قراءات نقدية

قراءات نقدية

في الأدب الدنماركي، يُظهر الانتقال من نهاية القرن التاسع عشر إلى بداية القرن العشرين اتجاهاً واضحاً هو التحول من الجمالية المنغلقة والمؤكدة دينياً إلى الواقعية اليومية الجديدة.

اجتمع الشعراء والكتاب الرمزيون في تسعينيات القرن التاسع عشر، في وقت قريب من تغيير "تارنيت" Taarnet 1893-1894 مع الشاعر "يوهانس يورجنسن" Johannes Jørgensen 1866-1956، ودافعوا عن شعر يرى الحياة في مجملها الصوفي وليس فقط في الأدب مجرد المظهر. لقد كان الواقع دائماً رمزاً لشيء آخر وأكثر مما يبدو. هذه النغمة الميتافيزيقية حيث تُرى الحياة في طبقة مزدوجة، هي ما تم التخلص منه في العقود الأولى من القرن الجديد، وكان حامل لواء الشعرية اليومية الجديدة هو يوهانس آخر، وهو "يوهانس ف. جنسن"  1873-1950 Johannes V. Jensen الذي نشر قصائده في عام 1906، والتي لا يمكن المبالغة في تقدير أهميتها بالنسبة للأدب الدنماركي بشكل عام والحداثة بشكل خاص.

باستخدام شكل النثر المستوحى من الشاعر الأمريكي "والت ويتمان" Walt Whitman 1819-1892، بشرت القصائد عام 1906 بثورة في الشكل، حيث كان الإلقاء وبناء الجملة أقرب إلى الكلام اليومي من الأشكال الإيقاعية المقفّاة بإحكام التي اعتاد المرء عليها حتى ذلك الوقت. ولكن لم يقتصر الأمر على الجانب الشكلي فقط، فقد تخلص يوهانس ف. جنسن من الرمزية، وحقق أيضاً نغمة جديدة إلى حد كبير، وهو ما تم التأكيد عليه من خلال القصيدة الختامية في المجموعة بعنوان "كل يوم". هنا، من بين أمور أخرى، يمكنك قراءة السطور التالية:

 "دعونا ندخل في الحياة اليومية دون خوف / نحن الذين ليس لدينا ما نكسبه/ دعونا نجعلها لعبة لاذعة / اجتماع صلاة صعب / للملونين من سكان المدينة المشهورين.

مرحلة الاختراق الشعبي

في نفس الوقت الذي حدث فيه تغيير النظام السياسي في الدنمرك عام 1901، حدث انقطاع في الرسم وتأسست مجموعة  Fynboerne للفنانين التشكيليين الذين تأثروا بالرسام "كريستيان زهرتمان" Kristian Zahrtmann.

وفي الموسيقى أيضاً حيث كان "كارل أوغست نيلسن" Carl August Nielsen مؤلفًا موسيقيًا وقائدًا موسيقيًا وعازف كمان دنماركي، معترف به على نطاق واسع باعتباره أبرز ملحن في الدنمرك.

 وفي الأدب كان ما يسمى بالاختراق الشعبي في الأدب في الواقع اختراقًا للواقعية المعاصرة التي التبشير بها في سبعينيات وثمانينيات القرن التاسع عشر. هذا الاختراق تم بتفاوت على نطاق واسع اجتماعيا وعقائديا.

أصبح "يوهانس فيلهلم جنسن" Johannes Vilhelm Jensen المخترع اللغوي العظيم في تلك الفترة ومبادرًا للابتكارات في الأدب في القرن العشرين بشكل عام. وهو أحد أعظم الكتاب الدنماركيين في النصف الأول من القرن العشرين. حصل على جائزة نوبل في الأدب عام .1944

 أعلن كتّاب متنوّعون مثل "توم كريستنسن  Tom Kristensen، والكاتب "ألفريد مارتن جينس هانسن" Alfred Martin Jens Hansen الذي اشتهر بكتاباته كعضو في حركة المقاومة الدنماركية أثناء الاحتلال الألماني للدنمارك في الحرب العالمية الثانية. وكذلك "كلاوس ريفبيرج" Klaus Rifbjerg الذي ألّف أكثر من 170 رواية وكتابًا. وجميعهم شكلوا جبهة أيديولوجية متحدة.

وبخلاف ذلك، استمر الاختراق الحديث، أي في أجزاء من الأدب النسائي الجديد، حيث أثارت "أغنيس هينينغسن" Agnes Henningsen غضبًا من تصويرها وعيشها وفقًا لمعايير أكثر حرية لعصر جديد. وكانت هينينغسن كاتبة دنماركية وناشطة في مجال الحرية الجنسية. تركزت كتاباتها على الحب والجنس، وكذلك على حياتها الخاصة.

كما أصبحت "ثيت جنسن" Thit Jensen شقيقة يوهانس في جنسن  مؤلفة الروايات التاريخية والمعاصرة، شخصية بارزة في النقاش حول النساء والجندر، والزواج، والشبقية، ومنع الحمل، والإجهاض. أدت حقيقة أنها تحدثت عن مثل هذه الموضوعات المحظورة إلى معارضة كبيرة لدى معاصريها، ولكنها ساعدت أيضًا في تغيير موقف المجتمع.

فترة الحروب العالمية

لقد تركت المذاهب العالمية ـ وبعضها له صلات بالرسم في ذلك الوقت ـ بصماتها في الأدب الدنماركي بدءًا من الحرب العالمية الأولى فصاعدًا عبر المذهب التعبيري المستوحاة جزئياً من "يوهانس فيلهلم جنسن" Johannes Vilhelm Jensen. وفي الشعر والروايات التي كتبها "إميل بونيليكي"Emil Bønnelycke، و"توم كريستنسن"Tom Kristensen.

أعقب التعبيرية لمسات متفرقة من السريالية عند الشاعر "ينس أغست شاد" Jens August Schade، والشاعر والرساّام "غوستاف مونش بيترسن" Gustaf Munch-Petersen.

على الرغم من أن هذه المذاهب كانت رائدة في الحداثة اللاحقة، إلا أنها أصبحت مع ذلك ظاهرة هامشية في أدب ذلك الوقت، والتي تميز بشكل أساسي بتيار متعدد الأوجه من الواقعية الوصفية على نطاق واسع: من عالم الطبيعة البرجوازي "جاكوب بالودان"Jacob Paludan إلى الأدب الاجتماعي أو الاجتماعي النقدي. الروايات، وروايات الصراع الطبقي، والتصويرات الاجتماعية الواسعة للحياة، إلى التصوير النفسي الجديد المستوحى من فرويد من قبل.

تميزت الثلاثينيات على وجه الخصوص بالانقسام بين الخط الراديكالي ثقافيًا، وأحيانًا الاشتراكي، ومجموعة غير متجانسة تمامًا من الكتاب الذين استمروا في أشكال التعبير التي تمت تجربتها جيدًا مع جذب جمهور واسع ومحافظ.

بالنسبة للجناح الراديكالي ثقافيًا، كان الشخصية الرئيسية هو المهندس المعماري ومصمم الإضاءة والكاتب المسرحي والمحاور الثقافي "بول هينينغسن"Poul Henningsen.

وعلى الجبهة المحافظة  أثار الكاهن والكاتب المسرحي "كاج مونك"Kaj Munk  ضجة. احتلت البارونة الكاتبة كارين "بليكسين" Karen Blixenموقعًا خاصًا، حيث بدأت بنشر كتبها منذ منتصف الثلاثينيات في الولايات المتحدة أولاً ثم في الدنمارك.

تم تقويض النزعة المحافظة الأرستقراطية من قبل الأنوثة المتمردة في قصص بليكسن وكانت في الواقع تعبيرًا عن نقد ثقافي مستوحى من نيتشه والذي حدث منذ تسعينيات القرن التاسع عشر. تم ترشيحها عدة مرات لنيل جائزة نوبل للآداب. اشتهرت بروايتها " خارج افريقيا"Out of Africa، وهي عبارة عن سيرة ذاتية لحياتها أثناء إقامتها في كينيا. ورواية "عيد بابيت"  Babette's Feas، وكلا الروايتين تم تحويلهما إلى فيلمين نالا جائزة الأوسكار. 

الفترة الهرطقية

في نهاية الثلاثينيات من القرن الماضي، اتخذ الشاعر والناقد الدنمركي "بول لا كور" Paul la Cour خطوة نحو إحياء الرمزية، والتي كان بيانها عبارة عن أجزاء من مذكراته عام 1948. جمعت مجلة "هرطقة" Heretica  مجموعة من الكتاب بقيادة "مارتن أ. هانسن" Martin A. Hansen، و"أولي ويفيل" Ole Wivel، و"ثوركيلد بيورنفيج" Thorkild Bjørnvig، الذين انفصلوا عن المذهب الواقعي ونظرته للإنسانية.

بدلاً من ذلك، استخدموا قضايا الدين والأخلاق والفن والشكل والطبيعة العالمية كأساس لكتاباتهم. كانت هذه القضايا مشتركة لدى العديد من المؤلفين والكتاب في الفترة أثناء الحرب العالمية الثانية وبعدها مباشرة. كانت تجربة تعبر عن أزمة ثقافية عميقة، والتي بناءً على التعايش مع الحداثة الفنية المرئية، وجدت تعبيراً ملموساً بلمسة دينية في شعر أولي سارفيج.

الحداثة والتقليدية بعد الحرب

في سياق الهرطقة ظهرت الحداثة من خلال: قصص قصيرة تجريبية لـ "مارتن أ. هانسن" Martin A. Hansen وتجارب "برانر" Branner الفردية في القصص القصيرة والمسرحيات والروايات، وشعر "سارفيج" Sarvig، لكنها كانت حداثة "معنية" أخلاقياً. في الخمسينيات من القرن الماضي اندلعت الحداثة على أنها أمر مسلم به ووجدت أشكالًا مناسبة للتعبير عنها.

أسس "فيلي سورنسن" Sørensen grundlagde فن سردي جديد، استندت فلسفته وشعره على وعي متزايد للغة. ويمكن أن يصور فقدان الهوية من خلال الاختلاف الذاتي والانقسام. بالنسبة لـ "كلاوس ريفبيرج" Klaus Rifbjerg تحول المسار من موقف "الشاب الغاضب" الطبيعي إلى اتجاه تجريبي متزايد، وبلغ ذروته في مجموعة الشعر الحداثية القوية "مواجهة" Konfrontation، ومجموعة "تمويه" Camouflage. ومنذ سبعينيات القرن الماضي فصاعدًا، انتقلت كتاباته المكثفة إلى اتجاهات أخرى أكثر توجهاً للجمهور، ولكن في شعره يتحد كسر الحدود المشبعة بالواقع مع الطاقة اللغوية التي جعلته مبتكرًا على قدم المساواة مع "يوهانس ف. جنسن" Johannes V. Jensen، و"آدم أولينشلاغر" Adam Oehlenschläger.

كانت للكتابات الدرامية للروائي الدنمركي "ليف ثورمود باندورو" Leif Thormod Panduro التي تحولت إلى أعمال تلفزيزنية تأثير شعبي كبير ضد مجتمع الطبقة الوسطى المنظم ومعاييره.

خلال الستينيات وبداية السبعينيات من القرن الماضي، يمكن ملاحظة تطور نزعة من العبث في شعر الشاب "بيني أندرسن" Benny Andersens وقصصه القصيرة، وفي نثر "بيتر سيبيرج" Peter Seeberg الذي نوقشت أعماله كثيرًا في ذلك الوقت، وفي شعر "إيفان مالينوفسكي" Ivan Malinowski، وفي كتابات الشاعر والمسرحي "جيس أورنسبو" Jess Ørnsbos ضد الحداثة البنائية أو الشكلية، وضد الحداثة الأدبية.

كانت هناك اتجاهات أخرى تؤكد نفسها في نفس الوقت مع الحداثة/ مثل الوجودية من خلال  فيلم وثائقي وجودي – تاريخي لـ "ثوركيلد هانسن" Thorkild Hansen بثلاثية مقتبسة من رواياته الثلاث عن تجارة الرقيق الدنماركية والتي تتكون من "ساحل العبيد" و"سفن العبيد" و"جزر العبيد". والواقعية النقدية والوجودية الواسعة من خلال الأديب الحاصل على جائزة نوبل للآداب عام 1917 "هنريك بونتوبيدان" Henrik Pontoppidan.

وكذلك السيرة الذاتية، ومعها الاجتماعية والنفسية، ووجهات النظر التي تصور حياة المرأة من قبل الشاعرة والروائية "توف ديتليفسن" Tove Ditlevsen. الواقعية المعاصرة لـ "أندرس بودلسن" Anders Bodelsens، و"كريستيان كامبمان" Christian Kampmann، و"هنريك ستانجروب" Henrik Stangerup.

الدعاية والخصخصة

أدت انتفاضة الطلاب في عام 1968 إلى ازدهار عنيف للجدل الأيديولوجي، وبالتالي تراجع الاهتمام بالتجارب الأدبية. ظهر خلال السبعينيات أدب عمالي جديد وخاصة الأدب النسائي، على سبيل المثال كتابات "جيت دروسن" Jette Drewsen، و "فيتا أندرسن" Vita Andersen، و "ديا ترير مورش" Dea Trier Mørch اللواتي أثرن نقاشاً واسعاً حول أعمالهم.

ساعد النقد الأيديولوجي القاسي لوظيفة الأدب وأشكال التعبير، والذي ازدهر في بيئة النقد الجامعي، في دفع اهتمام المؤلفين في اتجاه الحياة اليومية غير الأيديولوجية، والخاصة، والاعترافات، والعلاقات الحميمية. أصبحت النصوص الشعرية الدنيوية والعامية التي كتبت بأسلوب يسمى "النثر المتصدع" Knækprosa شكلًا غنائيًا شائعًا ومقروءًا على نطاق واسع. وهو نثر بمثابة قصيدة ملفوفة في سطور من الشعر. غالبًا ما يكون المحتوى ملحميًا وقصصيًا، في حين أن اللغة تكون سهلة تذكرنا بلغة النثر والقصص القصيرة أكثر من الشعر التقليدي.

الأساطير وما بعد الحداثة والخرافة الجديدة

في الثمانينيات والتسعينيات أصبح الناس مشبعين بالاعترافات حول الحياة اليومية الحميمة وبأشكال لا شكل لها من الأدب. وفي نفس الوقت الذي كانت فيه الماركسية الطلابية متعبة أثناء الانتعاش السياسي البرجوازي، سعى الأدب للعودة إلى جذوره كأدب.

ظهر جيل جديد من كتّاب الحداثة على سبيل المثال الشاعر "مايكل سترونج"  Michael Strunge، والأديب والناقد "بو جرين جنسن" Bo Green Jensen، والشاعرة والروائية "بيا تافدروب" Pia Tafdrup، والشاعر"سورين أولريك تومسن" Søren Ulrik Thomsen. وعادت الأشكال الأدبية الرومانسية والرمزية مرة أخرى.

انتقلت الواقعية التي كان يمثلها على سبيل المثال الكاتب والمخرج "هنريك ستانجروب" Henrik Stangerup إلى المشهد الثقافي عبر المواجهات الأيديولوجية والشخصية.

استأنف عدد قليل من الشعراء شكل الترنيمة  الذي كان أحد الركائز الأساسية للأدب الدنماركي المستوحى من الحداثيين الأقدم مثل "أولي سارفيج" Ole Sarvig، و"يورجن جوستافا براندت" Jørgen Gustava Brandt.

شكّل التدين الجديد إلى جانب ـ الانشغال بالكون والطبيعة ـ الخلفية لهذا الاهتمام بالترنيمة. واكتسب الوعي البيئي النقدي أبعادًا عالمية وأسطورية في أعمال الشاعر "ثوركيلد بيورنفيج" Thorkild Bjørnvig مؤسس محلة "هرطقة" كرد فعل ضد الموجة الحداثية والواقعية في الأدب الدنماركي، التي سادت في السنوات التي سبقت الحرب العالمية الثانية. والشاعر والمخرج "فاغن لونبادي" Vagn Lundby. وأعاد الأديب والناقد والفيلسوف "فيلي سورنسن"Villy Sørensen تفسير الأساطير الكلاسيكية والاسكندنافية وأعاد سردها.

ظهر فن سرد القصص النابض بالحياة خلال هذه العقود. كتبت "كيرستن ثورب"Kirsten Thorup عن عوالم أنثوية من الخبرة في النثر الذي يوازن بين الواقعية المتماسكة اجتماعيًا والواقعية الواسعة النطاق، والجانب النفسي الداخلي.

وازدهرت كتب الأدب النثر إلى حد كبير بأشكال مختلطة، بين الرواية والمذكرات، على سبيل المثال أعمال الشاعرة والروائية "سوزان بروجر"Suzanne Brøgger، وبين الواقعية الأدبية مثل كتابات الروائي والمسرحي الوجودي "بيتر سيبيرج"Peter Seeberg  والشاعر والروائي "جينز سميروب سورينسن"Jens Smærup Sørensen.

صوّرت الأديبة "دوريت ويلومسن"Dorrit Willumsen الأشخاص المعاصرين في صور مخيفة كنماذج ميكانيكية وضحايا لنظام اجتماعي مشوه. تم استعراض الحياة كمختارات من مصائر الإنسان في العزلة المشتركة بأعمال الكاتب والمحلل النفسي "بير هولتبرج"Peer Hultberg، كما تم انتشار أدب الشكل المختلط واسع الانتشار عالميًا بين الواقعية والسرد الخيالي، فيما سمي حينذاك "الواقعية السحرية" بسمة دنماركية خاصة وبطرق مختلفة بأعمال الروائي والشاعر "إب مايكل" Ib Michael، والكاتب الروائي "بيتر هوج" Peter Høeg.

حقيقة أن الكاتبة البارونة الدنمركية "كارين بليكسن"  Karen Blixen كانت واحدة من أكثر المؤلفين قراءة ومناقشة لأعمالها في الماضي القريب خلال تلك الفترة، وقد تركت بصماتها الواضحة على الأدب الدنمركي.

على الرغم من أوجه التشابه في الاختيارات، كان هناك قفزة كبيرة من التدرج الإلهي لفهم العالم في سرد بليكسن إلى ما بعد الحداثة اللامركزية والوعي الجسدي الذي يكسر الحدود بصورة لافتة في الأدب الدنماركي في النصف الثاني من الثمانينيات والتسعينيات.

تميز الأدب الدنماركي في أواخر القرن العشرين بالتنوع في كل من أشكال التعبير والأنواع واختيار المواد. في عام 1987 تم افتتاح مدرسة الكتّابForfatterskolen  برئاسة الشاعر والناقد "بول بوروم"  Poul Borum. وفي عام 1996 تمت الموافقة على برنامج الدراسة من قبل وزارة الثقافة الدنمركية كبرنامج تعليمي عالي لمدة عامين.

أسس المدرسة عدد من الطلاب أنفسهم. تم تقديم روايات في فترة التسعينيات غالبًا ما تكون مبسطة، وانفصلت عن التفسيرات السببية التقليدية والاجتماعية مثل كتابات الأديبة "سولفج بال" Solvej Balle. ومع ذلك رأى الروائي "ينس كريستيان جروندال" Jens Christian  Grøndahl إمكانيات جديدة في الاستكشاف النفسي للتقاليد الواقعية.

الواقعية الجديدة للأدب والشعر والنقد الاجتماعي

ذهب الجيل الجديد من الكتاب، على حد تعبير جنسن، "بلا خوف إلى الحياة اليومية" وانتشروا في أرجاء الدنمارك بأكملها ولم يقتصروا على العاصمة كوبنهاغن. غنى جنسن لحبيبته "هيمرلاند" Himmerland  وسجل "مارتن أندرسن نيكسو"  Martin Andersen Nexø خريطة أرض بورنهولم، كما تناول "يوهان سكجولدبورج" Johan Skjoldborg  و"جيبي أكيار" Jeppe Aakjær   الإرث من أوصاف "ستين ستينسن بليشر" Steen Steensen Blichers لجزيرة يولاند في نسخة أقل رومانسية.

وفيما يتعلق بوصف الواقع، كان هناك أيضاً التزام اجتماعي ظهر بوضوح في الأعمال. كان المؤلفون واحدًا مع مادتهم. وذلك لأنهم لم يصفوا بيئاتهم من الخارج، بل من الداخل.

الأديب "يوهان سكولدبورج" Johan Skjoldborg الذي أصبح معروفاً باسم المدافع عن المزارعين، كان يعمل كعامل يومي وكان والده هو نفسه مزارعاً، وكان لدى الشاعر " جيبي أكيار" Jeppe Aakjær أيضًا معرفة مباشرة بظروف المزارعين ولم يكن أحد يعرف محنة العمال بشكل وثيق أكثر من "مارتن أندرسن نيكسو" Martin Andersen Nexø، الذي نشأ هو نفسه في بيئة فقيرة للغاية.

بالنسبة لهؤلاء المؤلفين، كان لتربيتهم  والظروف التي هم، الأثر المهم في إصدار سلسلة من الأعمال الساخطة اجتماعيا، حيث شكل وصف ظروف الطبقة العاملة -سواء في الريف أو في المدينة- نقدا اجتماعياً لاذعاً.

***

د. حسن العاصي

باحث وكاتب فلسطيني مقيم في الدنمرك

صدرت للمبدع محمد محضار مجموعته القصصية "لحظة شرود" عن مطبعة دار الوطن في طبعتها الأولى، سنة 2013، وتضم في ثناياها سبعة عشرا نصا، يمكن تقسيمها إلى قسمين بحسب تاريخ كتابتها: القسم الأول ويشتمل على نصوص ما قبل سنة 2000 وعددها ثمانية، والقسم الثاني يتضمن نصوص ما بعدها وعددها تسعة، بمعنى، أن العدد يكاد يكون متساويا، مع العلم، أن القاص قد اختار أن يكون نص الافتتاح ونص الختم من القسم الأول؛ وكأنه يخبرنا أن النفس واحد، وأن الانشغال بقي واحدا؛ وأن الواقع المزري مازاد إلا استفحالا؛ غهوالمولد للاكتآب وأن التقنية نفسها، أي الاعتماد على البداية والوسط والنهاية، مع تكسير لتتابع الأحداث بالاسترجاع؛ وهي تقنية تضعنا أمام نصين اثنين، يقرأ أحدهما الآخر، وكأنهما متقابلان، ومتضادان. كما أن القاص لا يسعى إلى الجريب من أجل النجريب، لأن في ذلك خراب للكتابة، وتنفير للمتلقي، بل يؤمن بالتجديد بنسب لا تجعل خيط التواصل مع القارئ ينقطع.

وتجدر الإشارة في هذا الخصوص أن نصوصا جاءت مذيلة بتاريخ كتابتها كاملا، وأخرى اكتفت بالسنة لا غير، وأخرى عرفت بمكان الكتابة، وهما نصان: مراكش، وخريبكة، ونص واحد أثبت الجريدة التي قامت بنشره على صفحاتها. وباعتماد الشهور، سنجد أن فصل الخريف قد حاز ستة نصوص، أما فصل الشتاء فحاز نصا واحدا، وفصل الربيع حاز ثلاثة نصوص، وكلها ارتبطت بشهر أبريل، أما فصل الصيف، فقد حاز أربعة نصوص استحوذ شهر يونيو على معظمها، فيما ظلت ثلاثة نصوص خلوا من الشهر. وهذا يقودنا إلى الاستنتاج التالي: إن المبدع لا ينثال قلمه إلا في فصلين؛ وهما، فصل الخريف وفصل الصيف، أما في فصل الشتاء، فيعتمد استارتيجية الدب. ويستعيد القلم حيويته في فصل الربيع، وبخاصة في شهر أبريل، دون بقية شهوره.

عنوان المجموعة يعتمد بناء الجملة الاسمية، وينبني على حذف المبتدأ مكتفيا بالخبر ذي الكلمتين؛ وهما: لحظة، وشرود؛ فاللحظة فترة قصيرة من الزمن بمقدار لحظ العين؛ أما الشرود فهو التيهان، وعدم الانتباه إلى ما يجول حولنا. والجمع بين الكلمتين يفيد أن هناك فترة زمنية تعاش خارج اللحظة الراهنة؛ إنها خارج الزمن الحاضر؛ فقد تسير باتجاه الماضي، وهو الغالب؛ وقد تتجه صوب المستقبل، كنوع من الاستشراف. المهم أنها لا تمت للحاضر بصلة من حيث التسلسل؛ فهي خرق له، واستدعاء لزمن مختلف. والبين أن فعل الحزن هو المحرك لمثل هذا السلوك النفسي، إذ إن السفر إلى زمن مختلف يرتبط بالنفس لا بالجسد.

والمجموعة حافلة بقاموس الوجع، وهو قاموس موزع بالتساوي بين النصوص، يحضر بكثافة في النص الأول، حيث يمكن تلمس ذلك من خلال المعجم الموظف؛ وهو معجم يرخي بظلاله الحزينة على العمل ككل، ولعل العناوين خير دليل على هذا الأمر. فالحزن يعتري الأب رغم انه يعيش لحظة فرح، لكنه يرى القادم بنوع من السوداوية، كونه أقام عرس ابنته بواسطة الاقتراض، ويستوجب عليه أن يعيده أقساطا؛ وهو أمر قد تعود عليه، فحياته مجرد عمل متواصل لا مجال فيه للراحة والاستمتاع.

والأمر نفسه بالنسبة للمومس التي وجدت نفسها تبيع جسدها بعد أن طلقها زوجها، لكنها، رغم كم المرارة التي عاشتها؛ فقد شعرت بقليل من المتعة استلتها من وقتها المزدحم بالخيبات؛ وهي تمشي قرب البحر تتنفس هواء نقيا، نص "خلوة" ص 23.

ويبلغ الوجع أقصاه، في نص "الغاية تبرر الوسيلة"ص 27، حيث تختار شخصية النص الانتحار حرقا، اقتداء بالمكفوفين الذين يهددون بإحراق أنفسهم إن لم يحصلوا على وظيفة في القطاع العمومي. والاقتداء بالمكفوفين يعني، أيضا، الاختيار الأسوأ؛ إذ كان على الشخصية أن تبحث عن وسائل أخرى لإثبات ذاتها بشكل إيجابي، يسمح للكل بالحديث عنها بفخر، لكن، أن تنقذف باتجاه النار لن يحقق لها البطولة.

ما الذي يدفع الإنسان إلى وضع حد لحياته إن لم يكن الظلم والإقصاء واللاجدوى، ونجد في نص "لعنة الليل" ص13

إن السفر إلى الماضي يتحكم في العديد من النصوص، وما استعادته إلا بغاية قراءة اللحظة الراهنة، ونقد ما تحقق، على اعتبار أن ما تحقق لا يتساوق ورهانات تلك الفترة؛ فما تمخض لم يكن في مستوى التطلعات، بل يمكن القول: إنه أصاب النفوس بالخيبة والمرارة. ففي نص "لحظة شرود" ص 17، نجد السارد يستعيد الماضي حيث الصراع بين المستعمر والخونة من جهة، والمقاومين من جهة ثانية، ويتمخض هذا الصراع العنيف غالي الثمن، بالاستقلال المخيب للآمال. لقد كان تعرضه لحادثة سير فرصة استعادة فترة من فترات زمن المغرب إبان الاستعمار، بقصد مقارنته بالزمن الحاضر، إذ لا معنى للاستحضار إذا لم يكن بغاية مقارنته بالآن. والخلاصة أن التضحيات أثمرت بؤسا. وعليه، يمكن القول: إن الصدمة كانت ذات بعدين؛ حقيقي ورمزي؛ فقد صدمته السيارة حقيقة، كما صدمه الواقع رمزيا.

ترى، ما أسباب الحزن والقتامة الحاضرين بكثافة في نصوص المجموعة؟

قبل ذلك، تجدر الإشارة إلى أن الحزن الذي لون الشعر والقصة والرواية، وكل نصوص مجموعة "لحظة شرود" ليس بغاية إنبات اليأس في النفوس، بل من أجل رفع منسوب وعي القارئ بواقعه، بغاية إصلاحه؛ إنها نصوص تحتفي بالحياة، ولا تقبع في قعر اليأس أبدا، بل تفتح نوافذ لتهب رياح السعادة، المحققة للتغيير الإيجابي.

من أسباب شقاء الإنسان العربي بعامة، والمغربي بخاصة، نجد: القمع السياسي البوليسي، نص "الخطو الشارد" ص 62، والقمع الاجتماعي نص "مالكة" ص 67، والوصولية والانتهازية، والخذلان، نص "الفرصة الأخيرة" ص 64.

ولم تقف النصوص عند هذه التيمات، بل وسعت من دائرة اهتمامها، للحديث عن بعض المهرجانات الصاخبة والمعبرة عن تدني الذوق، من مثل نص "الحفرة" ص57.

وقد اعتمد القاص على تقنيات عدة في تشكيل معمار نصوصه، من مثل الاسترجاع الذي لعب دورا في بناء الأحداث، وخلق المفارقات الدالة؛ إضافة تنويع في الضمائر، والسراد، زائد السخرية المرة من واقع متعفن، رفع درجات الفن الهابط على حساب الجاد والممتع؛ فضلا عن الحوار بشتى أنواعه، حيث قدم معرفة للقارئ عن وضعيات الشخصيات، ومواقفها من الأحداث، والشخصيات الأخرى، وعرى نواياها وطموحاتها، إضافة إلى المقابلة البانية، حيث التعارض بين الجميل والقبيح.

مجموعة "لحظة شرود" عمل يحتفل بالحياة بالرغم من اكتساح الحزن لكل مفاصيل النصوص، لكنه لم يدفع بالقارئ إلى اليأس، بقدر ما كان الهدف التعبير عن الرغبة في إصلاح أسباب الخيبات، وبناء عالم تسوده العدالة الاجتماعية، والمساواة، وتتحقق فيه الكرامة بكل أبعادها، مع احتفاء بالتجديد المدروس وإن بدت النصوص تقليدية، لكنها وظفت الكثير من التقنيات لخدمة أغراضها، كالاسترجاع، والمقابلة، وتنويع الضمائر، مع حضور السخرية المرة، كل ذلك بلغة بسيطة وسهلة، لكنها تمتلك عمقا، وتعبر بصدق عن معاناة الإنسان في ظل القهر والفقر والاقصاء.

***

بقلم عبد الرحيم التادلاوي

مقدمة: يعد الناقد الجزائري وحيد بن بوعزيز من الأسماء النقدية المعاصرة التي تملك رؤية معرفية متعددة، تقوم على مبدأ انفتاح الدرس الأدبي على المعارف المجاورة، فهو يعمل منذ سنوات داخل حقلي الأدب المقارن والدراسات الثقافية، محاولا خلق وعي نقدي جديد يهدف من خلاله إلى توطين الدرس الثقافي وربطه بالشواغل الثقافية في الجزائر، مستدعيا الثقافة الجزائرية عبر أسماء كل من مالك بن نبي وعبد القادر جغلول ومصطفى الأشرف وعلي الكنز وغيرهم، دون أن يغفل عن جهود فرانز فانون وادوارد سعيد وهومي بابا وغياتاري سبيفاك وإعجاز أحمد وجوديت بتلر وجوزيف مسعد ...

لقد فتح بن بوعزيز بحوثه على آفاق جديدة، دون نسيان واقع الجزائر وعلاقته بتاريخه الثقافي، خاصة بعد الاستقلال، ومن بين الملفات التي يشتغل عليها مع طلبته وفي كتاباته ومشاريعه البحثية هو "ملف الذاكرة" وعلاقته بمقولات الاعتراف والنسيان و أسئلة التاريخ من أسفل...

يتعامل بن بوعزيز من جهة أخرى مع موضوعات الأنا الجزائرية وعلاقتها بالنضال الثقافي الذي رافقها طيلة عقود وصولا إلى الراهن وتطوراته، كاشفا عن تحيزات الخطاب الكولونيالي وباحثا عن أنماط وسبل الهيمنة الثقافية.

ينخرط الباحث في حقل الدراسات الثقافية منذ سنوات، وذلك انطلاقا من جهوده المختلفة؛ تدريسا وتأليفا وترجمة وتأطيرا أكاديميا، حيث يملك رصيدا ثريا يغطي باقة من الدراسات المتنوعة في هذا الحقل المعرفي، بداية بكتاب حدود التأويل قراءة في مشروع إمبيرتو إيكو النقدي ثم كتابه الرائد "جدل الثقافة" مقالات في الأخرية والكولونيالية والديكولونيالية 2018.

ويجمع هذا الكتاب بين دفتيه مقالات نقدية تخص مباحث الآخرية والكولونيالية وتفكيك الكولونيالية، الأمر الذي جعله يتقاطع منهجيا ومعرفيا مع مجال الدراسات الثقافية، والسبب أنه اجتهد في تغطية مجموعة من المباحث والموضوعات الثقافية التي قد تظهر أنها منفصلة ولا رابط منهجي بينها . لكن المسوغ المنهجي الذي جعلنا نجمع هذه المقالات ضمن حدود الدراسات الثقافية هو تبني مفهوم المظلة (the Umbrla term)، والذي يفيد على مدى قدرة هذا النوع من الدراسات على تغطية مباحث وموضوعات عديدة ومختلفة، يجمع بينها الاشتغال على فكرة الثقافة، وتسربها إلى الخطاب بمختلف أنواعه.

ويظهر من خلال كتاب جدل الثقافة أن الباحث يملك دراية معرفية ومنهجية دقيقة في التفريق بين المفاهيم والمصطلحات، إذ يستعمل في العنوان الفرعي للكتاب مفهوم الديكولونيالية، الذي يحيل على التخلص من الكولونيالية، أو تفكيك الاستعمار وهو الكشف عن جميع أشكال القوى الكولونيالية وتفكيكها، بما في ذلك تفكيك الجوانب الخفية للقوى المؤسسية والثقافية التي حافظت على القوى الكولونيالية، وتستمر إلى أيام الاستقلال السياسي

يعني هذا أن وحيد بن بوعزيز يعلن للقارئ منذ عنوان كتابه انخراطه في عملية "إعادة" قراءة موضوعات ثقافية، محاولا الكشف عن مواطن الخطاب الكولونيالي والبحث في جوانبه المضمرة، وكيفية تشكلها داخل الخطابي الأدبي.

وقد أشرف وحيد بن بوعزيز أيضا على دراسات جماعيّة أهمها كتاب ثقافة المقاومة وهو كتاب جماعي من منشورات الجمعيّة الجزائرية للدراسات الفلسفية. وقد تضمن مقالات متنوعة تجمع بين منظورات فلسفية واجتماعية وأدبية نقدية، لينتمي بذلك إلى حقل الدراسات البينية. و قد كتب له الأستاذ وحيد بن بوعزيز مقدمة هي بمثابة "بيان نقدي" أساسيا لما يسمى بثقافة المقاومة.

وكتب وحيد بن بوعزيز أيضا تقديما لكتاب: العين الثالثة، تطبيقات في النقد الثقافي وما بعد الكولونيالي الصادر عن دار عام 2017. وهو كتاب جماعي يتضمن على باقة من المقالات النقدية الجادة أنجزها أساتذة من مختلف الجامعات الجزائرية، حيث اشتمل على قراءات نظرية وأخرى تطبيقية ركزت على مدونة أدبية تغطي روايات عربية وجزائرية وعالمية، معتمدة في مقاربتها على مقولات النقد الثقافي والنقد ما بعد الكولونيالي.

وأهم ما ورد في مقدمة الكتاب قول بن بوعزيز: " لقد اثبت تاريخ الأفكار والعلوم والنظريات بأن التطبيق معيار أساس في قياس مدى نجاعة مقولة تفسيرية أو تحليلية، فشهرة النظرية وانبعاثها الأثيري الكبير لا يدلان على قدرتها الإجرائية وستكف على الخفقان بمجرد اختبار لها أمام العملية التأويلية؛ التي تعد حالة فينومينولوجية وواقعية بامتياز. في حين أثبت هذا التاريخ نفسه بأن قوة نظرية ما لا تكمن في غطرسة تجريدها أو في عنان تخييلها الذي لا تحده حدود، بل تكمن فيبعدها العملي ومدى واقعتيها وإيجابيتها في التجارب مع تحيينات العملية التأويلية والتفسيرية " العين الثالثة ص5.

ويسجل بن بوعزيز في كتابه بؤس النظرية، مساءلات في الدراسات الثقافية الصادر مؤخرا عن منشورات ميم. بعض الملاحظات الهامة منها ما يخص مفهوم الثقافة وحقل الدراسات الثقافية ومنها ما يتعلق بموضوعات الذاكرة والغفران وغيرها. وسنكتفي في هذه الورقة بالتطرق إلى ملاحظاته عن الثقافة والدراسات الثقافية.

فالثقافة عنده لم تعد " بشكلها الإيديولوجي والمادي معا مطية لتفكير ثوري يطال الحياة العامة، بل أصبحت موضعا محظيا به في عالم السوق، وأسهم في خلق هذا البراديغم الجديد التطور المذهل للتقنيات التواصلية في العالم، فلا تصبح الثقافة حكرا على فئة اجتماعية معينة بل أصبحت جماهيرية." بؤس النظرية، بؤس النظرية ص56.

صحيح لم تعد الثقافة حالة ثورية كما عرفت عند النقاد الماركسيين، بل تحولت مع بروز مجتمعات الاستعراض إلى نوع من السلع التي تتحكم في الأفراد وتوجههم كما تريد، خاصة مع تلك الدعوات إلى مجتمع الوفرة والرفاه. إن الثقافة في هذا السياق خاضعة لعالم السوق من جهة وجماهيرية من جهة أخرى. هذا النوع من الثقافة الذي يتداخل

ويواصل وحيد بن بوعزيز حديثه حول فكرة " دمقرطة الثقافة" والتي لا "تعني بأي حال من الأحوال أنها أصبحت فاعلية في تغيير الأشياء؛ لأنها كغيرها من العناصر التي اعتلجت بالدائرة الاقتصادية أصبحت عبارة عن منتوج اقتصادي تتدخل فيه جدلية العرض والطلب. " بؤس النظرية ص 56

يستبطن هذا القول نقدا لفكرة دمقرطة الثقافة التي تنتشر في جملة من الكتابات وكذلك الدعوات إلى هذه الفكرة، حيث لم تعد الثقافة إلا منتوجا اقتصاديا يتحكم فيه السوق. خاصة وأن الذراع الثقافي قد أصبح أحد أذرع الهيمنة الجديدة رفقة الذراع المالي والذراع التقني ... ينظر محمد فرج، الرأسمالية وأنماط الهيمنة الجديدة.

كما يناقش وحيد بن بوعزيز بعض القضايا التي ترتبط أساسا بالدراسات الثقافية، ومن هذه القضايا ما جاء في قوله: " وقد يتعجب المتابع لحقل الدراسات الثقافية من تلك الانتقائية الموجودة في مسألة التمرجع la référenciassion إذ تحضر الكثير من المفاهيم والمصادر التي قد تصل إلى حد التناقض لكي يدلل فقط على فكرة واحدة أو تحليل مقطع نصي واحد." بؤس النظرية ص 57

تعد هذه الفكرة من العواضل التي تواجه حقل الدراسات الثقافية وهي الكثرة المفرطة للمراجع والمفاهيم والمصطلحات والأسماء النقدية والفكرية التي صارت مع مرور الوقت عبئا ثقيلا على كاهل هذا التخصص النقدي. ويكفي أن نعود إلى كتابا من كتب الدراسات الثقافية عند الغرب أو عندنا حتى تواجهنا هذه المعضلة المنهجية .

كما يعتقد بن بوعزيز أننا عندما نقرأ لكثير من النقاد الثقافيين ينتابنا بعض الغموض والالتباس ليس بسبب عمق الفكرة مرات، بقدر ذلك الانتقاء/ التلفيق الذي يأخذ بتلابيب التحليل." ص57

وليثبت وحيد بن بوعزيز ذلك يستحضر حالة الناقد الهندي في كتابه "موقع الثقافة" حيث نجد فيه "حضورا للكثير من المقولات من مجالات شتى، فيحضر دريدا مع مع فرديريك جيمسون ولاكان مع ريموند ويليامز وفرويد مع ماركس وف. س نايبول وفرانز فانون مع سليمان رشدي ووالتر بنيامين مع ميشيل فوكو..." ص57

ربما يقع القارئ في حيرة معرفية تخص هذا الناقد الهندي الكبير الذي يعد أحد أقطاب النقد ما بعد الكولونيالي في العالم، ومبرر هذه الحيرة هو كيف له أن يقع في مثل هذا التلفيق، حيث إن كل تلفيق في الأسماء يؤدي لا محالة إلى تلفيق في المعارف والمفاهيم النقدية.

