حزب ولا ميليشيا ولا بطيخ. وفي صفحات لاحقة سيأتي القول صريحا ومعبرا بصدق عما يجول في بال كل العراقيين: البلد بلد الكل، وبلدنا وبلد أجدادنا...... .

***

في القسم الثاني من الرواية، سيضع الكاتب عنوانا لها أسماه صور، وستكون مادته الأساسية هي تلك التي تم إلتقاطها في خمسينيات القرن الماضي، من بينها على سبيل المثال تلك التي يظهر فيها المبنى الرئيسي لكلية بغداد، حيث سيضمَّ أحد صفوفها مجموعة من الزملاء، وسيمتد بهم العمر ليصبحوا أصدقاءا رغم تنوع إختصاصاتهم وخياراتهم، وسيبقون على العهد ولم يفرقهم لا لون سياسي ولا ديني ولا قومي ولا حتى مناطقي. فها هو سالم ويوسف ونسيم، المنحدرون في أصولهم من ثلاثة أديان موحدة، مجتمعون سوية، في لقطة تعكس مدى إنسجامهم ودرجة سعادتهم.

غير ان موسم الفرح والأيام الحلوة لم يدم وللأسف طويلاً، إذ سيحدث تطورا نوعيا لم يكن في الحسبان. فعلى نحو مفاجئ وبينما ( كان الثلاثة يمشون على شاطئ دجلة، بدا نسيم مهموما ولم يقل الكثير..... بعد إلحاح سالم في السؤال..... صارحهما بما كان يثقل قلبه: يمكن هاي آخر مرة نتشاوف) ص44. إنه الإنعطاف الكبير حيث ستشهد المنطقة تغيرا جيوسياسيا جذريا، سيتم على أثره إعادة ترتيب ورسم خارطة المنطقة، وعلى النحو الذي خططت له وأرادت بعض الدوائر الغربية، بقيادة ما كان يطلق عليها ببريطانيا العظمى. هادفة الى إنشاء كيان مُلفق وتحت ذرائع مختلفة، سيسمى فيما بعد بــ(إسرائيل).

وكي تكتمل الفكرة وينفذ المشروع ومن كل جوانبه وخفاياه، فقد عملت بعض القوى والتي تتمتع بنفوذ واسع، وبدعم وإسناد وتآمر من بعض الحكومات المحلية، على إحداث خلخلة في الأمن الداخلي، وذلك من خلال القيام بحملة تفجيرات رافقتها حوادث قتل، مستهدفة مكونا بعينه والذي يُعد أصيلا وجزءاً لا يتجزأ من الشعب وله إسهاماته المميزة في مجالات عدة كالأدب والفن والسياسة، إنهم يهود العراق، وذلك للضغط عليهم وإجبارهم على التوجه القصري نحو تلك البلاد الملفقة.

وفي لقطة على غاية من الأهمية، سيشد الكاتب أنظارنا الى موضوعة النخيل وما يشكله من أهمية في حياة العراقيين وذاكرتهم. فعندما كان يوسف، وهو الشخصية الرئيسية في رواية سنان، موظفا في إحدى دوائر الدولة، كان ضليعا ومتمكنا من اللغة الإنكليزية. ومن بين ما لفت إهتمامه هو ذلك الكتاب الذي يتحدث عن قيمة النخلة ومكانتها في ظل حضارة وادي الرافدين والتي قد تصل أحيانا الى درجة من التقديس. وعن ذلك سيأتي نصا صريحا قام بترجمته والذي أخذ في حينها شكلا ملزما وواجب التنفيذ، يقول (كانت شريعة حمورابي تقضي بتغريم كل من يقطع نخلة) ص45. وعن الكتاب أيضا وما ورد فيه، فسيتوقف يوسف المترجم عند إحدى الفقرات التي جاءت في ثنايا الكتاب وبلغته الأصلية أي الإنكليزية، عند فصل في غاية الأهمية، يتحدث عن قيمة ومكانة النخيل في الإسلام، مستشهدا بسورة مريم: وهزي اليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبا جنيا. الى آخر الآية الكريمة. بمعنى آخر وبعبارة صريحة واضحة ، فإن هناك إجماعا ومن مختلف الأديان السماوية وبكتبها المنزلة على قيمة النخلة ووجوب رعايتها وحمايتها من كل سوء وضر.

وتواصلا مع فكرة إستعادة بعض اللقطات التي ظلت عالقة في ذاكرة الشخصية الرئيسية للعمل الروائي الذي بين أيدينا، فسيعمد الكاتب الى إحياء إحدى الشخصيات النادرة والطريفة، والتي لعبت دورا سياسيا مهما في النصف الثاني من الستينات المنصرمة، والحديث هنا يدور عن الراحل طاهر يحي، والذي تبوأ منصب رئاسة الوزراء في العهد العارفي الثاني ولسنة واحدة فقط. فالرجل وعلى ما كان العامة يتداولونه عنه، فإنه متهم بطول اليد لذلك كان يكنى بأبو فرهود. وأعتقد ان إشارة من هذا النوع ستأتي منسجمة مع جو الدعابة الذي كان سائدا آنذاك، كذلك سيتناغم مع الطباع الشخصية للرجل المعني. فعلى ما قيل، فقد كان يصله كل ما كان يدور من كلام ولغط حوله وما يُلصق به من تهم، الاّ انه لم يكن مباليا لها، بل حتى كان يقابلها بنكات أشد وقعا وأكثر طرافة. وللتذكير فقد تم اعتقال طاهر يحي من قبل نظام الحكم الجديد وتعرض الى شتى أنواع الإهانات ووالقهر والتندر أيضا.

إذن وكما سبق القول، فسرد الأحداث سيتوافق مع الصور الملتقطة، بعديد مناسباتها وإختلاف تواريخها وتنوع شخصياتها. كذلك ستسير سوية بموازاة العم يوسف وطبيعة علاقاته. ومن الصور الأخرى التي يجدر الإشارة اليها والتي يحتفظ بها هي صورة الآنسة أو السيدة دلال، التي أكملت دراستها في بريطانيا في السبعينات وحصلت على (شهادة الماجستير في الهندسة الزراعية من جامعة إدنبره، وتم تنسيبها لوظيفة أستحدثت في قسم التخطيط الميداني). ص62.

سنان انطون في مدونته هذه ومن على صفحات الفصل الذي أسماه بصور، فعدا عن تغطيته لبعض الشخصيات التي جأنا على ذكرها، فسيسلط الضوء ومن جوانب مهمة على طبيعة الوضع الإقتصادي وما يعاني منه في بعض مفاصله. فبسبب ما حصل من إنتكاسات في الحقل إياه، نتيجة لعوامل عديدة من بينها سياسة الحروب، فقد تقرر تنشيط بعض مجالات الإقتصاد العراقي والإهتمام بها ورعايتها وخاصة ما يتعلق منها بالقطاع الزراعي: فـكان من أولى مهمّات دلال في عملها الإشراف على وضع دراسة شاملة حول وضع النخيل في العراق. (إنتهى الإقتباس). كيف لا وانَّ الغراق هو هبة شجرة النخيل المباركة، وصدق من قال: البيت الذي فيه نخلة لا يجوع.

***

في القسم الثالث من سرديته والذي أسماه أن تعيش في الماضي، سيتوقف الكاتب عند بعض المحطات والوقائع المحببة والمفضلة لديه ولدى أبناء جلدته، والتي لا زالت تحتفظ بها ذاكرته، لتؤشر الى طبيعة إهتمامات الكاتب. فمثلا سيعيد علينا ما كان يُشغل بال العراقيين على الرغم مما كان يعانيه من صعوبات وخاصة ما يتعلق بالجانب السياسي، وما كانت تتلقاه بعض الأحزاب السياسية المعارضة من مضايقات وأساليب قمع على يد أجهزة النظام الأمنية. فمن خلال الصورة، سيعود بنا الكاتب وعبر مدونته الى عام 1979، متذكرا إحدى مباريات الدوري الممتاز لكرة القدم، والتي كان طرفاها ناديا الزوراء والميناء. فعنها تقول إحدى شخصيات الرواية: جلسنا جنبا الى جنب في المقصورة في تلك المباراة المشؤومة التي أصيب أثناءها نجم الزوراء فلاح حسن وكسرت ساقه. ص72. وفي التفاتة تنم عن مدى تعاطف أحد المشجعين مع نفس اللاعب والذي أصبح أشهر من نار على علم ونجح في كسب حب وتعاطف ود الجمهور معه، لما يتمتع به من قدرات عالية في كرة القدم فضلا عن خلقه الرفيع، إذ سيصرخ أحدهم موجها كلامه له: أروح فدوة الهلصلعة الذهب.

وفي مشهد آخر لا يقل طرافة وجمالاً، سينقلنا الكاتب الى أجواء الخمر والليالي الملاح، التي كانت تعج بها ليالي بغداد يوم زهوها وألقها، بحاناتها وباراتها، فما أن تعلن ساعة السحر عن مقدم اول خيط لها، حتى تبدأ النفوس التواقة للنشوة بالتحرك في كل الإتجاهات، سعيا منها لإنتقاء نخبة من الصداقات والتي يطيب معها السهر والكلام المباح. وعن هذه الأماسي فكثيرا ما يصادف بين الجلاّس والندامى مَنْ كان على صحبة مع ما تجود به الطاولة المستديرة وما تحتويه من أنواع المأكولات الدسمة والمقبلات الشهية، ولم يكن شاغله سوى إشباع معدته التي لا قرار لها ولا حدود.

وبين الجد والهزل وبينهما المزاح، سـيعلن أحد عشاق الخمر عن إحتجاجه وبصوت مسموع بعد أن طفح به الكيل، لكي يضع حداً لما أسماه بالمهزلة التي تحصل، وبالتجاوز الصارخ على حقوق الآخرين وعدم مداراة وتقدير الحال، موجها كلامه الى رفيق دربهم وأماسيهم وصديقهم في السراء والضراء، والذي هو أيضا عضوا نشطا وفاعلا وركنا أساسيا من أركان الجمعية التي جرى تأسيسها لتضم نخبة من الخمريين، أسموها نؤاسيون، تيمنا بشيخ طريقتهم، طيب الذكر والثرى أبو نؤاس الخالد، وإسمه شوقي والملقب بالبدين (على كيفك يا معوَّد، طيرت المزَّة، هذا مو عشا. راح نتعشّى بعدين).ص73. ولأن العدد المسموح به قانونا لتأسيس الجمعية الخمرية هو أن لا يقل عن ثلاثة أفراد كحد أدنى، فقد تعثَّر عملها في السنوات الأخيرة، وذلك إرتباطا بالحملة الإيمانية التي قادتها السلطات الحاكمة آنذاك. وبما انه لم يتبق منها سوى عضوان فقط، فقد إنفرط عقدها ولم يبق لديهم ما يدارون به جرحهم سوى أن يردد أحدهم شعار الجمعية الأثير: سلاماً أيها الندمان إني شارب ثمل. ثم يردٌ عليه آخر حزنا على إغلاق جمعيتهم: أديرا علي الكأس إني فقدتها، كما فقد المفطوم درّ المراضع.

أستمرارا للنهج الذي إتبعه في هذه الرواية، سيواصل الكاتب تسليط الضوء على بعض الشخصيات التي تمثل نماذج مهمة من مكونات وفئات المجتمع العراقي، وأظنه كان موفقا في ذلك، حيث حرص على أن تكون إختياراته متنوعة وشاملة الى حد ما، فهناك المتعلم وهناك الشخصية العفوية وهناك من له إهتمامات وهوايات خاصة وهناك الخريج والمثقف وما الى ذلك. كذلك لم يفته أن يُشرك في سرديته العنصر النسوي، والذي تمثل بشخصية دلال، خريجة إحدى الجامعات الأوربية المشهود لها.

الأهم من ذلك هو إختياره لشخصية صاعود النخل بريسم والذي كان مسؤولا عن رعاية وحماية حدائق إحدى مناطق بغداد المعروفة. وبعد أن وافاه الأجل فقد إستلم زمام الأمر رجل اسمه جاسم ليكون مسؤولا عنها. ولعله في هذا الجزء من الرواية أراد الكاتب التركيز على جانب كبير من الأهمية، الا وهو ظاهرة النزوح التي بدأت تراود سكان العاصمة والتفكير على نحو جدي بمغادرتها. ومما يُذكر في هذا الجانب أن هناك الكثير من الأعمال الروائية بدأت تظهر على الساحة الأدبية والتي تتناول ذات الموضوع الا وهو الهجرة.

وعملية النزوح المعاكس التي بدأت تشهدها العاصمة، باتت تؤرق حتى صاعود النخيل جاسم ، فها هو الآخر بات غريبا على المكان الذي يشتغل فيه. والأنكى من ذلك فقد قرر العودة الى أهله في جنوب الوطن بعد أن طفح به الكيل. وعندما سُئل عن ذلك أجاب ( عمّي آنا رايح لهلي. أكو بيوت أدگ بيبانها يطلعولي ناس ما چانو بيها گبل. قسم يگولون گرايب گاعد يديرون بالهم عالبيت، بس مو دايما صدگ. أسألهم وين شالو أهل البيت، ما يجاوبون. بس آنا ما أسأل وما أتدخل. تدري ثنَعَشْ واحد من جماعتنا إنكتلو؟ أحسنلي أرجع لهلي أشتغل ببساتين بالجنوب، هناك أمان). ص84. أعتقد ومن خلال العبارة الآنفة، جرى تلخيص كل ما كان يجري ولا زال في العراق عموما وبغداد بشكل خاص. إنها تمثل رسالة إحتجاج عالية النبرة، أراد توصيلها صاحب النص لكل مَنْ بإذنه صمم.

***

الأم الحزينة. حمل القسم الرابع من روايته هذا الإسم، مُحْوَرَهُ ضيفا العم يوسف، مها ولؤي. بدأت حياتهما الزوجية تأخذ حالة من الرتابة والشعور بالملل. وإذا ما أردنا التعرف على الأسباب الحقيقية التي تقف وراء ذلك فسيبرز تعذرهما حتى الآن عن الإتيان بوليد، يملأ البيت فرحا وسعادة ويحمل إسميهما، كذلك ليحدث تغييرا حقيقيا وجذريا في نمط حياتهما. حاولا لمرات عديدة زرع بذرة المستقبل لكنها لم يتوفقا وللأسف. ظنَّت الأم بأنها مَنْ يتحمل الجزء الأكبر من المسؤولية، مما سيجد لأحاسيسها هذه إنعكاسات سلبية على يومياتها، بل حتى راح يطاردها حتى في منامها وفي أحلامها. عمل زوجها صادقا من أجل التخفيف مما ينتابها وما تعاني منه الاّ انه لم ينجح في بلوغ مبتغاه.

على الرغم مما كانت تبذله من جهد في سبيل التخفيف من وطئة وضعها ومحاولة تجاوز ما تمر به الاّ أن حالتها ستزداد سوءاً. الأنكى من ذلك فإنها ستصطدم بكل مَنْ تلاقيه وكلما خرجت الى الشارع، فالنظرات المتجه اليها من المارة، ستعطيها إنطباعا (وكأن أصحابها يلتقطون صور أشعة إجتماعية ليحددوا طبيعة مرضي ونجاستي لأني لست مثلهم أو من ملَّتهم. ولا تجيء النظرات من أعين الرجال فقط، بل حتى من النساء اللواتي ينظرن إلي ويشعرنني كأنني عاهرة لأنني لا أرتدي الحجاب). ص110. وفي الصفحة الموالية سيتأكد لمها ما ذهبت اليه من شكوك. فعن ذلك تقول: قال لي أحد الموظفين ذات يوم، وهو يقرأ استمارة ملأتها بالمعلومات الشخصية لأكمل معاملة، معلقا على إسم والدي:(إسم جورج أجنبي مو) فأجبته بحزم:

(لا مو أجنبي، عراقي)

(شلون مو أجنبي؟ مثل جورج بوش)

(لا مثل جورج وسّوف ... وجورج قرداحي)

ما صدر من رأي من قبل هذا الموظف الفطحل، لا يمثل بالضرورة وجهة نظر أغلب العراقيين، ففي مناسبات قادمة سيحضر قدّاس يوم الأحد عدد لا بأس به من أهل المنطقة من المسلمين والتي تسكنها عائلة مها. وسلوك كهذا يعبر بصدق عن حقيقة مشاعرهم ويعكس كذلك مدى قوة وتماسك ووحدة المجتمع العراقي. بل حتى أن أحد الضيوف قام وبمبادرة لطيفة منه بتوزيع الحلوى على الحاضرين، إبتهاجا بعودة إفتتاح الكنيسة.

مها لم تفقد الأمل، فها هي تعد العدة لإستقبال ولي العهد والذي سيحمل إسم بشار، ليأتي الى الدنيا ومعه بشائر الخير، ولتطوى بمولده تلك الصفحة المظلمة التي أتت حتى على أحلامها. غير أن التطورات والمستجدات اللاحقة لم تأتِ وفق رغبتها، حيث ستتعرض وهي في شهورها المتقدمة من الحمل الى حادث مأساوي، سيقضي على بقايا أمل ظل يراودها وتنتظره بفارغ الصبر، ولم يفد أو يجدي نفعا كل أدعية الرجاء التي أطلقتها هي وزوجها و محبيهما وكل من يحيط بها من الأهل والأصدقاء ومن العم يوسف كذلك.

فعلى نحو غير متوقع وبحسب ما ذكره أحد شهود العيان (لا أحد يعرف كيف تسربت السيارتان المفخختان تلك الليلة ومن أين جاءتا بالضبط. لكن الهدف كان واضحا. إستهدفوا شارعنا لأنهم يعرفون بأن معظم من يسكن بيوته هم من المسيحيين)ص128. ليطال إنفجار إحدى السيارتين البيت الذي تسكنه مها وليحدث ما يحدث، فكان أخطر وأشد ما وقع هو أن تطال شظايا الإنفجار وتأثيراته تلك المرأة الحامل مها، ولتنزف دمعا ودما ولتفقد على أثرها وليدها المنتظر وليستشهد بشار قبل ولادته.

لم يكن أمام الأم الثكلى من خيار تستجير به ويخفف من وطئة ما تمر به سوىغير العودة الى الكتب الدينية وفي مقدمتها الكتاب المقدس، ففيه راحة للروح ودافعا للسكينة. كذلك ستستذكر عذابات السيد المسيح والسيدة العذراء. ولهدأتها فقد راحت تصغي بخشوع الى التراتيل الكنسية وبصوت السيدة فيروز:

أنا الأم الحزينة وما من يعزّيها،

فليكن موت إبنك حياة لطالبيها،

أم يسوع بكت فأبكت ناظريها،

لهفي على أمة قتلت راعيها،

صبرا مها ولؤي على ما أصابكما من جرح ومن وجع.

***

وصل كاتبنا الى الفصل الأخير من روايته وعلى ما أعتقد فهو الأكثر إيلاما. ولعله سيغطي ما أراد الإرهابيون تحقيقه من أهداف وراء تنفيذ إحدى عملياتهم الدنيئة. إسم على مسمى (الذبيحة الإلهية) وما قُدِّم لها من قرابين وشهداء. فعلى اثرها، راح الضحايا يتدافعون يتساقطون، لا يعرفون بأي ذنب سيقتلون. فما أن أوشك القداس أن يقترب من نهايته و((وقف الجميع وبدأوا يصلون بصوت عال وعندما وصلوا الى (إعطنا خبزنا) إقتحمت أصوات إطلاق رصاص الكلمات التي كانوا يرددنوها)). ص146. فتفرق الجمع بغيرهدى وبغير حساب وبإتجاهات مختلفة. من بينهم مَنْ إستمع الى نصيحة القس وتوجيهاته، فنجا منهم مَنْ نجا، وأمّا الآخرون فراحوا ضحية رصاص رجيم، لا يعرف الرحمة ولا حرمة الدم الطاهر البريء.

السيدة مها كانت من بينهم. لا زالت مغشية عليها بفعل ما أحدثه الرصاص من صدى وتأثير أهوج وكذلك من وقع الصدمة. فما كادت تتجاوز محنتها الأولى بفقدان وليدها المنتظر حتى حلّتَ واقعة بل كارثة أخرى. بعد برهة من الوقت تمكنت من التحرك قليلا، وباتت تدرك أين هي وما وقع لها وما حلَّ بأصدقائها من المصلين. هانت عليها نفسها حتى تمنت بينها وبين نفسها أن يدركها الموت أسوة برفاقها، غير انها تراجعت وفي سرّها أيضا عن أمر كهذا، مُسَلّمة روحها لصاحب الأمر ومن بيده الأقدار والأحكام كلها. لم تعد تقلقها صعوبة حالتها، فما يشغلها الآن الإتصال بالأهل وطمأنتهم.

بعد بضعة أيام على الواقعة، راحت القنوات الفضائية تتنافس فيما بينها على إجراء لقاء صحفي مع إحدى الناجيات من حادث التفجير الذي تعرضت له واحدة من أعرق كنائس العاصمة بغداد، والتي كثيرا ما يؤمها المصلون أثناء أداء قداس يوم الأحد. وكان من بين تلك القنوات قناة عشتار الفضائية. وبعد برهة من الوقت والإستفسار من هنا وهناك، إستطاع المراسل الصحفي المكلف بإجراء التحقيق من الوصول الى الهدف المرتجى والشخص الذي ستجري مقابلته: إسمي مها جورج حداد. أنا طالبة بكلية الطب بجامعة بغداد. كنت واحدة من الرهائن اللي كانوا بكنيسة سيدة النجاة، يوم 31 تشرين الأول، اليوم اللي صار بي الهجوم الإرهابي. ص150.

كانت مها على درجة عالية من الشجاعة والصراحة خلال اللقاء الصحفي الذي أجري معها، حيث وضعت إصبعها على الجرح وعلى مواطن الخلل ولتؤشر كذلك الى عصابات الغدر، فلم تجامل ولم تحسب حسابا الاّ لما يدخل في مصلحة الشعب كل الشعب، بصرف النظر عن الدين والمذهب والقومية، فالكل مواطنون من الدرجة الأولى، ولا أفضلية لأحد على أحد الاّ بدرجة الوطنية والحرص على خدمة البلد. أمّا عمَّن يقف وراء التفجير وما نجم عنه من سقوط ضحايا أبرياء (فأنا أحمل الحكومة العراقية المسؤولية كاملة. شلون قدرو هذولي يدخّلون كل هذا العتاد ويعبرون نقاط السيطرة؟ وين الحماية والأمن اللي يحكون عليه؟ أكيد أكو تواطؤ وتقصير وإهمال). ص154. بهذه العبارة أنهت مها المقابلة وحسنا فعلت.

***

حاتم جعفر

السويد ــــ مالمو

وانا افتح ديوان (فتنة زهرة الكلام) للشاعر طارق الحلفي، وقفت مندهشا من الإهداء الذي سورني بتضاد عجيب، بين الوحشة وقوة الحب التي اصبحت لدى الشاعر يقينا.

(الى المرأة التي سقت عجول الوحشة باليقين) / الاهداء

افرد الشاعر للحب مساحة كبيره طعمها بمواقفه المختلفة من السياسة وخيبات الأمل، لحلم اعطى نصف حياته له.

(لملم جروحك صامتا لتشد اعمدة النهار

مستسلما لخطى انتصارك في زمان الانكسار)

 قصيدة ارفع ضمادتك الأخيرة بيرقا. ص 20

من اين لهذا الشاعر كل هذه العزيمة في زمن فضيلته الانهزام؟؟

انه يبقى عنيدا يتنقل في منافي الغربة صاحيا

(صحوة في نصف كأس من دماء الزعفران)

 قصيدة صبوة. ص 25

تنساب وحشة اماكن الطفولة وشخوص مدينته البصرة فيترجل بخشوع وكأنه يتذكر القول المتوارث (بعد خراب البصرة) لكنه يحلم بانتصاراتها القادمة

(نحمل ابواب ترقبها لهبا.... لعفاف جنائز خيبتنا)

قصيدة البصرة. ص 42

ليؤكد ان" العراق عرين النصر"

(سما بك المجد فارتجت جوانحه

ونلت من سكن الدنيا بطولات)

قصيدة العراق عرين النصر. ص 38

يتألق الشاعر في نقده المباشر لما يدور في وطنه، حين تختفي الشعارات الثورية. ليكون بديلها الاستسلام. يعيد ذاكرة زمن يتفاخر الناس فيه بنضالهم الثوري.

(لم تعد من خيمة الثورة ...رؤيا للقيامة

انما عدت طريدا.. لمشاعات العويل ...ومعرات ملامه)

قصيدة الثورات المونة. ص 96

ومن هنا انتقل شاعرنا الى التيه بعد ان رأى سفينته الحالمة باتت في مهب الرياح. ثمة ما يؤكد يقظته ثانية إذا مضى يبحث عن نفسه مجتازا صدمة الحيرة والشرود.

وجد الحبيبة التي غمرته بمودة في زمن جفاف العواطف عند كثير من الناس، نتيجة للأحداث الدامية في العراق والتي أرّخها الديوان بصور تقرب القارئ البعيد للحدث الذي يشير اليه.

 انغمر الشاعر بالحب وازال غيم العسرة وشرقت الشمس واخضرت رومانسيته الفاعلة. انظروا الى قصيدته (قميص النوم) انها تركيبة من صور رومانسية دقيقة النسيج

(لؤلؤ من زنبق فوق الفراش.....

 فتضرجت بأطواق سناء الاحتراق

وقميص فيه طيش من خيوط الزعفران)

 ص 34

ديوان الشاعر الحلفي به لمسات انسانية عالية العاطفة. بالرغم من كل الصعاب التي عاشها. فهو يكتب لأطفال بلاده أيضا ولحفيدته بالذات ما يشيع الفرحة والسلام.

(" املٌ " بُرعمُ ماءٍ

ونسيمٌ من خُزامى

وحكايا مِن خَيالٍ واَغانْ

اخضراً كانَ الندى بينَ يَديها

وسماءً من زهورِ البَيلسانْ

ثَغرُها لَفتَةُ دُنيا وزَغاريدُ الجِنان)

 قصيدة الحفية امل. ص50

قصائد الديوان نسجت بيد محترفه. اتمنى لشاعرها الموفقية في الإصدار القادم....

*

الديوان بعنوان " فتنة زهر الكلام"

صدر يوم 06.10.2023

عن دار باكنانغ/ المانيا

الغلاف من تصميم دنيا شطب

يقع الديوان في 120 صفحة من القطع المتوسط

ويحتوي على ثلاثين قصيدة

***

ناصر الثعالبي

تختلف أساليب السرد من روائي الى آخر ومن روايةٍ الى أخرى وقد يكون في الرواية الواحدة أكثر من أسلوب. وأنا أقرأ رواية (البدلة البيضاء للسيد الرئيس) للروائي علي لفتة سعيد في طبعتها الاولى الصادرة عن در الفؤاد للنشر والتوزيع، مصر، 2021، أرى هذا التنوّع السردي في هذه الرواية، حبكتها السردية التي تنبني على الشكل الذي جسدته الرواية، بدءًا من عنونتها التبئيرية، وكما معروف أنه لا يستقيم أيّ عملٍ سردي إلّا ببؤرته المركزية كونها تعد المحور الرئيسي وهي النقطة التي تلتقي فيها مكوّنات السرد.. وما أن تضع القدم الأولى لعتبة العنوان تلك العتبة النصية، حتى يلوّح لنا البياض والتساؤل واستدراج المتلقّي في محاولةٍ ملء الفراغ لجملةٍ لا يحسن السكوت عليها، يعقبها بعتبة الإهداء.. والتي جاءت: (حيث لا مجال لأحد). حينها يتّسع البياض لما فيه من إضمار وحذف حتى يستدرجنا الى روايته، حيث شاء الروائي أن يقسّم الرواية الى قسمين جاءت في القسم الأول ( ما قبل الرواية) بطريقة تلتحم فيها أجزاء النص السردي بدءًا من كشف الشخصية المركزية (مدلول) فقد خصّص الروائي الحيّز الكبير في نصّه السردي له.

شرع الروائي في ما (قبل الرواية) يروي لنا بلسان الراوي العليم العارف بشخوصه الناظر إليهم بتقنية السرد (النظر من الخارج والداخل)، معتمدًا على تقنية المشهد والأسلوب الدرامي التراجيدي في سبيل بناء الأحداث الروائية، وهو يقف عند حدود الشخصية ويرصد أبعادها النفسية والاجتماعية واستجلاء مكامنها وأوجاع وآلام وضعف شخصية المحورية (مدلول) من خلال الواقع الاجتماعي والبيت الذي يعيش فيه تحت سطوة زوج أبيه، والذي تحول بعد ذلك إلى نوعٍ من الحنان لمآرب في نفسها، حيث كانت تصطحبه معها أثناء تجوالها في الأسواق وكيف كان أصحاب المحال يتغزّلون بها، حيث أنه رأى صاحب المجرشة كيف يتغزّل بها ( اليوم طالعة جميلة وحلوة تخبْلين.. دافنة كل هذا الجمال مع واحد ما يقدّر الجمال.. يعرف بس النفط الأسود.. ولا يتحدّث مع الناس) ص48..

تتّضح معالم شخصية المحورية (مدلول) شيئاً فشيئاً.. اليتم والفقر والحرمان والمأساة التي ترافقه منذ وفاة أمّه وزواج أبيه من شكرية التي كانت تفرض سيطرتها على العائلة ولا يستطيع الأب فعل أيّ شيء، وكان دائماً يوصي ولده مدلول (وليدي.. من تصادفك ريحْ قويّة انْحِني لها لأن انتَ بلا ظهر.. من تْشوف روحك ضعيفة إسْكت) ص23..

وظّف الروائي أسلوب التشظّي في السرد و أدوات تعبيرية مغايرة عما هو مألوف، ليكسر رتابة السرد ليضمّن موضوعات لها أثرها الاجتماعي والسياسي.

أنهى لنا الكاتب القسم الأوّل من الرواية بوفاة أبو (مدلول) ودخول شخصية غريبة لا يعرفها القارئ، أخذت بيد مدلول، وكان تمويّهًا رائعًا في إخفاء الشخصية التي استقبلها مدلول عند مراسيم الفاتحة وتفاجأ الناس بحضوره إلى شخص صغير يتيم الأب والأم.

فالقارئ يجد نفسه متابعًا بشغفٍ ومترقبًا ماذا يكون عليه (مدلول)، يتوقّف السرد، ويقطع سياقه السردي ليبدأ سياقًا آخر الى منتصف متنه الحكائي على 72 صفحة من أصل 156 صفحة هي كلّ صفحات الرواية.

ومن ثمة يبتدئ بالقسم الثاني من الرواية، (ما بعد الرواية) والذي يفوض فيها الكاتب هذه العملية/ السرد الى سارد يتّخذ موقعًا بتقنية السارد المشارك (مدلول) يقود اللعبة السردية الى نهاية الرواية، وهو راو سيرته الذاتية، يكمل حيث انقطع الراوي لنا حكايته بتقنية الاسترجاع الطفولة وما بعد الطفولة المرّة واليتم الذي قدمه لنا الراوي العليم في قسم ما قبل الرواية، جاعلًا مسافةً بينه وبين الشخصية المحورية.. قوله:

" هو ما عليّ أن أحكيه وأحدثكم وأرويه لكم الآن.. أتقلب بين الذاكرة والزمن وأنوب عن الحكي بالكلمات " 75

(حكي/ حديث / روي) لكلّ مفردة ربما هو قاصدها، مستجمعا، وصائغا مادته الحكائية بتحويلها الى خطاب حكائي وكأن السارد عارفاً وخبيراً بالسرد الروائي متمكّنًا من صناعة الكلام.

يستدرجنا السارد الى لعبته السردية استدراج الراو الخبير المشوّق للحكاية، سرد يستخدم تقنية الراوي بضمير المتكلّم (أنا)، ليتمكّن من ممارسة لعبةً فنيةً تخوّله المناورة والحضور غير خاضع لسلطة الكاتب بشكلٍ يولّد وهم الاقناع.

"في المدينة أنا الآن، لا أريد أن أبدو على تلك الصورة قبل 22عاماً حاملاً جذوري معي أو أعود لكي أحملها من جديد" ص119

وما نلمسه يحاول المؤلف (الحكّاء) إظهار قدرته الحكائية وتفاعله ليشد المتلقي..

"أعلم أنكم تريدون معرفة التفاصيل التي لن أقولها دفعة واحدةً أو أكشف لكم أسرارها، فليس من طبعنا كشف ما لا يكشف وقول ما يقال وان قلنا زدنا عليه ونفخنا وبالغنا. نعم قولوا انه تبرير، وضع حجج، ارتباك، او عدم القدرة على الحكي..

لكن الحقيقة هي ان الكثير من التفاصيل لا يمكن البوح بها.. وسأروي لكم ما أتذكره وما أريد فقط أن أحكيه، وأترك لكم ما تبقّى من الحكاية بين الرأسين لتكون منطقة وسطى للتفسير والتأويل والتي أحاول في موضوعة الزمن ألّا أكون مطابقاً للحقيقة كي لا ألتزم بتراتبيات الحكاية"ص75

يصوّر لنا السارد مشاهده وكأنه سردٌ مسرحي يعطي انطباعاً، بأن ثمة جمهورًا يسمع قوله، محاولًا ايصال صوته الاقناعي وطرح تبريرات لأفعاله للوصول للمركز والسلطة والقيادة.

قوله:" اسمعوا ما أقوله وعليكم ربط التفاصيل التي ترونها مناسبة لكم في معرفة الغايات "

وما نلمسه كأن الرواية قامت على سببٍ ونتيجة فتقدّمت بالأسباب التي أدّت بالشخصية الرئيسة الى تلك النتيجة.

وما بين القبل والبعد جاء ت الرواية (التيمة) متضمّنةً مخرجات الدلالة السيميائية للعنونة التي جعل السارد من تلك الصورة (البدلة البيضاء للسيد الرئيس) رمزًا للتفاؤل والتقدّم بخطىً متسارعة نحو تحقيق احلامه وصعوده من أجل المنصب والسلطة والقوّة تعويضًا وسدًّا للنقص بأي شكلٍ من الأشكالـ وكأنه أتّخذ شعار (الغاية تبرر الوسيلة)

كما كان الأب يوصي مدلول ( خلّي عينك بالصورة.. بحلق بيها كل يوم, إذا رِدِتْ تتْخلّص من الماضي) ص54.. ويوضح الراوي ( وكان البكر على اليمين وصدام على اليسار..) ص54..

العودة للمدينة/ الاسترجاع في الذاكرة

عمد السارد (الحكّاء) بقطع زمن السرد الحاضر، ليستدعي الماضي ويوظّفه في الحاضر السردي.. من خلال آلية الاسترجاع:

" عدت الى المدينة بعد هذه الغربة التي ذكرت زمنها.. المدينة لم تتغير كأنها مصممة على ألّا تتغيّر كي تحفظ للناس ذكرياتهم وأماكن تنقلاتهم وعشقهم ومحبتهم وروحهم.." ص76

يلجأ السارد الى التذكّر، ويكون خاضعًا لسطوة الذاكرة، وبهذا تتجسّد وظيفة الذاكرة في حفظ الماضي وما تراكم من صور وذكريات عاشها تأثر بها وأثرت به..

لقد جسّد الروائي في مسار حكايته (البدلة البيضاء للسيد الرئيس) ذاكرة المجتمع لأحداث حرب العراقية الايرانية وويلاتها وأحداث 1991 والتحوّل الذي طرأ على شخصية الرواية وكشف هذا النوع من الناس الانتهازين المتلوّنين الذين يركبون الموجة في كلّ زمان وهذا ما يتجلّى في البنية النصية على لسان حكائها (مدلول)

(وبعد أن شاهدت الشباب وهم يحرقون جدارية صدام وثمة هلعٍ واحتدام وتدافع حتى أن حقيبتي الصغيرة تمزّق غطاؤها وكادت تسقط من كتفي, صعدت على كتف أحد الشباب من الجيل الجديد, وهتفت: بالروح بالدم نفديك يا عراق) ص155..

ليضع لنا أجمل نهاية.." صعدت عل كتف أحد الشباب من الجيل الجديد، وهتفت: ( بالروح بالدم نفديك يا عراق)" ص155

وظّف الروائي لغة وسطى تواصلية، لغة بيضاء بسيطة بعيدة كلّ البعد عن الافراط البلاغي وبعض التراكيب والألفاظ العامية، ليس عجزًا وانما كضرورةٍ فنيةٍ بغية الوصول الى التأثير والتعبير لحيويتها ووقعها في النفس.

***

طالب عمران المعموري

وما الحب من حسنٍ ولا من ملاحةٍ

ولكنه شيء فيه الروح تكلف

إنه ديوان حب وليس غزلاً يتبذل في وصف مفاتن الجسد، كما في الكثير من شعر نزار قباني وسعيد عقل وإبراهيم ناجي أو تلك التي تعج بها صفحات التواصل الاجتماعي من فايس بوك وتوتر وغيرها، بل هو حب يتغنى جمال الروح، حب ملاءمة بين المحب والمحبوب " اتفاق أخلاق وتشاكل أرواح" على حد تعبير ابن القيّم2، وهو ليس حباً عذرياّ وإن اشترك معه بالإخلاص لحبيبة واحدة وعشق روحها، فهو لا يغرق مثله في الشكوى والتظلم  كما في شعر قيس ابن الملوح وكثير عزة وجميل بثينة. وهو ليس حباً رسولياً يسعى إلى بث رسالة وطنية أو اجتماعية او تاريخية كما في شعر خليل حاوي وأدونيس .

حين تتعرى الجهات هو الديوان الثالث للشاعر عباس مراد سبقه اثنان هما: واحقيقة أننا غرباء" صدر عام 2012 و "صدى على صفحات الزمن" في عام 2016، وفيه ابتعد الشاعر عن مساراته  السابقة فشق درباً جديدة في بيدر الشعر، مكرساً معظم القصائد للحب، وعنه يقول: "في البدء كان الحب وسيبقى سفيراً إلى القلوب الحالمة، سيبقى نوراً يهدي العاشقين في ليالٍ دامسة"3. أما لغته فهي العربية الفصحى البسيطة والواضحة المعاني التي يسهل على الغالبية العظمى فهمها، ومنهجه قصيدة النثر الحديثة المتحلله من قيود الوزن والقافية الخارجة عن الشكل المعتاد عليه في القصيدة الكلاسيكية، ولا تتوقف نشاطات عباس مراد عند حدود الإبداع الشعري، بل تتعداه إلى مختلف الميادين الإعلامية والاجتماعية والسياسية:

عكس ما هو متعارف عليه من اعتبار العنوان عتبة النص الأولى وكاشف مضامينه نرى في عنوان هذا الديوان جملة ظرفية غامضة لا جواب لها (على غرار: عندما يأتي المساء...). غير أن الإهداء يسد هذه الثغرة إذ يقول فيه:

"إلى رفيقة دربي . .

مداعباُ ستائر الحلم

يتسلل الهوى من شرفة القلب

إلى نوافذ لقياك"

فعندما يهدي شاعر ديوانه إلى زوجته بهذه الشاعرية الشفافة نتوقع أن يكون الديوان ديوان حب ملتزم بامرأة واحدة تذكر بالشعراء العذريين وسيتضاعف هذا الإحساس إذا ما تصفحنا عنوانين القصائد وتبين لنا أن أغلبها يدور في هذا الفلك: "جنة الحب"، "صلاة الحب"، "زمن الحب"، "عصر حبك"، "محراب الحب"، "موانئ الحب"، "خيول اللهفة"، "سمفونية العشق" ..

يتألف ديوان حين تتعرى الجهات من خمسين قصيدة اتبع فيها الشاعر نسقاً واحداً يبدأ بموضوع معين، ثم يسير باتجاه فكري وشعوري محدد تتسلسل فيه الأبيات إلى أن تنتهي بما يشبه لحظة التنوير في القصة القصيرة:

قصيدة "شعلة الحنين"

سوف أسكب لك

من شعري

قهوة الصباح

وأشعل لك حنيني

حتى يدخل قلبُكِ

مخالفاً الأعراف وكل القوانين

ليستريح قلبي

ها وقد أصبح عصياً

على التدجين

قلبي ..

الذي تتدفق سطوته كالبراكين

فاخمدي ناره بقبلة من شفتيك

حتى يستكين

على هذا النسق تسير معظم قصائد الديوان حتى أنه يصح ان يطلق عليه ديوان القصيدة، أو القصيدة الديوان، بمعنى أن الديوان بأغلبيته، قصيدة واحدة متنوعةٌ الزوايا ومتكاملة الأبعاد وذات بناء شعري يدور في فلك المرأة الحبيبة الحاضرة فكرة والمغيبة نطقاً تعلًم وتنصح وتهدي بصمت بدون ما حاجة للكلام. وإزاء هذا التميّز الجمالي، في بنية شعرية أساسها اللحمة الشعرية في قصيدة واحدة، والتقاؤها على موضوع واحد، فإن التأويل يجب أن يكون موازيا لأية قراءة نقدية جمالية، ذلك لأن عملية التأويل على حد تعبير المفكر تودروف، "تفصل المتلاحم، وتجمع المتباعد، لأن التأويل يشكّل النص في فضائه الدلالي، وليس في خَطّيته، وهذا لا يمنع من تعدد التأويلات، فالدائرة التأويلية تسلم بضرورة تواجد الكل وأجزائه، ولكنها دوائر التأويل لا تتساوى، فهي تسمح بالمرور عبر عدد يكثر أو يقل من نقاط الفضاء النصي، أي أن تأويل النص الشعري يمتاح من لغة النص وجمالياته، وتتسع دوائر التأويل أو تضيق تبعا لاستراتيجية القراءة، وما ارتكزت عليه نصياً4 .

قصيدة "حين تتعرى الجهات"

ابجديتي أنت

منذ بدء التكون

وقاموس حبي

كنت انت وتبقين

ليلي هو انت

سيدتي الساكنة في الكلمات

بين مداد العشق والحنين

تشرقين

تضيئن صفحات ايامي

الصمت يأخذني بعيدا

ينسج حلما دائما

دليلي انت

حين تتعرى الجهات

في هذه القصيدة يبدو الشاعر طفلاً تفتحت حواسه على حين غفلة لحب آخر غير ذاك الذي عرفه في طفولته الأولى، فراح يتغناه بعفوية ويصف بفرح تأثيره في حياته، ملامساً ببوحه ما يعتري الانسان عادة عندما تتفتح عواطفه/ها للجنس الأخر. لحظة نحس معها انبلاج فجر في حياتنا. لحظة ترجمها الشاعر حباً نورانياً أنزل فيه الحبيبة منزلة الخلق الأولى التي تستحق السكن في الكلمات، مستعيراً ما للكلمة (مفرد كلمات) من قيمة تاريخية وحضارية ودينية، فهي في المسيحية كلمة الله التي كني بها المسيح5، وفي الإسلام هي الآية الأولى التي انزلت على النبي محمد6. ثم جاء حسن ختامها ليجعل من حبيبته المرشد الأمين الذي يقوده نحو الصواب حين يرتبك وتنعدم أمامه الطرق القويمة

والديوان في مجمله ديوان حب خرجت قصائد معدودة منه عن أغراض هذا النوع ذهبت مذهباً تشاؤمياً تتكلم عن عذابات النفس في اغترابها وغربتها.  ففي قصيدة "السجان" (يد السجان تعبث بما تبقى من أنفاس/  من أحلام/  تدمي القلوب/  تعذِّب الروح). وفي "حقول التيه" (العمر يتسلل من بين أصابع الأيام/  ورمال متحركة تُغرِق في ليل صامت). وفي "ارصفة النسيان" (القلب لا يستكين على الفراق/ نبضه يقلق/ وتسير الأيام على غير هدى/ وتضيع الجهات)7

وقصيدة "عيترون" هي مسك ختام الديوان، وعيترون هي القرية التي ولد فيها الشاعر وكان لبيئتها وطيبة ناسها أثر كبير في تكوينه العاطفي والنفسي. ولعل للبعاد عنها لسنوات طوال في أستراليا اليد الطولى في تفجير ينابيع الحنين إليها، ورؤيتها مهد لكل جميل. ذلك أن استحضار الصورة من المخيلة يلقي عليها غشاوة بيضاء تتغاضى عن العيوب. أو قد يكون النهج التفاؤلي الذي اتبعه عباس مراد في ديوانه هو السبب الذي جعله يرى عيترون على هذه الشاكلة:

من جهات الريح

يأوي الحب في مهاجعنا

من زرع الآباء ومحاريثهم

من حصاد الأمهات ومناجلهم

ومن اجتهاد الأطفال وكتبهم

تُضاء الشمسُ في مسائكِ عيترون

تبغ وحنطة ورجاء

وهضاب سيجتْ خيراتِكِ

كروم التين، العنب والصبار

وزيتون يروي تاريخ الأحرار

صامداً شامخاً متجدداً

رفيق الأجيال

. . عيترون . .

لك كل الحب

وأكثر بكثير من الحنين

**

نذر عباس مراد ديوانه (حين تتعرى الجهات) للحب الصافي البعيد عن العواطف السلبية من غيرة وحسد وأنانية، وابتعد فيه عن أغراض الشعر الكلاسيكية من مدح وفخر وهجاء، اللهم إلا ما جاء في قصيدة "عيترون" من مفاخرة ببلدته وطيبة أهلها. وكثّف معانيه بصور شعرية بليغة لا إسفاف فيها ولا غموض يرهق المتلقي في فك مغاليقه.

***

نجمة خليل حبيب - سدني أستراليا

3/10/2023

..........................

[1] عباس مراد، حين تتعرى الجهات، ط/1، بدون بلد، بدون دار نشر، 2021

عباس مراد من مواليد عيترون قضاء بنت جبيل، جنوب لبنان، هاجر إلى استراليا في العام 1988، له سجل حافل في العمل الأكاديمي والمجتمعي من مدرس إلى عضو في اللجنة الاستشارية لحكومة نيو ساوث ويلز للجالية اللبنانية. نَشَرَ ولا  يزال ينشر المقالات في صحف الاغتراب (النهار، التلغراف، المستقبل، الهيرالد، الأنوار وبانوراما)، وعدة مقالات في جريدة القدس العربي والنهار البيروتية وفي مواقع الكترونية متعددة. عمل في القسم العربي في اذاعة  (اس بي اس) وإذاعات أخرى .حائز على العديد من جوائز التكريم نذكر منها: شهادة تقدير من وزارة الخارجية والمغتربين اللبنانية عام 2016، شهادة تقدير من وزارة  التربية في برلمان ولاية نيو ساوث ويل الاسترالية عام 2016، شهادة تقدير من بلدية روكديل تقديراً لخدماته لأبناء الجالية الاسترالية في منطقة روكديل ونشاطه الثقاقي والأدبي.عام 2016

[2] ابن القيّم، "كتاب روضة المحبين ونزهة العاشقين، الباب الخامس، ط/ العلمية: المكتبة الشاملة، ص 66

ص66 - كتاب روضة المحبين ونزهة المشتاقين ط العلمية - الباب الخامس في دواعي المحبة ومتعلقها - المكتبة الشاملة (shamela.ws)

[3] ينظر في

https://www.sbs.com.au/language/arabic/ar/podcast-episode/mourad-abbbas-lebanese-writer/lyea6peqc

[4] ينظر في

https://www.knooznet.com/?app=article.show.58876

[5] جاء في انجيل يوحنا عن المسيح: "في البدء كان الكلمة، والكلمة كان عند الله، والله هو الكلمة"

https://st-takla.org/Bibles/BibleSearch/showVerses.php?book=53&chapter=1&vmin=1

[6] إشارة إلى الآية الكريمة التي نزلت على النبي محمد والتي تبدأ ب"إقرأ باسم ربك الذي خلق..." للمزيد ينظر في:

//surahquran.com/aya-1-sora-96.html

[7] ملاحظة: الأمثلة بين الهلالين ليست حرفية بل بتصرف.

بَعد عِدَّةِ أيام، مِنْ قِراءةٍ عَمِيقةٍ دَقِيقةٍ مُتأنِّيةٍ للروايةِ، والتِي عِشتُ أجوائِها وَشُخُوصُها وَتَفاصِيلُها.. بدأتُ أفكر بالشروع لكتابة مداخلة تقييمية عن الرواية؛ دونتُ على ورقةٍ أمامي، خارطة العمل، وفتحت صفحة الكتابة في الكومبيوتر، فجأة تملكتني رهبة وهواجس عديدة متنوعة، جعلتني أتردد كثيراً وأجفل من العمل، هذا الشعور انتابني لعدة أيام، كلما حاولت فتح صفحة في الكومبيوتر والبدء بالكتابة... وأول هذه الهواجس كان السؤال الكبير الذي ينتصب أمامي ...

كم مِنْ السنِين وَالجَهد بَذَلتْ وهيَ تَرصدُ وَتُدونُ في تلافيف ذاكِرَتها هذا الهولِ الكبيرِ من الأحداثِ والمواقفِ والصدماتِ والخَيباتِ وَالمُعاناة، لِتكتُب هذهِ الروايةّ؟

فَرِوَايَتهَا سَرْدٌ عَمِيقٌ طَوِيلٌ لِحَيَاةِ إِنسَانَةٍ وَاعِيَةٍ مُثَقَّفَةٍ، سردٌ لمجوعةٍ من القصص والحكايا المليئة بالأحاسيس والعواطف وِالمشاعر والمواقف المتنوعة عاشتها بحلوِها وَمَرِّها بشكلٍ فعليٍّ ولسنونَ طوال.

أذن كيف ليّ أن أختصر هذه السيرة الذاتية الطويلة وتجربتها الأدبية الإبداعية الواقعية في الرصد والتدوين والسرد، ببعض الصفحات، هل فعلاً أستطيع أن أعطيها حقها؟

-أمْ سَوفَ أبخَسُ جُهدُها؟

لقد استمتعت بقراءتها وأنا أتابع الأحداث والتغيرات المتتالية السريعة لبنيةِ المُجمعِ والعلاقات وطرق الاتصالات بين الناس من خلال حديث الراوي لقصص شخصيات الرواية العديدة المختلفة في المهن والاعمار والتحصيل الدراسي، فقد كنتُ مشدوداً مستمتعاً حتى أخر صفحة من روايتها الطويلة بطبعتها الأولى 2023 وَالتي تتكون من (295) صفحة من القطع الوسط. بل أزداد استمتاعي بها وَشدتني كثراً إليها وانا أقلب صفحاتها الواحدة بعد الأخرى، لكون أحداثها واماكنها وأزمنتها، أكاد أَنْ أكونَ اعرف ادقَ تَفاصِيلها، فهيَ تُدونُ لفترةٍ زمنةٍ عِشتُها، واعرف ظروفها وَمُلابَساتِها، وكذلكَ لِمَا أبدعَتهُ أَنَامها بتَدوينهِ بِلغةٍ شَفيفةٍ حَريصةٍ راصدة، وهي تستحضر من ذاكرتها الموجعة بالفواجع والهموم والوحدة وَهِيَ تَرصدُ الأحداث بِعينينِ مَفتُوحتين، وبدِرايةٍ مُسبقَةٍ للمُهمةِ التي تُريدُ ايصالَها بأفضلِ الصُّوَرِ؛ لصُّورٍ عاينتها وعاصرتها بل عاشتها بأدق تفاصيلها بنفسها، وجاءت بعد تجربة طويلة ونضج فكري لتعبر عنها بعمل أدبي (روائي) وهيَ تَدخلُ بِعَقدِها الرَّابع، لِتَستَحضِرها مِنْ خَزينِ الذاكِرةِ لِتُسجلها للأجيالِ كوثِيقةٍ (اِجتماعِيَّة ثَقافيَّة) لِحِقبةٍ زَمَنيَّةٍ مَرتْ ببلادِها التي وَلدتْ وَتَرَعرَعَتْ وَعاشَتْ فيها.

هذهِ التجربَةِ التي أَثَرتْ بِشَكلٍ كَبيرٍ وَعَمِيقٍ فِي تَكوِين شَخصِيتها وبلوَرةِ أفكارِها.

تعرف الرواية كما جاء تعريفها في الموسوعة الحرة (ويكيبيديا): {الرواية هي سلسلة من الأحداث تُسرد بسرد نثري طويل يصف شخصيات خيالية أو واقعية وأحداثاً على شكل (قصة) متسلسلة، كما انها أكبر الأجناس القصصية من حيث الحجم وتعدد الشخصيات وتنوع الأحداث، وقد ظهرت في (أوربا) بوصفها جنساً أدبياً مؤثراً في القرن الثامن عشر، والرواية حكاية تعتمد السرد بما فيه من وصف وحوار وصراع بين الشخصيات وما ينطوي عليه ذلك من تأزم وجدل وتغذية الأحداث.}

وفي فن الرواية تدخل عناصر بناء الرواية ومقومات الرواية فنية وهنالك عدة أنواع من الروايات ومنها (الرواية الغرامية أو الرومانسية، الرواية الاجتماعية أو الواقعية، الرواية التاريخية، الرواية السياسية، الرواية البوليسية، الرواية الخيالية أو الفنتازيا، ورواية السيرة الذاتية وغيرها من التسميات).

ويمكنني أن اضع روايتنا موضوع البحث الموسومة (كدتُ أتزوج ملكاً فرعونياً)، أنها رواية سيرة ذاتية ممزوجة بالرواية الواقعية...

وقد وجدت أن كاتبة الرواية قد أتبعت بنهج كتابتها بشكل سليم دقيق توظيف كل عناصر بناء الرواية (الشخصيات/ البطل والخصم، الشخصيات المساعدة أو الثانوية ودورها في العمل الروائي، الحبكة - سير أحداث القصة نحو الحل- الموضوع او القيمة التي تقدمها في الرواية ويدور حولها مضمون الرواية بأكمله، زمان ومكان الرواية، العقدة ويُطلق على العقدة «الحبكة الأولى» { وهي بدء الصراع الذي يخلق الحركة وتقدم أحداث القصة، وهو المشهد أو الحدث الذي يغير من حياة البطل/ البطلة وترسله في رحلة لكي يحل هذه العقدة أو الصراع وبدون وجود العقدة وحدوث التغير في شخصية البطل وظهور عنصر التشويق والإثارة فستظل القصة «ساكنة بلا حراك»}.

كتبَ الدكتور الكاتب والناقد (حسين الأنصاري) مقدمة تعريفة للرواية بلغة أدبية متقنة عالية، لكاتب وناقد محترف.

من اول صفحة بالرواية ستشدك بقوة إليها، فقد جاء بكلمات الإهداء:

(إلى روح والدي شاكر الجاكري، كل ما أكتبه هو امتداد لحروفك، فقد أيقنتُ أنَّ حبر قلمك قد انتقل جينياً إلى قلمي، وصار يكملُ ما بدأتهُ أنت. إليك أُهدي روايتي الأولى، وسيبقى قلمك يكتب بقلمي. أرقد بسلام فرسالتك ستستمر.)

وهذا ما يعطي انطباع إيجابي إلى ان كاتبة الرواية هي امتداد لسيرة مسيرة كاتب مثقف متعلم...

تقسم روايتها إلى فصلين:

الفصل الأول بعنوان (قلم حبر) وهو فصل قصير من صفحة (11-76) قياساً بعدد صفحات الرواية، تدور أحداثه في فترة مهمة من حيات بطلة الرواية الراوية (مريم) والتي تنشأ في عائلة بغدادية تسكن في أحد الأحياء القريبة من حي المنصور الراقي في العاصمة بغداد، لعائلة تتكون من الوالدان وثلاثة أولاد (ولد وبنتان).. الأب كاتب مثقف متعلم يتوفاه الله وهي بعمر الزهور...الأم ربة بيت تنحدر من عائلة بغدادية محافظة على عاداتها وتقاليدها. تدور احداث الفصل على العلاقات الأسرية العراقية البغدادية الحميمية المحافظة، وحياتها المدرسة الابتدائية، فترة الدراسة الثانوية وهي في فترة المراهقة قصة حبها الشفيف الأول من الضابط الشاب الوسيم (زيد) حتى تخرجها من الثانوية في فترة الحرب العراقية الإيرانية ودخولها كلية الإعلام.