غير إن وحيد بن بوعزيز سرعان ما يفسر ذلك حين يربط بين الجمع بين هذه الأسماء المتباينة وبين "نظرة ما بعد حداثية ترفض كل الثنائيات والتجاذبات بحجة أنها ثنائيات ميتافزيقية، لهذا لكي يتم بطبيعة الحال الجمع بين هذه التجاذبات من ضفة يسارية ومن ضفة يمينية ليبرالية يتوجب على الناقد الثقافي التضحية بالمقولات الأساسية التي تفصل بين توظيف هذا الجمع وبين الكتابة." ص 58.

تبقى هذه الملاحظات بمثابة إحالات على جهد نقدي يستحق مساحات أرحب للنقاش. ومن المواصفات التي يمكن أن نسجلها عن هذا الجهد وحيد الآتي:

- يهدف وحيد بن بوعزيز إلى الاشتغال بروح جماعية؛ أي عدم الاكتفاء بالمحاولات الفردية، لأن هذا الحقل يستدعي وجود وعي نقدي جماعي، وهو ما نلمسه في مجموع مراكز الدراسات الثقافية العالمية التي تأسست في بريطانيا وأمريكا واليابان وهونغ كونغ وأستراليا وغيرها.

- محاولة منح صبغة جزائرية لجهوده وجهود طلبته من خلال التركيز على القراءات النقدية ذات التوجه ما بعد الكولونيالي والبحث في مواطن العلاقة بين الأنا بالأخر.

-الانفتاح على معارف مجاورة للظاهرة الأدبية وعدم سجنها في القراءات النصية والحرفية، والتعاطي مع مباحث ثقافية وسياسية وتاريخية وإعادة استدعاء السياقات التي امتصتها النصوص الأدبية.

***

د. طارق بوحالة - الجزائر

رواية "سبع رسائل إلى أُمّ كلثوم" للكاتب علاء حليحل، الَّتي صدرت حديثا عن دار الأهليّةِ للنّشر والتّوزيع في عمّان (2023)، وتقع في مئتين وست وخمسين صفحة من الحجم المتوسط، تدور أحداثها في بداية الإنتفاضة الفلسطينيّة الأولى.

نجح الكاتب في وصف القرية آخذا القارئ إلى مسارات جميلة؛ ليعيش بين دفّتي روايته، حكاية مغايرة في مدار البيت والأسرة، في عالم حيكت سطوره من بساطة الحياة الرّيفيّة، ومن طبيعة المكان وأهله، من مواسم الشّتاء والصّيف، ومن دروب تعانقت فيها القلوب، وتلَّة عاشت خلفها الأحلام والرّغبات، وصغار يقرعون بأقدامهم الصّغيرة طريق الدّهشة.

ثمّة إحساس لا يمكننا القبض عليه ونحن نقرأ، إحساس بحنين غامض، وشوق مخبّأ لتلك الألفة المفتقدة، لبيتِ الطُّفولة الأوّل، للأحباب والجيران وعتبات البيوت المطلَّة على الخير.

نقرأ هذه الصّور الفنيّة فتأخذ الرّؤية صورتها الأبهى والأكمل، وتأخذ الأفكار والكلمات معناها العميق، وكلَّما قلَبنا صفحة وطوينا أخرى، نتوق شوقا إلى تلك السّكينة البعيدة؛ لنعود أطفالا نعبث ونلهو بتلقائيّة تاقت لها النّفس كثيرا.

شّخوص وأحداث ودلالات عدّة:

يسكن مصطفى وهاجر على تلَّة البلّوطة، قُبالةَ قرية جليليّة نائية، وهو يعمل في مَحجرِ والده ويجسّد شخصيّة الإِنسان المسالم، زوجته هاجر مغرمة بالقراءة والكتابة، تصطدم بعودة حبيبها السّابق "جمال" من غربته زائرا، بعد أن هاجر البلاد متخلّيا عنها بعد تطوّر العلاقة، فتُحدِثُ عودته المؤقّتة في نفسها بعض الارتباك، تعاودها الذّكريات الماضية وتنغّص عليها الحاضر، وتندفعُ إلى تقييم حياتها ومراجعة علاقتها بزوجها الَّذي لم تحبه ولم تنسجم مع طباعه، فهو صامت جامد يتعذّر عليه البوح بمشاعره، يتردّد بالحديث عن احتياجاته ورغباته، ذلك الخلل في شخصيّته أدّى إلى اتّساع الفجوة بينهما، ممّا دفع بزواجهما إلى الانهيار، فهو يعاني ملل الحياد والصّمت، لم تكن لديه القدرة على مواجهة الواقع، الَّذي اعتبره حتميّا لا يمكن تغييره أو التّمرّد عليه.

تقع الشّخصيّتان في الوحشة والجفاف العاطفيّ، وكأنّ أحدهما لا يرى الاخر جيّدا ولا يدرك معاناته، مع الوقت ينقلبان على موقفهما الصّامت، فيتنامى إحساس هاجر بالتّمرّد على الواقع فتطلب الطَّلاق، ويتنامى إحساس مصطفى بالتّمرّد على الحياديّة والامتثاليّة فيقرّر المشاركة بالانتفاضةِ بما استطاع إليه سبيلا.

تبدأ الأحداث في تطوّرها إلى أن تتعقّد، فيتأزّم الوضع بين الزّوجين أكثر، يزرع مصطفى الغيرة دون قصد بين طفليه يزن ونور.  يأتي ذلك عبر المقارنات الدّائمة بينهما، فيزداد الأمر صعوبة. وكما تنتقل الصّفات الجسديّة بالوراثة، تنتقل الصفات الخُلقيّة بالوراثة أيضا، فيزن شبيه لأبيه في طِباعه، ونور شبيه لأمّه في طباعها.

تُدوّن هاجر خواطرها ومشاعرها الدّفينة، لم ترغب أن يكون حزنها الكبير مشاعا؛ فحبسته في دفترها الصّغير، ولتتفادى مشاعر الهزيمة كتبت عن خيبة الحبّ والأمل، ووصولا إلى التّوازن النّفسيّ والسّلام الدّاخليّ بدأت تسطّر بعض الرّسائل إلى سيّدة الغناء العربيّ "أمّ كلثوم"؛ لتحكي عن أخبارها وأسرارها وتجاربها الذّاتيّة.

سِمات فنّيّة ومشاهد:

دُمجَ النّصّ بسرد السّيرة الغيريّة للسيّدة أُمّ كلثوم، الَّتي تناولها الكاتب فتحدّث عن حياتها وإنجازاتها الفنّيّة. أمّا الأحداث فانطلقت ضمن تسلسل منطقيّ مشَوّق، وُظَّفَت التّقنيّات السّرديّة وتضمّنت بعض الرّسائل وبعض الحوارات الدّاخليّة الَّتي أطلعَتنا على مشاعر الشّخوص وخفاياها، وكذلك الحوارات الخارجيّة الَّتي ساعدتنا على الإمساك بالحبكة وفَهمِ مُجرياتِها، كما حملتنا اللُّغة بسلاستها وصورها ومشاهدها التّصويريّة إلى لقطات منوّعة عاشها الأشخاص، يصاحبها أحاسيس مختلفة، لتنسكب الحالة الشّعوريّة في هذا التّنوّع، في الفكرة والسّرد والوصف وكلّ التّفاصيل، وصفحة بعد صفحة، تخرج العبارات من ثوبها المُنمَّق؛ ويتوَشّحُ معناها بالحزن.

في مشهد موجع ولافت، يختبئ نور خائفا وراء تنكة معدنيّة كبيرة في المخزن، يحتضن جرّوهُ الصّغير "ركس" ليُخفِيهِ عن والده الذي يرفض الكلاب ويعتبرها نَجِسة، يضع يده بقوّة على فمه لكتم صوته، لم ينتبه أنّه يضغط على أنفه، يحاول الجرو الإفلات من قبضته، منتفضا محرّكا جسده ورأسه، وفجأة تلتقي نظرة نور بنظرة والده فيرتجف، يتمكّن الجرو من التّحرّر للحظة وسحب أنفاسه، لم يتمالك الطّفل نفسه لشدّة خوفه؛ فبال على نفسه دون إرادته، انهمرت دموعه بغزارة، وتسارعت دقّات قلبه فغدَت موجعة.

يقطع نور حبل الوصف المتّصل ويتساءل: لماذا لا يسحبه والده من وراء التّنكة ليعاقبه؟ أغمض عينيه وانتظر العقاب بتوجّس، فكانت المفاجأة حين فتح عينيه ووجد أنّ والده قد غادر المخزن متجاهلا ما رأى.

يكشف هذا المشهد مع مشاهد أخرى عن علاقة الأب مصطفى بطفليه، وهي علاقة تربويّة مبنيّة على الهيبة والعقاب، أفقدته دور الصّديق لأطفاله، تماما كما علاقة المعلمة روز بطلّابها.

كانت علاقة يزن بأبيه علاقة طاعة وولاء، أمّا علاقة نور بأبيه فكانت علاقة خوف ومحاولة تحرّر، من هنا نجد أنّ رمزيّة الأب كانت فوقيّة، تجاوزت التّربية والإعالة، فهو الأب السُّلطويّ التّقليديّ، ينتهج أساليب الأمر والقوّة رغم حُنُوِّه، وفي مشهد آخر نجده يخاطر بحياته؛ لأجل استرداد الجرو الضّائع من المستوطنين "الفراكش" وإعادته إلى طفله نور الذي فرح به فرحا عظيما.

في مشاهد أخرى نرى جانبا مختلفا من شخصيّة مصطفى، الَّذي يركب الصّعاب غير مبال بالتّعب، وذلك لمساعدة المتظاهرين بسرِّيّة تامّة، يُكَسّر الصّخر الكبير في المَحجَر، ويحمل الحجارة في صندوق سيّارته، ينطلق إلى شوارع جنين ويلقيها هناك، ويعود أدراجه بسرعة كبيرة.

كان يعتزّ بهذا العمل السّرّيّ الَّذي أخفاه حتّى عن زوجته، لكنّه قرّر أَخيرا اصطحاب ابن عمّه وجدي لمشاركته في ذلك، وفي طريق العودة راح وجدي يردّد قصيدة توفيق زيَّاد:

"هنا باقون، على صدوركم، باقون كالجدار، وفي حلوقكم، كقطعة الزّجاج، كالصّبّار".

هذه المشاهد كانت ضروريّة بكلّ تفاصيلِها؛ للكشف عن مبادئ مصطفى وطبيعة أفكاره، والقيم الّتي يؤمن بها ويعمل لأجلها، فهُوِيّته الوطنيّة تَلُحُّ عليه، وهي غير مفصولة عن قوميّته الَّتي استشعرناها في وصف القرية والتّلَّة والوادي، وفي اللَّهجة الفلسطينيّة الَّتي نَبَتَت من عمق الأَرض وجذورها، وكأنّي بالكاتب يقول: هنا باقون لأنّ أقدامنا تمتدّ جذورا في تراب هذه الأَرض، نحمل حجارتها بيد لا تعرف التّردّد، ونعاهدها أن لا نأبه ببطش العابرين.

مشهد آخر ينساب من واقع المكان، يملأُ القارئ بشعور الفقد والحسرة حين يتساءل نور: "شو يعني النّكبة؟" وذلك حين حدّثتهُم هاجر عن تاريخ القرية وهم يسيرون عائدين من بيت والديها، كانت تتحدّث عن الأزّقة والأشجار وعن بيت المختار، الّذي اختبأ فيه الفارّون من القرية المجاورة، حين دمِّرت وشُرّد أهلها وقُتل من قتل. توقّفت الأمّ عن المشي ونظرت إلى السّهل المُنبَسِط أمامها، أشارت بيدها ثمّ قالت: "شايفين بيوت الحجر الكبيرة اللَّي حواليها الصّبر"، نظر الولدان بتعجّبٍ إلى بعضهما البعض، قال يزن: "لا.. مِشّ شايفين"، هَزّت هاجر رأسها، وربَّتت على رأْس يزن قائلة: "هاي هيي النّكبة".(ص18)

بِهذه الإِشارة ترسلُ الأمّ رسالة لطفليها؛ أنّه لا يمكنهما التّجرّد من الجذور والذّاكرة الجمعيّة، الّتي تُشكّل في مُخيّلتِها نسيج القرية برمزيتها للوطن، فهي تستحضره ليبقى حاضرا في وجدان الأبناء وذاكرتهم، وذاكرة الأجيال القادمة، والأمّ برمزيتها أَيضا تُمثَّل صوت الأرض والذّكريات والتّاريخ، صوت القلب المبلول بالحزن، وصوت الضّمير والذّاكرة الشعبيّة الحيّة الَّتي لا تموت.

رسائل من فيض اللّغة:

الرّسائل فسحة ومُتنفّس لمن يكتبها، يضع فيها أكثر الأفكار والعواطف صدقا وحميميّة، والرّواية الرّسائليّة معروفة، ولو بحثنا في النّماذج الرّوائيّة الفلسطينيّة لوجدناها حاضرة فمثلا: رواية "الجرجماني" للأديب حسن حميد، التي بُنيت أحداثها على شخصيّة محوريّة، تكتب الرّسائل التي احتشدت فيها الحكايات.

خصّص الكاتب حليحل لأمّ كلثوم مساحة عريضة في السّرد؛ لنلمس إعجابه بفنّها صوتا وأداءً ولحنا وكلمة. تكتب هاجر رسائلها المُتخيّلة إلى أمّ كلثوم كمذكّرات وحوارات ذاتيّة ومناجاة؛ لتتغلَّب على حزنها، تكشف عن خفاياها وانشغالاتها العاطفيّة والإنسانيّة، فتستحضر الماضي والحاضر، وتكتب عن الوطن والقهر والعُنف، من زاوية أخرى تتوحّد هذه الرّسائل مع المتن الرّوائيّ، تحمل شكل الذّكريات المخبّأة، وتفاصيل الأحلام والرّغبات والأسرار السّاكنة، وتُلخّص الأحداث وتجعلها متَّصلة متماسكة، وتأخذ القارئ إلى محطَّات كثيرة.

كتبت رسالتها الأُولى فقالت: أيُّ جنون أن أكتب لك؟ فأنا أكتب لنفسي فقط، أملأ الدّفاتر بكلمات تعني لي شيئا ما. (ص40)

تحدّثت عن طفليها وذكرت زوجها قائلة: أحاول استحضار الطّفل الَّذي كانه، عَلّيْ أحرّك في داخلي رغبة أو ودّا له. (ص42)

تعاود استذكار جمال فتقول: تَتموّجُ الذّاكرة في الرّأْس كبحر عكّا، في اليوم التّالي لسفره تفجّرت فيّ الأفكار وتبعثر البصر والبصيرة، وعندما علمت بعودته هرعت إلى المرآة، نظرت إلى وجعي وجسدي وشعري، وكأنّ عمري مئة سنة! (ص45).

في رسالتها الثَّانية هنّأت أمّ كلثوم بذكرى ميلادها، وفي الرّسالة الثَّالثة تحدّثت عن الانتفاضة فكتبت: شعبي ينتفض، ما أجملكِ حين غنيتِ لفلسطين: "أَصبح عندي الآنَ بندقِيّة"، وقالت: أقرأُ الآن روايةَ "المتشائل" لإيميل حبيبي، وأعتقدُ أنّ المقاومة تتجسّد في الفكرة البسيطة، وهي أن نتذكّر كلّ يوم أنّنا على قيد الحياة (ص109).

وكتبت في الرّسالة الرّابعة (ص134): رأيت نفسي في الحلم، أردّد بأعلى صوتي ما كتبه راشد حسين: جميلة كانت ّكأنّها مدينتي.. مهدومة كأنّها مدينتي.

في الرّسالة الخامسة، تحدّثت عن اختفاء الجرو "ركس"، وحزن طفلها نور وبحثه عن جروِه الصّغير.

في الرّسالة السّادسة، كتبت عن قرارها بالعودة إلى العمل، ومواجهة مصطفى وطلبها للطّلاق، وعن تحطيمه وتقطيعه لأشرطتها الموسيقيّة، وتمزيقه لدفاترها التي تكتب فيها المذكّرات والخواطر، وقالت: أفردتُ في قلبي مكانا للمأساة المقتربة، وبدأت تعلّم العيش معها (ص209).

أمّا الرّسالةُ السّابعة؛ فتعبّر فيها عن شعورها بالألم تجاه ما يحدث بينها وبين زوجها.

في هذه الرّواية:

تَجنحُ هذه الرّواية الاجتماعيّة إلى المنحى السّياسيّ، فقد رصدت تحوّلات الحياة وتقلّباتها، تطرّقت إلى الآثار السلبيّة للنّكبة من فقدان للّهُوية والمعاناة والتّشتّت، طرحت الواقع المُعاش لفلسطينيّي الدّاخل، والصّراع القائم بين مدنيّتهم المستحدثة وبين قوميتهم التي يحملونها في شرايينِهم، فشعورهم بما يجري على الأرض من أحداث ليس ببعيد عنهم، وذلك ما يدفعهم إلى التّمسّك بالأرض والجذور، والإصرار على البقاء وكسر الحواجز.

تناول النّصّ مفهوم الحبّ والأسرة والتّعاون. أمّا المكان فقد حظي باهتمام كبير، مثَّل المحوّر الأساسيّ الذي دارت حوله العناصر الرّوائيّة، كما لعب الواقع الاجتماعيّ دورا في توطين صورته وما دار فيه من أحداث، جاءت أهميته من دلالاته التي قرّبته إلى القارئ فبيّنت خصائصه، ومن اللّغة الحميميّة الدّافئة المطعّمة باللّهجة الفلسطينية، التي أضفت على العمل خصوصيّة وواقعيّة. رافق ذلك الدّمج جمالا في التّخييل والوصف التّصويريّ، مما أُغلق الفجوة التّعبيريّة في الخطاب الرّوائيّ بين الفصحى والعاميّة.

النّهاية:

لديَّ ما يكفي من الماضي وينقُصُني غَدٌ "م.د".

تكتب هاجر عن مشاعرها تجاه زوجها فتقول: الكراهيّة في بساطتها ووضوحها أقوى من الحبّ، فهي على عكسه، قوة دون ضعف. (ص175)

كانت ترى في زوجها جمودا وجُبنا وضعفا؛ لحياده وصمته وعجزه عن التّعبير، كان يقول: "أنا بعرفش أحكي وبعرفش أكتب". وهي تقول: أرتعش وهو يأتيني برجولته، أعرف أنّها رجولة مزيّفة، يخفي خلفها خوفه من الشّرطة والمخبرين، وتعاليم والدِه والحياة برمّتها. (ص109).

تذكّرني كلماتها بما كتبه الشّاعر أمل دُنقل حين قال:

كيف تنظرُ في عينيّ امرأة؟

أنتَ تعرفُ أنك لا تستطيعُ حمايتها في الظّلام!

كيف تصبحُ فارسها في الغرام؟

كيف ترجو غدًا؛ لوليد ينام؟

كيف تحلم أو تتغنّى بمستقبلٍ لغلام؟

وهو يكبرُ بين يديك بقلبٍ منكّس!

يحاولُ مصطفى استرضاء زوجته؛ فيهديها صندوقا خشبيّا جميلا، يحتوي على مجموعة كبيرة من شرائط السّيدة أم كلثوم، لكنّ هديته تلك لم تجلب له النّهايّة التي توقّعها، فقد أصرّت هاجر على الطّلاق سعيا إلى التّحرّر من الماضي والحاضر. وفي نهاية تراجيديّة مؤلمة، ينشب شجار حادّ بينهما، ويقع عراك عنيف بين يزن ونور على الجرو الصّغير، يغلق نور باب الغرفة، يقترب من يزن ليخلّص الجرو من يديه، لكنّ يزن يمسك به ويجرّه إلى السّرير محتضنا إيّاه من الخلف، واضعا يده على وجهه وأنفه، راح نور يركل السّرير ويتلوّى، لكنّ يزن أحكم قبضته على فم نور وأنفه.

يستمر الوالدان بالصّراخ والشّجار فلم يسمعا صوت استجدائه، فظلّ نور يتلوّى حتى ارتخى جسده الصّغير وتوقف عن الحركة والمقاومة، أطلق الجرو نباحا متقطّعا، ثم خفت حّتى صمَت، ليغدو ذلك الصّمت مرادفا للموت في معناه ودلالته.

نهاية مبهمة وقاتمة كما الواقع الفلسطينيّ! نهاية صادمة تترك العديد من الأسئلة، فهذا المشهد العنيف مختلف في أجوائه عن المشاهد السّابقة، إلا أنه يرتبط بها ارتباطا خفيّا يصبّ في جوهر العمل وفكرته، يحمل أبعادا رمزيّة وتحليلات عديدة، فالأب الخاضع المُمتثل للقوانين الحياتيّة والمجتمعيّة والسّياسيّة، يمثّل السّلطة الحاكمة المسيطرة في بيته، يتَّبِعُ سياسة "فَرِّق تَسُد"، فرَّق بين أبنائه بتفضيله أحدهما على الآخر، ومنحه بعض الامتيازات على حساب أخيه، مما ولَّدَ الضّغينة والخلاف بينهما. هكذا نجد أنّ السّياسة تُدخِلُ كلّ ما حولنا في نطاقها، تقرّر حياتنا ومصائرنا، تأكل وتشرب معنا في ذات الإناء، تصادر عقولنا وتنام وتصحو بيننا، وبالتّالي فهي تَدخُل إلى أعمالنا الأدبيّة.

من أحد الجوانب تشي هذه النّهاية بالعبثيّة والهُوّة بين وعي الإنسان وعقلانيّته، وبين العالم العبثيّ غير المنطقيّ من حوله، تجسّد أيضا مشاعر القلق واليأس والخوف والإهمال، وغيرها من المشاعر المؤلمة، التي تحوّل الضّحيّة إلى جلّاد.

من جهة أخرى وفي إطار سرديّ تفرضه تعقيدات الحياة وطبيعة الواقع المعاش، تُضفي هذه النّهاية متاهة ما، تعيد على نحو صامت تأمّل الماضي والحاضر، لتقدّم رؤيّة ثانيّة، مفادها أنّ الحبّ لا يترعرع إلا في ضوء الحريّة والإحساس بالأمن والأمان، والوعيّ الذّاتيّ والنّفسيّ، وفي ظلّ الأحداث السّياسيّة المأساويّة وغياب الحريّة، لا يمكننا الحكم على النّاس، فالأحكام المسبقة تميل إلى تبسيط الواقع الاجتماعيّ، كما أنّ شخصيّة الإنسان متغيرة، تتأثّر بتّغيّرات مُحيطه السّياسيّة والاجتماعيّة، وكأنّ النّصّ يقول: إنّ الظّروف التي يعيشها الإنسان هي مبعث سلوكه ومُسَوِّغٌ لكلّ تصرّفاته، أمّا تغيّر تصرّفاته فمرهون بما يتعرّض له، فلكل فعل ردةُ فعل، والمطلوب هو أن نمتلك رؤيّة وبعدا فكريّا لا علاقة له بالمؤثّرات، وذلك لتدارك المصائب والعمل على درء وقوعها.

ختاما.. أبارك للكاتب هذا الإنجاز، وأتمنى له المزيد من التّقدّم والنّجاح.

***

صباح بشير

....................

- ورقة مقدّمة إلى نادي حيفا الثّقافي.

24-8-2023

يتمتع الشعر الشعبي في عدد من البلدان العربية بجماهيرية واسعة ويستحوذ على اهتمام عدد من الكتاب والادباء الذين يكتبون باللغة الفصحى حتى ان بعضهم يلجأ في كتاباته السردية الى الاستعانة بالعامية لإيصال فكرته بشكل أسهل وأدق، وليس هناك شهادة ذات قيمة وانصاف بحق الشعر الشعبي توازي قول الأب الروحي والمنظر لحركة الشعر الحديث الدكتور لويس عوض عندما وصف شعراء مصر العاميين البارزين بأنهم الأخطر في الشعر المصري، فهم استطاعوا ان يؤسسوا لنمط جديد من الكتابة يقوم على كسر اللغة الرسمية والأخذ بالذائقة الى فضاءات اكثر بلاغة وجمالا من أمثال جاهين والأبنودي واحمد فؤاد نجم وسيد حجاب وغيرهم، وهذا الرأي باعتقادي ينسحب على جغرافيات اخرى ومنها الساحة العراقية التي افرزت تجارب مهمة ومؤثرة وفي مقدمتها تجربة الشاعر مظفر النواب التي تعد من التجارب القليلة التي حققت انتشارا واستقطبت جمهورا واسعا وتمكنت من تخطي المحلية الضيقة الى العربية الواسعة لما اشتملت عليه من ميزات فاقت في بعض جوانيها ما قدمته الاجناس الأدبية الاخرى من حيث جمال الصورة وكثافة المعنى والجرأة في التعبير والتحدي.

ان ساحة الشعر الشعبي في العراق قدمت اسماء شعرية مهمة وباحثين ودارسين افذاذ للأدب الشعبي وهذا العطاء لم ينقطع طيلة عقود من الزمن بل ظل الشعر الشعبي ارثا انسانيا متواصلا قد لا تكفي هذه الصفحات لاستعراض اسمائه وفرسانه، ومن بين المدن العراقية التي اسهمت بشكل ملحوظ وفعال في هذا العطاء هي مدينة (الديوانية) التي يشهد لها في هذا الميدان حجم الاسماء الشعرية الكبيرة التي قدمتها لساحة الشعر الشعبي العراقي ومن اجيال متعددة، لذا ليس بالمهمة السهلة التصدي للكتابة عن هذه المدينة المعطاء التي عُرفتْ بإرثها الثقافي والاجتماعي ذلك من الصعب الإحاطة بكل ما قدمته هذه المدينة من عطاء فكري وأدبي عبر أجيال وأسماء مهمة ومؤثرة في مسيرة الإبداع العراقي، وما تزال إلى اليوم ترفد الساحة الإبداعية بعطائها المتميز في جميع الحقول الإنسانية والمعرفية حيث لم يجف او ينقطع عن الجريان نهر الشعر النابع من الديوانية المتخمة بالطيبة والشعر والابداع، فما ان يمضي جيل من المبدعين حتى يظهر جيل أخر يتولى إكمال المسيرة بهمة وأمانة كبيرتين. فعلى صعيد الشعر أجد الديوانية منجم شعري اينما تضرب بمعولك على أرضها تقدح بوجهك قصيدة.

فبعد الثراء الإبداعي الذي تميز به المشهد الشعري الديواني خلال عقدي الستينات والسبعينات وتعدد التجارب الغنية والأشكال الشعرية المتعددة، ظهرت أصوات شعرية جديدة  حاولت الحفاظ على ألق وتفرد ذلك المشهد، إلاّ ان الكثير من منجز هذه الاصوات وللأسف غاب وسط دخان الحروب ولم يوثق بالشكل الذي يتيح للدارس التعرف عليه عن كثب باستثناء تجربتي الشاعرين (عباس رضا الموسوي) و(عماد المطاريحي) حيث عمل كل منهما على توثيق منجزهما بدواوين شعرية، فالشاعر الموسوي الذي كان مغتربا في سوريا اصدر هناك ديوانه الأول تجوال عام 2001 ثم أصدر في العراق ديوانه الثاني أغاني الجن عام  2008.

في ديوانه الأول " تجوال " نقرأ الموسوي شاعرا حمل بين جوانحه هموم المنفى، حيث تهيمن على قصائد ديوانه المذكور أوجاع الحنين الى ارض الوطن ومرابع الطفولة والصداقات النبيلة ويصور شراسة الغربة واوجاعها بالوحش الذي ينهش بجسده ويحاول النيل من صبره وثباته واقتلاعه من جذوره ولكن بالأخير يأبى الشاعر الهزيمة ويخرج من النزال منتصرا ثابتا على مبادئه:

بالغربة داهمني الحزن

كشر بوجهي نيابه

حسباله

اطيحن بالعجل

ثاري غلط بحسابه

وندرك ان الحنين عاطفة انسانية صادقة يرتبط بتجربة الغربة ويزداد وقعا على النفس كلما امتدت المسافات وطال الزمن، وهو ما جسدته اغلب قصائد الديوان التي كُتبت معظمها تحت  تأثير ظروف المنفى حيث ظل ملمح الغربة والاغتراب واضحا ومهيمنا عليها، حتى انه في بعض القصائد تشعر بالخدوش التي حفرتها الغربة على خارطة الروح، وفي اخرى تعيش معها اللوعة المقرونة بالحزن التي يهمس بها الشاعر الى ليل الشام يشكو فيها حالة التمزق التي يعيشها نتيجة مرارة البعد عن الوطن والاحباب:

مجبورة روحي اتعنتك.. والوكت فايت

.......

لا يروحي

عمر الاصبّي من تذوگه الغربة

طعمه يصير باهت

.........

.........

الليلة من ثكل الحزن

جن روحي متوزعه ليالي

اسطورة مكتوبة على دروب الدرابين الغريبة

والقصيدة عند الشاعر "الموسوي" تمتاز بالبساطة المستندة الى جمالية الوضوح وصدق الانتماء، فهو لا يميل الى استخدام الاقنعة والرموز في التعبير، انما تتدفق المشاعر من اعماقه سلسة، خالية من التصنع، تكشف عن طبيعة ذاته المبدعة لذلك تخرج كما هي صافية مشحونة بالثبات والتحدي:

علمتني لو حرگ عيني الدمع

ارفع الكأس واغني

علمتني اشلون اضمن

روحك ابروحي واگولن هذا مني

كما نقرأ في قصيدة " أحوال " الاثار النفسية التي تركتها الغربة على حياة الشاعر في المنفى حيث القلق والسهر المضني والشعور بالضياع والخوف من المجهول بانتظار الفرج الذي يراه بعيدا:

من كثر السهر البعيوني

شفت الفجر الأبيض

ليل

مجرور وي النجم الداير

صافن.. حاير

ما من فرحه تجول افكاري

غير الوحشة وحزني الدايم

غير الغربه

وسطوات الخوف من الجاي

وفي قصيدة " واحة ندى " يحاول الشاعر الخروج من شرنقة الاحزان والتخلص من هموم الغربة الى فضاء ينعش الروح ويمنحها دفقة أمل لمواجهة واقعه المر، فضاء يحلم فيه بالورد والأمل بالغد الأجمل فيعمل في هذه القصيدة على احداث كوة في جدار احزانه من أجل ان يتسلل منها نور التفاؤل، لكن يجد نفسه أسير ظلمة واقعه المر حيث سرعان ما يطل من هذه الكوة شبح اليأس ليطرد كل أمل بالتغيير:

اعصر لي خمرة من ورد

خليني اسكر بالورد

حد السكر

ولا تستحي من الفجر

وين الفجر ؟

جذاب كلمن حدثك عن الفجر

لو جان بالدنيا فجر

ما نام ليلك ع الصدر

ان الموسوي في قصائده التي ضمها ديوان " تجوال " فجّر سنين غربته بأشعار تنضح حبًّا، وشوقًا، وحنينًا، وتكشف عن محاولة جادة وناضجة لتقديم تجربة شعرية مميزة.

أما الشاعر عماد المطاريحي الذي ظهر مميزاً منذ أول إطلالته على المشهد الشعري مطلع 2001 والذي أصدر ديوانه البكر (المأذنة والبحر الأخضر) عام 2008 فإننا يمكن ان نصفه بشاعر الجوائز وذلك لكثرة ما حصد منها خلال مشاركاته المتعددة والتي أستحقها عن جدارة لما تميزت به أشعاره من مهارة في اقتناص الصورة الشعرية المقرونة بنبل الأفكار إضافة الى لغته الشعرية التي حاولت بشكل ملحوظ تقليص المسافة ما بين العامية والفصحى فهو يتعامل مع اللغة بدرجة من الرهافة دون ان يسقط في المباشرة والسطحية متجاوزا بهذا التفرد انتاج الأنساق القديمة حيث قدّم تجربة شعرية تحتكم الى وعي جمالي مغاير وأفق معرفي يشير الى رؤية مبدعة للواقع:

آني احس روحي نبي هذا الزمان

معجزاتي ثيابي بيض بوسط عالم ثوبه غيم

رغم تاريخ الدوائر.. والخطوط الجانبية

والارقام المستحيلة

وانا عايش مستقيم

المطاريحي يحاول في شعره ان ينفض عن كاهل القصيدة كل ما هو ثقيل على اللفظ وإدراك عمق النص وذلك عندما يختار في خطابه الشعري وعيا مغايرا، خطاب يتجه نحو تقويم الاعوجاج في المفاهيم لدى الاخر فهو لا يسعى الى تحديث اللغة كأداة للكتابة فحسب انما يحاول ايضا  احداث هزة في الوعي تجاه عدد من التقاليد المغلوطة والراسخة في اذهان الكثير وذلك من خلال الهزة في المسلمّات الذي تحدثها جملته الشعرية المكتنزة بالدلالة والاثارة والدهشة والبعيدة عن الأنساق المتوارثة، ومن بين افكاره اسبقية تحرير الفكر من قيود الجهل والخرافة عند الشروع ببناء الأوطان :

انريد نبني وطن؟

نحتاج نبني فكر.. يستوعب المطرقة

بعدين نبني جسر!

هكذا نجد انفسنا أمام شاعر مرتبط بالواقع والتاريخ والمعطى الاجتماعي، شاعر يحرث في الوعي والوجدان ويسعى من خلال هذه اللغة المهذبة والفكر الانساني النير السمو بالشعر الشعبي الى مستوى خطاب النخبة ويقاوم الاسفاف الذي يسود بعض نماذجه، يضاف الى ما تحمله روح الشاعر من أحلام بريئة هي الاخرى تنشد الدعة وترفض الخنوع والخرافة:

اتمنى عدنه شعب ما يقبل بموته

وأتمنى عدنه

كمر ما تاكله الحوته!

كما انطوت تجربة المطاريحي على مواقف إنسانية ووطنية ترفض التعالي المقيت والنيل من كرامة الإنسان، فهو يؤمن بالعدالة والمساواة  وينبذ التفرقة الاجتماعية وكل هذه المعاني والقيم الانسانية النبيلة تتدفق عبر خطاب شعري هادئ يكشف عن الروح الشفافة التي يحملها هذا الشاعر المنذور للجمال والحب والذي يناصر المظلوم ويقف بوجه محاولات استلاب حريته:

ما أحب بالمدرسة ينادون وين ابن الوزير

ما أحب قصر الامارة يشيل خشمه عله الفقير

آني كائن من حرير ينذبح عصفور أموت

ينولد عصفور أطير

المطاريحي شاعر يعيش واقعه وينصهر فيه حتى يصبح الواقع جزءا من وجدانه اليومي، كما هو شاعر تحريضي بذكاء يدعو الى التغيير ورفض مظاهر القبح والعنف ليس بالهتاف العالي ولا بالشعارات الرنانة انما بطريقة ناعمة من خلال طرح قيم الجمال واحلامه البريئة بواقع أجمل للإنسان وبعلاقات افضل بين الناس:

أحلم وطن بلون الناس

ما بي ناس تموت اعله بعيرة جساس

ما بي واحد يهدم بيته

ويعمر بيت الترباس

احلم بيت لكل مسكين

بطعم الماي

احلم وطن بلون الناس

بي باجر احلى من اليوم

وطن ترابه نجوم

اطفاله نجوم

تبقى الديوانية مدينة ولادّة للإبداع والمبدعين من خلال ما نشهده من حركة شعرية شبابية تواقة لتقديم الأفضل لمسيرة الشعر الشعبي العراقي.

***

ثامر الحاج امين

في رواية "قطط إسطنبول" للروائي زياد كمال حمّامي.

"ما أصعبَ أن تعيش لاجئاً في بلاد تكره الغرباء".

يطلُّ علينا الروائي زياد كمال حمّامي مع روايته الصادرة حديثاً عن دار نون 4، بعد أربع مجموعات قصصية وأربع روايات،. يتناول فيها قضايا اللجوء وما يعانيه اللاجئون من ظروفٍ حياتية قاسية تُشعِرهم بأنّهم أناسٌ غير مرغوبٍ بهم، ليصبحوا أشبه بالقطط الشاردة في الشوارع والأزقة، ولهذا ربما كان اختيار الكاتب لعنوان روايته هذه تحت مُسمى" قطط إسطنبول".

إنطلق الكاتب في روايته من الشخصية الرئيسة، الشاب الملقّب باللولو، وهو لاجئٍ سوري في إسطنبول اختبر أزقّتَها المليئة بالأسرارِ والتناقضات، وعرف التشرّد والتنقّل من مهنة إلى أخرى على أمل أن يحظى مع الكثير من اللاجئين بالحصول على بطاقة الحماية الدوليّة "الكيميلك"، لتضفي على لجوئه الصفة القانونيّة وتضمن له حماية مؤقّتة يمكن من خلالها الإقامة والعمل وفق الاتّفاقيّات والمعاهدات الدوليّة، ولكن صعوبة الحصول على مثل تلك البطاقة نتيجة تشدّد السلطات التركيّة في منحها، جعلته يعيش حالاً من اللااستقرار كبقيّة رفاقه اللاجئين الذين غادروا بلادهم مكرهين، ينشدون الأمن والأمان والعمل ليجدوا أنفسهم أشبه ما يكونون بقططٍ شاردة في إسطنبول، في حين أن المضحك المبكي هو أنّ للقطط في إسطنبول هويات رسمية مسجلة لدى الدوائر الحكومية، وأنّ لها أيضا شجرة نسب كاملة، وسجلَّ لقاحات طبّيّة وصحّيّة، وهي تُباع وتشترى ومحلّات تجاريّة لا تخلو حتى من الإعلانات عن طلب زواج قطّ من قطٍّة أخرى. وهذا هو الفرق بين قطط إسطنبول"الوطنية" وقططها الوافدة والشريدة.

الرواية تسلّط الضوء على الممارسات الشاذّة التي شهدها اللولو فتطرّقت فيما تتطرّقت إليه إلى عدة مشاهد أبرزت من خلالها العنصريّة والكراهية التي أبداها جزء لا بأس به من المجتمع التركيّ تجاه اللاجىء السوريّ واعتباره عنصراً طارئاً ومضرّاً ببنية المجتمع ومستهلكاً لموارده على حساب أبناء الشعب التركي.

كما أشارت الرواية إلى رواج الإتجار بالبشر وانتشار تجارة البغاء نتيجة لاستغلال الفتيات العربيّات اللاجئات بعد إيهامهن بتأمين فرص عمل لائقة لهنّ، ولكن لا مناص بعد أن تكتشف هذه الفتيات أنّ أوراقهن الثبوتيّة وجوازات السفر الخاصّة بهنّ قد صودِرت وجعلتهنّ سلعاً في سوق البغاء تحت إدارة عصابات منظّمة ومنها بيت الشابّات الوارد ذكره في الرواية.

تتمحور الرواية بشكل أساسي حول مسألة اللجوء والعذابات النفسيّة والجسديّة التي رافقت المهاجرين، إذ "ليس لدى المشرّدين مأوى في ليالي البؤس، غير ظلام الحدائق بعد منتصف الليل أو مقابر المدن أو تحت الجسور الرَّطبة أو الأماكن المهجورة، وإنّهم بذلك يتشابهون مع الكلاب الضالّة وقطط الليل".

وفي سياق متّصل تبرز الرواية المهانة والإذلال المنظّم للمهاجرين أمام مديريات الأمن والهجرة وهم يستجدون بطاقات الحماية الدولية" الكميلك" وتُشير كيف أنّ اللولو "وقف بالدور أمام مبنى مديرية الهجرة، وكيف كان حُرّاس "المعبد" ينهرونهم ويشتمونهم وهم يصطّفون وراء بعضهم، خروف أمام شاة ٌ وجدْي خلف نعجة لأجل الحصول على بطاقة "الكيملك" وهي بطاقة حماية دولية مؤقتة أي لاجىء مؤقت".

الصعوبة لا بل الاستحالة في الحصول على تلك البطاقة الملعونة كان لها التداعيات المأساوية على حياة المهاجرين ودفعت ببعضهم للانتحار وإنهاء حياته بعد أن سُدّت الأبواب في وجهه كما حصل مع الشاب "عمرو الأشقر" الذي رمى بنفسه من الطابق السادس لأنّ عدم حصوله على الكميلك كان المانع الوحيد لعدم ارتباطه بمن أحبَّ وهي الفتاة "غفران" حيث اشترط والدها الحصول على تلك البطاقة لإتمام الزواج.

وجه آخر من وجوه المعاناة التي رافقت المهاجرين تمثّلَ في رغبة العديد منهم بالهجرة والهروب من تركيا باتجاه أوروبا لعلّ الوضع هناك يكون أفضل نتيجة تصديقهم لمقولة حقوق الإنسان التي أوهمنا بها الغرب على مرّ العقود، فكانت قوارب الموت هي الوسيلة الوحيدة المتوفرة للقيام بهذه المغامرة الخطرة، كون "الذين استطاعوا الهروب إلى أوروبا عبر قوارب الموت شربوا المياه المالحة في كؤوس من ذلٍّ ومهانة، ولكنّهم غامروا بحياتهم، منهم من مات كأيّ سمكةٍ ابتلعها قرش ومنهم من وصل بعد مشقة ومعاناة".

عندما يتقن الكاتبُ وصف القُبح أوالمستنكَر للدرجة التي تثير اشمئزاز المتلقّي، فهذا يعتبر من الجمال والإبداع، حيث يصبح الوصفُ في هذه الحالة جمالًا بحد ذاته. وهذا ما قام به زياد كمال حمّامي بأن حوَّل القبح إلى جمال عندما أجاد في وصف المراحيض الصدئة يغطيها الماء الأصفر، وتسبح فيها أنواع البكتيريا والفيروسات الضارة كافة، ناهيك عن الروائح التي لا يمكن تحمّلها. وكيف أنّ عربًا وأفارقة ممدّدين على الأرض بشكل فوضويّ وقد اختلط الرجال مع النساء والأطفال، وإذا احتاج أحدهم أن يتبول ففي صفيحة معدنية فتح الصدأ فيها ثقوبًا، وسرعان ما يسيل البول على أرضيّة ساحة السجن، راسماً خطوطاً دموية من عارٍ ومن ذُلّ.

كما تطرّقت الرواية إلى النظرة العنصريّة ومستوى الكراهية التي قوبل بها هؤلاء المهاجرون قسراً من بلادهم، وكيف أن الشحن الإعلامي والسياسي فعل فعله، فبعد خطاب الكراهية لمرشّحة حزب الوردة، توجّهت كتائب من المعارضين لوجود الغرباء واللاجئين صوب المحال التي تضع أسماء عربية، وبدأت بتحطيمها وكسر أبوابها الزجاجيّة، والاعتداء على أصحابها ضربا مُبَرِّحاً. ولسان حالهم يقول:" سنطردهم، البلد لنا، وليس لهم، ليرجعوا إلى بلادهم".

كما أن وجود المهاجرين على بقعة اللجوء المر أصبح مادة دسمة للمرشّحين السياسيّين الذين عملوا على شدّ عصب المتطرفين والعنصريين تجاه هؤلاء "الغرباء" وليس أدلّ على هذا سوى تلك اللوحة الكبيرة التي رفعت في إحدى الساحات بتمويل من أحد المرشحين المتطرّفين، ولإضفاء نوعٍ من المصداقيّة، فإنّ الكاتب امتلك من الجرأة والشفافية ما جعله ينشر صورة فوتوغرافية عن تلك اللوحة التي جاء فيها بالحرف:

"أنادي اللاجئين، قلتم قبل 11 سنة بأنكم أتيتم إلى بلدنا ضيوفاً، ولشعب التركي يحاميكم بضيق استطاعته منذ سنوات، والآن تطوّلت هذه الضيافة كثيرا، وتشاهدون الأزمة الاقتصادية في بلدنا. شبابنا بدون عمل، وتعيش العوائل تحت حدّ الجوع. بهذه الشروط لم يبقَ لنا خبز ولا ماء حتى نتشارك معكم، حان وقت سفركم إلى بلدكم كما أتيتم، ارجعوا إلى بلا دكم".

ونتيجة لتلك النظرة العنصريّة فقد نشطت عمليّات القبض على المهاجرين وسجنهم بغية ترحيلهم خارج "الجنّة"، فالسجناء الذين قُبِض عليهم وهم يعبرون الحدود الدوليّة تهريبًا أُجلِسوا على الأرض العارية حيث لا شيء يقدّم لهم، لا ماء ولا أكل، بعد نهب كلّ ما يملكونه من مالٍ وذهب مخبوء كانوا يخفونه بطرقٍ شتّى كي يساعدهم على الحياة، حتى أوراقهم الثبوتية وجوازات سفرهم وهويّات الحماية الممنوحة لهم قد مزِّقت وأحرقت أمام أعينهم.

في موضع آخر أظهرت الرواية الأثر النفسي والاضطراب السلوكي لدى بعضهم، والذي مورس بحقّ المهاجرين فنجد مثلاً كيف أن طفلة سوريّة في العاشرة من عمرها تتعرّض لعمليّة اغتصاب من قبل مواطن في الخمسين من عمره.. وكيف يتمّ إطلاق الرصاص على شاب لم يتعدَ الخامسة عشر فقط لأن سيادة الشرطي طلب منه التوقف، فركض الصبيّ خوفاً من الترحيل.

لا بد من الإشارة إلى أنّ المآسي والأزمات الاجتماعيّة غالباً ما تترافق مع ظهور حفنة من المستفيدين وضعاف النفوس الذين يسعون لتحقيق مكاسب زائلة ولو على حساب كرامتهم وكرامة أبناء جلدتهم من المهاجرين، وكيف أن أحد ألشُبّان وفي بداية حضوره إلى حي "أسنيورت" حظي برضا رئيس المخفر في المنطقة، وصارَ عيناً سرّيّة له، ثم ترقّى إلى رتبة مترجم خاص، استطاع من مهنته هذه ابتزاز المهاجرين في أموالهم التي يتقاسمها مع رئيس المخفر.

وهذا "فصوع الجزار" يدّعي أنه طبيب للأمراض الجلدية، ومعالج فيزيائي، ومدلّك مسّاج متخصّص في فرنسا وفي الحقيقة ما هو إلا ممرّض فاسد كان يعمل في المشفى الوطني وطرد منه لاتهامه بالسرقة.

وأيضا يذكر الكاتب "صفوح الهدلة" الذي ادعى أنه شيخ جليل، وقد افتتح جمعيّة خيريّة أسماها "برّ الشام"، وجمع حوله نفر من المريدين وبدأ بجمع الزكاة والصدقات والمساعدات الإنسانية بحجّة إيصالها للاجئين حسب زعمه. وما هو في الحقيقة سوى انّه كان يعمل كاتباً لدى مختار قرية "الضبع" الحدودية، وهو مثل الكثير من جماعته لا يُحسن حتّى تلاوة دعاء دفن الميت.

وفي إشارة إلى جشع بعض المهاجرين الميسورين والذين لا يردعهم وازع من ضمير أو أخلاق تحدّثنا الرواية عن "عبد الحق" الذي يرفع شعار الحقّ والصدق والأمانة دائماً، ويعتبر نفسه مدافعاً عن حقوق اللاجئين، وبعد موافقته على تعيين اللولو أمينا لمستودعه القريب من محل "السوبر ماركت" الذي يمتلكه وأسماه ّ "شط العرب"، يكتشف اللولو أن المستودع مليءٌ بأصناف المواد الغذائية غير الصالحة للاستهلاك الآدمي والمتلاعب بتواريخ صلاحيّاتها مما جعله يتخيّل أنّه يواجه عبد الحقّ بما رآه ويعلمه بأن المخزن بمحتوياته كله فاسد، وتخيّل عبد الحقّ يجيبه بالقول "أتريدني أن أخسر وأعلن إفلاسي؟

بالعودة الى اللولو، وهو كما ذكرنا إحدى شخصيّات الرواية الرئيسيّة، فقد عاش متنقّلاً بين مهن مختلفة، إلى جانب رفيق تشرّده عبّود الأقرع، وها هو يتذكّر أو يحاول أن يستقرئ الأسباب التي أوصلت بلاده إلى ما وصلت إليه فلم يجد سوى الفساد الذي بدأ يتغلغل في بنية المجتمع بحيث أصبحت ثقافة الفساد هي السمة التي تغلب على تصرفات الكل مجتمعٍ وأفراد. واستذكر بعض النماذج الدالة على هذا الفساد فقدّم لنا على سبيل المثال لا الحصر كل من الخضرجي الذي يحتال على أهل الحارة، حيث كان يوافق على بيعهم كل ما تحتاجه مطابخهم ويسجّل ذلك على دفتره بالقلم الرصاص، ثم يتلاعب بالحساب كما يريد. وكذلك الفرواتي، جزّار الحارة الذي كان يغشّ في بيع لحوم الغنم إذ كان يشتري بالسرّ بعض الأغنام المصابة بأمراض فتّاكة لا يقبل المسلخ الوطني بذبحها لأنّها تضرّ بصحة الحيوانات وبصحة البشر أيضا.

ولم ينسَ مختار الحارة ِ النسونجي "مطيع الزرقا" هذا الرجل المتصابي، المدعوم من أحد أبناء عمومته، والذي لا يضع ختم على أية وثيقة بحاجة للتصديق إلا بالدفع أضعاف ما يأخذه المختارون الآخرون.

ولأنه يصعب على المرء أن يتنكر لجذوره، فمهما اغترب أو تهجّر يبقى الوطن في القلب، ها هو اللولو في بوحٍ ٍ وجداني يتذكر مدينته حلب التي غادرها قسرًا، فيقول  "أعشق حلب وأبوابها التسعة يا أمي، باب الجنان المؤدّي إلى بساتينها وأشجار الفستق الحلبي الأحمر الممزوج بالأخضر، وباب النصرالذي تعود منه الجيوش منتصرة، وباب "أنطاكية" الكبير المؤدّي إلى ولايات حلب والذي عرف بطريق الحرير واليوم صارت حلب تأكل أولادها، تتخلى عنهم وتهبهم بلا ثمن، أصبحنا فيها مجرّد قطط تائهة، وحين رحلت أوبالأصحّ هاجرت ُ مظلومًا وعشتُ لاجئاً ممقوتاً بلا وطن وبلا حبيبة، بلا عائلة، بلا أهل، عندها أدركت يا أمي أنّ روحي ما زالت في حلب، وأنها لم تهجرني".

الشخصية الثانية الرئيسية في الرواية كانت شخصية "شام" هذه الفتاة السوريّة التي غرّر بها زوج أمّها واغتصب طفولتها، مما جعلها تبحث عن ملجأ تخفي فيها فضيحتها فكان أن صدّقت الوعد المعسول الذي قدّمه لها عضو عصابة الإتجار بالبشر واسمه "تاجار" كان يراسلها عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وقد عرض عليها الزواج، وقام بتسهيل هروبها والمجيء إلى إسطنبول، لتبدأ معاناتها وتكتشف انّها وقعت ضحية عصابة تتاجر بالنساء وتحولهن إلى سبايا و داعرات، ولكن " شام" تحاول التمرّد وتصرخ بأعلى صوتها بعد أن تلتقي اللولو "أنا شام.. أنا لستُ داعرة.. أنا.. شام".

وفي إشارة لافتة ورمزية في أن الكاتب أشار إلى أنّ بيت الشابات الذي من خلاله تمارس أعمال الاضطهاد والدعارة ضمّ بين جنباته فتيات عربيّات من جنسياّت متعددة توزّعت بين السوريّة، اللبنانيّة، اليمنيّة والعراقيّة، وربّما في هذا التنوع إشارة من الكاتب إلى المآسي والحروب التي تعصف بهذه البلدان مع اختلاف الأسباب والمطامع ولكن ما يجمعها ربّما مؤامرة واحدة بوجوه متعدّده، وكان لافتًا اختيار الكاتب لاسم "شام" ليطلقه على الفتاة السوريّة ليشير من هذا الاختيار إلى ما تتعرّض له شام البلد من عمليّات اغتصاب بواسطة العديد من الجيوش والجماعات الغريبة الطامعة بالشّام وبياسمينها. ولذا نجد الفتاة "شام" تصرخ وبلسان حال الوطن ربما وتقول:" كلُّكم ضد امرأة واحدة، يا لعظمة النساء، إنّ روحي وجسدي لم يقبل أن ِأكون داعرة، لقد خدعوني واحتالوا عليَّ، الموت أشرف لي من أن أكون داعرة".

وإذا أردنا الانطلاق من الحوار الذي جرى بين شام وزميلتها ياسمينة المغربية في بيت الشابّات، حيث جاءت ياسمينة لتعلن تضامنها مع شام وتخبرها قائلة: "اصبري، لا تخافي، كلّنا معك. سنعلن الإضراب عن العمل حتى يتمّ إخراجك. هذا المقتطف من حوار شام وياسمينة ربّما يعيدنا بالذاكرة إلى بيانات التضامن العربي التي ما كانت يوماً تسمن او تغني من جوع، فالتضامن الكلامي لا يكفي وهذا ما عبّرت عنه شام عندما قالت لياسمينة " الإضراب فقط؟! ياسمينة، الإضراب؟!" .

يبقى أن نشير إلى أن اللولو الذي عُرف بأنه يركن كثيراً إلى تخيّلاته، استطاع الكاتب أن يجعله يتخيّل الحلّ المنشود لأزمة المهاجرين واللاجئين من بلاده، فتخيّل نفسه وزيراً للمغتربين في حكومة بلده، بعد انتهاء الحرب، وأنّه رفض العمل في المكتب الفخم،ً وبدأ يطير من بلد إلى آخر. ها هو يعود معهم تباعاً، وحين تهبط طائرتهم على أرض الوطن، ومعهم سيادة الوزير اللولو ينزل بشموخ، يجثو على الأرض ويقبّلها بقدسيّة وطهارة، ومن خلفه يجثو الملايين ويبكون فرحاً بالعودة الظافرة، وفي هذا إشارة واضحة من الكاتب إلى ما يجب القيام به لأجل حلّ أزمة النازحين وضرورة العمل على إعادتهم لموطنهم بمبادرة جدّيّة وصادقة من قبل دولتهم بالدرجة الأولى.

اللافت أنّ الكاتب جعل نهاية روايته مفتوحة بعد أن قرّر اللولو إنقاذ الفتاة شام مهما كان الثمن غالياً، متسلّحا بالتصميم القويّ على ألا يخذل نفسه وألا يخذلها أيضاً فهذه هي حربه الأخيرة، تاركاً للقارىء تخيّل النهاية التي يرتأيها . فهل سينجح اللولو في إنقاذ شام الفتاة ومن خلالها شام الوطن؟ الأيّام والممارسة كفيلة بالإجابة عن هذا السؤال.

***

بقلم: عفيف قاووق – لبنان

من وصايا مخيلة تنتهك النوع السردي وتتلاعب في ضوابط التنصيص

توطئة: تنمو آليات و أشكال الأنواع السردية، طرقا تواكب مناحي الواقع الوجودي، معبرة عن ما يتحقق في تجليات التشكيل الذاتي لمختلف الارهاصات التخييلية التي تحدثها الوحدات الصغرى من المشاهدات والآفاق التي تلتقطها تخيلات إطلاقية الملكة الحسية والتصورية لدى القاص.وعبر هذا الصدد تشكل تجربة فن القصة القصيرة جدا، ذلك الابتداء في مزاعم التقاط العوالم الصغرى المستقلة عن نوعية فن القصة القصيرة، اقترابا منها نحو تصوير عين اللحظات العابرة من شواغل كاميرا المخيلة التي تصارع الخيال في شكله المهمش والأكثر تندرا على رصد سياقات حكائية لها رائحة اللقطة المغمورة من زمن نسبية الاختزال والإيحاء المقيد بشروط إحالات الصناعة النصية للقصة القصيرة جدا .

ـ القصة القصيرة جدا بين إشكالية التسمية والنوع:

لعلنا مؤخرا تعرفنا على تزايد ما يسمى بـ (القصة الومضة؟!) أو ما قد أستقر عليه حالها من التسمية أخيرا (القصة القصيرة جدا) فكل ما عثرنا عليه في مكونات وآليات هذا النوع الهش من التخييل، ذلك النوع من حالات الإقامة اللاموضوعية واللاجمالية في بنيات هذا الحجم (الخواطري!) من الأخبار وسلاسة الحضور الحدثي الذي يقترب من بناءات غير قويمة من التنصيص الفاعل.قلنا سلفا في بداية قراءتنا إن الساحة الأدبية غاصة ومشحونة بإشكاليات الأنواع الأدبية إلى درجة وصول ما يسمى بـ (قصة الومضة ــ القصة القصيرة جدا) وهذا النوع السردي في الحقيقة لا يشكل بذاته خروجا كاملا من جسد القصة القصيرة، بل هو مخاطرة تستوجب مراعاة حدود الضوابط والخصوصية القيمة في مجاهيل البنية القصصية القصيرة التي هي الأصل في النوع الأدبي السردي (ارتكازا ـ جنسا) في الحقيقة وأنا أطالع تجربة هذا النوع الانفصالي من السرد أثار حفيظتي النقدية ما قرأته في مجموعة (ألواح .. من وصايا الجد) للقاص الصديق علي السباعي، خصوصا وأن للقاص تجربة متماسكة في مجال فن القصة القصيرة، ولها من الأدائية والخصوصية في طموحها الفني والجمالي.ولكن ما عثرت عليه عبر هذه المجموعة ما راح ينهل من معين كتابة تقترب من النثر والأخبار والهايكو في نصوص القصيدة التقريرية اليابانية.فرحت أقرأ قصة تحت عنوان (شباك عبد الرضا عناد) وأخرى وكأنها خاطرة جاءت بعنوان (رسالة منسبة لأبي ذر) وأخرى (كوكب اليابان) و لا أظن من جهتي بأن ما قرأته يعد بالتجربة الفنية أو الجمالية أو الأسلوبية المقرونة بأدنى الوسائط التشكيلية في تقديم حدود مشروعة خصائص هذا النوع الخواطري: (صدح هاتفي الجوال بموسيقى أغنية القيصر كاظم الساهر ــ أنا وليلى ـ تعلمني بورود رسالة لي، فتحتها، قرأتها: ــ ستعيش وحيدا وتموت وحيدا كأبي ذر.الرسالة كانت من حبيبتي ليلى التي هجرتني وتزوجت بآخر غني./ومضة : رسالة منسبة لأبي ذر./ص13) كمثال هذه الومضة وغيرها، واجهتنا نصوص مجموعة (ألواح..من وصايا الجد) وكأنها (سوالف؟) لا تخلو من روح النكتة والتبعثر في عبارات رسالة غرامية.كذلك الحال في ومضات كمثل (كوكب اليابان ــ إفطار عراقي ــ كاسيت سعدي الحلي ــ استهزاء ــ إعلان تمرد بطريقة عصرية ــ مجنون برتبة رفيعة) ونصوص أخرى عديدة من تجربة نثرية لا تحكمها أدنى مقومات التكثيف والإيحاء الفني أو على الأقل جمالية التشويق في الضربة المضمونية كما الحال في الفن القصصي القصير جدا المتعارف عليه في التجارب الغربية والعربية.

ــ الومضة الحكائية بين التهكم الذاتي واللحظة المتمردة.

إذا كان المطمح الفني والاعتباري من وراء تصنيفات الشكل من التنصيص بـ (فن الومضة القصصية) جاء حسما لاعتبار أن إمكانية الحسم الدلالي في هذه القوالب يشابه حالة من حالات الانتقادية المبطنة حول قضايا و أوضاعية تختص بها مساحة كبرى من متعلقات مصيرية كبرى من حياة الأفراد ومطالبهم المتكررة من قبل الحكومات اللصوصية الراهنة.ولكن هذا الأمر بحد ذاته لا يخول القاص من تقديم نصه بطرائق لا تسندها رصانة الأسس وشرائط الصنعة الفنية المؤثرة بذائقة التلقي، فقط للأسف واجهتنا محض دعوى تهكمية لا تثير فينا سوى الاشمئزاز والقرف، كما لاحظنا ذلك عبر حكايا (تمثال ــ موقف ــ درس بليغ ــ عقاب) يمكننا أن نتفق مع القاص السباعي بأن هناك في بعض رؤى ومضاته النثرية، ما يحمل ملامح تكوين حس الانتقاد حول مهاترات الزمن، وذلك بعدم إمكانية الفرد بـأنتظار ما هو أفضل إلى حد الآن.ولكن من الصعب تصوير هذه الحالات عبر هذا النوع الهارب من الصياغة والكتابة، خصوصا وأن هذا النوع لا يتصل بقدرات وسائطية وفنية شيقة من ممارسة القبول المشروط في الكتابة القصصية المتفق عليها فنيا وذوقيا ومعياريا .

ــ تعليق القراءة:

إجمالا أقول لا يمكننا وضع معايير تصنيفية جادة لمثل هذا النوع من النصوص المتعثرة في مسمياتها وخصائص إشكالية إدراجها في النوع القصصي بأية حال من الأحوال، لأنها ببساطة لا تحقق الأسباب الإمكانية عبر مسوغات البنية والشكل للنوع الأدبي القصصي القويم، ولا من جهة ما غاية في الأهمية أن نعتبر هذا النوع من القص، سوى حالة شبيهة بالهذيانات والهلوسات المعبئة في ملفوظات هجينة لا تمتلك من هوية رائحة القص الجميل غير ملامح هزيلة من المسمى الذي هو خارج حدود تراكيب وأدوات الطابع النوعي لمقومات الفن القصصي في الدور والبنية والسياق والتوليد الدلالي.وختاما أود أن أضيف مثل هذا القول الوجيز مني:إن الإشكالية الكبرى في هذا النوع المسمى بـ (القصة القصيرة جدا = الومضة القصصية) هي كونها لا تتحلى بمعايير الكفاءة الإجرائية التي نجدها في مسوغات القصة القصيرة جدا أو ما يسمى بالأقصوصة في المصطلح النقد الغربي، فنحن عند قراءة مثل هذا الأنواع الهجينة ننسى أن من قام بكتابتها وهو بطبيعة الحال من أروع كتاب الفن القصصي الصاعد وله العديد من الأعمال الساحرة في حبكتها ولغتها ومواضيع إبداعها، لذا فإن مثل هكذا (هايكوات؟!) لا تناسب حصيلة عوالم تجارب هذا القاص السابقة سوى لا نملك سوى التأشير في حق خاصية تجربته التي نحن بصددها سوى بالمزيد من علامات الاستفهام والتعجب والألم الذي يصاحبه غلق دفتي مجموعة هذه النصوص الناشزة من الابداع والتخييل الفاعل والجاد.ولأجل أن لا نتغافل عن تجارب حقيقية منجزة في مضمار إبداع فن الأقصوصة ــ وليس الومضة القصصية ـ فهناك نصوص مخصوصة ذات بنيات موزونة ومتوازنة من علامات (الإيحاء ـ التكثيف) تمتاز بها تجارب خاصة في هذا المجال من فن كتابة الأقصوصة، إذ يبدو السارد من خلالها داخل لعبة ماكرة من الشد بالوصف المنصب على موصوف الحالات، فكلما بدت الأشياء واضحة في مسرح النص، كلما زادت حجب صفاتها بإظهار دلالات تعاكس تصورات القارىء الانتظارية، وإذا بالنتيجة الختامية تتحقق جملة من الأفعال التي لم تكن في الحسبان القرائي تماما.بهكذا خصوصية تكون مراحل اللاملموسية في الأعمال الخاصة بفن الأقصوصة .. عين السارد في علاقات تشكلها اللحظات اللامعلنة من الكشوفات الدلالية، لا أن تقدم لنا حكاية ومضية على لسان الحكواتي وكأنها خواطر شفاهية تنتهك النوع السردي وتجحف حقيقة وهوية وملكة التسمية الانواعية للفن القصصي القصير المحفوف بالرمز والإيحاء والتداعيات التأويلية. وعلى هذا النحو يمكننا إضافة عدة خلفيات وظيفية مثمرة وصحية، تدعمنا وتدعونا إلى توطين حقيقة ومصدرية الأسس المحكمة في صياغة فن القصة القصيرة جدا، والتي للأسف لم تتوافر منها ولو تقنية واحدة في مشروع وتجربة (ألواح .. من وصايا الجد) ولعل أهمها إجمالا وتخصيصا (الحذف ــ الإيحاء ــ التكثيف ــ المفارقة الفنية ـ فعلية الجملة ـ الرمز ـ اللجوء إلى الأنسنة ـ الخاتمة الواخزة) لربما واجهتنا العديد من دراسات النقاد والأدباء ممن يسعى كل واحد منهم إلى إرساء عدة قواعد إلى هذا الفن الذي راح منهم يطلق عليه مسمى (اللقطة السريعة) و الآخر ممن أطلق عليه بـ (الومضة القصصية) ولكن حقيقة الأمر لا تستقر لا على هذا ولا ذاك، رغم يافطات المبررات الطويلة والعريضة التي تحاول إخضاع هذا النوع الهجين إلى مجال النوع السردي من فن القص نوعا وتجنيسا. وتبعا لهذا أقول مجددا: إن ما يعرف بالبنية الصغرى من فن القصة القصيرة، هو فن الأقصوصة، شكلا فنيا أصغر حجما من القصة القصيرة، ولهذه الأقصوصة ثمة قواعد وخاصيات انتقائية من البؤرة والوحدة الزمنية والمكانية والضربة الملازمة لعناصر إيحائية جاذبة من التشخيص والتركيب والتماسك عبر زوايا السرد بصورة أكثر فجائية ومخالفة في المعنى المؤول للمقروء .أما في ما يتعلق بالخاتمة فغالبا ما تنتهي الأقصوصة بطرائق لاذعة فنيا ودلاليا وأكثر تحولا في تمثيلات روح المفارقة الفنية، ولا أعني هنا التهكمية الذاتية الفجة التي جاءت بها أغلب نصوص القاص علي السباعي .أنا شخصيا ولا يعني لي أي حالة مفهومية أو حجاجية من أراء النقاد (كبارا وصغارا) لذا أقر بعدم وجود ما يسمى بالومضة القصصية، بل وأنفيها في ذائقتي ومعرفتي النقدية، فهذه التسمية والتجربة قد تصح إمكانا في عوالم قصيدة الهايكو، ولكن عندما يتعلق الأمر في مجال السرد فلا يمكننا القبول بهكذا اطروحات مغالطة وخالية من أي معيارية موضوعية وذائقية تماما.

***

حيدر عبد الرضا – كاتب وناقد عراقي

على اثر حصولي على رواية الكبارية، التي فاح اسمها في الاوساط الثقافية، ونالت شهرة ورواجا وصدى في الاحياء وخاصة الوردية وابن سينا وجبل الجلود، والكبارية بالذات، كيف لا وهي تحمل اسمها وتتحدث عن متساكنيها بجميع اصنافهم وخاصة الكادحين منهم. تشوّقت لقراءتها، والغوص في مكنونها، لا لشيء، الا لتسميتها بالكبارية، واما صاحبها، فلم تكن لي به صلة او صداقة مسبقة، ولكن، حين تعرفت على الكاتب مراد الشابي، تيقنت ان الرواية ستكون في مستوى مميز، ابداعا، واسلوبا، ومضمونا ومجازا، وتأويلا…

مراد الشابي هو ناقد، وكاتب، دكتور في اللغة والاداب والحضارة العربية، أصيل مدينة تستور الموريسكية ذات الطابع الاندلسي الشهيرة بمهرجان المالوف والرّوحانيات وفرق الذّكر والتْصوّف، مدينة الفنّ الاندلسي والتاريخ والحضارة،

صدر لمراد الشابي من قبل مجموعة قصصية سنة 2010 بعنوان الطـيف وهي لا تقلّ تميَزا وابداعا عن روايته الكبارية والتي بقي يشتغل عليها حسب قوله قرابة العشرين سنة، الى جانب الدراسات والمقالات والقراءات النقدية المتنوعة في كل ما يخص الحضارة والادب والثقافة عامة.

مدينة الكبارية، في الاصل هي امتداد لاحياء العاصمة، مباشرة بعد باب الفلة، وسيدي البشير، وباب عليوة، ولاكانيا، وجبل جلود، بين الوردية والمروج، وهذه الاحياء بدورها توسعت فصارت وردية واحد، واثنين، و …، كذلك مروج واحد، واثنين، وثلاثة،… الاخ…،وهذا ليس غريبا عن احوال العواصم والمدن الكبرى، التي تتسع رقعتها بفعل الزحف السكاني، والنزوح، من القرى والارياف والمدن الاخرى، فتضطر العائلات الى التمركز حولها فتنشئ أحياء، بدورها تكبر وتتسع الى ان تأخذ سيادتها ويصبح لها مركز، بل مراكز ادارية، اقتصادية، تربوية، ثقافية، صحية، وما الكبارية الا انموذج، من حيّ بسيط تصبح معتمدية وتتفرع الى كبارية واحد واثنين وثلاثة واربعة، وابن سينا المجاور لها، ايضا واحد واثنين، والمروج المتصل بها، وحيّ النور وغيره…

ما معنى الكبارية واصل الكلمة؟

حسب اطلاعي ّفي قوقل، اصل كلمة الكبارية يعود الى انتشار نبتة الكبار فيها قبل تحولها الى حي سكني، وبسبب النزوح الكثيف في فترة ما بعد الاستقلال والتعاضد، صارت الكبارية بحجم المدينة، اذ تضم 18 مدرسة ابتدائية، 6 مدارس اعدادية، ثلاثة معاهد ثانوية، مركز تكوين مهني للبناء، خصوصا ان في اطرافها يوجد، مقطع للصخر والرمل…

عتبة العنوان

كتب عنوان الرواية بالاسود يتوسط النصف العلوي من غلاف الكتاب، كانها تتصدره بمثابة تاج فوق جبين الصورة المصاحبة لمدينة الكبارية، ووضع التضعيف على حرف الباء للتشديد، الذي رسمت نقطته باللون الاحمر القاني، ولا نعرف ما هي نيْة الكاتب او المصمّم للغلاف من ذلك، هل لدلالة ان هذه البقعة منطقة ساخنة، شبيهة بمنطقة تواجد الالغام، ام علامة انها ارض النضال والكفاح،… او هو يريد تمييز اسم مدينة الكبَارية كمنطقة جغرافية عن فضاء او مكان خصص للهو والسهر وهو ملهى ليلي للرقص والشرب والقمار، شبيه بالخمارة، او الحانة، cabaret، يؤمه الناس ذوي الجاه، وسمار الليالي، واصحاب الاقداح، والمجون والفساد، من قمار، ونساء، ومن رقص واستمتاع وترفيه وترويح عن النفس من أعباء النهار والحياة، العامل المشترك بينهما، هو ان كلاهما منطقة او فضاء ساخن، كلاهما ناشط على الدوام، الحركة فيهما لا تهدا ولا تكل، ولا تنام الليل، كلاهما يتواجد فيه المثقف والجاهل، واصحاب المشاريع، والمفلس، والتائه والباحث عن هوية، واللاجئ، والهارب من مشاكله،… هذا وجه الشبه بين التسميتين هو الحركة الدؤوبة والنشاط الليلي الذي لا يفتر والكبارية هي كباريه ليلا، نهارا

عتبة صورة الغلاف

هي صورة فوتوغرافية ملتقطة من مكان عال، او من قمة لمدينة الكبارية، فترى امتدادها واتساعها، ومبانيها وسطوحها وازقتها وانهجها وحالة الفوضى المعمارية و تلاصق الشقق وضيق الاحياء والانهج، تتوسطها صومعة، واقفة شامخة

عتبة محامل الرواية

انطلق الكاتب مباشرة بنهاية الحكاية، بحيث جعل منها البداية، يقول في ص 5

سامية…

هل كانت تدري وهي تموت تحت التعذيب انهم سوف يقتلونها من اجل كلمات مسالمة؟

آه سامية، اتقتلين بسبب ذلك ؟ سامية…

ثم يقول الراوي في ص 6 وهو المخبر الذي كلّف بمراقبة بريد سامية الالكتروني، واخترق حسابها لينقل حركاتها وسكناتها لرؤسائه في العمل،وهو يعترف أنه ما كان يدرك ان نهاية سامية الكاتبة لرواية الكبارية ستكون التعذيب والقتل…

أهدي هذه الصفحات وفاء لروح سامية التي ماتت لانها حملت اسمها داخل الرواية وخارجها …

هكذا اختار الروائي ان تكون بداية قصة الكبارية، نهايتها، موت سامية موت حلم طمحت له، وسعت لتحقيقه، والنهاية كانت نهاية لذلك الحلم او بترا له، بوضع نهاية لأصحابه، غير ان هذا الحلم لم يمت، بل حلق، وعرج من الضفة المقابلة جنوب المتوسط، الى الضفة الاخرى، حيث تربض جنوة، تنتظر حلم الكبارية واهاليها…

الى جانب المخبر الذي تولى سرد الرواية من خلال التقارير، نجد الكاتب مراد الشابي، قد جعل كل من سامية بطلة الرواية ابنة الكبارية، تتقاسم مع يوسف الشريف، سرد الاحداث، التي تتصاعد، وفقا لحركة المخبر، وعملية الجوسسة التي يقوم بها في مواقع كل من سامية، ويوسف الالكترونية، فجعل اول فصل من الرواية بعد التقرير الاول من المخبر يأتي على لسان سامية التي ترسل أجزاء روايتها لصديقها يوسف الشريف المقيم بروما، اذ تعنون روايتها بالكبارية وتستفتح بالفقرة الاتية

ذلك المطر وهو يهطل خارج فصله لم يكن يدرك ان جدولا صغيرا يشق مجراه سيأخذه الى مكان لا يعلمه،

هل كنت تدري وانت تحمل الي كتبك انني سآكتبك؟

وتبدأ روايتها بالجملة الاتية ص 9 التي لفتت انتباهي، لانها تتكرر في اخر فصل مع اخر تقرير من الرواية

على الضفة الاخرى من جنوب المتوسط كانت جنوة تنتظرنني .

وفي اخر صفحة من الرواية 182 تقابلها الجملة، نفسها من البطلة سامية وهي تخاطب حبيبها يوسف بعد ان انكسر خاطرها،

اسدلت الستائر وأضأت نورا خافتا بجانب السرير كان كافيا لأتهجى تفاصيل حب رسمته بأناملي وقبلاتي

أمازال في العمر بقية للحلم؟

نحن نحب بقدر ما نحلم

على الضفة الاخرى هنالك في جنوب المتوسط كانت الكبارية تنتظرنا.

عتبة التقارير

قسم الكاتب روايته الى إحدى عشرة تقريرا، قدمها المخبر بصفته الراوي لهذه الرواية، وبصفته المكلف بمراقبة حساب سامية كاتبة رواية الكبارية، ووضع لهذه التقارير تاريخ دخوله موقعها وارساله التقرير لرؤسائه في العمل، وكانت متتالية، على امتداد احد عشر يوما اولها بتاريخ 01/ 01/ 2011، اخرها 11/ 01/ 2023

ما لفت انتباهي واستغربه لماذا تكرار الرقم 1 في هذه التواريخ، كذلك الرقم 11 في السنة، 2011 نحوصل، 11 تقريرا، 11 يوما، الى غاية يوم 11 من الشهر الاول من سنة 11 بعد الالفين

هل لهذا الرقم دلالة ومعنى لدى المخبر، والكاتب مراد الشابي؟

هل هذا التكرار كان صدفة؟

من المعلوم ان تكرار رقم معين لدى شخص يعني علامة جيدة تدل على النضج والوعي الكبير لما يحيط به ولما يراه في الواقع، وتعني اقتراب الشخص من الذات العليا ومشارفتها على الكون فتخاطبه ويخاطبها، ويتحقق الانسجام والتكامل بينهما، يقول كارل يونغ عالم النفس :

هو القدرة على التوليف بين الماديات والروحانيات ورؤية ما وراء السطح

وهنا تتقاطع الامور مع اكتشاف الذات واقتحامها مدينة الكبارية ومعرفة اسرارها بصورة غلاف الكتاب، اقتحام البيوت من الفوق، من السطوح، فهو من وقفته هنالك في الاعلى، يرى الكبارية واحوالها واسرارها ويكشف دهاليزها، يدخل غرفها وازقتها الضيقة وشارعها الشهير الذي أطلق عليه بشارع المرشي أي السوق حيث الحركة لا تهدأ ولا تنام…

ومدلول تكرار العدد ايضا كونها رسائل خفية من الكون توجه الشخص الى طريقه المرجو، عبارة عن ملاك حارس لصاحبه، وهنا نتقاطع مع جمل المخبر الذي يقدم الرواية اذ يقول على لسان الراوية سامية

"هل كنت تدري وانت تحمل الي كتبك انني سأكتبك يوما "، وكذلك الجدول الصغير المتكون من المطر اذ يشق مجراه ليأت المطر الى مكان لا يعلمه، ولكن الوعي الغظيم بالكون وما يوجد في مكنونه هو الذي يحمل الذات، الى حيث تريد، وحيث اكتمال النضج،

فهل يمكن القول ان الكاتب مراد الشابي بلغ درجة كافية من الوعي، واصبح في مرتبة عليا ما يؤهله على فهم ما حوله ومن حوله من الوجوه، وليرى الكون وما خلف السطح وليصبح الكون موجها له، بوصلته، دليله، بحكم بلوغه ما يكفي من الرشد والعلو واغتراف المعرفة والفهم المعمق لذاته، بالتالي يصبح مدلول تكرار الاعداد ليس صدفة، بقدر ما هو وعيا وحكمة.