تبدأ بسردِ وصفٍ جميل لسيرتها الذاتية من الصفحة الأولى ص11 استل منه: (تمشي بخطوات واسعة وهي تمسك بيدي، أحاولُ أنّ ألحق بها فأتعثر بحجارة الطريق، تلتوي قدماي توقفني، تمسد على قدمي ونكمل سيرنا أصبحت أكثر انشغالا بي، تنتبه لحركتي وتستعد لاحتضاني كلما أكاد أسقط على الأرض، تتداركني قبل أن أتهاوى أرضاً، أحياناً تفلت يدي من يدها فأحاول الجري خلفها لألحق بظلها أينما يكون، أدوس عليه وأضحك بشدة، لأنّه يفلت دائماً من تحت قدمي فأحاول الكرة مرة أخرى لألحق به وأدوسه وأشهق ضحكاً، فأنته لصوتها وهي تصرخ بي:

-هيا بسرعة

اتشبث بطرف ثوبها وامسك يدها مرة أخرى، تمسك يدي بقوة وهي تشدني اليها ونحن نعبر الشارع، أخاف من ضجيج السيارات فالتصق بها نتوقف قليلاً عند الإشارة الحمراء، تستغل ذلك فتعيد ربط شرائط ظفيرتي التي تهدلت أثناء الجري خلفها، وترتب ثوبي الذي مال قليلاً هو الأخر من طرف كتفي الأيمن. أخيراً نصل، العائلة كلها تتجمع في بيت جدتي، في اول أيام العيد، الحديقة الواسعة تمتلئ بأصواتهم وصراخهم، وملابس العيد الملونة ملطخة ببقع العصير وبقايا الكعك العالق بالثياب والوجوه.

ومن الصفحة (38) أستل مقطعاً تقول فيه (راقت ليّ فكرة تدوين أفكاري وكل ما أشعر به من خواطر على وريقات دفتري الصغير، وكنت في اليوم التالي أقرأه لصديقاتي وأحياناً لأمي التي كانت تقول لي: فرخ البط عوام.

وتقصد أنني قد ورثت الكتابة من جينات أبي. كانت تشجعني للاستمرار، بل أنها تدخر لي بعض النقود لاقتناء قصة أو رواية او كتاب أحبه، كنت أهتم بقراءة الروايات أكثر من اهتمامي بكتب المدرسة)

وفي صفحة (69) وهي تصف استلامها نتيجة امتحان البكلوريا للصف السادس الاعدادي:

(ظهرت مديرة المدرسة وتحركت نحو وسط الساحة وبمعيتها المعاونة وهي تنادي اقتربوا هنا (ساد المكان صمت رهيب)

سنعلن لكم النتائج وفق تسلسل الحروف الابجدية، أسمي يبدأ بحرف الميم معنى ذلك أنني سوف انتظر آخر القائمة، وهذا ما يجعلني أكثر اضطراباً. هذه اللحظات لم أمرُّ بها من قبل حتى أثناء غياب (زيد) وقلقي عليه إنها معركتي الكبرى.

يا رب اجعلها انتصاراً كما أتمنى، وأقترب الدور لي مازال أسماء حروف الام قبلي يكاد قلبي يتوقف، لحظات وتنادي المعاونة: مريم يوسف، ناجحة، صرخت نعم قد انتصرت.

سعادتي لا توصف حينها، كنت أريدُ أن أرسل خبر نجاحي إلى (زيد) بأسرع وقت ليكون أو شخص يعرف ذلك.

واخترت الصفحة الأخيرة من هذا الفصل (جاءت جارتنا تفيض عينيها بالدموع.

... ما الخبر، ماذا بك؟ قالت أمي.

... أيهاب أستشهد، (قالت)

لطمت امي على وجهها لطمة وجلست على الكرسي تصيح

... لا إله الا الله، لا إله الا الله.

كنت واقفة بجانب الباب، أطبق الصمت عليّ، لم أكن أجيد تعبير الحزن، ولكني شعرتُ بغضب أكثر من الحزن الذي انتابني أيهاب جارنا رجل متزوج وله ولدان مازالا صغيرين، كان رجلاً دمث الأخلاق وهادئ الصوت وشهماً في المواقف مع الجميع، لكننا لم نسمع اطلاقات نارية في الزقاق (قالت أمي لجارتنا)

... لم يأت به بعد، سيتم تشيعه غداً. (قالت جارتنا)

كان ذلك تقليداً ثابتاً أثناء الحرب، عندما يحملون شهيد لأهله يحمله رفاقه وبعض من القطعات العسكرية، ويطلقون العيارات النارية بموكب مهيب لذلك الشهيد.

(سألت امي جارتنا): هل ستذهبين إليهم؟

... أكيد وجئت لأخذك معي، (قالت جارتنا)

دخلت أمي مسرعة إلى غرفتها واستبدلت ثياب البيت بملابس سوداء، وخرجت مع جارتنا ألى بيت أيهاب جارنا.الذي أكتظ بالجيران من رجال ونساء ليكونوا مع عائلته في الموقف العصيب.

في صبيحة اليوم التالي عند الساعة العاشرة صباحاً كنت أكوي تنورة جديدة أشتريتها قبل مدة ، وإذا بصوت اطلاقات نارية تقترب من اسماعي وكأنها تخترقها وكأنّ الجبهة تحولت هنا، عملتُ انّهم جاءوا بجثمان الشهيد أيهاب.

دخلت أختي سارة تلهث إلى الغرفة وأغلقت الباب.

(قلتُ لها بصوتٍ يشوبه الأسى والحزن)

هل جاءوا بجثمان أيهاب؟

قالت: لا، إنهُ شهيد آخر.

(نظرت إليها باستغراب)

... شهيد أخر.

... من!

(صمتت لحظة وقالت)

... زيد

أتذكر أخر صوت زار مسامعي صوتُ الرصاص الذي يحمل نعش زيد وصوت أختي سارة وهي تصرخ...

... مريم، مريم، مرييييييم

بعد أكثر من عام على استشهاد زيد انتهت الحرب.

فيما يأتي الفصل الثاني الموسوم (كيبورد) من صفحة (77- 295) والذي جاء بعد التغيير الذي حل بالعراق مع دخول الدبابة الامريكية والذي تزداد فيه تسارع الأحداث ومفاجأة التغيرات في مناحي الحياة المختلفة، ومنها بروز صراع الأفكار بين القديم والجديد، وتفرد صفحات عديدة تتابع وتناقش فيها العقلية الذكورية والتسلط والعسف الذي تمارسه السلطة الذكورية للرجل الشرقي عند بعض الأزواج في علاقتهم المتسلطة مع نصفهم الثاني، وهي ترصد العديد من الزيجات القريبة منها عن تجربة معاشه فعلاً عن قرب والتي كان مصيرها الفشل بسبب طريقة تعارفهم السريعة الجديدة والتي تمت عن بعد عن طريق الإنترنيت.

تصف بلغة أدبية فلسفية الصراع النفسي والقلق والحيرة والخوف الذي يرافقها بحياة الوحدة التي تعيشها وحيدة مع قطها المدلل مشمش. بعد وفاة والدتها وهجرة شقيقها(نبيل) وشقيقتها (سارة) مع عائلاتهم الى خارج الوطن.

ودور الحروب المتتالية في تدمير النفوس قبل دمار الأرض، وأسباب تسارع الهجرة ومغادرة الوطن..

وبلغة شفيفة كالقصائد النثرية تكتب مناجاة ورسائل حب وغرام وحوارات أدبية فلسفية مع الذات الرقيبة التي تلاصقها وترصد خلجات قلبها، وما يدور في تفكيرها.  تبعثها كرسائل مشفرة تريد ايصالها للقارئ عبر روايتها والتي تدور حول عن التغيير الذي حصل بسلوك الناس (المجتمع) وتغير أنماط الحياة والعلاقات والتوجهات.

تصف في صفحة (97) كيف أصبح حال شورع العاصمة بغداد بعد سنوات من الاحتلال:

(أسفلت الشوارع كان مشوهاً بعد ذلك الاجتياح البربري للعاصمة بغداد (2003) بالدبابات الامريكية التي احتلت العراق ودمرت كل الشوارع والأبنية، وحتى بعد مرور سنين على ذلك الاحتلال، وما زالت الشوارع والحياة عبثية بشكل يثير الحزن على العاصمة بغداد، التي كانت داراً للسلام أصبحت عليها السلام.

تقول في صفحة (144):

(قررت أن يكون مقالي في صحيفة أرض الوطن، هذا الأسبوع عن (كوثر) وان أخفي أسمها، ولكني سأترك السوط بيدها لتجلد به، هذا المجتمع العاق.

كتبت العنوان ... يا نساء الأرض.. احملوا شهاداتكم واستقلالكم المادي بيدكم اليسرى والسوط بيدكم اليمنى...

لأني كنت على يقين أن كل امرأة قوتها باستقلالها المادي وغير ذلك ستبقى رهينة بيد من يملكها أب أو أخ أو زوج.

بذات الليلة التي كتبت فيها مقالتها، يراودها للمرة الثانية ذات الحلم المفزع ص 145:

(لقد راودني الحلم ذاته وجدت نفسي أقفُ عارية أمام أحد مللوك الفراعنة ممسك بيده رقعة من جلد الغزال بشكل أسطواني قدمها لي دون أن ينبس ببنت شفة، وكأنه لا يبالي وقوفي عارية أمامه، وعندما أخذت الرقعة منه وأمستها بيدي وفجأة تحولت الرقعة إلى نار مشتعلة كادت ان تُحرق يدي ففزعتُ وحاولتُ التخلص منها، وعندما ألتفتُ إليه، وجدتُ ذلك الملك الفرعوني قد اختفى.

وتف العادات والتقاليد الاجتماعية التي كانت سائدة بين الناس واهل الحي قبل هذه المتغيرات المتسارعة فتقول عن التعزية التي صارت تقام ليوم واحد وللرجال في احد المساجد القريبة للحي ، أو يكتفون بالتعزية عبر الهاتف أنه عص التكنلوجيا التي غيرت العلاقات الاجتماعية بين الناس ففي صفحة (152) تقول : تذكرتُ حينها وفاة أبي، ومجلس عزاءه وأهل الحي الذين لم يبرحوا بيتنا لأكثر من شهر لم يتركوا أمي وحيدة ولم يدعوها تقف بالمطبخ، بل كانت سيدات الحي يطبخن الطعام ويرسلن القدور بيد أولادهن الى بيتنا، وبعضهن يقفن لإعداد الطعام للمعزين الذين يتوافدون علينا من كل مكان، لقد كانت عادات تتربع على رأس السمات الاجتماعية العريقة، حتى المشاعر كانت تتوحد بين أهل الحي بالفرح والحزن، آه لهذه المدينة التي كانت تعيش العراقة بكل تفاصيلها.

قلت لكوثر وأنا أشعر بالحزن:

هل كنّا مزيفين والتكنولوجيا أسقطت اقنعتنا، أم تغيرنا بمرور الزمن، ولم تعد المشاعر لها موقف بيننا.

وفي ص166 تقول: في صبيحة اليوم التالي، وجدتُ رسالة من رئيس تحرير صحيفة (أرض الوطن) يطلب مني أن أكتب مقالاً طويلاً عن هجرة العقول والعلماء من أوطانهم ليقيموا في المهجر، ثم يكتبون عن الحنين إلى الوطن، ولماذا يصبح الإنسان أكثر شغفاً على وطنه عندما يبتعد عنه، ثم لماذا يبدع البعض بعلمه وفكره أكثر مما كان يقدم من ابداع وهو في وطنه الحقيقي.

تحمستُ لتك المقالة، فقد كنتُ اريد ان أصبّ جام غضبي على الظروف والحكومات التي تهمل عقول مبدعيها، وما ان يهاجروا إلى أرض أخرى تنهال عليهم التهم بالجبن

وفي صفحة (190) وهي تروي محادثة جرت بينها وبين صديقتها الحميمة (حنان):

(حنان كانت تعرف تلك الحكاية، فقد فتحت كتاب أيامي لها يوماً، وقصصت لها، حكايتي مع زيد: قالت:

زيدٌ لم يرحل من عقلك الباطن، ربما غفى على عتبة السنين الماضية، ولكنه لم يرحل عنها، أحياناً يا صديقتي نطوي حكايات كثيرة عن الماضي، وتغيبُ عنّا، ولكن فجأة نجدها حضرة امامنا وكأنها حدثت بالأمس القريب، الوجع يا مريم لا يموت، بل يستكين ويهدأ، واي كلمة تدور في فلكه تجعله يستيقظ من سكونه، ويعود أنينه من جديد، ما الذي جدّ لكي توقظي وجع زيد في داخلك.

وعن الرسائل المتبادلة بين بطلتنا مريم وحبيبها الخفي الجديد (أدهم) الذي دخل عليها عن طريق الانترنيت أيضاً الذي لا تعرف هل هو حقيقة أم وهم وخيال، صفحة (196):

-عزيزي أدهم-

إن شيئاً مرعباً كان يعيش بداخلي يتلاشى، حل محله شعور بالأمان رغم المسافة التي تفصلني عنك، إلا أنني كثيراً ما أشعر بوجودك بجانبي أحياناً تربت على كتفيّ وأحياناً تمسكُ بيديّ، دفئُ يديك يسري بين شراييني، فتحولني بلحظات إلى عالم أثيري أراك من خلاله. مريم

-غاليتي مريم-

الحب هدية مغلفة يبعث بها الله للإنسان، كل حسب لون قلبه، لان القلوب لها ألوان. أدهم

فتقول بذات الصفحة:

إن للكلمات سحرٌ تحول الإنسان من الشعور بالهزيمة إلى أعلى درجات النصر، وذلك الأدهم حولني بسحر أحاديثه إلى قائد منتصر لا أخشى أي معركة بالحياة فقد ألبسني درع الأمان، وأمسكني رمحاً لا ينكسر، صار قلبي لونه أبيض مزينٌ بكرات مزهرة بلون الروز.

الصوفية يعيشون بأرواحهم ويتنقلون في ارجاء الكون كله وتبقى أجسادهم في أماكنها هم يطوفون الكون بنور الروح، أنا طفتُ الكون بالنور الذي حول كلمات أدهم إلى هالة تأخذني إلى معبد الروح، وهنك تركت ذاكرتي، وتركتُ ثورتي على حواف بركان خامد، تعلمتُ لغة الصمت ولغة الخيال، ولانتقال من عالم إلى آخر بعيداً جداً، وأسلمت نفسي للحلم.

تقول في صفحة (266) وهي تصف محادثة بينا وبين صديقتها حنان: عما الت إليه علاقة صديقتهم (إيناس) التي أحبت رجل متزوج تعرفت عليه عن طريق الانترنيت.

(في عصر اليوم التالي، تذكرت قصة ذلك الرجل الذي رأته حنان يوم أمس بتلك الأمسية، وقادني الفضول لأتصل بها، لأعرف منها ما آل اليه الوضع.

قالت لي إنها اتصلت بصديقتها (ايناس) ونقلت لها كل القصة، وقامت (إيناس) بكتابة رسالة أهانته بها، وعملت له حظر عن كل مواقعها في السوشيال ميديا.

قلت لها: وهل تنتهي العلاقات بهذه السهولة.

أجابتها (حنان)

العلاقات أصبحت زر في الكيبورد لإنشاء علاقة يقابله زر آخر للحضر إذا تعثرت العلاقة.

قلت (والمشاعر)

اجابتها (حنان) كل شيء يأتي بالصناعة لا يحمل مشاعر يا صديقتي، إننا أصبحنا الة تتحكم بها أجهزة وأزرار وحروف، يا مريم علاقات الحب ورجفةُ القلب، ورسائل معطرة، ونظرات مليئة بالمشاعر، انتهت وأصبحت ماضي كقصص الأميرة النائمة وسندريلا.

الخلاصة:

تجد في الرواية شهادات حية عن حياة شرائح من المجتمع وعن حوادث جسيمة مريرة مرت خلال تلك الفترة على البلاد والعباد، وتجد فيها قصص غرامية مشوقة أمتزج فيها الواقع بالخيال.

وقد كتبتْ الرواية بلغة سردية نثرية سلسة حرصت فيها على ابراز الاحداث والمواقف والمعالجات بأفكار ناضجة. بأسلوب ممتع ينساب كشلال ماء عذب، بأسلوب شفاف شائق غير مبتذل، تشدك بسردها تسافر مع ما دون بَنانها، في الرواية الكثير من عناصر التشويق، والمفاجأة التي تحبس خلالها الأنفاس.

أنها تمسك خيوط شخصياتها بمهارة تعشق الواحدة بالأخرى لتنسج منها قطعة أدبية جميلة متقنة لقصص مشوقة هادفة.

في الختام يمكنني وبكل ثقة أن أعتبر الرواية من وجهة نظري عمل أدبي متقن رائع.

***

يَحيَى غَازِي الأَميرِي

مالمو/ مملكة السويد في تشرين الأول/أكتوبر 2023

بقلم: كاثرين شورد

ترجمة: صالح الرزوق

***

يرتدي مايكل كاين ساعتي يد: إحداهما لتحديد الوقت والثانية أبل لكل شيء غيره. قال لي باهتمام: حتى أنها تحدد نبضه. والآن تشير أن درجة حرارة الشقة تبلغ 26م: دافئة بما يكفي لتسكب له زوجته القهوة في دورقه، ولكنها ليست حارة لدرجة تسمح بفتح أبواب الشرفة تلك: "وإلا سوف تهب عليهم عاصفة لعينة هنا".

زلقت الأبواب وأغلقتها قليلا. سألته: هل هذا مناسب؟ أم أقوى. يكفي؟. المزيد قليلا. ضغطت أكثر. فشعر بالاطمئنان.

يعيش كاين في شيلسي هاربور. في شقة تعود للثمانينات مع صالة رياضة من النوع الذي تحبه ديانا أميرة ويلز. ويرتاح لنظام الأمان ولا يزعجه الحوامات. يغطي أرض الشقة اللندنية التي تحتل آخر طابق في البرج سجاد بلون الكراميلا، وترى منها مشاهد منبسطة بزاوية  360ْ، ولكن على الجدار شهادتا أوسكار و5000  صورة فوتوغرافية لأحفاده.

تحتنا يمتد جسر باترسي، المد منخفض، والشاطئ يلمع. أخبرني وهو يزمجر: أنه لم يكن ينفق وقته على الشاطئ وهو ينقب في الوحل. سألته: لم لا؟. فأولى رواياته ستصدر في تشرين الثاني وهي عن عمال نظافة يعثرون على اليورانيوم في النفايات هناك. قال بشكل غامض: "حسنا. آخرون يقومون بأعمال متنوعة وكل شيء يتم على ما يرام. ولكن إذا أنا فعلت ذلك ستكون النهاية سيئة".

نظر باتجاهي. كنا بانتظار شريكه المعروف جون ستاندنغ، الذي أخره الزحام. كاين رجل كبير يمكن أن تجري معه حوارا بسيطا. وخلاله، حين يتكلم، لا تشعر أن ذهنك في تيار من موجات قصيرة (مايكل كاين ؟!؟!)، فهو في الـ 90، وطوله 6 أقدام و2 بوصة، غير هياب، وبكل بساطة استفزازي.

ألقى عام 1987 محاضرة كشف فيها عن سر قوته على الشاشة. كان 1) لا يطرف بعينه 2)  وله نظرة داكنة شديدة السواد. وكانت المحاضرة على الخشبة وجها لوجه. وهي الأولى من نوعها في كل حال.

قال كاين: خلال قصف لندن كان يراقب المدينة من مأواه في كامبرويل وهي تتداعى. من هنا يراها تنهض مجددا.  وهو مغرم بالبناء الحديث والأثاث الرقيق ولديه ذكريات رجل عاش في سقيفة بلا ماء ساخن، مع دورة مياه خارجية وألم في العظام. وكلما سقطت قنبلة، يقفز الفراش. "كنت أنا وأخي نضحك خلال الهجمات الجوية اللعينة".

توضيح: سيصل ستاندنغ قريبا. امتدحت أصيص النبات فتباكى كاين على حديقته. فقد أخلى بيته إلى بيركشير، وهناك كان يأكل علبة سردين يوميا، وفي أيام عطل الأسبوع يمكث في خزانة مغلقة. ثم نقلوه إلى ريف نورفولك، حيث اكتشف هيامه بالبساتين - ثم في وقت لاحق اهتم بنفسه وبذل جهده لترتيب بيته في أوكسفوردشير وسوري Surry.

ولكن الأمر ليس كذلك في هوليوود. فقد باع هناك بعد أن أخبره أحدهم أنه إذا أراد ان يزرع النرجس البري عليه أن يضع البصلات في الثلاجة لأسبوعين. "هذا هو الشرط. آخر قشة".

ولكن هل امتثل للأمر؟. قال: "آه. نعم. ونجحت".

ودخل ستاندنغ. كان 89 عاما. متلعثما مثل مبتدئ. واعتذر بتهذيب بالغ. ثم جلسا معا. وتبادلا الكلام عن الطقس، وانفتحت نافذة خلسة. تأمل كاين الآي باد الخاص بي، واعتقد أنه هاتف. قال: "يا إلهي. هذا جهاز كبير".

ثم أعربت له عن سروري بفيلم "الهارب الخطير". أدهش كاين أنني شاهدته ناهيك عن استمتاعي به.

قال: "حقا؟".

قلت له: "نعم. ولكن أنا أستمتع بأفلام لا يحبها الآخرون".

لا أستغرب أن الفيلم أغراهما بالتقاعد: الأدوار الدسمة لا تأتي حينما يقترب عمرك من 100.  لعب كاين دور "بيرنارد جوردان"، وهو مقاتل حقيقي من البحرية الملكية، وقد صنع عناوين الأخبار عام 2014 حينما سافر منفردا من بيت الرعاية الذي يقطنه في هوف، من إيست ساسيكس، إلى نورماندي للاحتفال بالذكرى 70 ليوم النصر. الفيلم - متماسك أكثر مما تظن، ومؤثر - يسرد حكاية صداقة مع آرثر، الذي التقى به على متن السفينة، وهو قبطان سابق في القوى الجوية الملكية (يمثله ستاندنغ). 

أدى الممثلان خدمة العلم في برلين بعد الحرب. ثم نقل كاين إلى كوريا - قال: "سفلة" (وهذه عبارة مخففة وردت في مذكراته). "حينما بلغنا المكان قالوا هناك: أرسل الصينيون مليون جندي. ماذا؟. كانوا أطفالا وكبار سن، ولا يمكن هدر ذخائرنا عليهم. لكن أطلقنا النار عليهم ثم جاء المقاتلون الحقيقيون. صينيون متمرسون".  

في الفيلم يحج الاثنان إلى مقبرة الشهداء في بايو في النورماندي. يصيح برنارد: " يا للخسارة". وتقترب الكاميرا لنشاهد صفوفا من شواهد القبور. لا يوافقه كاين. ويقول: "من المفروض أن يكون لدينا مقابر مزدحمة بالأموات لأننا قاتلنا الجيش الألماني، وهو ليس جماعة من الحمقى. ويجب إيقاف الألمان عند حدهم".

سألته: وكوريا؟. يقول ستاندنغ: حسنا  الشيوعية "مرعبة تماما".

يوافقه كاين بصمت. "إنها لا تعتني بالطبقة العاملة كما يزعمون. كان والدي صياد سمك في بيلينغزغايت. وحينما قابلت  الشيوعيين علمت أنهم لا يعلمون عما يتكلمون. هل يوجد شخص واحد من الطبقة العاملة يرغب بالحياة في شمال كوريا؟".

ويعتقد كلاهما أنه يجب العودة لنظام خدمة العلم. قال كاين: "لأنه يمنحك فهما جديدا للحياة. واليوم ألاحظ اختلاف طرق حياتنا.  نحن متحررون جدا. ولكن الخدمة العسكرية تجعلك تؤمن بمساعدة الآخرين. أحفادي - لا يعرفون شيئا غير كرة القدم" (يضيف لاحقا: لا يزالون كذلك. "عجيب، لا يصدق، يهتمون بأمر الآخرين - وهذا شيء يمكن أن أفهمه").

يقاطعنا ستاندنغ: واحدة من بناته "حكيمة قليلا" حذرته من التصرف الطائش. "فظيع. من غير المقبول أن نقول شيئا. تألمت من ذلك. يا إلهي أنت غير حر . وإلا نبحت عليك الكلاب".

مجددا. عاد للموضوع السابق. وقال كاين: "كانت الأمور أقل تعقيدا" قبل 70 عاما. ابتسم بمكر وأضاف لكن "هاتفك يلفت النظر. لا أتخيل شيئا أكبر منه ولا في أحلامي. ويعطينا كل المعلومات التي نريد. يمكن أن تكلمي به هنري الثامن. هل رأيت رجلا من الخشب والحديد يلعب لعبة سهلة كالبينغ بونغ ويهزم بريطانيا عاديا أمامه؟".

أنا لم أشاهد ذلك. ويقر كاين ببعض القلق من الروبوتات - وهذا جزئيا موضوع روايته، التشويق. "لكن أنا في ال 90. ولا أخاف من المستقبل. وأخشى أن لا أعيش حتى يحين وقت الغداء".

التقى كاين وستاندنغ أول مرة في يوم حار، من صيف 1976، حين شاركا في فيلم حربي آخر هو "هبوط النسر على الأرض". أدى كاين دور نازي يتشوق لاغتيال تشرشل، أما ستاندنغ فأدى دور قس ضعيف. كانت ذكريات التصوير قليلة، ولكن اتفقا أن صناعة الأفلام لم تتبدل كثيرا.

قال كاين: "أنا أخلق عالمي. وإذا استعانوا بي، عليهم أن يتركوا لي حرية الأداء. وإلا سأفشل. وحتى إذا تصرفت بحريتي، قد أرتبك أيضا".

ضحك كلاهما. قال ستاندنغ: "آه منك يا عزيزي مايكل".

سألت هل طرأ عليهما تبدل.

تنهد ستاندنغ وقال: "فقط بلغنا من العمر عتيا".

قال كاين: "ولكن نحن كما نحن".

"وهذا عجيب. كل رفاقي خبز أسمر".

"آه. الجميع. شين كونري. روجير مور. الجميع ماتوا. شيء مذهل".

سألت وكيف تشعران حيال ذلك؟.

قال كاين: "بالوحدة. تناولت الليلة السابقة الغداء مع ثماني نساء. شاكيرا أحضرتهن. ليس أنا. وهن زوجات أصدقائي. غالبا ما أجلس على طاولة مع الكثير من الأرامل".

أكد ستاندنغ قائلا "مئات النساء حول شخص واحد. والآخر جالس هناك ويفكر: أريد استراحة. اسألوني عن شيء ما. أي شيء".

يوافق كاين. "اسألوني عن كرة القدم. ولكن أنا سعيد مع البنات. وأحبهن".

مجددا: يستشير مذكراته لمزيد من التفاصيل. ولكن وجد أنه عبر عن ما يريد. أمضى كاين الخمسينات والستينات وبواكير السبعينات يحوم حول الجذابات في قارات العالم. وفكر بعلاقة  مع ناتالي وود ونانسي سيناترا وكان يشحن نفسه بالفودكا مع تيرينس ستامب وبيتر أوتول.

وحينما قال في 1972 إنه تعب من حياة العزوبية أمكن أن نصدقه - لا بد أنه كان منهكا. ثم حصل على ليلته. شاهد بيت ماكسويل في إعلان في التلفزيون، وقرر أن يسافر إلى البرازيل في الصباح التالي ليتزوج من المرأة التي تهز الخشخاشة. قال له شاب: لا توجد ضرورة. هي هندية وليست برازيلية. وتعيش في فولهام رود في غرب لندن.

أعتقد أن هذه الحكاية مثل أخبار كاين التي يخبرنا عنها في برامجه الحوارية المنتظمة. واليوم خصنا بهذا الخبر. قال: "لقد تابعتها حتى وجدتها. شيء لا يصدق". كاين يشبه علبة موسيقا خاصة - الحكايات تبدأ من ذكر عابر لكاري أو لاري أو فرانك - ولكن نظرا لما لديه من مخزون، يصعب أن تقاطعه. مع أنه يسليك يتحكم بالحوار كله - وتقبل ستاندنغ ذلك.

سألته: هل يحن للستينات؟.

قال: "لا أشتاق لها. ولكن أحب أنني عشتها. كنت أتورط بمشاكل مستمرة".

تزوج بشاكيرا قبل أكثر من 50 عاما. التقدم بالعمر أقل مرارة، وينصحنا بقوله: "إن تزوجت بإنسانة جميلة حقا لن تكبر بالسن.  كنت أستيقظ كل صباح وأراها أمامي". صحيح: شاكيرا 76 عاما وتبدو صبورة بشكل مذهل وساحرة. أضاف: "ما أعشقه فيها أنها ذكية جدا. كانت سكرتيرة في… نسيت ما هو موطنها الأصلي (ولدت شاكيرا في غويانا البريطانية وتسمى الآن غويانا)، كانت سكرتيرة في السفارة الأمريكية، ورأيت أنها سكرتيرة ممتازة لي. كانت تدير كل شيء، هذا فوق العقل".

في حبكة "الهارب الخطير" زواج آخر طويل، طرفاه بيرني وإيرين، وتمثل فيه غليندا جاكسون، وكان آخر أفلامها. عملت هي وكاين معا طيلة 48 عاما مضت. قال: "كانت شابة وجميلة جدا. جذابة جدا. ممثلة هامة ولعينة. ولكنها اشتراكية ويسارية وأنا لا أفكر إلا بجني النقود لأن خلفياتي الاجتماعية فقيرة للغاية". ولكن لم يتكلما بالسياسة أبدا - كانا مشغولين بالتمثيل. وقابلها قبل وفاتها بخمسة أيام في حزيران: "كانت تبدو معافاة". وما يخفف عنه أنها رحلت بسرعة دون وقت للتفكير.

بيرني وإيرين زوجان مخلصان. ومع أن الفيلم لا يتطرق إلى ذلك، كانا بلا أولاد. هل هذا أثر في ديناميكية الاثنين؟. قال كاين: "آه. كثيرا. لا يوجد كلام عن أحدهما بمعزل عن الآخر. كل الوقت أحدهما يتكلم عن رفيقه. ولا يجب أن تحكمي على مشاعر أي شخص حيال غيره. هذا يخصك وحدك".

هذه فلسفة عميقة، ولا سيما أنه كان شخصيا "محاطا بأولاد مثل نار ملتهبة". ولدت دومينيك أكبر بناته وهو بعمر 23 عاما، خلال زواج قصير مع الممثلة باتريشيا هاينز.  وأنجب من شاكيرا ابنة ثانية اسمها ناتاشا، وأخبرتني شاكيرا لاحقا أنه يستمتع بمرافقة أكبر أحفاده من المدرسة إلى البيت في آخر الأسبوع. قال كأنه يدلي بشيء هام: " أنا أحب الأولاد".

همهم ستاندنغ بالموافقة. فهو متزوج منذ عهود. قال السر  هو "أننا نضحك معا".

كان كاين أقل إيمانا بذلك.  قال"لا تجادل. ولا تحاول أن تبرهن بالجدل أو اللغو. هذا شيء بينهم".

قال ستاندنغ: "لكن النساء رقم 1 في كل حال. هن المكان الوحيد لإنتاج الاطفال".

وافق كاين.

قال ستاندنغ: "لكن يجب الآن أن أعترف. مايكل: هل رأيت ماذا بمقدور النساء أن يصنعن حاليا؟". جمد بموقف دراماتيكي. فهو مناضل من الويست إند، واختصاصه الكوميديا الخفيفة. قال: "القتال في قفص". التفت نحوي وأضاف: "ماذا يجعل جنسك يذهب بهذا الاتجاه؟. الرجال لا يفكرون بقتال الأقفاص. أما النساء - بم، بم، بم، يضربن وجوه بعضهن البعض. دون وعي. وهذه هي حياتنا الحديثة".

سألت هل شاهد كاين ذلك؟.

قال بملء فمه: " آه. نعم. على شاشة التلفزيون.".

ثم؟.

"صدمني".

"لماذا؟".

"لن أفعل ذلك مع الآخرين. حتى لو كنت لا أحبهم. سألقيهم أرضا وأتابع في طريقي".

الموضوع الحقيقي لفيلم "الهارب الخطير"  - حتى لو لم يظهر في البوستر - أن الهرب الوحيد الممكن من التقدم بالعمر هو الموت. تابع كاين وستاندنغ تقديم الأعمال التي ستستمر بعد رحيلهما. كتب كاين أولى رواياته وهو طريح الفراش خلال الإغلاق،  وحاليا يكتب الثانية. ستاندنغ رسام محترف. ولديهما ست أولاد معا. هل أحد هذه الاستثمارات يقترب من الأفضل أو الأسوأ خلال البحث المحموم عن الخلود؟. قال كاين: في ذهني نقطة واحدة فقط، "التهذيب". وربما الحياة. وأنشودة عيد الميلاد الحمقاء.

قال ستاندنغ: "عزيزي مايكل. قلت لإحداهن في يوم ما: هل سمعت ببيتر أوتول.؟. قالت: حسنا. سمعت بالاسم. ما أن تموت يعني أنك ميت. فكر ببوغارت. لكن فقط الشباب يعرفون غوز. ما اسمه؟ غوزلنغ. الأسماء الكبيرة في مسرح غيلغود لا تعني شيئا".

يعتقدون أن تلك المهنة وتلك الطبقة صنعا التاريخ. سألته: من هو النسخة التي تشبهه الآن، أقر بعدم وجود أحد. "لأنه لا يوجد الآن شباب يتصلون بماضي المجتمع البعيد، ويقفزون إلى الأمام بخطوات واسعة. أعتقد أن نوعي قد انقرض. ولا أستطيع أن أفكر بإنسان يعيش حياة تشبه حياتي".

قال: لم أكن أعاني من الجوع فقط، ولكن هناك كوريا، وبعد ست شهور، المالاريا (تقريبا لقي حتفه). "وهذه الحلقات لا تنتهي كما تعلمين؟ حتى يحين الأجل المناسب".

ولكن لم يئن الأوان. بقي كاين أيقونة وقت وطاقة تنحو نحو الغرائبية باضطراد. لا يزال يقول عن نفسه طبقة عاملة ويقلق من احتمال خيانة ممكنة لجذوره. ويقلقه مصير ستانلي أخيه. "وقف هناك وحسب وراقب كيف أصبح مليونيرا بينما هو عاطل عن العمل. وتحول إلى إنسان مشلول الحركة. كان يجب أن أغيب عن ناظريه ليتحرك".

مرة كان كاين يشتري كنبة وظهر ستانلي - وكان متواريا لفترة- وكان مع جماعة يأتون من الخلف.  قبضت عليه. قلت له: يجب أن لا تكون هنا. كم كان الأمر فظيعا. لم أكن أعلم أين توارى عن النظر.

"أصبح كحوليا. اشتريت له بيتين: أحدهما ليعيش فيه وأحدهما للإيجار ليحصل على نقود ليشتري بها المشروب". احمرت عينا كاين وأضاف: "كان أصغر مني بثلاث سنوات. مع ذلك مات قبلي منذ خمس سنوات".

وهناك دافيد وهو أخ أكبر بالعمر. ولد وهو يعاني من صرع حاد وأودع في مصحة. ولم يعرف به كاين إلا بعد وفاة أمهم - كانت تزور دافيد سرا كل أسبوع. حاول كاين أن يوفر له سبل الراحة الممكنة. أنفقت أمه سنواتها الأخيرة في أحد البيوت التي اشتراها لها وعين لها وصيفة لديها ابنان صغيران" وقد أحبا أمي كأنها جدتهما. وكنت سعيدا جدا بذلك. لقد فعلت ما أمكنني للجميع. وهذا كل شيء. وها أنا أجلس هنا، وقد أديت واجبي. ولا يمكن أن أفعل ما هو أكثر".

"الهارب الخطير" حسب الأقوال الشائعة آخر أفلام كاين، مثلما حصل مع هاري براون عام 2009. لكنه أضاف لتاريخه 24 فيلما تاليا - الأكثر مشاهدة كان في عام 2021. لذلك هذا ليس آخره. فهو سيصور فيلما في كانون الثاني: "وهو عن إنسان مشهور لم أسمع به من قبل. شارلز، شارلز..".

قال ستاندنغ: " … داروين".

"نعم. سأمثل دور شارلز دارون. وهذا كل شيء. لن أمثل بعده".

سألته هل هو متأكد؟.

أجاب: "كلا. لكن المشكلة هي هل يمكن أن أفعلها؟. هل يمكن أن أتذكر كل السيناريو؟ فقد اعتدت على الكسل والمكوث في السرير حتى 11 صباحا والسهر لوقت متأخر في الخارج. وأنا أحب ذلك".

في "الهارب الخطير" تذكر جاكسون مقولة عن متع الحياة في مقتبل العمر، لكن ما أن تبلغ مرحلة متقدمة "ينتابك اليأس".

في الجلسة الحالية ظل غريب من هذه العبارة.

قال كاين: "آه يا إلهي. أنا مستمتع جدا". يوافقه ستاندنغ. تنازله الوحيد أمام التقدم بالعمر هو التخلي عن رقصة النقر - ولكن أشتبه أنه سيفعلها محرجا في حالات استثنائية.

كلاهما لا يمكنه التفكير بموقف مؤسف بسبب التقدم بالعمر.

قال كاين: "لا أحد أضر بمشاعري".

قال ستاندنغ: "لا يبدو أننا نحتاج للمساعدة".

في حالة كاين هذا ليس صحيحا تماما. جسمه ناعم، خداه منتفخان - "كنت محظوظا جدا لأن كل وجهي لم يسقط" - كانت عروض "الهارب الخطير" حافلة بلقطات قريبة رائعة. ومع ذلك هو يستعمل العصا والكرسي المتحرك. ولم يشعر بالخجل من رؤيته وهو يستعين بهما. قال: "كلا. هذه حياتي وأنا أفعل بها ما أريد".

قال ستاندنغ: "أعتقد أنك جريء لدرجة الجنون. كلام رجل لرجل يا مايكل. شيء يثير الإعجاب أن تقول: 'لا يهم، سأمثل هذا الفيلم'. رغم كل تلك المشاكل".

أعتقد أنه على صواب.  بالنسبة لشخص معروف - ومألوف - مثل كاين، الضعف غير الملحوظ دليل على الشجاعة.

قلت: من المؤسف أن صعوبة "الحركة" كانت السبب الذي منع الملكة من حضور مناسبات مختلفة في نهاية عمرها - لا يمكن أن نفهم أنها على كرسي متحرك.

لم يرغب كاين أن ينتقد الملكة. بل روى قصة أول لقاء تم بينهما، في حفل غداء، حينما طلبت منه أن يخبرها بطرفة. ولم يخطر له طرفة نظيفة. "أشارت لرجل على جانبها الآخر وقالت: سأكلمه على انفراد. وسأعود بعد خمس دقائق وأريد طرفة منك".

لا أعلم كيف كان الانطباع الذي تخلف عن مايكل كاين عند الملكة، ولكنه بالتأكيد مرعب جدا. قلت له بعد أن انتهى من الطرفة (كانت طويلة وعن الدجاج): هذا مخيف.

وسألته: هل رأى بينهما تشابها؟.

قال: "يعتقد الجميع بوجود تشابه بينهم وبين الملكة".

لكن ستاندنغ، وهو بارون فعلا، اعترض على ذلك. أما كاين فيعتقد أنهما يشتركان بأمر ما - ربما هو الإحراج والتحفز الذي يشعر به الآخرون إذا ظهرا - هو أو الملكة. هذا هو الأثر الذي تركه "الهارب الخطير".  قال آرثر في الختام (شخصية في الفيلم ويؤدي ستاندنغ هذا الدور): لقد حرك بيرني في الناس أفكارا عميقة، دون عمد.

سألت هل لكاين علاقة؟.

قال: "لا أعلم. ربما نعم لكن بقدر قليل. ولكنه ليس سارا. وأنا لا أقوم بأفعال غير سارة".

ولكن تعتقد أن لديك تلك المقدرة؟.

"نعم. آه. نعم".

وماذا يبدو ذلك؟.

قطب وجهه وقال: "مريح".

انتهى وقتنا. نظر كاين لساعته. قال: "28ْ درجة مئوية. والنافذة اللعينة مفتوحة".

***

....................

- عن الغارديان الجمعة 29 أيلول 2023

- كاثرين شورد Catherine Shoard محررة صفحة الأفلام في جريدة الغارديان البريطانية.

ترجمة: صالح الرزوق

1- بين الانتشاء بالخلق والاحتفاء بالجسد:

لئن كانت المرأة في ادبنا العربي بصفة عامة الشخصية المراوغة المحتمية بظل الرجل فإن امرأة المسعدي ميمونة تبدو في هذا المقطع من الجزء الخامس من كتاب "السد" المرأة الشجاعة الصادقة مع نفسها التي يدفعها صدقها غلى القسوة على غليان و"سده" و"فعله" في موقف لا مجال فيه للتغافل والتجاهل فإذا هي تدعوه بعد تفكير لكي يمارس معها "الجنس" و"الحب" وإذا هو يرفض ذلك بكل إيمان وصلابة فكيف دافع كل منهما على اعتقاده؟ فإذا كانت ميمونة وغيلان يمثلان ثنائية في الإنسان فكيف يمكن تجاوزها؟

لم يكن هذا النص بداية الصراع بين بطلي "السد" "ميمونة" و"غيلان" بل نهايته وذلك لمسحتي الحزن واليأس اللتان تغشيان المناخ المحيط بالطرفين واللتان توحيان بقرب الانشقاق وحل الروابط التي كانت تجمع بينهما.

بدأ النص بالصمت المطبق بين الطرفين وهو الذي قطعه غيلان بمبادرته بسؤال ميمونة في ما تفكر. والصمت أثقل وطأة على غيلان من الكلام. فميمونة تفكر في رعونة غيلان وكبريائه. فهذا السد "قائم" شامخ مستو يعانق زرقة السماء وغيلان "متخم" بنشوة الفعل "والخلق" يقف وقفة خشوع وتأمل وزهو أمام صنعه ساعة "تمام الصنع والخلق " وميمونة فقدت صبرها وجلدها وقد تكرّرت دعوتها مرات ومرات ولكن السد حال بينها وبين غيلان فكانت محاولاتها لا تنفذ إلى قلبه ولكنها لم تياس بل تحاول من جديد لأنها تشعر بأن وجودها لا يتم إلا بغيلان فهو مكملها وهي مكملته كما أنها تخاف عليه من السد ومن التردي في "الزيف"و "الخيال" وأخيرا وقد اعوزتهما الحيلة تلتجئ إلى سلاحها الخاص بها وبكل مراة الجنس "دودة" غيلان ودودة الإنسان وداؤه. كانت دعوتها بعد تفكير فجاءت مسلحة بشحنة فكرية وعاطفية قوية ثقيلة الوقع على غيلان قاسية عليه تدعوه فيها إلى "الكهف" غيلان الذي يصوب نظره دائما إلى السماء ويهزأ من الأرض ومن الجسم لأنه يعتقد بأنه ليس إلا "عقلا" خالصا و"فعلا" خالصا. في حين أن ميمونة تحاول أن تنبهه إلى انه جسم ممتد مثل سائر الأجسام ويتحتم عليه أن يعترف بالحيز المكاني الذي يشغله وبقية الموجودات التي حوله هي تدعوه إلى جوف الأرض إلى "الكهف" وفي حركة الدخول انحناء الرأس وفي ذلك خضوع واستكانة وإذعان وفي ظلمة الكهف رضاء بالحياة بظلامها ونورها وخيرها وشرها وجمالها وقبحها وهي تسأله قضاء يوم واحد وهنا إشارة إلى الزمان وكيف أن اللذة لا تدوم فهي عاجلة. فلذة فترة قصيرة تعقبها آلام طويلة مبرحة ورغم ذلك ترى ميمونة بأنّ على غيلان بل على كل إنسان ان يكون صادقا مع نفسه ولو لفترة وجيزة من حياته. إنما المأساة الحقيقية في أن نقضي حياتنا كلها في "الخيال" و"الزيف" دون أن تكون لدينا الشجاعة على مجابهة مشاكلنا وقبول الضعف اللاصق بنا بكل شجاعة بل ترى ميمونة بان لا بد لهما من أن "يتجردا" من ثيابهما ويعتكفا في الكهف ليعيدا الإحساس بجسديهما ويتمرغا في الظلمة و"الغبار" والأرض ويعتزلا السد والآلات والعمال وصياحهم ويقلعا عن الكلام ليسمعا صوت الحياة صوت "الصدق" صوت "الكون " يدعوهما إليه لكي يتعاطفا معه فيمارسان لذة الحب. ونلاحظ من خلال هذه الدعوة انفجار طاقة ميمونة الجنسية التي كبتتها طيلة عشرتها لغيلان فتجلّت لنا المرأة العاشقة التي تريد أن تثأر لجنسها ولحبها ولجسدها الذي هزأ به غيلان. وتريد أن يأتيها غيلان مخذولا عاريا من السد إذ السد غريم ميمونة كما نلاحظ ان نوع الحب الذي تدعو إليه ميمونة هو حب ذاتين حرّتين متساويتين ومفهوم الحرية عند ميمونة هو في التخلص من قيود الخوف ومغالطة النفس والمماطلة في مجابهة النفس بنقصها وعجزها وبمحدوديتها. هنا تكمن الحرية فاعتكافها في الكهف هو من أجل "التطهر" "كطهارة الوحوش" و"الحيوان " و"الأرض" و"النور" و"النار" فميمونة مارست هذه الطهارة في تجربتها الحسية الوجدانية مع الكون تعرت وخرجت "للهواء" "للنار" و"النور" منفتحة على الطبيعة بكل حواسها متعاطفة معها بكل أحاسيسها في حين أن غيلان متفرغ إلى سده وإلى عزمه وزيفه يخفي وراءه عجزه وعورته ويصنع سدا منيعا بينه وبين العراء لكن السد ليس إلا وهما أمام العراء الطبيعي عراء الجسد عراء "الكون " لذا فميمونة تدعوه كي يتخلى عن سدّه ويتطهر "بالنور " لا بالماء لان الماء في كون الآلهة كون النور والنار آسن "لعين" "ملعون" لا يطهر ولكن غيلان يرفض دعوتها ولذلك لم تنجح ميمونة في إحباط عزائمه لان إيمانه بالإنسان أقوى من كل شيء فالسد قائم والعقل قائم وغيلان مازال يتجاهل ضعفه وواقعه إذ الواقع لديه هو الممكن والخيال لذلك فقد ضحى بنصفه الآخر ميمونة شكّه وحيرته ليبني على أنقاضها سدّه المنتصب في خيلاء ومع ذلك فهو يحس بثقلها عليه ولكنه يتعامى ويتصامم لقد فصله السد عن الكون فإذا به غريب عنه لا يتعاطف معه ولا يفهمه فعلاقتهما ببعضهما علاقة عداوة.

فغيلان يعيش تجربة "خلق" ويرى بان التفكير والصمت والجلال من صفات السد هنا السد هو لحظة الصمت ولحظة "الخلق " ولحظة "إفراز القيح " لذا فقد هزأ من ميمونة عندما صمتت وفكرت وهو المتعالي والمتسامي عن بقية الموجودات. يريد أن ينفرد بذاته "فيتوحد" لكن غيلان لهو "العتي" و"الكبر" لقد أخذ به الغرور كل مأخذ فأعماه عن واقعه لو نظر غيلان إلى الأرض لو لبى دعوة ميمونة لرأى قامته ممتدة لاصقة بالأرض تلامس الكون والوجود ولرأى ان ميمونة نصفه الذي لا بد منه ولكنه لا يرى غيلان يفكر دون أن يرى فحمل "فرحه" أكثر من طاقته فإذا به "الخيال" و"الوهم" و"الزيف" إذ كيف يستطيع الإنسان أن يتخلص من جلده كيف له أن يهرب ويتفصّى من جوهره الأصلي هو هذه الثنائية هذا التلاقح بين الجسد والعقل فإذا فقد أحدهما لم يعد للإنسان معنى. فهذه الثنائية في الإنسان تجعله دائما متردّدا بين الألوهية والحيوانية تشدّه المادة إلى الأرض وتحتم عليه سبل التصالح مع الكون والانفتاح عليه وترفعه القوة و"العزم" و"الإرادة" "الإنسانية " اللامحدودة إلى حمل القرح على أن "يفرز قيحه " "فيفعل" و"يخلق" و"ينشىء" ويبني" السدود ينازع بها الآلهة ويقضّ مضجعها "لإثبات وجوده ولعل فشل غيلان يتمثل في "لا إنسانيته" إذ هو يهزأ من الجماعة ويعتقد في وحدانيته بالإضافة إلى أنه حاول التخلص من نصفه ميمونة فبقي شطرا وحيدا يصارع الأهوال والعراقيل والسدود فقضى على نفسه وعلى سده بالفشل. وفي الحقيقة ما وجود الإنسان إلا في مكانته الوسطى بين هذين القطبين الذين يمزقانه بصراعهما وما جوهره إلا هذا الصراع والجهاد من أجل تكوين شخصية معتدلة ومتزنة. لذا فالإنسان الحقيقي لهو ميمونة وغيلان متحابين متصافيين في حبهما وجنسهما وفعلهما وإرادتهما بين الكهف والسد بين الجبل والوهد بين الماء والنار والنور يأخذان من الطرفين ويتمتعان بأجمل ما في الكون ويتجاوزان المصاعب والعراقيل بعزم وقوة.

2- الصراع بين الانشداد إلى الوجود والتوق إلى المنشود:

التزمت ميمونة الصدق فقررت ان تكون نارا على كل من يحاول أن يخادعها أو يخادع نفسه ويحملها على الزيف والكذب.

و لقد كان هدفها من بداية مسرحية "السد" غيلان تصارعه رغم الحب ورغم الجنس ورغم كيانها وجوهرها كامرأة وصمت منذ القدم بوصمة التبعية ولكنها في هذا المنظر السادس من كتاب السد تقول "يا غيلان بلغت جهدي كفاني التصاعد والتعالي كفاني ! "

فإن كانت ميمونة تشكو الجهد والتعب والمعاناة فماهي معاناتها وماهو جهدها وتعبها طيلة عشرتها لغيلان؟ وما هي أبعاد هذه الشخصية من خلال كتاب السد؟ وماذا يمثل كل من ميمونة وغيلان؟ لقد أدركت ميمونة من البداية أن علاقتها بغيلان لن تكون علاقة حب صافية لا تشوبها شائبة لانها لمست اختلافا جوهريا بينهما يحتم عليها ان يكون موقفها موقفا حازما لا مجال فيه للتخاذل والتجاهل لان القضية قضية وجود أو عدم.

فاختارت أن تكون على غيلان لعنة وخزيا وحيرة حتى يرجع إلى رشده ووعيه رغم ما في هذه المغامرة من مجازفة لان غيلان مفعم بنشوة الفعل والخلق يريد تحقيق الممكن وبناء سد يحبس الماء ليحول القحط إلى خصب والجفاف رواء ويحول عالم الآلهة عالم النور والنار إلى عالم سد وماء ورواء لا يشوبه غبار الأرض الكالحة ولا لفحات الشمس المحرقة. لقد انتصب غيلان بين الجبل والوهد يخطط لبناء سد يصل إلى السماء ويفرض نفسه على كون الالهة "صاهباء" ويتيه به على الجبل وعلى صاهباء وهواتفها ولقد أحست ميمونة منذ البداية بخطر ما هو مقدم عليه فحاولت أن تثنيه عن عزمه ولفت انتباهه إلى الجبل قائلة " إنه جبل وليس بجبل " لقد أدركت ميمونة بان عالم غيلان عالم معاد له مهيمن على الإنسان والحيوان والطبيعة عالم الآلهة حيث يتحول فيه الجبل إلى "غول" يغتال غيلان ويحبط أعماله ويبعث فيه الضعف والوهن إنه صورة لخلق صاهباء وعتوها وعظمتها وليس لغيلان أن يحاول محاكاته آو التمرد عليه ولقد كانت ميمونة في البداية تشعر غيلان بزيفه وصلفه وتحذره مغبة استهتاره واستهزائه بصاهباء ولكم حاولت إقناعه بان أهل الوادي قانعون راضون وان ضعفهم إنّما هو عين التطهر وأن لا سبيل لتغيير نواميس الطبيعة. و لكن غيلان صامد يبني سده بكل إيمان وقوة معتقدا أن النواميس لا بد لها أن تتغير وان التطهر يجب أن يكون بالماء فالماء وحده هو القادر على التطهير وبعث حياة جديدة مبنية على الأمل والثقة بالإنسان وإمكانياته ومستقبله فما كان من ميمونة إلا أن تسايره في طريقه الوعر هذا الطريق الذي جبن عنه الكثير ولعل ذلك راجع لاستحالتة وبعده عن الواقع. وكيف لها ان تتركه وحده وهي تحس في قرارة نفسها بأنه نصفها الذي يكملها؟ لقد تبعته على مضض كالأم التي تراقب ابنها وتخشى عليه من مغبة غروره أن يلحق به أذى والمرأة التي تشعر بان زوجها هو قدرها الذي يجب أن تتبعه حيثما كان أحبت ذلك أم كرهت.

ولقد حاول غيلان أن يجعلها تعيش فعله وخلقه وأن يثنيها عن عزمها ويقنعها بوجوب مساعدته إلا أن عاطفتها لم تذهب بها إلى الحد الذي يجعلها تستجيب إليه. لقد كانت تخذله وتفضح عجزه وزيفه وتفتخر "بعرائها" وتجردها وتفاعلها مع الطبيعة

لقد تعرت ميمونة وخرجت للكون تتطهر بالشمس والهواء تحاكي "الصّفاة " و"النّسر" و"الحيوان " تناغي الوجود وتتمتع بنقائه وجماله الحسي ولكم أرادت أن يشاركها غيلان ويصل معها إلي قمة اللذة بأن يشاركها "تجردها" و"تطهرها" فيفعلا الحب والجنس محاكيين في ذلك النار والتراب والحيوان فيكونان صادقين إلى أبعد حدود "الصدق" قويين إلى أبعد حدود القوة ولكن هذه الدعوة بقيت بدون صدى لان غيلان لا يحس. غيلان يفكر وغيلان لا يلتفت إلى الطبيعة ولا ينظر إلى الاسفل إنّه ينظر إلى الأعالي ويركز اهتمامه على صاهباء كأنه يريد أن يستعيد شيئا سرقته منه أو كانه يتحين فرصة غفلتها ليختطف منها قدرتها وخلقها ولكم فشلت ميمونة في تحسيس غيلان بوجودها ووجود الطبيعة والكون حولهما وكأنها لم تجد منفذا تصل به إلى قلبه لقد حاولت ذلك عن طريق العقل ففشلت وحاولت ذلك عن طريق الحس فانهارت وإنها لأثقل طعنة توجه لميمونة ولكل امرأة أن تطعن في الحس والجنس ولقد عبّرت عن هذه المرارة في حلمها. ولقد صحبت ميمونة غيلان في رحلته إلى الفعل والخلق وكانت تعتقد أنها تفرّ بحبّها ولكنّها كانت "تخونه"في لاوعيها حينما تمنت أن يأتيها غيلان مخذ ولا عاريا بدون سد فتختلي به لنفسها وقد أصبح جسدا خالصا فيكون الفوز ويكون الانتصار ولعلها تمنت أن يفعلا سدا حسيا وأن تنجب أطفالا فتكتمل ماهيتها وتحقق وجودها فتقوى بذلك على الضعف وتواجهه بكل صدق ولكن ذلك بقي حلما وبقي غيلان كما عهدته هازئا صارما متصلبا ليس لتحويله عن عزمه سبيل.

ولقد استعانت ميمونة بالعمال وبصاهباء وبالظواهر الطبيعية مثل الأعاصير والرعود التي نالت من السد ولكنها كانت كلها تمثل لدى غيلان فترة من الضعف والهون لا تلبث أن تتبدد أمام بأسه وعزمه وقوته وعناده. لقد لازم الأمل غيلان وعلق به علوق الجوهر فليس إلى انفصالها سبيل. فإذا به يتعامى ويتصامم ويتجاهل كل ما حوله مفتونا بفكرة الفعل والخلق. و لقد أحست ميمونة في الآخر بان صحبتها له أصبحت مستحيلة وأن لا سبيل إلى إقناعه "فطلقت "نفسها وتخلت عنه عندما اكتشفت زيفه وانخداعه. و بعدما سئمت التصاعد دون الصعود والتعالي دون العلو وبعدما يئست من صدقه وسئمت منه ومن اختفائه وراء سده "المنتصف" "صورة منه إليه " وتركت المجال لمياري "عتوّه" و"عقله فاقدا الرشد"

و لعل ميمونة هي من أهم الشخصيات التي اهتم بها المسعدي بصفة خاصة وتعاطف معها لأنها كانت طيلة مقاطع السد تمثل ذلك الجانب. الإنسان الأصيل الساكن المتوازن الذي رضي بالحياة بآلامها وسعادتها ورأى في التصالح معها عين الصدق ذلك الجانب في "الذات" الذي يحن إلى "الموضوع " ولعلها في اتحادهما يصلان إلى الاعتدال والتأله والتوازن المنشود.