ونعود الى الرواية التي قلنا ان ثلاثة رواة اشتركوا في سرد احداثها ووقائعها

أولا: المخبر

هو الذي اخترق البريد الالكتروني للمدونة سامية البركاتي وللمثقف يوسف الشريف المقيم في روما وهو صديق وحبيب سامية، وهو الذي كتب التقارير الاحدى عشرة وارسلها لرؤسائه ذاكرا مدى خطورة تلك التقارير على أمن الدولة واستقرار الوطن او نافيا عنها ذلك

تأتي التقارير على النحو الاتي:

تقرير واحد

يخبر عن اختراق موقع سامية وانه سيقوم بتلخيص محتوى المراسلة مع تحديد مدى خطورتها على امن الدولة واستقراره

تقرير 2

يخبر في مراسلة ان في موقع سامية ما يفيد تواجد تحريض على امن الوطن وانتهاك حرمته من خلال تخاطبها مع جهة اجنبية وترويجها لاخبار عن جهة الكبارية فيها افشاء لسر اخبار الوطن وان المواطن يعيش حالة من التضييق في حريته

تقرير 3

مراسلة تخبر بتاريخ مراسلة من يوسف الشريف الى المراقبة سامية البركاتي

تقرير 4

مراسلة تخبر ان يوسف الشريف على تواصل مع المشبوه لمدونة سامية وانه على إهتمام بتفاصيل الحياة اليومية لمتساكني حي الكبارية وتقصي اخبار بعض الشباب وفي ذلك خطر على امن الوطن واستقراره

تقرير 5

ارسالية تخبر عن اختراق موقع يوسف الشريف المقيم بروما لمراقبة نشاطه وتفحص النصوص الثلاثة التي ارسلها لسامية التي اطلعت عليها سبع مرات(الخروبة، اللقلق، الديك)

تقرير 6

يخبر عن مراسلة الكترونية من سامية الى يوسف وتخبر عن القاء القبض على سامية وعلى مواصلة البحث في مدونتها وما تتضمنه

تقرير 7

يخبر عن مراسلة من يوسف الى سامية، تثبت تواصل سامية مع مجموعة من شبان ذوي التوجه الاشتراكي وهولاء يشكلون خطرا على امن الدولة واستقراره

تقرير 8

يثبت مراسلة ثالثة لسامية البركاتي الى يوسف الشريف

تقرير 9

يثبت تواصل يوسف الشريف في مراسلة ثالثة مع سامية يخبرها بتواصله مع فتاة ايطالية تدعى لارا ويحدثها عن حي الكبارية وشواغل شبانه وفي هذا ما يفيد خطرا على امن الوطن واستقراره

تقرير 10

تخبر عن مراسلة من سامية الى يوسف وليس فيها ما يثبت او يشكل خطرا على امن الدولة

تقرير 11

تخبر عن مراسلة أخيرة من يوسف الى سامية يقيم فيها المراسلات السابقة، كونها لا تشكل خطرا على امن الدولة، ويقر في هذه المراسلة الاخيرة ان ما وقع تبادله من رسائل بين سامية ويوسف في شباك موقعهما ليس الا فصول من رواية تكتبها سامية

خلاصة التقارير

عند قراءتنا لهذه التقارير بصفتنا قراء للرواية، نلاحظ ان خمسة من احدى عشرة تقرير تقول ان المراسلات بين سامية ويوسف تشكل خطرا على امن الدولة واستقرار الوطن

نستنتج اذن ان البوليس عند التحري والبحث في بعض المسائل وخاصة تلك التي تتعلق بأمن الدولة أو ما يفيد تواجد خطر يهدد استقرار الوطن لا يتريث، ولا ينتظر النهاية، بل يستعجل في اصدار الاحكام على الضحايا، وقبل اثبات وتواجد الادلة الكافية، وذلك تخوفا من العاقبة، وفي المثل الشعبي المتداول الخوف من وقوع الشيء يعلم السبق والباب اللي يجيبلك الريح، سدو واستريح، لذلك الحكم يصدر ظالما، ويعاقب الابرياء بسبب تسرع في اصدار الاحكام بحيث لا ينفع بعد ذلك الرجوع الى الوراء، ولا عزاء للنساء، والقانون احيانا يصدره الطّغاة على الابرياء، وكم من بريء وقع تعليقه في حبل المشنقة، وكم مظلوم، جز به فيه السجون، وذلك دأب الاقوياء منذ الاولين، البوليس هو يمثل السلطة الحاكمة وهو الامر والناهي وصوته يعلو ولا يعلا عليه، سواء صائبا او خاطئا

فهل هذا المخبر الذي نجده يروي لنا قصة سامية ويوسف، أحس بظلمه ومشاركته جريمة ذهبت ضحيتها امراة بريئة كانت تكتب رواية، فعجلوا بالحكم والقبض عليها وتعذيبها ما جعلها تنتهي تحت ايادي الطّغاة، ويريد ان يوجد له عامة الناس العذر، كونه مجرد عبد مأمور، قام بواجبه المهني، ولكن من يملكون السلطة يملكون الحقيقة، والمخبر هنا يعترف انه بريء من دمها، تأسف حين علم بموتها وان الامر ليس بيده وخارج عن سيطرته لكي يقع الاشفاق عليه

الراوي الثاني يوسف الشريف

يوسف الشريف الرجل المثقف، الذي قطن بحي الكبارية، شارك اهله الفرح والترح، ودخل بيوتهم وعرف اسرارهم، فنجده من خلال مراسلته لسامية، يسترجع الماضي وذكريات الطفولة وحياة القرية التي نشا فيها وحركة سكانها وعاداتهم وطيبتهم، بساطتهم وسذاجتهم، وتضامنهم وتعاونهم، فيأخذ يوسف دور شهريار فيروي على شهرزاد سامية قصصا عنه وعن ابيه واهله وسكان قريته المتحابين ويذكرها ببداية قصة تعرفه عليها حين زار حي الكبارية وهو طفل مع خاله، وبالمناسبة يروي عليها ثلاثة قصص، كي يضعها في الاطار، لتعيش معه قصته وتنسجم معه من خلال الحكي والوصف، والسرد، وهذه القصص هي مترابطة، منسجمة، لها مدلولاتها، وهي

الخروبة

اللقلق

الديك

ثلاثة قصص، سرح فيها الراوي مع المعاني والمباني، فكان الحكي شيقا، مسترسلا، جميلا، شيئا، يشبه بما جاء في كليلة ودمنة حين يتحدث على لسان الحيوانات فجعل منها شخصيات، كذلك اللقلق نجده في القصة عنصرا فاعلا وقع تجسيده، وتجنيسه بما في السّرد من حكم وأمثال ووقوف على الاطلال ووصف لمحاسن الاخلاق ومكارم القيم، التي يفسدها المجتمع حين يصير الانسان مدنيا، متحضرا، فينسى جذوره وأصوله…

سامية البركاتي

ابنة الكبارية النشيطة، المجتهدة مثال الامراة الكادحة، المناضلة، الفتاة البسيطة، هي الراوي في هذه الرواية الى جانب المخبر ويوسف حبيبها، وهي ايضا تمثل الحلم والامل، والتحدي والصمود، وهي بطلة الرواية في الرواية وفي المراسلات التي تبعثها لصديقها يوسف عن تفاصيل الرواية التي تكتبها عن حي مشترك عاش فيه كل من يوسف ورفاقه وسامية وعائلتها واصدقاء اخيها والجيران، فكانوا عائلة واحدة، يفكرون بصوت عال، عند حل مشاكلهم وهذا انموذج من الحياة بين البسطاء في الاحياء الفقيرة، يحلمون بالخبز، ويعيشون على رائحة الحطب حين خبزه، وسامية هي مثال يقتدى به في التصدي للظلم، في الصمود على الفقر، في العزم على تناول وشرب المعرفة، فهي انموذج المبدع العصامي، الذي يكون نفسه بنفسه، ويحقق من الانتصارات والنجاحات ما لم يحققه اصحاب الشهادات، مثل محمد استاذ الجغرافيا، ذلكوبفضل العزم والحلم اللذان لا يموتان

موضوع المراسلات

هي تفاصيل لفصول رواية تكتبها سامية وترسلها لحبيبها يوسف الذي اصبح يقيم في ايطاليا، ليطلع عليها ويبدي رأيه فيها، خصوصا انه هو الذي كان سببا في ظهور موهبتها وابداعها بتحفيزها وتشجيعها واهدائها الكتب للاطلاع، وتروي فيها تعلق البطلة بيوسف فكانت سامية وكان يوسف في الواقع وأنا في الرواية، فيوسف هو حب، نما في الكبارية منذ نعومة الاظافر ومنذ قطعة شوكولاتة ترسلها له سامية مع خاله، في المقابل يرسل لها يوسف قصة هدية، وهي التي انقطعت عن الدراسة بسبب مشاركة امها في الحصول على لقمة العيش، سامية ابنة الكبارية، الحي الكبير، المليء بالحكايا والاسرار، فلكل واحد فيه قصة، حي يعيش الفقر والبطالة، فيلجأ اغلب شبابه الى الانقطاع عن الدراسة والانصراف اما للبيع في نصبة في نهج المرشي الشهير، او السرقة، او البطالة وشرب الخمر، في حين تتحمل الامهات المسؤولية، فتشتغلن بدل ازواجهن لتوفرن اللقمة لصغارهن بينما اغلب الازواج يهربون الى الحانات المتواجدة هنالك … أليست الكبارية الحي هي الكباريه الملهى الليلي؟

الخلاصة

الرواية استطرادات، مرواحة بين استحضار الماضي والحاضر، بما تتضمنه من انزياحات ومجاز وتأويل ولا تخلو من التناص مع النص القراني والاسطورة والخرافات من خلال السرد وفن الحكي، نجد على سبيل الذكر

1 اقتباس اسم يوسف الشريف وما يتصف به من صفات حميدة، الانسان المثقف، الهادئ، الخلوق، الذي يحبه كل الجيران وتحترمه سكان الكباريه وتودعه اسرارهم، ويطلعونه اخبارهم، ويطلبون احيانا رايه … الا يشبه يوسف التبي في خصاله؟

2 قصة البقرة الصفراء، الشهباء في النص القرآني، في الرواية تعمد الراوي اختيار نفس الصفة والتشبيه للبقرة وجعلها حجة ودليلا قاطعا ان ابنها واصل دراسته في المدينة بفضل ثمن تلك البقرة التي وقع بيعها، ليلتحق بالجامعة وليتْبع طريق الهدي واليقين،

3 حكاية اللقلق، في سرد بديع، مشوّق، تحيلنا على قصة سيدنا يونس وحكايته مع الطير الذي يفهم لغته

4 تناص مع قصة الميداني بن صالح، قصة قرط امي، يبدو ان الكاتب اراد الاشارة ان هموم سكان الريف واحدة، متشابهة، فالام تبيع قرطها وما تملك من مصوغ لأجل ان يكمل ابناؤهم دراستهم لكن، هل هؤلاء الابناء جديرون بتلك التضحيات ؟ وفي الرواية الشاب يشري لجدته قرطا مقابل بيعها للبقرة الصفراء ليحرز حفيدها على رخصة سياقة، وتبيع بقرة ثانية ليتزوج…

باختصار، الام والمراة التونسية، حريصة على طلب العلم واكتساب المعرفة، والتزود بالثقافة،، قبل اي شيء اخر…

5 التناص مع الاساطير والحكايات مثل حكاية الف ليلة وليلة، يوسف في الرواية يحلّ محل شهرزاد في القص، فروى لسامية ثلاثة حكايات على غاية من الامتاع والتشويق والترغيب، حكاية الديك الاسود الذي ذبح من اجل فك التابعة، هنا اشارة للمعتقدات والخرافات والتبارك بالاولياء الصالحين

6 تناص مع قصة « حدث ابي هريرة قال « من خلال الحكي عن شجرة الخروبة، المتواجدة في اطراف الريف، التبارك بها، جعلها مكانا مقدسا واخرى مدنسا، الاعتقاد في ما يحدث انه من سحر الشجرة، تجسيد وتشخيص الشجرة وانسنتها، تُبصر وتسمع وتشاهد، وتنتقم وتحكم و و …

الرواية في مجملها جامعة بين الواقع والتخييل، اعتمدت اسلوبا شيقا في الحكي،جميع أحداثها توهم القارئ انها قصة حقيقية، تعالج اليومي من الحياة الاجتماعية وما يعاني سكان حي الكبارية المجاور للعاصمة من قضايا مختلفة، وهموم وتهميش وتضييق، وتطرح قضايا الانسان الحالي ومعاناته من أجل ان يعيش حياة كريمة، لكنه يجد البطالة تستقبله، والفقر يقصيه، فيلجأ البعض للسرقة، او العمل في الحظائر باجرة ضئيلة، او الهروب الى الزحلة والخمر لنسيان الشقاء، كما تعالج قضية المراة الكادحة، وتحملها عبء الاسرة، اهتزاز صورة الزوج بسبب الاحباط والاكتئاب الذي يصيبه، وعجزه في مواجهة المصير وتوفير الكرامة المطلوبة، تهميش المثقف صاحب الشهادات وتعجيزه في ايجاد عمل لائق به، فيعمل عاملا يوميا يبيع الغلال في الشارع، واذا وفّق في فتح مشروع خاص تقع محاصرته وتشديد الرقابة عليه، وايجاد تهم ضده لايداعه السجن كي لا يمارس حريته ولا يعيش في كرامة، ظاهرة الهجرة الممنوعة، والحرق، الزواج بالاجنبيات تفوق سن من اقدم على الهجرة لاجل الحصول على الاوراق والاقامة في بلاد المهجر، اللجوء الى العمل في التهريب والممنوعات والمخدرات من اجل البقاء، التعرض للعنف، والجرائم بسبب التشرد، والفساد والارهاب،

الكبارية هي انموذج القرية المهمشة، بكل تفاصيلها الصغيرة والدقيقة هي العالم مصغْر، مختزل في اسم الكبارية، الذي يجمع بين الخير والشر، القبح والجمال، الجهل والتعلم، يتواجد فيها العصامي وصاحب الشهادة، والمثقف، والمبدع، هنالك لعبة السواد والبياض، الموت والحلم…

الخاتمة

كاتب الرواية، الناقد مراد الشابي، لم يكتب سيرة حيّ، ولا قصة متساكنيه، بل كتب تأملات، واشراقات أدبية، ابداعية، تحثّ القارىء على التأمل، ترسم له قبس نور في الاقاصي كي يتبع ذلك الخيط النوراني حيث الحلم ينتظره وحيث الامل لا يموت، فقط على المرء التشبث بحلمه، ويدرك ذاته ويدرك الكون ويعمل لاجل البقاء، وان لا شيء مستحيل امام ذكاء الانسان العقلي، فوحده قادر على الابداع واكتشاف المعجزات والتنبؤ بالمستقبل بذلك الوعي الباطني والانصهار مع الوجود في الوجود، في سبيل الخلود، وما سامية في الرواية الا رمز للانسان الواعي، الطموح، الذكي، المتفائل، المثابر، الصامد، يكفي ان يحلم، يكفي ان يعيش الحب، يكفي ان يحب، فبالحب تتحقق المعجزات و بالحب تتحقق الانتصارات، وبالحب ينتعش القلب ويزهو العقل،

الكاتب يؤمن بالثقافة ويؤسس لفكر عقلاني مثقف، بشرط توفر الحلم والحب والرغبة، وتواجد المشاعر المرهفة والحساسة، بالتفاصيل الصغيرة، فعليك ايها الانسان ان تكون واعيا بما يكفي لتكون ايجابيا ومبدعا …

واختم مقالي بهذه الشواهد و الادلة من الرواية، التي تتقاطع مع فكر الكاتب وايمانه بالتعلم والثقافة والابداع، وان جاء ذلك على لسان يوسف الشريف الانسان الذي يؤمن بالعلم والثقافة انها السلاح القاهر لكل مشكل وبعض الشخصيات الاخرى محمد، و…

جاء في ص 31 من الرواية

… اعني ان تقبل وضعك وتنخرط فيه دون ان تفقد ذاكرتك دون ان تنسى أحلامك من هنا تولد الرغبة في الاصلاح والقدرة على المواجهة والتحدي عن وعي وبكل ثقة في النفس لن تكون مطالبنا زائفة لن تكون شخصية، ستكون مطالب وطن…

ص153

بإمكاننا ان نتعلم في كل وقت المعرفة لا سن لها …

وفي ص 156

كثير من المبدعين لم يدخلوا الجامعات بل لم يكملوا دراستهم الثانوية، توماس ايدسون لم يدخل الجامعة مثلا …

وهو صاحب اعظم المخترعات … رامبو الشاعر الكبير انقطع عن التعليم في سن مبكرة وكتب اروع

القصائد

ص 158

الحياة تشبه المتاهة، لا نعلم اين تقودنا، تسلمنا من حلم الى حلم، ربما بمحض الصدفة … ويوما فيوما يخبو الحلم ويصير ذكريات …

الحلم هو ما يميز أحدنا عن الاخر، يتمسّك الواحد منا باحلامه او يستسلم للواقع فيصير مجرد انسان ينخرط في الحياة اليومية فيتلاشى شيئا فشيئا كلما تلاشت أحلامه وفي النهاية يموت عندما يموت الحلم بداخله ويبقى مجرد كائن، …

ص 167

الجهل هو الحافز على الابداع…

انا لم افهم معنى ان يصير الجهل معرفة، ولكنني اكتشفت مع هذا الفيلسوف (سقراط ) ان المعرفة الحقيقية تستقر بداخلنا …

ص 181

نحن نحب بقدر ما نحلم

بهكذا احلام، وهكذا محبة صادقة، ترفرف تحت اضلاعها، نستطيع ان نحلق و نجعل الحلم حقيقة والحب رفيقا …

***

سونيا عبد اللطيف

تونس، 22 جوان 2023

 للروائي شوقي كريم حسن

 أسلوب سردي مختلف في ابتكاراته وصياغته خارج عن نمطية المألوفة في السرد الروائي والقصصي، هو نتاج ثمرة طويلة من الخبرة والكفاءة في ناصية التألق في الإبداع في ثنائية (السرد / الدراما)، أن يحمل السرد فضاء واسع، يضم كل الالوان والاجناس السردية، وان يكون السرد هو لسان الواقع ومرآته الظاهرة والمخفية، أي أنه سرد الواقع نفسه بنفسه، بكل تجلياته في المعنى و الإيحاء والرمز الدال، في اعادة تقييم صياغة الموروث الديني الى جادة الحقيقة والصواب، ونزع ثوب الكذب والزيف في الغلو والمزايدة في مفهوم المقدس الذي لايخدم سوى كروش الكهنة بالفساد والاحتيال، هذا ما تدلل الرؤية الفكرية الهادفة والرصينة في مساراتها في الكشف الشجاع للحقائق الجارية في أرض سومر في الزمن الحاضر. والسرديات تضم 21 لوحة سردية هي فعلاً لوحات حياتية تنطق بنفسها لنفسها، هي من الواقع الفعلي، في ظهور ظواهر هجينة في المقدس المزيف على سطح الاحداث، هي نتاج صناعة الدجل والأكاذيب، وهي تعطي صورة مشوهة للدين ألم تكون سوداء، يخلقها الكهنة وأرباب الأرض، باعتمادهم بشكل أساسي، على الخرافة والاوهام، يلبسونها جبة الدين، لكنهم في حقيقة الأمر يدفعون الواقع الى الخراب، يدفعون الحياة أن تكون محصورة بين الحروب والموت وطوابير التوابيت بالمعاناة القاسية، ولكي يسهل عليهم عمليات النهب المال العام بأسم الدين بكل بساطة وفي وضح النهار، حتى يجلسون على كرسي العرش المرصع بالذهب والدولار، والصولجان مرصع بالدرر والجواهر، ويخلقون واقع مشوه ومشبع بالخرافات، على ايقاع التراتيل والصلوات على تمجيد وتعظيم كهنة الدين، أي تعظيم أنفسهم بالقدسية، على شقاء ومعاناة الحياة، التي تغوص في الإهمال والحرمان والشذوذ عن المعقول والمنطق، محاولة تخدير العقل بالخنوع والطاعة العمياء، وعندما تشتد وتيرة الأزمة الحياتية والمعيشية بالتذمر والتململ، يتذرعون الكهنة بالتوهيمات المضحكة، لأنهم ببساطة متناهية لا يسمعون صوت الأنين والآهات لآنهم في بروج عاجية ضد الصوت،ويتمادون أكثر في صخبهم وضجيجهم المدوي في منابرهم في إعطاء حقن التخدير (عيشوا فقراء ومعدومين لكي تكتسبوا الجنة في الآخرة) (قال الكركدن - عند تمثالي الاعظم.. ضعوا هتاف ينادي بما يتوجب على المداحين إشاعته كل برهة زمن.. الدنيا دون ذكر ما كنت عليه، وما يجيء معي لا يسمى دنيا، هي فراغ تافه !!

قال الكاهن / - هذا ماهو حاصل!!

قال الكركدن / - كرسي عرشي.. اجعلوه مزاراً.. لتباهوا به الأمم والشعوب !!3601 شوقي كريم

قال الحارس / - هو ما نحلم به.. قبة من ذهب الديار القصية.. ومرجان آت من أقدس البقاع واكثرها حباً) ص14. وجعل الناس تدور في حيرة وارتباك مثل حمير النواعير (ملثمة بهالات من الحكايات والخرافات، والابهام، قال حنين أمراً - ألقي بعينيك بعيداً.. الموتى لا يحتاجون الى ابصار.. الضوء لا يمنحهم سوى الإحساس بالغربة) ص33. الطاعة العمياء واجب الطاعة اولياء الامر، الكهنة أرباب الأرض. حتى يسدون باب الاحتجاج والتذمر من مشاق الحياة القاسية، حتى لا يتعالى الانين في نفوس مقهورة من الظلم الذي ابتلت به حياتهم و ضاعت أحلامهم ادراج الرياح، في حياة جافة ومخنوقة بالرايات السوداء والخضراء، يلفهم التيه والضياع. حتى يسدون باب العقل من طرح الاسئلة الحرجة. لماذا جئنا الى الحياة؟ أين سنمضي في مسيرة موت العقل في تمزيق كبد الحقيقة (كفاك أيها المهزوم ضجيجاً !! (داء وقاحة مواجهة الموت)... أيها الموت.. وجودك ضد الابدية.. فلم التمسك بصداقة الأرض.. كاذب أنت حين ادعيت انك الحقيقة الوحيدة التي يجب أن يقرها الإنسان.. أيها الموت.. هناك.. وهناك.. وهناك الكثير من الحقائق التي قتلتها بخناجر حقدك وكبريائك ومجونك) ص50. كهنة يقرعون طبولهم بالخراب والحروب، وقراراتهم نافذة المفعول بدون مناقشة، هذا الفرق الوحيد بين كهنة اليوم عن كهنة الأمس (نفذ ثم ناقش) النقاش محرم ومعصية من رب العالمين والدين، لان النقاش والمجادلة يدخل في نفوس الناس الشكوك والظنون وهي أولى المحرمات، يريدون الانسان مدجن بثقافة القطيع يردد كالببغاء بالخنوع وانحناء الرأس بخشوع وتقبيل أيدي الكهنة، بدعوة انهم يحملون العصمة والوصايا من رب العالمين، يريدون الإنسان أن يكون لعبة تحركه الحكايات مشبعة بالأوهام والخرافات، ويحشرون ثقافة إبليس في عقول الناس، حتى يتبخترون بفخر وغطرسة انهم ارباب الارض وأصحابها الشرعيين، وينفخون في أنفسهم مثل (علي شيش) في محيط مليء بالفقر وبيوت الطين والأزقة المنسية بالإهمال والبيوت العشوائية، لا تصلح للسكن حتى للحيوانات السائبة، لا شتاءاً ولا صيفاً، ولكن منابر الكهنة زاخرة بالصلوات والتكبير، في هذيانات القحط الحياتي تلف المدن المغضوب عليها (المدن هذيانات ليالي موغلة بالقحط.. تشبه مواقد جهنم، كلما أخذت اعمارنا لترمي بها الى طرقات قاسية. سمعنا صراخها الراعد - هل من مزيد؟ !!) ص 101. هذه عمق الرؤية الفكرية البليغة، في التجلي في مفهوم المقدس، بين الاصالة والزيف والكذب، كما يراهن عليه كهنة الزمن الحاضر، في تأسيس دولة قائمة على العويل والنحيب والنواح ولطم الصدور والخدود، في مملكة البكاء والنواح (آه أيتها الملكة التي ابتكرت النواح

مركب النواح سيرسو في أرض معادية

وهناك سأموت.. أنشد الاغنية المقدسة

أوه إنانا المجد لكِ) ص 112. بهذا الشكل صبغت أرض سومر بالسواد، من اجل عروش الكهنة العظام. ولكن بعض المجانين يرهقون راحة الكهنة بالقلق، حينما يصرخون بأعلى صواتهم (لسنا موتى.. لسنا موتى) وبكل بساطة لو تنكشف الحقائق لاهتزت عروش الكهنة وزعزعة حصونهم العاجية، وانقلب عاليها سافلها، وبالتالي ستتصدع دولة الكهنة، وتضيع التيجان والصولجان (لو اكتشفت الحقائق لتغير كل شيء، وسارت الامور على درب متوهج واضح المعاني) ص 147.

- بعض الحكايات السردية:

1- سردية: أوتار الكركدن:

كم هو حجم المآسي والمعاناة الهائلة بوجود كهنة الزور والزيف وهم في قمة الجاه والنفوذ، نصبوا انفسهم حماة الدين والمذهب ويدعون يحملون وصايا من رب العالمين، وحقيقة امرهم كل واحد منهم مصنوع على شكل الكركدن (وحيد القرن أو يرون الاشياء بنصف عين) يتحكمون في مصائر الناس، ويخدعون البسطاء في صناعة الأكاذيب المشبعة الى قمة رأسها بالخرافات والأكاذيب وبيع الاوهام دون رصيد، نصبوا انفسهم في مجلس الحكماء الالهي أو مجلس الارباب تحت مظلة رب العالمين، في تكوين دولة الكاهن الأعظم أو دولة الكركدن الاعظم والمقدس (لا أدري وانا المتابع المعروف لكل حركات الكركدن وحركاته، حتى أصبحت واحداً من صناع تاريخها، المليء الاكاذيب وبطولات مزيفة) ص9، ولكن غبار الغموض وضبابية الرؤيا، تدفع الناس الى الحيرة والارتباك والبلبلة في دور الكركدن الكاهن: هل هو مخلص فعلاً بوصايا الله والدين والمذهب، ويكون اللجوء إليه شفاعة من العلل والامراض، حتى يشعر الفرد أنه أمين على الحياة السالكة إلى رفاه العيش، يوقف مسلسل الكدر و الهموم والأشجان؟ أم أنه يبيع فقاعات هوائية او يزمجر بالرعود دون مطر، لا تنفع بل تضر، ولا تضمد الجراح وتسكت الوجع، ولا وتروي الظمآن، ان الكهنة الكركدن، شركاء أساسيين، في الإحباط والخيبة والانهزام في الحياة، كل مساعيهم الشرهة هي امتلاك صولجان مرصع بالدرر والجواهر، وكرسي العرش مرصع بالذهب والدولار، هؤلاء الكهنة هم غربان الشؤوم السوداء، يدفعون الحياة إلى الموت والحروب، تحت صلوات وتكبير حواشيهم وخدمهم واعوانهم، كلما بزغ بالظهور الكركدن لعامة الناس، تعلو صلوات والتكبير، وكلما عطس الكركدن، تعالت صيحات المجد والتعظيم (- لتبقيك الالهة ذخراً، بك ومن اجلك تخضر الأرض وتتدفق المياه ويغني الرعاة !!) ص12، ولكن من المفارقات هناك بعض المجانين يسخرون من الكركدن (بضحكات هسترية من هذا النفاق السريالي الممجوج والهزيل .

2- سردية: عباس الحافي:

 يقول عباس (كلما رأيت، ذاك الذي نسجت، عنه الحكايات المليئة بالعجائب والغرائب، حتى اوصلته الى مستويات تقديس رفيعة، ايقنت ان التقديس رغبة تلاحق الإنسان) ص17. وعباس مجبول على الشيطنة والمشاكسة لكل شاردة وواردة، مجبول على العصيان والتمرد، ويبحث في الوجوه عن الملامح المخفية، ويعرف ان رعود الأقوال الرنانة، هي فقاعات هوائية بدون رصيد، مصحوباً بالأسئلة التي تسبب الصداع بالوجع، يلاحقها منذ خطواته الأولى منذ ان اصبح يتيماً، حروفها من نيران الحرمان والاهمال: الى ماذا يمكن أن نصل؟ وكيف ومتى؟ هذا ابن الطين السومري الاصيل، مشبع بالحزن والعذاب منذ سنوات عمره الاولى، غارقاً في حمامات الفقر، من دولة الكهنة العظام، الذين يتربعون على كرسي العرش المرصعة بالذهب والدولار.

3 - سردية: الديك وسام يستحقه

كل الحروب التي اجتازها (مزهر عواد) لم يقدم اية خسائر تذكر، انه مثل الديك المتيقظ على الدوام، وتشغله الحكايات والسوالف المعجونة بالاكاذيب وهذر والهذيان، ويدرك أن الدروب صعبة المسالك، ولم يشعر بالندم والإحباط (الدروب التي سلكها (مزهر) والتي ما كان يعرف، لمَ وضعت بين يديه بندقية عتيقة، وأمر بأن يطلق الرصاص ما ان يسمع دبيب حشرة تبحث عن زاد، أو نباح كلاب ألتمت من اجل افتراس وليمة بشرية، بدأت تتفسخ، دون اعتراض، الأجساد تنغمس بتراب احزانها، حاسة بغرابة وجودها غير المجدي، يقف (مزهر) لائذا باذيال خيبته، متسائلاً عن كيفيات الخلاص من انتظار، لا يحبذ الجلوس مثل ولد صغير)ص47. يشعر أنه في غابة متوحشة بين نباح الكلاب وعواء الذئاب، يتيقن أن لا خلاص ولا مخرج من الدهاليز المقفلة، وما عليه إلا أن يجر اثياب الهزيمة، فنهايته في تابوت مثل أي كلب سائب في الطرقات، في دولة الكهنة العظام، أو دولة الحمار الديموقراطية الحرة !!، لا اوسمة ولا نياشين، ليس مثل ديك الشاعر نزار قباني، في قصيدة: في حارتنا ديك:

في حارتنا

ديك يصرخ عند الفجر

كشمشون الجبار

يطلق لحيته الحمراء

ويقمعنا ليلا ونهارا

يخطب فينا

ينشد فينا

يجرح فينا

فهو الواحد وهو الجبار.

4 - سردية: أكاذيب أنخيدونيا المقدسة !!.

معابد ومنابر كهنة مرصعة بالنفاق والكذب، لا تصنع الحياة البشر، وإنما تنتج براعة الشيطنة والحيل والألاعيب مقرونة بأسم الله والدين والمذهب، وهذا الثالوث براء منهم، مثل براءة الذئب من دم يوسف. يتصورون بقناعة ذواتهم انهم مرسلين من قبل الخالق الاعظم، ان يكونوا أرباب الأرض ويتحكمون بمصير البشر والحياة، وتتطلع إليهم (انخيدونيا المقدسة) وتعرف ما هم إلا شياطين الكذب والخداع، يضحكون على العقول بأن وجودهم الخلاص والنجاة للبشر واخذه الى بر الأمان، مثلما يصدحون بضجيجهم وصخبهم في منابرهم. يتقمصون بشكل مدهش دور الثعالب الماكرة، ووجودهم هو الخراب والموت والمعاناة، انهم يريدون من البشر، احياء اموات، أو اموات احياء. يكنزون الذهب والدولار، وتدرك (انخيدونيا المقدسة) حجم الضرر والتلف للحياة والبشر (المعابد لا تنتج ارباباً، بل تعمد الى استعباد الالهة،وجعلهم وسائل رغبات الكهنة الموشومة بالانحطاط، وتمجيد شهواتهم العارية التي لبسوها مسوح التقديس، موهمين العيون الباحثة عن خلاص يوصلهم الى بعض رغيد العيش، بأن المعبد وكهنته هما الطريق الأسلم والوحيد) ص109، بهذا الدرك الأسفل من الهذيان يسوسون في صدور الناس، بأن التعويذات والحجاب والتراتيل على رائحة البخور واللطم والنواح، هي كافية ان توصل البشر الى بر الامان. تدرك (انخيدونيا المقدسة) حجم الرزايا والمعاصي والموبقات التي يمارسونها في أيديهم الناعمة والملساء كالحرير على معاناة البشر (تجلس انخيدونيا، الغريبة الأقوال والشاهرة سيوف الأسئلة، أينما حط بها طائر الوقت، متأملة الساحات المحاطة بنصب وتماثيل الأرباب، وهم يهشون بأعصيتهم الملساء على غنم ومواشي الكهنة) ص109. كأنهم يتقمصون دور البلهوان في المسرحيات هزيلة الاعداد والاخراج، وحين يخرجون الى خشبة المسرح أو المنبر، يتعالى النباح والعواء، في مشهد دراماتيكي. سريالي / فنتازي في هوس مجنون (الاضوية انطفأت.. وتعالت الصرخات.. يبوووووووووي

المبتهج يضحك.. الرصاص يتصاعد.

البهلوان وعلى حين صدفة يجلس فوق العرش، منشداً (أنا الآلهة فغني بذكري يا بقايا البلاد !!) ص127. يتصورون هؤلاء الكهنة هم الصفوة المختارة ارسلها رب العالمين الى البشر، لذلك يجب ان تقام لهم التماثيل والنصب من الذهب الخالص، وإذا أخذ الله تعالى أرواحهم الى جهنم، ان تكون مراقدهم مرصعة بالذهب. حتى تكون مفخرة لكل الشعوب والأمم. ولكن المجانين يداومون على صيحاتهم (لسنا موتى.. لسنا موتى !!).

***

 جمعة عبدالله

الفصل الثاني ــ المبحث (3) : آلية التوليد للشخصية المدونة وانتقائية الشخصية التراتيبية

توطئة: أظن من جهتي الخاصة أن الرواية التأريخية التي اتكأت على مادة ومرجعية الوقائع التأريخية، لم تتغافل بغاياتها وأغراضها ومحاورها على أن تكون تلك الممارسة أسلوبية الشائقة الجذابة من الاطلاع التأريخي عبر مفهومه التعليمي والتثقيفي، لذا جاءتنا وجهات وموجهات الأفكار الإجرائية متباينة في مستوياتها التحفيزية و تنشيطية وتحريكية غاية دلالية في مؤثرات السياقات المرجعية التي هي داخل مساحات لا بأس بها في مجالات ارتبطت بالأسباب والمسببات والمداليل التي راحت منها معالجات التخييل تتوسل بالأداء الروائي تدانيا وتأثيرا في إعادة صياغة المحاور والوقائع السياقية ضمن فاعلية تتماثل بها أوجه الخصائص والملامح الموطنة في معطيات الحوادث المرجعية إفهاما بخاصية الوسائل في العملية الروائية ذاتها.

ــ تحولات تأريخية: هموم مصيرية شخوصية راسخة:

يمكننا القول، أن رواية (ليون الأفريقي) من الحكايات المتبدية في معاينة الظروف الزمنية الأكثر غالبية في تفحص أثار صعود الأيديولجية السياسية على مستوى إمكانية الفرد والأفراد، إذ أصبحت علاقة الفرد الشخوصي طريدة سائغة لتطاردها من الجوانب دوافع الرقابة وعساكر القشتاليين، وقد كان أسطولهم قد اسقط (مليلة) في ظروف زمنية معاكسة لطموحات ومساع المهاجرون الغرناطيون في فاس اللذين كانوا أكثر قلقا من تصاعد هذه الحملات المقبلة عليهم تعقبا وحتى إلى مستوى البحث في البيوت والأسواق عن أولئك المهاجرون قسرا من وطنهم غرناطة.

1ــ الخلفيات الشخوصية مدارا نصيا في القبول المخصوص:

لقد سبق لنا وإن قلنا في بدايات مباحثنا الفصولية الأولى حول الرواية، بأن العلاقات الذواتية في أنساق الوسائط بدت كأحداث ومواقف محورية في الرواية، لذا راحت تنفرد بالاستثناء داخل عينات مساهمة في مؤشرات موصوفها الفعلي المزامن للإنتاج التناظري بين (سياق مرجعي ـــ مساحة تخييل) لذا واجهتنا الأنواع المستقلة في علاقات الأفراد ضمن إمكانية الدليل المرتبط وخصوصية محتملات التحفيز الشخوصي نحو ذلك المنتج القصدي الخارج عن إرغامات ضوابط الخطاطة السياقية، لذا وجدنا السارد المشارك يباشر الأشارة والإحالة والتعريف بصور العلاقة الزمنية الصاعدة بزمنه العمري تحديدا بصفة طابع المبأر: (ولكني كنت لا أزال قليل التأثر، منصرفا بكليتي إلى دروسي وصداقاتي الوليدة./ ص139: عام هارون المنقب) إذا جاز لنا القول هنا اعتبارا، فيمكننا عد المؤشر التبئيري كحالة مرتبطة بـ (ليون = السارد المشارك ـــ الشاهد الدليل) أي أن الآلية الزمنية والعاملية تعد في حدود هذا المجسد التأشيري والعاملي من ضمن حالات الأدلة التي تصاحب التخييلي المقرون بـ (فاعل المنتج السياقي) .أي ذلك المبأر الصادر عن آليات شكل المستنتج وفق قيود الشواهد المروية عن الأدلة المروى إليه راويا.وقد تنمو علاقات التمثيل بالمؤشر التحييني انفتاحا نحو وقائع علاقة مباشرة أو غير مباشرة مع خصوصية الواقع التجسيدي نفسه أو بغير نفسه: (عندما زارني هارون لأول مرة، وكان لا يزال خجولا، وقدمته إلى خالي وأخبرته عن جماعة التي تنتمي إليها أسرته./ص139) أن المبرر الأساسي لقبول هذا الشكل من آلية المنتج، هو ذلك الاقتران في التحقق التحييني، اعتمادا على الآلية المتحكمة في حالات (المروى ــ المروى إليه) ويستخلص هذا الأمر من جهة أخرى، على أن طبيعة المتبدي الشخوصي الجديد، لا بد وأن يحل كعلاقة مرتبطة في الأصح من بناء آلية المنتج.ولكن ليس في الغالب الأعم ما تظل قضوية الأحداث المسرودة محافظة على تدفقها المحوري، بل أنها غالبا ما تخرج عن حدود (المتبدي المبأر) لتعود إلى محض حالات (مدونة ــ خطاطة ــ رصد ظروف خارجية ــ حصيلة ثانوية التحيين) والواقع أن أغلب الإجراءات في محققات الرواية، تبقى كهيئة واردات سيرية ناتجة عن طبيعة السنن العلائقية في المتحكم المرجعي من الوثيقة المرحلية من الزمن التأريخي: (يفاوض نقيب الحماليين بأسمهم السلطان ومساعديه.وعلى هذا فقد نال حق إعفائهم من الضرائب والمكوس. /140) ولأجل التدليل على أن التحيينات التي تأتي على لسان حال السارد نفسه، هي من مادة (المبأر) أو (المؤول الأفعالي) إذ لا تأخذ شكلا من إجرائية المدونة في كافة أوجهها السننية المقرورة والمعدلة، بل إنها رؤية ذاتانية ــ تخييلية، تسبقها إعادات التحديد والتلائم مع موضوعة الإطار المرجعي في مادة المروى أوالمسرود.