إن روح ميمونة هي روح الإنسان الواعي بمشاكله الذي لم تنطل عليه مختلف الإيديولوجيات المتداولة عبر العصور كما لم تغتر بمقدرته فلم يكن إيمانه بنفسه يدفعه إلى الغرور. لقد كانت شخصية متئدة عميقة الأبعاد تمثل من بعض وجوهها مجتمعنا الشرقي المستكين الخاضع لنواميس الوجود المتفاعل معه المؤمن بالجماعة والتقدم الواثق في الإنسان ثقة نابعة من وعيه بالعجز وأن بإمكانه تجاوز هذا العجز بقبوله ولعل واقعية ميمونة تتمثل في كونها تؤمن بان الواقع هو الموجود أما الواقع بالخيال فوهم محض وأن غيلان الذي حاول إقامة الوجود بالعقل إنما كان حلوله بالكون حلول الدود بالثمرة فالثمرة إلى التعفن والفساد. و لقد تفطنت ميمونة إلى أن محاربة الآلهة وجميع القوى الغيبية لهو استنزاف للقوة الإنسانية ولمواهبها وقدراتها كما اعتقدت أن هذه القوة كان من مهمتها أن تسخر التصالح مع الكون والذوبان فيه لما تتطلبه هذه العملية من قوة وتجرد وصفاء. و لكن ميمونة وإن مثلت ذلك الجانب المستكين من الإنسان الواعي الذكي المتزن فقد مثل غيلان ذلك النصف الآخر من الإنسان الذي تأبى عليه إنسانيته إلا أن يجاهد ويناضل لتهديم خلق الآلهة وبناء عالم إنساني يكون الإنسان محوره الأساسي. لقد كان غيلان تلك القوة الإنسانية الجانحة بصفة متواصلة إلى المقاومة والمجاهدة لتحقيق الممكن عن طريق الحلم والحزم ولعل أقصى ما يصبو إليه الإنسان هو تحقيق ميمونة وغيلان معا فالواقع موجود بالفعل ولا سبيل إلى إنكاره إنّما هي الحقيقة والمعضلة في نفس الوقت ولكن عمل الإنسان يتمثل في تجاوز هذه الحواجز وتحقيق السعادة الإنسانية عن طريق الحلم الذي يتحول إلى حقيقة بفضل الجهد والطاقات الإنسانية الخلاقة. ولعل "تحفّر" الأرض تحت قدمي ميمونة و"تلاشي" غيلان في السماء لأكبر دليل على فشل كل منهما بمفرده إنما النجاح الحقيقي والسعادة الحقيقية في تلاقحهما وتعاطفهما وتضامنهما.

***

بقلم: مفيدة البرغوثي - شاعرة وكاتبة

تشبعات المداليل وتحايلات مغاليق الداخل النصي

الفصل الثاني ــ المبحث (1)

توطئة:

أن أغلب ما قرأنا في آداب العقود الرومانسية وحقب الخرافات والأليغوريات وحكايا الجان ــ جميعها لم تكن سوى جملة من الأجناس والأنواع ما قبل الحداثوية والميتاحداثوية، إذ لم تؤخذ من قبل نقاد ما بعد الحداثة ذلك المأخذ في إيجاد مساحة خاصة من الغاية والأهمية، اللهم إلا من حدود تلك الإثباتات المرجعية أو الاستشهادية على نحو مفارق لجدية المواثيق في دراسة النصوص الممارس مقاربتها من ناحية موضوعية وأسلوبية. غير أن القارىء والناقد بنصوص الروائي جوزيه ساراماغو، لربما يجد ذاته إزاء عوالم تخييلية تتجاوز ملموسية التعرف الأجناسي والنوعي في ماهية هذا الأسلوب الذي وطن عليه ذاته ساراماغو في تراكيب أعماله الروائية، خصوصا ما عثرنا عليه في رواية (انقطاعات الموت) ورواية (العمى) موضع مبحثنا في عوالم الروائي الإمكانية والممكنة بطريقة ما يمكننا تأشيرها على إنها الأواصر والصلات المتراتبة في أفق الخطاب الأتفاقي الكامن في مضمرات السارد الشهودي. على إنها ذلك المظهر المتعارض وحقيقة ظاهرة خطابها الخارجي. الذي هو بذاته يشكل معطيات مرصوصة من سلسلة وقائع متكونة من اللاتحديد أو اللاوجود في تصديقات الأحوال العاملية المعتمدة شكلا وإطارا. يمكننا بالطبع تمييز النزعة الاسلوبية من جهة غاية في الموضوعية والدقة الاستدلالية حول بنيات رواية جوزيف ساراماغو، ولكن بعيدا عن الرؤية الإسقاطية والعجالة العابثة في مداولة مفردات مكوناته السردية، لذا أثرنا على دراستها في الصورة التي لامست نزعتها المتوارية خلف مؤشرات المعادل الرمزي والتحليلي والتأويلي، وصولا إلى متعلقات جوهرها الانطولوجي الذي سعى من خلاله ساراماغو إلى أن يكون مدركا للابعاد الذاتية والنفسية في حيوات الشكل والبنية والعلامة الايديولوجية في متعلقات الطابع والفحوى المجتمعية من حياة ومصير الشعوب إزاء تلك الكيانات السياسية اللامشخصة دالا ودليلا في الأواصر والصلات المتراتبة في الخطاب الاتفاقي في مضمرات السارد المنمذج.

ـــ الزمن السردي واحتمالات الأوجه المعادلة:

يثير فينا مستوى التضمين والإحالة بما لا يشكل ظهورا في صيغة الأحوال الدلالية، عبر ذلك الأفق بأتساع التأويلات حول ماهية موضوعة الطرح السردي تحديدا. أقول أن صيغة العلاقة فاعلة في شكلها التوظيفي، ولكنها بالتواصل الفعلي، بدت وكأنها حقيقية يحددها الهدف الامتدادي اللاحق من مسكونية المفترض أو المعادل من المعنى المعياري والتخييلي. تتشكل دلالات الاحوال عبر ملفوظها التركيزي حول غائية ذا حمولة موسومة بالشك والاضطراب والحمى الوهمية، وقد تكون المحددات في وسائل الأفعال والمسرود، متمثلة في الأصل الموقفي من قضية ما في الواقع المجتمعي، أو إنها الطرف الغائب من المتجلي في طموحات الفرد العاملي الذي هو أحوج للتوسع في طرح املاءات واقعه بصيغة البدائل المعادلة لانعكاس أوجه ذاته الكلية والجزئية من رهان السؤال والقلق الكبير.

1ــ إشكالية زمنية ومكانية تداخلات العمى اللاإرادي:

إقرارا يمكننا الاعتقاد بأن سياق معطيات الأحداث الروائية، قد حلت في حدود ذلك (الأفق التفارقي) وحتى لا نقول من جهتنا بأن الرواية أهدرت زمننا في ظلماء الوهم، سوف نعاين حتما أواصر القيمة الكفائية والإمكانية في وسائل ووسائط السرد، والاقتناع بمدى الاقتدار في متواترات الحكي، بما راح يمنحنا قصدية مألوفة في معاينة مستويات وآليات اللحظات الأكثر قضوية من الشك في نزوع السرد إلى الكشف الجانبي المبتسر. إن الخاصية الزمنية في ضوء معطيات الوقائع السردية في مستهل وحدات الرواية، بدت مرتهنة في مساحة تعزز البعد المكاني الذي غدا متفردا في المستهدف من ناحيتي (السياق ــ المؤول) فكم من الوقائع الجادة في مستويات النصوص، ما تتحول إلى مكونات خلفية بالتوالي الامتدادي للزمن والمكان والعامل المقصدي. إلا أن توظيف الخاصات من المكون المكاني، راح معتمدا على مقدرات الاستعادة والتخصيص في تحويل صيغة الإنتاج عبر نظام خاص من أفعال المتابعة المنتجة: (أبقى السائقون أقدامهم المتعجلة على دواسة القابض، تاركين سياراتهم في وضع الاستعداد، تتقدم للأمام، وتتراجع مثل خيول هلعة يمكنها أن تتحسس السوط الذي يوشك أن يهوي عليها ــ بعض الأشخاص يؤكدون قائلين إن هذا التأخير الذي يبدو غير مهم ظاهريا، سوف يتضاعف بفعل آلاف الإشارات المرورية الموجودة في المدينة. /ص19 الرواية) ربما من الواضح أن صيغة هذا النوع من (التعطيل = الوقوف الزمني) تتطلع إلى حالة خاصة من الوعي الذاتي إلى حقيقة ملازمة تفرضها إحالات السارد العليم بطريقة موحية إلى كلا القوة الشبيهة بقدرة المصادرة والتمثيل لهما في حقيقة مثال الطبقة الايديولوجية التي يتمتع بها إباطير الوجود السياسي، وهذه الكيفية بذاتها تصويرا نحو انغلاق كينونة الأفراد وغشاوة رؤيتهم عن رؤية الأشياء والحالات في شكلها الصريح. وربما من جهة خاصة أن حياة الفرد غدت أكثر تدرجا نحو تقاطعات الحقيقة المادية الواضحة، لذا أصبحت التمثيلات الايعائقية أكثر رؤية من صفاء الذات عبر وازعها الضمائري وجهة نظر السارد في موضع القصد المتعين في حياة الأفراد الداخلية، وهذا هو الموضع عينه الذي يبدأ منه مفهوم (العمى) عند قرارة الوعي الذاتي تبصرا، فهو العماء الانعكاسي في المكان والزمن، وبالأساس الأول في ما يتعلق في موضع الضمير الإنساني والإغفال عنه، طالما أصبحت ممارسات الأنظمة الاجتماعية شكلات من الاهتمامات بالخارج المعطى، كعلامة تعنى في ما تعنيه، الاستحالة البصرية عن رؤية المعنى القلبي واستبعاده من مزامنة الفرد لمشروع وجوده في ظل الاشارات القمعية المنتجة لحيوات أكثر عكسية لمصداقية أطروحة فطرية الإنسان: (اشتعلت الاشارة الخضراء أخيرا، فانطلقت السيارات مسرعة، لكن تبين فيما بعد أن ليس جميع السيارات انطلقت بالسرعة نفسها عند اشتعال الإشارة. /ص20 الرواية) هناك ما ينبغي أن يعلمه القارىء، بأن طبيعة مؤشرات الروائي ساراماغو، أكثر إعادة في تشييد المتضادات في التتابع الإجمالي من انطلاقة السرد، فهو، ــ أي ساراماغو ــ من أشد الكتاب استبعادا للمحاور الفعلية في ظهور الأدوار الشخوصية، لذا فإننا عادة ما نجد صوت السارد هو العلامة المتوحدة في زمن نطقها عن مواضع التحليلات للمواقف الشخوصية، كذلك أيضا ما يخص نظام ترتيب الأحداث وتواترها، وعلى هذا النحو وجدنا أغلب رواياته تتمثل ب (أطروحة المؤلف) والسارد من خلفه، شبيها بالترجيعات الحدثية والنفسية والكلامية الطافحة بالمكونات الدالة عن عوالم الشخصيات الصورية والشذرية والحلقية: (تبين الأمر حين تمكن أحدهم، أخيرا، من فتح باب سيارته ــ أنا أعمى ــ. /ص20 الرواية).

2ــ حسية الإمكان الوقائعي وغشاوة الوعي الباطن:

لعل رهانات المتحكم المعادل للصورة الأنموذجية للذات الفردية في أحوال صفة العمى الفجائي في وقائع حياة الشخوص، هي الحالة الانشطارية التي يمكننا من خلالها عد هذا الموصوف دون الصفة الحقيقية لوقوعه الفعلي، بل ما أراده التخييل، هو الكشف عن وجود حالات تعمى في هواجسها وأبصارها الباطنية وليس دون ذلك من حقيقة الظاهرة الفعلية من صفة العماء. إذن لابد وأن هناك من الدليل على أثبات حسية وحقيقة هذا العماء المثالي. ولابد من القول هنا أن السياق النصي غدا يكتسب بعدا فنطازيا قريبا من عوالم المسخ والتحول,وينطق البطل الشخوصي بهواجسه المقلقة كونه بات يشعر بعدم الرؤية، وهو الأمر الذي راح يجعل من التصور الذهني لديه بأنه على أتم الانزلاق في هاوية الغشاوة البيضاء التي تصله بالمجرد من التباعد عن الأشياء وضبابية المرأى منها: (توسل إليهم الرجل الضرير قائلا: أرجوكم، هل يستطيع أحدكم أن يأخذني إلى منزلي.. المرأة التي اقترحت أنها حالة ناجمة عن الأعصاب، هي التي اقترحت فكرة استدعاء سيارة إسعاف كي تقوم بنقل الرجل المسكين إلى المستشفى، إلا أن الرجل الكفيف أبى أن ينصت إليها، بطريقة لا ضرورة لها على الإطلاق.. كانت هنالك هممات، شعر الرجل الأعمى أن أحد الأشخاص يأخذه من ذراعه: تعال، تعال معي؟. /ص22 الرواية) تبعا لهذه الوحدات من التلفظ الخطابي، نستدل بأن حكاية الرجل الضرير، لم تأت كما يبدو عليه حال الفارض المزمن في العماء فطريا، بل أنه ذلك النوع من الضر المفاجئ، والمعاينة التأويلية في مثل هكذا حال، لربما تقودها اعتبارات وإحالات خاصة في الوضع النفسي، وليس بالضرورة أن يكون العارض عضويا، وهذا ما ندركه تحديدا، عندما يصل الرجل الضرير مقتادا بمساعدة رجلا آخر إلى قعر منزله: (كانا قد وصلا إلى مدخل المبنى السكني، تطلعت امرأتان من الجيران بفضول وهما تريان جارهما يقاد من ذراعه غير أن أيا منهما لم تفكر في طرح أي سؤال ــ هل تشكو من شيء ما في عينك. /ص24 الرواية) يتحول كلام الشخصية في هذا المشهد إلى علاقة تنافذية تجمع كلا من (السارد ــ الشخصية = تداخل الوعي) ولو أردنا معرفة مؤطرات الترتيب العلاماتي والإيحاء بنوع من العودة إلى دائرة الحكي عبر مراحل مغامرة وصول الرجل الضمير إلى منزله، لواجهتنا ثمة علامات خاصة توحي للقارىء، بأن هناك علاقة خفية بين أضواء إشارات المرور وخاصية عماء الرجل ذاته: (كان حائرا لأنهما يجب أن يبقيا في موضعهما: ــ لماذا لا تتحرك، سأل: الإشارة الضوئية حمراء؟ رد عليه الرجل الآخر. من الآن فصاعدا لن يعود يعرف متى تكون الإشارة الضوئية حمراء. /ص23 الرواية) وقد لا يتعلق الأمر بدوره هنا على كون الزمن عبر تبدلاته يطرح البداهة المباشرة في كون الرجل أصبح فعلا في حالة عمى، لذا فإنه منطقيا لا يرى بعد الآن، لا أبدا ليس الأمر هكذا فهناك وحدات في أكثر من مكان في بدايات الرواية، تعول حوله المقارنة بين عالم (الشخصيات ــ علامات المرور الضوئية) ويظهر لنا الأمر كحالة نوعية بأن دلالات (التوفق = العبور) تشكلان تأكيدا رمزيا تخص حالة العماء ظرفيا ونفسيا وسياسيا معا. وإذا أردنا معرفية رصيد الأفعال المتقدمة في فحوى هذا الشأن، لوجدنا العديد من تضاعيف هذه المرمزات قد تدخل في وجوه غريبة من حياة الشخوص في الرواية، كحال هذه النماذج من الوحدات: (اشتعلت الإشارة الخضراء أخيرا. ص20 / كانت الإشارات الضوئية قد تغيرت مرة أخرى. ص21 / وهي إشارة مرورية حمراء مستديرة عند الإشارات المرورية. ص21 / اشتعلت الإشارة الكهرمائية. ص19 الرواية) كذلك يمكننا معاينة تمثلات الاشتغالات الاستباقية، وبالتضافر مع عناصر خطية في حوار الرجل الضرير مع الرجل الذي أوصله إلى بيته: (لا تشكرني، اليوم أنت، وربما سيأتي الدور عليك أنت في الغد. /ص24 الرواية) وعلى هذا النحو من المصادفات الاستباقية، تتحقق فعلا إصابة الرجل الآخر بالعمى مستقبلا وبذات الغاية والوسيلة من العماء الفجائي الذي حدث للرجل الأول صاحب السيارة.

ــ فصول من العماء الجماعي وكوامن برزخ الغشاوة البيضاء:

أعتقد أن معنى الاختلاف في فن رواية ساراماغو ما هو إلا حالة مؤسسة على فكرة العلامات المستخلصة من بنيات موضوعاتية خارج دلالات الواقع الانتاجي النمطي في أعراف وسنن الموضوعة الروائية، فهناك إمكانية تشكل تعارفا في صناعة الموضوعة من ناحية قبولها الواقعي، ولكن هذه الموضوعة رغم سياقها الاختلافي مع نسيج الصحة القبولية للموضوعة، تراها بين السطور تشكل جملة محمولات رمزية إحالية ثرية بالمعنى والعلامة والعلاقة المتشكلة بعدة فواعل تفارقية، لذا فإن من الصعوبة تأويل نصوص ساراماغو بمعنى المفاهيم الخطية في رسم الأشكال والمضامين الروائية السائدة الآن، ولكنها رغم ذلك تبقى خروجا عن واصلات المعنى التتابعي، لتسجل لذاتها ذلك الاختلاف النوعي في الأسلوب والرؤية والموضوعة والأداة إجمالا. أردت أن أقول تباعا، أن حقيقة عناصر دلالة العمى، أصبحت من الخصوصية الشائعة في مدينة (انقطاعات الموت) والآن وصولا إلى (العمى) بأعتباره العارض الوجودي في وقائع أحوال المدينة، ولكن يمكننا من هنا طرح الأسئلة حول صور وأحوال ومداليل هذا المركب هذا المركب الاستثنائي من العمى، فهل خصوصيته بوصفه علامة متأتية عن كيفية معادلة من التوجه النفسي وظلام الضمير؟أم إنه صيغة انتقادية من شأنها وصف تمثيلات خاصة بالطبقة الايديولوجية بطريقة ما؟. وربما سوف أتفق أخيرا مع مواضع سردية من الرواية ذاتها، على أن حصيلة الإصابة بعارض العماء، هو بإختصار تلك المعالجة لا شد حالات الذات نزوعا نحو ملازمة عوالم أهواء النفس وانطوائها في مواقع الدونية من ملاذات النفس الآثمة. هذه الخلاصة اللامستقرة، لا تعفينا من معاينة مواضع (ميتاروائية) في حدوثات وتراكيب الرواية ذاتها أوغيرها من روايات الكاتب: (إذ كان هنالك بياض غير قابل للاختراق يغطي كل شيء. /ص25 الرواية) هنا البناء السرد يتعلق بملامح نفسية، تقدمها دلالات التمويه لتتخطى المظهر الخطي في بعض انطباعات الوحدات: ولكن إلى أين يمكن أن تتعلق دلالات العمى المستشرية في مفاصل تلاءم فقط تلك الانماذج الآثمة تحديدا؟وهل أراد ساراماغو لوظائف دليل العمى تلك اللوثة التي تصيب أصحاب العوائق السلوكية من المجتمع جدلا؟.

1ــ الرؤية النفسية وبلاغة مفاجأة العمى البياضي:

يمكننا معرفة والتعرف على الآليات والكيفيات في بناء الرواية وحالات اشتغالاتها الموضوعية والتقانية. وقد هدفت عناصرها المسارية في المسرود والسرد والوصف والأخبار، إلى تكوين عوارض جسيمة من الإصابة بذلك العارض من العمى الفجائي، والذي هو ليس بالعمى العضوي تماما، كما أوضحته بعض تقارير الأطباء والفحوصات المجهرية إلى تلك الظاهرة المنقوصة في تعليلها: (: ــ ابق عينيك مفتوحتين ولا تتحرك؟. اقتربت المرأة من زوجها، وضعت يدها على كتفه، وأنبرت قائلة: ــ سوف يتم تشخيص الأمر، سترى؟. /ص36 الرواية) رغم أنني لا أريد القفز خارج تتابعية معطيات الاحوال السردية، ولكني أحببت أن لا يتوهم القارىء بأن هناك حالة من الأغفال في إجرائية الدراسة في مبحثنا الأولي هذه العناصر ومكونات الرواية. أردت أن أقول أن المؤلف لا يعكس زاوية ثانوية من المحاور التي تلعب في أدوار النص المكرسة دورا نسبيا ما، بل هناك إشارات قصدية ــ عضوية، لا يمكن تجاوزها في مقاربة النص ووحداته الأولى. رغم أن سياق الوحدات كما أسلفنا لا تعكس اللحظة الحقيقية من الفعل الخطابي دليلا ومؤشرا، لذا ظلت متصلات المنظور السردي، تتوارى، تتماهى، خارج حينا وداخل حينا من إشارات الوحدات المتأتية والقادمة من إجراءات مذوبة في بنية علاقة تنسجها الأسباب وتفارقها العلل الكظيمة. يتخفى في السرد الوارد المنكشف، ولا يحدث في زمن المطروح سوى جملة شوارد تلاحق مخالب الظاهرة العصية من (العماء ــ البياض ــ غشاوة الزمن) ويبدو من وراء هذا الأمر الذي أستعصى على الأطباء تشخيصه، ما يشكل بذاته بالحادث المنظور من جهة الطالع اللاكتمالي، سعيا منه إلى تقويض الراكد من العوارض اللامرئية التابعة في الأنفس والأرواح البشرية، تماشيا مع التحولات الايديولوجية والاجتماعية داخل واقع هو شتات من ألوان البنيات والقوالب الخارجية والداخلية من الذوات.

ــ تعليق القراءة:

في الواقع أن رواية (العمى) تكتظ بصور ذهنية ونفسانية، بمختلف مشخصاتها وحالاتها، وما استقامتها إلا في البحث في أقصى دلالات القيم والمقامات التي تعالج وتطالب الذات الفردية من الانعتاق من شراك الماثول الانحرافي في النفس الآدمية. حاولنا تقديم في معرض مبحث دراستنا الأولية هذه، المأزق المفترض من عارض وظاهرة العماء التي هي الرؤية الرمزية لأشد حالات النفس الفردية انتهاكا لقيم الاخلاق والاعتبارات الطهرية في الطبيعة الفطرية لكل كائن إنساني.. إذن كثيرا ما تشكل مشاهد الرواية، رموزا مهيبة لمحمولات خطيرة، والتفكر فيها بدقة وعناية لربما يقودنا نحن أيضا إلى حالة قصوى ومرعبة من العماء والغثيان والعار ونحن نواجه ظلال مراحلنا العمرية كلها وسط أروقة الغشاوة والعمى القهري خصوصا ونحن نمارس حياتنا اليومية بين سلالم الصعود والهبوط نحو طقوس الضحك والبكاء، الطفولة والشيخوخة ونحن نلهث أخيرا وسط زحمة الظلام واللامرئي من خطايا غشاوة وجودنا المنحرف.

***

حيدر عبد الرضا

- شاغل قراءه بعنصر الدهشة ليقف على مسافة الحيرى في دواخلهم

- جسد صورة حسية رائعة اقترنت بدلالة الحركة الفعلية للمشهد الشعري

- (ما زلتُ أؤمن، إننا كنا معاً في حياة سابقة منذ عقود أو حتى قرون.. فيما نحن الآن على شكل أوهامٍ في سراباتِ توقِ الأمسِ، وأشواقهِ المجبولةِ بأحلامِ أجملِ لقاء مُنْتَظَر)........ مؤيد عبد القادر

الشعر في كله أو جزئه إيحاء وشعور، تنظم تلك الأحاسيس عبر مفردات تُنظم في أبيات القصيدة وفق قواعد تحكم نُظمها وترتيبها، ومنها تظهر الحبكة الفنية للعمل (باعتبار الشعر فناً من الفنون الأدبية) وهي التي تمنح القصيدة الرؤية التي تتناسب والمحتوى والشكل العام للقصيدة، كما أن الغرض من الكتابة يحكم التصور الذي عليه القصيدة، فالوجداني له أبواب، والهجاء كذلك، ومثله المديح أو شعر الحماس، والوصف الذي سنبين من خلال شروطه وأسبابه عائدية قصيدة "مؤيد عبد القادر" إليه.

يحاول مؤيد عبد القادر أن يلفت نظر القارئ بدلالة (الأنا) الرمزية التي بدأ بها مطلع قصيدته، مستخدماً الدلالة كرمزية (لَونتُ)، (أنا) والتاء بعائدية للدلالة على من قام بفعل (التلوين)، لكن هذه (التاء) بعائديتها الشخصية ألحقها مؤيد بمفردات من المبالغة لأغراض تهويل المشهد فيما بعد، وليكون مطلع قصيدته أكثر مؤثر يحمل المزيد من التشويق، وإلا كيف لصاحب (الأنا) إضفاء اللون على أشرطة الغبار، هي صيغة للمبالغة بالتهويل وشد القارئ نحو تعظيم الصورة الشعرية التي نجح برسمها في أول شطر من القصيدة.

وفي (الأنا) أيضاً يكمل مؤيد خطابه الذي ضمنه الحوار الشخصي بصيغة المتكلم يؤكد حقيقها كونية مفادها، أن وجود الإنسان ما هو إلا لحظة من عمر هذا الكون، وهي إشارة صريحة ذات دلالة رمزية دقيقة جداً، وظف فيها الحقيقة بقصد الإقناع والتأثير على المتلقي، وهذا الأخير حين يقرأ ما يحتويه النص من حقائق مؤكدة يؤمن بها سيعمد إلى توظيف عناصر الثقة بينه وبين الشاعر، وهذه الحالة تخلق تواصلاً روحياً بينهما، كما يركز التواصل النفسي بين المتلقي وما يكتب الشاعر، أي أن مؤيد لعب بذكاء وفطنة ليضرب عدة عصافير ببيت واحد، أفرد من خلاله مساحة واسعة من التصور أتاحت للقارئ أن ينمي ملكة التفكير في الوجود الإنساني (لم أكن في الكون إلا لحظة) وفتراته التي لا تعادل لحظات من عمر الكون، ثم أفسح له التصور الواقعي حينما نقله بحقيقة مؤكدة تمثلت بمعادلة وجوده بلحظة. تلك اللحظة هي (حَجر) مؤيد عبد القادر الذي جمع من خلاله كل المقاصد في بيت من شطرين، وتلك عبقرية طاغية وإبداع في تصوير المشهد الشعري الذي كتب بدلالة رمزية هائلة ضمنها صوراً غاية في الجمال والروعة.

لوّنتُ أشرطةَ الغبارِ،

ولم أكنْ في الكونِ إلا لحظةً

أقعى بها زمنُ الزوالِ

مسكينةٌ هذي الخُطى،

تمضي على أفِقِ الأسى،

تستدرجُ الأحزانَ من حالٍ لحالِ

ويجيءُ مرسوماً على خطوِ التعثّرِ صوتُها:

هذي انفعالاتُ التوغّلِ في مفازاتِ المُحالِ

استخدم مؤيد عبد القادر مفهوم الدلالة الحركية للخروج من الجمود في النص وأراد منها ايضاً أن يخرج من الثبات في الصورة، فجعل من الحركة هاجساً يوحي للقارئ أن هناك تغيراً في المفهوم سيَلمسه المتلقي في القادم من أبيات القصيدة، لذلك جاء بكلمات دالة على الحركة (أقعى، زمن الزوال، الخطى)، وغلف أبياته بنبرة تدل على مسحة من الحزن (مسكينة) وهذه للتفاعل مع القارئ وتبيان الحالة الموصوفة بالحزن، والتعبير على التعاطف والحزن يبدأ بلفظ (مسكين أو مسكينة) ومن ثم نأتي لشرح ما بعد تلك الصفة التي سبقت تبيان الحالة، حينها سنجد أن التوصيف الذي أدخله (مؤيد عبد القادر) على أبياته ضمنه استمرار السرد، فأخذ يبرر صفة (المسكينة) حين ذهب لشرح الحالة في أبياته وكأنه يسرد قصة مشوقة بالتتابع الزمني الوصفي والمكاني، فجاء على تبيان الحالة بأنها كثيرة الأسى، والمراد (بأفق الأسى) استمرار المعاناة، فالأفق مفتوح والذي يسير عليه لا تنتهي معاناته كونه لا نهاية له، فأراد مؤيد منها أن الأسى الذي تعانيه الروح (المسكينة) لا تنتهي معاناتها.

واستمراراً للوصف العام كان المشهد الأول لقصيدة مؤيد عبد القادر شبه ثابت في وصفه لما تعانيه (المسكينة) الخطى وهي كناية عن الروح أي الإنسان مثله مؤيد بالخطى، فهي التي تأخذ الإنسان حيث يريد، وذهب لشرح ما تعاني حسب تبدل حالتها من (الجلوس في الأسى إلى استدراج الأحزان) تلك التي أخذت شكل المشهد الأول من القصيدة، وكأن مؤيد أراد لها أن تكون قصيدة أحزان، أو رثاء يرثي من خلالها ما سقط من نفوس البشر من الصفات الحميد وبات الأسى هو الطابع العام للنفس البشرية. ثم ليسدل الستار على مشهده الحزين على أن ذلك الأفق المفتوح ما هو إلا محال يسر وراءه الناس نحو اللاشيء، وتلك تعدو أكثر من انفعالات تخلقها الحالة التي عليها النفس البشرية التي تحاول الخلاص مما تعاني. رغم الحزن الطاغي على المشهد مطلع قصيدة مؤيد عبد القادر إلا أنها كانت تتمثل بالتوصيف الدقيق والمناسب للحالة، ومؤيد لا يعاب عليه ما يكتب فهو أستاذ في التوصيف والدلالة وله باع طويل في الميدان الثقافي الأدبي بكل تفاصيله.

فامشِ كما يمشي الدبيبُ

على جبينِ البيدِ رملاً

سفَّ بالكسلِ المُدجّنِ

في مسافاتٍ من البلوى طوالِ

لا أدرينَّ، لمن أمدّ يدَ الزمام:

للموتِ مقتعداً سماواتي،

على كثبٍ حيالي،

أمْ للتي صارت،

برغمِ مسيرةِ الأمسِ الطويلِ حبيبتي،

أم للمُكدّسِ من خيالي؟

القصيدة تحمل الطابع الوصفي، وهي متكاملة من ناحية المعنى والشكل التكويني المتمثل بعناصر البناء، ناهيك عن أن موسيقاها تتناغم والمفردات التي وظفها "مؤيد عبد القادر" هي لوحة نابعة من صميم معاناة، جسد مؤيد من خلالها صورة تتناسب وحبكة الحدث التي شكل منها القصيدة.

استكمالاً للمعنى الذي ضمنه المشهد الأول مطلع قصيدته، (وأنا فضلت أن أجزئ القصيدة إلى ثلاثة مشاهد) لتكون القراءة هادفة مستوفية لجوانب الإبداع فيها، فقد عرفنا (مؤيد عبد القادر) مبدعاً في فنون الصحافة وكاتباً من الطراز الأول بفنه وإبداعه في كل المفاصل التي كتب عنها. وبالعودة للقصيدة نجد أنه قد أكثر من الوصف الدلالي، أ أنه وظف (التوصيف المقترن بالدلالة للوصل إلى وتثبيت المعنى) وهي طريقة رائعة مبسطة يكتب بها حتى الكبار من الشعراء الرواد ومن ورث إبداعهم من جيل الستينات، تمنح القصيدة معنى شفيفاً يسهل على القارئ فهمه دون تعقيد أو استخدام ألفاظ صعبة تحيل القصيدة وإن كانت تندرج في خانة الإبداع إلى تصور جامد منفر عند القارئ سرعان ما يغادرها، وأرى أن هذا الوصف لا ينطبق على ما جاء به مؤيد عبد القادر من صورة حسية رائعة اقترنت بدلالة الحركة الفعلية للمشهد الشعري.

المفردات الدالة التي تضمنتها القصيدة تنم عن حركة بطيئة تحمل ذاك الأسى الذي أشرنا إليه في المشهد الأول، وهي دلالة حية تخلق تفاعلاً وتواصلاً ما بين القصيدة والمتلقي (يمشي الدبيب، جبين البيد، الكسل المدجن، مسافات من البلوى، طوال)، كما تمنح الاستمرار للحدث الذي مثله مؤيد (بالأسى) أو التيه (جبين البيد)، (دبيب) ومشي الصحراء (البيد) يكون على شاكلة الدبيب، وهو كما معروف (للنمل ومشابهه من الكائنات)، ودائماً ما تكون طريقة المشي في الصحارى متكاسلة لطول المسافة ربما أو لصعوبة الحركة وسط الرمال، وهي التي أراد منها مؤيد أن يصف حال من استطالت عليه الأحداث الثقال المؤلمة، حينذاك تكون بلوى (في مسافات من البلوى طوال) تعبير مجازي رائع يجسد صورة شعرية هائلة المعاني وظفها مؤيد بدقة وعناية.

إلا أنه في نهاية المشهد غير مسار القصيدة نحو الحيرى، وكتب بطريقة من يبحث عن جواب ربما، وهذه الصورة أكثر إبداعاً من الأولى التي أطال فيها الأسى، بحيث أدخل من خلال أبياته القارئ في دهشة الحدث أو الحبكة التي بنى عليها المشهد الشعري، فتوقف عند حيرت السؤال الذي يحمل في طياته العديد من التساؤلات، أي أن مؤيد أراد للقارئ أن يعمل التفكير في تشعبات القصيدة ومضامينها، وهل أن السؤال موجه للقارئ ليقف على جواب، أو أن مؤيداً نفسه سيجيب عن تلك التساؤلات في نهاية القصيدة، ما يجبر المتلقي أن يكمل القراءة والتفاعل مع أبياتها والعيش في أجواء الأسى والحيرى والدهشة التي أرادها مؤيد عبد القادر (لا أدرينَ لمن أمد يد الزمام) دهشة تامة تلف هذا البيت، الذي أودعه مؤيد في عقل القارئ ليأخذه نحو متاهات لاخلاص منها إلا بتأويل الحدث الذي لا يكتمل من الدهشة على اليقين، ليتضح في البيت الأخير من المشهد أن هناك من كان يخاطبها مؤيد ضمنياً في القصيدة ولم تعرف هويتها الصريحة وبقيت خافية على المتلقي الذي عرف أن هناك مخاطباً غائباً لم تظهر ملامحه حتى الآن، ثم ليقف عند تداخل المعاني والتوصيف في البيت الأخير ليعود مؤيد ويسحب القارئ ليعيده إلى الدهشة والحيرى ثانية، وليتضح أمامه المشهد بأنه لازال في دائرة الدهشة، ولم يصل لنتيجة تذكر، وهو مدعاة لاستكمال الحدث الذي ربما يتضمنه المشهد الأخير، أقول ربما، ذلك تصور القارئ أنقله هنا بدلالة (ربما) .

يا مُضْرمَ النيرانِ في كبدِ الرؤى،

يا مستحيلاً ضجَّ من غَليانهِ بردُ احتمالي

مَنْ يَقْتحمْ نضوَ افتعالِ دقائقي

ليكونَ محضَ مُسابقٍ خطوي،

قريباً من خيالي

يستنفرُ الإدقاعَ والشَبَعَ الحقيرَ،

مُسْتَوْفزاً رؤيا حبيبٍ لا يُبالي

إنْ كنتُ كومةَ ميّتٍ، أو بعضَ وَشْلٍ

في كفوفِ الارتحالِ

وَهْماً يلازمهُ خيالي !

جاء " مؤيد" بالنداء متداخلاً مع التوصيف ليشكل منه مزيجاً من التهويل في شكل الخطاب للمنادى، وللتوصيف الدقيق، مستخدماً الصورة الحسية الملموسة، والتوصيف الدلالي لخلق مشهد أبعد ما يكون عن الرتابة، لذلك وظف المنادى في مطلع المشهد الأخير للدلالة على وقوع الحدث كدالة فعلية، واستخدم عناصر وأدوات التناظر والتشابه ليرسم الصورة التي أفاق على مشهد رؤيتها القارئ ليرى أن الحدث وقع واستوفى شروطه (يامضرم النيران، يا مستحيلاً، كبد الرؤى، غليانه، برد احتمالي) فيما وظف مؤيد المتناقضات بشكل رائع وجميل ليكمل معنى التضاد والتشابه الذي جاء به في بداية المشهد (مسابق خطوي، قريباً من خيالي، الإدقاع، الشبع الحقير، حبيب لايبالي) تلك المترادفات في المعنى كلمات تخلق جواً من الجمال والحيرى عند القارئ لايخرج منها إلا بتأويل الحدث (الحبكة) الذي أبدع فيها مؤيد ليصنع لنا لوحة جميلة هادفة، رسمها بحيرى التساؤلات الضمنية في أبياتها، استدرجني مؤيد والقارئ معي إلى قاع الدهشة والغرابة، ليتنامى في أذهاننا تساؤل مفاده، هل هي قصيدة غزل أم تحريض أم استنكار، أم تراها شكوى من محب؟

لأصل وعن قناعة ولا أدري كيف يفسرها القراء الكرام لأقول أنها قصيدة شكوى و(الشكوى من الشعر الوجداني)، بدلالة التوصيف الدال على طبيعة التوظيف الدلالي واستخدام عناصر التأويل والاستبدال لرسم من خلالها مؤيد عبد القادر صورة شعرية رائعة، استطاع من خلالها إيهام القراء أنها قصيدة استنكار لواقع مشبع بالأسى، ليتضح بعدها أنها غزل وشكوى؟

ذلك هو التوظيف الدلالي الرائع لمن يستطيع أن يستخدمه بإتقان، ومؤيد أتقن توظيف وتجسيد الصورة الشعرية المشبعة بالدلالة الوصفية ليستكمل المشهد الشعري الرصين الذي بنى عليه قصيدته التي (نسي اسمها كما ذكرلأنه "ختير")

لم يركن مؤيد عبد القادر لحال ثابت في قصيدته، فجعل تَبدل الحالة العامة أو الشكل البنائي للقصيد غير ثابت على حالة واحدة يصل إليها المتلقي، ما يثير الاستغراب عند القارئ حول المبتغى والمعنى الذي أراده الشاعر، إلا أن تلك الدهشة وذلك الاستغراب يتبدد عند النهاية المشهد الأخير من القصيدة الذي ختمه مؤيد عبد القادر بمخاطبة (متيمته البعيدة).

مهلاً، متيِّمتي البعيدةُ، لم يَزَل

حُلُمي يُطاردُ وجنتَيكِ،

لا يعبأنَّ بما تمرُّ من الليالي

في دربيَ المسكونِ في وَهَداتِها.

***

سعد الدغمان

يعرف الشعر المسرحي بأنه كتابة نص مسرحي وفقا لمواصفات ومقاييس الكتابة الشعرية التي تعتمد على القصيدة المقفاة أو غير المقفاة أساسا لبناء النص المسرحي بمفهومه التقليدي، وللشعر المسرحي عدة مسميات منها الدراما الشعرية أو المسرحية الشعرية، أو الشعر الدرامي.

والشعر المسرحي فن من الفنون الادبية التي ظهرت في أوربا، فقد ظهر الشعر المسرحي والتمثيلي في إنجلترا أوائل القرن السادس عشر وفي أوج إزدهاره في فرنسا في القرن السابع عشر حيث كان المسرح يكتب شعرا مقفى ومرسلا في إنجلتر او يعتبر جون ليلي وروبرت جرين وجون بيل الرواد الحقيقين في مجال الكوميديا الرومانسية ذلك الشكل الفني الذي تفردت به الدراما الانجليزية عن غيرها والذي طوره ووصل به مرحلة الاكتمال الكاتب الكبير وليم شكسبير، وامتزج العرض المسرحي بالشارع وبدأت عناصر جديدة تزحف اليه مثل استخدام اللغة المحلية ودخول بعض الشخصيات الواقعية وقد تعامل المسرح الانجليزي مع التاريخ القومي المكتوب ونجح في ترجمة أحداث التاريخ الى صراعات وشخصيات واحداث درامية لخلق عالما مسرحيا كامنا يموج بالدفء والحياة فالى جانب المسرحيات التي استوحى فيها التاريخ الروماني مثل يوليوس قيصر وانطونيو وكليوباترا، وكريولانوس، وترويلاس وكريسدا، نجده يتناول في سلسلة متعاقبة من المسرحيات تاريخ انكلترا وقد كان المؤلف يستخدم اللغة في الاشارة الى الزمان والمكان ويخلق الاحساس به من خلال الوصف الايحائي وكان المتفرج يمتلك نظرة ثاقبة وخيالا واسعا يقظا يشارك مشاركة فاعلة في اكمال عناصر الدراما والمنظر المسرحي.

أما الشعر المسرحي في الادب العربي فهو اضافة جديدة حيث اتجهت اليه الاضواء في العصر الحديث لاشعاره الموسيقية وعاطفته العميقة وكانت المحاولة الاولى على يد خليل اليازجي مسرحية (المرؤة والوفاء) عام1876 ، واشهر من قام في هذا المجال احمد شوقي حيث سعى سعيا بالغا لتنمية هذا الفن الرائع حيث اشتهر بمسرحياته الشعرية فيقال له ابو الشعر المسرحي في الادب العربي ، ثم جاء بعده عزيز أباظة وصلاح عبد الصبور وعبد الرحمن الشرقاوي وحمد علي الخفاجي.

واذا أردنا أن نعرف الفرق بين الشعر المسرحي والمسرح الشعري، فنقول: إن الاول يهتم باللغة الشعرية ويهيمن عليه الطابع الغنائي والحوار والحبكة والصراع الدرامي، بينما المسرح الشعري يكون فيه الشعر وسيلة للتعبير عما يجول في خلجات الشخصيات وليس هدفا او غاية.

ويتصف الشعر المسرحي بعدد من الخصائص أهمها:

-  إنها لغة إيقاعية.

-  تتسم المشاعر في المسرحية الشعرية بالقوة والكثافة.

-  يعتمد الشعر المسرحي بشكل مباشر على الغموض فإنه يعزز سيطرة الايحاء على المسرحية.

-  يعتمد الشعر المسرحي على التصوير غير المحسوس وغير المرئي ، بمعنى إنه يترك الباب مفتوحا للتخيل والاستنتاج.

ومن أبرز شعراء الشعر المسرحي:

أحمد شوقي ومسرحياته: مصرع كليوباترا، ومجنون ليلى، ومسرحية عنترة.

- مارون النقّاش وأشهر مسرحياته: البخيل، ابو الحسن المغفل، السليطي الحسود.

- اليازجي ومن اشهر مسرحياته المروءة والوفاء.

- محمود عباس ومن اشهر مسرحياته قمبيز في الميزان.

وبعد هذه المقدمة البسيطة عن الشعر المسرحي نستأذن بالدخول الى دار المسنين لنحاور كلكامش على لسان الشاعر الكبير د.ريكان إبراهيم وقصيدته كلكامش في دار المسنين..

يبدأ الشاعر الطبيب قصيدته بالدخول الى دار المسنين وقد وصفها بوصفٍ مؤسف يدل على إفول الحياة واحتضارها في فصل خامس لامكان له ولازمان فيقول:

ماذا تسمي البيت حين يكون مقبرة

وفيها أهلها يتحركون

ماذا تسمي الميتين بدون موت

والناطقين بدون صوت؟

ماذا تسمي القبر حين يصير قبل الموت بيت

هذا هو الانسان يبدأُ بالولادةْ

متوهمًا إن الحياةَ هي الطريق الى السعادةْ

كي ينتهي إمّا إلى قبرٍ وإمّا أن يُؤجِّل موتَهُ

قبل الرحيل

ليعيشَ في دارٍ يرى عنها الفناء أحبّ من عيش ذليل

بدأ الحوار بين الطبيب الذي بدأ بالتعريف عن نفسه، وقد أوغل بالافصاح عن خلجاته التي باتت حملا ثقيلا أرهق كاهله لما يرى ويسمع ويعيش كل حالة تصادفه للعلاج، فهو الذي نذر نفسه ليحل مشاكل الناس النفسية التي أرّقته وباتت جزءا منه ، ذلك الجزء الذي بدأ يتنمر عليه ويحتل عالمه وبلا رحمة وهو يحاول الهرب منه إلى أي مكان حتى وإن دخل آلة الزمن ليجمد جزءا من يومهِ الذي أصبح أقسى عليه من الموت نفسه!

قد قال لي: من أنتَ؟ من في الباب؟

قلتُ: أنا الطبيب

أنا عالم النفس المليئة بالخراب وبالنحيب

أنا من نذرتُ بقيتي لعلاج من عاشوا

وهم موتى، فبعض حياتنا موتٌ، وبعض

الموت أهون من ترقبَّه الرقيب

أنا جئتُ أفحص ميتين بلا رقيب

فأنا صديق الاشقياء فأنت من ؟

هذا الحوار الذي دار رحاه في دار المسنين بين الطبيب النفسي الذي آلمه حال الحياة التي تحتضر بين يديه متمثلة بمأساة كل مريض نفسي يعاني ويطلب العون للخلاص، تلك المآسي التي بدأ ثقلها واضحا على نفسية الطبيب التي تصدعت أركانها وجعًا وطريقًا ينشد الخلاص، ووسط كل الافكار المتشعبة والقلق الذي ينتاب الطبيب فقد بادر بسؤال من بادره بالسؤال ليتعرف عليه فأجاب:

أنا حارسٌ في باب دار مسنين بآلة الزمن العصيب

- حسنًا وممن أنت تحرسهم؟ يقولُ: من الهرب

- ياصاحبي، أرأيت في دنياكَ

موتى يهربون؟

أقعى على حقويهِ ثانيةً وقال:

إدخل لتعرف ماهناك ومنْ هناك

دار المسنين الذين تزورهم ياسيدي

هي آخر الوقفات في دربِ الذهاب الى الهلاك

إن الرمزية في هذه القصيدة التي فيها من الثيمات ما يحرث في عالم الباراسيكولوجي الكثير مما يترك الباب مفتوحا لكمٍ هائل من التأويلات التي عمد الشاعر على إبقاءها مسرحا خياليا يلقي الضوء على مسرح الحياة بازمان مختلفة وأماكن متبادلة وأحداث متفاوتة القصد والموضوع وهذا النوع من القصائد لا يخوض غماره إلا شاعرا متمكنا من أدواته يستنبط النتائج قبل الاسباب لوضع خطة عمله الذي يأخذ اتجاهات تصب في خدمة أهداف القصيدة، فهل تغلب الذاتية أم الموضوعية على هذه القصيدة؟

في الحقيقة إن تداخل الذاتية بالموضوع العام للقصيدة أخذ أبعادا أخرى لذات الشخصية التي تقلدها الطبيب تارة والشاعر أخرى ومن زاوية أخرى فقد أخذ الشاعر على عاتقه مهمة المؤرخ مقابل رقابة الرقيب وهو يتجول في دار المسنين التي جعل منها مقبرة لاحياء يرتدون الاكفان وهم بكامل استسلامهم للفناء، ففطرة الانسان تدّعه دعّا للصراع من أجل البقاء أما في هذه الدار فالكل يرفع راياته البيضاء بلا منازع

رأيتُ أسرة موتٍ.. وقمصان نومٍ

وأكفان موتى

بدار المسنين لا قيمة للزمن

وخير الذي قد تراه الاخاء، فلا من خصام ولا من صراع

لان الجميع بقايا حياة

وحب الحياة أنانية ربما تستحق النزاع

إن اختيار كلكامش ليكون عنوانا لقصيدة بهذا الحجم فيها من التأويل والتاريخ مايكون شاهدا على ناظمها ودليلا على جودة العمل الذي أرشف الاحداث في مسرح تراجيدي الحدث وهو (موت الاحياء)، ففي الدار الكثير من القصص وهناك راو وشاهد ، فلما اختار الشاعر كلكامش ليضعه في دار المسنين؟

إن استعارة الشاعر لاسم كلكامش بملحمته التي تضم اساطيرا وفي الاسطورة يندرج الكثير تحت بند الخرافة باشارة منه الى ان الذي يحدث في هذه الايام العصيبة التي يمر بها المجتمع من شيخوخة فكرية وثقافية بل واخلاقية وانسانية تدق ناقوس الخطر على موت المجتمعات وهي حيّة!

أخي من أنت؟ أسأله فينظرني بنصف العين

ثم يقول كلكامش

- أعد ماقلت!من تعني؟

- أأنت صديق أنكيدو؟

أأنت الفارس المسؤول عن طوفان وادينا

بمعنى موت المشاعر والمبادئ والقيم العليا على مذابح الأنا النرجسيّة!

إن الابحار ثم الغوص في عالم النفس يحتم على المبحر أن يكون ملما ومتقد الذكاء ومتأهبا ومتوقعا لكل المخاطر التي تصادفه ، فهذه المغامرة ليست مزحة أبدا بل هي مواجهة حقيقية للدخول الى نفس أخرى بكل شجاعة وتحدٍ!

إن تجوّل الطبيب الشاعر في هذه الدار ومحاكاة كل تفصيلة فيها والسعي الى معرفة كل مايدور من أحداث كورتها العصور لتستحضر ماغاب عنها وشذ أو تشرذم تحت أي بند أو عنوان، فحواره مع كلكامش يختصر كل أوجه الحضارة وإن ركز الشاعر فيها على الوجه الاصفر وهو الاحتضار والموت، لكنه ترك للقارئ وجها آخرا وهو الخلود وقد ذكره لفظا و حسّا وشاهدا فبمجرد إنه لفظ وكتب وحاور كلكامش فإنه قد استحضر فينيق الحضارة كشاهد على ايقونة الخلود

فإنّي هاهنا أحيا خالداً أبدا

فنحن اثنان لن نفنى

أنا وصديقتي الافعى

وقد ذكر الافعى كناية عن الخلود، كيف لا وهي التي اكلت العشبة رافعة صولجانها من عهد آدم وهي استعارة رائعة كناية عن الشيطان!

وكلكامش الرقيب يمثل القدر أو إن صح التعبير يمثل ملك الموت الذي يقعى على حقويه مترصدا فلا أحد يستطيع الهرب منه!

فدار المسنين تمثل الحياة بكل حذافيرها فهي تمثل الفناء والخلود، الحياة والموت، الظلمات والنور وبرأيه فالحياة هي الجريمة والعقاب هو الموت ويبقى كلكامش الساحر البابلي اسيرا لاسمه ينتظر القطار الاخير!!

وكانوا يسمونني الساحر البابلي

أنا الآن أؤمن أني منحت الخلود

المحدد قسرا غلى أن يجئ لأجلي

القطار الاخير.

لقد ذكر الشاعر كلمة الاخرى ولم يقل الثانية دلالة على الحياة الاخرة وهي ثيمة رائعة دسّها الشاعر دسّا ليلقي الضوء على براعته اللغويّة بتطويع المفردات:

هنا ابتسما

وقال: المرة الاخرى ستلقاني.. أنا وحدي..

لاذكر كل ماعندي

لقد تكلم كلكامش- القدر-  عن نزلاء الدار والامهم وقصصهم الحزينة التي ابتدأت مع اصفرار أول الاوراق ملوّحة بالأفول، فالكل هنا سواسية كما في المقبرة لافرق بين غني وفقير ، عالم وجاهل، حكيم وساذج ، الكل هنا ينتظر أفول آخر الاوراق ليحلّق بورقتة الاخيرة الى الدار الاخرة

دار المسنين ياكلكامش ازدحمت

بالطاعنين ومن في وعيهم خرفوا

ضاقت بمن ضيعوا عمرا وضيعهم

نسيان من خلفوا أفضال من سلفوا

دار المسنين تعني أن من عقروا

لصالح ناقة جيل به صلفُ

جيل من الناكرين الفضل، غير اللؤم ما عرفوا

والشاعر هنا يتكلم عن جحود الاجيال ونكرانهم للجميل وهي سمة العصر! والحقيقة إن الشاعر هو من يدير الحوار ويوزع الادوار ويتكلم بلسان كل الشخصيات، فإذن هذه خلجات الشاعر التي اعتمرت بدوامة تفكيره تجاه أمر حدث أمامه وأخذ منه مأخذه فولدت القصيدة وهي تكابد جذوة الاحداث متوهجة بأحاسيس تبدو مضطربة تارة ومتضادة أخرى، فالدار تمثل ثيمة رائعة وهي احتضار القيم وموتها قبل موت الانسان والاستسلام للقدر مهما كان لملاقاة المصير المحتوم!

يا عاشق الخلد، يا كلكامش

انتحرت

قصيدتي وهوى من نخلها السعف

ابكى عيوني مصير الساكنين هنا

ويسقط الناس إن يسقط لهم شرف

والحقيقة إن كل ما يقال عن هذه القصيدة يبقى ضئيلا أمام هذا الابداع الشعري والثقافة الثرة والقدرة الموسوعية على استلهام الاحداث وتطويعها كبحر تتماوج عنده العصور هادئة تارة وثائرة أخرى، فيالهذا الوهج الشعري الفذ والمقدرة المتفردة على كتابة التاريخ بمسرح الحياة مأساة تتلهى بالفناء!!

بورك هذا الحرف الذي حفظ الوصية كوثيقة ملحمية تتدارى خلفها العصور..

طوبى لنا هذا العقل النيّر والحرف المنير وطوبى للعراق بنجومٍ أشرقت في فضاءات الشعر إشراقة حضارة..

تحايا مباركة لجناب الشاعر الكبير والاب القدير د. ريكان ابراهيم ونتمنى أن يكون بألف خير وعافية ودعائي لجنابه الكريم بموفور الصحة والعافية.

***

مريم لطفي الالوسي

تشخيص أدبي لأزمة نفسية عانت منها عدة أجيال بسبب خلل في النهضة العربية الحديثة.

تدور أحداث هذه الرواية حول شخصية الفطحل وادعاءاته ومغامراته وفضائحه في الوطن وفي المهجر. وهي شخصية بلهاء وصولية تعيش في عالم من الأوهام حول عبقريتها المزعومة، ولهذا أصبحت بؤرة النميمة لدى عراقيي الخارج. للفطحل هذا أسماء مستعارة كثيرة تختلف حسب مزاجه وتقلباته وأفضلها كان عوني الملاخ! يترك الفطحل المدرسة ليتفرغ لشعره، يهاجر مع زوجته العراقية الى بلغاريا ليطلقها ويتزوج من بلغارية، فيسارع الى ترجمة بعض القصائد البلغارية دون اي علم بلغتها الأصلية أو تاريخ أدبها، ثم يطلق زوجته الثانية مهاجرا هذه المرة الى شمال أوروبا ليبدأ سلسلة جديدة من الادعاءات والفتوحات الخيالية، وعند بداية الغزو الأمريكي للعراق يحاول الفطحل أن يقحم نفسه في الحرب بصفته "معارض عراقي وكاتب من المنفى، ممثل البرلمان العراقي في الشمال الأوروبي"، وينتهي به الأمر في مصير مجهول، إذ تكثر الإشاعات حوله فمنهم من يقول إنه أُغتُصبَ وأهين، ومنهم من ادعى أن صديقته البولندية أنقذته وأنه الآن يعيش في بولندا، الخ. مصير الفطحل مجهول. ولعله من الطريف والمفيد أن الأديب العراقي المعروف عدنان المبارك نشر قصة بعنوان تقلبات الفطحل، هي عبارة عن تشخيص لما آلت له حياة هذا المدّعي الصغير حيث يعمل خادما في إحدى قرى البصرة ويتعرض لمختلف أنواع الإساءة! أنظر موقع القصة العراقية.

والفطحل هذا ينشد الاستحسان والشفقة من الآخرين، فيدعي مثلا أن أهله هلكوا جميعا في العراق الدكتاتوري، بما في ذلك أمه التي كانت حية ترزق، فاصطنع قصة من المعاناة والأسى التي قد تناسب صورة الشاعر المرهف الإحساس الذي عانى الأمرّين والذي يتكلم عن معاناة عميقة، والطامة الكبرى أنه يصدق كذبته. ورغم هذا كله شعرت أكثر من مرة بالأسف تجاه هذا المسكين الأبله "على قد نيته"، كلما سمح لي الراوي بالدخول الى مجالس النميمة، حيث يجتمع عراقيو المهجر وبعض العرب ممن يعيشون على برامج المساعدة الأوروبية، لا ينفكون عن السخرية منه ونهش لحمه حيا، فموضوع "الفطحل" مٌسكِّن للآلام يشفي غليل فشلهم وألم غربتهم، والأنكى من هذا كله أن لهؤلاء آراءَهم النقدية والفنية الخاصة بهم! إن ردود فعلهم على سفاهة الفطحل هي الجزء الأكبر من المشكلة! بل يمكن القول إن الناس من حوله هم من يزيدون شأنه، ولا يقلون عنه جهلاً.