2ــ القصاص الضرير في ساحة الأعاجيب:صيغة من صيغ إنتاج النص:

بطبيعة الحال، فإن الرواية التأريخية، ليست جملة من تراكمات اللعبة البلاغية المشذبة في عناصر العلاقات والوحدات السردية والمروية، بل إنها إعادة الأسلوب بالإحالة والتحوير عبر العناصر والفقرات والفصول.ويمكننا أن نقول أن على الروائي التأريخي، تضخيم الحوادث ودمجها في ثيمات معمقة من الدلالة والموتيفات، لا أن تبدو كملفات ملفقة كحال بعض روايات جرجي زيدان، التي تفتقد إلى حقيقة المعطى الدوري للشخصية التأريخية، لذا تجد أغلب ممارساته الروائية لا تنتج إلا جملة متتاليات تظهر لقارئها الجوانب النسبية من حياة الأبطال ومواقف غرامياتهم التراجيدية حصرا وقسرا.وكل ما يمكن أن يمنحه أمين معلوف في حوادث روايته، انطلاقا من مرجعية مدونة وإعادة صياغة من صيغ إنتاج اللعبة التخييلية في ثنايا المواقف والشواهد والأتيان بعناصر إضافية تجعل من عملية قراءة النص أكثر بروزا.وهذا ما يعني بدوره تعادلا مع النص السياقي، ونوعية وحجم الثيمات الدلالية التي أسهمت من ناحية الترتيب الوسائطي في مركبات الإنتاج في الشواهد الأصلية وصيغ معالجتها في بنيات وأشكال ملائمة على مستوى التداول في حياة هيئة العناصر الروائية.وعلى هذا النحو نلاحظ أن الوحدات الأفعالية السائرة في مجرى النص في رواية (ليون الأفريقي) لا تبنى بواسطة عناصر تنتمي بصورة إجمالية إلى الرواية الأدبية وأدواتها، ولكن بالإحالة والمعالجة والأسلوب الخاضع إلى حدود الأفعال السردية كمتتاليات الأفعال الشخوصية وتحليلها بعين الاتصال والتدرج الأحوالي بين (ذات ــ موضوع ــ زمن ــ مسلمات كيفية مخصوصة ــ تفكيكا وإنتاجا) إن ما يعنينا من وراء كل هذه الشروح والتأويلات التحليلية منا، هو توضيح جملة صيغ وصياغات الرواية، استنادا إلى مجموعة شواهدها المرجعية أو السياقية، وهذا الأخير وما قبله هو موضع كيفية من كيفيات إنتاج النصوص التأريخية روائيا، لذا تبقى عملية (النص المصدر = النص المنتج) متساويان ومتميزان في الوقت عينه، فهما يتساويان في نقلهما ذات المعنى ويتميزان في مدى الاهتمام بالتفاصيل أو العناصر الأساسية وغير الأساسية في النص.أما في ما يتعلق بالصياغة التخييلية فهي تحمل الأفكار والصور والذوات الرئيسية، كما ولا تتغافل عن إعادة تجميل عناصر نص المصدر بطرائق إنتاجية جديدة عن المصدر النصي المتعلق بالمدونة التأريخية، لذا فأننا نلاحظ صحبة ليون ــ السارد المشارك، إلى جانب هارون بما يعادل المصدر النص، ولكن في حدود أهداف تراتيبية في العنصر والتمييز ومستوى النظر والاعتبار في مكون الرؤية وفي المجال الأدوار الشخوصية في الرواية التراتيبية: (لم يكن اكتشاف فاس بالنسبة إلي وإلى هارون إلا في بدايته..وكنا سنعريها ثوبا بعد ثوب وكأنها عروس في غرفة عرسها..وإني لأحتفظ من ذلك العام بألف ذكرى تعيدني كلما استذكرتها إلى سذاجة أعوامي التسعة اللامبالية.. ومع ذلك فإن ما أشعر بأني مجبر على روايته هنا آلمها جميعا، ولو أني تكتمت عليه لخنت مهمتي كشاهد أمين./ص144) أن عملية التفاوت ما بين (النص المصدر ــ النص التراتبي = المنتج) أو ما يمكننا تسميته على حد قول بعض نقاد الرواية إعادة الإنتاج، هو في كيفية تحفيز المقاصد ووضعها في ثيمات إجرائية تخييلية ، لتكون في شكلها من الإمكان والتمكين البلاغي أو على الأقل تبدو في بعض مواقف الشخصيات ذات وحدات تحليلية وتأويلية ذا طابع أسلوبي وخطابي قابلا على أن يكون متماثلا إزاء بعض الحالات والمواقف الواردة في الأداة السردية.وهذا ما ذهب إليه ليون السارد المشارك، عندما جعل من مجال اهتمامه بهارون المنقب كحصيلة معرفية نحو الاستطلاع إلى ما ذهب إليه في منطقة المرسى ومشاهدة والده محمد الوزان في إحدى الحانات يحتسي الخمرة ويعاشر الغواني فيها سرا: (كانت الصورة التي أردت تركها ورائي بعيدا صورة أبي جالسا إلى مائدة في الحانة وبجانبه رمة مسرحة.فأما أنا فإني رأيته، وأما هارون فقد عرفه بالتأكيد./ص145) يخيل لي أن هذه الوحدات من ظاهر وباطن المسرود، ما لم تقتصر على ماهية (النص المصدر) إنما تم معالجتها بموجب دلالات ثيماتية كاشفة لنا عن حجم الاختلال والانتزاع عن القيم الأسلامية لدى محمد الوزان، ذلك الأب الذي بدا ورعا تقيا لعائلته منذ زمن حلولهم القسري في فاس.ولكن معلوف أراد توضيح الصورة القصدية في نظام الفواعل السلوكية للشخوص، وذلك بدءا من محمد الوزان الذي صار معاقرا للخمرة تاركا عرض الحائط وصايا دينيه والأعراف الأسلامية الأولى.فما كان للفتى ليون سوى الفرار من وحشة المفاجئة، إذ غدا لا تستوعبه عطايا التحول والصدمة في حال والده بدقة وعناية من قبل آلية الوصف والفاعل الواقعي المعاش في الفعل المرسل إليه: (محور المعرفة: المرسل ــ محمد الوزان ــ المرسل إليه = ليون المعارض / المحور المساعد: هارون المنقب = حسن الظن محور القدرة) وقد تمكن نتائج الجولة التي كانت حصيلتها الفرار من مظاهر مرأى ليون لوالده يحتسي خمرا، هو تحايل هارون عليه متندرا بهذه الوحدات المعللة: (إنه طالما ذهب جميع الرجال إلى الحانات، وطالما أحب جميع الرجال الخمرة، وإلا فلماذا حرمها الله ؟ . /ص145).

ــ تعليق القراءة:

إن مشروطية محل المعرفة لدى ليون، لم تكن بمحض الأمانة التربوية التي تلقاها من والده والتي هي الآن على العكس تماما، بل استطاعت هذه المحظورية من وعي ليون تأصيل أهدافه النبيلة من الدين الإسلامي ، مما جعل من مخاوف هارون تنتظم في رغبة تساؤلية عشوائية، انطلاقا من رغبته الفطرية من انتشال صديقه من ما هو فيه من غمامة الحزن.وتبعا لهذا وذاك نقول أن أمين معلوف عبر فصل (عام المفتشين) والفصل اللاحق (عام الحمام) راح يقدم لنا فاعلية الإغراء والإغواء والاحتواء والحيلة السردية ضمن متواليات حمالة لأقصى علاقات الأداة والتمثيل والوعي واللاوعي بين زمن مرجعي متشكل من إيقاع العلامة النقلية الداخلة في التكوين والإنعاش الروائي وأبعادها ضمن أشكال سردية خاصة في حدوثات الرؤية المنفتحة على (النص المصدر ــ النص المنتج) وعبر مستويات هذا المتشكل الروائي في سيرورة البعد التأريخي عبر الزمان التثاقفي في الحيز الاستقرائي من آلية التوليد الحثيثة للشخصية الأولى عبر مصدرية الوثيقة إلى مجال انتقائية الشخصية الممكنة في علامات ودلالات الخاصية الروائية التراتيبية كانطلاقة حاسمة نحو تشكلات امتداد المعنى بالطول والأفق والترسيمة الفضائية المشتركة بالرؤية والإيقاع التأريخي.

***

حيدر عبد الرضا

"لا تفرغ حقيبة سفرك وتوظبها"

للشاعر الدَنمَركي المعروف

هنريك نوردبراندت

***

 رحل عنا الشاعر هنريك نوردبراندت (1945-2023) عنا في يناير بعد أن حصل على مكانةٍ كبيرةٍ في الأدب الدنمركي وحاز على الجائزة السنوية الكبيرة لأدب الشمال لعام  2000 عن مجموعته الشعرية "جسور الحلم"، الذي أصبح رمزَ الفقدان والإسترجاع في الشعر.

قصيدة "لا تفتح حقيبة سفرك" لهنريك نوردبراندت حصلت هي أيضا على شعبية كبيرة في المجتمع الدنمركي،

وفُسرت بعدة طرق ومستويات، كتبها هنريك نوردبرانت ونشرها ضمن مجموعته الشعرية "ظل الوردة".

هذه القصيدة يمكن أن تُفهم كما لو أنها تحمل مفاهيمَ كثيرةً، وهي بالتاكيد نتيجة لتجارب الشاعر في الغربة والسفر. 

وعندما يفتح المرء حقيبة سفره ويوظّبَ حاجاتِه الضرورية، يعني  أنه يتقبل أن يكون جزءًا من المجتمع الذي يقدم إليه ليبقى فيه.

يؤكد الشاعر هنا بأنه من الخطأ فتح الحقيبة وتوظيب محتوياتها قبل أن يكون المرء  متأكدًا تمامًا من إستعداده لهذا الأمر، إذ إن الشاعر يستمر في تكرار لازمته بفعل أمر واحد يعني: لا تفرغ حقيبة سفرك ولا توظبها!

لأنه قد يكون من الممكن أن تغير رأيك بالمكان الجديد وتبدأ بالإهتمام بالأمور التي كانت تجري في بلادك وتحنّ إليها فتتراجع عن قرارك. وسترى أن الشارع الذي تسكن فيه له إسم وليس مجرد طريق، وعليك أن تعتاد عليه وترتبط به.

إذا وظبت أشياءَ حقيبة سفرك، فقد تُلهمكَ لترى شكلاً يشبه دارك تماماً أو وطنك، وكما يقول الشاعر إذا ينقصك شيء لتكتمل الصورة، فقد تشتري زريعةً لكي يتم التناظر ويكون لديك شيء تهتم به وتعجب به وتودّه فتتعلّق به.

يكتب الشاعر المقطع الأخيرعن أفضلية بقاء الحقيبة في غرفة فارغة لا يوجد فيها أكثر من مصباح كهربائي، إذا لم يقرر المرء الإستقرار، ولا يجب أن يكون هناك شيء يرتبط به.

تَرجمتُ هذه القصيدة من الدنمركية إلى العربية قبل أكثر من عقدين وكنتُ أعملُ في المجال الإجتماعي، وأُلقيتْ في اكثر من مناسبة في مدينة روسكيلده. وأقمنا في إحدى المؤسسات التربوية نشاطاتٍ حول الإندماج، وألقت إحدى الأمهات القصيدة بالعربية، بينما قرأتها المربية إيرينا بالدنمركية مع مشهد تمثيلي مستوحى منها، مستشهدةً بها وقالت:

- من خلال عملي مع مواطنين من ثقافات مختلفة، تكوّن لدي إنطباع بأن التأقلم الجيد في المجتمع الجديد مرتبط بمدى رغبتِهم بإستمرار حياتِهم هنا في الدنمرك.

عندما يفتح المرء حقيبته ليوظبها يعني هذا إعترافه بأنه يريد أن يكوّن لنفسه محيطاً هنا في بلاده الجديدة،

وأنه يجب أن يقيم فيها هو أبناؤه وأحفاده. يمكن أن يكون المرء مضطرًا لتعلّم القيم الجديدة في الوطن الجديد جنباً إلى جنب مع ماضيه الخاص.

أريد ان أروي لكم حكايةً من يوم من أيام عملي في روضة الأطفال:  كان لدي قبل مدة محادثة مع عائلة من إنحدارات غير دنمركية. كنت أريد أن أخبرالأبوين بأنهما يجب أن يجلبا أطفالهما إلى الروضة قبل العاشرة صباحًا ومن الأفضل قبل التاسعة إذا كان هذا ممكنًا بالنسبة للأطفال. 

يَجدُ الأبوان صعوبةً في تحقيق هذا الأمر لأن نهارهما يختلف عن نهارنا. إنهما يضعان أطفالهما في فراش النوم في وقت متأخر، عندما يتعبان جدا ويستخدمان جزءًا كبيرًا من المساء في مشاهدة التلفاز ولهذا يصعب عليهما الإستيقاظ مبكرا في الصباح. حدثت لنا مشكلة، وأعتقدَ الوالدان بأنهما غير مستعدين لتغيير طريقة قضاء نهارهما، أي الإستيقاظ مبكراً والتوقف عن مشاهدة التلفاز مع الأطفال في وقت متأخر لكي يناموا ويصحوا مبكراً.

وتحدثنا عن أهمية  حضور أطفالهما منذ الصباح لأنهم سيبدؤون الدراسة في المدرسة، ولا بد له من التعود على ذلك وتدبر أمرهم، وأخبرتهما بأن أطفالهما سيعيشون في الدنمرك، ولابد لهم من أن يحصلوا على ما لم يستطيعا هما الحصول عليه  في بلدهما، ولكي يكبروا  ويتعلموا ويحصلوا على عمل جيد و يدبروا أمورهم بأنفسهم.

فهَم الوالدان هذا الأمر وقالا: نعم، فليس لدينا مكان آخر نقيم فيه غير الدنمرك.

أخيرا فإنهما يريدان التعاون مع الروضة، وفي الحقيقة أنهما تمكنا من جلب أطفالهما في الصباح على الرغم من أن اليوم الأول كان صعباً حيث كان الأطفال متعبين ومتثائبين".

وتقول المربية إيرينا أيضا: أنا أعتقد أن هذين الوالدين في طريقهما إلى "فتح الحقيبة وتوظيبها" والإندماج في المجتمع. إنها عملية مؤلمة وستأخذ بالتأكيد وقتا طويلاً قبل أن ُتفتح، لكن إذا كنتُ حقاً قد ساعدتهما، وأنهما فهما بأن أطفالهما يجب أن ُتفتح حقائبهما وتُرتّب أشياؤهما، فإن هذا يعني الإستقرار، وأنا مقتنعة وراضية بعملي وسعيدة".

قد تتسم هذه الطريقة بالطرافة، لكن لا يمكن عدم إظهار الإعجاب بها في إستخدام الشعر لحل المعضلات الإجتماعية، التي يواجهُها "الأجانب" المقيمين في الدنمرك، ولا أعتقد أنه من السهل الوصول إلى هذا المستوى من الوعي في مجتمعات الفوضى، علماً أنها ليست المرة الأولى، التي تستخدم فيها الفنون لأغراض إجتماعية في

هذه البلاد، التي ُيكرّس كل شيء فيها لرفاهية الإنسان بعيدا عن الشعارات السياسية.

هل يمكن، مثلاً ، أن نعمّمَ نحن العرب بالذات الآن وبسبب احداث السودان ثقافةَ السلم من خلال قراءة  شعر الحكمة ورفض الحرب لزهير بن أبي سلمى؟

***

الدكتور زهير ياسين شليبه - كاتب مقيم في الدنمرك

..................................... 

لا تفرغ حقيبةَ سفرك وتوظبها*

لا تُفرغْ حقيبةَ سفرك! بلا وعي

قد تُبعثرُ محتوياتِها

لدرجة أنها تغريك لترى شكلاً

يُشبه تماماً حروف كلمة: بيت**.

حيث هناك شيء مفقود في التناظر

فقد ترغب في جلب زريعة

تسقيها وتبدأ بالإهتمام بها.

*

لا ُتفرغْ حقيبةَ سفرك! الحرب

يمكن أن تندلعَ. أو ما هو أسوأ

يمكن أن تتوهّمَ بأنك عشقت

وكأية عاقبة حتمية

تنتقل إلى شارع له إسم

فالشوارع ليست كما هي الآن مجرد شوارع

بل حركة المحكومين بالإعدام فيها.

*

لا تفرغ حقيبةَ سفرك! إنه من الأفضل لك

أن ترتدي قميصاً مدعوكاً

من قميصٍ آخر كان معلقًا في شرفة

مطلة على بعض الجزر الضبابية

وقد كوته يد حنونة،

أن تشمَّ رائحة النفتالين أعبق من وردة الخزام

فقد تعتقد أنها وردة.

*

لا تُفرغْ حقيبةَ سفرك! أتركها في مكانها

جنب الحائط في غرفة عارية

حيث هناك مصباح كهربائي

لايدعك تشكّ ولو للحظة واحدة

أين ومن أنت على هذه الكرة الأرضية.

لا تُفرغْ حقيبةَ سفرك! ولو للحظة واحدة

قبل أن تتمكن من الإستغناء عنها تمامًا.

*

وإلا دَعها مركونةً.

***

القصيدة من ديوان: ظل الوردة، دار نشر مونكسجاآرد 1999

....................

*أو: لا توظب حاجاتِكَ عند الوصول، تفريغ حقيبة السفر عند الوصول: تعني هنا توظيب محتوياتها في السكن الجديد أو الغرفة الشخصية في الهوتيل، صورة مجازية عن علاقة الإنسان بالمكان والإستقرار والإندماج به.

** تعني وطن أيضاً.

من زمن نفضت يدي من قراءة الروايات العربية وعدت إلى الأدب العالمي الكلاسيكي، لكني التفتت مؤخرا إلى رواية " تغريبة القافر" الرواية الخامسة في إبداع الروائي والشاعر العماني زهران القاسمي. وأخذتني الرواية تماما بتلك تماما بالسلاسة واليسر والعمق والتأمل الفلسفي بلغة الشعر التي لا تجور على أصول السرد الأدبي. يعرض لنا الكاتب حكاية " سالم بن عبد الله" التي بدأت بانتزاعه من رحم مريم أمه، بعد غرقها وموتها في بئر. ينمو سالم ويلازمه طوال الوقت انصات ثابت مرهف إلى صوت الماء وخريره أينما تخفى الماء وراء الصخور أو في باطن الأرض، فيصبح دليلا يفتح أمام سكان القرية مغاليق المياه، ويكتسب لقب " القافـر"، أي من يقتفي أثر قنوات المياه السرية ويكشف منابعها. ومن السطور الأولى ، بمشهد مولد الطفل من رحم الموت، يسوقنا الكاتب للتأمل في أن الموت والحياة وجهان لحقيقة واحدة، تخرج الحياة من بطن الموت كما تخرج المياه من باطن الأرض. يقف القافر بين الرجال وبالحدس، أو المعجزة، يشير بإصبعه إلى موضع المياه الخفي وراء الصخور متمتما : " ماي .. هنا". هل هي المعجزة ؟ أم الأسطورة ؟ أم على العكس من كل ذلك إشارة إلى قدرة الانسان الواقعية على تحقيق المستحيل وتغيير الواقع بإشارة من يده؟. على امتداد الرواية يفتش القافر عن مكامن المياه في الأراضي الجدباء، ويستدعونه في القرى الأخرى، لكن معنى البحث عن المياه يتسع في الرواية بحكايات أخرى فيصبح بحث الانسان عن الوطن والكرامة والنماء بل والحب أيضا. لهذا يمسي صوت خرير المياه الخفية هو صوت دقات قلب " نصرا " محبوبة القافر التي تغدو زوجته. إنه الصوت نفسه. وينظر الكاتب إلى زاوية أخرى تماما، حين يشير إلى أن القافر تصور أن كل الأصوات التي يسمعها من مخيلته وليس لها أساس في الواقع، وكأن ا لروائي يقول لنا إن بحث القافر جزء من صميم أحلام البشر الباطنية، وأن هذه الأحلام والرؤي هي التي تقود كل انسان إلى تحقيق الوجود، بل هي مغزى وجوده.

يستدعي القاسمي أساطير الجن والعوالم السفلى والحكايات الخرافية، فحينما اختفى القافر زمنا تردد في القرية أن أهل الارض السفلية اخذوه وقيدوه في بلادهم، ويستعين الكاتب حتى بأسطورة بنيلوبي المعروفة، المرأة انتظرت رجوع زوجها أوديسيوس من حرب طروادة، ومع طول غيابه والحاح النبلاء عليها للزواج، فإنها تتذرع بأنها تحوك كفنا لوالد زوجها، وما إن تنتهي منه حتى تختار زوجا، ولكي لا ينتهي النسيج، ظلت كل ليلة تفك جزءا مما حاكته في النهار لتبقى في انتظار زوجها. وهو ما فعلته " نصرا" زوجة سالم القافر حين غاب عنها وألحوا عليها في الزواج، فتعللت بنفس الحجة.

يراوح الكاتب في روايته الجميلة بين ما هو تاريخي، وما هو أسطوري، وما هو واقعي ملموس في حياة القرى، ويحيل كل ذلك إلى أحداث وصور ظاهرة، وفي هذا السياق تلوح أضواء من ألف ليلة وليلة التي تتناسل فيها الحكايات، مثل حكاية ابن خلفون الذي خاصم أخاه بسبب خاتم فضي كان ملكا لوالدهما، وحكاية النبي سليمان الذي مر على عمان فوق بساط سحري ولما رآها جدباء أمر جنوده من الجن بحفر الافلاج والقنوات لتروي الأرض. في النهاية نجح القاسمي فنيا في تحويل الأسطورة إلى واقع، وتحويل الواقع إلى أسطورة، بحيث لا ترى الحدود بينهما، وقدم كل ذلك بشعور دقيق بفن الإيجاز، وتقطير الشعر، والفكر، والتأمل العميق. مبارك للأدب العربي العمل الجميل. 

***

د. أحمد الخميسي - قاص وكاتب صحفي مصري

بالغ بعض الباحثين والدارسين الادبيين، عن قصد أو غيره، في تقييم قصيدة النثر في أدبنا العربي الحديث، حتى أن أحد الباحثين اعتبرها الثورة الاكبر في شعرنا العربي على مدى العصور، وقد نسي هذا البعض أو تناسى أن قصيدة النثر هذه كانت وما زالت غريبة في اللغات الاجنبية وأن ولادتها كانت متعسّرة، وما زالت النقاشات حول عظمتها المفتعلة جارية على قدم وساق، بدليل إضافي هو أننا لم نستمع بعد باسم شعري يساوي اسم والت ويتمان الامريكي (31 ايار 1819 - 26 اذار 1892)، صاحب المجموعة النثرية "أوراق العشب" التي ترجمها إلى العربية المغفورة له الشاعر العراقي سعدي يوسف.

صحيح أن هذه القصيدة حاربت وما زالت تحارب من أجل ايجاد مكان لها على مائدتنا الشعرية العربية، غير أنها لم تُسجّل تقدّمًا يذكر منذ ميلاد مجلة " شعر" اللبنانية، في الستينيات وموتها في السبعينيات، بعد فترة قصيرة من ولادتها، وإنجابها بالتالي قصيدة النثر، وحتى محمد الماغوط الذي هلّل وكبّر له رهط من المشجعين المحبّذين، كلّ لسبب في نفسه، كان أقرب ما يكون منه إلى الفكر منه إلى الشعر مع أهمية العلاقة بين هذين، وقد تساءلت وما زلت أتساءل عن تلك الشاعرية التي ميّزت صاحب "غرفة بملايين الجدران"، فلم أجد سوى كاف التشبيه، خبأت الربيع في جيبي كالمسدس، وما إلى تلك الكافات المتتابعة، التي لا يكاد يخلو منها نصّ كتبه الماغوط في مجال قصيدة النثر!!

لقد ارتفعت أصوات مَن يعلمون مختلطة بأصوات من لا يعلمون مناديه بأهمية هذه القصيدة، متجاهلين أنها فنٌ وافدٌ إلينا من لغات أخرى، وأن أفضل ما كُتب فيها بلغتنا العربية حتى الآن قلّما ارتقى مستواه إلى مرتقيات ما تُرجم من هذا الشعر المزعوم. أضف إلى هذا أن تراثنا العربي حفل بالأوزان والايقاعات المبنيّة على البيئة وخفقات قلبها وروحها، قد وجد خلال تاريخنا المديد الماضي، وقدّم الكثير الكثير في مجاله، صحيح أن هذا الشعر رزح تحت ضغط التقليد و"الثابت" وفق تعبير الشاعر العربي السوري المبدع أدونيس- علي أحمد سعيد، غير أنه تفوّق في فترات تالية مائلًا إلى "التحوّل"، المنشود في كلّ ابداع يريد أن يكون وأن يوجِد نفسه بنفسه، وبإمكان مَن يود التوسّع في هذه النقطة الهامة أن يقرأ كتاب "مقدمة للشعر العربي"، دار الفكر، بيروت، 1986، لأدونيس ذاته، كما يمكنه العودة إلى كتاب أدونيس مرة اخرى " ديوان الشعر العربي"، الكتاب الاول، الثاني والثالث، المكتبة العصرية، بيروت 1964، 1964، 1968، ففي هذين الكتابين تحديدًا وفي غيرهما تعميمًا، يمكننا أن نجد الجواب الشافي، الجامع المانع لتحولات الشعر العربي- القديم، خاصة لدى أبي تمام- حبيب بن أوس الطائي ولدى أبي نواس- الحسن ابن هانئ- مثلًا.

أذكر في هذا السياق أن نقاشات ضارية كانت تندلع بيننا نحن جماعة من المثقفين المهمتين بالشأن الشعري وبين الشاعر الصديق الراحل طه محمد علي (1931- 2011)، حول قصيدة النثر ومكانتها المنشودة في ثقافتنا العربية، فكان يقول بالحرف الواحد تقريبًا: إن الشعر العربي ذا الاوزان هو المائدة الكبرى في تراثنا الادبي/ الشعري، غير أن هذه القصيدة (قصيدة النثر)، هي ضيف متواضع على هذه المائدة. نحن لا نرى فيه بديلًا وإنما نرى فيه إضافة بسيطة ومتواضعة.

أسجّل فيما يلي ملاحظتين أراهما هامتين فيما يتعلّق بقصيدة النثر، إحداهما أن مَن انتهجوا هذا النوع من الكتابة الشعرية في عصرنا الحديث عجزوا عن تعلّم البحور الشعرية التي قعّد لها الخليل ابن احمد الفراهيدي، وأنهم جاءوا إلى الشعر من باب العجز وليس من باب المقدرة، وأشير هنا إلى أن مَن كتبوا قصيدة النثر في بلادنا على الاقل لم يكونوا يعرفون الاوزان الشعرية وتمرّدوا بهذا على ما لا يعرفونه، ومعروف أننا عندما نرفض أمرًا ونتمرّد بالتالي عليه، يُفترض أن نعرف على ماذا تمرّدنا وإلى ماذا أردنا ورمينا. الامر الآخر هو أن هذا النوع من الشعر المنفلت من كلّ قيد، قانون وقاعدة، أتاح الامكانيات واسعة لكلّ مَن يحلم أن يكون شاعرًا أن يحقّق حلمه، لكن دون أن يقدّم ما يُذكر في مجال الابداع الادبي، فجاءت كتاباتهم ضعيفة هشّة، الامر الذي دفع الكثيرين للانصراف عن الشعر.. هذا الحصان الرهوان الجميل الذي لا يكتمل الا بفارس أجمل.

مُجمل القول، اننا لا نرفض هذا النوع من الشعر رفضًا تامًا، لكن علينا ألا ننسى ولو لحظة واحدة، ان كبار شعرائنا العربي في عصرنا الحديث لم يكتبوه ولم يروه اطارًا مناسبًا لإبداعاتهم، وعليه، اعتقد انه من المبكّر جدًا ان ندّعي أن هذا النوع الشعري هو الثورة العظمى في شعرنا على مر العصور.. والسؤال الاكثر جدارة بالطرح في هذا السياق هو: عن أي ثورة يتحدث البعض.. عن نوع شعري ما زال غريبًا عن مائدتنا العربية الشعرية العريقة.. ولم يقدم بعد ابداعات تذكر.. ام عن اية اوهام؟!

***

خاطرة: ناجي ظاهر

رواية "جارات أبي موسى" للروائي المغربي أحمد التوفيق أنموذجا

عملت رواية "جارات أبي موسى" على استلهام مادتها الروائية من التاريخ المريني، مركزة على أحداث وشخصيات وفضاءات بعينها ارتبطت بهذا التاريخ، ومثلما اختار الروائي والمؤرخ المغربي أحمد التوفيق لروايته "جارات أبي موسى" شخصيات تاريخية حقيقية كشخصية ابي موسى الدكالي التي عاشت في فترة حكم بني مرين للمغرب، فإنه كذلك عمل بالمقابل على خلق شخصيات أخرى من خياله كشخصية شامة بطلة الرواية وجاراتها وصديقاتها الخادمات وزوجة القاضي ابن الحفيد وغيرهن بحيث جعل الشخصيات التاريخية تبدو وكأنها شخصيات متخيلة والشخصيات المتخيلة تبدو وكأنها شخصيات تاريخية. ومن خلال تاريخ بني مرين الذي مثله السلطان (أبو الحسن) وابنه (أبو عنان) والقضاة (ابن الحفيد وأبوسالم الجورائي) والعامل (جرمون وأعوانه) والولي المتصوف الزاهد (أبي موسى الدكالي) وتاريخ الشخصيات المتخيلة نرصد المصائر المتعددة المترابطة والمتداخلة لشخصيات رواية جارات أبي موسى، وفي هذا التعدد الذي ساهم في تطوير الأحداث وتعقيدها تكمن متعة هذه الرواية وجماليتها. فماهي مصائر أحداث وشخصيات رواية جارات أبي موسى؟ وكيف ساهمت هذه المصائر في تطوير أحداث الرواية وتعقيدها؟

تعد شامة بنت العجال راعي بقر القاضي ابن الحفيد الشخصية المركزية التي تدور كل الأحداث في فلكها وتعمل على ابراز مفاتنها وخصالها وقوة شخصيتها؛ فهي فتاة جمعت ما  بين الحسنيين حسن الجمال وحسن الخصال الإنسانية النبيلة، وقد ترعرعت كخادمة في بيت القاضي ابن الحفيد وصارت معزتها في قلبه مثل معزة بناته وتشربت على يد زوجته الطاهرة مهارة التدبير وتوقد الذكاء، ورقة الحديث وخفة الروح .فشامة التي كانت خادمة في بيت ابن الحفيد ستتحول من خادمة إلى زوجة لقاضي القضاة أبو سالم الجورائي، فبعد إعجابه بجمالها ورقتها في حادثة الطست والماء المغلى  ببيت ابن الحفيد أثناء نزوله ضيفا عنده، سوف يعقد قرانه عليها في نفس الليلة ويغير اسمها من شامة (الخادمة) لورقاء (السيدة)، وفي ذلك تحول وانقلاب في حياتها وحياة الآخرين المحيطين بها وفي مسار الرواية وأحداثها وحبكتها، حيث ستتداعى الأحداث المشوقة وتظهر شخصيات وأماكن جديدة استدعتها مرحلة تحول الشخصية المركزية شامة من وضع لوضع آخر  ومن مصير (خادمة) لمصير آخر (السيدة). وينساب السرد وهو يتابع هذا التحول بلغة رائقة معطرة واصفا جمال شامة وعبقريتها في التدبير والتصرف والتعامل مع الوضع الجديد ومدى قدرتها على تأويل لغة وسلوك وردود الآخرين، وراسما في الآن نفسه مصيرها الجديد الذي سيؤدي ضمنيا إلى ظهور أحداث ومصائر لشخصيات أخرى وهي تصارع  قدرها وواقعها وسلطة الآخر وجبروته ومكره، وفي ذلك متعة الرواية. فانتقال بطلة الرواية شامة من وضع الخادمة إلى وضع السيدة سوف يجر عليها نقم الحساد ويخلق لها من الدسائس والمؤامرات ما لا يعد ولا يحصى، وهذه الدسائس سوف تخلق مصائر جديدة للشخصيات كالمصير الذي سوف تلقاه خادمات الجورائي (بيعهن في سوق النخاسة)، وتؤدي في نفس الوقت إلى ظهور شخصيات جديدة كشخصية الطبيب اليهودي والحارس العبد فاتح، ويكشف لنا السارد العليم بكل شيء القابض بزمام الحكي من بدايته لنهايته مدى دهاء شامة "ورقاء" وقدرتها وحكمتها على التكيف مع الوضع الجديد الذي سيقت إليه من غير أن تعلم ومن غير أن تكون لها القدرة على الرفض. وأقوى الدسائس والمؤامرات التي تعرضت لها شامة بعد حادثة الطست المدبرة من زوجة ابن القاضي ابن الحفيد وخادمته هي حادثة تسميمها من طرف زوجة الجورائي بعد معرفتها بحكاية الزواج، وهي الحادثة التي كادت أن تنهي حياتها لولا علاج الطبيب اليهودي الذي تدخل في الوقت المناسب. ثم تنقلب حياة شامة ورقاء من جديد من سعادة إلى شقاء ومن سيدة إلى خادمة، وذلك بغرق زوجها الجورائي مع من غرقوا في البحر بعد خروجه رفقتها ورفقة السلطان في حملة عسكرية في الأطراف الشرقية من البلاد، فترسم الأقدار من جديد للجورائي ولشامة وللحاكم مصائر حزينة وشديدة السواد، فمصير الجورائي كان هو الموت غرقا في بحر هائج ومصير الحاكم هو فشله في الحملة وفقدانه للحكم بانقلاب ابنه عليه، وكلا المصيرين سيقلبان حياة شامة رأسا على عقب. فشامة سوف تعرف  مصيرا سيئا كله تعاسة لم تكن تتوقعه حيث جعلها هذا المصير تتحول بغرق زوجها الجورائي إلى متاع ينقل إلى بيت السلطان الجديد المنقلب على والده. فحياة شامة ومصيرها ارتبط بحياة ومصير شخصيات أخرى وفي ذلك تطور وتعقيد لأحداث الرواية . وقد عرفت شامة بخبرتها وذكائها وحسن تربيتها كيف تتقرب من أم السلطان الجديد أم الحر فصارت قريبة منها ترافقها في كل مشاورها وأشغالها بما فيها رحلتها التي تعرضت فيها شامة لمصير آخر ألا وهو الخطف ولولا تدخل فرسان (طلبة) أحد شيوخ زوايا تلك المنطقة لما عرف لها حس ولا أثر. ففي كل مرة تفاجئنا الرواية بمصير جديد لبطلة الرواية شامة فبعد تحريرها من يد قطاع الطرق اثناء رحلتها للحج رفقة أم الحر سوف تجد نفسها من جديد تواجه مصيرا مجهولا آخر بوفاة أم الحر التي أوصت مرافقيها من الحراس  عبر وصية مكتوبة إلى إرجاع شامة  من جديد إلى بيت القاضي ابن الحفيد مخافة عليها من الدسائس. ولم يدم استقرارها طويلا ببيت ابن الحفيد لتواجه مصيرا آخر أسوأ من المصائر الأخرى زاد من توتر الحكي، وساهم في ظهور فضاء جديد غني بالأحداث والشخصيات والمصائر والدلالات ألا وهو فضاء فندق الزيت الذي يعد من الفضاءات التاريخية لمدينة سلا في عهد المرينيين، ومعه تظهر شخصية أبي موسى الدكالي وجاراته الست بمصائرهن المختلفة  ثم ينفتح من جديد مصير شامة على مصائر شخصيات الرواية ويرتبط بهم ارتباطا إما في شكل صراع (شامة ضد العامل وتودة) وإما في شكل حب (شامة وهي تتعلق بسانشو وابي موسى) مما سيؤدي إلى خلق نوع من الصراع والتوتر المفضي إلى الرفع من منسوب  التشويق في الرواية. ففي تحول حياة شامة وانقلابها نرصد تاريخ مرحلة مهمة من حكم المرينيين  كيف كانت تدبر وتساس وأثر ذلك على حياة الناس من سلاطين وقضاة وعامة الناس. ومخافة على استقرار بيته وحبا في شامة التي يعتبرها واحدة من بناته قام القاضي ابن الحفيد بتزويجها لعلي سانشو وهو رئيس المعلمين المكلفين بتزويق المدرسة التي أمر السلطان ببنائها وزخرفتها وهو الزواج الذي يطرح معه سؤال لماذا علي سانشو وليس غيره؟ فشامة بهذا الزواج وبعد وفاة ابن الحفيد سوف تنلقب حياتها دفعة واحدة من السعادة إلى الشقاء وبذلك يرسم الروائي أحمد التوفيق لحياة شامة مرحلة جديدة من حياتها كلها شقاء وتعاسة وصراع ضد مكائد العامل جرمون، وبالتالي فحياة شامة بطلة الرواية عرفت عبر مسار أحداث الرواية مرحلتين متناقضتين مرحلة السعادة ما قبل زواج سانشو ومرحلة الشقاء والمعاناة بعد زواجها من سانشو ووفاة القاضي ابن الحفيد، فهي سوف تعاني هي وزوجها علي سانشو من مرارة العيش بسبب دسائس العامل جرمون وأعوانه وعميلته تودة. حيث سيطردهما العامل جرمون من بيت الأوقاف مما ستظطر معه شامة إلى الاستقرار بفندق الزيت الذي سيتحول إلى مسرح لأحداث الرواية ومرآة تعكس حياة الناس في أوج الدولة المرينية (رواج فندق الزيت) وبداية انهيارها (كساد تجارة فندق الزيت وتحول غرفه للدعارة) ، وسوف تزداد معاناتها بافلاس زوجها علي سانشو ودخوله السجن وعودته إلى بلاده الأندلس وتحرش العامل بها وانتشار الجفاف والجذام ومظاهر الجوع والخوف بين الناس، وبوفاة جارها أبي موسى الدكالي التي رفضت بسببه هجرة فندق الزيت وتنفيذ رغبة نقيب الشرفاء لأنها كانت تعتبره حرزها والعين الساهرة عليها . وهكذا أثرت كل هذه المصائر على حياة شامة وحياة الشخصيات الأخرى وساهمت في تطور وتعقيد أحداث الرواية ودفعها إلى التأزم بعد كل انفراج .

 وأمام الفراغ الذي خلفه رحيل علي سانشو وموت أبي موسى تلبست شامة في النهاية حال مولاتها الطاهرة ورضيت وسمت فوق جروحها وماضيها مع مرور الأيام، مثلما سمت رواية جارت أبي موسى فوق التاريخ الرسمي للمرينيين الذي دونه المؤرخون لتكتب تاريخها الخاص بها كرواية تبحث عن الصدق الفني في الكتابة الروائية بتعبير الباحث محمد القاضي أكثر مما كانت تبحث وهي تروي حكايات جارات ابي موسى بما فيهن شامة عن الصدق التاريخي في الأحداث والوقائع التاريخية في ضوء قناعة ورؤية الروائي أحمد التوفيق الذي كان يبدع كونا روائيا يتكون في آن واحد من عناصر متخيلة، وعناصر واقعية تاريخية، انطلاقا من اندغام التاريخي والواقعي والمتخيل بشكل تأويلي وتخييلي داخل الرواية .

***

عبد الرزاق اسطيطو

إستهلال..

يعتبر فن الرسائل من أقدم الفنون الأدبية والتي كان لها مكانة مرموقة في التراث العربي، وهذا الفن الأدبي الرفيع الذي تألق على مدار العصور التي امتازت بغزارة الموروث الأدبي الذي يظهر مواهب فذة وقدرات رفيعة تميز بها نخبة من الكتاب الذين تركوا رسائلهم التي تدل على إمكانية فذة في البناء الفني الرصين الذي يمتاز به هذا الجنس الأدبي من ترتيب الافكارالمنطقي واستخدام عبارات مألوفة المعنى والتأثير وانتقاء ألفاظ منمقة تدور رحاها في محيط الموضوع مع استخدام المحسنات البديعية، السجع، والطباق، اضافة إلى دقة المعنى واستقصاء الهدف المطلوب مع العلو في الايجاز والاطناب.

وقد يتضمن ضرب الامثال والاقتباس، مع مقدمة منطقية كمدخل للاسترسال وخاتمة مستقاة لانهاء ماتقدم.

وقد ازدهرت العصور الادبية بفن الرسائل كونها تلامس الواقع الحياتي الذي يتطلب هذا النوع من الارسال خصوصا بين اوساط الملوك والسلاطين وهو ماعرف بالرسائل الديوانية، وارباب الاعمال وغيرهم ، وكان ملزما ان يظهر كتاّب ياخذون على عاتقهم استخدام القلم والقرطاس لتدوين مايتطلبه الامر باسلوب ادبي رشيق.

ان أدب الرسائل كان حاضرا في فضاءات الادب على مختلف العصور لارتباطه كما ذكرنا بالرسائل الموجهة الى الملوك والسلاطين وأعمدة الدول، غير إنه ازدهر في العصر الاسلامي وبلغ ذروته في العصر العباسي، ومن الجدير بالذكر إن الرسائل التي ازدهرت في التراث العربي كانت على نوعين هما: الرسائل الديوانية والرسائل الاخوانية ثم مالبثت ان تطورت وتنوعت بتنوع الامور الحياتية وقد واكبت عصورها واتخذت اشكالا شتى منها:

- الرسائل الرسمية

- الرسائل الشخصية

- الرسائل الادبية

- الرسائل التجارية

- رسائل الوصية

ولان ادب الرسائل شأنه شان الفنون الادبية الاخرى فلابد أن تكون هناك شروطا محددة لكتابته تميزت بالاتي:

- مقدمة وخاتمة:

- إختيار الموضوع والمضمون المناسب للارسال.

- الملائمة والمراعاة لمكانة المرسل اليه .

- البساطة والابتعاد عن التكلف والزخرفة.

- البيان: ان تكون العبارات واضحة وخالية من الغموض.

- الاسلوب الجيد وحسن التعبير لكي تاخذ الرسالة مكانتها ومنزلتها عند المرسل اليه.

- الايجاز وعدم الاسهاب والاطالة.