من عادتي أن أفكّر في التأثير الكلي نفسيا وفكريا لأي كتاب بعد قراءته مرة أو مرتين، وهذا التفكير بحد ذاته جهد أو عمل نقدي له شرعيته ولا يحتاج لأي تبرير، و"الفطحل" كتاب يستحق التفكير لتأثيره الغريب علي، فكما سبق بيانه اختلطت المشاعر بين الاستهزاء والسخرية من جهة، والشفقة والألم من ناحية أخرى، وبين الإفراط بالضحك والتهكم من شخصية هي في الحقيقة مسكينة لا تضر ولا تنفع، عدا عن أن عنصر التشويق لم يختفِ ولو لحظة!

هناك الكثير من الجوانب المهمة في الكتاب التي استحوذت على انتباهي كدور الأحلام مثلا والتي لا تقتصر أهميتها على الأسلوب السردي من ناحية تقنية، بل يتعداها الى الجانب الرمزي أيضا، إضافة الى علاقة الراوي بالفطحل والشكل الأدبي، هي كذلك جوانب مثيرة للإهتمام في هذه الرواية التي يصر كاتبها أن يصنفها كمحاكاة. ولا يمكنني أن أعطي كل هذه الجوانب حقها في هذا المقال، ولهذا سأركز أولا هنا على المسألة الأكثر إلحاحا بالنسبة لي شخصيا وهي الشكل الأدبي في المقام الأول ومن ثمة شخصية الفطحل نفسه.

- العام والخاص:

هناك في رأيي ازدواجية مهمة في شخصية الفطحل التي نجح الكاتب في بنائها، وتلك هي ثنائية العام والخاص. لقد نجح المؤلف في بناء شخصية مركبة، أو بعبارة أخرى، "عامة" يعرفها الكثير من الناس في المهجر والوطن. أي أن الفطحل هذا يوحي بنزعة يعرفها الكثير من القراء في العالم العربي، فهو يشير ويذكر القارئ بتلك النزعة، فشعوره بأن الفطحل نوعية أو صنف من الناس قد مرً عليه سابقا يزيد من حيويته على الرغم من فرديته. فكم تذكرت فلاناً وعلاناً من أيام الدراسة في المدرسة الابتدائية والثانوية، وكم تذكرت أشخاصا قابلتهم في الجامعة والمهجر بين العرب، حيث يزدحم الفطاحلة من كل مذهب ومشرب، من الفطحل "الإسلامي" الذي لا يتوقف عند تكفير داروين ونظريته دون أن يقرأ سطرا واحدا في الكتاب المشؤوم بنفسه فيعمل فكره فيه، إلى "الماركسي" الذي يتحدث عن ماركس وإنجلز صباحا مساء دون أن يقرأ أي كتاب لهما، وإلى الفطحل الأدبي الذي لم يكتشفه أحد، إلى الناقد "العبقري" الذي يشتم امرأ القيس "المنحط" دون أن يقرأ معلقته وهلم جرا!

يمكن القول إن الفطحل في هذه الرواية تشخيص أدبي لحالة أو أزمة نفسية وعقلية أصابت أكثر من جيل في العالم العربي، تعود بدايتها إلى خلل أساسي في النهضة العربية الحديثة.

أرفض اختزال النص الأدبي في نية الكاتب، حيث يبرز المعنى من تفاعل القارئ مع النص، ولهذا تختلف القراءات والمعاني. بكلمات أخرى، لا يهمنا هنا فيما إذا كان الفطحل شخصا "حقيقيا" مستمدا من حياة الكاتب أو العكس. المهم هنا هو الإزدواجية بين فردية الفطحل كشخصية أدبية عراقية محددة من جهة، وعموميته من حيث هو ظاهرة إجتماعية بامتياز. وهنا تكمن في رأيي فاعلية هذه الشخصية الأدبية، فهي في المقام الأول محددة وفريدة، وليست شخصا "حقيقيا" بدَّل الكاتب اسمه ب"غوني الملاخ". لكنه أحد أعراض "المرض العربي" المزمن إن صح التعبير، وهو ما سأوضحه لاحقا. أظن إن أغلب القراء العرب سيشعرون أنهم قابلوا أو مروا على هذه "النوعية" في حياتهم أكثر من مرة. وهنا تكمن الإزدواجية أو أوجه الشبه بين الشخصية "العراقية" ذات الأسم والهوية المحددتين من جهة والتشخيصية العامة التي تطال وتصور أكثر من شخص أو "نوعية" في أغلب أنحاء العالم العربي. أشعر أن هذا التشخيص العام هو السبب الرئيس خلف ضحكي المستمر، إذ عرفت هذه "النوعية" وتفاعلت كقارىء معها أو الحالة المرضية ومع كيفية تعامل الآخرين معها.

- " عروبة " الفطحل

وتُعد الظاهرة الفطحلية أو الفطحليزم كما يحلو للكاتب ان يسميها ساخراً مرضا مزمنا في البلاد العربية. إنها ظاهرة عربية بإمتياز حيث لدينا العديد من المدّعين ممن يريدون أن يكونوا مفكرين وفلاسفة وقادة سياسيين عباقرة باي ثمن. وأود أن أشدد هنا على "عروبة" الفطحل حتى النخاع! يشدد ويؤكد بعض النقاد على "عراقية" النص من حيث اللغة وشخصية الفطحل ذاته، وصحيح أن لغة النص عراقية أحيانا وأن عددا من الأمثال الشعبية أو التشبيهات استعصت علي كقارىء فلسطيني، لكن لابد في رأيي المتواضع من التأكيد على عروبة الفطحل التي أثرت في قرائتي للكتاب رغم عدم "عراقيتي". إن تفاعلي الحي مع النص ومع شخصيته الرئيسة وفهمي لمعضلات الإنسان العراقي فيه رغم الفارق بيني وبينه دليلٌ يؤكد انتشار هذه الظاهرة.

 غوني الملاخ "الطايح الحظ"، "ذو العين الكريمة" مصاب بمرض "الفطحلة" هذا في الميدانين السياسي والأدبي، همه الأول والأخير النجومية والشهرة باي ثمن كان، فهو إذ لم يتمكن من تحقيق هذا كله كأديب فذ، إنقلب الى السياسة منتهزا فرصة الإجتياح الأمريكي للعراق. ولا أعرف بالتحديد أسباب انتشار هذه الظاهرة في العالم العربي، لكن يبدو لي من حيث المبدأ أنها نتيجة تشابه الظروف فيه.

يبدو لي أن جذور "الفطحلة" أو الوصولية السياسية تعود الى الإختراق الغربي للعالم العربي خصوصا عقب انهيار الإتحاد السوفيتي التي تمثلت بسلسلة أحداث متشابهة مثل الإجتياح الأمريكي للعراق، اتفاقية أوسلو وسياسة الإنفتاح في مصر، فكثرت المشاريع الديموقراطية السطحية التي تمولها الدول المانحة، وتفجر عدد "الخبراء" الذين صاروا يجيدون اللغة السياسية "المربحة" التي أضحت تجارة.

- الشكل الأدبي

هناك الكثير من الأعمال الأدبية التي تتناول شخصية تبدو فردية بمعنى أنها لا تشكل ظاهرة عامة لكنها بعد إمعان النظر فيها تبدو "عامة" أيضا مثل "الأبله" و"المقامر" لدوستويفسكي و"دون كيشوتي" لسيرفانتيس الخ. لاحظ هنا استعمال الصفات بدلا من الأسماء المحددة الفردية أو أسماء العلم في العناوين أعلاه كما هو الحال في "الفطحل"،  ويبدو أن اختيار المؤلف لمفهوم "المحاكاة parody" كتصنيف أدبي لكتابه مصدره مثل هذا الإعتبار.

لآ أرى من حيث المبدأ أي تعارض بين الرواية كصنف أدبي والمحاكاة عموما، سواء أكانت ساخرة أو جدية، لسببين رئيسين. يجدر بنا هنا أن نتذكر، أولا وقبل كل شيء، أن المحاكاة  الساخرة ليست شكلا أو صنفا أدبيا بحد ذاتها. لابد هنا أولا أن نوضح المفاهيم كما أستعملها هنا. يمكن ترجمة كلمة "محاكاة"  بالمعنى الإصطلاحي الأدبي الى "mimesis" أو "parody" بالإنجليزية، وهي كلمات من أصل إغريقي. المعنى الأول هو مفهوم عام فلسفي وأدبي يدور حول أهمية "التقليد" أو "المحاكاة" في عملية التربية والنضوج في المجتمع وفي الفنون والأدب. ليس هذا المفهوم المقصود في موضوعنا الحالي، بل هو المعنى الثاني، أي "parody"، وهي أسلوب أدبي وفني ذو معنى محدود على العكس من الأول، حيث يقلد الكاتب، الشاعر أو الفنان عملا معينا إما بغرض نقده، أو نقض الذوق الأدبي في العصر الذي ينتمي اليه العمل المعني.

أما السبب الثاني لرأيي أعلاه في انعدام التعارض بين الرواية والمحاكاة، فهو أن الرواية كشكل أدبي وبالمعنى الحديث كلها مبني أصلا وتاريخيا على المحاكاة، وبالذات المحاكاة الساخرة. يحاكي سيرفانتيس مثلا في رائعته "دون كيشوته" التي نشرت لأول مرة في العام 1605 تراثا أدبيا طويلا طغى على أوروبا في العصور الوسطى يدعى بالأدب الفروسي "chivalric romance" والتي تناولت بطولات أسطورية لفرسان كثر خصوصا "مغامرات أماديس الغاليْ" إضافة الى "إنجازات إيسبلانديان" وغيرهما من الأبطال الحقيقيين والوهميين على السواء،  فإما كانوا جزءا من الحملات الصليبية أو فرسانا تصدوا أو قاوموا جيوش المسلمين في إسبانيا. فكان الأدب الفروسي الديني هذا طاغيا تسلطت على كل محاولة إبداعية تجديدية، وانكسرت شوكتها بصدور "دون كيشوته"، ومع أن الراوي يسخر بطريقة لاذعة مؤلمة من بطله، إلا أن القارئ قد يبكي على موت دون كيشوته في نهاية الكتاب. لكن وعلى الرغم من هذا كله فلا تعتبر جمهرة النقاد هذا العمل محاكاة، بل على العكس من هذا تماما، إذ ترى الأغلبية أن "دون كيشوته" أول رواية في العالم بالمعنى الحديث للكلمة.

لا أرى للأسباب أعلاه خاصية تميز المحاكاة عن الرواية. إن ما يميز رواية "الفطحل" هو كونها مبنية على أجزاء متقطعة إن صح التعبير، فالسرد فيها يبدو لأول وهلة وكأنه مكون من شظايا fragments، أي تبدو لأول وهلة وكأنها تفتقد إلى حبكة وبنية سردية    narrativeبالمعنى التقليدي للكلمة، من حيث إن تسلسل الأحداث لا يتبع في هذه الرواية "ثم كذا ثم كذا"، من بداية واضحة لحبكة محددة تُتَوَّج في ذروة تنحل عقدتها في النهاية، لكن هناك عوامل جامعة من حيث الشكل، فإضافة الى وحدة الموضوع ووحدة الشخصية المتمثلة في الفطحل، وهي بديهية في رأيي، إلا أن هناك عوامل شكلية أهم، ف"الفطحل" عمل  نثري ذو امتداد زمني واضح منذ العام 1990 إلى 2006 تحديدا. هناك أيضا صوت الراوي، وهو العمل الأساسي في وحدة السرد والشكل.

يتابعنا صوت الراوي في رواية "الفطحل" من البداية الى النهاية، وقد يتناسى القارئ هنا دوره بسبب شخصية الفطحل. لكن لابد في رأيي من مناقشة دور هذا الراوي المشاكس الذي يعرف تماما أن القارئ تحت رحمته!  ليس سهلا أن نحدد علاقة هذا الراوي بالأشخاص الأخرين في الرواية لاسيما الفطحل ذاته، لكن أظن أن الراوي هنا كان زميله منذ أيام الدراسة وأنه رافقه في الغربة حتى اختفائه.

وراوي "الفطحل" هنا بالمناسة مشاكس محترف، لأنه يحجب عن القارئ مصير البطل الفطحل، فهو لاريب يعلم بعاقبته ويتلذذ في تخمينات الجهلة من أصحاب النميمة. كيف لا يعرف بمصير الفطحل وهو يعلم سريرة كل أشخاصه بل حتى أحلام الفطحل وكوابيسه في الليل؟ هذا الراوي الذي ينصح الفطحل بالزواج والعمل، متعاطفاً معه رغم علمه بتفاهته، ما علاقته بالفطحل؟ لا شك في أن الراوي يتعاطف مع الفطحل الأبله، على الأرجح شفقةً. ناهيك عن أن الراوي يغير أسلوبه السردي ووجهة النظر بين عدة شخصيات، بما في ذلك الفطحل نفسه. يستهل الراوي سرده بضمير الغائب "هو" في الفصلين الأول والثاني، فيحدثنا هنا عن كل كبيرة وصغيرة من أحلام الفطحل وكوابيسه، ثم ينقلب فجأة في الباب الثالث إلى ضمير المخاطب "أنت" وكأنه يتكلم مباشرة إلى الفطحل والقارء بشكل غير مباشر، ثم يعود الى ضمير الغائب في الفصول اللاحقة.

كذلك تتبدل وجهة النظر، فتارة نرى الأحداث بعيني الراوي، وأخرى بعيون الآخرين، لكن الراوي هو نفسه الراوي لا يتبدل. الراوي هنا لا يكتفي بالمراقبة من بعيد، أو يتظاهر بذلك كي لا يبدو مباشرا وتقليديا ولكي يجمع بين السرد والدراما مطلا برأسه بين فترة واخرى، فيحس القارء بوجوده عدة مرات. يذكرني الراوي هنا بنظيره في رواية العجوز والبحر Moby Dick للكاتب الأمريكي Herman Melville. فالراوي يطل فجأة من المحيط السردي ليعلق على الأحداث مثل الحوت في الرواية، والحوت هنا ليس شخصية فردية بل هي نمطية ورمزية الى حد بعيد.

ولا يمكنني في هذا المقال أن أعطي مسألة الشكل الأدبي في هذه الرواية حقها من النقاش، وأضيف الى هذا الكثير من الجوانب المهمة في الكتاب الجديرة بالانتباه كدور الأحلام وعلاقة الراوي بأشخاصه.

لقد نجح الكاتب في بلورة شخصية مدّعية ووصولية "عربية" بامتياز بعيون نقدية ولغة لاذعة، سنحت لي أن أرى بعض الأفراد والإشكاليات بعيون مختلفة، شخصية عامة وفردية في آن معا، أضحكتني من "شر البلية" لساعات طوال ممتعة ومؤلمة!

***

جمال جودة - ماجستير في الألسنيات من جامعة كوبنهاجن،

استاذ اللغتين الدنماركية والانجليزية في كوبنهاجن

صدرت مسرحية غوغول – (المفتش) عام 1835 في روسيا، وتم عرضها على المسرح في مدينة بطرسبورغ الروسية لاول مرة عام 1836 بحضور قيصر روسيا نفسه آنذاك، ومنذ ذلك الحين والى وقتنا الحاضر تعرض (بضم التاء) في مسارح روسيا و العالم، بعد ان ترجموها الى لغات عديدة . ان وصول مسرحية (المفتش) لغوغول الى مكانتها العالمية تعني انها لا تجسّد مشكلة روسية موجودة في النظام القيصري الروسي تحديدا كما كانوا يقولون ويؤكدون في الزمن السوفيتي انطلاقا من الانتقاد الدائم للنظام القيصري في روسيا السوفيتية والحديث عن سلبيات ذلك النظام، وانما تعني ان هذه المسرحية تجسّد مشكلة اجتماعية عالمية متأصلة في اعماق الانسان، كل انسان، ويمكن لهذه الموضوعة ان تظهر وتتبلور وتنطلق حسب الموقف الملائم لها بغض النظر عن طبيعة المجتمع والنظام السائد فيه، وليس عبثا، ان هذه المسرحية انتقلت بعدئذ الى الفنون الاخرى، مثل الفن التشكيلي (رسما ونحتا)، ثم الى الفن السينمائي، ونظن، انه من المهم والمناسب جدا ان نشير هنا، الى ان المرحومة أ.د. حياة شرارة كتبت مقالة في جريدة الجمهورية البغدادية في الربع الاخير من القرن العشرين حول مسلسل تلفزيوني مصري عرضه التلفزيون العراقي آنذاك عنوانه (غريب في المدينة) وتابعه المشاهدون في العراق باهتمام كبير ولافت للنظر، وهو مسلسل مقتبس من مسرحية غوغول (المفتش)، وجعلوا احداثه تدور في مصر آنذاك، ولازالت المصادر المختلفة عن حياة شرارة تتحدث عن اهمية تلك المقالة في تراثها الفكري حول الادب الروسي وارتباطه بالعالم العربي وتفاعله معه وتأثيره عليه، وغوغول ومفتشه طبعا هو المحور المباشر لكل ذلك الارتباط والتفاعل هنا قبل كل شئ، والذي تناولته المرحومة حياة شرارة في مقالتها تلك بعد قرنين تقريبا من ظهور مسرحية غوغول (المفتش) في روسيا نفسها، والحليم تكفيه الاشارة طبعا .

 مقالتنا هذه  تتناول تاريخ مسرحية (المفتش) لغوغول في الفن السينمائي، وظهور افلام سينمائية لمفتش غوغول تعني (فيما تعنيه)، ان هذه المسرحية لازالت تتعايش مع عصرنا الحاضر وتتفاعل بحيوية معه، وهذا تأكيد واضح و جديد على عدم دقّة تلك الاقوال، التي أشرنا اليها حول علاقة المسرحية بنظام سياسي معيّن ومحدد . ومن الطريف والمهم ايضا ان نشير، الى ان اول فلم سينمائي لمسرحية غوغول لم يكن فلما روسيّا، اي ان (المفتش) الروسي في مدينة روسيّة لكاتب مسرحي روسي لم يبتدأ سينمائيا في روسيا، وانما ابتدأ في اوروبا، اي خارج روسيا، لان موضوعة المسرحية تعتبر ظاهرة عالمية فعلا، اما في السينما الروسية فتوجد في بعض المصادر اشارة الى فلم صامت ظهر عام 1912 ولكن لا توجد منه الان اي نسخة ولم نجد مراجع عنه بتاتا، ولكن الانتاج الحقيقي لاول فلم روسي لهذه المسرحية ظهر عام 1952 فقط، بعد ان خرجت روسيا من الحرب العالمية الثانية عام 1945 وتنفست الصعداء قليلا، وبدأت تضع لمسات حياتها الاجتماعية الاعتيادية، وكان من الطبيعي ان تنتبه – قبل كل شئ - الى ادبها العملاق في القرن التاسع عشر، وهكذا ولد (مفتش) غوغول في روسيا من جديد، ولكن ليس في المسرح، وانما في السينما هذه المرّة، لأن الفن السينمائي اصبح سيّد الفنون في القرن العشرين، ان صحّ التعبير. لقد التزم فلم عام 1952 حرفيا بالنص كما كتبه غوغول لدرجة، ان احد المعلقين قال عنه ساخرا، ان تلاميذ المدارس يمكن ان يشاهدوا هذا الفلم بدلا من قراءة النص المطلوب حسب المناهج الدراسية، وربما هكذا كانت خصائص وصفات الافلام السينمائية السوفيتية في تلك المرحلة بالذات من مراحل مسيرتها، الا ان الانتاج الثاني سينمائيا للمفتش قد تحرر من (..ذلك الالتزام الحرفي بالنص الغوغولي..) في الفلم الذي تم انتاجه عام 1977، و حتى بالنسبة لعنوان  الفلم، اذ  جاء الفلم بعنوان – (متنكر من بطرسبورغ)، وليس (المفتش) كما هو عند غوغول، والعنوان الجديد قول مقتبس من نص تلك المسرحية ولا يتعارض بتاتا معها، بل بالعكس، فهو يؤكد على جوهرها، اذ ان المفتش كان يجب ان يكون متنكرا فعلا ومن بطرسبورغ بالذات . لقد حاز هذا الفلم على نجاح باهر في حينه، ولازال يشغل مكانة متميّزة بين الافلام الروسية لهذه المسرحية، بل ولازال مطلوبا من قبل المشاهدين لحد الان، اذ انهم يجدون فيه (كما قال احد اصدقائي معلّقا على هذا الفلم!!!) بقايا تلك المظاهر الواضحة والصارخة – بعض الاحيان - في مسيرة حياتهم اليومية بروسيا المعاصرة في الوقت الحاضر، وهي مظاهر (معشعشة!) هنا وهناك، والتي تجعل مفتش غوغول (حيّا يرزق !) في الحياة الروسية .

الانتاج الثالث لمسرحية (المفتش) ظهر عام 1982 في السينما الروسية، وهو في الواقع مسرحية قدمتها فرقة مسرح (ساتيرا) الروسي بموسكو، وعلى الرغم من تحويل هذا العرض المسرحي الى فلم سينمائي، الا ان الاجواء المسرحية بقيت واضحة المعالم في هذا الفلم، اما الانتاج السينمائي الاخير للمسرحية فقد تمّ في عام 1996، ولم يكن هذا الفلم تنفيذا حرفيا للمسرحية تلك، وانما جاء (حسب موضوعها العام) فقط، رغم انه لم يبتعد عن الاحداث الرئيسية للمسرحية .

مفتش غوغول لازال يعيش بيننا، ويمكن له ان يظهر في كل مكان، عندنا وفي اجواء  عالمنا العربي خصوصا، وعندهم ايضا، والا لماذا يعودون اليه لحد الان في فنونهم المتنوعة ؟   

من كتاب – (خمسون مقالة عن غوغول)، الذي سيصدر قريبا عن دار نوّار للنشر في بغداد وموسكو قريبا .

***

ضياء نافع  

فيرجيني ديسبُنت

إعداد: فراس ميهوب

***

في رواية عزيزي النذل، يتبادل الكاتب الأربعيني المعروف أوسكار جاياك الرسائلَ مع ريبيكا لاتي، الممثلة المشهورة التي تكبره بأعوام قليلة، تبدأ بالسخرية والشتائم وتنتهي بإعلان الصداقة.

تتمحور أحداثُ الرواية على مناصرة ريبيكا لفتاة اسمها زوي كاتانا التي تدَّعي تعرضها للتحرش والاغتصاب من الكاتب الذي كانت تعمل معه كمساعدة صحفية في دار نشر قبل عشر سنوات.

ينكر أوسكار أي سلوك شائن، لكنه يعترف جزئيا بعد ذلك.

تستعرضُ الرواية وجهات نظر متعددة عن العلاقات الجنسية، السياسة، السينما والأدب، وتعرج على انتشار وباء الكوفيد ١٩، وما صاحبه من تغيرات في سلوك الناس.

تدخل تحت النوع الواقعي المعاصر، وتدور أحداثها في السنوات الأربعة الأخيرة في فرنسا، مع تذكر لأحداث قديمة تعود إلى عشر سنوات سابقة، ومراحل من طفولة أبطالها.

تتجلى وجهة نظر الكاتبة بتبني شكل الرسائل المتبادلة بين البطلين الرئيسيين، ومقتطفات من مدونة زوي كاتانا ذات الثلاثين عاما، الناشطة النسوية.

باريس هي الإطار المكاني للرواية مع بعض مدن فرنسا المحيطية كنانسي، وتولوز، وكذلك مدينة برشلونة في إسبانيا.

أهمية الزمان والمكان محدودة في بناء الرواية. يتراجع كذلك دور الأحداث والمنعطفات، وتغلب أهمية وجهات النظر، وإن كان بعضها جديرا بالنقاش والاهتمام، فإنها لم تخلُ من لهجة تقريرية أحيانا. ورغم جدية الموضوع لكن السخرية تطبع الرواية من بدايتها إلى النهاية.

الرواية سلسة القراءة، ولكنها طويلة نسبيا قياسا على قلة الأحداث. يتجلى الحدثُ الرئيسي باعتداء الكاتب المشهور على الفتاة العشرينية الضعيفة، مع أحداث ثانوية كانتشار وباء الكوفيد، ومرض شقيقة البطل ودخولها للمستشفى.

من النقاط التي تحسب للرواية: دفاع الفتاة الضحية زوي كاتانا عن وجهة نظرها بما يتعلق بالدفاع عن المرأة ضد عدوانية بعض الرجال، وحقها في التعبير عن رغباتها الجنسية تماما كالرجل، ورفض الخضوع لنظام بطريركي ذكوري يدفعها للخجل من نفسها، يجعل من الاغتصاب أمرا عاديا، ويهدد المرأة بتفاصيل علاقتها الجنسية برجل اختارته.

تعرَّجُ الرواية على ظاهرة "أنا أيضا" أو

Me too

التي انتشرت في الغرب، وكشفت الاعتداءات الجنسية التي قام بها المنتج والمخرج الأمريكي هارفي وينشتاين، وألقت الضوء عن التحرش الجنسي في عالم السينما.

في مرور لافت للنظر في مقطع يعتبر الأجمل والأكثر جرأة في الرواية، توجه الكاتبة نقدا صريحا لصناعة السينما التي كرَّست غلبة الذكور البيض الأغنياء، والصورة النمطية عن الملونين، والنساء، والبدناء، وحظرت الأفكار التحررية، وأكدَّت على الابتذال ، فتلخصت رسائل السينما بالإغواء واستخدام لغة الدعاية الموجهة إلى اللا وعي ليحيا الأغنياء النافذون وتمجَّد الحروب.

تحلل الكاتبة شخصيات الرواية نفسيا، مع مقاربة دور الهوية الجنسية، وإشكالات الطفولة، وتعقيد العلاقات العاطفية والجنسية.

تشيرُ إلى بعض الظواهر السلبية في عالم الأدب والنشر، تداخل إدمان الكحول والجنس والسياسة.

تنوه فاليري ديسبُنت في روايتها إلى حاجة الفنان والكاتب لمحبة المتلقي، ولكن بنفس الوقت ضرورة حفظ استقلال المبدع وقدرته على قول ما يريد دون أن يصبح سلعة تباع.

تدلُّ الكاتبة بجرأة إلى محرمات المجتمع الغربي: اليهود، السود، الضرائب، اليمين المتطرف، تويتر، والحذر بالتعامل مع الفتيات.

تقاربُ الرواية أزمة تقبِّل التقدم بالسن، وتغير واقع الحياة وخصوصا للعاملين في مهنة التمثيل.

انتشار الإدمان على الكحول والمخدرات في المجتمع، ولكن بنفس الوقت الإشارة إلى دور بعض الجمعيات في الإقلاع عنه مثل "جمعية المدمنين المجهولين"،...

صعوبة التعامل مع الأبناء في سن المراهقة في ظل المؤثرات المختلفة وغير القابلة للمراقبة والسيطرة مع انتشار الإدمانات والانحرافات المتعددة.

تتحدثُ الرواية عن المعطيات الجديدة للمجتمع الفرنسي والغربي المعاصر: فنانيه كمغنيِّ الراب، وموسيقيين كبووبا، بيلي إيليش، لانا ديل روي، ليل ناس إكس. وأدبائه كلويس فيرديناند سيلين، مارغريت دوراس، هيمنغواي، بوكوفسكي، ويلّيام بيروغس، كالافير، وجاك كيرواك، ودور الحركة النسوية و رائداتها مثل فاليري سولاناس، مونيك ويتيغ، وبالمقابل عدم إغفال الأصوات النسائية المعارضة لها والتي دافعت عمّا اسمته بحرية الإزعاج مثل كاترين دونوف وبريجيت لاهاي.

تعرِّجُ الرواية إلى ذكر لغة العصر ومفرداتها السائدة بين الشباب، الكلمات السوقية والبذيئة، وبعض الألفاظ الجديدة القادمة من لغات أخرى انكليزية وعربية.

تدرسُ الكاتبة مفهوم الشهرة المستجد في عصر الانترنيت وشبكات التواصل الاجتماعي، وتراجع دور المبدع "التقليدي" لصالح الناشطين الجدد متقني الوسائل المستحدثة.

تتعرَّضُ من جهة أخرى للمخاطر الحديثة المتعلقة بوسائل التواصل الاجتماعي، وتتطرق إلى مصطلحاتها الجديدة.

لا تخلُ الرواية من طرافة في مقاربتها للعلاقة المعقدة بين بطليها الرئيسيين، وحاجة كل منهما للبوح، وشخصية فرانسواز الثانوية  ذات الكراكتر الغريب الذي يلخص تناقضات المجتمع فهي عجوز، نسوية، يسارية، سكيرة، مدخنة، وتتقن مع ذلك التعامل مع وسائل الاتصال الرقمية الحديثة.

من سلبيات الرواية طولها المبالغ به قياسا على قلة الأحداث، وغياب المفاجآت والتحولات.

العنوان الأصلي للكتاب

Cher Connard

المؤلفة

Virginie DESPENTES

اللغة: الفرنسية.

تاريخ النشر: آب- ٢٠٢٢

دار النشر: غراسيه- فرنسا

عدد الصفحات: ٣٤٤

***

فراس ميهوب

2023/03/19

..................

الكاتبة: فيرجيني ديسبُنت: روائية فرنسية، ولدت عام ١٩٦٩م، صدر لها عدة روايات منها: الأشياء الجميلة، نظرية كينغ كونغ، حصلت على جوائز أدبية عديدة منها جائزة رينودو، وسان فالنتان.

تعبرُّ عن وجهة نظر نسوية، ومثيرة للجدل في كتاباتها.

اعتبرت روايتها آنفة الذكر "عزيزي النذل" من بين أفضل روايات العام الماضي ٢٠٢٢م في فرنسا.

 (دراسةٌ بيئيَّةٌ في المُثُل والجَماليَّات)

أشرنا في المقال السابق إلى أنَّها تَظهر جَماليَّات الرَّجُل الجاهليِّ- بهيئته من: البياض، والشباب، وبخُلقه من: الفروسيَّة، والكفاح، والقناعة، والأُبوَّة، والتَّبَعُّل، إلى غير ذلك من مقاييسه الجَماليَّة عند العَرَب- في صورة (الثور الوحشي)، ممَّا يؤكِّد إيغال تلك الصُّورة في رمزيَّتها إليه في الشِّعر الجاهلي، كما تجلَّت في نماذجنا المدروسة.

وداخل إطار الرمزيَّة في (الثور الوحشي) للرجل الجاهلي- وما تحرِّكه هذه الرمزيَّة من جَماليَّات، متَّصلةٍ بجَماليَّات المرموز إليه/ الرَّجُل- تبدو صورتان: صورةٌ تُمثِّل الشاعر، أو قل: تُمثِّل نموذج الرُّجولة عنده، ضِمن سياجٍ من القِيَم الخيريَّة، وصورةٌ أخرى تمثِّل العَدُوَّ، بمقاييسه وصفاته المعهودة في الشِّعر الجاهلي، التي لا ينتقص منها الشاعر شيئًا، إنْ لم يمنحها من مزيد الوصف ما يُعرِب به عن جدارة العَدُوِّ بالمُواجهة، وجدارته هو بقهره.  وهي الصُّورة التي يعبِّر بها الشاعر عمَّن حالَ بينه وبين محبوبته، إذ يقول، مثلًا، في ذِكر رحيل صاحبته، واختفاء رَكبها خلف مجال الإبصار:

أَتَى دُونَها ذَبُّ الرِّيادِ كأنَّهُ         

                                                 فَتًى فارسيٌّ في سَراويلَ رامِحُ(1)

وبهذا يتحكَّم المرموز إليه في جَماليَّات الرمز، فيرسم له لوحة، قد يكون رآها، تمثِّل: فتًى فارسيًّا في سراويل رامحًا؛ لا على إرادة تشبيه هيئة (الثور الوحشي) بهيئة هذا المحارب أصلًا، بل لأنَّه كذلك يتخيَّل عَدُوَّه الذي حالَ من دون حبيبته: يُشْبِه تلك الصُّورة التي رآها، بفُتوَّة الفتى المرسوم فيها، وبِزَّته الحربيَّة، ورُمحه، وتحفُّزه للقتال، ملقيًا ذلك كلَّه على رمزه عنده: الثور الوحشي.

وفي صورة قصصيَّة مطوَّلة يقول (الأعشى)(2):

كـأَنـِّي ورَحْلـي والفِـتانَ   ونُمْـرُقـي          

                                                 على ظَهْـرِ طـاوٍ أَسْفَـعِ الخَـدِّ  أَخْـثَـما

علـيـهِ  دَيــابُـوذٌ   تَـسَـرْبَـلَ  تَحْــتَــهُ         

                                                 أَرَنْـدَجَ  إِسْـكافٍ  يُخـالِـطُ  عِـظْـلِـما

فـبـاتَ   عَـذُوبًـا   للسَّـمـاءِ  كـأنـَّـما         

                                                 يُـوائـمُ رَهْـطًـا لِـلْـعَـزُوبَــةِ صُــيَّـما

يَـلُـوذُ  إلى أَرْطَــاةِ  حِـقْـفٍ  تَـلُـفُّــهُ         

                                                 خَـريـقُ  شَـمالٍ تَـتْـرُكُ  الوَجْهَ  أَقْـتَـما

مُـكِـبًّا  على رَوْقَـيْـهِ  يَحْـفِـرُ  عِـرْقَـهـا         

                                                 عـلى ظَـهْـرِ عُـريانِ الطَّريقـةِ  أَهْـيَـما

فـلَـمَّا  أَضـاءَ  الصُّـبْـحُ  قـامَ  مُـبـادِرًا         

                                                 وحـانَ انْطِلاقُ الشَّـاةِ مِنْ حيثُ خَيَّما

فـصَبَّـحَـهُ  عـنـدَ  الشُّـرُوقِ  غُـدَيَّــةً         

                                                 كِـلابُ الفَتَى البَكريِّ عَوفِ بنِ أَرْقَما

فأَطْـلَـقَ  عن  مَجْـنُـوبـِهـا  فـاتَّـبَعْـنَـهُ         

                                                 كـما  هَيـَّـجَ  السَّامِي المُعسِّـلُ خَشْرَما

لَـدُنْ  غُـدْوَةً  حتى  أَتـَى  اللَّيلُ  دونَـهُ         

                                                 وجَـشَّمَ  صَـبْـرًا   رَوْقَــهُ   فَـتَجَـشَّما

وأَنْحَـى  على شُـؤْمَـي  يَدَيـهِ  فذادَهـا         

                                                 بِـأَظْـمَـأَ  مِنْ فَـرْعِ  الذُّؤابَـةِ  أَسْحَـما

وأَنْحَـى  لهـا  إِذْ هَـزَّ في الصَّدْرِ رَوْقَـهُ         

                                                 كما شَـكَّ ذُو العُـوْدِ  الجَرادَ  المُـخَـزَّما

فَشَـكَّ  لها  صَفْحـاتِهـا  صَـدْرُ  رَوْقِـهِ         

                                                 كما  شَكَّ  ذُو  العُـوْدِ  الجَـرادَ  المُـنَظَّما(3)

وأَدْبَـرَ كالشِّعْـرَى  وُضُوحًـا  ونُقْـبَـةً         

                                                 يُـواعِـنُ  مِنْ حَـرِّ  الصَّريمَـةِ  مُـعْظَما

فـذلك  بَعْدَ الجَهْـدِ  شَبَّـهْـتُ نـاقَـتي         

                                                 إذا الشَّـاةُ يَـومًا في الكِـناسِ تَـجَرْثَـما

تَــؤُمُّ   إِيـاســًـا  إِنَّ رَبِّــي  أَبـَـى  لَـهُ         

                                                 يَـدَ   الدَّهْـرِ   إلَّا  عِــزَّةً   وتَـكَــرُّمـا

فها هو ذا (الثور الوحشي) بصورته النمطيَّة، التي تقدَّمت ملامح منها.  ومثلما رأينا الشاعر، في صورة سابقة، فإنه يحرص على تناسق الألوان في صورة الثور، فهو أسفع الخدِّ، أبيض الظهر، أسود القوائم، كأنَّ عليه (دَيابُوذ)، وهو نوع من الثياب، تحته (أَرَنْدَج)، وهو جِلْد أَسْود، يخالط (عِظْلِما)، وهو صِبغ أخضر يميل إلى سواد.  وفي توازي هذين اللونَين (الأبيض والأسود) مغزًى رمزيٌّ، كما سبق القول، تكمِّله هذه الصورة الدراميَّة، التي تمثِّل معاناة الإنسان الجاهلي.  من أجل ذلك يَمُدُّ الشاعر زمن هذا الصِّراع بين الثور الوحشي و(كلاب الصائد) ليستغرق الزمن كلَّه: «لَدُنْ  غُدْوَة حتى أَتَى اللَّيلُ دونَهُ»، ثمَّ بعدئذٍ يقول:

وأَدْبَرَ كالشِّعْرَى وُضُوحًا ونُقْبَةً         

                                                 يُواعِنُ(4) مِنْ حَرِّ الصَّريمةِ مُعْظَما

ليُشير بهذا إلى أنَّ لفظَي «غُدْوَة» و«اللَّيل» لا يعني بهما مدلولهما الزَّمني، وإنَّما عبَّرَ بهما عن الامتداد بلا نهاية للصراع، وإلَّا لكان متناقضًا؛ إذ كيف يُخبِر أنَّ الصِّراع بين (الثور) و(الكلاب) امتدَّ من الصَّباح إلى اللَّيل- مع بُعد هذا عن التصوُّر- ثمَّ يُتبِع ذلك بقوله: إنَّ الثور تخلَّص من الكلاب وانطلق يتَّقي حَـرَّ قائضة النهار، مشبِّهًا إيَّاه بـ(الشِّعْرَى) التي تطلع بعد (الجوزاء) في شِدَّة الحَـرِّ.(5)  وهذا الامتداد الزَّمنيُّ غير النهائيِّ هو مدَى صراع الإنسان الذي يرمز إليه (الأعشى).  بل إنَّه- في بيته ما قبل الأخير- ليُحِسُّ أنَّ صورة الثور الوحشي لا تفي بالتعبير عن جهده، فيومئ إلى أنَّه أشدُّ عناءً منه: «إذا الشَّاةُ يَومًا في الكِناسِ تَجَرْثَما»، وإنَّما شَبَّه به ناقته: « بَعْدَ الجَهْد».   

ولعلَّ هذه العودة الصريحة إلى المشبَّه (ناقة الشاعر) من أدلِّ الأدلَّة على أنَّ الشاعر الجاهليَّ، إذ يَستغرق في تصوير (الثور الوحشي)، فإنَّما يفتنُّ في تصوير (ناقته)، أو بالأحرى تصوير نفسه.  

[وهو ما سنواصل فيه المناقشة الأسبوع المقبل].

***

أ. د. عبدالله بن أحمد الفَيفي

............

(1)  ابن مُقْبِل، (1962)، ديوان ابن مُقْبِل، تحقيق: عِزَّة حسن، (دمشق: مديريَّة إحياء التراث القديم)، 41/3.   

(2)  (1950)، ديوان الأعشى الكبير ميمون بن قيس، شرح وتعليق: محمَّد محمَّد حسين، (مِصْر: المطبعة النموذجيَّة)، 295، 297/ 16- 29. 

(3)  هذا البيت يكرِّر البيت قبله.  وقد أشار الشارح إلى رجحان أنَّه رواية أخرى لسابقه.

(4)  كذا!  وشُرِحت «يُواعِن» بأنها تعني: يدخل في الوِعان، جمع وَعْنَة، وهي الأراضي الصلبة، أو هي أماكن بِيض لا تُنبِت شيئًا.  ولا نجد هذه المفردة لدَى شاعر آخر.  ولعلَّها تصحيف «يُواهِق».  والمُواهَقة: في السير: المواظبة ومَدُّ الأَعناق. (يُنظَر: ابن منظور، لسان العَرَب، (وعن)، (وهق)).  وهذا اللَّفظ هو الموافق، من حيث المعنى، وصفَ الشاعر.

(5)  يُنظَر: ابن منظور، (شعر).

نقد سيميائي وثقافي لرواية ذاكرة الجسد

محمد شريف مستغانمي، مالك حداد، عبد الحميد بن بديس متتاليات ذكورية تشكل ما يشبه عقدة اليكترا، التي أشار إليها سيمون فرويد في شعور تلك الفتاة القادمة من ذلك الزمن العصيب فصقلت البنية الهندسية لوعي أحلام مستغانمي الدكتورة والروائية الجريئة ....

أحلام مستغانمي المولودة في 13 أفريل 1953 بتونس العاصمة حيث تلقت تربيتها الأولى في واقع سياسي، يقوده الحبيب بورقيبة الذي كان ينسخ تجربة كمال أتاتورك متأثرا بموجة الحداثة الغربية مزيلا من طريقها كل العراقيل العرفية والدينية.....

في هذه البيئة التي يعمل فيها الوالد معلما للغة الفرنسية، لكنه يحمل روحا قومية عربية يلتف حوله أفراد الأسرة الفارة من جحيم أحداث 8 ماي 1945 الدموية، التحاق الخال وانخراط محمد شريف المستغانمي في ثورة التحرير 1 نوفمبر 1954 إن هي إلا حتمية روحية لدى الشرفاء من أبناء هذا الوطن.....

تعد هذه الذاكرة المأساوية موردا أساسيا في تشكيل هوِّية الأديبة، كما يؤكد ذلك المفكر أرنست رينان أن الألآم المشتركة توحد الأفراد والجامعات أكثر من الأفراح، ومن ثمَّ فإن الهوية التاريخية تبنى أساسا على ذاكرة المآسي، فالمآسي والأفراح بورصتي قيم الذاكرة يضمنون إنعاشها واستمرارها ......

فهذه الحالة النفسية الشعورية واللاشعورية هي التي فجرت بركان الإبداع في صورة منتوج روائي " ذاكرة الجسد " عام 1993 كهزة زلزالية قوية تلتها أخرى ارتدادية متعاقبة بنفس الابطال وتنوع الحبكة المسببة لصراع عاطفي فيه الحب عاملا مشتركا بين التعلق بالمرأة والوطن والنضال والشهادة ...........

في فوضى الحواس 1997 وعابر سرير 2003 ........

قبل أن نخوض في دراستنا النقدية السيمائية والثقافية لمضمون النص " ذاكرة الجسد " نسجل هذه الملاحظة الهامة: الأديبة بكل عبقرية وفقه لحالتها النفسية تتلمس شعورها وحتى لا شعورها بالتحليل لتبدأ بمقدمة هامة تجعلها تتخندق في صف أدباء الوطن فيما بعد الكولونيا لية الغيورين على قوميتهم ولغتهم العربية أي ما يقابل صف آخر يعارض استعمال العربية في الحياة ويسمي المتعلمين بها بالقومجيين .

الدفاع عن ثقافة الاستعمار بالدعوة الى البربرية وهو يريد مكانا للفرنسية على حساب العربية.

دعوة أخرى للعلمانية المتطرفة وإزاحة دور الإسلام في الخطاب السياسي للجزائر الفتية، ومن أمثال هؤلاء أمين الزاوي، كاتب ياسين، مولود معمري ......

إن ذكرها لمالك حداد ابن قسنطينة الذي أقسم بعد استقلال الجزائر ألا يكتب بلغة ليست لغته، ثم ذكر

أبيها في المقام الثاني فتقول عساه يجد "هناك "من يتقن العربية فيقرأ له أخيرا هذا الكتاب ..... كتابه ....

لتعيد والدها إلى المقام الأول من باب بر الوالدين .......

يمثل مالك حداد أحد شخصيات النخبة الوطنية ذات البعد العربي القومي ويظهر ذلك جليا في نضاله في المرحلة الكولونيا لية وفيما بعدها، يتجلى هذا النضال في مجموعته الشعرية الأولى " الشقاء في خطر سنة 1956، في روايته الانطباع الأخير " تحية للثورة الجزائرية " المتأججة وهي في عامها الرابع، روايته رصيف الأزهار والتي تستلهم الأديبة أحلام مستغانمي بطلها خالد بن طبال في ذاكرة الجسد وفوضى الحواس وعابر سرير .....

من هذه النخبة أيضا الأديب محمد الديب صاحب الثلاثية الرائعة: الدار الكبير، الحريق، النول أي المنسج، دون أن ننسى الروائي عبد الحميد بن هدوجه في روايته ريح الجنوب .....

تنتمي أحلام مستغانمي إلى هؤلاء الشرفاء الذين ناضلوا للوطن، للعربية، وقد واجهوا بسبب هذا المسلك الإقصاء والتهميش من النخبة الأخرى الفرنك فليين التي ترى بعين الاستعمار كما ذكر ذلك إدوار سعيد في كتاب الاستشراق 1935 _2003 فالشرق هو ذاك الآخر الهمجي بلا عقل عاجز عن التفكير المنظم، شاذ بليد متعصب أي بمعنى المجنون كما صوره ميشال فوكو في تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي يصفون حركاتها التحررية بشبكة من التنظيمات الخطرة .....

سيمائية العنوان "ذاكرة الجسد «: يمكن اعتبار هنا السيمائية كقسم مهم من الأنثروبولوجيا نظرا لأنها تتعامل مع الماضي الذي تحول إلى ذاكرة في حفريات قسنطينة وتونس ومعاقل الثورة وحاضرا بجامعة السوربون وصالونات باريس بفرنسا ......

الذاكرة في هذا العنوان تحيلنا إلى مفاهيم هامة كما يؤكد ذلك المفكر جويل كندو أن الزمن يهدد كيان الأفراد بالزوال ومن هنا تأتي الذاكرة في استرجاع الذكريات والأحداث الماضية لتخليدها وهذا ما تفعله الأديبة ردا للجميل إلى وطنها بشخوصه وأمكنته الهامة في هويتها الفردية والجماعية، منها الوالد وأدباء، كابن باديس المشاركين في صنع البعد الثقافي الفكري لقسنطينة العريقة.......

لما هذه الخيارات الأدبية؟ كأنها في مرحلة تحديد وهندسة أخيرة لموقفها من هذا العالم المحلي والعالمي المتناقض اجتماعيا، سياسيا واقتصاديا لعلها تحدث شيئا من التكيف والاستقرار الداخلي، رأت أحلام مستغانمي أن تشغيل الذاكرة هو إنعاش وبناء لهوية ذاتها وحفظها من آفة النسيان وإثبات الوجود ورد الاعتبار لنفسها ووالدها أمام أعداء الإبداع قاتلي المواهب .......

فالتذكر حسب ايمانويل كانط "يسمح بربط العلاقة بين ما حدث في الماضي ومالم يحدث بعد بواسطة ما هو حاضر"

ليكون الرضى عن الذات والسكينة الداخلية كعلامة للاستقرار النفسي والشعور بأداء المهمة كاملة في حياة أحلام مستغانمي.

اهتدت الكاتبة بكل عبقرية إلى حيلة تجعل من جراح ومأساة ما حدث للمناضل الثوري محمد شريف مستغانمي ومثله من قدموا الغالي والنفيس للوطن ثم ليجدوا أنفسهم على الهامش كمن لم يشارك بشيء، إن حجم الألم الذي سببه الصراع على الحكم في الجزائر فضيع لهذا شخصت هؤلاء الضحايا ببطلها خالد بن طوبال الذي فقد ذراعه في حرب التحرير ويعيش بذراع واحدة تدفعه ليتعلم فن الرسم الوسيلة الوحيدة المنفسة عن كبت شديد يشعر بحالة من الحزن الدفين، هذا الأمر جدُّ مؤثر في القارئ ...

قد يحمل جسمنا أثارا وندبات تلازمه في كل حين تذكر بالماضي وقد تتحول إلى دلالة وعلامة خاصة تميزك يستدل بها عنك في حالة الضياع بين الموتى والجرحى أو فاقدي الوعي أو دليل وحجة قوية على النضال وأداء المهمة بتفاني واخلاص، وهناك أثار أخرى في أعماق النفس من شدة التعذيب هي جراح تشكل خلفية لكثير من السلوكيات، بل يعمد بعضهم إلى احداث وشم لحوادث يخلدها كطوطامية وهذا مما نهت عنه الشريعة الإسلامية لما فيه تغيير لخلق الله تعالى....

أما إضافة كلمة الجسد للعنوان وكان يمكن الاستغناء عنها بقولها الذاكرة فقط، فهذا يعطي مدلولات أخرى جدُّ هامة في النص إن ما أصاب الجسد من بتر أو تشوه أو مرض عقلي وهو ما حدث لبطلها خالد بن طوبال في الرواية وأصاب محمد الشريف مستغانمي في عالم الواقع هو سبب للنبوغ والابداع في عالم الكتابة والشعر والمراسلات العاطفية والرسم أو الفنون الأخرى لتحويل الطاقة السلبية إلى أخرى طاقة إيجابية تجعل المصاب يعيش في كرامة وهذا نوع من الطب بتوفير وسائل الإبداع للمتعثرين بسبب الظروف الاجتماعية والحروب ......

بل يمكن التلميح إلى ما احدثته الدعاية لأجل التجميل بجلد الذات وتحميل الجسد ما لا يطيق من حمية و شفط للدهون وتكبير أو تصغير لأعضاء الجسم، ينبغي إخراج هذا الجسد المعذب المستعبد بوسائل الإبداع والفن .......

أشارت الروائية في نصها البديع بطريقة بلاغية ساحرة إلى أمراض اجتماعية ناتجة عن أنظمة فاشية شمولية فاسدة منها

خطر الجهاز الاعلامي بقنواته واذاعاته وصحفه التي تحول الكذب إلى حقيقة والهزيمة إلى انتصار حين تذكر ذلك ببيان رائع": هناك صحف يجب ان تغسل يديك ان تصفحتها وإن لم يكن للسبب نفسه كلّ مرة ...فهناك واحدة تترك حبرها عليك ... وأخرى أكثر تألقا تنقل عفونتها اليك ...."

تحكي الاديبة المميزة عن ركود سياسي ثقافي اجتماعي بائس يسمح بما سماه المفكر مالك بن نبي قابلية الاستعمار حين تقول: " تراني انا الذي أدخل الشيخوخة أم ترى الوطن بأكمله الذي يدخل اليوم سن اليأس الجماعي..."

تشير بإبداع منقطع النظير إلى مأساة وطنية منها تهميش المعارضين المشاركين في حرب التحرير ليستقروا في ديار الاستعمار ليعيشوا تناقضا صارخا، حيث يجيدون الحماية عند من رفعوا السلاح في وجهه ذات يوم وهو بذلك يستثمر في مشروعه الجديد فيما بعد الكولونيا ليه، فتكتب: ويحدث أن تحزن وأنت تأخذ المترو وتمسك بيدك الفريدة الذراع المعلَّقة للركاب ثم تقرأ على بعض الكراسي تلك العبارة: " أماكن محجوزة لمعطوبي الحرب والحوامل "

" لا ليست هذه الأماكن لك، شيء من العزة ،من بقايا شهامة ،تجعلك تفضل البقاء واقفا معلقا بيد واحدة "......

اللغة العربية من ثوابت هوية المؤلفة النابغة

حين تكتب بحوار جميل: وبأي لغة تكتبين "

" كان يمكن أن أكتب بالفرنسية ،ولكن العربية هي لغة قلبي ... ولا يمكن أن أكتب إلا بها .."

تقول هذا وهي في جامعة السوربون إنها تعي وعيا عميقا برسالتها ومهمتها "

تقدم الأديبة من تجربتها الفرق بين الحب العذري والعشق الجنوني الذي يأتي على الأخضر واليابس يضر بذلك المصلحة الشخصية فتكتب بكل جرأة: ألم يقل برنارد شو تعرف أنك عاشق عندما تبدأ بالتصرف ضد مصلحتك الشخصية "

تكشف الأديبة عن عقدة نفسية لعل فرويد لم يتطرق إليها: وهي حالة نفسية لأفراد عائلة الرموز الوطنية والاجتماعية وغيرها حين تكتب: أن يكون أبي أورثني اسما كبيرا، هذا لا يعني شيئا، لقد أورثني مأساة في ثقل اسمه، وأورث أخي الخوف الدائم من السقوط والعيش مسكونا بهاجس الفشل "

يهود قسنطينة في رواية ذاكرة الجسد : تسرد الروائية بلطف حنين اليهود إلى قسنطينة بخلق شخصية روجيه النقاش صديق طفولتها وغربتها الذي ساعدها بجاهه ومعارفه بباريس ،ثم ذكرت المطربة اليهودية سيمون تمار وهي تغني المالوف والموشحات القسنطينية بأداء وصوت مدهش مرتدية ذلك الثوب القسنطيني الفاخر ،هنا ينبغي استدعاء النقد الثقافي لهذه القضية الحساسة كما قال عبدالله الغذامي ينبغي أن يعامل النص بوصفه أنه حامل لأنساق مضمرة عفوية كانت أو متعمدة تختفي خلف سحر البيان ،إن وصف يهود قسنطينة بهذه الوداعة وعدم ذكر الجانب الإذائي فيهم للشعب الجزائري والثورة الجزائرية سيدفع إلى نسيان الأعداء التقليديين للأمة وتدليس الذاكرة وبالتالي تشويه الهوية الوطنية ،لأن لليهود في قسنطينة اليد الطولى في خدمة الاستعمار الفرنسي مما سبب انتفاضة سكان قسنطينة ضد اليهود في 5 آوت 1934 لاعتداءاتهم على المساجد وقد تم استدعاء الشيخ ابن باديس لتهدئة الوضع فقال قولته المشهورة : أنه في هذه الحالات التي تمس فيها كرامة المسلم وإهانة دينه ورسوله الكريم لا مهادنة ،وبعد الهدنة اطلق ابن باديس على هذه الحادثة " فاجعة قسنطينة " أيضا من ما ينبغي أن تحفظه الذاكرة مجزرة ،12 ماي 1956 نفذها متطرفو اليهود مدعومين بشرطة الاحتلال الفرنسي ....

وإن الحكم للعام ولو شذّ بعضهم بموقف إنساني نبيل مع الثورة الجزائرية، إن شهادة البراءة التي تقبل منهم هي براءتهم من الصهيونية واحتلال فلسطين أما يأكل مع الذئب ويبكي مع الراعي فهذا مكر وخبث لا ينبغي أن نخدع به القارئ .....

نرجع إلى ذكاء المؤلفة عندما تحلل عقدة حب الشهادة التي تعلو فوق مصالح الفرد الذاتية كترك الحبيبة والأهل والأولاد لأجل الوطن، عندما تذكر الشاعر الفلسطيني زياد فتكتب بقلم خاص «قرَّر فجأة أن يتخلى عن كل شيء ويعود إلى بيروت ليلتحق بالعمل الفدائي "

نظرة المؤلفة لمأساة الصراع بين رفاق السلاح حول من يحكم؟ وكيف يحكم؟  كانت عاطفية غير كاملة، حيث كانت بجانب الرئيس الراحل أحمد بن بلة وهذا شيء طبيعي لأن والدها محمد الشريف المستغانمي كان من رجال الحكومة، ومسيرها لهذا لما هبت رياح التغيير أصابت العائلة وهمشتها، هي سنة التدافع المبني على الدهاء ومن يملك لجام الجيش الوطني الشعبي سليل جيش التحري، وطبيعة الصراع على من يحكم الجزائر بدأت مع ثورة التحرير نوفمبر 1954......

سارت الثورة خلال سبعة سنوات بتسيير جماعي لكن عند اقتراب الاستقلال بدأ النزاع الذي تقوده الباءات الثلاثة، كريم بلقاسم، عبد الحفيظ بوصوف ،لخضر بن طوال ثم أزيحوا بتحالف جماعة وجدة الرئيس احمد بن بلة وحليفه هواري بومدين، ثم ازيح احمد بن بلة بتحالف قائد الجيش هواري بومدين مع طاهر زبيري لتنتهي التصفيات بإزاحة طاهر زبيري و فشل انقلابه ويصفى الحكم للرئيس هواري بومدين الذي كان له الفضل في تثبيت دعائم الدولة والسير بها في نظام اشتراكي استفادت منه طبقات مهمشة من الفلاحين وانطلق التعليم وإنشاء المعاهد والجامعات وترسيخ التعريب وخاض بذلك تجربة عظيمة كانت تلقى معارضة تخريبية من المعزولين ودعاة الفرنك بربر إلى أن كانت وفاة رئيس الجمهورية الثاني بموتة مشبوهة ،إن إقامة الدول ليس بالأمر السهل ولسنا في هذا العالم الوحدين من عاشوا الانتكاسات لكن الحمد لله حققت الثورة الجزائرية دولة قوية لا تزول بزوال الرجال قاومت الإرهاب، قاومت المآمارات الفرنسية ودعاة الفساد إلى الآن، لهذا أقول أن المؤلفة الوطنية القومية العربية أثارت مضمونا يحتاج أن يتكلم فيه المؤرخ بصدق... هي معذورة في ذلك ولها الحق أن تقول ما تشاء لكن النقد الثقافي ينبغي أن يكون حاضرا لتصحيح المفاهيم لدى القارئ ليصنع ماهية وجوده على قواعد صحيحة ..........

فعندما تصرح الاديبة وعلى لسان بطلها خالد بن طوبال عن نظام بأنه دموي (ما الذي يمنعني من فضح أنظمة دموية قذرة، ما زلنا باسم الصمود ووحدة الصف، نصمت على جرائمها؟) لعل الاديبة بعد أن رأت عنف الإرهاب المخترق من طرف الغرب ،ورأت الربيع العربي المخترق من طرف الغرب ،ورأت الربيع الامازيغي و الحراك الفرنك وبربري واغتيال جمال بن اسماعيل تكون قد فهمت أن التغيير ليس هذا هو طريقه وأننا دولة داخل دولة ومؤامرة تجلب مؤامرة وأن الصبر مع الأعور خير من السير في فتنة يقودها الغرب المستعمر، وأظن أن هذا ما جعل الاديبة تصرح لإحدى القنوات الفرنسية فرونس 24 أن العرب لا تصلحهم الا الأنظمة الدكتاتورية وقد راينا لما اغتيل صدام حسين ما وقع للعراق، ولما اغتيل القذافي ما وقع لليبيا ولما اغتيل علي عبد الله صالح ما وقع لليمن...........

ثم يقودنا السرد المتسلسل إلى حبكته الرئيسية قصة حب بين البطل خالد بن طوبال والبطلة حياة وما يكتنفها من صراع شديد موجع، فشخصية البطلة حياة تمثل هذا الوطن الذي لم يسمح بتحقيق أماني عشاقه الذين ضحوا بالغالي والنفيس بل جنحت كطائرة إلى مطار الخونة والوصوليين

تمثل أحيانا شخصية "حياة "مدينة قسنطينة العريقة التي لم تحقق لأبنائها ما كانوا يتوقون إليه فتقول الكاتبة أحلام مستغانمي على لسان بطلها خالد بن طوبال: أنت مدينة ... ولست امرأة، وكلَّما رسمتُ قسنطينة رسمتك أنت، ووحدك ستعرفين هذا.......

الأديبة الخلوقة لم تهمل الذاكرة الجماعية المحلية " قسنطينة " والوطنية " الجزائر "

وبعدها الحضاري "العربي الإسلامي "كتبت بأروع بلاغة تمشي العروبة معي من حيٍّ إلى آخر .... "

" لا يمكن أن تنتمي إلى هذه المدينة ،دون أن تحمل عروبتها .... العروبة هنا.  زهوٌ ووجاهة وقرون من التحدِّي والعنفوان .... "

مازالت لحية ابن باديس وكلماته تحكم هذه المدينة حتَّى بعد موته."

مازالت صرخته التاريخية تلك بعد نصف قرن، النشيد غير الرسميّ الوحيد ...الذي نحفظه جميعا:

شعب الجزائر مسلم. ... وإلى العروبة ينتسب

من قال حاد عن أصله ... أو قال مات فقد كذب

تمثل أحلام مستغانمي نموذج للمرأة العربية المتشبعة بهويتها، فهي تعبر عن موقف صعب أمام نخبة كولونيا لية كوقفة محمد الشريف مستغانمي أمام الاستعمار واعداء الإبداع......

ها هي المرأة الجزائرية تفرض وجودها النضالي في عالم الذكور بلا تعصب لأنوثة أو دعوة إلى الانسلاخ

كتبت فأبدعت، فكرت فأصابت أهدافها، خاطبت ببيان وأسمعت بإتقان نتمنى لها مزيدا من التوفيق والنجاح.

***

بقلم: رابح بلحمدي

البليدة الجزائر

"لم يعد هناك مالم يجربوه، ولا مالم يقولوه، كانوا يقومون بتمهيدات ونوبات أذى مستجدة، كانت أشد إيلاما لمشاعرنا.. ليس فقط أجسادنا، كان يثيرهم اذعاننا، فتهيج رغباتهم على شكل غير متوقع، كان يضربونا بوحشية لنذعن، وليرغمونا على الطاعة "

حكاية تسردها لنا الروائية (هدى محمد حمزة) في روايتها (قــِوامَـة)، الصادرة عن دار شمس للنشر والاعلام، في طبعتها الاولى، 2023.

تحتوي الرواية على خمسة فصول من غير عنونة مكتفية بالتسلسل الرقمي وتركها منسابة دون ان تعنون فصولها لكي تنسجم مع التيمة المطروحة، بواقع 271 صفحة

(قبل الدخول الى عالم المتن السردي تستوقفنا العنونة (قِوامَة) تلك العتبة والواجهة النصية التي عادةً تشكل مدخلا لعالم الرواية الا اني ارى ان هنا العنونة النكرة بمعناها في اللغة : من قام على الشيء، أي حافظ عليه وراعى مصالحه،

 ببنيتها المستقلة ذات الحضور الدلالي وهيمنتها وما لها من علاقة تأثيرية وتشويقية والتمهيد لعلاقة مع المتلقي، لكن بعد الدخول الى عالم الرواية نخرج بالمعنى الذي ارادته الروائية " قـِـوامَـة"1 لمن القـِـوامَـة؟ وبهذا يكون العنوان باب خروج وليس مدخل..

عنونة على لوحة غلاف التي تعد من المناصات ذات التمظهر الايقوني والتي تظهر فيه فتاة تشبه الملكات الفرعونيات ..

تجربة روائية تضاف الى تجارب روائية بأقلام نسائية في مجال السرد تميزت من حيث الشكل والمضمون لما تمتلكه من مقومات حداثية اثبتت حضورا نسويا في المشهد الثقافي على جميع الاصعدة ثقافياً وسياسياً واجتماعياً واقتصادياً والملتصق بوجعها الانثوي.. لتكشف عدة مواضيع تناولتها الكاتبة، ثنائيات ضدية وبأسلوب وجداني قسوة المجتمع اتجاه النساء سواء كانت في السجون او خارجه.

لقد أكد النقد على وجود إبداع نسائي وآخر ذكوري، لكل منهما هويته وملامحه الخاصة وتجاربه النفسية والفكرية التي تؤثر في فهمه للعالم من حوله.

 أن النقد والأدب النسوي ينظر إلى المرأة بوصفها ذاتاً وموضوعاً للكتابة، فهو يعبر بصدق عن الطابع الخاص لتجربة المرأة ويجسد خبرتها في الحياة، فضلاً عن أنه يكشف بوضوح عن اهتمام المرأة بذاتها وإظهار هذه الذات لدى المجتمع..

صورت لنا الكاتبة هموم الذات النسوية بأسلوب الراوي العليم في ثنايا السرد الذي يتتابع بنمطية متدفقة يكون التبئير مركزاً حول شخصية المرأة ورؤيتها السردية، احسنت الروائية في اختيار شخصياتها نلمس في هذا العمل الروائي، تحرر الشخصية الروائية حيث اطلقت لها العنان في التحرك بحرية نراها خارج سلطة ورتابة المؤلف

ثائرة: اختيار الكاتب لاسم (الشخصية المحورية) ذات لغة قصدية وما يحمل الاسم من دلالات الثورة والتمرد

صوت نسائي بارزا في خطابها الروائي تناقش الواقع الاجتماعي الذي تعيشه المرأة في ظل مجتمع أبوي متسلط، وتكشف الترابط الهش بين المرأة والرجل

تؤكد النصوص فقداناً متعدد الوجوه، الحرية، الحياة الطبيعية، والارادة والرغبة، تهميش دور المرأة، وانها تتعرض لاغتصاب مستمر في عقلها وجهدها ومشاعرها وانسانيتها على الرغم من حضورها الطاغي

" كثيرا ما كانت تهمس: لي أخوات شبيهات لي في كل بلد ، وكل أخت تسكنها لحظات من الصفاء والجنون، هزمنا في معارك فكانت مصلا لانتصاراتنا، فقط علينا مسك رأس الخيط وآخره، وربما قد يستمر ذلك الى ان اكون عجوزا خرفة، فهي كالبهارات اللاذعة بعيون رأسي وتلابيبي، لا استطيع الا ان اتبع الضوء واسترخ تحت ظل السماء.." ص6

نقلت لنا الروائية بوعي سردي صادق الرؤى الجمعية لطبقة النساء المهمشات معتمدة الوصف الذي خلقت لنا ايقاعاً في السرد واحدثت استرخاء وترويح عن النفس بعد مرور الحدث، وقد وظفت الروائية هدى محمد حمزة هذه التقنية فيما يخدم الفكرة، نرى ذلك جليا في استهلال الفصل الاول الذي جاء بنص نثري وبلغة انزياحيه وخروج عن المألوف والسائد..

كل ما هنالك يشيخ

الطريق .. الوقت

الانتظار الطويل

الافواه المغلقة

الا البحر

وصرير الشهيق

في قبضة البياض

الا أكوام الذاكرة

المجلجلة

بسخاء

انها ولجت في اعماق الشخصية حللت سلوكها وتقدمها لنا من جميع الابعاد الجسمية والنفسية، وكذلك اعتمادها نمط سردي آخر (رؤية داخلية) سرد ذاتي تعتمد على راو يقدم الاحداث برؤية ذاتية داخلية على لسان شخصية محورية سارده تفعل وتنفعل بمجريات الاحداث لكونها شخصية محورية (الراوي مشارك) وهي بمثابة (الكاتب الضمني الذات الثانية للكاتب)

قوامة" رواية بوصفها احدى نماذج روايات الاحتجاج والرفض بشكل مباشر وصريح

رواية احتجاجية تعبر عن وضع الأنثى اي المرأة – الزوجة – الأم التي خص وجودها في مستوى الحاجات البايلوجية، احتجاجها على وضع المرأة في العائلة .

" فهو يملك السلطة والحق في الاعتداء، وهو صاحب الامتياز، الذكر الذي يحتضنه المجتمع ويبارك رجولته وأفعاله منذ الازل" ص27

اعتمدت في نصوصها احياناً اسلوب السرد المباشر في حالتي الكشف والاستبطان لشخصية المرأة حيث توثق حركة الشخصية في الزمان والمكان والعلاقة الاجتماعية، وتضافر الرؤية الانثوية والشخصية الانثوية وتلازمهما، وتلك الرؤية السردية التي ظهرت نتيجة ظاهرة الوعي النسوي بالذات والعالم .

"بعد مرور سنة على اعتقالها الاخير ولأسباب سياسية كما في كل مرة، كان مدى سعادتها لا يوصف لتركها المكان والحياة القذرة، لكنها سعادة مطفأة، مشوبة بالحزن الذي حملته معها خارج الاسوار حتى اصبح كقيد ثقيل على قلبها لا يسمح بمرور الفرح مهما كان نوعه وشكله " ص7

كذلك اعتمدت تقنيات وآليات سردية أخرى كالحوار والتداعي والوصف والمنولوج

الذكورة والانوثة:

هذه الثنائية بما تحمله من دلالات التي تؤثر على طبيعة العلاقة الغير متكافئة بين الرجل والمرأة ومنها" على وجه الخصوص:

الخضوع، الاستسلام، الطاعة، الهامشية، الاقلية، الحماية، النفوذ؛ وهي كلمات تؤثر على دونية الانثى"2

كان يقول لها:" نحن الرجال قّــوامـون عليكنَّ، نحن جزء من الذات الالهية ونحن الاعلى والاقوى، أما النساء.. فأنتنَّن سلالة الشيطان، ولا عجب، فقد منحنا كل صفات الالوهة .. الرجال صورة الله التي وردت في خلق آدم.."ص28

عرضت الاحداث برؤية انثوية، تركيز الضوء على قضية الانثى واستبعادها كفاعل وادراجها كمنفعل وذلك " من خلال العبث بهويتها البشرية وخفض قيمتها البشرية والتعالي على الشبكة الوجدانية والفكرية والتي تشكل البطانة الحقيقية لوجوده"3

رواية الأنثى بامتياز ففيها تمثل الأنثى بأدوارها كافة، الأم، الابنة، الزوجة وما يقابلها من حضور السلطة بكل رموزها الرجل الذكر، والأب، والزوج، والحاكم

حيث اجتمعت هذه الرموز لاضطهاد المرأة المغلوب على أمرها والمعبرة عن انتهاك جسد المرأة، واستلاب حريتها ..

" لم يعد هناك مالم يجربوه، ولا مالم يقولوه، كانوا يقومون بتمهيدات ونوبات أذى مستجدة، كانت أشد إيلاما لمشاعرنا.. ليس فقط أجسادنا، كان يثيرهم اذعاننا، فتهيج رغباتهم على شكل غير متوقع، كان يضربونا بوحشية لنذعن، وليرغمونا على الطاعة " ص7

لغة الرواية:

هي وسيلة الرواية التي تستخدمها في بنية روايتها بما فيها من احداث وشخصيات، ضاعفت من الاهتمام بالسرد الذي يعتمد الصورة لان هذا النوع من السرد يسمح للقارئ بأن يشاهد بعيني خياله ما يجري في الرواية

حاولت الكاتبة استعمال لغة ساخرة ناقدة في بعض بنياتها، اتخذت من اللغة أداة لإدانة وتقويض السلطة الذكورية

" القفص الذي يقال انه الذهبي، الذهبي الى الأبد! فلحظة الخروج من بيت القفص، تكون الى القبر لا الى غيره، أليس هو مقياس المرأة الصالحة التي تسمع الكلام؟"ص30

نلمس خصوصية المعاناة عبر جماليات اللغة التي يمتزج فيها الفكر والشعور والتخييل نرى ذلك جليا في توظيف تقنية السارد المشارك:

"أما أنا فقد وأدتني تعاليم اللات والعزة، قبل أن أرى آيات المدينة الفاضلة، انعطفت المسافات بي الى متاهات مربكة في قرية تشوش ذهنها بالاعتقادات الخاطئة حد اليقين، فاين تهرب نحن الطفلات اللواتي ولدن في ثوان قذرة، نحن الامهات المقدسات ذوات الرحم الرحيم، اين نذهب؟ أنتبع الشمس ام تقبع في فضاء منزلي ..؟ ص13

التنوع والثراء في الاحداث المعبر عنها بلغة شعرية شفافة كثيفة وخالية من الاطناب الذي يؤجل حركة السرد ويقطع مسارها، دون ان يفقد السرد طاقته الخلاقة التي يؤججها التوتر، السردي الشعري / نراه جليا من خلال شحنة العنوان، الغموض، والتكثيف الدلالي، والبنية الايقاعية، والانزياحات الاسلوبية: ص38

أمضي دون التفات

يا قدري

أمضي قبل ان يذبل

ورد الابتسام

خلف دموع الاقحوان

أمضي

دون اكتراث

لزكائب الرماد والتراب

دون اكتراث لريح الكآبة

أخلع عن قلبي قميص الصمت

أصرخ بعال الضوء

لتخرج أفاعي الليل

من شجرة الطهارة

الرواية فيها من المتعة واصابة مكامن الحساسية لدى القارئ وهذا الامتاع له علاقة بالتعاطف الوجداني مع الشخصية المحورية(ثائرة) وتأجيج المشاعر القلبية والارتياح العقلي.

***

طالب عمران المعموري

......................

المصادر

1- هدى محمد حمزة، قِــوامَــة، ط1ن شمس للنشر والاعلام، مصر، 2023 .

2- فاطمة كدو، الخطاب النسوي ولغة الاختلاف، مقاربة الانساق الثقافية، ط1المدارس، الدار البيضاء، 2004، ص20.

3- السرد النسوي: الثقافة الابوية، د. عبد الله ابراهيم، ط1 المؤسسة العربية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت، 2011 . ص141.

عتبات النص الشعري يمتلك براعة البناء اللغوي القويم، الذي يعزف في شفافية الكلام الشعري الجميل، في دقة الاختيار في الرقة والعذوبة في اختيار المفردات اللغوية والبلاغية، الخفاقة في نبضها في الشعور والإحساس الوجداني الذاتي، كأن البناء اللغوي بمثابة، الارتواء من الظمأ والعطش الروحي الى أبجدية شعرية متلألئة بحروفها الوهاجة في قدرتها التعبيرية، في أدق مشاعر الانسانية وخاصة المرأة الحالمة بالحلم والحب العفيف، المؤطرة بالاطر الإنسانية الدافئة في عطرها ونسائمها، في التناسق الوثيق بين الحلم والانسانية. يشكلان مصدر الصراع القائم في الحياة والوجود، هذا التناسق المترابط، وجد ارضاً خصبة في العشب الشعري الاخضر، في براعة الاهتمام والضغط عليه، كأنه الهرم الاساسي في وجدان الذات ومشاعرها، والعزف على قيثارته، حتى يشعر القارئ بهذا التدفق الحالم، الذي يطرب الروح والوجدان في صوره الباذخة في المعنى، لكن الصور الشعرية في هندستها، تملك حزم من التأويلات المتنوعة والمختلفة، تختلف من قارئ الى آخر، لان الشاعرة (أنعام كمونة) سلكت الطريق الشعري في التلميح، وبالتصريح همساً في الاصطفاء والاختيار في معالم الحلم والحب الانساني، سلكت طريق الإيحاء الرمزي في الرؤيا والروى، تفتح اشرعتها في المنصات التأويلية متنوعة، لكن يبقى هاجس الحالم مصدر الحياة والوجود، ويرطب بنسائم عذبة لجفاف الحياة في عطشها وشقاءها بالقهر والحزن، تواسي صرخات الانين من الضحايا الابرياء، الذين يقعون في زوبعة التيارات العاصفة والمدمرة، قد تقلع الحياة والوجود معاً، لذلك يبقى الحلم والحب العفيف يؤرق هواجس الحياة، حتى لو كانت ضحية الشدائد والمصائب، التي تعكر سلامة الحياة، وتجهض مساراتها، وتجعلها عرضة لطعنات غادرة من كل حدب وصوب في الفعل اليومي والحياتي، في تداعياتهما الموجعة بالحزن والشعور الإنساني الموجع بالالم، الذي يشعر بالاختناق من الغدر بالحلم والانسانية، لياخذ الحياة الى مزالق خطرة في اهوالها، لذلك النص الشعري في قصائد الديوان، تعزف على الشعور الانساني كردة فعل قائم، تجاه هذه الغزوات التي تجهض مسار الحلم، لكي تغرقه في متاهات خطيرة، أو تأخذه الى دهاليز ليس لها مخرجاً من عنق الازمة، ولكن رغم هذه الصعوبات الجمة، يبقى الحلم الانساني طوق النجاة للحياة والوجود، رغم انه يتعرض الى طعنات قاتلة بالغدر والعدوان واراقة الدماء، لكن يظل الحلم الانساني يظل قائماً، على قاعدة وارضية خصبة لها وجهة نظر واقعية ووجودية، وليس توهيمات خيالية واهية تذهب مع ادراج الرياح، بل الحلم الانساني يظل رفيق الحياة والوجود، حتى لو تعرض الى افدح المحن في اهوالها الصعبة والقاسية، ان الحلم والانسانية يسيران معاً، وليس نزوة عابرة، او طارئة، لاتملك رصيداً، بل انهما من صلب الواقع المضطرب والهائج في مساراته المتقلبة في الصراع.

لنأخذ بعض عينات من بعض النصوص الشعرية:

1 - الحلم يتهشم في اعماق البحر:

هذا هاجس الحلم الوصول الى المشتهى والمرام، عبر خوض مجازفة حياتية خطيرة في عبور البحر بقوارب الموت، ينتهي بهم المطاف الى عواقب وخيمة، تتهشم أحلامهم في أعماق البحر، ليكونوا طعماً شهياً لحيتان البحر، ويترك الامهات في لوعة الحزن الحارق، تندب حظهن العاثر في مواويل حزينة في الآهات والأنين، لان البحر انتزع ظلماً فلذات أكبادهن.

أ... أضمتك دموع موجة بين حناياها صارخة لرضاعك..!؟

أ... أهدهدتك فراشات السواحل بكركرات احلامك..؟

كيف لي أن أُصدق ولعبتك بين يدي تعانـــــــــــــــــق..!!

استجار البحر بطيفك..

رفع راياته البيضاء

ببسمات حتفك الباسق...

سرمدي هدير ذكراك... ينتـــــــــــــشي..

2 - ترنيمات الحلم:

يتغنى بزهوٍ وفخر بأصله ونسبه السومري، وانتمائه إلى أرض الطين والاهوار، ويخفق بجناحيه كالفراشات الحالمة في أريج الأقحوان، بالافراح والاعراس، ويدق مزامير الفرح برحلة الاهوار ب (المشحوف) لينسج انشودة الابتهاج بعطر رائحة قصب البردي والطين، ويهدي زهرة من شقائق النعمان الى الهة الحب (إينانا) و(عشتار) في أهازيج الحصاد تتراقص بين المنجل و(الفالة) لتصدح في أنغامها في الاهوار.

ترانيم جداول سومرية العبق ….

يحدوها مشحوفاً *…

ملون الجراغد* …

يغازلُ رشاقة موج طحلبي السحنات

بمجداف ضوء أزرق

ينسج لحاء الأماكن

فراديس تبر برائحة القصب

تعانق خطى كركراتي الفواحة

بحناء ضفائر أُمي

وظلال سدرة تفيأها والدي لعناق صلاتهِ

كنا نسرد أحلامنا الفتية لنجوم (إنانا)

فتهدينا زهرة زقورية ……

تهودج المدى أعراس شبعاد …..

3- الحب المقتول:

في صبيحة يوم العيد، استيقظ الناس في فزع، على تفجير دموي مرعب، حول المكان الى حرائق ودخان وأشلاء متفعمة ومتقطعة، هذا الحلم بأيام الأعياد بان أن تكون متوهجة بحلة الفرح والابتهاج، تحولت إلى أيام كارثية حزينة. من قبل الذئاب البشرية المتوحشة(داعش) في التفجير الدموي في منطقة الكرادة في بغداد.

بين الرصيف ولحظة قصوى ….

بسلام مبتور الوتين

احترقت زغابات الحلم

في كرادة ترابي على حين قضمة

والتصق لون الأسماء بجراح الهوية..؟؟

لن …. يثرينااا دمع نزف ….

لن …. يغنينااا صوت عصف …..

لو فاضت متاريس الخضراء …..

… مناااجم أسف …..

4 - شهادة الحلم:

يرتقي الحلم اعلى منزلة لينال الشهادة بفعل أيادي الغدر، من أرباب المقام والجاه والنفوذ، احتفلوا بنصرهم بنخب الفرح الكبير، وشربوا كؤوس العار من دماء فتية في عمر الزهور، لبوا نداء الوطن بالحلم الموعود أن يخرج الوطن من أزماته نحو رحاب الحرية، فكانت انتفاضة شبابية واسعة المدى، عمت المدن والساحات على اهازيج واغاني للوطن. لكن أصحاب السلاح والنار (الطرف الثالث الملثم) كان لهم بالمرصاد ليجهضوا انتفاضة الشباب بالدماء، اصبحت كالنهر الجاري من الدماء المسفوح على ترابة الوطن، فيا سيد الشهداء والامام العظيم، كما اغرقوك انت وعائلتك الكريمة بالدماء، فإن فتيتك في عمر الزهور، اغرقوهم ايضاً بالدماء، وهم يلبون نداءك العظيم (ليس منا المذلة).

عذرا...... عذرا سيدي الشهيد وجعي

يتهافت مطرا

كلما رويتم صراط الشهادة بدموع دمائكم

يُلَوِحْ عناق أجسادكم الفتية

عرس مذابح بحناء الجراح..!!

وتهاليل رحيل خضبت مأتم الكفن بأنين الصباح

فيااا كبوة صهوة الوطن...

فرســــــــــــــان صهيل الخلود....

عمر.. علي.. هويات سلام

بأطياف قزحية

تحتسي البرد وتمنح الدفء

كيف تناثرت شهية أحلامكم الشجية...

أشلاء.. أشلاء

على سفوح عراق مستباح..!!!

وأوغاد الكؤوس تحتفي بنخب عار..؟!!

5 - ذكريات حالمة ايام العيد في الطفولة

تبقى ذكريات الطفولة ندية، عالقة بمذاقها كالعسل، أيام الاعياد في زمن الطفولة، في البهجة والفرح بقدوم العيد، يعني ملابس جديدة وحلوى وعيدية العيد، وصخب الأراجيح، والفرحة تعلو باصوات الاطفال، معطرة بالفرح العائلي، بطوفان الابتهاج، تبقى حلاوة هذه الذكريات العالقة في الوجدان لتلك الايام الجميلة، وليس أيام الحاضر المشبعة بالبؤس والاحزان والحرمان، تكون ايام الاعياد شحوب وجفاف ونحيب ، نتجرع فيها الروح الألم بزفرة وجع السؤال(بأية حال عدت يا عيد).

أرسمك على زجاج عزلتي تجاعيد عتمة

يؤنس وحشتي جنين ذكريات

"بأيةِ حال عدت يا عيد"*

وكي أشذب زينة آهاتي بوجوبِ فطرةَ القدرِ..

أرتجلُ هفوةَ النظر...

لاسترق روح عيد بألوان حلوى

تزاحم هدايا جيوب جَديّ

وضجيج أراجيح تغمر حقول ايام غرور الفرح

كنا نَشُمُ فجر طفولة العيد بتكبيرة وضوء أبي

فتتعطر براءة الصباح بخضاب ضفيرة أمي

نلهوا براعم نرجس ببساتين نخيل..

أ..أراني أهذي بلسان سجية أيامي..؟ وأنتم..؟

يزاورني وجع السؤال..!!

×× عنوان الكتاب: اصطفيتُك همساً / شعر

×× المؤلف: أنعام كمونة

×× الطبعة الأولى: سنة 2023

×× من إصدارات مؤسسة المثقف سيدني / استراليا

***

جمعة عبدالله

لم تكن نكسة حزيران عام 1967، هزيمة عسكرية فحسب، إنّما مثّلت إفلاسا للبنى الثقافية والفكرية التي كانت سائدة قبلها، وخيبة مسّت جميع الأصعدة العربية، عقب هذه الأجواء صدرت رواية "الأشجار واغتيال مرزوق" عام 1973 وهي العمل الروائي الاول للكاتب عبد الرحمن منيف،

التي سلطت الضوء على ما كانت تعيشه الأنظمة العربية، التي صنعت لنفسها منظومة من الأساطير والعادات والتقاليد التي توارثتها على مر العصور، وكانت سبباً في تضليل شعوبها، وتغييب وعيها. وقد صورت لنا الرواية الحالة التي كانت تعيشها هذه الشعوب من اضطهاد وتعسف، وذلك من خلال ما تتعرض له الشخصيتان الرئيستان في الرواية: منصور عبد السلام، المثقف الذي يتعرض للملاحقة والاضطهاد ثم الطرد من الوظيفة. والشخصية الثانية الياس نخلة، المواطن البسيط الذي لا يشغل باله سوى في توفير العيش له ولعائلته.

تبدأ الرواية من القطار الذي يهاجر به منصور من بلده من اجل العمل، بعد ان اصبح الحصول على عمل في بلده معجزة يجب ان يقف أمامها المواطن متلاشياً صغيرا. وكانت معاناة منصور كبيرة في الحصول على جواز سفر لهجرة بلده بينما في بلدان غير بلداننا العربية لا يستغرق الحصول عليه اكثر من ساعات: "لا احد يصدق كم انتظرت حتى حصلت على هذه الأوراق اللعينة، نعم لا أحد على وجه الكرة الأرضية يتصور ان أوراقا مثل هذه، لا يكلف انجازها نصف ساعة، تنتظرها أكثر من سنتين.. لكن ما هو الزمن؟ ماذا يعني بالنسبة للآخرين؟ وماذا يعني بالنسبة لك"ص14.."جواز السفر لا يعني هذه الوثيقة الصغيرة التي بين يديك، تخطئ كثيرا اذا تصورت الأمر هكذا! والملفات الكبيرة؟ والتقارير؟ حتى المختار كان يستطيع ان يمنعك من السفر"ص14. ثم يمر أمامه شريط من الملاحقات التي تعرض لها والأسئلة التي كثيرا ما يوجهها الرجال الذين يتابعونه، عند البيت، والذين يسألون بائع السجائر وصاحب الفرن، ويطاردونه في الأزقة ويجلسون في المقهى الذي يجلس فيه: "أتتصور ان هؤلاء سهوا عنك لحظة واحدة؟ لا تتوهم.. كانت آذانهم لا تسهو، تلتقط كل شيء.. بعد ان تتحول كلماتك الى أصوات ميتة في الهواء، تنفجر مرة أخرى، تصبح أشباحا وهي تتراكم في الملفات الزرقاء والحمراء!"ص14.

هذا ما تعرض له منصور وأمثاله، حتى لم يبق أمامه سوى الهجرة من البلد للخلاص من تلك الملاحقات التي تحسب عليه أنفاسه، حتى أصدقائه لم يستطع، او بالأحرى لم يرغب في توديعهم، فهو لا يرغب بالذكرى التي تخلف عاطفة: "اترك كل شيء وراءك".

وبحزن يسائل منصور نفسه: "ما هو الوطن؟ الأرض؟ التلال الجرداء؟ العيون القاسية التي ينصهر منها الحقد والرصاص وكلمات السخرية؟ الوطن ان يجوع الإنسان؟ ان يتيه في الشوارع يبحث عن عمل ووراءه المخبرون"ص25. كثيرا ما يستخدم الكاتب الحوار الداخلي (المونولوج) في مراجعة منصور للأحداث التي مرت به..

هكذا وبكل توجس وخوف يبدأ سفرته في القطار وفي الدرجة الثانية، (مكان الرواية التي تستمر مع زمن الرحلة التي لا تتعدى الساعات الثلاث). عبدالرحمن منيف يقدم اغلب رواياته في أماكن غير محددة، لكنها تجمع العديد من الصفات المشتركة والممثلة للواقع العربي، ولهذا جاءت أماكن رواياته غير محددة بمكان حقيقي معروف. وفي احد لقاءاته الصحفية يبرر ذلك بان الأمكنة العربية متشابهة بظروفها لذلك يعطي للأمكنة شمولية.

في القطار يتعرف منصور على (الياس) الشخصية الثانية في الرواية، وهو شخص عادي، عمل في كل المهن، هرسته الحياة، حتى أصبح أخيراً مهرباً للملابس القديمة يبيعها في اقرب مدينة بعد الحدود.. وعندما يسأله منصور عن مردود تجارته التي سيشاركه فيها؛ رجال الجمارك وحرس الحدود! كما أخبره ألياس فيجيب:"لقد دفعت في المرة الماضية مبلغاً كبيراً، ولم ينته الأمر أيضاً، أوصوني على ألف شغلة!".. ص27.

فيثير بهذا الجواب حفيظة منصور:"آه لو امتلك السلطة، لو امتلكها يوماً واحداً لدمرت هذا العالم، العالم لا يحتاج إلا الى التدمير. لقد فسد كل شيء فيه، تفتت خلاياه، تعفن، لم يعد ممكناً إصلاحه أبدا"ص27. هذا الشعور بالمرارة والظلم يجعل منصور يتعاطف مع ما يحكيه ألياس من تفاصيل حياته طوال الرحلة. فما الذي أراده الكاتب من جمع هذين الشخصيتين معا في مكان وزمان الرواية (القطار)؟ هل يرمز الى عجز القوى المثقفة والأحزاب التقدمية عن تخلصها من حكوماتها التي تسلطت عليها.

باعتقادي ان شخصية ألياس البسيطة المتشربة بالحياة ترمز الى الطبقات المسحوقة في المجتمع العربي والتي لا تشكل خطراً على حكام تلك الأنظمة، فهي تناضل في سبيل توفير لقمة العيش لها:"أتعرف يا صاحبي ان هذا الذي يجلس أمامك الآن عاش حياة صعبة.. قد تكون ممتعة.. لا ليست ممتعة على الإطلاق، كانت حياة شقية، لا يهم، ولكن كانت حياة. نعم حياة"ص47.

ويحكي الياس الى منصور كيف خالف إرادة أبيه الذي قال له:"يا ألياس هذه الأشجار مثل الأولاد، أغلى من الأولاد، ولا أظن ان في الدنيا إنساناً يقتل أولاده، فأحرص عليها اذ مت، أنا اتركها أمانة في رقبتك، فاذا قطعت شجرة قبل أوانها فأن جسدي في القبر سوف ينتفض"ص47.. مع ذلك خسر ألياس أشجاره التي تعني له حياته في لعبة مقامرة:"هذه الليلة لا نلعب إلا على الأشجار نحن ندفع مالاً وأنت تدفع لنا أشجارا"ص48.. بعد ان يخسرها يحمل البندقية ويذهب الى الجبل، ليصبح لأربع سنوات قاطع طريق، مشردا.

بعد ذلك سافر إلى المدينة وترك مدينته الطيبة لأهلها ورحل. في المدينة لم يترك مهنة لم يعمل بها لكنه لم يوفق فيها جميعاً. وعن المرأة يستثيره منصور قائلا:"المرأة ليست سراً، الرجل هو الذي يحاول ان يجعلها كذلك، وكأنه يلتذ بلعبة القطة والفأر!"ص64.

فيرد عليه ألياس:"ان النساء والأشجار لهن طبيعة واحدة... ماذا تحتاج المرأة؟ المرأة تحتاج الى كلمات حلوة. صح إنني أعطيت كثيرا مما كنت أحمله في الخرج: مناديل مرايا وحناء، وبعض الأحيان سكرا وطحينا، ومع ذلك فان قلب المرأة لا تفتحه إلا الكلمات.. ومع الأيام أصبحت الكلمات كائنات عجيبة لها حياتها..؟ المرأة بدون خيال الرجل لا تعني شيئاً. ماذا تتصور ان تكون المرأة لو لم يوجد الرجل؟".

لغة الحكيم التي يتكلم بها ألياس، من أي جامعة او معهد تعلمها؟ أنها الحياة التي علمته كل دروسها فقد اغترف منها بكل ما يملك من حب للحياة. فأعطته ما أراد. وخلال ذلك السرد الذي يقوم به ألياس لتفاصيل حياته، يحاول منصور عبدالسلام أستاذ الجامعة المقال، المثقف الذي استثار أجهزة الأمن بتحركاته فباتت تراقبه في رواحه ومجيئه، ان يقارن بين حياته التي قضاها في الدراسة ثم سفره لإكمال دراسته في الخارج والعلاقات العاطفية التي كان يقيمها مع فتيات مررن به خلال حياته هذه في بلده وخارجه وعدم استطاعته، مع أكثرهن، مفاتحتهن بحبه. وقد تركنه ليتزوجن بآخرين، وبين حياة ألياس المشبعة بحب الحياة! لماذا يتناسى المثقف حياته الخاصة وينغمس في هموم بلده؟ انها ضريبة الوعي التي يدفعها..

"ألياس نخلة.. رجل في الخمسين تجاوز الخمسين.. ليس له عمر.. لم يوجد ابداً، موجود من الأزل، يتلاشى كالغبار، يقف بصلابة الصخرة العظيمة في فم النهر، يبتسم بحزن"ص159.

هل أراد المؤلف ان يرمز الى ألياس نخلة باعتباره الطبقة المسحوقة في المجتمع.. رغم كل معاناتها وكبواتها المستمرة غير أنها تنهض بعد كل سقطة لتعاود المحاولة متمسكة بالأمل وبحب الحياة.

وبالمقابل؛ منصور عبدالسلام الذي يرمز الى الفئة المثقفة الواعية التي تتسلح بالعلم والمعرفة، تجاوز الخامسة والثلاثين، غير متزوج، يحس بالإحباط والعجز عن تغيير واقع بلده. تعرف على الكثير من الفتيات اللائي احبهن، لكنهن جميعهن تركنه وتزوجن آخرين، ويبدو ان آثار إخفاقه في هذه العلاقات ما تزال تبدو في الحزن المرسوم على وجهه، يحب القراءة، فالكتاب بالنسبة له يعادل رجلاً.. كثير ما يتذكر:"حتى وقت قريب كنت أحتفظ بمكتبة صغيرة، كانت بعض الكتب تتمتع لدي بمزايا تفوق أي شيء في هذا الوجود"ص184.

و"في السجن ثلاثون سجيناً في غرفة لا تتسع لثلاثة، وكنا قد صنعنا من بقايا أكياس الخيش مروحة ربطناها بحبل، وكنا نتناوب الحراسة، كل ساعة حارس، من أجل ان نتنفس، ومن اجل ان نفسح مكاناً لإنسان ينام.. كان حارس الساعة يشد المروحة، ويقرأ او يفكر"ص185.

"لو تركت الأحلام وفكرت بهدوء رجل متزن، تجاوز الثلاثين وكان مدرساً للتاريخ.. لو أن هذا حصل، لما تعقدت الأمور الى هذه الدرجة، لو تركت الكتب لأصبحت نمطاً آخر من الرجال.. هذا النوع الذي يفهم الواقع، يعيش فيه، ويتعامل معه دون ان يكفر او يستسلم..."

"اللغة في الرواية تعد الركيزة الأولى والأهم لبنائها الفني، فاللغة تصف الشخصية أو تمكن الشخصية من وصف شيء ما. واللغة هي التي تحدد وتبني غيرها من عناصر الرواية كحيّزي الزمان والمكان. واللغة هي أيضاً التي تحدد وتبني الحدث الذي يجري في هذين الحيّزين"(2). وقد اتصفت اللغة التي استعملها منيف في روايته"الأشجار والاغتيال مرزوق"بنوعين من المستوى ففي الحوار اتصفت بالبساطة حتى تقربها في بعض الأحيان من اللغة المحلية كما في الحوارات الآتية:

"- حسب التيسير، ولكن المعدل بين ساعتين وثلاث ساعات!"ص17

"- شكرا؟؟ والحمد لله!"ص18

"- اشتري ملابس قديمة، وأبيعها في أول مدينة بعد الحدود

- وتربح من ذلك؟

- ربك ساترها!"ص22

"يجب ان لا تتركيه هكذا. اليوم شقاوة أولاد، لكن غدا عندما يكبر يصبح مجرما ويدخل السجن. الشوارع تربي الأولاد على الرذيلة والسرقة والقتل والمقتول!"ص180

"وقال الرجال: الخيالة قتلت واحدا.. قتلت اثنين.. قتلت ثلاثة. وبعد كل قتيل كان غضب الرجال يزداد ويزداد جنونهم، حتى اكتسح كل شيء!"ص190

"والله يا أستاذ منصور المال ليس مهما، المال يأتي ويروح، المهم الأخلاق والسمعة الحسنة، وانت ولله الحمد، منصور عبدالسلام على عيننا وراسنا"ص224.

اعتقد ان كتابة الحوار في الرواية بهذا الشكل البسيط هو محاولة من المؤلف لتوصيل الحوار الى القارئ بيسر وسهولة لإعطاء الصورة القريبة عن الشخوص الذين يتحدثون هذه اللغة. ومشكلة الحوار عند بعض الروائيين تكمن في أن البعض يحمل الحوار ثقلا اكبر مما يحتاجه.

بالمقابل نرى لغة الوصف في الرواية تختلف عن لغة الحوار من حيث فخامة التعابير، لرسم صور واضحة وعميقة من خلال هذه اللغة التي تصور لنا اللوحات التي اراد لها المؤلف ان تؤطر أحداث روايته:

"المدينة تبتعد، وتبتعد معها الأضواء التي بدت، أول الأمر، مثل نجوم سماء ومقلوبة، ثم أخذت تنتظم في أشرطة طويلة متداخلة، تهتز مع اهتزازات القطار الذي يصعد باتجاه الشمال.. عندما تزايدت سرعة القطار أصبحت حركاته رتيبة كأنها ضربات قلب حيوان خرافي"ص17.

"الليل في الخارج مثل خيمة سوداء قاتمة، القطار يلهث وهو يصعد التلال باتجاه الحدود."ص20.

".. كانت المدينة تنام تحت وطأة الغروب، تنام مثل جريح نزفت دماؤه طوال النهار، لم يبق إلا ان ينزلق ويموت"ص175.

".. ومنذ ذلك اليوم بدأت اقول.. واتوهم، وبدأت اركض في أحلامي، كنت اسقط الخيالة عن خيولهم، واضربهم حتى يموتوا، ولم اصرخ في وجه ذلك السمين القصير.. ولكن تمنيت لو أشدُّ لحيته!"ص191.

أهمية العنوان في الرواية

يعتبر العنوان أحد العناصر المهمة للرواية ومدخلا أساسياً في قراءة الرواية. وكثيرا ما يشير الى نص الرواية او لأهم احداثها. "ومن أهم الدراسات العربية التي انصبت على دراسة العنوان تعريفا وتأريخا وتحليلا وتصنيفا نذكر ما أنجزه الباحثون المغاربة الذين كانوا سباقين إلى تعريف القارئ العربي بكيفية الاشتغال على العنوان. الباحث المغربي إدريس الناقوري يقول"للعنوان وظيفة اشهارية وقانونية تتجاوز دلالاته الفنية والجمالية، تندرج في اطار العلاقة التبادلية الاقتصادية؛ وذلك لأن الكتاب لا يعدو كونه من الناحية الاقتصادية منتجا تجاريا يفترض فيه أن تكون له علاقة مميزة وبهذه العلامة بالضبط يحول العنوان، المنتج الأدبي أو الفني إلى سلعة قابلة للتداول"(3)

وهو المفتاح الذي يسهل او ينوه عن الأحداث وإيقاع نسقها الدرامي وتصاعدها السردي. ومدى أهميته في استخلاص البنية الدلالية للنص، وتحديد ثيمات الخطاب القصصي، وإضاءة لها.

والعنوان يجسد المدخل النظري الى عالم الرواية الذي يسميه: لكنه لا يخلق النص فالعلاقة بين الطرفين لا تكون مباشرة في جميع الأحيان؛ انطلاقا من كل هذا قد يكون بالإمكان تتبع عمل العنوان في النص والشروع في نمذجة تصنيفية للعناوين وفقا لعلاقتها بالشرح الروائي بالذات عن طريق الاختزال إلى الحد الأقصى.

إن العنوان الذي يلتصق به العمل الروائي قد يكون صورة كلية تحدد هوية الإبداع وثيمته العامة، وتجمع شذراته في بنية مقولاتية تعتمد الاستعارة أوالترميز.

لاعتبار العنوان الروائي بنية عامة قابلة للتحليل والتفسير والتقويم من خلال علاقته بعناصر النص الأساسية التي تتمثل في بناه وخطاباته، ومنظوره الفني في الشخوص والأحداث والفضاء الروائي. ولا تعبر العناوين الروائية دائماً عن مضامين نصوصها، بطريقة مباشرة او تعكسها بوضوح. فبعض العناوين غامضة ومبهمة ورمزية وضعيفة، لذلك اعتقد ان العنوان الذي اختاره مؤلف رواية"الاشجار واغتيال مرزوق"غير موفق! فمع ان"الأشجار" وهو الجزء الاول من العنوان، التي ترمز الى الحياة من خلال ما كانت تعنيه للشخصية الثانية في الرواية الياس، وإحساسه بعد خسارته لاشجاره، بضياعه واقتلاعه من جذوره التي تشكل قرية الطيبة رمزها، وهروبه الى الجبل والعيش فيه مقطوع الصلة بأهله (أمه وناس القرية) والسنوات السبع التي قضاها في الجبل هائماً يحمل سلاحه ويقتات على الحشائش وعلى صيد الحيوانات، هو رمز لفقدان هذا الشخص آدميته وتحوله الى كائن آخر، وحتى مهاجمته لبعض الناس والاعتداء عليهم, هو رمز لفقدانه مبررات عيشه مثل الآخرين، بعد ان فقد جذوره الآدمية بخسارة أشجاره، قد جاء متعلقا ومشيرا الى النص الروائي.

فنجد ان الجزء الثاني من العنوان" اغتيال مرزوق" ليس له من علاقة باحداث الرواية، ولا تجد لـ"مرزوق" علاقة بأحداث الرواية، ولا تجد له ذكر سوى في بعض صفحات "اليوميات" التي تسجل الأحداث التي مرت بها الشخصية الرئيسة منصور عبدالسلام، بعد هجرته من بلده بسبب ما كان يعانيه من اضطهاد ومحاربته من قبل أجهزة الأمن التي كانت تطارده. وبعد ان تقيله من عمله (أستاذ جامعي) بسبب آرائه التي تخالف السلطة، وتمنع عليه العمل في كل المجالات، وتصل به الحاجة الى تمني العمل صباغاً للأحذية. لذلك يضطر للهجرة من بلده والعمل مترجم في بعثة تنقيب عن الآثار.

لم يأت ذكر لمرزوق في كل أحداث الرواية، إلا في وريقات من "اليوميات".. وكأن الراوي قد استدرك في هذه اليوميات القليلة فذكره بشكل مكثف ليبرر وجوده:

"الجمعة 14 نيسان:

كآبة زجاجية حادة تسيطر عليّ الآن: كل شيء تافه وله رائحة كريهة. لم أنم الليلة الماضية لحظة واحدة قتلوا مرزوق. لا احد يدري كيف قتل. قالوا انه وجد مقتولاً والسلام!.

مرزوق الأسمر، الحصان، الضاحك.. مرزوق الانسان الذي ذرع ارض الوطن من الشمال الى الجنوب، من اجل ان يصبحوا حكاماً.. مرزوق الآن ميت. هل له قبر؟ هل دفنه أحد؟

مرزوق الآن بارد كالحجر. مرزوق غير موجود. كما قتلوه؟ لماذا لماذا؟ (ص301).

الثلاثاء 18 نيسان:

مرزوق ليس واحدا، مرزوق كل الناس. مرزوق شجرة. مرزوق ينبوع. مرزوق هو الياس نخلة الذي لا يموت"ص306.

الأربعاء 25 نيسان:

هل قتل مرزوق؟ ألا يحتمل ان تخطئ الجرائد؟ الا يحتمل ان يكون غيره الذي قتل؟ ولكن الجريدة التي أمامي تقول: "وجدت قرب محطة السكك، جثة رجل، تبين بعد الفحص ان القتيل يدعى مرزوق عبدالله مدرس للجغرافية، عمره ثلاث وثلاثون سنة وأمه هايله".

فليس من المقنع ان تكون لمرزوق هذه الأهمية في الرواية ولم يذكر عنه أي شيء او لم يذكره منصور عبد السلام وهو يتذكر ما مر به في حياته حتى حصوله على جواز السفر ومن ثم رحلته في القطار وفي الدرجة الثانية!

لكن تبقى الرواية تسجيلاً رائعا لما تعرضت له الشعوب العربية وقواها الوطنية من قبل حكامها من محاربة وقمع وتصفيات جسدية. وما حالة الشخصيتين الرئيستين في الرواية؛ الياس نخلة الذي يعيش في دوامة الخوف والحاجة والابتزاز من قبل رجال الكمارك وحرس الحدود، وما تنتهي اليه شخصية منصور عبد السلام من الإحباط والجنون إلا بسبب المعاناة التي عاشها في بلاده، ولم يعرف الراحة حتى في البلد الذي هاجر إليه ليجد له عملا فيه!

***

يوسف علوان

................

1- محمد البغدادي / لغة السرد في الرواية الجديدة/ موقع مجلة الخليج/ انترنيت.

2- إدريس الناقوري: لعبة النسيان- دراسة تحليلية نقدية-، الدار العالمية للكتاب، الدار البيضاء، ط1، 1995.

رصدت روايات إسماعيل فهد إسماعيل الكثير من الهموم والأزمات التي مرت بها مجتمعاتنا العربية، ومثل اغلب كتّاب الرواية العرب، حاول ان يتكلم عن هذه الأزمات من خلال تصويرها في رواياته! واستطاع من خلال هذا الرصد، واساليب السرد المتعددة والملائمة، لكل واحدة من هذه الهموم، ان يترك بصمته الواضحة على ساحة القصة والرواية العربية.

وقد أولى هذه الهموم، -التي خلقتها الانظمة الاستبدادية العربية واكتوى بها المواطن لاعوام طوال- أهمية كبيرة، وعلى رأس هذه القضايا قضية الحريات، ومنها حرية المواطنة وحرية الرأي التي عانت منها اغلب الشعوب العربية، وكذلك تحسين مستوى حياتها المعيشية والتعليم واستثمار الخيرات الكثيرة التي تمتلكها هذه البلدان، لبناء حياة كريمة تليق بالانسان، اسوةً بشعوب بلدان العالم الأخرى. ولا نبالغ اذ نقول؛ ان هذه الانظمة، في اكثر الاحيان تكون سببا في استمرار وتفاقم هذه الازمات!

في رواية اسماعيل فهد اسماعيل" في ظل العنقاء والخلّ الوفي "طرحت مشكلة الـ "بدون" في الكويت – البدون في اكثر من دولة خليجية وليست حصرا على الكويت - وقد حرم الكثيرون من هؤلاء المواطنين الذين يسمون (الوافدين) حق المواطنة؛ (الجنسية) والهوية المدنية، مما يفوت عليهم فرص الحصول على متطلبات الحياة الأساسية، التي يتمتع بها الكويتيون، كالحق في الالتحاق بالمدارس الحكومية المجانية، والرعاية الصحية المجانية، وحق العمل بالقطاع الحكومي والملكية العقارية، إضافة لتوثيق عقود الزواج والطلاق، والحق في التنقل بين البلدان بجواز السفر. وهذا التمايز يشمل حتى الذين ولدوا في الكويت، ولم يعرفوا وطناً غيره!

ومن خلال عنوان الرواية" في حضرة العنقاء والخل الوفي "الذي يشير الى استحالة الحصول على هذا الحق (الجنسية الكويتية) الذي رمز له بالعنقاء، معتبرا اياه: من المستحيلات، اذ كان العرب يعدون هذه المستحيلات ثلاثا: "الغول والعنقاء والخلّ الوفي" والعنقاء هو: طَائِرٌ وَهْمِيٌّ لاَ وُجُودَ لَهُ إِلاَّ فِي تَصَوُّرِ الإِنْسَانِ وَخَيَالِهِ. وقد وصفه العرب في حكاياتهم انه طائر عظيم يبعد في طيرانه، ويُضرَب به المثل في طلب المُحال الذي لا يُنال. وكانوا عندما يبالغون في وصف شيء بالمستحيل يقولون أنه (من رابع المستحيلات). ويتكلم (منسي) الذي لقبه زملاؤه في المسرح بـ"ابن ابيه" كناية لعدم حصوله على الجنسية الكويتية برغم ولادته في الكويت، عن سعي والدته منذ سنوات طفولته في الحصول على الجنسية، وامتلاكهم ملفاً في الدوائر المختصة، لطلب هذه الجنسية التي اصبحت بالنسبة له ولوالدته "العنقاء" التي بات الوصول اليها مستحيلا، كذلك رؤية ابنته التي حرم منها، منذ ان رحلت زوجته، قبل ان تلدها، مع اخوها (سعود) الى سوريا لكي تحتفظ بها لوحدها. والزوجة عهود هي المستحيل الثاني (الخل الوفي) الذي يصعب الحصول عليه في هذه الايام فقد انقلبت عليه، بعد احتلال العراق للكويت عام 1990، واختلفت علاقتها به لكونه من الذين لا يحملون الجنسية الكويتية (البدون). وقد اعتبرت كل المقيمين في الكويت مساهمين في احتلال بلدها! لذلك حرمته من رؤية ابنته، رغم ان الكثيرين من المقاومين لجيش الاحتلال هم من فئة البدون، وقد قاتل الكثيرين منهم واستشهدوا، وتعرض البعض الآخر منهم للتعذيب في سجون النظام الصدامي في الكويت قبل تحريرها! وقد اتفقت مع شقيقها (سعود) -المتدين الجشع الذي استولى على جميع املاك العائلة، وتحول الى واحد من اصحاب المشاريع السياحية- لاجبار منسي على تطليقها. وسعود هو السبب في القاء القبض على منسي من قبل اجهزة المحتل، بسبب وشايته لهذه الأجهزة عن منسي، بدعوى اتهامه بالعمل مع المقاومين الكويتيين للاحتلال. وقد أجبرته هذه الأجهزة على التطوع في قوات (الجيش الشعبي) مقابل التغاضي عن هذه التهمة. وبعد التحرير اعاد سعود التلفيق على منسي مرة ثانية بانه من الذين ساعدوا قوات الاحتلال! مع العلم ان الكثيرين من المقاومين الكويتيين شهدوا له بالعمل في صفوف المقاومة. كل ذلك من اجل ان يجبر منسي على الموافقة لتطليق شقيقته عهود! ليتسنى له الاستحواذ على حصتها في الأرث، بالرغم من ان عهود تعرف نوايا شقيقها سعود في اجبارها التنازل عن حصتها من الورث، مثلما فعل لاختها جود؛ "لا يستطيع الكتابة عن الآلام بالشكل المقنع إلا من كان الألم في نفسه"- ص237!

هذه هي موضوعة الرواية التي تناولها الكاتب الكبير اسماعيل فهد اسماعيل الذي عرف من خلال رواياته التي تزيد على 20 عملاً روائياً، كاتباً مبدعاً كانت له الريادة في نزعة التجديد في تقنيات السرد العربي منذ روايته الاولى «كانت السماء زرقاء" التي اعتبرت رواية رائدة بنزعتها التجريبية وابتكاراتها الفنية، وقد اختلفت اساليب كتابته لهذه الروايات كلٌ بما يلائمها، ففي هذه الرواية التي جاءت على شكل رسائل او رسالة لابنته التي لم يرها ابداً، لتوضيح الصورة التي يجوز ان يشوهها البعض عنه، هو الذي لم يعرف وطناً غير الكويت لكن اقرب الناس له ينظرون اليه على انه غريب! "يا زينب، منذ عام 1996م، كنتِ وقتها في خامستكِ، وأنا أجاهدني بالكتابة إليكِ، أشرعُ أسوّدُ عشرات الصفحات ثمّ انقلب عليّ جرّاء يقيني إنّي في غفلة مني أكتب بانفعال غير مبرر، أصرفني عن الكتابة سنة أو أكثر، ريثما يعود توقي للتواصل بكِ" ص9.

بداية الرسالة تنمُ عن تعلق بأمل معدوم، لكن من خلال هذه الرسالة يحاول منسي ان يوضح الأمور لابنته، لتتعرف على شخصية ابيها الحقيقية، التي يتوقع ان يكون قد شوهها البعض؛ خالها سعود الذي لا هم له سوى الاستيلاء على اموال العائلة. وأمها عهود التي هربت بها الى خارج الكويت بعد تحريرها، وحرمته من رؤيتها، بسبب ضيق نظرتها وتعصبها ضد الآخرين؛ غير الكويتيين، ومنهم زوجها منسي! وهذه الرسائل، ليس الغرض منها التوضيح المهم بالنسبة له فقط! ولكن هذه الرسائل هي حياته التي لا يريد ان ينساها: "أدريك يا زينب غير معنية بقراءة تفاصيل لا تمت لكِ او لزمنكِ بصلة بينة، لكنها تفاصيلي تعيد لزمني ذاك دفئاً يحفزني أواصل"(ص14). الرواية كتبت بلغة سلسة وبسيطة، وباسلوب واضح، كأنه كتب الرواية لابنته زينب لذلك جاءت الاحداث متتابعة بصورة واضحة، عكس ما عرف عن هذا الكاتب الذي سمي بالمشاكس في كتاباته، فأغلب رواياته يتطلب قراءتها من القارئ قدرا كبيراً من الجهد، للاستمتاع والتلذذ بها، والاحاطة بجوانب صورها المليئة بزخرف الابهار التي يجيدها الكاتب. وانا مع رأي الاستاذة الكاتبة والشاعرة الكبيرة سعدية مفرّح في المقدمة التي أستُهلتْ بها الرواية والتي تقول فيها: "الرواية صعبة ليس على صعيد الكتابة وحدها بل على صعيد القراءة، وأتوقع من المتلقي أن يجتهد كثيرا في سبيل استخلاص المتع الراسبة بين نهايات الفصول حتماً"(ص 6)، مع ان اسلوب هذه الرواية جاء بسيطاً وهي قريبة للغة رواية السيرة، فالحدث من خلال الرسائل التي يكتبها منسي لابنته جاءت متسلسلة وبسيطة وليس فيها من اساليبه السردية التي وجدناها في رواياته الأُخريات. ومع هذه البساطة التي ذكرناها فلا ننسى ان عنوان الرواية" في حضرة العنقاء والخل الوفي" قد حمل سخرية مؤلمة من الواقع الذي عاشته الشخصية الرئيسة في الرواية (منسي)! واوضحت لنا أحداث الرواية. واكيد ان اختيار هذا العنوان لم يكن اعتباطاً وانما اشارة واضحة اراد بها هذا الكاتب الكبير ان يؤكد ان خيبة منسي في الحصول على الجنسية وفي استرداد ابنته زينب ستستمر وقد اكد استمراريتها في (فصل أخير) للرواية الذي لم يضم سوى سطرين: "ورد في سفر الأحوال، إذا بلغ الكلام منتهاه حان أوان ما يسمى القول الفصل، هذا الفصل لا حول ولا قول له، زينب"(387)، فهذه الرسائل التي كتبها لابنته (زينب) مجرد شكوى هو أعلم بعدم جدواها، لأن الذي يشكو له منسي هو مثل حاله "بدون" لا حول ولا قوة لها!