وبما إن فن الرسائل هو أحد الفنون الادبية التي اشتهر بها العرب لدرجة إنشاء مدرسة أدبية تحت عنوان (مدرسة أدب الرسائل) وكان رائدها أحد كبار النهضة الادبية أحمد حسن الزيّات الذي حاز على جائزة الأدب لعام 1953 لكتابته وحي الرسالة الذي قام فيه بجمع كل أبحاثه ومقالاته ورسائله، ومن الجدير بالذكر ألا نغفل دور جبران خليل جبران وميّ زيادة في كتابة وازدهار هذا الفن الأدبي الرفيع تلك الرسائل التي اخذت مأخذها من جزالة الاسلوب والعاطفة الجياشة الصادقة العذرية التي استمرت سنينا طويلة تاركة بصمة واضحة على جدران الذاكرة الادبية، ورسائل غسان كنفاني وغادة السمان فيما بعد، تلك الحقبة تقدمت أو تأخرت جمعت طيفها هذه الاقلام الرصينة في كتابة هذا الجنس الادبي الذي كان ومازال له مكانة مرموقة في أروقة الادب.

وبما إن أدب الرسائل يندرج تحت بند النثر و النثرالفني بكل مايحمل من ضوابط وضروب، ومن المعروف إن المعنى الشائع لمصطلح الرسالة يدل على الخطاب الموجّه الى متلقٍ في موضوع معين في نسق فني يمتاز بجمال الاسلوب وقوة الطرح وتصريف الالفاظ بميزان الصرف ووزنها بمعيار دقيق، وقد شهدت الرسائل تطورات كثيرة ولعل أبرز تلك التطورات هي كتابة الرسالة شعرًا وليس نثرًا فهذه الاضافة النوعية فرضت بدورها مجموعة من الضوابط التي يتبعها الشاعر الحصيف لاخضاع هذا الفن النثري للقواعد الشعرية من حيث الوزن والقافية والموسيقى العذبة التي تتناغم مع حضارة القصيدة ومحطاتها المترقرقة ليؤثثها باسلوب جزل وكلمات بليغة معبرة.

وبعد هذه المقدمة المختصرة التي لابد منها للتعريف بأدب الرسائل كمدخل مهم واستهلال يطرق الباب للاستئذان والدخول إلى قصيدة الشاعر الكبير جميل حسين الساعدي التي تحمل عنوان رسالة إلى حمورابي والتي اختزلت العصور بلوحٍ مسماري العزف..

يبدأ الشاعر بالسلام على حمورابي عرّاب العدل والمشرّع الأول للقانون بالعالم، وهذا السلام يحمل الكثير من الألم والشعور بالخيبة على هذا الارث العظيم الذي تركه ربّان العدل الاول لمواطنيه لكي يحييوا حياة ملؤها العدل والسلام، وللابتداء سمة تحفيزية لشد القارئ الى فحوى الرسالة التي تتضمن موضوعا أو قضية ينتظر مرسلها أن يُبت بأمرها، هذه القضية التي جوبهت بالعقوق والتنكر لفقراتها التي إذا ماأُخذت بعين الاعتبار لتغلبت على الكثير من النكبات التي عصفت بالانسان أولا والمجتمع ثانيا، ويالها من نكبات حزّت جِيدِ الحضارة بسكين أعمى!

سلامًا يامُشرَع لي حديثٌ

بما فيهِ من الماضي حديثُ

*

مصائبُ داهمت من كل صوبٍ

تسيرُوسيرها دومًا حثيثُ

هذا السلام الذي يعاتب فيه الشاعر حمورابي ويأسف لما آل إليه حال الامة بعده وهو الذي خصّه بمسلّته ليحفظها كنوع من الولاء والانتماء لهذه الارض التي بزغت منها أولى الحضارات بشموس حرفها الذي انار دياجير الظلام، وكأنما يريد الشاعر الاعتذار عن كل العصور التي لم تحفظ العهد ولم تنفذ الوصيّة! حتى بات العدل في أمة العدل قاب قوسين أو أدنى وألعوبة بيد نفرضال انتهج الضلالة منهجا وشريعة لتسود شريعة الغاب على على شريعة الانسان وهي نكبة تهز البنى التحتية لقوامة العدل والانسان، لتشيع الجهالة والفوضى والتسيب وازدراء الفكر والنكوص السلوكي الذي يشرعن الهمجية ويتوسد الجهل ويتلاعب بعقارب الزمن ليسير كل شئ فيه عكس المألوف والموروث.

حمورابي لقدْ خلّفتَ إرثًا

حضاريّا أساء له الوريثُ

وبعد أن إسترسل الشاعر بموضوعه المؤلم فاصحا عن فحوى الرسالة التي يبدو إنها أخذت مأخذها من ألم الشاعر وتوجعه لما آلت إليه حضارة وادي الرافدين(ميزوبوتاميا) قبلة العالم القديم جنة الشرق وساحرة الغرب، هذه الحضارة التي ألبست الزمان حلية الفكر ونبوغ الحرف وديمومة الاستمرار، ولأن لكل حقيقة ثوابتها فمن المفترض أن تبقى الشمس شمسا والنور نورا والجنة جنة، لكن ماحدث إن الجنة خوت عروشها وتهاوت أعمدتها، وبعد أن كانت بابل العريقة تتمتع بإعظم نظام للري حار بهندسته إنسان اليوم بكل مايملك من تكنلوجيا، ذلك النظام الذي يجعل الماء يتسلق الى علياء الجنائن المعلقة بنسق ديناميكي بمنتهى الدقة والروعة وهو يروي تلك المدرجات المعلّقة بجنائنها العامرة بالخضار والخصب، لكنها الآن جفت مواسمها ونضبت نهرانها وضمئت أراضيها التي عاشت برخاء بين كفوف الرافدين، وامست صحارٍ تستغيث الغيث فصلا غائبا جحدته المواسم وقد جسد الشاعر ذلك ببديع الوصف فقال:

لهيبُ القيظِ يحرقها وتظمى

وأنهارٌ تجفُ ولاغيوثُ

وحقيقة فالتل إذا ماتخلخل ذرّه يتصدع وينهار مع أول عاصفة، وكذلك الحال مع قدسية الوصية فاذا لم يحفظ خلفها قواعد سلفها ينتفي موضوعها وتذروها الرياح وكأن شيئا لم يكن، وحقيقة فموضوع الخلف الصالح تؤول عليه بناء المجتمعات وازدهار الحضارات وقد ذكر الله جل وعلا موضوع الخلف الصالح بآية في غاية الروعة فقال (فَخَلفَ من بَعدِهمْ خلفٌ أضاعوا الصلاةَ واتبعُوا الشهواتِ) مريم 59

هذه المقدرة الفريدة لشاعر فذ ينتهل من التاريخ حضارته ويستحضر العراقة بشمس بزوغها ليجعل المقارنة تحاكي الواقع المرير الذي آلت إليه أيقونة التاريخ من نكوص مؤسف يدق ناقوس تراجع حضاري بكل ماتحمل الكلمة من معنى، بعد أن عبثت بها رياح السموم بكل اتجاهاتها لتحرق الحرث والنسل وتشيع الفوضى وبلا رحمة كما يعبث الجراد بالحقول الخضراء ليحيلها الى صحارٍ قاحلة ومروج جرداء لاماء فيها ولازرع ولاطائر يناغي شروقها قبل الغروب، هذه الصورة المؤلمة ترجمها الشاعربل سكّها بعبقرية لاتضاهى حيث قال:

حقولٌ قبل أن تعطي جناها

أفاقت والجرادُ بها يعيثٌ

*

رياضُ صوّحت فيها الأقاحي

وليسَ لطائرٍ فيها مكوث

هذا التوجع والالم والرمض والجفاف توَّجهُ الشاعر بأروع صورة وأجمل وصف وهو يصف رمز الشهادة والفداء لأبي الاحرار الحسين بن علي عليهما السلام وآل بيته الكرام وملحمة الرمض في واقعة الطف الخالدة دفاعا عن الكلمة والمبدأ، تلك الكلمة التي دفع ثمنها حياته وحياة آل بيته ليكون رمزا للخلود والشهادة، وهو امتداد طبيعي ونتيجة مستمدة من الظلم والجور الذي وقع على الأرض أولا والانسان ثانيًا.

ويطرقُ الشاعر في كل محطة وهو يفتح ابواب التأريخ بكل مافيه لتأويل الأحداث بهذه المقدرة الفريدة على استنباط الحدث ومحاكاته واستنطاقه وسؤاله ثم الأجابة بالنيابة !لانه يعلم جيدا لاحياة لمن ينادي!

وبعدأن يصف الشاعر معاناته ويشرح قضيته لقاض عادل يلتمس منه الانصاف لقضيته التي أرسلها له عبر الأزمان متخذا من رسالته الادبية هدفا ساميا لاعلاء كلمة حق دارت في خلجاته وأرّقت حروفه لتسير بموكبٍ ظاهره البوح وباطنه العتب، وإعلان التغريد كسربٍ مستقل بذاته جُبلَ على الولاء والانتماء بعد أن شرب حتى ارتوى من ملحمة الدر الخالد بلاد الرافدين.

وبعد أن إرتكب ذنب البوح وتجاوز حزنه والمه وأفرغ مابجعبته من شكوى بلغت حدّها مدّا وجزرًا، ختم رسالته بالثناء على عدل حمورابي الذي كان منهاجه الحق والحق يعلو ولايعلى عليه.

وحقيقة نحن أمام تحفة أدبية رفيعة المعنى والمغنى صاغها الشاعر الكبير لتكون رسالة حقيقة من رسول جُبل على الانتماء ليخلد بالكلمة الرصينة والاسلوب المتفرد بهذه البراعة اللغوية والايقاع المتناغم مع روح القصيدة، وبهذه الخلجات الثائرة على واقعٍ يجده الشاعر غير لائق باسطورة العدل وايقونة الحضارة حمورابي.

 فتحية لقلم مداده الحضارة يخط الأبداع قبسًا من نور ومن الله التوفيق.

***

مريم لطفي الالوسي /عراق الرافدين

يحتوى ديوان "وثالثهما الريح" على بعض خصائص الهايكو المتعارف عليها كالمشهدية الحسية والاختزال والموسمية والتنحي وغيرها من سمات الهايكو، بيد أن بعض النصوص أحيانا تجنح إلى الأنسنة واستخدام اللغة المجازية والخيال مما يجعلها قصائد سنريو. إن توفر تلك الخصائص في نصوص الهايجن لبنى منان ووجود بنية متماسكة نتيجة تجاور المشاهد المستقاة من عناصر الطبيعة في أغلب الأحيان وصياغة تلك النصوص بلغة بسيطة يعكس وعي الهايجن باشتراطات هذا الفن الجديد على الساحة الشعرية العربية. في ذات الآن هناك محاولات في بعض النصوص تحاول الهايكست من خلالها التفلت من تلك الاشتراطات لتبقي بذلك على روح الهايكو، وهذا التجريب، لا شك، هو مسعى كثير من المبدعين لوضع بصمة إبداعية خاصة ومختلفة، بعد فهم أسس واشتراطات هذا الفن الوافد الجديد.

1- الاختزال والبساطة:

تعد قصيدة الهايكو أقصر نص كتب في تاريخ الأدب العالمي، فهي نص لا يزيد أمده عن "النفس الواحد". في اليابانية كان يتكون الهايكو من سبعة عشر مقطعا صوتيا، وفي الإنجليزية أحيانا لا يزيد عن عشرة مقاطع، أما في العربية فأحيانا يختزل النص إلى ست كلمات. تحدث ما لا تفعله النصوص الطويلة، مؤخرا تخلى الكثير من شعراء اليابان عن هذا التقليد والذي اعتبره "كواهيجاشي هيكيجودو" Kawahigashi) Hekigodo1873-1937 (، أحد تلاميذ "ماسوكا شيكي"، الشاعر والناقد الحداثي، هذا التقليد " قيودا من صنع الإنسان" واضاف قائلا : "إن أي محاولة اعتباطية لصياغة قصيدة تحتوي على نمط (5-7-5) ستنال من نضارة الانطباع وتقتل حيوية اللغة". إن الغاية من كتابة هايكو بأقل عدد من الكلمات، خال من الحشو والصنعة، أن تقدم تجربة فنية تتسم بالبساطة والعمق وفي نفس الوقت تتماشى مع روح العصر المتشابك والمتسارع الأحداث . تؤكد هذا الرأي مقولة د. بشرى البستاني، الشاعرة والناقدة العراقية "فليس ثمة حيزٌ لفعلٍ غير شعري لشدة الإيجاز اللغوي واقتصاده، وذلك يوجب على الشاعر الاختيار الدقيق لكل مفردة، وكل حرف والانتباه لمحوري الاختيار والتأليف معا انتباها بالغ الدقة ليكون المشهد المكثف التقاطة سريعة مكتنزة بفتنة البساطة"، على هذا الأساس فإن كل لفظة زائدة في النص تعمل على إفساد عنصر البساطة الذي يعد جوهر الهايكو. تقول لبنى منان:

مآرب أخرى،

عصا الراعي كثيرا ما

تهش على الفراغ

يتسم النص هنا بالإيجاز والتكثيف الشديد، بحيث لا يتجاوز التسع كلمات. وقد يعتقد القارئ للوهلة الأولى أن الشاعرة اعتمدت على التناص من الآية الكريمة "قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى " سورة طه الآية18، لتشكيل لوحتها. وربما يبدو هذا صحيحا، لكن الشاعرة استطاعت أن تستفز ذهن القارئ بإحداث فجوة توتر ناتجة عن إقحام مكونات غير متجانسة للأشياء و حدوث اللامتوقع (الهش على الفراغ وليس أغنام الراعي). ولو أن الشاعرة اختزلت نصها أكثر بحذف عبارة " كثيرا ما " التي جعلت حدث النص مطلقا لا يعبر عن لحظة آنية، لزادت من بهاء النص ولأصبح أكثر عمقا:

نسمةٌ باردةٌ

يُغني الجندب

بكلِ قواه

"كوباياشي إيسا"

2- المشهدية الحسية:

لا تسم خاصيتا الاختزال والبساطة قصيدة الهايكو فقط؛ فغالبا ما تشتمل الومضة والتوقيعة وغيرهما من الأشكال القصيرة الأخرى على عدد قليل من الكلمات مع بساطة لغتها. وكثير من الكتاب الذين لم يتقنوا خصائص فن الهايكو يقعون في شرك الومضة حين تفتقد كتاباتهم إلى بعض العناصر المهمة غير خاصيتي الاختزال والبساطة، كالمشهدية الحسية التي تبتعد عن التجريد والصور الخيالية، والتي أيضا تعد الخيط الفاصل بين إبداع الهايكو وغيره من الأشكال المختزلة الأخرى.

في ديوان "ثالثهما الريح" تقتنص الهايجن لبنى منان جُلَّ مشاهد نصوصها من الطبيعة ومن تفاصيل البهاء الكوني الفاتن؛ لذا نجد الكلمات الموسمية تسهم بشكل أساسي في تشكيل جزئيات الصورة. هذا الملمح الكلاسيكي المتمثل في تناول الطبيعة وتفاصيلها - والذي بدأه شعراء الزن الأوائل - يعكس ليس فقط الافتتان بسحر الطبيعة لكن أيضا أهمية هذا العالم الطبيعي كعنصر وجودي لا غنى عنه في حياة الهايجن:

حوض جيرانيوم،

قليلا منك يا مطر

لأحيا

يتكون هذا النص الشفيف من مشهدين متجاورين (تريوازة متجانسة البنية)، مأخوذين من العالم الطبيعي. يحدث هذا التجاور المفارقة التي تعد أساسا مهما للعمل الإبداعي ومصدرا تنبثق من خلاله شرارة الدهشة. يتضح هذا جليا في نهاية السطر الثاني؛ فمن الطبيعي أن تستجدي الهايجن القليل من المطر لأصيص الجيرانيوم كي يرتوي ويزهر، فإذا بهذا المطر المرتقب يُحيي روح الشاعرة التي سئمت وجودها وعالمها المادي البائس. ولربما ارتواء هذه النبتة التي شرفت على الذبول هو سقيا الروح المتماهية مع العالم الطبيعي الذي لا وجود إلا به:

دوْريُّ النّافذة،

بِرَفِيفِه

يُعيدُ تشْكيل الهَباءِ.

"سامح درويش – المغرب"

3- الآنية:

يصور نص الهايكو مشهدا من الطبيعة أو من جزئيات المحيط البيئي في لحظة آنية عابرة، وهذه اللحظة، من الطبيعي، أن تكون مسبوقة بحدث ومتبوعة بآخر. لكن الهايجن وقت التقاط المشهد يقع تحت تأثير لحظة آنية متشظية، فينقلها بشكل عفوي كما هي. تلك اللقطة التي يتم اقتناصها تمثل عقدة خيط ممتد من عبق الماضي ومستشرفٍ لأحداث مستقبلية، لذا فهي حدث عابر يستوقف الهايجن ويسترعي انتباهه في لحظة محمومة بالتوهج والدهشة. تعكس هذه الالتقاطة ومدى تفجرها وتوهجها خبرة الهايجن وعمقَ تجربتِه الإبداعية. تقول الهايجن لبنى منان:

قاب زهرتين

فراشة بكامل خفتها

تحط الرحال

في هذا النص تصور الهايجن لحظة آنية عابرة؛ حيث تحط الفراشة رحالها بخفة ودعة قاب زهرتين، ربما تكرر هذا المشهد أكثر من مرة في عمر الفراشة التي تحلق هنا وهناك بين الأزهر، وحتما ستقوم الفراشة بنفس الحدث أو بفعل أشياء أخرى بين الزهور طالما أنها طليقة في هذا العالم الجمالي الفسيح، بيد أن الشاعرة لحظة وقعت عيناها على الفراشة كانت تلك الحشرة الفاتنة تحط بخفة على الزهرتين:

الفراشة تعطر

أجنحتها، بعطر

نبتة.

"ماتسو باشو"

4- التنحي:

في الهايكو الخالص، أي هايكو الطبيعة، والذي فيه يترك الهايجن الطبيعة تتحدث عن ذاتها دون إقحام الذات أوالتغني بالمشاعر الإنسانية بشكل مباشر. تذوب ذات الهايجن في مشاهد الكون الآسرة بغية الكشف عن الأسرار الدفينة للأشياء والوصول إلى كنهها، وهذا البحث الدائم في أسرار الكون بتفاصيله اللامتناهية والذوبان في بهائه محاولة للوصول إلى الكمال الروحي في لحظة تأملية من الصفاء الذهني. في "وثالثهما الريح" تقول لبنى منان:

وجه بحيرة،

عصفور الدوري

وحيد مرتين

ليس هناك ملمح للذات الإنسانية في النص، فقط مشهدان متجاوران مأخوذان من عنصر واحد وهو الطبيعة: "وجه البحيرة" في السطر الأول، ثم تتبعه الهايجن بحدث أيضا يقوم بفعله كائن طبيعي "عصفور الدوري" الذي يبدو وحيدا للمرة الثانية. مع ذلك، لا يمكن محو ذات الشاعر أو إبعادها عن مسرح الحدث؛ فلولا إحساس الهايكست بالوحدة والغربة، لما تعاطفت مع هذا الطائر الوحيد؛ إنها حالة التماهي والانصهار بين الذات الشاعرة والكائنات المحيطة بها:

متوسدا ورقة عريضة

من شجرة الموز،

يتشبث الضفدع.

"كيكاكو"

***

حسني التهامي - مصر

جماليات القبح في الرواية بأسفي (9)

في إطار الاهتمام بالرواية في أسفي، وعلى الرغم من قدم الرواية بهذه المدينة، وكثرة ما راكمه روائيوها إبداعا وتتويجا، إذ تم الوقوف في الحلقات السابقة على أزيد من أربعين نصا روائيا وعلى عدد الجوائز التي حصدها روائيو المدينة وطنيا جهويا وعربيا وعالميا... فإن الروائية النسائية بالمدينة لا زال حضورها دون المستوى المأمول؛ إذ تأخر ظهورها حتى منتصف العقد الثاني من الألفية الثالثة مع إصدار ربيعة ريحان لروايتها الأولى "طريق الغرام" عن دار توبقال سنة 2013 ليبقى الإنتاج الروائي النسائي بالمدينة ضئيلا بالمقارنة مع ما كتبه الرجال، وانتظر القارئ وباء كورونا، وظروف الحجر الصحي التي فرضت على بعض الكتاب الكتابات التفرغ للكتابة ليتدفق الإبداع الروائي بالمدينة، فصدر في السنوات الأخيرة من المؤلفات الروائية أكثر من نصف ما أنتجه المدينة في تاريخها الطويل، إذ أصدر الكتاب ما بين 2019 و2023 أزيد من 20 رواية منها سبع روايات نسائية هي:

- روايتان لربيعة ريحان هما: رواية "الخالة أم هاني" سنة 2020، ورواية "بيتنا الكبير" عن دار العين للنشر، 2022.

- ثلاث روايات لأسماء غريب هي رواية" السيدة كركم" 2019، رواية "أنا النقطة" 2020 ورواية "وريثة السر" 2022

- رواية لمنى الهردي "بحيرة البجع أو رواية الموت جوعا " سنة 2022.

- يضاف إلى ذلك الرواية وموضوع دراستنا اليوم وهي رواية فاطمة المعيزي "ما تبقى من ذاكرة الرماد" الصادرة عن مؤسسة بيبلومانيا سنة 2022

لا بد في البداية من الإشارة إلى رواية "ما تبقى من ذاكرة الرماد" هي باكورة فاطمة المعيزي روائيا، بعد سلسلة من الدواوين الشعرية و ودواوين أخرى في الزجل منها "ظفاير لالة" و"عيوطي على خربوشة" و"طويت لما"...

و"ما تبقى في ذاكرة الرماد" مثل أي رواية أولى تنطلق من الذات عبر سارد يتقاطع مع الكاتب في سرد أحداث روائية تركز على المحلي في محاولة قول كل شي ومقاربة مواضيع متعددة عبر المزج بين التاريخي السِّيَري والروائي المتخيل، إضافة إلى اختيار عنوان مفتوح على دلالات متعددة... مما يجعلها رواية مشرعة الأبواب تقدم للدارس منافذ متعددة لولوجها عكس بعض الروايات التجريبية أو الرمزية التي يجد الدارس صعوبة في مقاربتها.

عتبات الرواية مغرية؛ ومن تلك العتبات العنوان "ما تبقى في ذاكرة الرماد" الذي تتناسل منه دلالات كثيرة، فقبل التساؤل عن معاني هذا التركيب الإضافي والانزياح البلاغي (ذاكرة الرماد) تحضر أمام الدارس نصوصا غائبة كثيرة تتناص مع هذا العنوان، فتتراءى أمامه مؤلفات سردية كثيرة تحمل نفس التركيب، منها رواية "ذاكرة الرماد" للسورية ابتسام التريسي التي – وإن خالفتها في المضمون، فإن بناءهما يكاد يكون متشابها من حيث اعتماد أسلوب المتكلم مع تناوب شخصيتين رئيسيتين على سرد الأحداث. إضافة إلى نهج خط زمني متتابع، والانتقال بالزمان والمكان حيث بوح الأبطال... والمجموعة القصصية "ذاكرة الرماد" للقاص المغربي إدريس حيدر. كما أسند بعض الروائيين كلمات أخرى للرماد غير الذاكرة فعنون نواف العامر روايته بــ "أيام الرماد"  واختارت المغربية خديجة مزراوي "سيرة الرماد" عنوانا لروايتها، وعنون أحمد إبراهيم الفقيه من ليبيا إحدى رواياته ب "حقول الرماد" وجعل أحمد صلاح سابق "وادي الرماد" عنوانا لروايته، وترجمتْ بدرية العبد الرحمان رواية "مدائن الرمان" من الأدب الإفريقي ومثل هذه العناوين كثيرة في الثقافة العربية والإنسانية، وهذه الكثرة تحتم طرح أسئلة عن ماهية الرماد؟ وعن السر في اختياره عنوانا لأعمال سردية منها رواية "ما تبقى في ذاكرة الرماد" 

وبالإضافة إلى ما يحيل عليه مفهوم الذاكرة، واستحالة الاتفاق حول دلالة موحدة له، وصعوبة التمييز فيه بين الذاكرة الفردية والذاكرة الجماعية مع تعدد الجماعات (أسرة ، حزب، وطن، دولة ، أمة...) وكيفية تمييز ذاكرة كل جماعة... فإن الصعوبة تزداد تعقيدا عند إضافة الرماد إلى الذاكرة، وتتعقد المأمورية أكثر عند البحث عما تبقى من ذاكرة ذلك الرماد... خاصة إذا علمنا أن الرماد نهاية ومصير كل محترق، وأنه سالب خصوصيات العناصر المميزة لكل عضو أو عنصر، فيوحدها في نتيجة واحدة لاغية للتنوع، ورافضة للاختلاف، لإن الرماد وحده يختزل العوالم والأشياء المحترقة، وبتذويب الفوارق في مادة غير قابل للاحتراق، عصية على اللمس والذوق تدرها الرياح، تتناثر في الهواء فتغدو مرادفة للعدم... والرماد غير الدخان وإن كان أصلهما واحد، ومبعثهما النار والاحتراق، إذ الدخان في الثقافة الكونية خانق مذموم يتعالى في طبقات الجو وهو وضيع، والرماد على الرغم من استعمالاته الإيجابية قد يستغل سمادا ومنظفا ومزيلا للروائح الكريهة ومبيدا... فإن تلك الاستعمالات لا تشفع له، ولا تنفي السلبية عن المنطقة والمواقف الرمادية...

وإذا كانت علاقة البشر بالرماد تعود إلى عهود اكتشاف النار، فإن الباحث في الإبداع وفي الأدب يكتشف أن للرماد أبعاد ودلالات تفوح منها روائح الحنين والفواجع: حنين السهر والطبخ والدفء... وفواجع الحرائق والاحتراق وفقد المحروق...

لكن مع "رماد الذاكرة" و"ذاكرة الرماد" في السرد تستسلم الأمكنة، ويتبخر الزمان وتتحلل الذات والجماعة أحداثا مروية وذكريات مسجونة في خيط حكاية مركونة بالمنطقة الرمادية: الليل والنهار فيها سيان. فتصير الرواية منطقة نثر الرماد فيهما غباره شاهدا على احتراق ذات رمادها عصي على التبديد، لا نعرف فيها من الحارق ومن المحروق/ المحترَق؟

أنعتبر السرد حرقا لكلمات دائمة الاشتعال، والعبارات رمادا وعلامات على حضور غير قابلة للاحتراق، كل يوم تزهر من جديد؟ أتكون الرواية برمتها احتراقا نسمع من خلالها أصوات من مروا ونشم رائحة عطورهم وطبخهم عبر حكاية ستروى على مدار الزمن؟ أم نعتبر الرواية رمادا، وما تبقى من ذاكرة رماد أبدي ازلي لأن من يكتب لا يموت؟ ومنه تظل الكتابة دليلا على ذات احترقت وعانت من أجل الكتابة، ولا رماد دون نار، حتى ولو كانت النار رمزية تعطي رمادا رمزيا ودليلا على أثر كاتبة مرت من هنا... والكتابة رماد ودليل باق بعد رحيلنا واحتراقنا النهائي...

إن الحديث عن "ما تبقى في ذاكرة الرماد" تعبير جمالي عن شيء قبيح... فهل تكون الكاتبة في الرواية كمن يرسم لوحة جميلة رائعة بتقنيات عالية وتناسق في الألوان والظلال لكن لموضوع قبيح مثل جثة تنخرها الديدان، فلا نملك إلا الإشادة ببراعة الرسام رغم الاشمئزاز من المحتوى.

إن الرواية فن يحاول محاكاة الواقع، وبما أنه فن فإن كل شيء فيه جميلا كان أو قبيحا يبقى رمزيا، ومنه فالقبح في الطبيعة وفي الواقع غير القبح في الفن، لأنه لا يكون مقصودا لذاته، ولم يكن القبح يوما موضوعا للفن، ولا موضوعا فلسفيا مثل الجمال، لذلك فإنه لا يوظف إلا من أجل إبراز الجمال، كما أن قبح التيمة أو الموضوع قد يزيد العمل جمالا، ذلك (أن العمل الفني يتمتع بقيمة جمالية منفصلة عن جمال الشيء أو قبحه) على حد تعبير عز الدين إسماعيل في كتابه الأسس الجمالية في النقد العربي (ص 50)، بل قد يرفع القبح في اللوحة أو الكتاب من جمالية العمل، وقد تكون صورة امرأة قبيحة جدا تحفة فنية رائعة، وتكون صورة امرأة جميلة لوحة قبيحة رذيئة لا تعجب أحدا...

إن الاهتمام بالموضوعات القبيحة والمنفّرة في الفنون الأدبية، قد يكون له دور في خلق ردّة فعل عكسيّة، قوامها الرفض والبحث عن واقع بديل، على هذا النهج سارت رواية "ما تبقى في ذاكرة الرماد" الصادرة عن مؤسسة بيبلومانيا للنشر والتوزيع القاهرة 2022، وهي رواية أولى تحاول فيها كاتبتها أن تقول كل شيء لذلك تنوعت موضوعاتها وتعددت تيماتها، فلامست السياسة والانتخابات، وقاربت الهجرة والتهجير ، وتناولت قضايا اجتماعية كثيرة محلية وكونية، كما تغلغلت في العلاقات الإنسانية، وتوغلت في النفس البشرية وما تعرفه من حب وخيانة ووفاء وصدق وأمانة... ورجعت للماضي وقاربت الحاضر واستشرفت المستقبل...

والرواية في كل ذلك تستنجد بالقبح كعنصر جمالي استيطيقي يخلق شعورا بالاستياء من خلال إمتاع القارئ بمشاهد قبيحة منذ أول سطر في الرواية: هكذا جات أول جملة (حارتنا ثقب أسود، يغريك باختراقه في عزّ الهلوسة التكنلوجية) (ص 8)، فكان الفضاء قبيحا مشحونا بدلالات سالبة تتوالد من وتركيب (ثقب أسود) لتبدا الرواية في تقديم الشخصيات التي تتحرك في الحي في صورة أكثر قبحا سواء في مظاهرها أو في أفعالها ومهنها وعلاقاتها (شباب فيه [ الحي] يمررون أفكارهم في فقاعات هوائية، ويستعرضون قواهم عبر تمارين رياضية... ونساء ينقلن المواعدة من وجه الوتساب البريء للوجهة المحاذية لحديقة... وفئة لا تغادر قنينة الكحول أو ماء الحياة ستراتهم الوسخة، ولا لفافات الحشيش التي تزكم جيوبهم البائسة من دراهم معدودة). (ص.8)

وتكون أول شخصية يصادفها القارئ تذكرها الرواية بالاسم والصفة من قاع المجتمع اختارت لها اسما ومهنة تعكس ذلك القبح (خلفي كانت تقف "أمي عْبُوشْ " بائعة االديطاي ) (ص. 9) ... وكذلك كان الشأن بالنسبة لثاني شخصية تظهر في سرد الأحداث شخصية البتول التي (لا تعرف شيئا عن أصلها، متخلى عنها وجت أمام الملجأ مع وثيقة (البتول بنت ربيعة ولدت بالمستشفى المركزي بالدار البيضاء 1990 (ص. 33) لتقدم هذه الشخصية أحسن صورة لتجليات القبح : اسمها البتول يدل على الطاهرة، مظهرها فاتن لكن واقع حالها بخلاف كل ذلك: ( "البتول " من أصول هي نفسها تجهلها، نشأتْ في ملجأ لتخرج لمعترك الحياة بجنين يسكن أحشاءها، والجارات َيتغامزن حین يروْنها قادمة بقدّها الفتّان، تفوقهن بهاءً وجمالا، والرجالُ يسيلُ لعابهم فيتلذذون بما لم تطله أيديهم ). (ص10)

ولم تقتصر الرواية على ذلك بل وجدنا السارد يتعمد تضييق الخناق على هذه الشخصيات فيرمي بها في القبح والدناءة، وما أن يفتح لها باب أمل حتى يغرقها في قبح جديد. فتكابد البتول في تربية طفل لقيط لا أحد يعرف والده (وهي القادمة من مجهول يقض بريق أملها ومضجع أحلامها، وطفل صغير يشد أطراف عمرها بكل قواه ليثقل كاهلها بمسؤوليات لا تعلم إلى متى قد تمتد؟) (ص.11) وما أن اشتغلت في التدليك حتى اكتشفت كيف ( يمكن أن يتحول التدليك لشيء آخر، يكفي أن يلمّح الزبون). الكل يطمع في جسدها وفي استغلالها في مجتمع تحكمه علاقات غريبة، تحتم على الشخص ترك محبوبته ليتزوج غريبة لا يربطه بها رابط. مثلما تجسد في تجربة الشاب شعيب الذي أحب البتول وأحبته، لكنه تزوج امرأة إسبانية في سن والدته اضطر للإنجاب منها صناعيا... ولما هربت البتول من أزمتها مع شعيب إلى صديقتها فاطمة أخذتها إلى السيدة نور لتغرقها في ظلامها ويتم استغلالها في سهرات مع الخليجيين (بمعية عشر فتيات في ملابس تكاد لا تستر شيئا من أجسادهن...) (ص.58) لتعيش تجربة فرضت عليها (الرقص والتدخین وتناول كاسات النبيذ التي اصطفَت على مائدة رخامية كبیرة، مع علب السجائر وكل أنواع المكسرات والفواكه) (ص.59)

جماليات القبح لم تقتصر على الشخصيات بل امتدت إلى الفضاء الروائي فغيرت قوانين المدينة، وخلقت علاقات اجتماعية مزيفة، المظاهر فيها خادعة والشخصيات تظهر عكس ما تبطن؛ فها هو الحاج رمز الورع والتقوى يأكل مال زوجته الصيدلية ويرميها مع ابنتيهما ليتزوج من مساعدتها وعينه على البتول، تخونه زوجته الثانية مع مشعوذ يتظاهر بمسوح الأتقياء (الشيطان أكثر نظافة من ثوب الورع الذي يسدله على نجاسة تصرفاته) (ص163) و تنجب منه بنتا عجزت في الحصول عليها من زوجها... لتقدم الرواية مجتمعا يتظاهر بالمحافظة والتديُّن، لكن تسوده الخيانة والمخدرات والمثلية حتى بين صفوف المربيات وكبيرات السن كما في تجربة لالة الطام ومديرة الملجأ التي أوكل إليها رعاية اليتامى (ص.29) مدينة الرجال فيها يعنفون النساء فاخت شعيب متزوجة برجل يعذبها ومتزوج عليها قسرا ويرغمها على عدم البوح بما تعانيه...

رواية "ما تبقى في ذاكرة الرماد" مثلها مثل معظم الروايات التي اتخذت من اسفي فضاء روائيا لأحداثها، تقدم المدينة مدينة معطوبة مدينة المخدرات بكل أنواعها يقول النادل لشعيب (- إلى خاصَّكْ ش حَاجَة عَيَّط لي، راه كلشي موجود ) (ص.140)... مدينة دعارة حيث (كثرة الشقق المفروشة والرياضات والفيلات المخصصة للدعارة) (ص.91)... مما رفع الكثيرات ممن يمتهن الدعارة من قاع المجتمع ليصبحن من عليّة القوم ووجهاء المجتمع... ومدينة يسودها الفساد الانتخابي والإداري يفرض فيها على الموظف المصادقة على رخص رفضتها لجنة مختصة، وإن تلكأ أو رفض يتم عزله وتجرديه من مهامه ( وعندما رفض ما يطلب منه بحجة أنَّه ينافي القانون، عُزل من منصبه وجُرّدَ من امتيازاته التي يستفيد منها كافة باقي رؤساء المصالح الأخرى،) (ص.160)... مدينة يسود فيها الدجل والشعوذة... المشعوذون فيها (يمارسون قذارتهم دون قيد أو شرط أو ضمير) (ص163) والكل مقتنع (انه صعب جدا أن تغير فئة من البشر يخلطون الحق بالباطل ويعتقدون اعتقادا راسخا أن ما يقومون به هو عين الصواب) (ص164)

إن الرواية وهي تقدم هذه الصورة السوداوية عن المدينة تتحكم فيها جماليات القبح، ويصبح القبح دليلا روائيا غير مقصود لذاته، وعلى القارئ البحث عن إحالاته وبدائله، مادام (التعبير الفني عن القبح يستدعي إدانته، وينبه ضمنيا إلى ما ينبغي أن يكون عليه الحال، فكأن عرض القبح تأكيد مباشر للجميل، واحتجاج على ما في العالم من قبح) على حد تعبير فيساريون جيرجوريفتش بلنسكي. لذلك كان سارد أحداث الرواية يعلن عن امتعاضه من بعض السلوكات، ويتيح لشخصيات الرواية التعبير عن مواقفها؛ فنجد مريم وقد عرفت أنها ابنة الخطيئة (خطيئة أمها مع مشعوذ) تقر بأن المسؤولية مشتركة (تقول في نفسها إن مسؤولية ما قام به الوالد، نتيجة مشتركة مع من يلجؤون لمثله نتيجة التهور وعدم الوعي، والإيمان بالشعوذة والدجل والخرافات،) ص163

رواية "ما تبقى في ذاكرة الرماد" رواية حبلى بالقضايا فهي تلامس قضايا قضايا سياسية، ثقافية، اجتماعية، فلسفية، معرفية تقارب المقدس والمدنس ، الحياة والموت وقضايا محلية وطنية وإنسانية، وما فرضه وباء كورونا على العالم وكيف غير العلاقات والقيم والرؤية للعالم... لكن بطريقة فنية تبرز الجوانب القبيحة فينا عسى أن تولد للقارئ ردة فعل على ما يشهده الواقع، يقول وولتر ستيتش (عندما يدخل القبيح كعنصر استيطيقي في الفن، فمن المؤكد أنه يخلق شعورا بالاستياء لكن بمقدار ما يؤدي إلى شعور استيطيقي من حيث إنه عمل فني أصيل فإنه يؤدي إلى المتعة) وهذا ما نجحت فيه الرواية لأن تأثير القبيح والمؤلم أكثر من تأثير الجميل، فلا شيء يسمو بنا إلى العظمة -كما قال الرومانسي الفرنسي دي موسيه- مثل الألم، ولخير أن يضع الكاتب الملح على الجرح، ويكشف عورات المدينة واهلها، ويبين اختلالات الواقع في لوحة ماتعة، من أن تكون الرواية كارت بوستال فلوكلورية وبهرجة ممسوخة تطبل لكل شيء... لأن (مهمة القبيح حين يقبل في الفن، هي أن يساعد على تقوية أثر الجميل بإنتاج سلسلة من المتضادات التي تجعل الملائم أقوى أثرا) كما يقول بيندتو كروتشي . لكن هذا لا يعني ان الروية لم تقدم إلا القبح، فكثيرا ما عرضت مشاهد جميلة مشحونة بالنوستالجيا، والحنين إلى ما ميز المدينة عبر تاريخها من علاقات اجتماعية، وتقاليد في الباس والطبخ... لكننا آثرنا النبش في جماليات القبح، لأن (الشيء الجميل يمكن أن يتغير تأثيره في العمل الفني، والشيء القبيح من الممكن أن تتغير درجة تأثيره من القبح إلى جمال فني عن طريق الوصف والتعبير الناجح عن ذلك القبح) كما قال غوتهولد إفرايم ليسينغ وهذا ما نجحت فيه رواية "ما تبقى في ذاكرة الرماد" أكثر من نجاحها في إبراز الجمال والوجه المشرقة لمدينة اسفي

***

الكبير الداديسي - المغرب

تاريخ فلسطين عريق عراقة شعبه،غير أن الشتات هزّ وغيّر الكثير من شخصية هذا الشعب. لذا فإنه لا بد من العودة إلى الماضي لاستخراج مشكاة الواقع وطرحها أمام المناهج التاريخية على أمل إنعاش الذاكرة الجماعية بهدف استعادة الهوية الفلسطينية بعد صياغة الشخصية واستعادتها من جديد.

لجأ سميح مسعود مؤلف رواية الكرملي الصادرة عن الآن ناشرون وموزعون/2021،  إلى الاستفادة من التاريخ الشفوي حيث يخبرنا بذلك منذ عتبة الإهداء التي جاء فيها" إلى جدتي عائشة أبو عودة سيف التي أوحت لي حكاياها أن أكتب هذه الرواية" فطالما شكل الأجداد ذاكرة خصبة تكتنز تاريخ الأرض وأحداثها. فكيف إن كانت الأرض فلسطين بكل قداستها وعراقتها. فلسطين التي تتشبث بها ذاكرة متوقدة بكل ما أوتيت من قوة ،تفرغ حمولتها في ذاكرة أكثر شبابا حتى لا تنطفئ ،في سلسلة متصلة ومتواصلة تكتمل دائرتها يوم العودة.