***

قراءة: يوسف علوان

قراءة في القصة "رجل ينقصه الطمع" للمبدعة سلوى الإدريسي.

العنوان طريف للغاية "رجل ينقصه الطمع". طرافته تتجلى وكأن الكاتبة تعتبر آفة "الطمع" صفة مستشارة في مجتمعاتنا، وقليل من الناس من يقدر على مقاومتها في حياته اليومية. وبذلك، فكل من ينجح في النيل من هذه الظاهرة في سلوكه يعتبر حسب عمق كلمات العنوان حالة ذات خصوصية في أوطاننا العربية الإسلامية. كلمة "رجل" جاءت نكرة، والجملة في قراءتها تغوي للنطق بها بعلامة تعجب.

القصة جذابة بمنطق توالي الأحداث ولغتها الجميلة. السارد، المتسول والمتشرد في نفس الآن، يصف أوضاع الشارع العام نهارا وليلا. أثار إشكالية غزو الغرابة لحياة الإنسان في المدينة. فبالرغم من نور النهار، فهو لا يميز بين المارة رجالا ونساء. إنه يصف لنا تحولات عميقة في سلوك الناس اليومي. إنه زمن التيه والسرعة والبحث عن الترفيه المبالغ فيه ولو في الأحلام بالنسبة للمحرومين. المشاغل وهموم الحياة تبتلع ساعات أهالي المدن. يتحركون في الشارع العام لا أحد يرى وجه الآخر. الكومة السوداء ترمز لضبابية المآل والملاذ. حتى من يفكر في التعاضد وإعانة المتسولين والمشردين ماديا لا يسمح لنفسه حتى بانحناءة إنسانية لتلطيف وتدفئة نفسية المحتاجين وجبر خاطرهم والتهوين عن معاناتهم. لقد لعبت شخصية ثانوية وهامة في القصة دور هذا النموذج من الناس لإبراز استفحال مثل هذا السلوك الفتاك المنافي للمرجعيات الإنسانية المعتادة. إنه لا ينحني، يرمي النقود من علوه الشامخ، ويمضي بدوره إلى الكومة السوداء. الحياة تزداد صخابة للأقليات، وتزداد في نفس الآن صعوبة بالنسبة للعامة.

السارد المتسول، رفع شعار هزمه للطمع، لكنه مدمن طمع أكثر نبذا. قسا عليه الزمن وتنكر له القدر. يهرول كل يوم للوصول إلى عتبة منزل لا يهدأ من الصخب. متعته مرتبطة بالوصول إلى المنزل المعلوم، فيستسلم للتسلية بقهقهات أهله وشجاراتهم في منتصف الليل، بحيث تعمه النشوة الكبرى وهو يستحضر في ليله جاذبية امرأة السيد صاحب المنزل. إنه سحر المرأة الذي يستفز مكبوتاته وحرمانه كل يوم. اختيار ذلك المنزل لم يكن محط صدفة بل ارتبط بالصحب ووجود المرأة رمز زينة الحياة. يغلب عليه النوم بسرعة ليدخل عالمه اللاشعوري عبر الأحلام الحلوة. يضع رأسه فوق حياة تلك الأسرة ويغمض عينيه، يدخل منزلها في أحلامه، يركل الباب بقدميه معبرا عن كرامة وجوده المفقودة، ولا يبحث إلا عن زوجة السيد فيقبلها بعنف، ويلقيها على الأريكة... المرأة تصمت وكأنها تتذوق عالما جديدا ينسيها آلام التكرار والروتين، يدخل بعد ذلك المطبخ أمام أعينها وهي دائما صامتة، يلتهم ما تبقى من طعام العشاء. عشقه للمرأة جعله يفكر في أبنائها متعطشا للعب دور الراعي كباقي الخلق. إنه يحلم بأسرة خاصة به تقيه من طمع غزو الحيوات المقدسة للناس. يعود لزوجة السيد التي لازالت ملقاة فوق الأريكة، فيطلب منها أن تسمعه تلك التنهيدة التي لا يتملكما في واقع حياته اليومية....

هو لا يطمع إلا في الوصول إلى عتبة المنزل خائفا من فقدها في هذا الليل المتناثر في كل مكان، ثم الاستسلام لأحلامه اللذيذة ... حياته تختزل كل يوم في التسول وجمع عدد من القطع النقدية الذي يضمن له مواجهة براثن الجوع، ليستعد للدخول في مغامرة أحلام العتبة داخل كيسه البلاستيكي، الأول حلم في عقر منزل السيد منتهكا حرمته، والثاني وسط البحر داخل قارب صغير يتقاسم العواطف ولذة الوجود مع نفس المرأة... محاولته للاقتراب منها لا تكتمل. ينقطع الحلم بركلة يصوبها الزوج في وسط بطنه بحذائه الأسود اللامع، ناهرا إياه ومحذرا له بعدم العودة إلى عتبة بابه.

***

الحسين بوخرطة

.......................

قصة قصيرة: رجل ينقصه الطمع

كانت ليلة باردة جدا، دخان كثيف يملأ الشارع، لا أحد يرى وجه الآخر ..معاطف طويلة وأحذية سوداء بعضها رجالية وأخرى نسائية .. يمرون على طول الشارع إلى أن يختفوا داخل كومة سوداء لا أدري إلى أين توصل ..

يقترب مني أحدهم، يلقي داخل الصحن القصديري قطعة معدنية، أراقبها وهي تتأرجح، يتناغم صوتها مع صوت الأحذية التي تطرق الأرض كالأحصنة، لا أرى وجه ذاك الرجل أيضا، إنه لا ينحني، يرمي النقود من علوه الشامخ، ويمضي إلى الكومة السوداء. لقد جمعت ما يكفي لليوم فأنا لست رجلا طماعا على أية حال. دخلت داخل الكيس البلاستيكي، لأحتمي من هطول مطر مفاجئ، وضعت رأسي فوق عتبة منزل لا يهدأ من الصخب، تسليني قهقهاتهم، شجاراتهم بعد منتصف الليل، أصوات الصحون وهم يضعون طعام العشاء فوق الطاولة. أضع رأسي فوق حياتهم وأغمض عيني، أدخل منزلهم في أحلامي، أركل الباب بقدمي، أبحث عن زوجة السيد أقبلها بعنف، ألقيها على الأريكة التي لا أعلم مكانها بالضبط، أدخل المطبخ، ألتهم ما تبقى من طعام العشاء، أطل على غرفة الصغار، أضع الغطاء على الولد المشاغب، أقبله كأني والده، ثم أعود لزوجة السيد التي لازالت ملقاة فوق الأريكة، أطلب منها أن تسمعني تلك التنهيدة، ثم أغادر المنزل، فأنا لست رجلا طماعا...

تبدأ زخات المطر بالتراقص فوق الكيس البلاستيكي، أشعر ببعض القشعريرة، يطفئ السيد أضواء المنزل ويتركني أتحسس العتبة، خوفا من فقدها في هذا الليل المتناثر في كل مكان ..يغرق الحي بالمياه ويبدأ حلم جديد، أنا وزوجة السيد داخل قارب صغير وسط البحر، تتلاطمنا الأمواج.. أحاول الإقتراب منها، فيظهر زوجها فجأة، يركلني في وسط بطني بحذائه الأسود اللامع، وهو يقول: إنهض أيها الحقير من عتبة بابي، سأبلغ عنك الشرطة.

***

سلوى الإدريسي /المغرب

تدور أحداث رواية" الظمأ للحب"، في مزرعة فنلندية قريبة من الغابة، وتجسّد أحداثها قصة حب فريدة من نوعها، تدور بين غريب يفد إلى المزرعة للعمل فيها، وبين زوجة شابة عافت الحياة الزوجية مع زوج سكّير خامل، قضى سابقًا عامين في مصحّة عقلية، وفقد أو كاد أن يفقد جانبًا هامًا من حسّه الانساني في التعامل مع زوجته المُرهفة التي سامحته على زلّاته معها المرة تلو المرة، دون أن يتغيّر شيء فيه.. كما أرادت وتوقعت.

قبل أن أعرّف الاخوة القراء بهذه الرواية الفريدة، أود أن أعرّفهم بكاتبها.. صاحب هذه الرواية هو الكاتب الفنلندي ميكا والتاري (Mika Waltari؛ هلسنكي، 19 سبتمبر/ ايلول 1908 – هلسنكي، 26 أغسطس/ آب 1979)، (تمّ وصفه على غلاف الرواية بأنه عميد الادب الفنلندي)، وقد تعرّفت على جانب من أعماله الروائية في الثمانينيات، بعد أن قرأت روايته المشهورة "سنوحي" أو" المصري"- 1945-، وبعدها روايته القصيرة الفاتنة "شجرة الاحلام"-1961-. ابتدأ والتاري الكتابة وهو لمّا يزل على مقاعد الدراسة، وصدر له عندما كان في الثامنة عشرة من عمره، مجموعة قصصية لفتت إليه الانظار. اشتهر والتاري خلال العقدين الاولين من حياته الادبية في بلاده، وقيّمه النقّاد والقرّاء تقييمًا عاليًا، إلا أنه لم يُعرف على مستوى عالمي إلا بعد أن قامت هوليوود بإنتاج فيلم عن قصته" سنوحي"، فالتفت إليه العالم، وبات شخصية أدبية هامة، يَنظر إليه محبّو الادب الروائي في مختلف أصقاع العالم، باحترام وتقدير عاليين لأدبه الروائي، ويُذكّر هذا بالكاتب السوري المبدع حنّا مينة، فهو لم يُعرف على نطاق واسع إلا بعد أن تمّ تحويل روايته الرائدة" نهاية رجل شجاع"، إلى مسلسل تلفزيوني تمّ بثه في بداية الالفية الجارية عبر أكثر من قناة تلفزية وشاهده الملايين.

تَرجم رواية "الظمأ للحب" -1947-، الكاتب المصري محمد بدر الدين خليل، المعروف بترجماته الوفيرة من الانجليزية إلى العربية، وصدرت الرواية ضمن سلسلة أدبية اشتهرت منذ الخمسينيات، حتى هذه الايام، هي سلسلة " مطبوعات كتابي"، التي بادر لإصدارها الكاتب العربي المصري حلمي مراد، فقد شاهدت واقتنيت عددًا كبيرًا من إصداراتها بعد إعادة طباعتها، وأنوّه أن هذه السلسلة الهامّة قدمت خدمات جُلّى لأدبنا العربي الحديث بتقديمها عيونًا مختارة من الآداب الاجنبية المترجمة، وأغنت المكتبة العربية، علمًا أنها سلسلة شعبية جدًا.

صدرت رواية الظمأ للحب أول مرة بلغتها الفنلندية، تحت عنوان هو " غريب في المزرعة"، إلا أن مؤلّفها ما لبث أن أصدرها في طبعة تالية تحت العنوان، الذي تُرجمت به إلى اللغة العربية، أو تحت عنوان قريب منه.

يُمكننا تلخيص أحداث الرواية بأسطر قليلة، كما أوردنا في مفتتح حديثنا هذا، مع إضافة طفيفة، تتمثّل في أن بطلة الرواية، التي تبقى حتى نهايتها بدون اسم، تُضحي بالكثير من أجل راحة زوجها، إلا أنه لا يُقدّر هذه التضحية، ابتداءً من شِرائها المزرعة لاعتقادها أنه توفّر له جوًّا ملائمًا لصحته المعتلّة، انتهاءً بتحمّلها فظاظته في معاملته لها، مرورًا بمحاولاته المتكررة لمباضعتها دونًا عن إرادتها ورغمًا عنها. العلاقة بينها وبين الغريب ويُدعى التونين، تتطور رويدًا رويدًا، وتساعد الظروف في توفير المناخ المناسب لازدهار هذا الحب، وذلك بعد أن يقوم الزوج، ويُدعى الفريد، بسرقة مال ادخرته، وتوجّه إلى إحدى الحانات البعيدة عن المزرعة، فيتوجّه التونين برفقة هيرمان- الشخصية الذكورية الثالثة في الرواية- ويعيدانه، بعد أن ينهالا عليه بالضرب، إلى المزرعة، وفي المساء يحاول الفريد اغتصاب زوجته رغمًا عنها، فيهبّ الغريب لنجدتها ويضع بذلك حدًّا لانتهاكه حرمتها. وهنا توفّر الظروف إمكانية أخرى لنموّ قصة الحب بين الغريب العامل في المزرعة وبين صاحبتها المتزوّجة. في المقابل لهذه القصة الغرامية، يَعثر الزوج/ الفريد، خلال عمله في الارض على بندقية روسية قد يكون أحد الجنود الروس دفنها هناك على أمل أن يعود لأخذها، فيخبئها احتياطًا لحاجةٍ دنا وقتُها. في النهاية يلحق الزوج عشيق زوجته إلى أعماق الغابة حيث يعمل العامل الغريب/ التونين بتقطيع الحطب، ويُطلق عليه النار. الزوجة تستمع إلى إطلاق النار هذا، فتهرع إلى حيث استمعت إليه، وهناك ترفع البلطة التي كان زوجها/ الفريد يقطّع بها الاحطاب، وتنهال بها على رأسه.

بهذا الحدث الفظيع تنتهي الرواية.

أحداث الرواية كما تتبدّى لقارئها، لي على الاقل، عادية جدًا ومن المألوف أن يقع مثلها في أي مكان من العالم، فنقرأ عنه خبرًا في صحيفة وينتهي الامر، إلا أن صاحب الرواية ميكا والتاري، تمكّن بقدرته الفائقة على السرد، أن يصنع منه رواية عظيمة، وللحقيقة هو لم يختلف في إبداعه هذا عن معظم مَن قرأنا لهم روايات من مختلف انحاء العالم، فمعظم هذه الروايات ما هي إلا قصص عاديّة، تمكّنت المُخيّلة المبدعة مِن بعث الحياة فيها لتتحول بالتالي إلى رواية أدبية من طراز رفيع وتُضاهي ما نعايشه، كلّ على حدة، مِن أحداث.. نرى أنها الاهم في العالم.

رغبة في تقريب الاخوة القرّاء من أجواء هذه الرواية أقدّم فقرة أو أكثر منها، يصف الكاتب والتاري النوبات الشهوانية الحيوانية التي كانت تنتاب الزوج/ الفريد على النحو التالي:" وكان يحبو على أربع ليضرع إلى زوجه ويتوسّل.. وقد أحس بوقدة تسري في كلّ جسمه: كل شريان تحوّل إلى أتون ملتهب.. وكلّ عصب في كيانه كان يرتعش شهوة!.. وما لبثت الابتسامة العريضة، التي كانت شفتاه الغليظتان تنفرجان عنها، أن تحولت إلى السباب.. وكانت الكلمات البذيئة تنساب من فمه، وقد تجلّت على أسارير وجهه مظاهر العته.. كانت شهوته هي جحيمه! وما أفظع جحيم الشهوة التي كانت تستعر في جوانحه- دون أن تجد إطفاء- فتلفح ريحها كلّ مَن يقترب منه..!". أما الزوجة فانه يصفها بقوله:" على أن المرأة شعرت- في ساعة الاسى المرير- أن في حياتها شيئًا واحدًا يخلق بها أن تحمد السماء عليه.. ذلك هو أنها لم تُرزق بولد.. من أجل هذا، على الاقل، كانت تكبح شهوة زوجها، حتى لا تضطر قطّ، إلى أن تعاني فظاعة وبشاعة أن تحمل في أحشائها حياة نفثها ذلك البدين الرخو، الناضح بالخمر.. وأن تشهد الطفل ينمو ويكبر فترى في عينيه تلك النظرة المعتوهة التي تلمع في عيني زوجها، وتلمس في ملامحه ما في ملامح ذلك الرجل من ضعف النفس، ومن الغش والخداع، ومن الشهوة البدينة.. وأصبحت تكره نفسها وجسدها، لأنها كانت مضطرة للخضوع لهذا الرجل..".

الظمأ للحب رواية رائعة.. أقترح عليكم قراءتها.. وهي تذكّر بالرواية الفاتنة "عشيق الليدي تشاترلي"، للكاتب الانجليزي ذائع الصيت دي. اتش، لورنس.

***

ناجي تظاهر

يُقصد بتعالق شيء ما، محدّد - معيّن، أن يُمسك بشيء آخر، مثْله، وأن يُمسك به هذا الشيء الآخر، في المقابل، ممّا يعني، حتماً، أنّهما متّسقان تناسباً أو تناسقاً لأوّلهما بثانيهما. إذاً: كِلاهما جزءٌ من كُلٍّ، هنا، حيث هذا الكُلّ، الآن، ذو عدّة أجزاء، ثلاثة فأكثر، يجب عليها، حتى لو بأدنى ضرورة؟!، أن تكون ذات بناء تعالقيٍّ دالٍّ على تماسكها المتمالِك الثابت. هذا البناء التعالقي، الذي يغدو بهذه الكينونة كُلّاً لكُلٍّ، يُفترض أنّ له كياناً جليّاً في أيِّ نص روائي ذي عنوان فإهداء <كذلك: تصدير أو تمهيد، وأمثالهما> ثمّ متن، تماماً، مثلما هو في (المواطنة 247)* لـ"بشرى الهلالي".

فالعنوان: كلمات على رأس النص تشير لمحتواه الكلي، بحسب /لوي هويك/، حيث "المواطنة 247" في سجلّ الأمن لدى منظومة الدولة، أيْ نظامها، موجودة داخل المتن عبْر "العميل (س)" مُذِ (انتقل الى ملاحظاته حول المواطنة (247)، "..." التي يعرفها حقّ المعرفة ص58) بعدما (أغلقَ القدر ملف آمنة قبل عشرين عاماً ليعودَ ويفتحه من جديد بعد أن صارتْ آمنة المواطنة (247). ص68) والآن (ها هي يده التي ساهمتْ في تأسيس الشبكة توصلُه الى آمنة، المواطنة (247)، ص75).

هنا "العميل (س)"، الذي تعالقَ به المتن مع العنوان، سيُدرك (أن تحملَ رأسك فوق كتفيك هذا لا يعني أبداً أنّك تمتلكُه. ص75)، حدّ التأكّد، وهذا الإدراك هو التصدير، لكنْ هكذا: (أن تحملَ رأسك فوق كتفيك.. هذا لا يعني بأنّك تمتلكُه ص5)، حيث أنه: ذو وظيفة تلخيصية، بحسب "فيليب لان"، لذلك، بتعالق: عنوان ـ تصدير ـ متن، تراتبيّاً، يتوالى سردٌ عن ذوي رؤوس على أكتاف: (تَملمَلت الأم في جلستها.. تلمّستْ رقبتها، موضع الرأس، ص6)، (اعترضت الفتاة الصغرى "...": ـ "..." أنتظرُ خروج العصفور لأعرف ان الساعة حانت لاسترداد رؤوسنا ص7)، (استجمع الأب كلّ قواه الجسدية، ضغطَ على رقبته "...": ـ "..."، رأسي خاضع لل..لل..برمجة. ص9)، (ها هو طفلها ذو الأحد عشر عاما، يعود "..."، وفمه يفرقعُ بمضغات التفاحة، "..."، كيف يمكنه أن يشعرَ بالجوع إن كان بلا رأس؟ ص16)، (لا يعنيني ان صادروا رؤوسنا، فما حاجتي الى رأس لا أعرف كيفية استخدامه، فأنا لم أفلح في دراستي، بالكاد أكملتُ الصف الأول المتوسط، ص18).

بهؤلاء "الخمسة"، هنا، يتعالق الاستهلال مع: العنوان ـ التصدير، الآن، حيث وظيفته المركزية: ضمان القراءة الجيدة للنص، بحسب "جيرار جينيت"، إذ يجمعهم ضمن أولى فقرات المتن: (تسمّرتْ أجسادهم الخمسة باتجاه الساعة العتيقة المثبتة على الحائط.. كتلٌ من اللحم والعظم، تكدّستْ أربعة منها على أريكة، الأب والأم والصبي ذو الأحد عشر عاما والفتاة ذات السبعة أعوام، بينما تكوّرتْ الصبية ذات الأربعة عشر عاماً في كرسي منفصل. ص6).

إنّهم أفراد خمسة لعائلة واحدة، إذاً، خلال تسعينيات القرن الماضي، ثم بُعيد 9 / 4 / 2003، أبرزُهم "الأم"، لا "الأب"، لأنها ماضياً "آمنة" حبيبة "سلام"، ذي القبلة المشؤومة: (لم يعد يفصل بيننا سوى هسهسة أنفاسنا التي تجري في جسدين منفصلين اتّحدا بقبلة، "..."، فتحتُ عينيّ لأرى قامة بدتْ لي شاهقة "..." ـ "..."، هيا معي الى مركز الشرطة ص36)، وهي حاضراً "المواطنة (247)" قبالة "العميل (س)"، المراقب لبرمجة الرؤوس: (صار محور تركيزه هو حمايتها من عيون المتلصّصين. ص75)، أيْ تعالَق بهما الزمنان المتنائيان: الماضي ـ الحاضر.

هذا التعالق الزمني، بوصفه جزءاً من البناء التعالقي، له مثيل عبْر <"آمنة جابر" = "المواطنة 247"> ذاتها: إذ أن ماضي "الأم" ـ بسنّ الـ17 ـ مع "ابن الجيران" مُذ (قذف بورقة مطوية، عثرتْ عليها "..." حين كانتْ تنشر الملابس، ص52)، ثم راح (يرسل لها الأشعار، يدسُّ لها الرسائل في كتاب مدرسيّ، يغني لها عبر الهاتف، ص54)، سوف يكرّره حاضر ابنتها ـ بسنّ الـ13 ـ مع "ابن الجيران" أيضاً: (رمى لي وردة حين كنتُ أراجعُ دروسي قبل سنة. ص20)، حتى: (فاجأتني أمي "..."، اثناء نزولي السلّم متسلّلة بعد رحلة عاطفية نظّمتُها للاحتفال بعيد ميلادي مع حبيبي ص19)، لذلك تواجه الابنة أُمّها: (أحببته من خلالكِ "...".. بذاكرتك التي كانتْ تعرفُ الحب، على سطح الدار ص20)، مضيفةً: (حين كنتِ في مثل سنّي ص.ن)، وحين تطلب "الأم" من "الأب" إيقافها عند حدّها، بعدما (تجد ابنتها في أحضان شاب وفي سطح دارهم، ص54)، يواجهها مستهجناً: (ألم تفعلي شيئا مماثلا في سنّها؟ ص.ن).

كِلا التعالقين الزمنيين هذين تمثيلٌ غيْر حصريٍّ عن تداخلات جليّة للماضي بالحاضر، متشارِكة لا متقاسِمة، يُمتّن ترابطها مع تماسكها ساردٌ خارجيّ، إطاريّ، بأنْ يستدعي لأيِّ واحد منها سارداً داخليّاً، صوريّاً، أنّى ارتآه ضرورةً:

ففي المقطع {3}، بعد سرده المقطعين السابقين عن الأفراد الخمسة للعائلة الواحدة، يستدعي "الأم" منذ استهلاله: (أما أنا، فلا أشبه غيري من النساء. ص14)، حتى: (تمنّيت أحيانا لو أني ولدتُ برأس بلا زوايا ولا أفكار، "..."، "...". ص16)، ثم يتولّى السرد عنها عقِب فصلة ثلاثية (***): (لم يتبقّ سوى ساعتين على انتهاء القطع ليعود رأسها، ص.ن).

وفي المقطع {4}، بعده، يستدعي "الصبية ذات الأربعة عشر عاماً" منذ استهلاله أيضاً: (أما أنا فلا تعنيني البرمجة، ص18)، حيث "أمّا" لافتتاح الكلام، أيْ في "أما أنا فلا" دلالة على تشبّهها بأُمّها، التي قالت قبْلها "أما أنا، فلا"، لهذا يستدعي "الأم" للسرد بعدها عقِب فصلة ثلاثية (***) كذلك: (مدهش أن يكبرَ الأبناء دون أن نلاحظ ذلك، ربّما نلاحظ! ص22).

أيضاً يستدعيها في المقطع {5} منذ استهلاله: ("..." اسمي كان.. وما يزال.. حسبما أتذكر.. آمنة، ص24)، مؤكِّدا أهمّيتها، ثم يستعيد السرد منها، عقِب فصلة ثلاثية (***) أخرى، إنّما عنها: (ما زالت تتكوّم على السلّمة الأولى حيث تركتْها ابنتها الكبرى ص25).

أخيراً يتذكّر "الأب" في المقطع {6}، بعد خمسة مقاطع كاملة!، فيستدعيه منذ استهلاله: (فعلوا خيراً حين صادروا رؤوسنا، وحجبوا الذاكرة.. فرأسي يكاد ينفجر حين يعود الى مكانه. ص30)، تماماً، لكنه يستردّ السرد منه سريعاً، حتى بدون فصلة ثلاثية (***)، حين تنتابه قرقرة (وعندما.. عندما.. عن..د..ما.. ص31)، أيْ حُجبت عنه ذاكرته، إذ (قرقرَ وهو يرفع يده الى مكان الرأس ليتأكد من وجوده.. ص.ن).

فهو يركّز على "الأم"، لا "الأب"، لذا يستدعيها مرة رابعة منذ استهلال المقطع {7} (أول قبلة، هل سأنالها حقّاً؟ ص34) مفصّلةً بتسع صفحات حدث القُبلة المشؤومة لأنه محوريٌّ.

ثم يستدعي "الفتاة ذات السبعة أعوام" منذ استهلال المقطع {8}: (بسببه كرهتُ البرتقال، ص47)، تقصد أباها صاحِب تسميتها بـ"البرتقالة"، لكنْ لصفحة واحدة وبضعة أسطر، فقط، لأنها مجرّد بنت صغرى لا أهمّية ملحوظة لها.

بعكسها "الصبية ذات الأربعة عشر عاماً"، أيِ البنت الكبرى، فلَها الأهمية الملحوظة المتأتّية من تشبّهها بـ"الأم"، لا "المواطنة 247" بل "آمنة جابر" هنا، لهذا يستدعيها مرة ثانية منذ استهلال المقطع {9}: (ادّخرتُ مصروفي لمدة شهر كي أقتنيه، ص51)، متحدّثة عن طلاء أظافر، وعندما يسترد السرد منها، عقِب فاصلة ثلاثية (***) كالمعتاد، يُبقيه عنها بوساطة أُمّها: (كان عليها أن تخبره بالأمر، "...". يجب أن يعلم فهذا الأمر ليس بالهين، "..."، يعني ان الابنة في خطر، ص54).

بعدها يعود إلى "الأب" في المقطع {11}، بعدما سرد سابقه {10} عن ("العميل (س)" > "سلام")، منذ استهلاله: ("لـ"طالما ظننتُ انني أستخدمُ رأسي بالشكل الصحيح، ص59)، لذا أصبح مدرّس تاريخ، إلّا أنّ هذه العودة بصفحة واحدة فقط، لا أكثر، إذ يستعيد السرد منه، عقِب فاصلة ثلاثية (***) أيضاً، بأنْ يتناول لأربع صفحات وثلاثة أسطر علاقته مع زوجته التي (لم تتقبّل فحولته يوماً. ص60).

في المقطع {16}، بعدما سرد مقطعين عن ("سلام" > "العميل (س)") ومثلهما عن ("المواطنة (247)" > "آمنة")، يستدعي "الصبي ذا الأحد عشر عاما" منذ استهلاله: ("...". هذا ما كانت ماما تردّده دائما في سنواتي الأولى، ص84)، أيْ (ستُصبح مهندساً حين تكبر. ص.ن)، ويستردّ السرد منه، عقِب فاصلة ثلاثية (***) طبعاً، لكنْ عنه (في ذلك النهار.. يتذكر الصبي ص88) ثم عن أُمه (في ذلك اليوم، عادت آمنة ص90).

بعده يستأثر بسرد جميع المقاطع الأخيرة، من {17} إلى {30}، ممّا يعني أنّ استدعاءه ساردين داخليّين، صوريّين، قد اقتصر على: الأب والأم والصبي ذي الأحد عشر عاما والفتاة ذات السبعة أعوام والصبية ذات الأربعة عشر عاماً، أيْ عائلة "آمنة جابر"، دون سواهم، خمستهم، بمن في <سواهم> ثمّة ("سلام" = "العميل (س)") خصوصاً، حدّ الحصر!، بالرغم من محوريّته، التي تُماثل محورية حبيبته الوحيدة، إنّما يجعله سارداً ضمنيّاً، تلميحيّاً، بأنْ يبعث <رسالة أخيرة> إلى ("آمنة" = "المواطنة (247)")، تبدأ هكذا: (حين تصلك رسالتي هذه، أكون قد ابتعدتُ تماماً، ص150)، فتعدمها: (طوت الرسالة دون اهتمام وألقتها في سلة المهملات القريبة من سريرها، تأففتْ، نهضت، لتلتقطها ثانية من السلة، مزّقتْها قطعا صغيرة، دسّتها ثانية في قعر السلة، فما جدوى الاحتفاظ برسالة منه! ص151).

إنّ في إعدامها هذه "الرسالة"، والشيءُ يُذكَر بالشيءِ، ما يدلُّ على تخلّصها من آخر آثار الحكم السابق (كالعديد من أتباع السلطة وذوي المناصب والذين يعملون في أماكن حسّاسة حتى وإن لم يكن لديهم منصب سياسي أو عسكري "حيث" سلام" أحد هؤلاء، ص148)، بعدما سقط (منذ دخلت القوات الأجنبية العاصمة ومحافظات البلد الأخرى، ص.ن)، إذ كانت مناوئةً له: واقعيّةً بصفتها "آمنة جابر" (يوما بعد يوم، ازدادَ عدد التوابيت التي دخلتْ حيّنا يقابله خفوت لعلعة الزغاريد، ليرتفعَ صوت الصراخ والعويل فقط، ويصل أحيانا الى حدّ السباب والشتم والدعاء على من كان السبب، فلم يعد الأهالي يفخرون بابنهم (الشهيد) قدر حرقتهم على فقدانه، حتى أمي، لم تعدْ تولولُ هي الأخرى عندما ترى مشهد التابوت المغلف بعلمٍ عراقي وهو يُقدّم لأهل الشاب كهدية ليلة الميلاد المفاجئة، مضافاً إليها شهادة الوفاة. ص25) – رمزيّةً بوصفها "المواطنة (247)" (ذاكرتي حية، لذا ما زلتُ حية، ويجب أن أفعلَ شيئا، لنْ أستمرّ بقبول هذا.. أن أظل سجينة البرمجة، لن أسمح لهم بأن يأخذوا رأسي متى شاؤوا ليعبثوا به بأصابعهم القذرة، لتتجوّل فيه أعينهم اللئيمة كما يتفحص الجنود غنائم الحرب. ص44).

ولأنّ العنوان هو "المواطنة (247)"، لا "آمنة جابر"، هيمنت على المتن، حتى استغلاقه: (بما تبقى لها من ذاكرة، أدركتْ بأن رياح التغيير أطاحت برؤوسهم من جديد...! من الذي أعاد العمل بنظام..ال..ب...ر...م....ج....ة! ص152)، ما عُرفت اختصاراً ببرمجة الذاكرة، المأخوذة فكرتها من برمجة كهرباء (العراق) خلال تسعينيات القرن العشرين الماضي، إذ هي (أكبر منظومة للتجسس على رؤوس المواطنين، وصولاً إلى حجب الذاكرة، "..." ببرمجةٍ تسمح للفرد أن يمارس فعالياته الحيوية والحياتية بما يكفي لبقائه ولأدائه عمله. ص75) بشرط أنّه (يعرف ان أي اختراق للرأس من قبل شخص آخر غير الجهات المختصة قد يتسبّب في خلل في البرمجة، الأمر الذي ينتج عنه القبض على الشخص وإيداعه في سجون التربية العقلية في حال اُكتشفَ الأمر، هذا ان لم تكلّف الشخص خسارة رأسه الى الأبد. ص: 79 ـ 80) مع وجود (لجنة المراقبة لإحصاء الرؤوس وتسجيل أسماء أصحابها ومنح كل واحد منهم رقما يظل محفوظا في سجلات سرية لا يسمح لغير لجنة المراقبة الاطلاع عليها. ص92)، هنالك عند (أبعد نقطة في العاصمة حيث يقبع مركز مراقبة الذاكرة، البعض يقول انّه ملحق بالقصر الرئاسي ولا يمكن الدخول اليه الا بموافقة القائد أو من ينوب عنه من المقربين، والبعض يقول انه يقبع في أعماق دجلة في غواصة لا يغادرها الخبراء الذين يعملون عليها الا للضرورة القصوى، كموت أحدهم مثلا. ص79)، وهذه كُلّها كناية عن القبضة المزدوجة للحكم السابق: الحديديّة الناريّة، الأمنيّة العسكريّة، السياسيّة الآيديولوجيّة، إلخ؟!، والتي تراخت كثيراً منذ نهايات تلكم التسعينيات حدّ السقوط قبيل الضربة الشاملة للاحتلال اللاحق: (اقترب بسرعة وانحنى واضعاً يده اليسرى على المكتب قائلا بصوت متقطع من أثر اللهاث: - تمّ اختراق منظومة المراقبة، قمْ بإتلاف ما تستطيعه من ملفّات يا سلام، حتى لو اضطررتَ الى تحطيم الحاسبة. اتّسعت حدقتاه وهو ينقل نظره بين المدير والشاشة كأنه يعجز عن الفهم، كرّر المدير العبارات بنفاد صبر: - نعم إنها مصيبة، الاختراق ليس من داخل البلد، انها طائرات أمريكية مسيّرة، ص130).

هكذا شُيّد، إذاً، البناء التعالقي لـ((المواطنة 247))، نصّاً روائيّاً، على أساسين متينين: أوّلهما "السارد" بأنواعه الثلاثة: الخارجي ـ الداخلي ـ الضمني _ "المسرود" بمكوّناته الأربعة: الحدث ـ الشخصية ـ الزمن ـ المكان، معاً، جامعيْن لـ(السرد): شعريّة تقنيّة "بويطيقيّة" + علاميّة دلاليّة "سيميائيّة"، متناسقتين متساوقتين، وهذا يُحسب لـ"بشرى الهلالي".

* المواطنة 247، رواية، بشرى الهلالي، منشورات تأويل للنشر والترجمة ـ بغداد "العراق"، ط1، 2023.

***

بشير حاجم  

"لست أنت" مجموعة قصصية للقاصة والأديبة صبيحة شبر، صدرت عن دار (ضفاف) للطباعة والنشر والتوزيع / 2012 ضمت 18 قصة قصيرة. وكانت القاصة قد أصدرت مجموعتها القصصية الأولى (التمثال) في الكويت عام 1976، غادرت وطنها العراق عام 1979 بسبب النظام الديكتاتوري في العراق، واصلت الكتابة في الصحف الكويتية بين عامي 1979 – 1986 باسم مستعار (نورا محمد). استقرت بها الأمور في المغرب عام 1986، نشرت القصص في الصحف العربية بين عامي 1986 – 2004، أصدرت مجموعتها القصصية الثانية بعنوان (امرأة سيئة السمعة) من وكالة الصحافة العربية للمطبوعات في جمهورية مصر العربية، صدرت لها المجموعة القصصية الثالثة (لائحة الاتهام تطول) في 2007، التابوت، مجموعة قصصية صدرت عن دار كيان للنشر والتوزيع/ مصر 2008. كرمت من قبل جمعية المترجمين واللغويين العرب في عام 2007. اختيرت افضل كاتبة في المحيط العربي عام 2009.

تثير شخوص قصص وروايات الكاتبة صبيحة شبر، هموم وهواجس المرأة العراقية، فأكثر هذه الشخوص هي لنساء يعانين من أبناء جاحدين، وازواج ظالمين، ومجتمع ينظر لهن بدونية مؤلمة، فهن نساء مستضعفات ينتظرن مصيرهن الذي يفرضه عليهن مجتمعهن، وما يحكم هذا المجتمع من تقاليد بالية تنظر للمرأة كحاجة ضرورية للرجل من حقه ان يرفضها او يستبدلها متى ما شاء. يقول الكاتب ناطق خلوصي : "ان عالم المرأة القاصة الفسيح ينفتح على حزمة من هموم وهواجس ومشاغل وارهاصات ومشاعر خاصة بها، لا يمتلك غيرها القدرة على اختراقها ابداعياً، للتعبير عنها بالشكل الذي يغطي اشكالياتها المختلفة، وبما تمليه أحاسيسها الداخلية، بخلاف ما يفعله القاص الذي يتعامل معها من الخارج عند تناوله لها، فيتجلى في ذلك الفارق في مستوى الصدق في التعبير عنها بينهما". لذلك تجد في قصص الكثير من هذه النماذج التي استطاعت ان تعبر عنها بشكل رائع فهاهي؛ الأم التي تنتظر ان يزورها ابنائها ، رغم نسيانهم لها خلال هذه الفترة الطويلة لكنها تبقى تمني النفس في هذا الأمل وهي التي تضن على نفسها فيما تحتاجه، حتى الدواء الذي يطلب منها الدكتور الذي يعالجها ان تأخذه في أوقاته. وبسبب طلباتهم التي لا تنتهي فتقنع نفسها؛ "صحتي ممتازة، والله وهبني قدرة على الاحتمال وهم احبتي" ص6.

"يوم جميل، جهزت له نفسك، هيأت أطعمة تعرفين ان احبابك يرغبون بها، ذهبت الى أسواق بعيدة، لتوفيرها في هذا اليوم" ص7.

لهفتها لسماعهم يقولون لها "عيد سعيد يا أمي" دفعتها للأهتمام بالبيت وأحضار ما كانوا يودون رؤيته سابقا عندما كانوا يحضرون لرؤيتها في هذه المناسبات. نسيت مرضها وانغمرت في التحضير لهذه المناسبة، تذكرت: "كان المنزل مليئاً بالمحبة، وزوجك باسط ذراعيه الحانيتين، يتغلبان عل أي هفوة من الأبناء غير مقصودة، قد تسبب لك الألم" ص7.

في ساعات الانتظار الثقيلة، تتذكرين سنين عمرك التي قضيتيها من أجل اسعادهم، وكنت تحلمين ان تريهم رجالا سعداء، ها أنت تنتظرين قدومهم، أنهم أولادك، حريصون على هنائك سوف يحضرون ليهنئوك.. "أيامك هانئة أمي" ص9.

"تمضي الساعات، ونظراتك معلقة على النافذة، عل أحدهم يسرع، ليضع حدا لمعاناتك التي لا تنتهي، انت الثكلى وأبناؤك أحياء يرزقون" ص9.

اللغة التي تتسعملها القاصة تزيد من قتامة الصورة التي ترسمها لحياة هذه الأم التي تنتظر ولكن ليس من أمل: "أنت الثكلى وأبناؤك أحياء يرزقون" سخرية التسميات "أبناؤك أحياء يرزقون" وما فائدتهم لها، اذا لم يسألوا عنها في مثل هذا اليوم!!

في القصة التي حملت المجموعة اسمها "لست أنت" صراع مع النفس ليس من أجل أقناعها، بل من أجل خداعها، فـ"لست انت" تأكيد لنفي النفي، أنت لست أنت! محاولة لتحسين صورة شخص ما، ترفضه النفس، لكن بقايا حب يحاول ان يجد له موطئ قدم في حاضر خائب.

ما الذي يجعلنا نتعلق بشخص سافر ونسى أهله وأحبابه وماضيه، سوى الاصرار للتعلق بأمل واهي؛ "خمس سنوات، مرت عليّ كدهر بتعاستها وقسوتها، نسيت كل آلامي ووحدتي وشدة غربتي، طوال سفرك، وفرحت من كل قلبي، لانك عدت بعد السفر والبعاد" ص 83.

محاولة لتكذيب الواقع، والتعلق بأمل لم يعد موجود، لكنها محاولة للعيش على ماضٍ شهدنا موته؛ "أقمع اسئلة عديدة يطرحها عقل ما زال يعمل، قد أجد لك عذرا، انك لم تتصل بي، لكن ما علتك للانقطاع عن شخصين تعبا من أجلك؟" ص 84

خمس سنوات من دون ان يسأل عنها، غير أنها انتظرته، يا لبئس الأنتظار، الذي لم تغيره محاولاتها لاقناع النفس، بعدم معرفتها بالظروف التي كان يعيشها. ولعلها هي السبب الذي تتعلل به لانقطاعه عن السؤال عنها وعن عائلته. رغم محاولة أخيها؛ "هل تطمئنين اليه؟ لقد باع ابوه المنزل البسيط الذي يسكن فيه من أجل ان يبعث له النقود" ص86. ولم يسأل عن والده ولو مرة واحدة. ورغم ذلك فأنها مصرة على العيش من أجل أمل دفن قبل خمس سنين. لكن الأمل يتلاشى حينما ترينه بعد هذا الزمن البعيد: "استقبال بارد، لم أجد أنت بدفئك القديم، مخلوق اخر يشبهك، أناقة مفرطة، تبدو عليك الوجاهة والغنى، لم اشعر أنني خطيبتك، وكيف لي بهذا الشعور وانت لم تتصل بي ابدا" ص87..

لقد اجادت القاصة في تصوير المعاناة التي تعيشها المرأة في حياتها اليومية، فهذه الأم التي تأمل ان يزورها اولادها، ليردوا لها ما اعطته لهم، خلال سنوات عمرها الذي شارف على نهايته في قصة (ابناء أبرار). والمرأة المريضة الذي يخبرها الطبيب انها شفيت غير ان تحليلاتها الأخيرة تكشف لها غير ما اخبرها الطبيب المعالج في قصة (التشخيص). وفي قصة أخرى (التابعة) تصور لنا حالة المرأة الضعيفة البلهاء التي لا شخصية لها. والمرأة التي تتقبل نسيان حبيبها لها وتبرره في القصة (لست أنت).

***

قراءة: يوسف علوان

عتبة النص/العرض

العنوان هو العتبة التي يخطو المتلقي من خلالها الى الانطباع الاولي، ويدخله الى عوالم النص/العرض، والعتبة هنا (أنا) ماكبث وليس كل التركيب النفسي لشخصية ماكبث. شخصية الإنسان مكونة من (الهو – الانا – الانا الاعلى) بحسب (سيغموند فرويد) الأنا هي وعي الفرد الخالص لا تخالطه الرغبات والغرائز وليست وعيا جزئيا، ماكبث واضح، فلا عقد لديه ولا صراعات ولا مشاكل تعكر صفو الدفاع عن نفسه، انه يريد إثبات براءته من جريمة قتل الملك (دنكان) بتعزيز من زوجته المساندة له دائما، قدم المؤلف (الأنا) على جميع الشخصيات والأحداث وجعلها بارزة في بنية النص، ومن البراعة اختيار المؤلف لأجواء ما بعد الموت لوقائع دفاع (أنا) ماكبث عن نفسها، انها تريد إحقاق الحق حتى لو كان هو والقاضي الملك لير ودنكان الملك المقتول في قعر الجحيم ويحيط بهم حراسها

جاء وصف حالة ماكبث النفسية على لسان إحدى الساحرات: (ان ماكبث يصرخ ويثور ويغلي كالتنور في كل ليلة صارخا برفات الموتى بأنه قد غدر به التاريخ وحواشي الملوك ومدوني الشعر) ينهض ماكبث وتبدأ الأحداث لتشكك المتلقي بما عُرِف من مسرحية شكسبير، وتزيح قناعته بصدقية كتابته للتاريخ، مع ملاحظة ان الصدق الشعري الذي جاء في المسرحية أكثر بلاغة من الصدق التاريخي بل وأوسع انتشارا، وهنا جاء المؤلف منير راضي ليعيد كتابة (ماكبث) بصدق شعري جديد، على وفق قراءة معاصرة ذات وجهات عدة منها:

- ما كتبه الشاعر (شكسبير)

- ما كتبه المؤرخون / روفائيل هولينشيد

- ما ورد في متصفح جوجل

-  ما جاء على لسان الساحرات (المعاصرات)

تم استعراض هذه الوجهات برؤية يستشفها المتلقي بعد أن حدد مسارها المؤلف منير راضي والمخرج طلال هادي في العرض، حتى لو تشابهت الوجهات، لابد أن يتضمن الفن/الدراما شيء من عدم التطابق مع وقائع التاريخ ومع ما قدم من الأقدمين /السابقين لأن الفن – بالتأكيد – ليس نسخا ولا تسجيلا، بل هو رؤية جديدة محاطة بهالة جمالية تقدم للجمهور المعاصر، وهذا ما سعى إليه القائمون على عرض مسرحية (أنا ماكبث).3760 انا مكبث

تناغم التأليف والإخراج وافتراقاته:

ان يكون المؤلف معاصرا وحاضرا الى جنب المخرج، ذلك امر يستدعي الكثير من الحوار والنقاش بينهما، بدأً من الخطوة الأولى في عملية الإخراج (اختيار النص) وانتهاء الخطوة الاخيرة (الجنرال بروڤة) وصولا الى يوم العرض الأخير. وقد لا يعني المتلقي حضور او عدم حضور المؤلف وملازمته التمارين، لأن الحصيلة النهائية هي العرض بصورته الماثلة أمامه، لقد افترق المخرج عن نص المؤلف بحذف شخصيات وتكثيف حوارات وتقديم إضافات وتناغم بالرؤية وصنع الأحداث وانشاء الأجواء، فكانت المحصلة: إن حضور المؤلف انعكس ايجابيا على الإخراج وفي بناء العرض لأنهما (المخرج والمؤلف) يشعرون ويفكرون بـ (الآن وهنا وبما يكمن في الوعي المجتمعي).

تأسس العرض على فكرة مركزية هي: أن التاريخ والشعر قد ينطوي على تظليل، لذا يجب اعادة صياغة الاحداث على وفق المنطق الفني المعاصر مع الأخذ بالاعتبار (أن الطغاة لا يعرفون أنهم طغاة ما لم يواجَهوا بما فعلوا) يقول ماكبث مخاطبا زوجته في النص:

ماكبث: من أجلك سيولد ماكبث من جديد، سأفك قيد التاريخ، وسأرفع ستائر الليل الهزيع عن نوافذ الزمن الصائحة ببراءتك وبياض صفحتي.

فكانت بداية أحداث العرض بمطالبة من (ماكبث) وبتحريض واسناد من زوجته ببراءته مما نسب إليه في قضية اغتيال الملك (دنكان) في قصره.

تكونت بنية العرض من جزئين غير متناظرين من حيث الزمن وتدفق الفعل الدرامي، ففي الجزء الأول ساد التشويق وعمت الاكتشافات وتصاعد الفعل منذ البداية بتضامن الحوار والموسيقى ومكونات السينوغرافيا وحركة جميع الشخصيات الموضعية والانتقالية التي غطت مساحة الخشبة بتوازن جمالي معبر ومتنوع المداخل والمخارج، وصولا الى لحظة مغادرة (دنكان) بيئة الحدث بعدما أدلت الساحرات بشهادتها وقالت:

- قُتِل الملك دنكان في معركة قرب مدينة الجين

- نعم وليس في غرفته وعلى فراشه كما ذكر في سفر الرواية

ويقر (الملك دنكان) بصحة كلام الساحرات، فيتضح زيف رواية شكسبير التي كتبها ارضاءا للملك وأعوانه وحاشيته بحسب قول ماكبث، وتشهد الساحرات لصالح ماكبث وتزكيه (كانت البلاد في حكم ماكبث تنعم بالهدوء والسلام لمدة سبعة عشر عاما)

لقد حفل الجزء الاول من زمن العرض بتسارع في وتيرة الأحداث وتفعيل قطع المنظر الساكنة من خلال تحريكها وجعلها علامات تسهم في تعزيز بنية العرض الدرامية، فضلا عن تعرف الشخصيات وانكشاف الأشكال غير المتوقعة التي بدت عليها وبنيتها المغايرة للصورة التقليدية التي يحتفظ بها المتلقي في ثقافته.3761 انا مكبث

حيوية الساحرات

صورة الساحرات التقليدية: كبيرات في السن، شريرات، اشكال اقرب للقبح، لديهن اكسسوارات لإظهار قدراتهن السحرية المخيفة ) صورة الساحرات في ( انا ماكبث) فتيات كثيرات الحركة والفعل ويحضرن إلى الخشبة بقول يحسم أمرا، لديهن اكسسوارات معاصرة - قبعات، وتزينهن اجنحة ملائكية، خفيفات الظل، وبلا مبالغة إن قلنا أنهن الروح الحيوية التي أسهمت بصورة فاعلة بتقريب مجريات الخشبة من الجمهور وصنعت وشائج جمالية بين العرض ومتلقيه من خلال كسر التوقعات وما حملن من مفاجآت، وضبط إيقاع العرض الذي تلافى صيغة الإلقاء - وهو امر حتمته لغة المؤلف.

في الجزء الثاني من العرض التزمت الشخصيات – عدا الساحرات - موقعا محددا من خشبة المسرح (بقي الملك لير في مكانه –وسط وسط المسرح - لم يتحرك، أتخذ ماكبث جانب يمين الخشبة غالبا بعد ان تحرر من قبره، شكسبير يتحرك في يسار الخشبة، حراس الجحيم يشكلون خلفية في عمق الخشبة وجوانبها، أما الليدي ماكبث فقد كان ظهورها واختفائها المفاجئ وكلماتها القصيرة المؤثرة في دفع براءة ماكبث وإضفاء شحنة عاطفية على الجو النفسي العام.

لقد فَعّلَ المخرج شخصيات الساحرات بحركة انتقالية وحوار انتهك اللغة الفخمة التي تمتعت بها الشخصيات الاخرى مما جعلها فاعلة وإن كانت تتحرك موضعيا.

في الجزء الثاني من العرض وتحديدا بعد انسحاب دنكان من الجلسة عندما داهمته الساحرات بحقيقة مقتله بعيدا عن قصر ماكبث، انتهت المفاجآت، وحضرت السجالات بين شكسبير وماكبث وبينهما القاضي الملك لير، وتجلت قوة لغة الحوار وصوره الشعرية بأصوات الممثلين المحكمة الأداء مما جعلها فعلا اخراجيا مقصودا لعودة سيادة الكلمة الى المسرح حيث سادت الكلمة وبادت الحركة، حتى النهاية، وكان امر لغة القاء الحوار الذي بدا مؤثرا عندما القى (لير) خطبة قصيرة وتفاعل الجمهور بالتصفيق لها.

علامات بارزة ختمت العرض:

غوغل: بعد أن كان شعار متصفح الويب جوجل متدليا، هبط من الاعلى وظهرت شخصية تتحدث باسمه و أدلت بشهادة، مما جعل امتداد حكاية أحداث المسرحية هو من تاريخ كتابتها بقلم شكسبير عام 1606 م تقريبا والى (الآن)

الساعة المثلومة: توسط مجسم الساعة فضاء المسرح مع احتواءه على جزء مفقود وارقام ممسوحة، ثمة ثغرة في الزمن يمكن النفاذ منها.

لقد كتب (منير راضي) واخرج طلال هادي وقدم الممثلون والفنيون مصداقا بدرجة عالية لمقولة (هربرت ريد): " إن الوظيفة الحقيقية للفن هي التعبير عن (الإحساس) ونقل (الفهم) وهذا هو ما تحقق منه الإغريق بصورة كاملة، وهذا هو ما عناه أرسطو كما أعتقد، حينما قال بأن هدف الدراما هو أن تطهر مشاعرنا. إننا نأتي إلى العمل الفني ونحن محملون فعلا بتعقيدات وجدانية معينة، ونحن لا نجد في العمل الفني الأصيل الحقيقي تحقيقا لتلك المشاعر أو تطابقا معها، وإنما نجد السلام والسكينة والاتزان العقلي" (1)

***

حبيب ظاهر حبيب

.....................

* عرضت الفرقة الوطنية للتمثيل مسرحية (أنا .. ماكبث) بتاريخ 14-16/ 9/ 2023 على مسرح الرشيد.

(1) هربرت ريد: معنى الفن، ط2، ترجمة: سامي خشبة، بغداد، دار الشؤون الثقافية العامة، ص296 .

عادل مردان يكتب الشعر كباحث، لا يكف عن البحث، موضوعاته، مادته، يوسعها حتى النهاية، أو يعيد التفكير فيها، المعرفة في الشعر تدخل في نصوص أشهر شعراء العصر: إليوت، باوند، وبيرس، وآخرين، المعرفة في الشعر ذات خصوصية تنتظم في اكتساب الأداة الشعرية، المعرفة في العالم هي نفسها المعرفة في الشعر، مع انها تستعمل وسائل أخرى، الفرق هي الوسيلة  وليس في الغاية.

يحاول الشاعر عادل مردان في (كتاب جامع الأصداف 2023)، أن يلعب هذه اللعبة، أي أن تكون الكلمة بذاتها نوعاً من الكيمياء، نوعاً من التركيب الذي تكمن اسراره في الاحتمال، والنتائج والمعاني الخفية.

هذه هي المغامرة الحقيقية، هي أن تدخل الكلام في تركيب النظرة الشعرية، وهذا يعني رأساً أنني أنفر النظرية، لأنها مقيدة.

قصيدة عادل لا تبدأ بموضوع، الموضوع كمادة للشعر يفقد الكثير من اغراءاته، انما الموضوع احد مكتشفات القصيدة، احدى منصاتها للتوغل في الحقول الحسيةالتي تنبع من خصوصيته، من شخصيته هو، أي من التجربة الحياتية، تسليم القدرة الى اللغة الى الكلمات التي تكون وفيةعادة، بصدق ووفاء الشاعر لها.

ها نحن نترك على صرحها الأكاليل

هل ماتت الحقيقة؟

الأرض تهرع بأثداء دامية الى الكهوف

في صحراء العالم صوت جارح

يقطع سكون الليل

هناك دهاليز تنبع من احساس الشاعر لحظة الكتابة، هي التي تفرض التسلسل المنطقي للنص ولمفرداته، في شعر عادل نجد أشياءً مثل : الخشخاش، الأريكة، الحمام، الخشب، الوحل، القوقعة، الغازات السامة، القنطرة، الشرشف، جرة النبيذ، عربة الخردوات، أشياء كما هي، ومع ذلك عندما ندخلها في دينامية الحقل المغناطيسي للنص، تطفو وتأخذ أبعاداً أخرى، مما يعيدنا  الى فكرة السيميائية في الشعر.

دائماً يضطجع البله

في مقمورة الثناء

ان أهم ما نلاحظه في هذه النصوص جميعاً، هو تسللها الى مناطق الظل في الحياة اليومية، تتسلل بمهارة وهدوء الى هذه المناطق والأقاليم، لكن لتهتك عاديتها ويوميتها، هذه اللغة لغة راهب، مباغتة ومفاجئة ومراوغة، ومن هنا أهمية المفاجأة، لأنها تأتي من حيث عبورها، انطلاقاً من اليومي، من أمكنة تبدو قريبة ومتاحة، حميمة، لكنه يجعلها حين يمارس فعل التحويل فيها، سحيقة وبعيدة في أغوار ومجاهل الذات، رؤية الانسان للعالم.