وقد قدم الكاتب عالما تخييليا حاكى التاريخ ونجح في إعادة بناء الأمكنة والأزمنة وأثثها بأبطال خدموا رؤيته ومنظوره لما حدث في فلسطين بشكل عام وحيفا بشكل خاص منذ بداية القرن أي مع نهايات الحكم العثماني العشرين وحتى النكبة وما بينهما من مخاضات للخلاص من العثمانيين ومن ثم الانتداب البريطاني الذي مكن الحركة الصهيونية من فلسطين إلى الخروج نحو المنافي والشتات.

 وها هو سميح مسعود يستعيد الأماكن ،يصفها بدقة بتاريخها المتجذر العميق ويثبت الهوية. ثم من خلال أبطاله يبني روايته. وبعض هؤلاء الأبطال أسماء لشخصيات واقعية مثل نجيب نصار مؤسس جريدة الكرمل وفيصل الذي فقد عرشه في سورية، وبعضهم أسماء لشخصيات متخيلة مثل رشيد الكرملي بطل الرواية الذي يمنحه مسعود جزءا من مفاتيح الأماكن وسرها في حيفا إلى جانب العم توفيق الذي نجده ص١٧٥ يقول"إني أعرف تاريخ حيفا كما أعرف خطوط كفي".

لقد استعاد سميح مسعود نسغ الحياة في حيفا من خلال الذاكرة فنجده يستهل روايته بالمكان الذي ارتبطت به دراسة بطله رشيد الكرملي وهو "الكتّاب" ففي ص٩ على لسان السارد "ويتميز هذا الكتاب بأنه قريب من كل الأحياء ،يقع على طرف زقاق ضيق في حي وادي الصليب أحد أهم أحياء حيفا التحتا" والمتأمل لهذا المقتطف يدرك دقة الوصف التي تعمدها الكاتب بهدف استعادة الأسماء الحقيقية للمكان وبالتالي استعادة هويتها وخصوصا بعد تغييرها من طرف دولة الاحتلال وإعطائها أسماء عبرية.

كما نجد أن الكاتب ركز في تعابيره وموضوعاته على المكانة الدينية والتاريخية والقومية وتجلياتها الرئيسية التي تمثل في مجملها ومفصلها الهوية العربية للشعب الفلسطيني. ولا بد للمتلقي لرواية الكرمل أن يلتقط التجليات الدينية التي برزت منذ الصفحات الأولى ففي ص٩ على لسان السارد يصف الكتّاب" إنها عبارة عن ساحة بيت كبير يتعلم فيها الصبيان القراءة والكتابة والجمع وحفظ القرآن"

وفي موقع آخر نجد الكاتب يصف رأي رشيد الكرملي بالتصوف حين زاره أحد الأعياد أصدقاء له من عكا لهم علاقة بالطريقة الشاذلية اليشرطية ص٢٢"وسأله أحدهم عن رأيه بالتصوف".

والمتتبع لرواية الكرملي سيجد العديد من التجليات الدينية، والحديث عن المضامين الدينية يمثل ركنا أساسيا في تشكيل الهوية وتعزيز الوجود الفلسطيني أمام المحتل.

ويركز سميح مسعود على مكون أساسي من مكونات الهوية وهو الأرض،هذه الأيقونة التي تكررت طيلة صفحات العمل فأضحت الدماء التي تغذي جسده. فعن علاقة رشيد بمدينته ص٣٣" لا شيء يقف حائلا بينه وبين حيفا،إنه على علاقة حميمة مع كل ذرة تراب من ترابها". وفي ص٥٤-٥٥ يتحدث السارد عن تخوفات نجيب نصار أثناء ندوة أقيمت في بيروت عن مجموعة من إقطاعيي لبنان وسوريا اشتروا مئات الآلاف من الدونمات في فلسطين وأحكموا سيطرتهم عليها. فعن نجيب على لسان السارد" رد عليها بمدلولات بائنة حول تخوفه من أن ينعطف أصحاب الأراضي الجدد انعطافا يحقق للصهاينة وجودهم في فلسطين ،وينشرون في قراها غصّة الفجيعة".

ومعظم تلك الأراضي كانت مرج ابن عامر ويعد المرج من أخصب الأراضي الفلسطينية التي اشترتها الحركة الصهيونية وشردت فلاحيها. وخسارة الأرض تعني خسارة الهوية لذلك نجد الثورات تتفجر من أجل التشبث بالأرض والحفاظ عليها من أجل الحفاظ على الهوية.

ومن التجليات التي تمثل الهوية الفلسطينية التجلي الفكري وقد مثلته جريدة الكرمل التي كان لها الحصة الكبرى في رواية الكرملي. وجريدة الكرمل أسسها الصحفي اللبناني نجيب نصار في حيفا عام ١٩٠٨ لتكون القنديل الذي تمتد أضواءه عبر سماء حيفا وفلسطين لتعبر الحدود إلى شرقي الأردن والقاهرة والعراق وغيرها. وقد استكتب نجيب نصار أسماء لامعة مثل عزت دروزة وأكرم زعيتر وغيرهم.

ومن الدوافع التي أدت إلى بزوغ جريدة الكرمل الحكم العثماني الذي كان يجبي الضرائب ويلحق الظلم بالعرب ومن ثم الاستعمار البريطاني وما أفرزه من استيطان صهيوني.

وقد عكست كما أوضح سميح مسعود من خلال الكرملي الأحداث الاجتماعية والاقتصادية والتصورات السياسية مستمدة ذلك من الواقع. وقامت بنشر الوعي الوطني ووضعت الشعب الفلسطيني أمام الصورة الحقيقية كما ذكرنا سابقا للحكم العثماني والاستعمار البريطاني والخطر الصهيوني. ومما جاء عن ذلك ص٧٣ على لسان العم توفيق بعدما حدثه رشيد الكرملي عن ندوة بيروت وكلمة نجيب التي قدمها" دور الصحافة أن تكشف الحقيقة للناس ،كتابها وحدهم من يستطيع وضع أجنحة لها تحملها الرياح إلى كل مكان".

ويظهر التجلي الثوري التنويري المقاوم في دور جريدة الكرمل من تنوير للشعب الفلسطيني والأمة العربية بما يحاك ضدها عندما نشرت مقال عن اتفاقية سايكس بيكو وحذرت من خلال توقعاتها مما سيحصل. ومما جاء في هذا الشأن ص١٤٤ عندما زار بوريس باخونين مكتب الجريدة وأخرج اتفاقية سايكس بيكو ووضعها أمام نجيب وقال" طلبت مني حكومة بلادي البلشفية الجديدة تسليمها لجريدة عربية واسعة الانتشار لنشرها وتعريف العرب على ما فيها" وبالفعل تمت كتابة المقالات عن الاتفاقية ونشرها والتحذير منها.

كما حذرت الجريدة من وعد بلفور والخطر الصهيوني ونوايا دولة الانتداب كما وجهت انتقادات إلى أعضاء اللجنة العربية العليا وحذرتهم من الخلافات والسعي خلف المناصب وتصديق نوايا البريطان.فاستنهضت الهمم من خلال هذا التنوير من أجل تدعيم أصول الهوية فارتفع الحس الثوري من أجل حماية الحق الفلسطيني بأرضه والمحافظة على هويته.

وعندما تفجرت ثورة ١٩٣٦ كان للجريدة الدور الفعال في التعبير عن أهداف الثورة والتعريف بالكفاح المسلح. ويتضح ذلك ص٢٠٨ على لسان السارد " واصل كتاب جريدة الكرمل تغطية كل مستجدات الثورة". كما عرج سميح مسعود على ما تعرضت له الجريدة من عراقيل من الأتراك بداية ثم من بريطانيا في محاولات لإغلاقها وإبعادها عن واجبها في أداء رسالتها التوعوية والنضالية ،لكنها استمرت رغم تلك العراقيل في محاولة منها للحفاظ على الهوية العربية لكنها أغلقت أبوابها في العام ١٩٤٢. ففي ص٢٢٥ ما جاء على لسان نجيب" والآن يؤسفني أن أخبركم أنني قررت أن أغلق الجريدة لأنني عاجز عن تغطية نفقاتها المالية".

كما تحدث الكاتب عن قضايا تاريخية وقومية تهم الأمة العربية والشعب الفلسطيني وهذه القضايا تمثل الارتباطات والحوادث والوقائع التي وقعت على ثرى فلسطين عبر الزمن. ومثال ذلك غزو نابليون لمدينة عكا وانهزامه أمام أسوارها. فعلى لسان الشيخ مناور ص٢٠٠" هذا هو السور المنيع الذي بصق أبطاله في وجه نابليون ومنعوه دخول عكا".

وقصة الظاهر العمر الزيداني التي جاءت في أكثر من موقع في الرواية نذكر منها ما جاء على لسان أم رشيد ص١١ في خضم حديثها عن تلك الشخصية التاريخية المهمة "الذي حول حيفا إلى قرية للصيادين في موقع تل السمك إلى مدينة يتمطى حولها سور عال لحمايتها".

كما اهتم الكاتب بالحديث عن المكانة المرموقة للأمة العربية التي تنتمي لها الهوية الفلسطينية وأن هذه الهوية تتشكل بارتباطها بالأمة العربية ويتجلى هذا عبر الحديث الذي دار على مائدة الطعام التي قدمت لفيصل حين استقبلته حيفا بعد فقدانه لعرشه في سوريا.ففي ص١٧٠ على لسان فيصل" إنه أكل دمشق نفسه. أجابه العم توفيق : طبعا لأننا من سوريا الجنوبية ،أكلنا هو أكل إخواننا الذين يقطنون جهاتها جميعا"

بقي أن نقول بأن سميح مسعود شاعر وكاتب ولد في حيفا عام ١٩٣٨ وهجر مع عائلته إلى برقة التي تنحدر منها عائلته.

عمل مستشارا اقتصاديا في ثلاث مؤسسات إقليمية عربية. انتخب عام ١٩٩٠ رئيسا للاتحاد العام للاقتصاديين الفلسطينيين فرع الكويت.عضو رابطة الكتاب الأردنيين والاتحاد العام للكتاب والأدباء العرب. صدر له اثنان وأربعون كتابا منها اثنان وعشرون في مجال الشعر والأدب.

***

قراءة: بديعة النعيمي

لاشك في أن لكل نص شعري مثيراته النصية، ومحمولاته الإبداعية ومحفزاته النصية، لأن الشعرية – بالأساس- كتلة متحولات ومتغيرات ومحمولات جمالية تبثها القصيدة على مستوى الكلمة والكلمة، والجملة والجملة، ناهيك عن إيقاعها التآلفي الترابطي الذي يدلل على أن البنية النصية الشعرية بنية متكاملة إحساساً وفاعلية رؤيوية تحفيزية نصية ترتقي درجات من الاستثارة والتحفيز النصي.

وتختلف شعرية المحمولات الجمالية من شاعر إلى شاعر، ومن نص شعري إلى نص شعري آخر، تبعاً لفاعلية المحمولات الجمالية، ومؤثرات النسق الشعري، وهذا يعني أن فاعلية المحولات الجمالية متغيرة في حد ذاتها ومختلفة من نص إلى آخر، ومن رؤية نصية إلى أخرى تبعاً لمثيرات التوابع النصية التي ترتبط بالأثر الجمالي الذي تخلفه المحمولات النصية فيما بينها، وبما أن المحمولات الجمالية كتل متغيرات ومؤثرات مختلفة فيما بينها، فإن ما يثيرها على المستوى الجمالي تفاعل هذه المحولات فيما بينها لتحقق قيمة جمالية تملك مؤشرها الجمالي البليغ، وخصوصيتها الإبداعية الخلاقة.

والشاعر في محمولاته الجمالية يتقصى أقصى درجة الانزياحات الأسلوبية والدلالية في خلق الاستثارة الجمالية، " فالشاعر يستخدم الكلمات كنقطة انطلاق لموجات تعبيرية، وتراكيب دلالية متلاحقة، وهي تستقطب استراتيجيات بنائية متنوعة؛ هذه الاستراتيجيات محققة في الصور المجازية من استعارة، وتشبيه، ورموز، لها سلطة النسق وطاقاته المحققة في العلاقات الداخلية التي تفتح النص على آفق التأويل؛ وهو العمل الحركي للدلالة التي ترسم منحنيات معرفية مختلفة، تندرج في فك مغاليقها المرصودة القراءات المتتالية، ولما كان تعامل الشاعر مع الكلمات يميل إلى الرغبة في تجاوز المعاني المباشرة، ويستهدف الجهر بأسرارها فإنها تلهم بتحريض جامع على هندسة الخطاب في أنساق هي موئل القيم الجمالية للنص؛ وعليه، فالانزياح مقوم هام لتحديد جمالية النص الشعري من خلال تجاوزه العادات الكتابية والقوانين المعجمية، وبذلك يكون الانفلات من سلطة المألوف والمعتاد عليه، لتحقيق هدف جمالي على مستوى البناء والدلالة"(1).

وبتصورنا النقدي: إن الإبداع الشعري المميز ينطوي على محمولاته الجمالية المميزة التي تأتي غاية في الاستثارة والجمالية والإيحاء، ولا يمكن أن يخلو نص شعري إبداعي حقيقي من محمولاته البليغة التي تثير الحساسية الجمالية، ولهذا، تتعدد سبل الجمالية الشعرية بتعدد المحمولات الجمالية وإثارة متغيراتها الأسلوبية.

ومن يطلع على البنية التشكيلية العلائقية لقصائد العجمي يدرك أن المحمولات الجمالية تتأسس على كل ما يثير الشعرية من مظاهر استثارية خلاقة على مستوى الكلمات والجمل ومؤشرات الدلالة، ناهيك عن الوعي الجمالي في خلق اللغة الشعرية وإبراز ناتجها الجمالي،

ولعل أبرز المحمولات الجمالية التي تشكل مرتكز قصائده على المستوى الإبداعي الجمالي نجملها في المحمولات التالية:

أولاً- المحمول الجمالي الصوتي:

لاشك في أن للمحمول الجمالي الصوتي أثره البالغ في لغة الشعر، لأن الأصوات المتناغمة في بنية القصيدة تثير الرؤية الشعرية، وتحقق النغمات الشعرية المموسقة التي تربط الكلمات وأصواتها بإيقاع جمالي تحفيزي استثاري، يولد النغمات والانسجامات الصوتية المتناغمة، التي تحقق الاستثارة والجمال.

والسؤال المهم: ماهي مثيرات المحمول الجمالي في قصائد العجمي على المستوى الصوتي؟ وهل هي مثيرات صوتية تقفوية أم مثيرات تشكيلية تحققها القصيدة على المستوى الجمالي؟.

إن من يطلع على قصائد العجمي يدرك أن الشاعر يهندس أصوات قصائده هندسة لفظية، لاسيما على مستوى القوافي، إذ تأتي الأصوات الشعرية قمة في الاستثارة، والوعي، والتحفيز الجمالي، إذ إن التوليف الجمالي بين الكلمات، على مستوى الأصوات يدلل على بلاغة الرؤية الجمالية في تحفيز الأنساق الشعرية، وخلق مزاوجاتها الصوتية المؤثرة. يقول وهيب عجمي:

" مساؤكم مصابيحٌ وعشقُ

وبوحُ القلبِ في سمرِ الليالي

*

نهارٌ تحتَ جنحِ الليلِ يغفو

وسهرةُ نجمةٍ عند الهلالِ

*

ووقفة ُ جدةٍ قامتْ تصلي

على همساتِ أوراق الدوالي

*

وعصفورٌ هوى في قلب عشٍّ

تغازلهٌ نسيماتُ الظلال

*

نجومٌ فأقمارٌ وأنس

ودالية ٌ تسيرُ على الحبالِ

*

أسلي الليلَ والإصباحَ أصحو

وأنتم فرحتي وهدوء بالي"(2).

لابد من الإشارة بداية إلى أن شعرية المحمول الجمالي الصوتي تتأتى من فاعلية الأصوات المتجاورة والإيقاعات النغمية الصوتية المكتسبة من خلال فاعلية هذه العلاقة في السياق، كما في التآلف الصوتي القائم في الشطر الأول من خلال انسجام المد مع التنوين وإحداث الإيقاع الصوتي المموسق على مستوى الأصوات والكلمات والجمل (مساؤكم مصابيحٌ وعشقُ) فقد جاء التناغم الصوتي عبر تفاعل التنوين مع المد في قوله: (مصابيحٌ)، ثم تفاعل الضم مع المد في قوله (مساؤكم)، ثم خلق قيمة إيقاعية تجاورية أشعلت شعرية التجاور والمحمول الجمالي الصوتي النشط الذي أتبعه بقوله (وعشق)، وكأن الشطر الأول بانسياب محمولاته الصوتية قد خلق تقفية جمالية يمكن الوقوف عليها، ثم أتبع الشطر الأول بالشطر الثاني الذي اتبع نفس فاعلية المحمول بتناغم الضم مع الكسر، وهذا الانزلاق الصوتي من التنوين إلى الكسر جاء متناسباً جمالياً مع المد والضم في الشطر الأول ليعلن الشاعر إفضاء مشاعره وبثها بعمق للقارئ ليتحثث زفراته العاطفية المنكسرة المحمومة.

واللافت أن المحمول الجمالي الصوتي تتابع بهذه الهندسة النغمية المنظمة لإيقاعات القصيدة، وكأن التنوين بالضم قد أعطى الأبيات نغمات صوتية مضاعفة زادت الحركة الجمالية التجاورية قيمة في تحفيز القصيدة، لتسمو وترتقي جمالياً، كما في قوله:

نجومٌ فأقمارٌ وأنس

ودالية ٌ تسيرُ على الحبالِ

هنا، جاء المحمول الصوتي بالتنوين المتتابع مع المد ليمنح القصيدة هندسنها النغمية الخاصة التي تخلق المتعة والانسيابية والأنس الجمالي على مستوى الكلمات، لاسيما بتتابع العطف وتواليه ليعكس هذه الحركة الجمالية في الإيقاع ليتمتع بها القارئ، ويتلذذ بوقع التنوين والضم وتتابع المد كحالة شعورية هيجانية تثير العواطف الغزلية، وتحرك النسق الشعري بفاعلية إيحائية وأنغام منسجمة متآلفة تظهر في بنية الكلمات نفسها وعلاقتها بما حولها( نجومٌ فأقمارٌ وأنسُ) وهذا الوقوف على الضم في الشطر الأول أعاد التوازن إلى القصيدة ليكون هذا البيت إيقاعاً تابعاً جمالياً للبيت الاستهلالي، وكأنه يمثل دورة إيقاعية ثم عودة إلى النغم الأول، وبذلك يحرك الأنساق الشعرية صوتياً بإيقاعات متواشجة تزيد فاعلية البث الشعوري المنكسر والإحساس بالحنين للمحبوبة وذويها، أي إن الشاعر يحرك الإيقاعات الصوتية من نسق الكلمات ذاتها من جهة، ومن ترابطها مع بعضها بعضاً بعلاقات تفاعلية تجاورية منغمة من جهة ثانية، وهو بذلك يؤكد شعرية المحمول الجمالي الصوتي في تحريك الشعرية والإحساس الجمالي بالأبيات، من خلال علاقة المجاورة والروابط النسقية المنسجمة فيما بينها في خلق هذه الانسيابية الجمالية على مستوى الكلمات، وإبراز حيوية النسق الشعري الذي يتضمنها.

والملاحظ أن شعرية المحمول الجمالي الصوتي تتأتى من فاعلية الأصوات ونشاطها ضمن النسق الشعري، وبمقدار براعة الشاعر في استثارة محمولاته النسقية الصوتية تزداد الأصوات فيما بينها قيمة جمالية تحفيزية في خلق الاستثارة والجمالية في الأبيات، لتحقق تناغمها الآسر وتفاعلها الصوتي العجيب، كما في قوله:

" قصدتُ جُنينَة َ الأشعارِ صبحاً

لأقطفَ ما تيسرَ من نصيبي

*

فصرتُ أُداعبُ الأزهارَ عشقاً

وأعصرها بقافيتي وكوبي

*

وأصدحُ كالكنارِ على سطوري

غناءَ العشقِ في الزمنِ الغريبِ

*

وأسكبُ روحَ أشعاري بكأسٍ

أقدمها لمن أهوى بطيبِ

*

كرومُ الشعرِ في المحبوبِ تزهو

وكل الحسنِ في ثوبِ الحبيبِ

*

تسيرُ حبيبتي حرفاً فحرفاً

وبرقُ الحرفِ يلمعُ في الدروبِ"(3)

لابد من الإشارة بداية إلى أن بلاغة المحمول الجمالي الصوتي في قصائد العجمي تتمثل في هذه التناغمات والمجاذبات الصوتية المتآلفة ضمن قرائن التشكيل وعلائق المجاورة بين الأنساق لتكتسب الشعرية قيمتها واستعلائها النصي بفاعلية هذه القرائن والروابط بين الكلمات وانسجامها في خلق التآلفات الصوتية الموفقة والمجاذبات الصوتية البليغة، كما في هذا التفاعل العلائقي العجيب على مستوى بلاغة المحمولات الصوتية المتجانسة فيما بينها (صبحاً- عشقاً – حرفاً) ليخلق حركة انسجامية صوتية تفاعلية تعضد فاعلية الموازاة الصوتية بين الكلمات والأبيات الشعرية، وتحقق- في الآن نفسه- التجانس الرهيف بين الكلمات لاسيما بالفاعلية الصوتية الموقعة في بنية القوافي الشعرية: (نصيبي- كوبي- الغريب- بطيب- الحبيب- الدروب)، ناهيك عن الإيقاعات الصوتية المتجانسة التي تحققها الكلمات الفعلية بتواليها وحركتها الإيقاعية النشطة (أقطف – أداعب- أعصر- أصدح-أسكب- أقدم)، وكلها جاءت في صيغة المضارعة معتمدة ضمير المتكلم، وهذا أحدث استعلاء القيمة الجمالية المتآلفة في النسق الشعري، ليرتقي المحمول الجمالي الصوتي قيمة واستثارة جمالية في القصيدة.

وصفوة القول: إن لقصائد العجمي هندستها الصوتية على مستوى بلاغة محمولاتها الصوتية وانسجام الأصوات فيما بينها، سواء أكانت منبعثة من بنية الكلمات ذاتها أم من خلال المجاورة الصوتية التي تربط الكلمات فيما بينها، وهذا دليل أن الشعرية تمثل في قصائد العجمي شعرية تلاحمية تفاعلية على مستوى الأصوات والكلمات وانسجامها، فحتى للتنوين أثره الصوتي في خلق هندستها الصوتية المتوازنة التي تزيد شعرية الأبيات قيمة واستثارة جمالية.

وبتقديرنا: إن بلاغة المحمولات الجمالية الصوتية في قصائد العجمي ترتد إلى فاعلية الرؤيا الجمالية والهندسة الإيقاعية في تشكيل الكلمات والربط فيما بينها، لتبرز الإيقاعات الصوتية بقوة في كل نسق شعري في قصائد، فلا تجد نشوزاً أو انكساراً في الإيقاعات الصوتية في قصائده معلناً عن حركة تفاعلية انسجامية تربط الأنساق الشعرية بقوة، وتخلق مؤشرها الصوتي البليغ، وهذا ما يحسب لقصائد العجمي في حركتها وانسيابها الجمالي على مستوى محمولاتها الصوتية الجمالية بالانتقال من نسق صوتي إلى آخر، وكأن كل نقلة صوتية مهندسة ومحسوبة بدقة فلا تجري جذافاً وإنما عن وعي جمالي وحراك صوتي مموسق غاية في البلاغة والاستثارة والتأثير.

ثانياً- المحمول الجمالي الانزياحي

يعد الشعر الفن الجمالي الأبرز الذي يفتح باب المحمولات الجمالية الانزياحية في التشكيل، لأن متعة الشعر في اختراقه وكسره لكل ما هو تقليدي أو نمطي في التشكيل، ولهذا يبقى الشعر الفن الجمالي العصي عن التنميط والتقعيد، لأنه المتغير دوماً في أساليبه ورؤاه كما الحياة، ولابد حيال ذلك أن يحتفي الشعر بكل ما هو جديد وانبثاقي ومستقبلي في الحياة، ولا يمكن أن يسمو الشعر، ويرتقي إلا من جانب الإبداع والابتكار والتجدد الدائم في أساليبه ورؤاه ومنظوراته الإبداعية. ولهذا يقول أحمد محمد ويس:" إن الانزياح استنطاق غير عقلي للغة، يتملص من المعاني القربية التي تبوح بها المفردات. والشعر يمتلك بنية لغوية خاصة تعبر عن الأفكار والأشياء بطريقة غير مباشرة، لأنها تقول شيئاً وتعني شيئاً آخر"(4).

أي إن الشعر تملص من المعاني القريبة إلى المعاني البعيدة، وما يعنيه أبعد مما تدل عليه الكلمات، وبهذا المعنى قرن الويس الانزياح بالدلالة وربطه ربطاً ملاصقاً بالدلالات وتناسى القيمة الجمالية للانزياح في خلق الاستثارة واللذة الجمالية في الشعر، فثمة انزياحات شعرية مائة بالمائة لايمكن تناسي دورها وفاعليتها في اللغة الشعرية، من حيث البكارة والاستثارة والقيمة الشعرية أو الشاعرية التي تحققها القصيدة في بنيتها النصية.

والسؤال المهم الذي نطرحه على خارطة التداول النقدي:هل ثمة شعرية أو بلاغة خاصة في المحمولات الجمالية الانزياحية في قصائد العجمي؟

وهل محمولاته الانزياحية شعرية أو محققة للإثارة الشعرية في قصائده؟

وهل ثمة تخطيط جمالي وحنكة جمالية في استثارة الأنساق الشعرية في قصائد العجمي؟

إن من يطلع على قصائد العجمي يدرك أن المحمول الجمالي الانزياحي يحقق قيمة عظمى في أنساقها الشعرية، إذ إن الانزياح بؤري تكويني في استثارة المحمول الجمالي، لدرجة أن الأنساق التشكيلية الوصفية المنزاحة تدل على غنى الشعرية في قصائده، من حيث تلوين الدلالات والرؤى الشعرية لتحقق قيمة جمالية بؤرية في تشكيلها تنم عن خبرة جمالية وإحساس إبداعي خلاق.كما في قوله:

" شكوتُ للعشقِ كم عانيتُ في سهري

 والعشقُ يشكو ليالي الشوقِ للشاكي

*

رسمتُ وجهكِ شعراً عبر قافيتي

وما بلغتُ مع الإبداعِ مرماكِ

*

بسطركِ الحرفُ في أهدابهِ اشتعلتْ

روحُ البلاغة لما القلبُ ناداكِ

*

إن غبتِ عني فأنتِ النبضُ في رئتي

وفي غيابكِ كلُّ العيدِ ذكراك"(5).

لابد من الإشارة بداية إلى أن المحمول الجمالي الانزياحي- في قصائد العجمي- يتأتى من بلاغة الصور المنزاحة وقيمتها التصويرية الخلاقة بمعانيها ورؤاها، إذ يستشعر القارئ المتعة الجمالية في المحمولات التصويرية المباغتة التالية:[ والعشق يشكو ليالي الشوق للشاكي- بسطرك الحرف في أهدابه اشتعلت روح البلاغة]؛ فالقارئ يتحثث المحمول الجمالي الانزياحي في هذه الصور الرومانسية التي تدلل على عمق الاستثارة الشعرية وفاعلية الرؤية التشكيلية التي تحقق غايتها وقيمتها النصية.

ولو تأملنا فاعلية الصور ومحولاتها الجمالية في الأنساق الشعرية السابقة لتأكدت لنا حقيقة جوهرية، وهي أن الشاعر يعيش حالة من الإحساس والجمالية في بث حالته الغزلية بصور جمالية تحفيزية غاية في الاستثارة واللذة الجمالية، وكأن الشاعر يرسم الدلالات والصور الشعرية رسماً دقيقاً غاية في الاستثارة والتحفيز النصي. فالقارئ سرعان ما يدرك جمالية الأنساق الشعرية عبر محمولاتها التصويرية الرومانسية التي تخلق بلاغة محمولاتها الجمالية عبر الأنساق التصويرية المنزاحة التي ترفع قيمة الصور الشعرية، وتحقق غايتها الإبداعية النشطة جمالياً.

والملاحظ أن بلاغة المحمولات الجمالية المنزاحة في قصائد العجمي تتحقق من خلال فاعلية الأنساق الشعرية التي تبرز فيها الانزياحات الجمالية بوضوح وحياكة جمالية آسرة، كما في قوله:

" أنا لا أقولُ بأنكِ الفجر الذي

 خطفَ الفؤادَ لعالمِ الأسرارِ

*

لكنكِ العشقُ الذي أدمنتهُ   

فنقشتُ فيكِ سبائكَ الأشعار

*

ورسمتُ وجهك في الوجود قصيدة

 صبيانها وبناتها أفكاري

*

أحسستُ إني في سمائك كوكبٌ

ما بين نجمك والصباح ناري

*

ما كنتُ قبلك أعرفُ الحب الذي

اجتاحت به شمسُ الحنين مداري

*

كلا ولا انتعشَ الفؤاد بقبلةٍ

بصمت على ثغرِ الحلا آثاري"(6).

هنا، يباغتنا الشاعر بمحمولاته الجمالية المنزاحة التي تبدو فيها الصور قمة في التعبير عن إحساسه الغزلي الترسيمي الجمالي:[اجتاحت به شمس الحنين مداري]، فهذا الانزياح الجمالي التحفيزي أثار فاعلية المحمولات الجمالية لترتقي الرؤية الغزلية وتبرز شعرية النسق الانزياحي، وكأن وجه الجبيبة المشرق قد أجج مشاعره واجتاحت شمس الحنين آفاقه وعالمه لينتعش فؤاده بعشقها الذي أضاء ثغره بالابتسامات والأماني العذبة، وهكذا يؤكد الشاعر بلاغة محمولاته الجمالية المنزاحة التي تؤدي دلالات جديدة تستثير الرؤى الشعرية، وتحقق قيمتها الجمالية.

والملاحظ أن شعرية المحمولات الجمالية المنزاحة في قصائد العجمي تتمثل في بلاغة الانزياحات الخلاقة على مستوى الأنساق الشعرية لتبرز بدقة عالية، وفاعلية أسلوبية خلاقة بمتغيراتها الأسلوبية، كما في قوله من قصيدة (عانقيني) مايلي:

قومي إليَّ وعانقي مشتاقا

يسعى إليك متيماً توّاقا

*

من قلبهِ سكبَ الحروفَ لوردةٍ

فغدا القصيدُ كثغرها براقا

*

والكوكبان تألقا في صدرها

وتعادلا فتقاسما الترياقا

*

من قدها الممشوق كلُّ نخيلةٍ

أخذت مداها والجنى والساقا

*

وتمايل السعفُ الرصينُ كشعرها

يهوي على أعطافها رقراقا"(7).

إن القارئ هنا أمام محمولات جمالية منزاحة غاية في الاستثارة والتحفيز الجمالي، وكأن الشاعر يرسم الدلالات رسماً جمالياً خلاقاً من خلال بلاغة الصور واستعلاء قيمها التشكيلية لاسيما بهذه الصورة الجمالية التي ارتقت بفاعلية المحمولات الجمالية: [وتمايل السعفُ الرصينُ كشعرها  يهوي على أعطافها رقراقا]، فهذه الصورة المنزاحة استعلت بفاعلية المحمولات الجمالية التصويرية لتبرز القيمة الجمالية في الأنساق ككل، وكأنها قطعة واحدة، وهكذا، أثارنا العجمي بمحمولاته الجمالية المنزاحة على مستوى التشكيلات اللغوية والتصويرية المبتكرة التي تفيض بدلالاتها ورؤاها النصية، ليؤكد الشاعر عمق الدلالات التي تبثها القصيدة في ثناياها ورؤاها الشعرية.

وصفوة القول: إن شعرية المحمول الجمالي الانزياحي- في قصائد العجمي- تؤكد هندسته التشكيلية في استثارة الأنساق التشكيلية الجمالية التي تحقق غايتها الإبداعية، وفق مؤثرات تشكيلية تملك محفزها الجمالي ولغتها الآسرة، وهذا دليل أن غنى الشعرية في قصائد العجمي من غنى المحمولات الجمالية المنزاحة أو التشكيلية المراوغة بإثارة المجاذبات التشكيلية البليغة التي تترك أثرها في المتلقي من خلال بلاغة الصور أو التشكيلات الأسلوبية المفاجئة التي تخلق بلاغتها وانزياحها الصادم من خلال عمق الرؤيا وبلاغة المخيلة الشعرية.

ثالثاً- المحمول الجمالي التصويري:

لاشك في أن الشعر بالأساس فاعلية تصويرية، وهذه الفاعلية التصويرية تملك قيمتها التأثيرية من خلال بلاغة الرؤيا، والمخيلة الشعرية التي أنتجت الصور، وما بلاغة المحمولات الجمالية المرتبطة بالصورة إلا دليل مهارة الشاعر التخييلية في إنتالج الصور المؤثرة التي تحرك الشعرية من العمق، لأن الصورة في الشعر ليست سكونية أو وصفية محضة، إنها قد تعتمد لغة الوصف والسرد لكنها تنأى عن هذه اللغة بالإيحاءات العميقة والمعاني المفاجئة الصادمة، إذ الشعرية – دائماً وأبداً – انفتاح جمالي في الأفق الشعري لدى الشاعر، ولا يمكن للشعر أن يسمو درجات من الاستثارة واللذة الجمالية بعيداً عن المحمولات الجمالية القائمة في الصورة الانزياحية البليغة التي ترتقي بالمحمولات الجمالية وترقى بها، فالمحمولات الجمالية هي المؤثرات والمحفزات الجمالية المحركة للأنساق الشعرية لتسمو وترتقي بمسارات القصيدة على المستوى الإبداعي.

وبتصورنا: إن الوعي الجمالي في تشكيل قصائد العجمي- هو وراء غنى محمولاته الجمالية بالمؤثرات الخلاقة التي تبرز الأنساق الشعرية بجمالية ولذة تشكيلية، وهذا يعني أن الصورة ليست حالة شعورية أو قناة اتصال بين المبدع والمتلقي بقدر ما هي طاقة خلاقة تؤجج الشعرية من العمق، والشاعر المؤثر جمالياً هو الذي يشكل محمولاته الجمالية التصويرية المباغتة التي تثير الحساسية الجمالية، والمعنى الجمالي المتوهج، والرؤيا الجمالية الحساسة، لأن" الصورة هي التي تساعد على الدخول في عالم القصيدة، وليس معرفة غرضها، بل إضاءتها وكشف أسرارها اللغوية، وتفسير نظام بنائها، وإدراك العلاقات فيها"(8).

وبما أن الصورة الشعرية هي طاقة إبداعية بحد ذاتها فإن ما يغنيها محمولاتها الجمالية الخلاقة التي تبرز شعرية الرؤى والدلالات الإيحائية المكثفة التي تثيرها الصور الشعرية في القصيدة.

والتساؤل المهم على خارطة التداول النقدي:

ماهي مؤثرات الصورة الشعرية وتنامي محمولاتها الجمالية في قصائد العجمي؟

هل محمولاتها الجمالية في تشكيل الصورة ترتبط بفواعل الرؤيا ونواتجها الدلالية أم أنها تنفصل عنها في الكثير من مؤثراتها الجمالية في قصائد العجمي؟

وهل ثمة اغتراب جمالي في خلق الرؤيا الدهشة الصادمة التي تثير الموقف، وتحفز الرؤية النصية وهل ترتبط بالمحمولات الجمالية للصورة أم تنفصل عنها؟

لاشك في أن مؤثرات الصورة عبر فاعلية المحمولات الجمالية في قصائد العجمي تتبدى في تفاعل هذه المحمولات الجمالية مع الرؤيا ونواتجها الدلالية، فالصورة في قصائد العجمي ليست عبثية، وليست سكونية، وإنما حالة من التناغم الجمالي الخلاق بين الأنساق الشعرية، لتأتي الصورة في قصائد العجمي طاقة تخييلية وإبداعية خلاقة بمؤثراتها ومغرياتها النصية، والشاعر المبدع حقيقة يدرك القيم الجمالية الخلاقة التي تثيرها قصائد العجمي على مستوى الصورة ومؤثراتها النصية الخلاقة، كما في تناغم الصور التالية على مستوى محفزاتها ومثيراتها التصويرية التالية:

"لونُ عينيكِ انفراجاتُ الفصول

فيها أسرابُ أسرارٍ تجولْ

*

حارتِ الأقلامُ في تفسيرها  فارتمتْ

أسرى بدنياكِ العقول

*

وقلوبُ الناسِ لما خفقتْ

سارعتْ ترجو لعينيكِ الوصول

*

فالتقت فيكِ فطارت فرحة

بعدما انتاب مآقيها الذهول

*

فزهتْ فيكِ قناديل الربى

وارتوتْ عطراً أزاهير الحقول"(9).

هنا، يباغتنا العجمي بالمحمولات الجمالية التصويرية التي تخلق درجة من التكثيف، والشعرية والإيحاء، واللافت أن كل صورة تشكل في قيمتها فاعلية ارتقاء المحمول الجمالي، من حيث كثافة الدلالات والرؤى الجمالية التي تنطوي عليها كل صورة لتحقق فاعلية قصوى في الاستثارة والتأثير، كما في الأنساق الشعرية التالية:[لون عينيك انفراجات الفصول]، ثم يخلق إيقاعات جمالية في ربط الصورة السابقة بالصورة اللاحقة:[فيها أسرابُ أسرار تجول]؛ فالقارئ هنا يتحثث المعاني الجمالية الخلاقة التي تثيرها الصور بائتلافها وتناغمها وفاعليتها التشكيلية، كما في قوله:[فزهت فيك قناديل الربى/ وارتوت عطراً أزاهير الحقول]؛ولما كانت الصورة قيمة استعلائية عالية بمحمولها الجمالي فإن ما يحفزها التضافر والتآلف الإسنادي بين الأنساق لتسمو وترتقي بفاعلية إسنادية خلاقة بالدلالات والمعاني والرؤى الجمالية، لدرجة أن محبوبته تزهو بقناديل الربى، وترتوي من عطرها الروحاني أزاهير الحقول، وهكذا جاءت المحمولات الجمالية التصويرية قمة في التكثيف والإيحاء والشعرية، مما يدل على أن بلاغة الشعرية تتحقق من جمالية المحمولات التصويرية التي تثير الشعرية من العمق. وهذا دليل أن الشعرية –عند العجمي- شعرية ائتلافية تشكيلية تحققها على المستوى الإسنادي لتسمو درجات من الوعي والاستثارة والتأثير.

والملاحظ على المستوى الفني أو الجمالي تنوع المحمولات الجمالية في قصائد العجمي التي تدلل على بلاغة جمالية في خلق الاستثارة الجمالية في التشكيل الشعري، من خلال الحياكة الجمالية واستثارة الأنساق الشعرية الخلاقة بالدلالات الجديدة، كما في قوله:

"لأجلكِ أمتطي جسرَ المنايا

وإن وقعت على طرفيه حربُ

*

وما أثنى فؤادي عنكِ خطبٌ

فقلبُ العشقِ لايثنيهِ خطبُ

*

وإنكِ للمحبةِ كلّ عينٍ

وعينُ الحبِّ للإبداعِ ربُّ"(10).