أسمالنا شاردة على الأرض

يسبح الصبية

وأنا أتأمل النهر

*

أتأمل من النافذة

اشتعال الاكاسيا

يتكتك عصفور الساعة

آه... انها الواحدة

تزود ايها العابر

ويبقى هذا الفعل بما هو شعري ذا أهمية قصوى بالنسبة للنصوص، انها تدخل على متلقيها دهشة متفردة غير متوقعة، تقدم نفسها ببساطة، لكنها تعيد خلق التفاصيل في نسيج مركب:

يلفك الغموض

من أنت ايتها الطموح:

أنا قنبلة كهرومغناطيسية

مصممة لمحو الخلائق

هناك نبضة داخل النبضة، ونبضة أخرى داخل النبضة الثانية، هناك تراكب وراثي حلزوني لا ينتهي في النص، الاسئلة التي تطرحها النصوص، تعيدنا الى الانصات لرنين الكلام الأول، يعني كلام الانسان الطري البدائي، وهنا تحضر فكرة القصيدة المفتوحة بما هي مفتوحة، تحاول ان تستعيد تجربة الانسان بحنينه الشعري في العالم المعاصر الى تجربته الشعرية الاولى، بطراوتها وكثافتها وغموضها:

سأبخس حقها

حتى لو كانت فرائد

على الرغم من جزعي

سأقرأها الى الجدران

أحياناً احتاج

الى رفقة الأشباح

الشاعر عادل مردان، لم يدخل الشعر من النوافذ، بل مرّ عبر أكثر المسالك وعورة، وظل مخلصاً لتجربته الشعرية، هذه المسالك التي لا يخاطر الكثيرون بولوجها حفاظاً على أمانهم، أو بريق مواقعهم، مردان في طليعة الشعراء ذوي التجربة المتميزة، بحريقها، وبريقها كذلك، لا يتمسح بأعطاف الشهرة، إذ يقول كلمته ويمضي، ليظل معانقاً اسطورة الترحال في أقاليم الشعر:

لا ترافق الشعر عنوة

اجلس تحت شجرة العالم

فهي حكيمة الغاب

 في قلبها بلسم الروح

لقد راح عادل في ذروة قلقه  أن ينقل رؤاه مصغياً الى صوت جهاز الرنين، تلك هي النفثة الأخيرة من هاجس العدم الطاغي في أغلب النصوص:

يتوهم المحشور

في جهاز الرنين

انه داخل تابوت فخم

تنبعث منه الاصوات

المأساة، أنه يصغي، يشعر بانهيارات في أعماقه، يستيقظ فيه العالم، ريح تحرك أنفاسه، ربما اعترته رغبة في الهروب:

تكويني صار قديماً

أريد ان أتخلق

بكيان آخر

الشاعر مردان في جامع الاصداف، غير راض عن العالم حوله، يعيش مصير الآخرين، لكنه في حيرة وحده، مهما يكن في روعة المغانم، والمغريات، يقرفص تحت صفصافة في حديقة المشفى، اسماله بيضاء على العشب، كاره الضوء، يتجه الى البحر، فهو بحار يجمع الاصداف، يبحث في أعماق الاغوار، لا يحمل يأسه هو، بل يحمل يأس الاجيال، ويأس ساكني المدن المنطفئة. يبحر في مياه مجهولة، فيذهب مع تلاطم الموج، وتلاطم الأشرعة، يحاور بحاري السفن على مدى السنين.

لا زمرد في الخصب

لا مطر يرحم الارض

لكنها العمائم

تندرج في الطرقات

قصائد عادل مردان، تقدم نفسها كياناً مستقلاً، ذا قيمة جمالية وحضور فريد، تعلن عن ذاتها انها فوق المقارنة، تنمو بتطور المعنى. القصائد بمجموعها تمثل غابة شعرية، حافلة بالطراوة، والمشاهد العجيبة، متشابكة، كثيفة في الصور والايقاعات، متصلة،  ثمة تنافر بين مقطع وآخر، واتحاد وتلاحم في مقاطع أخرى، انه شرط من شروط طبيعتها، لكنها في صراع مع نفسها، هذا الصراع بين ضدين الأسود والأبيض كما جسده مصمم غلاف الكتاب صالح جادري،  ليعطي الكتاب صفة أخرى، في التعبير عن حالة التوازن، أو التقارب، أو تجسيد الدلالة المهمة في الحالة الشاعرة، ولقطها من قلبها.

***

د. جمال العتابي

بانوراما برجُ بابل للشاعر الكبير جمال مصطفى

استهلال: تختلف الملاحم الشعرية تبعا للعادات الثقافية والموروث، وتعتبرالقصيدة الملحمية ألاقرب الى الشعر وهي تتحدث عن نضال المحاربين أو إنجازات الملوك، أو أنها تتحدث عن مكان بعينه أو بطل بعينه أو عدة أبطال .

والقصيدة الملحمية هي قصة طويلة ومثيرة تحاكي شاعريتها حدث ما أو بطل أستهوت بطولاته كاتب الملحمة، وكانت الملاحم تحفظ من عصر لعصر أما عن طريق الرواة قبل عصر التدوين أو عن طريق الالواح المرقومة فيما بعد..

إن الاساس في الشعر الملحمي هو أن يكون قصصيا، بمعنى أنه يقوم على السرد لحادثة أو سلسلة حوادث لايصال جوهر الفكرة التي قد تقوم على الخوارق والعادات والطقوس والخلط بين الحقيقة والاسطورة، بلغة صافية واضحة، فهي توضح الجوانب القومية لما تحويه من من أرث حضاري وتراث عريق يتناول الجوانب الدينية، الاجتماعية، الفكرية، السياسية، الاقتصادية، والحربية بفلسفة تحاكي روح العصر لتظهر الجانب البطولي والمشرق الذي يتفرد بقيم عالية في الموروث الشعبي متمثلا بشخص أو عدة أشخاص قاموا بأمر يعتبر خارقا أو بطوليا ويرتبط هذا الحدث بمكان البطولة وزمنها.

ويعتبر السرد أو القصة الشعرية إن صح التعبير هو المحور الذي يقوم عليه الشعر الملحمي، ولابد أن تدور أحداثه حول حقبة معينة مع سرد القصص التي حدثت فيها، ومن الممكن أن تتعدد القصص في الملحمة الواحدة مثل (الالياذة) والتي تعتبر منظومة شعرية طويلة جدا.

وتتميز القصائد الملحمية بكثرة موضوعاتها وتشعبها نظرا لصعوبة الفصل بين الحقيقة والاسطورة مما يجعل تهويل الاحداث والمبالغة فيها عنصرا اساسيا في الشعر الملحمي، اضافة الى التوظيف الفلسفي في تفسير الاحداث، واهم الملاحم الشعرية التي تميزت بتعدد موضوعاتها وتشعبها ملحمة كلكامش التي تعبر عن الوعي الانساني الاول من حيث الهدف والمضمون.

كما وتعتبر الموضوعية من أهم الركائز للشعر الملحمي، والموضوعية لاتعني ذات الكاتب، إذ إن هوميروس لم يقحم ذاتيته في الالياذة، إنما ترك الباب مفتوحا للشخصيات التي تحكي الوقائع من خلال تصرفاتها بكل حرية.

وتمتاز الملحمة الشعرية بعدد كلماتها الكثيرة وعدد أبياتها، كما تمتاز بفخامة الاسلوب ولغته الرصينة الرفيعة التي لايشوبها ضغف وهذا ماوجدناه في ملحمة كلكامش التي عبرت عن أسفار طويلة بطابع جمالي يبرز مدى الجهد المبذول واسلوبها الفخم الذي أسهم في خلودها كأروع ملحمة حيّة حتى يومنا هذا.

وتتداخل الاسطورة مع الملحمة، فالملحمة قد تضم بعضا من الاساطير وليس العكس، لان الاسطورة تتحدث عن الالهة فيما تتحدث الملحمة عن الاشخاص والاماكن.

وبعد هذه المقدمة الموجزة جدا نود أن نستأذن للدخول إلى بابل (بوابة الاله) الملحمة البابلية التي تضاهي بجمالها وفخامتها وتنوع مواضيعها ملحمة كلكامش، إنها ملحمة بانورامية في سفر بابل بقلم الشاعر الكبير جمال مصطفى والتي أرسى لها عنوانا: بانوراما برج بابل

قد جاءَ في ديباجة اللوحِ

الكتاب بأنّهُ

من ألفِ باب، كلُّ بابٍ ألفُ لوحٍ

هل قرأتَ؟

تبدأ القصيدة باستهلالٍ للدخول الى هذا العالم الشاسع الذي يطوي بين أطواره فجر الحضارة وسلالة التأريخ وولادة الحرف الأول، فالشاعر يخبرنا بأن البرج يتكون من ألف باب ولكل باب الف لوح، وحقيقة فالملحمة تعتمد على الاخبار وهو أحد شروطها الذي يعتمد على السرد والسارد، إذا ما أخذنا بالحسبان حقيقة وجود البرج الذي وصلتنا عن طريق التوراة والعهد القديم والرواة والالواح المرقومة.، وقد اختلف المؤرخون على مر العصور على حقيقة وجوده الذي ارتبط بعدة روايات منها قصة النمرود المعروفة، حيث ادعى الربوبية وغضب الله عليه وعنده تبلبلت الالسن، في حين إن اللغة جاءت على لسان كل نبي بلغة قومه،  أومنها إنه شيد من قبل سلالة نوح بعد الطوفان، ومنها أن الاسكندر الاكبر قام بهدم البرج واستخدم حجارته لبناء المسرح البابلي، ومهما يكن من أمر ومهما تعددت الروايات فالرواية الاكثر تصديقا إن البرج كان موجودا وقد تناقلت وجوده الالسن والالواح وهذا ماذكره الشاعر في مطلع القصيدة فأجاد الوصف.

ثم يتابع الشاعر عروجه خلال البرج واصفا كل حجرة من حجراته بمنتهى الدقة معتمدا على مخياله الشعري البحت وخلفيته الثقافية الشعرية الواسعة وثقافته التاريخية واللغوية التي تحدى بها الغموض وشاكس الاحداث وتجاوزالغموض ليرسم بانوراما حقيقية حية تبحر بين العصور تختزل الازمان تتيح للقارئ أن يبحر معها في أجواء ترفل بالحضارة والتاريخ الذي حاكى حقبة تنوعت وازدحمت فيها الحضارات والديانات على اختلافها وتضاربت فيها الروايات مابين المعجزة والاسطورة تارة وبين الواقع المروي والمكتوب تارة أخرى.

وتعتبر بابل المحافظة العراقية الوحيدة التي ذكرت في التوراة والانجيل والقران لاهميتها التاريخية والانسانية والدينية، فقد شهدت المدينة ولادة التاريخ الانساني والحضاري والديني لشعب بلاد مابين التهرين، وقدكان لاهل بابل مكانة في الشرق والغرب والتي ازدهرت في عهد حمورابي المشرع الاول في التاريخ الانساني.

لم يتوانى الشاعر في ذكر تفاصيل بابل الكثيرة والمتشعبة بكل ماتحمله قلبا وقالبا وهو يعرج بين مداراتها راسما أحجارها حُجرا تستضيف نزلائها من شتى الاجناس والاصناف اناسا وكهنوتا ملوكا وعبيدا طوائف وشعوبا سكنت وعاشت وتبلورت أحداثها لترسم الخطوط العريضة لبرج بابل الذي هيكل وأثث وبنى القصيدة أو البانوراما الملحمية بهذه اللغة الشاعرية السردية التي تفصح عن عبقرية فذة ولغة متفردة ومخيالا شعريا هائلا أضفى وأضاف ورمم جوانبا واستحدث اخرى، فقد وصف البرج وكأنه مكتبة فيها رفوف وكل رف يمثل حقبة زمنية معينة بأشكالها ورسومها وطقوسها وطلاسمها التي سعى الى فك رموزها تباعا

ها أنت تصعدُ

هاهي الثيرانُ

جَنّحها على الجدرانِ ناحِتها

لتنفتح السقوف

نحن أمام موهبة شعرية قل نظيرها للاحتفاء بما وهب الله من فصاحة وبلاغة تتدفق كأسراب الطيور تطرز السماء ببديع أسرابها كيمام سميراميس

في البرج برجُ للطيور

معًأ تَطيرُ لكي تُطرز في الصباح

سماء بابل

إن الاقدام على كتابة عمل ملحمي بهذا الايغال في عمق الحضارة التاريخية العتيقة واستحضار تفاصيل عن طريق شحذ إلهامها شحذا والوقوف عند المحطات المترامية القدم والموغلة في بطون التاريخ الغويطة انما تعكس قوة العمل وبراعة القدرة وشجاعة الخطوة وماورائية المقصد وموسوعية الهدف بهذا التنوع الادبي التاريخي الهائل الذي يجعل القارئ سائحا بماشاء الله من التحف الرصينة التي أرشفت الحضارة بوجوهها المترامية راسمة وجها واحدا وإرثا خالدا ومنارة تتوسط التاريخ متبرجة ببرج أسطوري الخلود واقعي الاثر، وقد جسد جوهرته الثمينة بموشورها المشرق في الطابق العشرون الذي يعتبر جوهرة التاج للقصيدة

الطابق العشرون متحفُ(سوف كان) وفيهِ:أجنحةٌ

لجبرائيل، ألواح الزمردِ، نعل آدم، مشط حواء، البراق

وفلك نوحٍ، صور إسرافيل، والرخُّ الذي عبر البحار

محلقًا بالسندباد، فرائض الاسرار ترتعدُ ارتعادا

في ضمير الغيب قرب عمامة الخضرِ، الدفوف تزف بدرا

إن اكتناز هذه القصيدة بالصورالمبهرة الممرغة بقواريرٍ لازوردية الطيف بهذا التفخيم الجرئ الذي يدور فلكه سابحا بأجرام التاريخ متوسما بمواسم الخصب منتهلا من نواعير فراتها ظلا ظليلا يتبارى مع فصولها بأجنحة ترسم الشمس لها طريق العنفوان..

في البدءِ كان البرجُ محمولا

على رُخ الخرافة

حتى أناخ بأرضِ بابل

أخذته منهُ قصيدتي

كالهودج الحلزون تحملهُ زرافة

وبه تطوف على المدائن

لقد اجتمعت بهذه الملحمة الشعرية كل مقومات العمل البانورامي الذي يحاكي العصور متمثلا بشخوصها وانجازاتهم الحضارية التي تركت بصمة ومكانة سامية تدور أفلاكها في سماءٍ كل مجراتها تنطق بالحضارة وتتسربل التاريخ جلبابا يقلدها مسؤولية الوجود والحضور والتطور والازدهاروالاشراق لخير الانام الحبيب المصطفى

هي حجرةٌ للمصطفى

فيها على الجدرانِ آياتٌ لتسمع ماتراه

مهندس البرج ارتأى الكوفيَّ خطَّا

والكتابةَ لِ ابن مقله

ثم استعان بمقرئٍ من مصر يَصدحُ:

(إذا الشمس كُورت)

هي حجرةٌ للمصطفى

يأتي إلى إفريزها ديكٌ يؤذن كلّ فجرْ

هذا التناغم المتسلسل للاحداث الذي يجعل من التأريخ سفينة طوفانها نجاة تركب الموج باحرة تشاكس الموج تارة وتستكين أخرى تعبر الخلجان زادها العلم وزوادتها البلاغة الادبية الرفيعة التي استحضرت التاريخ ليركب معها من كل زوجين أثنين عابرة بأحداثها سحباطوفانية هائلة متخذة من الكلمة الرصينة مرساة لها في كل محطة وكل مرسى لها حرف عراقي الاصل بابلي الهوى

البرج من بعد الخراب

أثرٌ كما الختم اسطواني

طبعٌ عراقي المعاني

في الشعر في شجن الاغاني

في النوحِ مرّا

في معاتبة الزمان

الحقيقة تبدو جلية كعين الشمس فمن كتب كلكامش لابد أنه ترك الوصية والعهد لسلفٍ أحرص منه على الاحتفاظ بهذه الكنوز العظيمة المترامية الاطراف، ومن شرب من زلال الرافدين لابد أن يكون له مدادا يستقي منه القصيدة..

ومهما قلنا لنف حق هذه البانوراما فهو قليل أمام هذا الصرح الملحمي الذي يحاكي حضارة الرافدين.

طوبى للعراق بهذه الالواح التي احترفت طريق الحرف شرعة ومنهاجا وتدبرت نقشه وعزفه بأوتار ذهبية الصوت والصدى ..

طوبى لنا عرس القصيد وصولجان الحرف العتيد

ولعمري فنحن أمام تحفة أدبية معلقة كجوهرة تاج لارض بابل.

ولنا في كلكامش خير خلف..

الف مبارك والف تحية لجناب الشاعر الكبير أ.جمال مصطفى والله الموفق.

***

مريم لطفي الالوسي

ارتطام لم يسمع له دوي

اهتمت الدراسات السيميائية، بدراسة العتبات التي تحيط بالنص وتسمى "النصوص الموازية" وهي: العنوان الرئيس والعناوين الداخلية، والإهداء، والرسومات التوضيحية، وافتتاحيات ومقاطع الفصول، وهذا الأمر قد عدته الدراسات النقدية الحديثة مفتاحًا مهمًا في دراسة النصوص الأدبية.

وكان لعنوان الرواية أهمية كبيرة في هذه الدراسات، فهو المفتاح الضروري لسبر أغوار النص، والتعمق في معانيه، والخوض في اسراره الخفية. وهو الأداة التي يتحقق بها اتساق النص وانسجامه، وبه تتكشف مقاصده المباشرة وغير المباشرة ايضا. وبالتالي، فالعنوان والنص، أحدهما مكمل للآخر، وبينهما علاقات جدلية وانعكاسية، وعلاقات إيحائية، أوعلاقات كلية أو جزئية. ولا يمكن مقاربة العنوان مقاربة علمية موضوعية إلا بتمثل المقاربة السيميوطيقية التي تتعامل مع إشارات العناوين، وذلك بوصفها علامات، أو أيقونات واستعارات ورموز . ومن ثم، فلابد من دراسة هذه العناوين تحليلا وتأويلا، لان العنوان يعتبر مفتاحا إجرائيا في التعامل مع النص في بعديه : الدلالي والرمزي.

من خلال هذين البعدين سوف نحاول قراءة رواية: "ارتطام لم يسمع له دوي" للكاتبة بثينة العيسى، والارتطام هو النتيجة الطبيعية لفعل "السقوط"، الذي ارادت ان تشير له الكاتبة في روايتها التي صدرت لها اكثر من طبعة منذ العام 2004.

العنوان يحمل حالة تناقض في مقطعيه الذين يتكون منهما: "ارتطام - لكن هذا الارتطام – لم يسمع له دوي" وهذا التناقض الذي يرمز له العنوان؛ يعني سقوطاً آخر - لان السقوط العادي يستوجب ارتطاماً مع حدوث دوي نتيجة السقوط - بينما هذا الذي رمزت له الكاتبة هو أكثر وقعاً وإيلاماً، ولكن لا نسمع له صوت! فنحن في بلداننا العربية، التي تخلفت عن بقية بلدان العالم. اصبح مواطنها الذي يسافر إلى بلدان العالم الاخرى لا يستطيع ان يجري – ولو بينه وبين نفسه – مقارنة بين حال تلك البلدان التي سعت ووفرت كل ما يحتاجه مواطنوها، وبين ما نعيشه نحن، لاننا مثل الذي يقارن الليل بالنهار، فكل منهم يجري في فلك! بينما غيرنا شملته نعمة التقدم وإن بنسب مختلفة!

ثيمة الرواية تتحدث عن مشاركة طالبة كويتية، في مسابقة علمية للطلبة لمعرفة آخر الاكتشافات العلمية، التي يدرسها الطلبة في جميع مدارسهم، وهذه الطالبة تعلم ان اختيارها في هذه المسابقة هو ليس لتفوقها على بقية زملائها، ولكن لنوايا استاذها البعيدة عن هدف هذه المسابقة، لذلك عند حضورها ومشاركتها في اعمال هذه المسابقة، تكتشف مدى تخلف التعليم في بلدها وبلدان المنطقة العربية على العموم، عما يدرسه الطلبة في بلدان العالم الأخرى، فتصاب بالذهول لفقر معلوماتها التي درستها! "وكأن أصواتهم تتلاقح، تتمخضُ ضجيجاً، وفد الصين، وفد فرنسا، وفد المكسيك، وفد فنلندا، ودولٌ لم أسمع بوجودها من قبل، أبدو بينهم كعشبة ضارة، الجميع - ربما- لا يراني إلا برميل نفطٍ وبلادة!.

هذا الاحساس بالدونية لم يأت من فراغ، فإهمال مسؤولينا في جميع المجالات الاجتماعية والسياسية، جعلتنا نفغر أفواهنا دهشة لكل ما نشاهده عند هذه الدول، التي - اكثرها - لا تمتلك ما في بلداننا من ثروات وأموال مكدسة، لم تستغل في اسعاد مواطنيها، بل اصبحت سبباً للعذاب، وبقيت جوانب حياتنا؛ الصحية والتعليمية والعمرانية، في ذيل القوائم التي تصدرها بعض المنظمات العالمية، للمقارنة بين شعوب المعمورة، التي صرنا نحسب عليها عبئاً، ما الذي نتعلمه في مدارسنا، لم نزل نعيش في اوهام ماضينا الذي لا نرضى ان نودعه، حتى معارفنا هي لنا وحدنا، فقد هجرها الآخرون وباتوا يلاحقون التطورات العلمية التي تتجدد كل يوم: "الجميع ينصتون الى المحاضرة ويهزون رؤوسهم، يبدون كأنهم يتلقون معلومات يألفونها، وحدي اضيع في اللا أدري، يتضمخ وجهي عرقاً أحاول – عبثا – أن أهز رأسي مثلهم".

الرواية بدأت بإهداء صارخ:"الى جميع "ضواري هذا العالم"، وهو تعزيز لرمزية العنوان الرئيس، فكل بلداننا العربية لا تختلف حكوماتها في اهمال شأن مواطنيها. بلداننا التي تضم الناس الطيبين والبسطاء، تضم ايضا "الضواري"، والضواري هي الحيوانات التي تصل وحشيتها الى حد الافتراس والقضاء على بعضها البعض، لمجرد رغبتها في الحصول على ما ترغب به، حتى لو كان ذلك على حساب هؤلاء الناس البسطاء ولو كانوا مواطنين معهم في بلدانهم!

تضمنت الرواية فصلين وهذان الفصلان تكونا من 26 مقطعا. 13 مقطعا لكل فصل؛ الفصل الأول الذي استهل بـمقطع شعري: "عندما تندس الطفلة الصغيرة/ داخل لحاف من غيمٍ ومطر/ وتحلمُ بالشمس/ ستكبر/ نجمةً مجنونة!" وهذه الكلمات هي اشارة واضحة إلى الشخصية الرئيسة في الرواية "فرح" التي تكشف لها مشاركتها في أحدى المسابقات العالمية في بلدة اوربية صغيرة "إبسالا" ما غاب عن بالها، وهو يغيب عن بال كل ناس بلدها، عندما شاهدت هذه البلدة الصغيرة التي اقيمت فيها المسابقة العلمية، وما ضمته من جمال لطبيعتها واهتمام مسؤوليها بها، وتوفير كل شيء لمواطنيها، بأمكانياتها البسيطة. في هذه المسابقة عرفت مدى تخلف بلدها وبلداننا العربية، عن ما وصلت اليه الدول الاخرى، على الرغم من كل الثروات الهائلة التي تمتلكها دولنا العربية، لكن مواطنيها لا يجدون ابسط الاحتياجات الانسانية! وهذا الواقع الذي اكتشفته في سفرتها سوف يؤدي بها الى الاحساس بالحيف والتخلف الذي تعيشه في بلدها! فتتغير مشاعرها الى بغض بلدها، بعد ان تربت على حبه والتفاني من اجله. وعندما يتكلم لها ضاري عن الكويت التي حرمته من ان تهبه جنسيتها رغم أنه ولد فيها! "وكأن الحياة تسخر مني. لم تكن ثمة شرفة أطل منها على الكويت الا من خلالك، أنت الذي ما فتئت تنتهز أية فرصة لتسدد طعنة أخرى لقدسية الوطن، تجيء بالشكوك فوق الشكوك، تلقي بها في حجري لتتأمل - بتشف كاف- مصرع ثوابتي.

الفصل الثاني استهل ايضا بـهذه الكلمات: "كل شيء/ يتكوّر/ مثل حزني/ في دمعة!"

ويحسب لهذه الكاتبة انها تطرح قضية كبيرة في بلدها الكويت وهي قضية "البدون" فالفصل الثاني يبدأ بهذه الكلمة، وهي كلمة متداولة في بلدان الخليج. تطلق على الوافدين لهذه البلدان، بعد اكتشاف النفط ووصول مواطني دول الجوار، الذين يبحثون عن فرص العمل وتمني حياة افضل لما كانوا يعيشونه في بلدانهم، وهؤلاء الـ"بدون" الذي استوطنوا منذ عشرات السنين، بل اكثرهم ولدوا في هذه البلدان النفطية التي لم تمنحهم جنسيتها التي تكفل لهم بعض من الامتيازات التي يحصل عليها مواطنوا البلد الاصليين. وفي هذا الفصل الذي يكشف لها ضاري عن مشاعره المتناقضة عن الكويت فهو بقدر ما يهرب من الكويت، لانها مثل أم تركت رضيعها، حرمته من ما وجب عليها ان تعطيه من حنان وأهتمام، تبقى الكويت هي الحبيبة التي لا يستطيع ان ينساها رغم ابتعاده عنها، وعندما تحين له الفرصة ليساعد احد مواطنيها في حضور مؤتمر علمي لا ينسى ان يعبر عن حبه للكويت بمشاعر مرتبكة متداخلة: "هذا الذي أمارسه فيك الان، انتقامٌ طفيف ومؤذٍ، أنا اشوه فرحكِ التافه بوطنٍ أعي ابعاد فتنته، أستبسل لأجعلك تشبهينني وهو لا تعين خطورته بعد، أنتِ الكويت بتفاصيلها الباذخة مصبوبة في هيئة أنثى، اشتهي إيذاءكِ، لكنك لن تشعري بالأذى إلا لاحقا، بعد ان تتسلل دماء المنفى الباردة الى عروقكِ، وتجدي ارتطامك بالوطن مؤلماً ودونما شغف.

ما الذي يربط ضاري بهذا الوطن الذي لم يهبه ما اراده، وهو القليل؛ ليس سوى الابوة التي فقدها منذ كان صغيراً يبيع مناديل عند اشارة المرور، ان تعيش بلا مستقبل، بلا ضمان، تلاحقك السلطات تطرق ابواب الآخرين من أجل كفالة أو ما شابه: " أحد عشر عاماً قضيتها في المنفى أبذل جهدي لكي أتواءم مع كل ما لا يشبهني، فهذا أنا في النهاية لا أشبه وطني ولا منفاي".

بعض الروايات التي تقرأها، تتمنى ان لا تنتهي، وان تبقى تعيش في اجوائها، وهذا دليل على ان كاتبها او كاتبتها قد بذلت جهدا كبيرا وعاشت صراعا طويلا لانجازها، وليس هذا فقط، ولكن، استطاعت ان توصل الفكرة أو الصورة التي ارادت ان توصلها لقرائها بنجاح. ولا ابالغ اذ اقول انه نجاح كبير للكاتبة بثينة العيسى في عملها الروائي الاول هذا، فقد استطاعت ان تمتلك قدرة وخبرة الآخرين ،الذين امتلكوها بعد رواياتهم العديدة التي كتبوها، واكتسبوا بها امكانية التحكم في قرائهم بعد اجادة هذا الفن، بينما هي حققت هذا الانجاز في روايتها الاولى، وهذا ما يحسب لها أيضاً.

استعانت الكاتبة في روايتها هذه على تقطيع النص إلى مجموعة من المقاطع، واسلوب التقطيع هذا يعتبر عملية منهجية مفيدة، تُسهل تنقل الكاتب بين أحداث الحاضر واسترجاع الماضي. وهي ضرورية لخدمة مسار السرد الذي يتحكم في بناء النص، ومن المعلوم أن السيميوطيقا قد أولت عناية كبرى لعملية التقطيع، لما لهذه العملية من فوائد علمية ومعرفية، حيث تساعد السارد في إيصال صورة متكاملة لما أراد ان يخبر به متلقيه القارئ، فكل مقطع سردي؛ "الفصل أو أجزائه الـ 32 مقطعا التي تكونت منها الرواية" قادر لوحده ان يكون حكاية مستقلة، وأن تكون له غايته الخاصة به، وفي الوقت ذاته يكون قادرا على الاندماج داخل حكاية أكبر، مؤديا وظيفة خاصة داخلها. لذلك استطاعت الكاتبة التنقل في سرد الأحداث الحاضرة والرجوع الى الماضي من خلال هذا التقطيع الذي استعملت له الأرقام "1... 2... 3... الخ"، لتبقى حركتها حرة في التحدث عن الحاضر والماضي والتنقل بين شخصيتي الرواية افراح وضاري، وقد حرصت الكاتبة على إنهاء اكثر مقاطع الرواية بجمل تجعل القارئ متلهفاً لمعرفة المقطع التالي، وكانت تنهيها بكلمات محملة بالسخرية واللطافة، كأنها تعتذر عن عملية نقل القارئ من مقطع الى آخر.

اللغة السلسلة والبسيطة التي كُتبتْ بها الرواية، والصورالجميلة التي تلاحقت على مدى صفحاتها الـتي تجعل القارئ مواظبا ومتلهفاً لمعرفة القادم من الصفحات، كلما انهى صفحة من الرواية أو مقطعا! تلهف لما بعده ليستشف من الجمل الرصينة، واللغة الرائقة، احداثا كانت تفاجئه بجديدها: "أشيحُ ببصري، السيارة تمضي، أنت لا تلوح، وأنا لا ألتفت".

***

يوسف علوان

"قداس الكردينال" هي  رواية للأكاديمي الجزائري سليم بتقة، والصادرة في طبعتها الأولى عن دار خيال للنشر والترجمة، الجزائر، بعدما  فازت بالمرتبة الأولى في المسابقة التي نظمتها هذه الدار في نسختها الأولى عام 2023.

تستدعي الرواية لحظة تاريخية تخص المجزرة التي قامت بها السلطات الاستعمارية ضد الأبرياء من سكان مدينة بسكرة، في 29 جويلية 1956، وهو ما يعرف في التاريخ الجزائري بـ"الأحد الأسود" حيث سقط المئات من القتلى الأبرياء في شوارع وساحات المدينة.

وقد حاول الروائي تمثيل  هذا الحدث التاريخي عن طريق عملية التخييل منتجا بذلك نصا روائيا يضاف إلى قائمة الروايات الجزائرية التي تعيد تشكيل التاريخ الجزائري خاصة الوطني منه، وتخضع بعض السرديات التي خلفها الاستعمار الفرنسي إلى مصفاة الفحص النقدي، ولهذا فأن رواية قداس الكردينال تنخرط في حقل الرد بالكتابة، من خلال تبيين مواطن العنف الاستعماري الفظيع الممارس بطريقة ممنهجة في حق الشعب الجزائري دون استثناء.

وتعيد هذه الرواية عملية استئناف النقاش الدائم الذي يخص التاريخ الجزائري في علاقته بالفترة الاستعمارية وضرورة إعادة كتابته من أسفل بعيدا عن الرؤية الكلية التي حاولت بعض المدارس التاريخية تكريسها. بمعنى حان الوقت من أجل إعادة إحياء الحوادث التاريخية التي تجاوزتها الخطابات التاريخية والإبداعية في نسختها الكلانية.

وقد تمكن سليم بتقة في عمله الروائي من تحريك السردية التاريخية المحلية/ الوطنية بتوظيف مدينته التي يعيش فيها "بسكرة" وما لحق بأهلها عام 1956 جراء الآلة الاستعمارية التي قتلت الرجال و الأطفال والنساء والشيوخ دون رحمة، وتجاهل الأمر من قبل الإعلام الاستعماري أنذاك.

وبعيدا عن السجال القائم داخل الأوساط الثقافية والأكاديمية حول الحقيقة التاريخية والتخييل الجمالي والفني، فإننا يجب أن نتعامل مع هذه الرواية على أنها خطاب أدبي يجمع كما تقول ديانا ولاس بين التاريخ الذي هو حقيقة أو واقعة وبين القص الذي هو غير حقيقي أو مخترع، ولكن هذا النوع من التخيل التاريخي قد يستهدف نوعا مختلفا من الحقيقة.

ولا تكتفي هذه الرواية بتوظيف الحدث التاريخي لموقعة ساحة الكردينال لافيجري في مدينة بسكرة فحسب، بل إنها تمزج ذلك بنوع من الذاكرة الثقافية من خلال الحديث عن هذه المدينة ونسيجها الاجتماعي ومستويات الحياة اليومية فيها، وطرق الاحتفاء وأنماط الاستشفاء وأطباق الطعام وطرق الاحتفال بالعائدين من الحج وغيرها .

وتحضر بسكرة بأحيائها الشعبية المقاومة مثل 'حي المسيد" ، وحدائقها العالمية مثل حديقة "لاندو" وكذا الشخصيات الأدبية العالمية المعروفة  التي زارت بسكرة أو حلمت بزيارتها، مثل صاحب رواية اللأخلاقي أندري جيد الذي كان "يرى جمال بسكرة في صفاء سمائها وشمسها وخضرة بساتينها، ووداعة أهلها، وفي أزقتها وحارتها ومقاهيها.. جمال لو قدر لأمير النثر شاتوبريان لكان وحيا له ولأمي الشعراء لامارتين..." ص118. وأوسكار وايلد وكارل ماركس وغيرهم.

وتتوزع شخصيات الرواية بين شخصيات تاريخية "حقيقية" وشخصيات تحيل على نماذج عاشت الحادثة المروعة ولكن ليس بالضرورة أن تكون حقيقية اسما وحضورا تاريخيا. فشخصية العيد الرجل البسيط الذي غادر قريته "أوماش"  يمثل الجزائري البسيط الذي كان يحلم بعمل يعيل به عائلته الصغيرة، والذي لم تكن له ثقافة نضالية أو حس وطني كبيريين،  ولكنه رغم هذا نجده قد رفض رفضا قاطعا أن يهان من قبل أحد الجنود الأفارقة الذين جلبتهم فرنسا الاستعمارية معها، فرفقة قريبه مسعود تمكن العيد من قتل ...جنديان ذوا سحنة إفريقية، قتلا طعنا بالسكين على ما يبدو في جميع أنحاء الجسم، أكثر من طعنة في البطن، في الظهر في الحوض وفي الوجه... ص 147

يمثل ما قام به العيد ومسعود  ردة فعل طبيعية من أناس بسطاء تم شحنهم بكمية كبيرة من كره للاستعمار الذي استعمل كل أساليب العنف ضد الجزائريين قتلا وتعذيبا وتشريدا وتجويعا وحرقا ورميا من الطائرات الحربية وغير ذلك كثير. مما خلق عندهم نوعا من العنف المضاد.

كما نقف في رواية قداس الكردينال على شخصيات فرنسية كانت تساند الجزائريين والثورة الجزائرية، ومنهم شخصية السيد دانيال صاحب فندق روايال الذي وقف ضد الجنود الفرنسيين، محاولا الدفاع عن الأبرياء ممن تعرضوا للقتل في ذلك اليوم، مما كلفه بعد ذلك السجن، فقد كان " مشاكسا وساخطا على الظلم المطبق على أهالي بسكرة وأبنائهم..."ص 84.  وهو الذي تمنى أن يكون "قادرا في يوم الأيام على شرح كيف أمكن هؤلاء المرضى نفسيا أن يحولوا بلدا متحضرا مثل فرنسا إلى آلة قتل بليدة، وعديمة الأخلاق." ص191

كما  يأتي أيضا استحضار لشخصيات تاريخية منهم شباح المكي و "موريس لابان" وغيرهم

وقد استطاع سليم بتقة في روايته أن يجمع بين مسويات ثلاثة من اللغة، اللغة العربية التي كتب بها العمل، ومستى اللهجة الجزائرية في نسخة أهل بسكرة وقد استعملها في أغلب حوارات الشخصيات التي تعيش حياة عادية وبسيطة مثل العيد ومسعود و"نانا هنية" وبولخراص وغيرهم، ومستوى اللغة الفرنسية حيث جاءت معظم حوارات الجنود والساسة الفرنسيين باللغة الفرنسية.

وتستند الرواية في رسم هذا اليوم الأسود  في حياة الجزائريين على تفاصيل مروعة تعيد تمثيل العنف الهمجي الذي مارسه الاستعمار في شوارع المدينة إلى حد العبث، فقد قتل بعد أسبوعين من احتفال الرابع عشر من جويلية المئات دون تمييز بينهم، ...فهذا صبي   في العاشرة من عمره يركض باتجاه الرصيف..كان شاحبا جدا..وخائفا لدرجة أنه نسي أن يتوقف أمام ضابط قادم من المقر الرئيس للقوات الفرنسية..قبض عليه هذا الأخير ودون أن ينبس ببنت شفة، سحب مسدسه ووجهه نحو رأس الصبي وأطلق النار..." ص 165

ويمكن لنا أن نقول بأن رواية قداس الكردينال قد استندت على الذاكرة من أجل إعادة بعث الماضي وتدويره، والخروج من سجنه، فمن مهمات الذاكرة هو عدم سجن أنفسنا داخل الماضي، بل السعي إلى تخليصه من النسيان. خاصة إذا استحضرنا الاهتمام البليغ بمبحث الذاكرة في الدرس التاريخي المعاصر. والتخلص من السرديات الكبرى التي كرستها الكتابات الكولونيالية. ولهذا يرى "كروين لي كلاين  أن الذاكرة لها القدرة على إعادة الفتنة والسحر إلى علاقة الأفراد بعالمهم الذي يعيشون فيه، والقدرة أيضا على استرجاع الماضي في الحاضر والعكس مرة أخرى.

وتحضر مدينة بسكرة في هذه الرواية باعتبارها فضاء مركزيا تؤثث داخله الأحداث، ولكننا مع نكتشف أخيرا أن هذه المدينة هي بطل الرواية، وليست شخصيات العيد ومسعود وسي بوبكر ودانيال والتجار اليهود والجنود الأفارقة ورجال السياسة والدين الفرنسيين، بل إن بسكرة هي التي تنتصر في الأخير كونها تملك مقومات حضارية وثقافية وذاكرة تاريخية تمكنها من تذويب كل هذه النماذج البشرية وتجاوزها.  إنها بمثابة المدينة: الحلم والذاكرة.  فقد رأت "نانا هنية" في حلمها أن مدينة بسكرة "قد استعادت حياتها المفقودة، عاد إليها أطفالها .. وادي سيدي زرزور يجلب حرارة الصيف إلى حوافه..تتزاحم القوارب عند شطآنه  لنقل أنواع التمور والبرتقال والزيتون.. كما عادت أمسيات الصيف وامتلأت المدينة بالإلهام مثل كأس الشاي المنعنع واهتزت ساحة الكردينال لافيجري بضوضائها المعتادة من الفجر، تألقت الأضواء الكهربائية  متحدة مع وهج الشفق..كأنما هو يوم احتفال..في نهاية هذا الشارع الجميل، أقيمت حفلة مثل حفلة زفاف مضاءة بالشموع، وبأصوات الأبواق والطبول." ص196.

يمكن لرواية قداس الكردينال أن تكون ضمن النصوص الروائية ذات الطابع التاريخي التي تساهم في إنتاج خطاب أدبي ليس ضدا للدرس التاريخي، بل يتقاسم معه مهمة تخليص الذاكرة من كل أنواع النسيان. وتخليص التاريخ من سلطة السرد الكولونيالي.

***

طارق بوحالة

"يا مريم" رواية للكاتب سنان انطون، صدرت عام 2012 عن منشورات الجمل، ترشحت لجائزة البوكر العربية عام 2013 ووصلت إلى القائمة القصيرة. وهي الرواية الثالثة له بعد روايتيه؛ "اعجام" التي صدرت عن دار الآداب عام 2004، ورواية "وحدها شجرة الرمان" عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، عام 2010. حاول الكاتب في روايته هذه ان يصور لنا جزءا مما يعانيه المسيحيون في العراق وبالأخص بعد 2003، وعمليات القتل والتفجير التي تطال هذه الفئة من الشعب العراقي. غير ان استهداف هذه الفئة، وهي ثاني ديانة في العراق من حيث عدد الأتباع بعد الإسلام، ومُعترَف بها حسب الدستور العراقي، ليس بمعزل عن ما تتعرض له باقي فئات الشعب العراقي.

استفاد الكاتب من أسلوب التقطيع الذي كتب به الرواية، فقد قسمت الرواية الى خمسة فصول وقسمت الفصول الى عدة أجزاء. ويعتبر تقطيع النص إلى مجموعة من المقاطع الصغيرة أو الكبيرة، عملية منهجية مفيدة تُسهل تنقل الكاتب بين أحداث الحاضر واسترجاع الماضي. وهذه العملية ضرورية لخدمة مسار السرد الذي يتحكم في بناء النص، ومن المعلوم أن السيميوطيقا قد أولت عناية كبرى لعملية التقطيع، لما لهذه العملية من فوائد علمية ومعرفية، حيث تساعد السارد في إيصال صورة متكاملة لما أراد ان يخبر به متلقيه القارئ، فكل مقطع سردي "الفصل أو أجزائه" قادر لوحده ان يكون حكاية مستقلة، وأن تكون له غايته الخاصة به، وفي الوقت ذاته يكون قادرا على الاندماج داخل حكاية أكبر، مؤديا وظيفة خاصة داخلها. لذلك استطاع الكاتب التنقل في سرد الأحداث الحاضرة والرجوع الى الماضي من خلال هذا التقطيع الذي استعمل له الكاتب الفصول والأرقام، لتبقى حركته حرة في التحدث عن الحاضر والماضي والتنقل بين شخوص وأحداث الرواية، التي ظلت الشخصية الرئيسة فيها "يوسف" تعيش الحاضر من خلال الماضي.3746 سنان انطوان

الرواية تستعرض لنا "رؤيتين متناقضتين لشخصين من عائلة عراقية مسيحية، تجمعهما ظروف البلد تحت سقف واحد في بغداد" كما جاء في الغلاف الأخير للرواية، هاتان الشخصيتان شاهدنا الكثير منهما في حياتنا، فالشخصية الأولى "يوسف"، "رجل وحيد في خريف العمر، يرفض ان يترك بلده، متشبثاً بخيوط الأمل وبذكريات ماض سعيد حيّ في ذاكرته، ومها، شابة عصف العنف الطائفي بحياتها، فشرد عائلتها وفرقها عنهم لتعيش لاجئة في بلدها، ونزيلة في بيت يوسف". ومثل الكثيرين من عائلة يوسف، تفشل مها في جعله يترك العراق وبالأخص بعد ما يتعرض له المسيحيون من استهداف من قبل الميليشيات الإسلامية المتشددة من خلال المضايقة عليهم وإجبارهم على ارتداء ما لا يرغبون ارتداءه، ومحاربتهم كذلك في قطع أرزاقهم، فهو يرى أن الظروف التي يمر بها البلد طارئة ولديه أمل ان يعود البلد الى ما كان عليه. وهي لا تتوقع ان تتحسن ظروف البلد الذي لم يعد صالحاً للعيش بالنسبة لهم، بسبب ما يتعرضون له من تهجير وتهميش، وعندما يصر كل طرف منهما على رأيه تحاول مها ان تلقي بآخر ما عندها من الأسلحة، وهو اتهامه بأنه يعيش على ماض لم يعد موجودا "إنت عيش بالماضي عمو!". وتتركه لتصعد الى غرفتها في الطابق الثاني.

تبدأ الرواية في الفصل الأول الذي يحمل عنوان "ان تعيش في الماضي" من نقطة الاختلاف بين يوسف ومهما التي وصلت الى اللاعودة.. عندما تصرخ مها بصوت مرتفع "إنت عيش بالماضي.." تثير هذه العاصفة التي أحدثها الوصف تساؤله: إذا كان الحاضر مليئاً بالبشاعة؛ متفجرات وقتل على الهوية؟ فلماذا لا أعيش في الماضي، كما اتهمتني؟" لكنه يتردد "يجب أن أسامحها، فزمانها غير زماني، وشبابها غير شبابي. هي فتحت عينيها الخضراوين على الحروب والحصار وذاقت طعم القحط والقتل والتشرد مبكرا، أما أنا فقد عشت أزمنة الخير وما أزال اتذكرها وأصدق بانها حقيقة".

كأن الحاضر المؤلم الذي يقاومه بكل عزم ويحاول أن يتخطاه، أصبح كبيرا حتى بالنسبة إليه، فبات يتوجس عندما يتذكر الماضي الذي عاشه وهو الذي يمتلك القدرة على استعادته، في أفكاره، كأن هذا الحاضر يحاول أن يشكك في داخله صدق ذلك الماضي الجميل!.

في الفصل الثاني من الرواية الذي وضع له عنوان "صور"، ومن استعراضه لهذه الصور التي يصل عمر البعض منها أكثر من نصف قرن، يرسم لنا يوسف تاريخ عائلته واصفا تعلق والده بالإصرار على لبس "الصاية واليشماغ، ولا يقبل ان يلبس (البنطرون) اعتزازا بموروثه، مستعرضاً أفراد العائلة والى ما آل إليه هؤلاء الأفراد في الوقت الحاضر: "تفرقوا بعدها في ارجاء البيت وأرجاء الدنيا ليظهروا في صور أخرى".

الأخ الأول غازي يعمل في "الآي ي سي" في كركوك حتى عام 1961. جميل يعمل مع شركة شاكر ابراهيم واخوانه، ثم يسافر الى بيروت عام 1969 بعد ان يعدموا صديقه بتهمة الماسونية. الياس يدرس الحقوق لكنه يتورط في السياسة ويدخل السجن عدة مرات. ميخائيل يعمل بعد تخرجه من كلية بغداد مترجماً مثل يوسف.

صورة أخرى ليوسف يرتدي بذلة داكنة وربطة عنق ويجلس وراء مكتب اصطفت فوقه ملفات وأوراق، استغل أوقات الفراغ في مطالعة بعض الكتب التي كانت متوفرة في مكتبة الدائرة الصغيرة وكان معظمها عن الزراعة والتجارة. كتاب لأحد المستشرقين؛ السير روجر كنغسلي عن الشجرة المقدسة "النخيل في الجصارات السامية" فتنته المقدمة التاريخية عن النخيل ومكانته عند العراقيين القدامى. كانت النخلة تحتفظ بمكانة مقدسة فتوجد نقوش وصور تمثلها في هياكل بابل وآشور وعلى جدران المعابد ومداخل المدن والعروش والتيجان. كانت شريعة حمورابي تقضي بتقديم كل من يقطع نخلة.

وتنص مادة اخرى على ان لا يهمل الفلاح بستان النخل وان يسهر على مراقبة الطلع وتلقيحه. وبمرور الزمن أصبحت النخلة شبه مقدسة لدى يوسف أيضا لأنه مدين برزقه لها وللملايين من أخواتها.

وتتكلم إحدى الصور عن أوقات الدراسة التي قضاها يوسف مع زميليه نسيم حسقيل وسالم حسين عام 1950 ، وعن إسقاط الجنسية عن اليهود، واصرار (ابو نسيم) على البقاء في العراق وكان نسيم يكرر ما يقوله ابوه: "إنها غيمة عابرة وإنهم سيظلون في العراق". ورغم اصرار ه على البقاء إلا ان الأحداث التي تلت ذلك والتي استهدفت اليهود اجبرت عائلة نسيم حسقيل على الهجرة إلى إسرائيل. ولهذا تصف مها ما يتعرض له المسيحيون في الوقت الحاضر بتهجير اليهود في العراق.

ورغم ان الصور التي تملأ الغرفة والتي تملأ الالبومات التي تحتفظ بها العائلة في حقائب وأماكن أخرى تساعده على تذكر الماضي الجميل الذي عاشه، إلا أن صورة واحدة يحتفظ بها يوسف في ظرف صغير في دولاب غرفته وفي كل مكان على جدران قلبه وروحه: "وبالرغم من ان الكثير من زوايا قلبه قد غرقت في عتمة خريف العمر، إلا انها كانت تضيء نفسها بين حين وآخر عندما تستيقظ الذكريات".

إنها صورة "دلال" التي أحبها والتي كانت تصغره بأكثر من عشرين سنة، كما أنها كانت مسلمة وهو مسيحي، وهذا يعني جبالا اجتماعية شاهقة الارتفاع لابد من تسلقها.

يذكر رومان ياكبسون: أن للعنوان وظيفة انفعالية ومرجعية وانتباهية وجمالية وميتالغوية، وهي اللغة الصورية، وتسمى أيضاً باللغة الواصفة. وحسب معرفتي البسيطة ان سنان انطوان في روايته هذه من قلائل الكتاب الذين استعملوا تكرار العنوان الفرعي بقصدية واضحة أراد منها أن ينبه القارئ إلى أن الفصل الأول من الرواية الذي حمل عنوان "ان تعيش في الماضي" ما زال مستمراً بعد الفصل الثاني "صور" من خلال تكرار العنوان في الفصل الثالث "ان تعيش في الماضي" وهذه حالة من التقطيع الذي أجاد بها، واستطاع أن يعود الى الحاضر مستعرضا لقاءه بصديقه الوحيد الذي بقى له، سعدون الذي يجيد حفظ الشعر وإلقاءه، ويسأله سعدون ما الأمر الذي يشغل بالك؟ عندما يشاهده مهموماً. يخبره يوسف عن ما دار بينه وبين مها، فيجيبه سعدون بكل عفوية:

"أي مو چذب هالحجي، تره إحنا انتيكات، هذا اللوتي أوس هذاك اليوم يكوللي: جدو أنت شگد قديم، تصور".

في الفصل الرابع "الأم الحزينة" يصف لنا الراوي ما تعرضت له مها وعائلتها من تهجير وتهديد وتفجير سيارة ملغمة أمام بيت أهلها في الدورة يسقط على إثرها طفلها الذي تحمله، والذي كان الأمل الوحيد الذي يبقيها متحملة البقاء في البلد حتى ولادته، لكنها تخسره بسبب هذا الانفجار الذي تتبعه انفجارات أخرى في المنطقة التي يسكنها الكثير من المسيحيين. والذي سبقته تهديدات عديدة تعرضت لها عائلتها وبقية العائلات المسيحية، وتسميتهم بأهل الذمة ومطالبتهم بدفع الجزية أو اعتناق الدين الإسلامي. ثم اختطاف خالها الذي اخذ المختطفون منهم الفدية ثم قتلوه، وتهجيرهم من الدورة وذهاب عائلتها، مثل الكثير من الأسر الى عينكاوة او مناطق أخرى في محافظات شمال العراق التي يسكن فيها غالبية من المسيحيين. "روحي وجدت ملاذاً في عالم آخر أطل من نوافذه على آلام القديسين واحزان العذراء وأبنها".

في الفصل الخامس الذي كان تحت عنوان "الذبيحة الإلهية" يصور لنا الأحداث التي جرت في كنيسة النجاة في بغداد عام 2010، وقد ثبت المؤلف في نهاية الرواية في صفحة منفصلة ملاحظة: "تتقاطع أحداث الرواية مع حادثة الهجوم على كنيسة النجاة في عام 2010، لكن النص وشخصياته من نسيج الخيال، وأي تطابق او تشابه في الأسماء غير مقصود". فلماذا "الذبيحة ـ يوسف" الذي سار بأقدامه الى الكنيسة كأنه يعرف ان اليوم سيكون هو الضحية التي سيقدمها مع الآخرين فداءاً عن طائفته المسيحية تشبهاً بالتضحية التي قدمها "يسوع المسيح على خشبة الصليب ودمه الذي سفك من أجل آثامنا. الرب يسوع مات بدلا عنا . البار من أجل الأثمة. قدّم نفسه قربانا من أجلنا مرّة واحدة وإلى الأبد، فبواسطته نلنا المصالحة مع الله وأصبحت لنا الثقة بالدخول إلى محضر الأب بدمه. طريقا كرّسه لنا بجسده، أمام الله كلنا بدون استثناء خطاة وبحاجة إلى التكفير عن ذنوبنا"

أثناء الصلات التي تقيمها الكنيسة قرأ الأب ثائر بصوته الرخيم وقال للمصلين: "فلنصلي يا أحبتي كي يعم السلام في بلدنا الحبيب وننعم به جميعاً. وندعو لله كي تتشكل حكومة جديدة تحافظ على سلامتنا وتحمينا".

اقتحمت أصوات إطلاق رصاص الكلمات التي كانوا يرددونها. ارتبك البعض في أول الأمر وسرت همهمة، لكن الغالبية استمروا في الصلاة، فقد تعودوا على اصوات إطلاق الرصاص والانفجارات في السنين الأخيرة".

ارتبك يوسف وظل واقفاً لا يعرف ما الذي يمكن له ان يفعله. لمح مها تندفع من أقصى اليسار الى المذبح. هم باللحاق بها وناداها مرتين لكنها لم تسمع. لأن الأبواب الثلاثة التي في المدخل كانت قد انفتحت على مصراعيها، ودخل رجال يحملون رشاشات وبدأوا بإطلاق الرصاص بكافة الاتجاهات وعلى كل شيء. انبطح يوسف ارضاً مثل البقية.

ظل جسد يوسف مسجى على ارض الكنيسة لأكثر من اربع ساعات. قبل ان يحمل الى الخارج بعد تخليص الرهائن واخلاء الجرحى، كان محاطاً باشلاء بشرية وبقطع الزجاج المكسور والجص وببركة صغيرة من الدم الذي ظل ينزفه.

"وقبل أن يسكت قلبه كانت شفتاه قد همستا بصوت خافت "يا مريم" لكنه لم يكمل جملته. ظلت عيناه مفتوحتين حتى وهما تغرقان في ظلام الموت".

***

قراءة : يوسف علوان

إذا أردت أن تقرأ عن الألم والوجع.. اقرأ صباح بشير

إذا أردت أن تقرأ عن الأمل.. اقرأ صباح بشير

إذا أردت أن تقرأ عن القهر والعذاب والظلم.. اقرأ صباح بشير

إذا أردت أن تقرأ عن العناد والإصرار ومجابهة الحياة.. اقرأ صباح بشير

تنطلق الكاتبة صباح بشير معنا في رحلة مع البطلة حنان لتخوض معترك حياة قاسية، مارس فيها النّاس أبشع صور الظّلم والجبروت، وانضم الزّمان هو الآخر ليكون عونًا لهم في النّيل من الإنسان الآمل المتفتّح المتنوّر، الباحث عن الذّات المقهورة أو المحروقة داخليًّا دون أن يحسّ أو يشعر بها أحد؛ ولهذا نجد العذابات والمعاناة والقهر الذي لا حدود له، فقد حملت البطلة من الهم ما تنوء بحمله الجبال، غير أنّها قاومت وصبرت وعاندت الرّياح العاتية الّتي كانت تعصف بها في كلّ مرحلة من مراحل حياتها.

تعود بنا الكاتبة بالبطلة إلى الوراء، بعد أن ضّلت بها الطّريق وتاهت بها السّبل، لا بل ضاعت في غياهب المرغوب والممنوع، والحلال والحرام، وهربت الأمنيات والأماني، وعادت بنا معها إلى ذكريات الطفولة، حيث فات ما فات من جميل الأوقات، وبعد أن أغلقت الحياة أبوابها، غير أنّ اليقين كان حاضرًا وإن بدا نور الأمل خافتًا، وبمزيد من الصّبر والقوّة والإرادة اشتعل الأمل من جديد وتوقّدت شعلته، حيث تنبعث الحياة ثانية دون أن تنكسر أو تستسلم، وإن كانت نادمة على شيء من الماضي الذي علّمها الكثير. يمكن عزو ما ورد في هذه الرواية إلى الأدب التذكاري الذي يستند في حقيقته على أحداث واقعيّة في إطار ذاتي أو غيريّ يتم تسجيلها.3344 صباح بشير

ونحن نقرأ الرواية نشعر بأنّنا نعايش أحداثًا ألفناها أو سمعنا عنها كثيرًا في الواقع المعاش، وما من شكّ أنّ الكاتبة استطاعت وبنجاح أن تكتب للحياة انطلاقًا من الواقع، ذلك الواقع الذي أنتج هذا النّص الرّوائي الرّصين، ولولا أنّ النماذج الواقعية لحنان وأضرابها من النّساء ما كانت موجودة في المجتمع، ما استطاعت صباح أن تكتب روايتها هذه.

يشعر القارئ لهذه الرواية التي تندرج ضمن الرواية الواقعية كما أسفلت بأنّ حروفها تتفكّك وتتنافر، وتلتقي ثانية لتتآلف على مساحة أسطرها التي تطول، وينطق بها قلب حزين مكلوم.

تطالعنا هذه الرواية بالحديث عن عالمنا الشّرقي المليء بالتناقضات التي تعود بنا إلى الزّمن الغابر، وهذا منوط بطبيعة المجتمع ومكوناته وعاداته وتقاليده المتأصّلة في ذات كلّ فرد، وتمثّل انعكاسا واضحا للقناعات المترسّخة في الضّمير والوجدان مهما تقدّم الفرد وارتقى علمًا وثقافةً وحضارةً وفهمًا، غير أن عُقدة العُقد تنحصر في "القال والقيل" نهجًا لا يفارق مسرح الحياة الواسع، وهذا ما يضيّق الحياة على الرّغم من فضائها الرّحب ومساحتها الممتدة.

من يقرأ هذا العمل يتجرّع الأنين ويتحسّس الآهات، ويتفحّص الأوجاع والعذابات التي تذيب القلب من شدّة الكمد، وتفيض العيون بالدّموع حزنًّا وألما على الحظّ العاثر، بعد أن كانت البطلة حنان تعيش جسدًا بلا روح بعد زواجها الأوّل، حيث الإهانات، والسّباب، والنّكد، والغيرة، والحسد، والكيد، ويكشف القاموس الحافل للكاتبة عن وجه قاتم لمجتمع لا يرحم، فما من مفردة إلا وخَلْفَهَا التّنهيد والوجع، والغُصّة، والحُرقة واللّوعة.

وما من شكّ في أنّ الظّلم أبشعُ شيء في الحياة، فالبطلة حنان ظلمت كثيرًا، ولم تُقدّر أو تُحترم، وهنا الألم، فقد ظُلمت من الحماة، والزّوج، والأخت، وزميلات العمل، لا لشيء إلّا لأنّها تختلف عنهم في الفكر أوّلًا، والجمال الذي يكون أحيانًا وبالًا على صاحبه.

ومن يتلقّف هذا العمل لن يستطيع الفكاك من وقع الأنّات والجراحات الغائرة التي انصبّت كسياط عذاب على البطلة (حنان) التي تمثّل قولا واحدًا واقع الأنثى في مجتمعنا الشّرقي، الذي لا يعرف من معايير الحياة سوى بداية بعض الجُمل وأنصاف الآيات والأحاديث، ولا بل يحصرها أحيانًا في الأمثال الشّعبية، دون أن يلقي بالا لما يحدثه ما يفوه به من كلام قاس كالحجارة أو أشدّ قسوة، ويُشعل نارا تتأرجح بين الطّاعة والحياء والأدب، وكل هذا يقتلها ويظهرها ضعيفة وإن بدت على ملامحها أمارات القوّة أحيانًا، فيشعرها على الدّوام بأنّها بحاجة إلى سند ينتشلها كجثة هامدة من بين ركام الجهل والحقد والغيرة والكراهية .

"رحلة إلى ذات امرأة" رواية تجذب القارئ وتدفعه لمواصلة فعل القراءة، إذ يتشارك المتلقي مع الأديبة ما فيها من قسوة وحبّ وحنان وحزن وأمل على الرّغم من قساوة التّجربة التي تكرّرت مرّتين، في المرة الأولى لم يكن لها رأي في الاختيار، فكانت التجربة قاسية جداً، وحريّ بنا الإشارة إلى أنّ تجربة الزواج الثانية كانت باختيارها، وهذا ما عمّق المأساة وفتح الجرح ثانية، وعليه فهي المسؤول أولا وأخيرا عن هذا الاختيار، ومع ذلك فإنّنا لا نستطيع أن نراهن على تجربة متواضعة ضمن صداقة بين زميلين نجاحا أو فشلا من خلال موقف، غير أن الخوف من الخذلان ظلّ ملازما لها على الدّوام خوفا من تكرار التّجربة، وبالفعل شخصت العيون وتحقّقت الظنون وكان ما كان.

تحاول الكاتبة أن تشي بأنّ الغيرة من ثقافة البطلة وجمالها هي السبب الكامن وراء تحطيمها، في ظل وجود صورة تتناقض تمامًا معها حيث العجز والنّقص، والرّغبة في تعويضه عن الهيمنة الذكورية.

برعت الكاتبة في رسم الشّخصيّات وإبراز صفاتها المعنوية والحسّيّة، وكذلك الأمكنة، والمشاعر والأحاسيس، ولديها خيال خصب واسع فيّاض، دون أن تغرق في طغيان الخيال على الموصوفات، وقد جاء كلّ ذلك في سياقه الطّبيعي، دون أن يكون مقحمًا على المشاهد الموصوفة، ولهذا الوصف أثره في التّأثير على القارئ في الأحداث التي سيقرؤها لاحقًا، وبدورها تعمّق الرّؤية لدى المتلقي بحيث تجعله يعيش المشهد وكأنّه ماثل أمامه. وهذا ما لمسته وأنا أقرأ هذا العمل.

الشّخصيّات:

صورة الأب: من الشخصيات النامية في الرواية، والتي كان لها حضورها البارز، فقد كان دائما في موقف إيجابي على العكس تمامًا من الأم التي كانت تمثل الجانب السلبي في كل موقف، وهي قريبة إليه أكثر من الأم، وهذا النّموذج يتناقض مع الواقع في المجتمعات الشّرقيّة.

نماذج نسائية متناقضة:

تقصّدت الكاتبة استحضار نماذج نسائية متناقضة لتكشف لنا من خلالها عن الفوارق في التفكير.

البطلة حنان: الحالمة العاشقة، الرّقيقة الودودة الطيبة، مرهفة الأحاسيس والمشاعر، مترددة لم تجد الطريق إلى نفسها منذ البدايات، بعد أن ترك زواجها الأول لاختيار الأهل. محطات من حياتها شكّلت مرتكزا ومحورا أساسيا في الرواية، لا تعرف اليأس والاستسلام، مضت تواجه إعصار الحياة بإرادة صلبة، على طريق تحقيق الحلم ورغم شدّة الضَربات قررت أن تخطو الخطوة الأولى فدرست وتعلّمت، وكدّت وتعبت، وحاولت تغيير حياتها لكنّ التعاسة ظلّت ملازمة لها.

صورة الأم: لها شخصية مزدوجة، فتارة تبدو رحيمة عطوفة، وأخرى رعناء متهورة، سريعة الغضب، تحسب حسابًا للناس والمجتمع على حساب تعاسة ابنتها، ويتجلى هذا في موقفها من زواج ابنتها الأوّل، وهي سريعة الأحكام، فمن أول لقاء حكمت على عمرَ بأنه إنسان طيّب، تفسّر الأمور على هواها، فتفسر الرّفض بالتمرّد. تقول: "عمر إنسان طيب بسيط لا ينقصه شيء، العيب في طريقة تفكيرك وتمرّدك، تعلّمي كيف تتعاملين معه، كوني له أمة يكن لك عبدًا". وتنعت ابنتها بالتكبر والاستعلاء، وهي سطحية التفكير إذ إنها تبرر نتيجة توتر العلاقة بين ابنتها وزوجها بالحسد، وبتعليل بائس "عين وصابتكم"، ولديها مشكلة في إيجاد الحلول للخروج من المأزق متذرعة بكثرة الإنجاب حينا، والملاطفة والاحتواء حينا آخر، وحينما تفشل تلقي باللائمة على القدر، فتقول لابنتها: "هذا قدرك" ألم تكن هي السبب وراء كل ما حصل لها؟ تقول على لسان حنان صفحة 155" لقد دمرتني مفاهيم والدتي المترسخة عن الزواج في مجتمعنا".

أم إبراهيم: أم الشّهيد خالد، قويّة، صابرة، مناضلة، غير متعلّمة، مربّية فاضلة، تعتمد على ذاتها، وتنطلق للعمل لتعول أسرتها.

الأخت الصغرى غادة: بدينة، متوسطة الجمال، دائمة الانتقاد، غيورة، مراوغة، كاذبة، مفترية، مضللة، أنانية، عدوانية، حاقدة ناقمة على أختها حنان وبخاصة عندما جاءوا لخطبتها فظنوا أنّ حنانا هي العروس، وهذا ما زاد من غيرتها وحنقها.

الأخت الكبرى هبة: ذكية، جادة

الزوج الأول عمر: رسمت له صورة قاتمة في الصفحة الحادية والأربعين، فبدت كارهة له منذ أن أبصرته، وهذه الصورة مخالفة تمامًا لتلك الصورة التي رسمتها في مخيلتها لفارس أحلامها، جاء في الصفحة الثالثة والأربعين على لسان أمه أنه مرح اجتماعي، وصاحب نكتة ودعابة، غير أنّ هذا لم يكن أبدًا خلال سرد مجريات الأحداث. فلديه شخصية مزدوجة، متخلّف، ولديه نظرة مشوهة عن المرأة، مراوغ، بارع في استبدال الأقنعة. رسمت له صورة سلبية ساخرة في الصفحة 86 وكأنها تزدريه.

الزّوج الثاني نادر: مرواغ، يعرف كيف يتقمّص، كاذب، لكنها عاشت معها حياة عوضتها ولو بجزء بسيط عن القهر. نادر وعمر نموذجان متناقضان تماما، أفضيا إلى كارثة حقيقية ألمّت بالبطلة .

أم عمر: مخادعة، خبيثة، متسلطة، قاسية القلب، محرّضة تقول صفحة 109 "لا تستمع لرأيها يا عمر، ألم تسمع بالمثل القائل الفرس من الفارس"، متحجّرة المشاعر.

ماري: صديقة صادقة، متفهّمة، ذات تفكير عقلاني، على الدوام كانت الملجأ والملاذ لحنان كلّما عصفت بها الأزمات. لها نظرة في الحياة تقول الراوية على لسانها: "هكذا يربون الإناث على الحياء والخضوع" فهذه العبارة تختزل تفصيلات كثيرة.

أكثر ما أثارني في هذه الرّواية تلك اللّغة المشهديّة التي استطاعت من خلالها الكاتبة اختراق مكنونات النفس الإنسانية بعيدا عن الغرائز أو الماديّات، فكان التركيز منصبًّا على الأبعاد المعنوية كالنفسية والفلسفية بعيدا عن سرد الأحداث التي قد تبدو للقارئ السّطحي عادية، ولا سيّما أنّه يقرأ عن قضيّة باتت مألوفة لديه، غير أنّ هذا لا يتأتّى إلّا لمن ملك ناصية اللّغة، وأجاد الرّسم بالكلمات ببراعة.

في الوقت نفسه تعرض نماذج متناقضة أخرى كالصورة التي رسمتها لعم عمر المتحضر اللطيف، وزوجته الودودة،

المكان:

تركز الكاتبة في وصفها على الأماكن المفتوحة والمغلقة، قدمت لنا مقارنة بين زمنين أو حياتين عاشتهما داخل الوطن وخارجه، والذي يوازن بين الأمكنة الموصوفة يجد بونًا شاسعًا في الوصف، وإن بدا يسير على السّمت نفسه وبالطّريقة ذاتها، غير أنّ تفاصيل الأمكنة داخل الوطن تدلّ على عميق انتماء وكبير تشبّث بالأرض الّتي أحبّت، والمكان الذي عشقت – أعني القدس- تلك المدينة الّتي ظلّت حاضرة في ذهن البطلة، وحملتها قلبًا أينما ذهبت أو توجّهت، وقد أجادت الكاتبة توصيف أماكن جميلة في ثنايا الرّواية، وكأنّها ماثلة أمامنا بأدقّ تفصيلاتها. ولا بدّ من الإشارة إلى أنّ كلّ مكان له خصوصيّة جماليّة، وإن بدا مختلفًا إذا ما قيس مع غيره، فالمكان الثّاني بكلّ ما فيه من طبيعة وجمال وحياة وراحة، بدا مألوفًا لدى البطلة الّتي عاشت فيه بعد أن حاصرها أهلها وضاقت عليها الأرض، فاضطرّت إلى الرّحيل هربًا من الأذى النّفسي والعذابات الّتي كانت تعيشها كلّ يوم، وكثيرًا ما راودها الحنين إلى وطنها، إذ كانت تشعر بأنّ روحها قد انتزعت من جسدها، وظلّ صهيل الذّكريات حاضرًا كلّما عصف بها الحنين ودفعها الشّوق إلى تذكار الأحبّة.

تطرح الكاتبة عددًا من القضايا التي ينبغي الوقوف عندها مطوّلًا، وإعادة النّظر حول تلك المفاهيم وبخاصّة:

- الزواج

- الذكورية

- الطلاق ونظرة المجتمع إلى المطلقات

- الدين والفهم الخاطئ له .

إيجابيات لدى الراوية:

1- لديها نفس طويل في سرد الأحداث.

2- لغة الكتابة رائعة، فلديها قاموس ثرّ يدلّ على أنّها لديها ثقافة عالية واطلاع كبير، وما من شكّ في أنّ الكاتبة قارئة نهمة لكثير من الأعمال الرّوائية لكتّاب آخرين، وهذا ما أثرى لغتها.

3- اهتمامها بقضايا اجتماعية بحاجة إلى تسليط الضوء عليها.

4- تحاول باستمرار خلق أحداث ثانوية إلى جانب الحدث المركزي.

5- تقسيم الرواية إلى مشاهد وفصول.

6- الاهتمام بالصور الأدبية بمختلف أشكالها.

7- تطعيم لغتها الفصحى بألفاظ عامية عندما يتطلب الأمر.

8- طغت اللغة الأدبية على أحداث الرواية.

9- - المقدرة على سرد الأحداث في الرواية الواقعية بأسلوب منطقي.

10- الاهتمام بالبعد الديني والاجتماعي في سرد الأحداث.

نصائح للراوية:

- ضرورة الاهتمام بمواضع التقديم والتأخير، والبعد عن تكرار بعض العبارات التي ورد ذكرها في الرواية.

-  الوصول إلى المعنى المراد بأقل عدد ممكن من الألفاظ دون إطالة، فتكثيف العبارات من أبرز مزايا الكتابة الأدبية.

- الإكثار من قراءة الأعمال الأدبية الواقعية، لا سيما روايات نجيب محفوظ، فقراءتها سيساعد الراوية على امتلاك أكثر من مهارة، كإجادة خلق الحبكة في السرد ببراعة، والتمكن من العبارات البلاغية التي تروق للقارئ، فتجذبه للاستمرار في القراءة.

- تجنب تقديم الأحداث للقارئ، فقارئ اليوم قادر على فهم الروايات التي تنتمي لمدارس أدبية مغرقة في الغموض والترميز، فكيف بنا إذا تعلق الأمر برواية واقعية كهذه؟ فالتقديم ينزع القارئ من جو الرواية، فيتحول إلى شخص يقرأ تقريرا عاديا، كما أنه يحد من قدرة القارئ على التخيل والاندماج في الأحداث.

- الابتعاد عن تكرار الأحداث و(الفلاش باك) إلا في المواقف التي تستلزم ذلك.

- أتمنى على الراوية في الروايات الواقعية ألا تجعل العاطفة تطغى على قلمها، فنحن نقرأ الأحداث في الرواية على أنّها أمر مسلم به، رغم أن طبيعتها في بعض الأحيان كانت تدين البطلة باستمرار وبخاصة عند صمتها؛ فاستطاعت إقناعنا بأنّها ضحية زواج فاشل منذ البدايات، وهذا يتضح من شخصيتها أثناء سرد الأحداث وزاوجها للمرة الثانية يكشف على أنها متهورة بعض الشيء، وفي رأينا أنّها لم تتعلّم من التجربة الأولى، فوجدتها منساقة وراء هواها بعض الشّيء.

- لم تقنعني الراوية ولو مرة واحدة أن عمر إنسان بتلك الصفات السيئة التي خلعتها عليه زوجته، فهو رجل خلوق ومهذب على نحو ما ذكر في الصفحة 35، لكنها رسمت له في الصفحة 41+42 صورة قاتمة بشعة ركزت فيها على صفاته المعنوية، كشفت من خلالها عن رفضها الزواج به، والمرأة حباها الله بنقاط قوة كثيرة تجعلها قادرة على توجيه زوجها كما ترغب، لكن حنان لم تفلح وكانت تفتعل المشاكل، لكني هنا لا ألوم الراوية فهي تسرد ما سمعته وعايشته بأمانة.

- كنت أتمنى على الراوية أن تكون أكثر حزما في مواجهة أختها الصّغرى "غادة" .

ختاما.. برأينا فإنّ الأم هي السّبب الأوّل والرّئيس في كلّ الأزمة، تقول مثلا في الصفحة الثالثة ومن كلامها أقتبس "كل شيء تطور من حولنا آنذاك إلا تفكير أمّي"، إذ إنّ أفكارًا قديمة تسيطر على عقليتها، فهمّها الأوّل "القال والقيل"، "العيب"، "السمعة"، والرّغبة في السّيطرة وفرض رأيها، وعدم تقبل آراء الآخرين.

***

د. محمد بنات

لحسين عبد اللطيف، المعنى التلويني وحجب مرموزات الأفق الشعري، الفصل الخامس ـــ المبحث (1)

توطئة: تستدعي حالات وظواهر وأساليب بناء التشكيل الشعري، ثمة عمليات استثنائية من خواص الأذواق والادراكات والتخيلات التحليلية الضابطة في التفكير واستقراء مسارات الشعوري واللاإرادي في تكوين (الداخل ــ الخارج) من ملازمات الإجراءات النفسية الباطنة والظاهرة من مستودع الذاكرة والصور والمعاني والدالات اللاشعورية.إذن أن عملية الابداع الشعري عبارة عن إشكاليات حازمة ومضطربة في توليد حالات التجربة الجمالية والأدائية في مداليل القصيدة.. لذا تبقى خيارات الشاعر في تدوينها سوى من خلال ذلك الحلول اللاوجودي / اللاشعوري، من قرار أهميتها في توطيد التذوق للأشياء في أجلى وصولات المعنى أو اللامعنى أو الاستدلال أو اللاأستدلال كدورا أوليا في ملامسة الشعور الاستاطبقي في لذة مخاطبة الذات عبر محاور الأنا الواصفة ضمن متعلقات غاياتها في البحث الدؤوب في مجمل كليات وجزئيات الأوضاع المحسوسة من مواضع المتعلقات ذاتها الأشياء.لعلنا ونحن نطالع مجموعة (وحيدا على الساحل تركتني المراكب) للشاعر الفذ الأستاذ (حسين عبد اللطيف) واجهتنا العديد من الأغراض والملامح الفريدة في تدوين (التصور المقابل) وما تتوقف عليه من مثالات ودلالات قائمة في أشد اللحظات مغايرة ومزاولة في الوعي الشعري عبر حالاته (الباطنة ــ الظاهرة) وما ينبغي التأكيد عليه في ما يخص الغائية القصوى ــ التراكزية ــ في أفعال قصيدة الشاعر، هو ذلك الجهد المعادل في تعيين صفات التسوية الناجزة بين الذات كلحظة انبثاق وتصريح، وبالفكرة كمجاورة في حدود المقاربة الفعلية للقصيدة وما يمكن أن تجده من أوليات القصد والتمثل في ما وراء صيغة المعنى، حيث يبدو الغرض أخيرا من القصيدة هو العملية النواتية الباطنة في ملامح انعطاف الذات الشعرية في معنى التجسيد والاستكمال لغايات أوجه (الربط ــ الانطلاقة ــ الصيغة المعادلة) ومن خلال ما يتحدد به الإيقاظ الشعري من مشروعية دلالات التعيين والمضاف الأحوالي والتحول الداخلي، نستدرك بأن غواية الواقعة الشعرية قائمة بين (أقامة الحلم) أو (العلاقة الإيهامية في ما وراء الحلم) اعتبارا مرمزا لا يتخلى عن مدعومية المعطيات الاستراتيجية للحلم الذاتي بالتمثل التصوري لشتى الانطباعات والحالات المألوفة أو اللاتأكيدية الأداة المتصورة في حاضنة (الصورة ــ الدال ــ الحال) أي بمعنى ما أننا ندرك المعنى حينا من حدود وعي آخر خارج مسارات ماهية التعرف والتصنيف المحسوس أو اللامحسوس في تماثلات أصوات الدال الشعري.

ــ الرؤية المصاغة بأنثيالات المماثلة الحلمية:

يعتقد هايدجر، انسجاما مع فلسفة الفنومنولوجية ــ الوجودية، أن الفن الشعري لا يبدع العالم بل يجمله ويحاكيه أو يعدو به كاشفا. / فلسفة الفن عند هايدجر، ص59 ــ 60. وهكذا على هذا النحو يعطينا شعر حسين عبد اللطيف رؤى دواله انفتاحا بصورة مستترة، تكشف لنا ديمومة الذات، كوجود في (تحولات الوعي) وحقيقة الأفعال المحاكية لأقصى حدود إمكانية اللغة ووسائلها الأدائية المتحققة في كشف (رؤى الحلم):

أنظر إلى الخارطة.. .

هذه تاهيتي

التي تخمخ جسدها

برائحة الأناناس

وتتدلى من أذنيها

أقراط الموز./ص349، قصيدة: خريطة

غالبا ما تتحول آليات الكشف الشعري لدى الشاعر إلى واصلات مرهونة بالتماهي إزاء غايات مشحونة بتوجيهات فردية، إذ إننا نعلم من ثريا عنونة (خريطة) هو المبثوث الوصولي إلى مواقع وعلامات ومحددات ناجزة، تأثرا بذلك المقترح الجغرافي الذي يحدد مكونات إقليمية ما.ولكننا عندما نتعامل مع خريطة الشاعر، نجدها بوصلة في تحريك الحالات عن مواضعها المقرورة، وليس قولنا أن الشاعر هنا يحرف المواقع عن مواضعها الجغرافية، بل إنه غدا يستنبط من خلالها جمالياتها الصفاتية وهواجسها الكيفية في مساع خاصة من دلالات الكشف الصفاتي: (أنظر إلى الخارطة:هذه تاهيتي) المشار إليه هنا يشكل قراءة بالمعاينة الحرفية، ولكن آلية الحلم إجرائيا تتعدى توكيدية الموضع التعييني: (تضمخ جسدها، برائحة الأناناس، وتتدلى من أذنيها، أقراط الموز) لذا هنا تكمن غائية استدعاء الحلم بموجب (اختصار الزمن ـ تقيد الحال ـ ذاكرة الليل) ويمكننا تبني مقاطع شعرية أخرى تحمل في شاهدها ذات الخاصية من (استقصاء المشهد):

هذه هاواي

تتقلد عقدا من الزهور

وهي بسمرتها وألوانها

ترقص عارية. /ص349

إن الحالة الذهنية لدى الشاعر تدعونا إلى علاقات شكلية، أراد لها الشاعر الوصول من ناحية (النظر ــ التأمل ــ الذاكرة ــ التخييل ) دورا يتم بالتلقي الترسيمي في الصفة والحال والوجود والتذوق، والإنتقال من هنا إلى هناك لا يتم دون الإيقاع الحلمي الكامن في علاقة (الشاعر ــ المكانية ــ الزمانية ــ الاندماج) وربما تنتج آليات هذه الحركة الحلمية في الذات نحو الأشكال إلى تجاوز المحدد الموقعي الراهن للذات، فيصبح الزمان والمكان والموضوع الحقيقي للذات هو ما كان مستغرقا فيه من قبل الذات:

أطفىء المصباح

لأنام حالما. /ص350

لاشك أن أبعاد الحلم الأول من مشاهد النص، كانت دليلا عن حلم الشاعر المحاكاتي الذي طاف فيه فلك الحواس، ليتلمس تحرير فعل ذاكراتي مبثوث بالحلم الصفاتي للأشكال والأغراض في عالم الخريطة، وعلى هذا النحو أصبحت حواس الشاعر قارئة في ظهورها المسكوت عنه في اللازمن المحدد بالخطوط والنتواءاتعلى امداد الخارطة.أما بخصوص النتيجة الختامية فقد جاءنا صوت الشاعر بـ (أطفىء المصباح ــ لأنام حالما) إذن هناك مستويين من الحلم الأول هو (أقامة الحلم) أما الثاني فهو (العلاقة الإيهامية في ما وراء الحلم) أي ما وراء عالم غيبي إيهامي، بالاعتبار الآخر من طبيعة اللاوعي للنوم.ولو كان الشاعر عالما في اللاوعي لما قال منذ بداية النص: (أنظر إلى الخارطة) إذ حالة الحلم بالصفات كان بدءا من جملة (هذه تاهيتي.. التي تمضخ جسدها.. برائحة الأناناس) وجملة اللاحق أيضا (وتتدلى من أذنيها.. أقراط الموز) وبهذا يمكننا معرفة أن الانفتاح الحلمي الأولي لدى الشاعر، كانت بوصفة التمثل الحلمي في التطور، أما بخوص الآخر فهو بوصفه ما وراء الحلم الاستقبالي والثبوتي.وبالرغم من تحرك كل منهما من داخل عتبة فضاء آنوي واحدة، إلا إن وسيلة المتلكم والأداء حتما سوف تكون مرتهنة بمؤولات تتنكبها حضورية أو اللاحضورية لحقيقة الحلمان ذاتها.

ــ فعالية الصراع الأحادي وانقطاع سلطة الحلم:

إذا كان الخطاب الشعري ــ جمعا ــ بين وحدات الأضداد أو ذلك المستوى البنائي للشكل الدوالي الذي يكون كمحتمل من أوجه حيثيات ثنائية (الانفصال ــ الاتصال) حيث أن التواصل يغدو داخل الخطاب كآلية تفترض لذاتها انقلابا أحواليا في تصورات المعنى الانفصالي الختامي:

أتى المساء

والمساء قد ذهل

وفوق التل ذلك البعير ما يزال

والليالي ترتعي سنامه./ص351، قصيدة: الذي بقي من التل

من الواجب هنا مراعاة العملية الشعرية وهي تتجاوز محدودية حركة الأحوال النوعية للموضوعة بدءا.فالجمل الشعرية الاستهلالية والعنونة للنص، تأتي من حيث سياق (بقي على التل) والأشارة فيها تردنا إلى الدليل الذاتي المتوحد، وصولا إلى إعطاءه علاقة إجرائية، تتلخص في حال جملة (أتى المساء) إلحاقا بجملة (والمساء قد ذهب) وهاتان الجملتان تعدان بدأتهما حلقة التمركز الأولي المحتملة من تركيبة القابلية المرسلة من (الذي بقى على التل) فيما تبقى النزعة الظرفية في تركيبة الزمن (أتى المساء.. والمساء قد ذهب) بمثابة البوصلة المؤشرة على اعتبارية تدخل (الذات الراوية) في صيغة وصفها عن حالها الواقف كحال (ذلك البعير) وعند معاينة مستويات الماثلة الدلالية نتبين أن الذات الفاعلة متخيلة تماهيا مع دلالات المعادلة الأحوالية المشتركة بين (الذي بقي على التل: البعير= سباق ماثولي/ الأنا = الطرف المعادل) وعلى هذا النحو فإن جملة (الليالي ترتقي من سنامه) توكيدا على حجم الاستنزاف الزمني الذي راح يمخر من الطرف الآخر جل طاقاته الديمومية، محولا من وجوده الاعتباري إلى محض بؤرة خاوية تتغذى من رغيف جوعها ومرارة.التمثل بلبوس التعطيل الأحوالي (ويرتعي هو السغب) إن المحرك التصويري لهذا الاستقدام المعادل، قد حل حلولا مشابها إلى أوضاع الأنا بالمقارنة مع حال ذلك البعير الواقف على التل، تتولى عليه من كل جهات علامات الأسى، فيما يقوض نموذجه الإحيائي ذلك الفعل الدهري بالهلاك والغلبة (قد تأبد إلى الأبد) وقد تطول الجمل الشعرية في موصوف حال الأنا المعادل (وقد أسن.. أو أصابه الجرب!) بفرائض أوجه المحتمل التقريبي أو ما هو مكتظا بالحساسية المقاربة بالنموذج المشار إليه (ذلك البعير؟) اقترانا بكونات مشتركة الطرق تغالب حال وتصور عدمية الذات الواصفة.

ــ التقابل الزمني والتماثل الذواتي:

1ــ الحساسية المكانية مضمرة في تخوم الضمير النفسي:

لاشك أن جميع محاور الأفكار والرؤى الشعرية في عوالم تجربة حسين عبد اللطيف، تعد انطلاقة نفسانية ذات نوازع سوداوية وعدمية، تقودنا أحيانا إلى الاستجابة الخالصة منا، بأن للشاعر كيانة المقلق الخاص، لذا كثيرا ما نجد مكونات قصيدته عبارة عن رحلة مأساوية وقاهرة في مفردات الحزن الزمني والمكاني الآسر نقرأ ما جاءت به قصيدة (المحطة) من أوجه ووسائل زمنية لا تذر بغير الفواجع النفسانية والذاتية اللتان أهلكتهما مفارقة الوجود اللاعتباري في تقاويم أسفار قطارات الشاعر الراحلة والعائدة دون جدوى منه تماما:

في الصمت تقع المحطة

وفي انتظارها الملول

تستكين./ص353

إن توالدات الدوال، تخلق في العامل المكاني، ثمة كيفية ذاتية مقاربة في المادة الموضوعية والحسية، أي بمعنى ما أن القابلية الإحالية في الوازع المكاني راح يشكل علاقة ذات نحوا استجابيا بين (الأنا = المكان) دلالة تتكشف أواصرها بما تمليه عليها داخلية حال الذات الراوية (الصمت ــ تقبع ــ المحطة ــ في انتظارها الملول ــ تستكين = أنا القصد) وعلى هذا الحال ترتبط مقاصد الراوي في سفره بالضمير المكاني والزمني إلى خصوصية الأشارات والعلامات في الحمل اللاحقة من النص:

على الصليب تنقضي الليالي

والسنون وهي كالحجر

نقر لا تريح./ص353

ومن السهولة معاينة حيوات الذات المنصرمة عبر أعلى درجات يبوسها وحلبها في الأحوال الانتقالية للذات، وصولا به أقسى مراحل جملة (والسنون وهي كالحجر.. نقر لا تريح) وتتضاعف ضغوطات الأزمنة الناضرة على مقومات الذات التي كادت تشبه فراغ الإعادة الزمنية في شتى محاورها ودوراتها الرتيبة (يغادر القطار.. ويقبل القطار.. وثمة مسافرون يصعدون.. آخرون ينزلون) إن طوعية روابط علاقات الزمن، راحت تخلق في الذات ذلك التضخم بالتكرارية وعبوس إعادة الأشياء ذاتها بذاتها وكأن الحياة تعيد دورتها على مضض وشططا، فليس هناك في ماهية الأحوال الحياتية سوى ذلك الطابع السكوني في ما جربه (ووحدها تنتظر المحطة.. إلى متى ستنتظر؟) إن الكيفية التي يتعامل وإياها الشاعر مع الزمن وحالات الوجود، لا تسعه حيزا ما من الدلالة الإيجابية في واقعة الذاتي والنفسي، لذا ظلت ممارسة الحياة في نظره وكأنه محطة القطار التي لا ندرك منها ذلك البقاء التشخيصي، كما ولا ترتخيه جل الخيارات القادمة من الزمن (وما الذي تراها تنتظر.. وهذه الرياح.. تسف والرمال.. تسفي عليها.. ).

ــ تعليق القراءة:

هكذا وجدنا جميع الاشارات والمقاصد واضحة في قصيدة تجربة الشاعر، فهي كحال اللوحات العدمية التي لا تمسك لها بأي حال من علاقة ما من شأنها اليقظة من حلم الذات السوداوية في شتى أحوالها ومؤولاتها التي راحت تستقيم مع روابط وأواصر وأبعاد شعرية لها من الاستدلالات الظاهرة والباطنة والمسكوت عنها ما يخولها على أن تكون القصيدة الحاوية على الخصائص الإمكانية الكاملة على قبولها كشعرية استقصائية لأدق عوالم الذائقة النفسية والحسية للذات وحالات أفقها الجوهري بمسافات دلالية مباشرة وغير مباشرة من المعنى التلويني أو ما وراء حجب مرموزات الإشارات العلاماتية والإيحائية والإحالية الكبرى.

***

حيدر عبد الرضا

تُعد كتابة مرحلة معينة من التاريخ وانتاجها روائيا مجازفة كبيرة، لأن هذا العمل سيُحمّلُ –الرواية- أبعادا رمزية، لذلك فإن مثل هذه الروايات ستحيل النص الروائي، بسبب تعدد مصادرها واختلاف بنيتها الدلالية والنصية، إلى إشكالية ذات جدليات فكرية، تصل في كثير من الأحيان إلى الضبابية العقائدية. فهناك اختلاف بين الرواية التي تعيد كتابة التاريخ، والرواية التي تجعل من التاريخ خلفية قصصية داخل السرد، لبناء أحداث تتقدم بالسرد نحو نهايته الروائية المعروفة. فالتاريخ مادة الرواية الأولى والأخيرة، ولا رواية بدون تاريخ، ولا اختلاف في أن التاريخ يحرّك مسار بناء الرواية، التي لا تتم بدونه أو من خارجه حتى ولو كان هذا التاريخ تاريخا متخيلا وليس واقعيا. فالروائي لا يدرس الإنسان في روايته، ولكنه يجعله يحمل أفكاره ورؤيته، ويعيد صياغته عاطفياً من خلال الحوار والمواقف الفرعية التي يبتدعها ليحمل رسالته الفنية، بل إنه يبتدع الشخصيات الروائية لكي يسد النقص الذي تحدثه كتابة التاريخ عادة في هذه النواحي. وهو بذلك يقدم البعد الغائب في الكتابة التاريخية وهو البعد العاطفي والوجداني الذي تسكت عنه المصادر التاريخية عادة.

ولا بد من القول إن التاريخ ثروة روائية هائلة ومتنوعة، تتمثل في التجارب الإنسانية الغنية التي تفوق أي قدرة خيالية فردية على الإبداع في كل الأحوال. وإذا كان الروائي الذي يتعامل مع الحاضر يعيش هذا الحاضر، فإنه بالضرورة لا يستطيع أن يرى هذا الحاضر من منظور شامل، وسوف تكون رؤيته جزئية بسبب القصور الفردى البشري. صحيح أن الفنان يرى الاحداث من منظور موهبته التي لاتتوافر للإنسان العادي، ولكن الرواية عادة ما تكون متمركزة حول الجزئي لتكون بمنزلة الشرفة التي يطل منها الروائي على الكل. ويجد الروائي في متناوله مايشبه المخزن الهائل الذي يحوي تجارب إنسانية لامتناهية في تنوعها وثرائها. فالتاريخ، بوصفه سجل النشاط الإنسانى متنوع الوجوه والاتجاهات، وبوصفه رصدا لحركة الإنسان في الكون بأبعادها الثلاثية (الإنسان، والزمان، والمكان) يشبه رواية هائلة لكنها تخلو من الخيال الفني، كما أن الرواية من ناحية أخرى ترصد التفاعلات داخل المنظومة الثلاثية نفسها، لكنها تستعين بالخيال الفني، لكى تضفي على التجربة الإنسانية تلك الحيوية التي تفتقر إليها الكتابات التاريخية.

وقد جهد الكاتب في هذه الناحية، فساق لنا احداثا سمع بها القراء او شهدوا بعضا من أحداثها، او جرت على البعض منهم! وأبتدع شخصيات واقعية؛ هاشم، ومحمد رفيقه في السجن الذي اطلق سراحه بعد توقيع (براءته) من الحزب ومقتله بعد هجرته من العراق، ووالده سلمان، بينما خلق شخصيات غير واقعية كان يتحدث عنها كأنه يعيش في حلم، عندما ذهب ليستكشف قرية (أم المساكين) التي أخبرته عنها القابلة في السوق الذي كان يتردد عليها مثل الآخرين، كذلك حكى عن ما كان يحدث داخل المعتقلات والسجون، وكذلك عوائل هؤلاء وما عاشوه من انتظار لعودة أبنائهم الذين تعرضوا للتغييب او القتل!!

في رواية "العالم الأهم" التي صدرت عن (دار المثقف للطباعة والنشر) في 2018 للكاتب والشاعر يعقوب زامل الربيعي، صورت رحلة زمنية مضنية، أمتدت عبر ازمنة الخوف والاعتقال والتغييب والموت او الهجرة في بلدان الغربة، ومن الناحية الاخرى رسمت صورة محزنة، لحالة الأحباط التي عاشها الكثير من الذين وقفوا بالضد من سياسات النظام السابق، لتغيير الواقع الذي كان يعيشه البلد، وكان لضياع بوصلة هذه القوى وكثرة الاختلافات فيما بينها، سببا في وصول الكثير من كوادرها الى مرحلة الضياع والنكوص، وفي احيان كثيرة الى نهاياتهم في سجون النظام البعثي وأجهزته القمعية. وكانت بعض اطراف تلك الحركة تعتقد وتصر ان طريقها ومنهجها الذي سلكته هو الأصوب. وبسبب هذا الاصرار ضعفت قواها وتأثيراتها في مجريات الأحداث اليومية، ووصلت حد التخبط في تصرفاتها، فدفعت هذه القوى الكثير من الشهداء الابرياء، يقابلها سلطة قمعية أمتلكت شروط قوتها الذاتية بتملكها السلطة والمال، ووقوف دولا كانت تعتبر صديقة للشعب العراقي الذي عول عليها كثيرا، فاعانت هذه الدول الصديقة السلطة القمعية بكل ما تحتاج من سلاح، ودربت أجهزتها القمعية على أحدث الطرق لاذلال القوى المعارضة والقضاء عليها.

عن هذه الفترة التاريخية التي أمتدت من اسقاط اول جمهورية عراقية في العام 1963 وحتى عام احتلال العراق 2003 من قبل قوات التحالف التي كانت تقودها الولايات المتحدة الامريكية. رحلة الاعوام السود التي عاشتها القوى السياسية المعارضة، والكثير من العراقيين الذين لم يتقبلوا ممارسات البعث وطغيانه وتفرده بالسلطة، ومازالوا يحسون بأشباحها وعذاباتها شاخصة أمام أعينهم، بالرغم من ان أعواما طوالا مرت عليها، إلا ان روائحها وخيالاتها لم تزل ملتصقة في عقول الذين عاشوها وأكتووا بنارها، فهذه الصور باقية معهم مشتعلة في مشاعرهم، تطرد من عيونهم النوم وتبعد عنهم الراحة! ساعات التعذيب التي لايستطيع ممن عاشها ان يصفها ويجيد تصويرها للذين كانوا بعيدين عنها. أهوال جعلت حتى الذين مارسوها على اخوتهم العراقييين، ينقلبون الى وحوش من عالم غريب، يستلذون ويبتكرون طرق لتعذيب المعتقلين دون نأمة رحمة!! من الذي حول هؤلاء البشر الى قتلة ومصاصي دماء يتشفون بتعذيب ضحاياهم؟ حيث يجعلون الشخص الذي يعذبونه يحلم بالموت للخلاص من الألم الذي يذوقه كل يوم وكل ساعة على أيديهم..

وقد اعتمد كاتب الرواية في سياق سرده لاحداثها عملية التقطيع السردي، الوسيلة التي تحقق التنقل من حدث لآخر ومن شخصية لأخرى، وتأخذ اشكالا متعددة، مثل جعل السرد في الرواية يكتب على شكل فصول او مقاطع بعناوين داخلية، او بأرقام في اعلى الصفحة التي يبدأ بها المقطع الجديد، او مجرد وضع علامة تؤشر لانتهاء مقطع وبداية مقطع جديد. وقد اختار كاتب الرواية وضع نجمة (*) بعد كل مقطع من مقاطع الرواية، وهذا التقطيع في السرد يهيئ له فرصة التنقل بين احداث الرواية دون الخضوع للتسلسل الزمني للسرد، أي يستطيع ان يُقدم ويُأخر في احداث الرواية بحسب حاجته.

شكلت المرأة في هذه الرواية ركناً اساسيا فهي؛ الأم والأخت والحبيبة والرمز، وأغلب تلك النساء تكلم عنهن الكاتب بألم، من خلال نقل صورة لما كن يعيشنه، من فقر واضطهاد وحرمان. اولئك النسوة كُنَّ يمثلن غالبية المجتمع العراقي بعد ما أكلت الحروب العبثية التي شنها ذلك النظام البغيض، أغلب الرجال وبالأخص الشباب منهم! وهذه الشخصيات النسوية لهن مخاوف وآمال وخيبات، ولهن نقاط ضعف ونقاط قوة، وسنجد هذه الصفات واضحة بالاخص لدى امينة، الام التي توصي زوجها سلمان قبل موتها ليخبر ابنها هاشم: "-قل لهاشم عن لساني: بُني أوصيك بالصبر، فأنه دواء للعلل، وسبيل للغايات"(ص 5). هاشم الذي اخذه الولع بالسياسة وحب الصراع مع السلطات الحاكمة، فلم يكن امامه وامام ابيه اخيرا من خيار سوى الهجرة من البلد والهرب من مصير القتل الذي يتربصه كل يوم من قبل الأجهزة القمعية ويتربص الآخرين، بسبب الحرب العبثية الذي زج بها النظام الاف الشباب في آتون الموت والأسر. فيرحل البعض منهم لبلاد الغربة، في مدن الله الواسعة كي ينجون بجلودهم، وعكس حياة أمه التي سقطت مرة واحدة دون أن تنبس بأي كلمة. فقد بقيت حياته تتساقط على الدوام بين الجنوح والتراجع، بين الرغبة والصوم، كأن مفاتيح الدنيا أعيتها الحيلة ولم تفتح له مغلقا واحدا! ومثلما ذكرت أمه؛ ان ليس لأي قفل مفتاح غير الصبر! أمه التي أنجبت سبعة اولاد، بنينا وبنات، وفقدت ابنها نبيل في الحرب اللعينة التي استمرت ثمان اعوام، وكانت من قبل قد فقدت اربع من اولادها: "لي اخوين واخت لفهم الموت لجوف شراهته صغارا، لم ارى أي منهم، سوى تلك الاخت التي ما ان تخطت لتوها على الارض مشيا حتى لوى شبح مرض السحايا رقبتها لتموت بعد ايام من الألم(9). يتذكر هاشم كيف صدم يوما، حين علم ان أمه تخزن في حقائب خاصة ما تشتريه من لوازم عرس له ولاخيه. يومها ضحك عاليا لهذه الصدمة المباغتة وقال: "- ستطول الحرب وسيأخذونني خلفه"(21). ذوت عافيتها مذ جيء بولدها نبيل قتيلا، وهروب هاشم الى بلاد الغربة، لكنها ظلت تتعلق بالعافية، غير ان هزالها يزداد كل يوم. امست كيانا متشبثا بحائط الحياة الاملس كيانا يعاني خرابا مستمرا، وكما توقع سلمان؛ وجد جسدها "صلبا كلوح من الثلج، فكف عقله من الحركة وتيبس جسده أمامه مشدوها"(67).

أما (قند) حبيبة هاشم منذ الطفولة فقد ولدت وعاشت طفولتها معه، وبعد ان كبرا وشاعت حكاية حبها لهاشم بين الناس، أجبرها ابيها (عيدان منخي) التي توفيت زوجته (نباهن)، على الزواج من زميل له في الحراسات الليلية، الذي يكبرها باكثر من خمسة وعشرين عام. وبعد زواجها ونزوح ابيها لمكان آخر، بسبب هروب زوجته الجديدة (سومه) مع عريف الشرطة فوزي. انقطع اخر خيط من خيوط الوصل بين قند وهاشم. وكان هاجسها ان تبتعد مكرهة عن هاشم، وذلك موافقة لرغبة ابيها وواقع الامر. وبقيت تعاني من الوحدة وسوء الخاطر ليلا وليس هذا فقط انما كان يعذبها ان ترى بأن نهر من الدفء والحنان، قد أخذ يجف شيئا فشيئا.

القابلة التي تجاوزت سن إثارة الرجال، تعرف عليها هاشم في السوق، وعندما أحست ان هاشم يختلف عن الأشخاص الذين يأتون لها في الليل ليشبعوا رغبتهم فيها، أخبرته عن حكاية ولادتها التي روتها لها أمها: "ساعة شؤم لفظتهاالأقدار فيها من رحمها للارض"(13).. ولدت في قرية تسمى "أم المساكين"! وتسأل هاشم؛ هل سمعت بقرية ام المساكين فيجيبها بلا "ان ما حصل فيها، وكما حكته أمي، سيجللك بالبياض من هامتك حتى قدميك وسيدمي قلبك!"(ص17) وما خلفته صورة فجيعة هذه القرية في رأسها سيبقى مثل ملازمة الليل والنهار. "كانت القرية تحمل معنى حلم خرافة الحياة التي يتمنونها"(18)

راجحة: من ام شامية واب موصلي، بعد سبع اعوام من زواج والديها يتوفى الزوج ولم تخلف منه امرأته الشامية سوى ابنة واحدة. راجحة قاربت الخمسين في عمرها، يسكن هاشم غرفة في بيتها، ورغم انها لا تتقرب للرجال إلا أنها رأت فيه رجلا مختلفا عن الآخرين، فترعاه وتتعلق به، وعندما يحتاج الفران الذي يعمل لديه هاشم لبعض المال ويطلبه من راجحة تشترط ان تشتري نصف الفرن وتسجله باسم هاشم. عندما يحكي لها عن أسباب هجرته من العراق وما كان يعانيه، تتعاطف معه. لكن عندما أراد العودة لبلده، حاولت ان تستبقيه معها من خلال تذكيره بما ينتظره إن عاد: "ان اردت العودة للنار، فأنت حر"(41). وقد احبها هاشم في غربته وتعلق بها وأحس بها قريبة لنفسه وكانت علاقته بها حاجة انسانية بعد العذاب الذي ذاقه في السنين التي مضت. وعندما يخبره صديقه محمد ان علاقته براجحة باتت اهم ما يشغله ويعتبره قد ضمن مستقبله يجيبه هاشم: "ان راجحة بعض هذا السلام الثمين. أليس الحب هو السلام الأعم يا صديقي؟!"(120). ويظل هاشم يعيش صراعا داخلياً ويحاول ان يعود لبلده ليعيد بناء حلمه الذي استشهد الكثيرين من أجله، والذي قضي حياته على أمل تحقيقه!

***

قراءة: يوسف علوان

دراسةٌ بيئيَّةٌ في المُثُل والجَماليَّات

كانت لـ(المها) في الشِّعر العَرَبي صُوَرٌ نمطيَّة، تتكرَّر عناصرها.  وما يهمُّنا منها هاهنا جوانبها الجَماليَّة.  والشُّعراء عادةً يدخلون إلى تصوير ذَكَر المها (الثور الوحشي) بتشبيه (الناقة) به، فإذا هم ينطلقون في تصويره إلى ما شاؤوا؛ فيَصِفُون مَظهره، وحركته، ثمَّ صراعه مع (كِلاب الصائد) عند الإصباح.  من ذلك قول (ابن مُقْبِل)(1)، مثلًا:

تَـبَوَّعُ  رِسلًا  في الزِّمـامِ  كما  نَجَا

أَحَمُّ  الشَّوَى  فَرْدٌ  بِأَجمادِ  حَوْمَلا

*

كأنَّ حِبالَ الرَّحْلِ مِنهـا تَوَشَّحتْ

سَـراةَ لَياحٍ  أَكْلَفِ الوَجْهِ أَكْحَلا

*

تُـساقِـطُ رَوقـاهُ بِكُـلِّ خَـمِيْـلَـةٍ

مِنَ الرَّمْلِ كُـرَّاثًا طَويلًا وعُنْصُلا

ففي هذه الصورة يهتمُّ الشاعر بسواد القوائم، والوجه، وبياض الظهر، وكَحَل العينَين.  وقد تكون لملامح المظهر الخارجيِّ هذه قيمةٌ رمزيَّةٌ لدَى الشاعر، تتَّصل بعلاقة الثور الأُسطوريَّة بـ(القمر) المقدَّس، حتى لقد عُرِف القمر بـ(ثور).(2)  غير أنَّ الجانب الآخَر من الصورة- وهو الجانب النفسي، المتمثِّل في: قلق الثور، وانفراده- يبدو هو الغالب على الصُّورة.  ولعلَّ ذلك يمثِّل قلق الناقة، أو بالأحرى قلق صاحبها؛ لأنَّ الثور الوحشي في صورته النمطيَّة الجاهليَّة يمكن أن تُرى فيه رمزيَّةٌ للرجل (أو للذُّكورة) تتصل بالقمر، كما أمكن أن تُرى في (المهاة) رمزيَّةٌ للمرأة (أو للأُنوثة) تتصل بـ(الشمس).(3)

ومن هنا يتضح أنَّ المدخل إلى تفهُّم جَماليَّة الصُّورة في هذه الأبيات، وما ماثلها حول (الثور الوحشي)، يَلزم أن يكون ميثولوجيًّا؛ لأنَّ ذلك من الأُسس- إنْ لم يكن هو الأساس- التي بَنَى الشاعر عليها جَماليَّات الصُّورة.

والشاعر، من جهةٍ شكليَّة، يحرص على تناغم الألوان في صورته: أَحَمُّ، لَياحٌ، أكْلفُ، أكحلُ. وكذلك يُعنَى بالتوزيع المساحيِّ للألوان، والأبعاد التناسبيَّة بينها: أَحَمُّ الشَّوَى، سَراةُ لَياح، أَكْلَفُ الوَجْه، أَكْحَل: (أي: أَسْود القوائم، أَبْيض الظَّهر، لون وجهه ضاربٌ إلى السواد، أَكْحَل العَينين).  غير أنَّ هذا لا يكشف عن رؤيةٍ جَماليَّةٍ شكليَّة، بمقدار ما يَحْمِلنا على تلمُّس رمزيَّات الحيوان المقدَّسة عند الشاعر، ممَّا يدور حول (القَمَر)، الذي يُشْبِه- ببياضه، وكَلَفِ وجهه- (الثورَ الوحشي)، ثمَّ حول الرَّجُل الذي يُشْبِهُه بكفاحه، وقلقه، وشَبابه.  لذا يقول في أبياتٍ أخرى- بعد أن شبَّه المرأة بـ(المهاة: البقرة الوحشيَّة)-:

رَبِـيْـبَـةُ  حُـرٍّ  دافعـتْ  فـي حُـقُـوفِـهِ

رَخـاخَ  الثَّـرَى  والأُقْـحُـوانَ  المُـدَيَّـما

*

تُـراعِـي  شَـبُـوبًـا  فـي  المَـرادِ كَـأَنَّـهُ

سُهَـيْـلٌ بَـدا  فـي عارضٍ مِن يَـلَمْـلَما

*

تَـظَـلُّ  الرُّخامَـى  غَـضَّـةً  فـي مَـرادِهِ

مِن الأَمْـسِ أَعلـَى  لِيطِـها  قد تَهَـضَّـما

*

حَشا ضِغْثَ شُقَّارَى شَراسِيفَ ضُمَّـرا

تَـخَـذَّمَ  مِـن  أَطْـرافِـهـا  ما تَـخَـذَّمـا

*

يَـبـيـتُ  عَلـيهـا  طـاوِيـًـا بـمَـبـيـتِـهِ

بِـما  خَـفَّ مِن زادٍ وما طـابَ  مَطْـعَـما

*

يَـظَـلُّ  إلى  أَرطـاةِ  حِـقْـفٍ  يُـثِـيرُهـا

يُكَـابِـدُ  عَـنـهـا  تُـرْبَهـا  أن  يُـهَـدَّمـا

*

يَـبـيـتُ  وحُـرِّيٌّ  مِـن  الرَّمْـلِ  تَحْـتَـهُ

إلى نَـعِـجٍ  مِـن ضائِـنِ  الرَّمْـلِ أَهْـيَـما

*

كَـأَنَّ  مَجـوســيًّـا  أَتـَى دونَ  ظِـلِّـهــا

ومـاتَ النَّـدَى مِن جانِـبَيـْهِ فَأَضْـرَمـا

*

غَـدا كالفِرِنْـدِ  العَضْبِ  يَهْـتَـزُّ  مَتْـنُـهُ

مِـن  العِـتْـقِ  لَـولا  لِـيْـتُـهُ  لَـتَـحَـطَّما

*

تُـوَرِّعُــهُ  الأَهـوالُ  مِن  دُونِ  هَـمـِّـهِ

كما  وَرَّعَ الرَّاعِـي الفَـنِـيـقَ  المُسَـدَّمـا(4)

فهو ثورٌ شابٌّ، كأنَّه (سُهيل)، يبيت قانعًا بما قلَّ من زاد، يظلُّ يُكابد الرِّمال- ليُهَيِّئ لنفسه كِناسًا- عند أصول شجر (الأَرطَى).  وكأنَّه مجوسيٌّ عليه يَلْمَق أبيض، أضرم النار عند انقطاع المطر، ذلك الانقطاع الذي يُشخِّصه في «موت الندى».  ثمَّ يغدو (الثَّور) كالسَّيف مَضاءً، تُورِّعه الأهوال من دون همِّه.  وصورته تَكتسب تعاطف القارئ وإعجابه؛ لهذه الروح الإنسانيَّة التي بعثها الشاعر فيها.  تلك الروح من الأَنْسَنَة المنبثقة عن البُعد الرَّمزي الذي يمثِّله (الثور الوحشي) في مخيِّلة الشاعر؛ بحيث أرانا فيه صورة الإنسان، بكلِّ جَماليَّاتها الحسيَّة والمعنويَّة: شابًّا، مُنيفًا كنجم (سُهيل) على جبل (يَلَمْلَم)، قنوعًا، مكافحًا، لا تهزمه الشدائد، ماضيًا في سبيله، كالسَّيف، أو كالفَنِيْق (الفحل من الإبل)، برغم الأهوال من حوله.  والقِيَم الأخلاقيَّة والاجتماعيَّة تتحكَّم في جَماليَّات الصُّورة هاهنا بعنفوانٍ وفعاليَّة؛ لأنَّه يتعيَّن أن تليق الصُّورة في النهاية بالإنسان الذي ترمز إليه.  ومن ثَمَّ يقول الشاعر في صُورةٍ أخرى:

يَـظَـلُّ بـهـا  ذَبُّ الـرِّيــادِ كـأَنَّــهُ

سُـرادِقُ أَعْـرابٍ بحَـبـلَينِ  مُطْـنَبُ

*

غَـدا ناشِـطًا كالبَربريِّ وفي الحَـشا

لُعـاعـةُ مَـكْـرٍ في دَكـادكَ  مُـرْطِـبُ

*

تَحَـدَّرُ صِبْـيانُ الصَّـَبا  فَوْقَ مَـتْـنِـهِ

كـما لاح في سِلْـكٍ  جُـمانٌ  مُـثَـقَّــبُ

*

لَـياحٌ  تَـظَـلُّ  العائـذاتُ  يَسُـفْـنَهُ

كَسَوْفِ العَذارَى ذا القَرابةِ  مُنْجِبُ(5)

والعلاقة الشَّبَهيَّة الشكليَّة بين (الثور الوحشي) وسُرادق الأعراب تبدو واهية، لكنَّ العلاقة وثيقةٌ من جانبها المعنويِّ الرمزيِّ، الذي يمثِّله الثور الوحشي في الشِّعر الجاهلي؛ من حيث إنَّ الإنسان الجاهليَّ- أو الرَّجُل بالتحديد- هو «ذَبُّ الرِّياد» المقصود في مثل هذه الصورة، إذ لا يستقرُّ في مكان، بل هو رحَّالٌ في طلب الماء والكلأ(6)، إلَّا أنَّه كالسُّرادق يحنو على أهله.  تمامًا كما يصوِّر رمز المرأة (الشمس) بقوله:

ولِلشَّمسِ أسبابٌ كأنَّ شُعاعَها

مَـمَدُّ حِبالٍ في خِباءٍ مُطَـنَّبِ(7)

وهو (أبٌ)- كما كانوا يَدْعُون (القمر)(8)- مُنْجِبٌ، علاقته بالأُنثى علاقة وُدٍّ حميمة وإخصاب.  ولا ينسى أن يصف بياضه: (لياح)، ونشاطه، وقناعته بزهيد الزاد.

وهكذا تَظهر جَماليَّات الرَّجُل الجاهليِّ- بهيئته من: البياض، والشباب، وبخُلقه من: الفروسيَّة، والكفاح، والقناعة، والأُبوَّة، والتَّبَعُّل، إلى غير ذلك من مقاييسه الجَماليَّة عند العَرَب- في صورة (الثور الوحشي)، ممَّا يؤكِّد إيغال تلك الصُّورة في رمزيَّتها إليه في الشِّعر الجاهلي، كما تجلَّت في هذه النماذج.

[للحديث بقايا].

***

أ. د. عبد الله بن أحمد الفَيفي

........................

(1)  (1962)، ديوان ابن مُقْبِل، تحقيق: عِزَّة حسن، (دمشق: مديريَّة إحياء التراث القديم)، 213/19- 21.

(2)  يُنظَر: علي، جواد، (1973)، المفصَّل في تاريخ العَرَب قبل الإسلام، (بيروت: دار العِلم للملايين)، 6: 163- 000.

(3)  ويُنظَر: الفَيفي، عبدالله بن أحمد، (1999)، شِعر ابن مُقْبِل: قَلَق الخَضْرَمة بين الجاهلي والإسلامي (دراسة تحليليَّة نقديَّة)، (جازان: نادي جازان الأدبي)، 657- 662.

(4)  ابن مُقْبِل، 284- 286/ 6-15.

(5)  م.ن، 21/38- 41.

(6)  يُنظَر: ابن منظور، لسان العَرَب، (رود).

(7)  ابن مُقْبِل، 9/3.

(8)  يُنظَر: علي، جواد، 6: 163- 000.

في المثقف اليوم