لابد من الإشارة بداية إلى أن بلاغة المحمولات الجمالية التصويرية في قصائد العجمي تثير الحساسية الجمالية في تلقيها والتفاعل معها، وكأنها قيمة تشكيلية تبرز الدلالات، وتحقق أعلى قيمة في تمثيلها، لاسيما بالصورة الاستعارية (جسر المنايا/ وقلب العشق لايثنيه خطب)، فالقارئ يتحثث المعاني الجمالية، ويستثير الدلالات والرؤى الشعرية، وهكذا يحقق الشاعر استثارة جمالية في محمولاته التصويرية التي تأتي قمة في المباغتة والجمالية الفائقة، وهذا ما نلحظه في قوله:

" لا للكروم ولا لفيء ظلالها

ما لم تبح بثمارها أشجاري

*

لا للحياة بأصلها وفرعها

ما لم تفح بعطورها أزهاري

*

لا للربيع لزهره ووروده

ما لم تغرد للضيا أطياري

*

بالشعر لا أشدو ولا ببحوره

ما لم تهم  بحروفها أشعاري

*

للنهر لا أسعى ولا بجماله

ما لم تمجد أرضها انهاري"(11).

هنا، يباغتنا الشاعر بالهندسة التصويرية التي تعتمد التوازي نقطة استثارة جمالية في تفاعل المحمولات الجمالية التصويرية، وخلق استثارتها المباغتة، فالقارئ –هنا- يدرك اللعبة الجمالية التشكيلية التي تثيرها الأنساق الشعرية، لتحقق قيمة تشكيلية عالية، تبرز من خلال مؤشرات المحمولات التصويرية البليغة، كمافي قوله:[ مالم تهم بحروفها أشعاري/ مالم تغرد للضيا أطياري]؛ وهكذا، تأتي المحمولات التصويرية مباغتة فياستثارة الرؤى والدلالات وتحفيز المنظورات الجمالية في تشكيل القصيدة، ووفق هذا التصور، فإن ما يغني الشعرية الحركة الجمالية التشكيلية المفاجئة التي تبثها الأبيات الشعرية لتحقق قيمة جمالية تأثيرية في النسق الشعري.

وهذا دليل أن المحمولات الجمالية التصويرية في قصائد وهيب عجمي متنوعة في مساعيها ومؤثراتها الجمالية من حيث تحفيز الأنساق الشعرية واستثارة الرؤى الجمالية التي تدلل عليها بلاغة الصور الموحية بالعاطفة الرومانسية التي تتناغم مع المدلولات والرؤى الصوفية في تعميق فاعلية الصورة الوصفية والمشهدية والتشكيلية المراوغة. وتبعاً لهذا تختلف الدلالات الشعرية، وتسمو بمؤشرها الجمالي لتحقق قيمة تشكيلية عظمى في خلق الاستثارة الجمالية.

وصفوة القول: إن شعرية المحمولات التصويرية في قصائد وهيب عجمي تتأسس على محفزات الصور الشعرية وتنوع دلالاتها ورؤاها، ومؤثراتها التشكيلية التي تسمو وترتقي تبعاً لفاعلية الرؤى التشكيلية التي تثيرها الصور الشعرية في نسقها الشعري، وهذا دليل احتفاء قصائد العجمي بالصور المحملة بالقيم والدلالات الرومانسية الآسرة،  لدرجة ترتقي الصورة آفاقاً إيحائية غاية في الاستثارة والبلاغة والتأثير.

رابعاً المحمول الجمالي المشهدي

إن الشعر باحتفائه بالمشهدية قد فتح المجال واسعاً للشعرية أن تمد جذورها الإبداعية في مختلف المؤثرات الجمالية التي تفعِّل الحركة الجمالية في بنية القصيدة المعاصرة، وهذا يعني أن الحركة الجمالية التي تثيرها المحمولات الجمالية المشهدية في بنية القصيدة المعاصرة قد أكدت أن ثقافة الصورة من مغريات القصائد الحداثية في تنوع المؤثرات التصويرية، فنشأت قصائد اللوحة وقصائد المشاهد المتحركة، وقصائد الكاميرا المتحركة وقصائد المشاهد البانورامية السيمائية في تشكيل اللقطات، لتكون الشعرية الحداثية اليوم شعرية اختلافية في منظوراتها الإبداعية وطاقاتها الخلاقة، لاسيما على صعيد تنوع المحمولات الجمالية المشهدية بالتناوب بين المشاهد الصامتة والمشاهد المتحركة والرؤى الوصفية والرؤى البصرية التي ترصد سيرورة المشاهد الحسية بواقعية وإدراك بارز يتضح للعيان.

وبما أن الشعرية اليوم كتلة متغيرات واستثارات تشكيلية فإن ما يغريها هذا الحراك الأسلوبي الجمالي على صعيد الرؤى الشعرية لتبرز بجمالية وإحساس إبداعي حقيقي، إذ إن الصور المؤثرة مشهدياً هي الصور التي تتنوع دلالاتها ورؤاها لتحقق قيمة جمالية عليا في تشكيلها.

والسؤال الذي نطرحه على خارطة التداول النقدي:

ماهي مغريات المحمولات الجمالية على المستوى المشهدي في قصائد العجمي؟ وهل محمولاته الجمالية مشهدية حسية ملتقطة من الواقع الحياتي المعيش أم أن مشاهده الشعرية متخيلة أو مجردة؟

يخطئ من يظن أن المشاهد الشعرية في قصائد العجمي حسية مرئية مباشرة، وإنما هي طاقة تخييلية تتأسس على فضاء المتخيل الجمالي في فكر الشاعر، فالفكر الجمالي الإبداعي المميز الذي يتملكه وهيب عجمي وراء هذا الحراك الشعوري والتوهج الإبداعي في مشاهده الشعرية، كما في قوله:

"باحت عيوني بسرٍّ كنتُ أكتمهُ

ورحتُ شعرَ بريقِ الوجدِ أبتكرُ

*

أبوحُ حبًاً بم يدلي به كبدي

وما استطعتُ بعينِ العشقِ أستترُ

*

قصائدُ العشقِ ماكانت لتكتبني

إلا لأنكِ في أزهارها العطرُ

*

كنارُ حبكِ ما غنى بأمسيتي

إلا وحرفكِ في إنشادهِ الوترُ"(12).

لابد من الإشارة بداية إلى أن شعرية المحمولات الجمالية المشهدية في قصائد العجمي تتأسس على بلاغة المشاهد الشعرية ومتحولاتها النصية، إذ إن المشاهد تتفاعل فيما بينها لتحقق قيمة جمالية تثير اللقطات لتبرز الرؤية الشعرية بالإجمال والتفصيل، فالشاعر بداية يرسم المشهد الشعري بقوله:[ باحت عيوني بسر كنت أكتمه]، وهذا المشهد حرك الرؤية الشعرية لتبرز الدلالات بوضوح :[ كنارُ حبك ماغنى بأمسيتي إلا وحرفك في انشاده الوترُ]؛وكأن اللقطات والمشاهد الشعرية الرومانسية بمحولاتها الجمالية تفتح باب الوصف السردي المشهدي للتعبير عن مشاعر الشاعر وأحاسيسه المتوترة.

واللافت أن المشاهد الرومانسية التي تثيرها قصائد العجمي تتوقف على بلاغة الصور، ومؤثراتها التشكيلية لتأتي قمة في التكثيف والاستثارة الجمالية لاسيما ببلاغة المحمولات الجمالية المشهدية التي تعزز شعرية القصيدة وتسمو بها مشهدياَ، كما في قوله:

"تكحلي يا بحورَ الشعرِ وانطلقي

مع عاشقِ النجمة الحمراء في الأفقِ

*

لا الشمسُ مشرقةً ترقى لطلتها

لا البدرُ يشبهها في برجها الألقُ

*

ولا السماءُ وما تحوي مظلتها

ضاهتْ شموخاً به ديني ومعتنقي

*

حريتي هي بل سميتها رئتي

وليس لي غيرها في زحمةِ الأفق"(13)

هنا، يثيرنا العجمي بالمحمولات الجمالية المشهدية، ليحقق قيمة جمالية تحفيزية ترتقي من خلالها القصيدة درجات من الاستثارة، والفاعلية،  واللذة الجمالية، كما في المشاهد المتضافرة التالية:[ تكحلي با بحور الشعر وانطلقي/ مع عاشق النجمة الحمراء في الأفق/ لا الشمس مشرقة ترقى لطلتها/ لا البدر يشبهها في برجها الألق]؛ ولو تأمل القارئ سيرورة الصور والمشاهد الشعرية لتأكدت له حقيقة مهمة، وهي أن المحمولات الجمالية المشهدية متضافرة فيما بينها في بث مشاعره الغزلية المتأججة في الوصف، أي إن اعتماد العجمي الوصف في ابتعاث حركة المشاهد يجعل الحركة المشهدية أشبه بالمتواليات المشهدية أو مصفوفات من اللقطات والمشاعر المتأججة بين الصورة والصورة، واللقطة واللقطة الأخرى، مما يدلل على شعرية مشاهده ورؤاه الشعرية التي تحيط بالموقف والحدث والمشهد الشعري.

وصفوة القول:

إن شعرية المحمولات الجمالية المشهدية – في قصائد العجمي- تتأتى من بلاغة المشاهد الشعرية وحركة الدلالات التي تبثها قصائد العجمي، فلايجد القارئ زوغاناً مشهدياً يحطم شعرية المشاهد، بل إن المشاهد الشعرية متضافرة فيما بينها في تحقيق قيمة جمالية تأثيرية عالية، مما يدلل على شعرية بليغة في حركة المشاهد الرومانسية التي تثيرها قصائد العجمي في الكثير من موحياتها ومؤثراتها الغزلية المفتوحة؛ وهكذا يرقى العجمي دلالات من الاستثارة والجمالية في قصائده لتحقق قيمة جمالية مؤثرة لا يرتقيها إلا من تغور فن الشعرية والاستثارة الجمالية في الخلق النصي.

نتائج أخيرة:

1- إن شعرية المحمول الجمالي الصوتي في قصائد العجمي تتحدد من خلال الائتلافات والمتناغمات والمتجانسات الصوتية التي ترقى درجات من التكثيف والاستثارة الجمالية، أي ثمة حزم صوتية متضافرة تشي بطابع القصيدة الصوتي الانسيابي المموسق، ليأتي المحمول الجمالي الصوتي قيمة بنائية جمالية في تحريك الشعرية من العمق.

2- إن شعرية المحمول الجمالي الانزياحي في قصائد العجمي تشي بإيقاعاتها التشكيلية البليغة والانزياحات الخلاقة التي تولدها على مستوى علاقة الكلمة بالكلمة والجملة بالجملة، أي ثمة ارتباط علائقي جمالي على مستوى الروابط والبنى الدالة في القصيدة لتسمو وترتقي إبداعياً في النسق الشعري. وهذه الانزياحات نتيجة المحمولات الجمالية الخلاقة التي تثير الحساسية والرؤية الجمالية البليغة في مدها وجمالها واندماجها النصي.

3- إن بلاغة المحول الجمالي التصويري في قصائد العجمي ينم على جمالية تصويرية فائقة في قصائد الشاعر لاسيما في محمولاتها الجمالية التصويرية التي تكون فيها درجة الانزياح حادة أو بليغة بين المضاف والمضاف إليه، أو بين المسند والمسند إليه، لتأتي الصور قمة في الترسيم الرومانسي الجمالي والمعنى العميق.

4- إن شعرية المحمولات الجمالية المشهدية في قصائد العجمي تتأتى من بلاغة المشاهد الوصفية وعمقها في استثارة الرؤية الشعرية من الصميم، فالذي يغني الحركة الجمالية في قصائد العجمي حياكتها النصية، وبلاغة مشاهدها التصويرية المتحركة لتؤكد شعرية المشاهد الوصفية لديه، وقدرته على الجمع بين المشاهد بطريقة تشكيلية بليغة الرؤى والدلالات والمشاهد الشعرية.

***

د.عصام الشرتح – ناقد سوري

............................

الحواشي:

(1) حني، عبد اللطيف- شعرية الانزياح وبلاغة الإدهاش في الخطاب الشعري الشعبي الجزائري( ديوان محمد ابن مسايب التلمساني أنموذجاً) ص39.

(2) عجمي، وهيب، 2018-وردة العشق، دار البنان، ط1، ص74.

(3) المصدر نفسه، ص73.

(4) محمد ويس، أحمد، 1995- الانزياح بين النظريات الأسلوبية والنقد العربي القديم، إشراف عصام قصبجي، رسالة ماجستير، مخطوط جامعة حلب، ص132.

(5) عجمي، وهيب، 2018-وردة العشق، دار البنان، ط1، ص80-81.

(6) المصدر نفسه، ص95-97.

(7) المصدر نفسه، ص102.

(8) عبد اللطيف، محمد حماسة، 1991- منهج في التحليل النصي للقصيدة، مجلة فصول، القاهرة، مج15، ع2، ص19.

(9) عجمي، وهيب، 2018-وردة العشق، ص71-72.

(10) المصدر نفسه، ص69-70.

(11) المصدر نفسه، ص97-98.

(12) المصدر نفسه، ص108.

(13) المصدر نفسه، ص110.

للشعر طريق مختلف في فهم الوجود ومنحى آخر في ملامسة وتحسس الموجودات والتفاعل معها، وفق رؤية فنية تساير الحياة في حركة دؤوبة، مما لاشك فيه ان المرأة مكون رئيسي في هذا الوجود، يعد دور الامومة أهم الادوار في حياة المرأة ودورا اساسيا في قيام المجتمع والحضارات فضلا على الادوار الاخرى الزوجة التي تساند زوجها وتمسك بيده وتشدّ عليها في وقت المصاعب..

ومع حركة الحداثة في الشعر التي تنشد الجديد ومحاولة لتجاوز كل ما هو تقليدي التي تناولت صورة المرأة، نبلها وانسانيتها وعفتها وكرامتها والمرأة الاخت والحبيبة وصور أخرى ورؤى واجراءات حداثية، فهي المرأة الانثى،والمرأة الفاتنة، أو المرأة الجسد، والمرأة الغريزة، والمرأة الراغبة والمرأة الممتنعة ..

وأنا أقف عند مجموعة (قلبي وطن وجسدك غابة) للشاعر سعد جاسم في طبعتها الاولى الصادرة عن دار لوتس للنشر والتوزيع القاهرة،2023 .

نجد الشاعر مصورا المرأة الانثى بجمالها وجاذبيتها وانوثتها مالكا لها قلبا وروحا وجسدا، تثير المرأة الانثى فيه شعور القوة وشعور الجمال ومصدر الوحي وطاقته الشعرية فهي الوطن والارض الذي لا يغيب عن ذهنه مهما ابتعد عنه، حاضره في القلب فكما يشعر بالإحساس والامان والدفء كذلك المرأة هي وطن .

غلاف المجموعة بغلافها الذي زين بلوحة فنية للفنان ستار كاووش عتبة ومدخلاً موحياً ومفتاحاً إجرائياً في التعامل مع النص في بعديه الدلالي والرمزي للولوج الى أغوار النص يتربع اعلا اللوحة العنونة الشعرية (قلبي وطن وجسدك غابة) كعتبة أولى التي تمتلئ بقيم النص مادام النص كما يوضح جيرار جينيت" مدخل له اهميته،يدفع القارئ الى حث الخطى والسير قدما نحو اكتشاف عوالم النص الشكلية المعنوية". فالعنوان هو النص المكثف،او نص قصير يختزل نصاً طويلاً1

جاءت المجموعة بإضمامة ثلاثة وعشرين عنوان: 

(قلبي وطن وجسدك غاب ) عنونة شعرية لافتة و بمثابة استهلال فني يحمل تصورات الحداثة حيث يعد من العناصر المهمة، لعل العنوان يعد اولى العتبات المفضي للنص ومن مناصاته المهمة وعلامة دالة تختزل عالما من الدلالات وهو مفتاح تأويلي يسعى الى ربط القارئ بنسيج النص الداخلي، عنوان استنبطه الشاعر من مضمون المجموعة مباشرة:

أما على مستوى النصوص فان اللغة،عند الشاعر سعد جاسم، ففيها من الجمال والصور الشعرية مليئة بالإنزياحات اللغوية ومن استعارة ومجاز واضداد وأنسنه للأشياء والامكنة ومفارقات لفظية تبهر المتلقي كما في بعض العنونة التي وردت في المجموعة: أغنية خضراء/ الإقامة في كتابك/ سرك في مراياه/ حالات غرائبية / عاشقان في طوفان/ امرأة تشبه القصيدة/ أنجز بعيدا/ قطط المواسم والطقوس / إشراقات عشقية / في مديح الأنوثة / ثنائية الفحل والأنثى/ حب في الأعالي/  حب بلا أقنعة/  قبلة موقوتة / أرسمك بالقهوة والقبلات/ أميرة الفصول وسيدتها القزحية/ امرأة الشهقة الأخيرة / أنوثة عطر/  غزالة الأبدية

قصائد المجموعة الشعرية تتنوع عتباتها العنوانية الا انها ذات مناخ شعري واحد يكاد يهيمن على تجربة قصائدها مناخ العشق للمرأة والوطن:

ان ما جاء به الشاعر نصوص حداثوية من حيث انها تتماشى مع روح العصر واعتماده في اشتغالاته تكثيف الجانب الدلالي لتحقيق الايقاع الداخلي من خلال جملة الانزياحات فضلا عن شعرية نصوصه تتجلى في العديد من قصائده:

أغنية خضراء

أنت الآن

تسكنيني قصيدةَ شغفِ

وقُبلةَ ولعٍ

وضحكةَ فرحٍ كوني

وأغنيةً فيروزيةً خضراء

دائما تترددُ أصداؤها

في صباحاتِ الله

(أنا لحبيبي...

وحبيبي إلي)

وتبقى تتصادي وتتلألأُ

في غاباتِ الوحشة

وفي حقول الخزامى

يرسم لنا الشاعر بلغة ابداعية نابعة من هواجس نفسية صورة المرأة الانثى وصور متعددة أمام المتلقي صورة لغوية تجديدية تعطي للقصيدة دلالاتها بعيدا عن السطحية المملة كما في قصيدته (الإقامة في كتابك)ص6

كمن يقيم في فردوس

أنا أقيم في كتابك

مشغولا بقراءةِ سيرتكِ

وتاريخ جسدك المليء

بالأساطير والوقائع والحكايات

والمكتنز بينابيع العطر والعسل

ومياه الخلقِ

والمكتظ بالرغبات

ونوتاتِ اللذّة

وقصائد الشغف

ياااااه كم هو شاسعٌ

وباذخٌ وممتلئ بالأسرار

أظهر الشاعر جماليته اللغوية في التصوير الشعري في التعبير عن العشق يتجلى ذلك في مقطع من قصيدته (عاشقان في طوفان) ص15:

أنا بارع في الحب

وأنت بارعة في الغواية

وأنا شاسعُ القلب

وأنت كثيرة ُ الاحلام

وكلانا عاشقان بسيطان

فتعالي كي نطير

بعيداً

فهذا العالم الجاحد

قد ضاق بنا

ولم يعد يستوعب أحلامنا

وبياض ارواحنا الرهيفة

اذ احسن الشاعر في اختيار المفردة كون الاختيار مبدأ من مبادئ المقاربة الاسلوبية وهو اختيار واع للكلمات يتجاوز حدود الكلمة المفردة الى التركيب او الجملة، يصوغ الكلمات المختارة ويركبها لتؤدي صورتها الادبية ووظيفتها الجمالية..

وعلى هذا النحو للشاعر سعد جاسم له طريقته في الكتابة واسلوبه في استخدام الادوات التعبيرية من اجل ايصال رسالته الى المتلقي.

***

طالب عمران المعموري

 

مقدمة: يحكى إنه في احدى الليالي من 1694 بينما كان معلم الهايكو الأول الشاعر الياباني ماتسوو باشو يلفظ أنفاسه الأخيرة وحيدا في ظلمة الليل وحلكة العزلة، وقد شارفت روحه على الوداع الأخير، وفي تحد  كبير لهذا الموقف الذي يدفع أغلب الناس إلى الانكفاء والاستسلام، أخذ ورقة شجرة كانت قد سقطت للتو، وكأنها في تما ه واضح مع موته، فكتب عليها:

مريض وقت ترحالي

وأحلامي تتجول طافية

 في الحقول الذابلة

وإذا كانت هذه اللحظة القصيرة جدا، والفارقة أيضا في حياة الشاعر، هي بداية شعر الهايكو، فهي بتعبير آخر موت تحققت معه الحياة. ومن ثم نستطيع القول إن هذا الشعر رغم بدايته تحت هذه اليافطة اليابانية المحدودة استطاع أن يتجاوز الحدود المسيجة والمانعة للثقافة في بعدها الإنساني، ليدخل جغرافيات العالم المترامية دون جواز سفر مدموغ.

ولم يكن له في هذه الهجرة الشرعية، بحثا عن آفاق أرحب، إلا زاد واحد ؛ إنه زاد الجمال مخلوطاً بطبيعة آسرة وحب دافق للحرف في تعبيره البسيط عن العواطف الانسانية.

وطبعا لن تكون الجغرافية العربية استثناء من هذا، فقد عانق الهايكو، كما سابقيه، جماليات الشعر العربي، ذاك الذي عرف عنه فرادته واختصاصه بالمطولات والقوافي.

فإلى أي حد استطاع الهايكو أن يجد لنفسه موطئ قدم في أرض عربية تعج بالشعر والنثر وتفتخر بتاريخ مجيد في الاحتفاء بهما خطابة ومقالة وتقريضا ونقدا؟

وهل وجد الوافد الجديد احتضانا من أهل العربية في ظل تنكر النقاد ل" الهايكو " إلى الحد الذي اعتبره البعض " فنا قصصيا بكلمات أقل " ؟

أولا - التعريف بالهايكو:

الهايكو بين "جينكجو" و"كيغو"

تعد قصائد الهايكو قصائد قصيرة تستخدم لغة حسية فتقدم للمتلقي نقلاً لإحساس الشاعر، أو صورة أثارت مخيلته فهيجتها ودفعته ليبدع تلقائيا.

وهناك من الباحثين من يعد الطبيعة أو المشاهدة الجمالية و التجربة المثيرة التي يعيشها الشاعر مصادر أساسية لإلهام شاعر الهايكو.

هذا النظام من كتابة الشعر ابتدعه مجموعة من شعراء اليابان، وتم تبني هذه الطريقة في الكتابة بكل لغات العالم إلى أن وصل إلى العربية. و تستخدم هذه القصائد في أصلها لنقل لحظة عابرة أو صورة مثيرة من الطبيعة: صورة ضفدع يقفز في بركة مائية، حبات برد تتساقط على أرضية، أو قطرات مطر تعانق وردة جميلة، ولعل هذا سر تفرد هذا النوع الشعري دون غيره.

لذلك ارتبط هؤلاء الشعراء بالطبيعة ارتباطا كبيراً، فكانوا يداومون على التجول فيها بحثاً عن الإلهام الشعري. وكانت هذه الجولات الاعتيادية عندهم تعرف باسم " جينكجو ".

وفي هذا يبدو التقاطع واضحا مع المذهب الرومانسي في الشعر والأدب الذي شغف أهله

بالطبيعة حيث عدها المبدعون منبعا سخيا لتحريك دواليب الابداع واشعال نار البوح الخامدة، بل بالغ بعضهم بأن ردها حلا للمصائب والمشاكل، وهو ما عابه عليهم البعض، وكأن في ذلك هروب من المجتمع المتحضر وتبعاته، ومعانقة البدائية في تجليها الواضح ارتباطاً بالطبيعة.

أحد شروط الهايكو الكلاسيكي هو أن يضم " كيغو " باليابانية أي كلمة تدل على موسم من المواسم المعروفة أو تحيل عليه. ويقوم شاعر الهايكو أو الهايكيست، عن طريق ألفاظ بسيطة بعيدة عن التأنق

، بوصف الحدث أو المنظر بعفوية مطلقة، ودون تدبر أو تفكير تماما كما يفعل الطفل الصغير.

ألم يقل الشاعر سامح درويش ذات يوم عن كتابة الهايكو " الهايكو أن تكتب كطفل لكن بخبرة شيخ "

يقول الشاعر جمال مصطفى:

الهلال الذي

يتلامع في غابة الخيزران

مجرد منجل

تنطلق الألفاظ بطريقة عفوية وفورية، فتعطي صورة تكون محسوسة. وفيه أيضا يأخذ الشاعر

المتمرس الأحاسيس والمشاعر والانطباعات المتدفقة داخله في حينها وفورها اللحظي، ليعرف كيف يصبها في قالب شعري هايكوي.

يقول بوسون وهو واحد من أعمدة الهايكو:

أصبع البناّء

المجروح

وزهور الأزاليا الحمراء 

يقول الشاعر سالم إلياس:

فراشة بيضاء

تئن

لهب شمعة

ثانيا: الهايكو العربي بين المحافظة والتجديد

الهايكو العربي عموما لم يلتزم بضوابط شكل قصيدة الهايكو اليابانية، بل أحياناً خرج أيضاً عن إطار التصوير الشعري الخالص،إلى الطرح الايديولوجي الذي يتنافى مع قواعد الهايكو الأصلية.

وهناك من يعد المؤسس الأصلي لقصيدة الهايكو العربي المعروفة كذلك باسم (التوقيعة الشعرية) الشاعر الفلسطيني عزالدين المناصرة عام 1964 في قصيدته المعروفة باسم هايكو تانكا.

يقول فيها المناصرة

(هايكو):

… يا باب ديرنا السميك

الهاربون خلف صخرك السميك افتح لنا نافذة في الروح.

(تانكا):

أجاب شيخ يحمل الفانوس في يديه  يوزّع الشمعات

على نثار دمنا المسفوك وحين سلمّنا عليه

بكى... واصفرَّ لونه… ومات.

" إن الهايكو لحظة جمالية لا زمنية في قصيدة مصغرة موجزة ومكثفة تحفز المخيلة على البحث عن دلالاتها، وتعبر عن المألوف بشكل غير مألوف عبر التقاط مشهد حسي طبيعي او إنساني ينطلق عن حدس ورؤيا مفتوحة تتسع لمخاطبة الإنسان في كل مكان، من خلال ومضة تأملية صوفية هاربة من عالم مادي ثقيل محدود ضاق بأهله حتى تركهم باقتتال ومعاناة، بسبب هيمنة حضارة مادية استغلت الإنسان وداست على كرامة روحه وحرمته الأمن والسلام. مما جذب انتباه الشباب الواعي ولفت المبدعين إلى أهمية البحث عن السلام الداخلي المفقود، من خلال الاقتراب من الروح وجوس عوالمها عن توحش العصر وتغوّل احتكاراته وجشعه.بحثا عن صفاء فضاءاتها وسمو هدوئها وتجلياتها بعيدا عن اللامتناهي في التعامل مع رغبات النفس وشهوات الجسد وظلم القوي على الضعفاء" ¹

وتؤكد الدكتورة بشرى البستاني على أن الأهداف الجمالية الصرفة وحدها تحرك كتابة الهايكو، وأنه بعيد عن الايديولوجيا بمعناها الضيق. وهذا ما لا يحترمه العديد من كتاب الهايكو المعاصرين، ذلك أنه، وكما تقول فإنه أمام رحابة الجمال وشساعته، تندحر الايديولوجيا بضيقها ومحدوديتها. " ولما كان للفنون أهداف ومقاصد إنسانية تؤشّر توجهاتها، فإن أهداف الهايكو كانت جمالية رؤيوية، وليست أيديولوجية ضيقة، وأمام الجمال تندحر الأيديولوجيا وتنهار حدودها والقيود، ولهذا كانت حركته حرة في اتجاهات عدة ولعل في اختلافه عن شروط الشعرية المتعارف عليها عربيا وغربيا ما يفسر بعض ذلك أولا، وثانيا يكاد يجمع نقاد الهايكو – وأشك في ذلك – أنه يتسم بسهولة اشتراطاته البنيوية التي تتلخص في كون شروط كتابته لا تتسم بالعسر والتعقيد، بل تتكون بنيته من جملة شعرية تتوزع على ثلاثة أسطر ذات تشكيل موجز باقتصاده اللغوي وتحرره من ملحقات التزيين، لكنها ذات طاقة مكثفة قادرة على إطلاق دلالات عدة يتيحها تعدد القراءات وتباينها، وقد تقوم لغته على المقابلة والتوازي والمفارقات لدى مقاربتها نقديا، وعلى اكتنازها لحظة جمالية يشتبك فيها الساكن بالمتحرك وهما يلامسان فاعلية المادة وحيويتها من خلال ملامسة الوعي الإنساني لها، وقدرتها على البث الدلالي حال تشكيل العلامة، فالعلامة تتكون من عنصرين، مادي مقروء أو منطوق مسموع، ومكون ذهني يعمل بتنبيه من الدال على تشكيل العلامة"².

ومن جهة نظر سامح درويش، الذي يعد واحدا من أبرز الهايكيست العرب، وله ديوان هايكو أصدره سنة 2015 تحت عنوان " خنافس مضيئة "، فإن أهم خصوصيات الهايكو العربي تتمثل في وجود نفحة غنائية وجرعة من المجاز وحضور ذات الشاعر بشكل أقوى من باقي تجارب الهايكوعبر العالم، يضاف إلى ذلك الخروج على التوزيع الايقاعي المعروف في اليابان (5-7-5) نظراً لخصوصية اللغة العربية.

وفي حديثه عن الخصائص، يؤكد سامح درويش على البساطة والآنية لأنه لابد من الإبقاء على روح الهايكو ممثلة في ركيزتيه اليابانيتين، فيتحقق التجلي المرهف لذات الهايكست، وتخليه عن زخارف البديع، دون اهمال روح البلاغة المتجددة، أيضاً بما يحافظ على هوية الهايكو التعبيرية، ويبقيها معزولة عن أشكال شعرية متماثلة لكنها مختلفة، مثل الومضة والشذرة الشعريتان، بل حتى القصة القصيرة جداً التي يمكن أن تعطي انطباعاً أحياناً بأنها هايكو. لكن شتان بين هذه وذاك، فللهايكو مقوماته الفنية والجمالية التي تختلف كثيراً عن مقومات وجمالية القصة القصيرة.

وينوه الشاعر إلى أمر مهم وهو أن ثمة الكثير مما يكتب في مشهدنا الشعري العربي اليوم تحت مسمى الهايكو، لذا لابد من التمييز بين فئات ثلاث:

الأولى: تتمثل في أولئك الذين يحاولون كتابة الهايكو وفقا لقواعده واشتراطاته الجمالية المتعارف عليها، بل ويتوقون إلى التجريب داخل هذه القواعد والاشتراطات، وهم من يستطيعون مضاهاة شعراء الهايكو الحقيقين في الشعريات الأخرى، وهم أيضاً إما أتوا إلى الهايكو من تجربة وخبرة شعرية سابقة، أو جاءوا إليه من تجارب شعرية أخرى.

الفئة الثانية: هم من يعتقدون أن الهايكو هو تلك الأسطر الثلاثة، ومن بينهم شعراء لهم أسماؤهم، فتبتعد قصائدهم عن الهايكو، لتنتمي إلى أشكال شعرية قريبة من الهايكو من حيث التكثيف، مثل الشذرة والومضة والحكمة وغيرها من الأنواع الأدبية القصيرة.

ويسهم هؤلاء في خلط أوراق هذا النوع الشعري ويشكلون ذريعة لمن يرفضون وجود الهايكو ضمن رقعة الشعرية العربية.

أما الفئة الثالثة فهي تلك المحاولات التي تقوم بها فئات عريضة من الشباب على سبيل اكتشاف هذا اللون الشعري والاقتراب من عوامله وتقنياته. هنا يرى درويش أنه " في اقبال هذه الفئة على تجربة كتابة الهايكو أمراً إيجابيا، على اعتبار أن اللغة هي في النهاية ملك عام يتاح به التعبير للجميع، وأن كتابة وتذوق الهايكو قد يشكلان مدخلاً للاقتراب من الشعر عموماً " وبالتالي فإن ذلك يسهم في استعادة الشعر العربي جمهوره، بحال أو أخرى.

ومن شعراء الهايكيست في الجزائر أيضا نذكر الشاعر عاشور فني صاحب " ما بين غيابين نلتقي " و مجوعة " أعراس الماء " التي صدرت بلغتين: العربية والفرنسية سنة 2003. وتعتبر تجربته رائدة في هذا المجال.

يقول عنها للجزيرة نت: " كان ذلك هاجسي في كتابة القصيدة بعيداً عن الاطناب والوصف الخارجي، معتقدا أن هناك رسما سابقا للكتابة يتعين ازاحة الغبار عنه بالكلمات، على عكس ما هو شائع أن الكتابة رسم بالكلمات. لقد ساعدتني أسفاري عبر اللغات وعبر العالم وقراءاتي المستمرة للتقاليد الشعرية في الثقافات المختلفة بالاطلاع على تجربة القصيدة - النفس، ذلك هو روح الشعر " ³

يتابع " في كتابة الهايكو تختفي تقاليد البلاغة التقليدية من استعارة وكناية وتشبيه، الٱن الرهان هو الجمال الحي المباشر للبلاغة لا صورتها العربية ".

يقول فني في أحد الأبيات:

"إنني أحفر الأفق شوقاً لزرقتها العاليه

وأصوّب أوردتي ضد هذا الزمان، وأنزف كالساقيه".

وفي تعليق على منحاه الشعري يقول عبدالرزاق بوكبة:

"القصيدة عند عاشور فني ليست رقصا باللغة وعليها لتوسل صورة تثير التصفيق، بل هي حالة وجودية عميقة يخلقها التأمل وتخلقه في الوقت نفسه " ⁴

***

عبد الله علي شبلي كاتب وناقد من المغرب

..................

هوامش ومراجع معتمدة

1. د. بشرى البستاني " الهايكو العربي بين البنية والرؤى مثبت في موقع مجلة رسائل الشعر.

Poetry letters. Com/mag.

2. المرجع السابق

3. حوار مع الشاعر سامح درويش لفائدة الجزيرة نت. تحت عنوان " الهايكو أن تكتب كطفل، لكن بخبرة عجوز " بتاريخ 2دجنبر 2018 - حاوره عبدالمجيد أمياي وجدة.

4.مقال تحت عنوان " الشاعر الجزائري عاشور فني والتحليق باللغة " عبدالرزاق بوكبة على موقع. الجزيرة نت مثبت بتاريخ 5 أبريل 2014.

يسبح مجازا بلباس القمر الصوفي

نبدأ بمقاربة قصيدة الشاعر رياض الدليمي بتفنيد عنوانها الدّال بكلماته الثلاث على مكنونها، وهو "أسبح في العدم".

 أولا: مفردة السباحة تعني الإبتعاد، فالسبح في اللغة هو فعلُ مباعدة الشيء عن الشيء الآخر، فبدء البوح في أبيات الدليمي هو بدء السبح بعيدا من عاديات المكان الجغرافي المثقل بديموغرافيته، وبعيدا من التاريخ المعاصر المطعون بغوغائيته، وبعيدا أيضا من الفؤاد المكابِد الباحث عن لوحة جديدة تجمع بين الإنطباعية والطبيعية والتجريدية والتفكيكية، كما تجمع في البحث عينه، بين التراث والتراب، وبين الكون واللون، وبين أسطورة العَرَاقة وأكذوبة العرّافة.

ثانيا: حرف الجرّ "في"، يختلف بالمعنى عن حرف الجرّ "من"، فسباحته ليست من العدم، بل فيه أي بداخله، وهو خوض وجودي قد يقارب مفهومين: مفهوم الفناء، ومفهوم الخلاص.

ثالثا: مفردة العدم تندرح تحت القسم الثالث من أقسام العقل الثلاثة وهي:

1- الواجب العقلي.

2- المستحيل العقلي.

3- الممكن العقلي.

والممكن العقلي هو ما يُتصور في العقل وجوده طورا وعدمه طورا آخر، كسائر المخلوقات. وبذلك ينطلق الشاعر بهذه المفردة إلى رحلة العقل عبر مركبة الشعر نحو  محاولة سبر أغوار الموجود والمعدوم، وأيضا نحو اختبار مفاجأة الوجود بعد العدم في هذه الحياة، ومعاينة خبر إنعدام الوجود عن هذه الحياة.

 وبالدخول إلى عرين القصيدة، نجد إنّ الصورة المستعارة في أبيات الدليمي، تختصّ القمرَ، وتبتعد من النمطية التقليدية في توصيفه، أي تلك النمطية التي تستلّ منها أقلام الشعراء، بالعادة، أوصافها التصويرية، من دلالات الجمال والشوق والسهر والجوى. إنها تسبح وتبتعد وتمضي، لتتجه صوب أسرار الصوفية والدوران الإستكشافي الداخلي للنفس، في محاولة لإستكشاف مخابىء العقل ومكاشف القلب ومسائل الوجود.

 نختارمن أبيات قصيدته هذه:

"كيف سيسعفني القمر؟

هو فانٍ مثلي بلباسه الصّوفيّ

زاهد في الأعياد"

من هنا، فقد رمى الدليمي صورته الكيانية الإنسانية على "كاهل" القمر، وتلك بكل بديهية، رمية صورية مجازية غير تماثلية، قام بها الشاعر، كي يرى أمام عينيه وداخل كشّاف البدر الضيائي التماثلي التخايلي، غراسا لا تشبه وردة اللوم واليأس والأمل والذكرى، غراسا تنتمي إلى تربة ضوئية تعبيرية واحدة،  تشكل بمتناقضاتها، حال الرامي نفسه وخطابه ونجواه في القصيدة. وهاهو ينشد أيضًا:

"أضرب الدّف حتى لحظة المحاق

ينام المغني الفارسي

نعزف لحنا مسروقا

من أغاني فلاحي شيراز"

 ويقول أيضا:

"هربت من صراخ القصب

ورئة ألوان الهور"

 إنّ مفردات  ثقوب الناي، والدّف، والفارسي، والشيرازي، والهور، والفلاّح، والمخاض.  كلها تيّمات تحمل في قصيدة رياض الدليمي مفاتيح رمزية ووجودية متداخلة الإنتماء والإنعتاق، وذلك ضمن جوهر دلالي متشابك ومتفرّد معًا، بحيث يحتاج منّا هذا الجوهر، متابعة تفصيلية إلى كل مفتاح منها، كي نصل إلى الأبواب المنشود فتحها لرؤية ما وراءها، وما تكتنزه من إمارات الرويّ والترميز والمواربة والإيماء.

لا شكّ في أن الابعاد الوجودية والوجدانية والفنية والعاطفية والسياسية المتاحة في القصيدة، لا يمكن حصرها بمقالة، لكنّ ختام البوح، يبدأ عند الدليمي ولا يُخْتتم، فقد سأل الشمس إنْ نسيت ذاكرته، مُلمّحا إليها بخطاب المجاز أنها سوف تجد في أسرار النجوم شيفرة هذه الذاكرة. كما إنّ إفتتاح البوح لديه، إختُتِم بمخاطبته للأنا: " إنساني، يا أنت". 

***

 غادة علي كلش -  كاتبة لبنانية

مقالة نقدية للعرض المسرحي "جنون الحمائم" تأليف واخراج د.عواطف نعيم

أَوْلى النقادُ اهتاماً كبيراً بسيميائية العتبةِ الأُولى للمنجزِ المسرحي الإبداعي، نصاً، وعرضاً، يتصدرها العنوان بوصفه المفتاح المركزي لاكتناه خباياه الجمالية، وبُنيته القصدية، واتساق وانسجام مثاباته، والمرشد الأمين لوضع ملامح حراكٍ نقديٍ يُبْدِعُ نصاً آخرَ يوازي ما تم قراءته أو مشاهدته باتجاه الهَرم النقدي، وإعلان نتيجة المنازلة التأويلية المتناسلة بتأويلات تنتج ثوابتا وتصورات أخرى.

وعلى غير العادة!! وجدنا أن العتبة الأساسية للعرض المسرحي"جنون الحمائم" هي البروكرام الخاص بالعرض، وهذا ما اعتدنا ملاحظته لدى "د.عواطف نعيم" فكل ما تقدمه هو مجموعة عتبات تأخذ بِيدك حيث الذروة لتجتمع لديك التأويلات وعلى إثرها يُنتَج وعيك المتوالد من خلال هذا الوعي الذي شاهدته بطريقة الحثِّ والإستفزاز.

حيث وجدنا البروكرام ومن خلال إطلالة الوجوه الأربعة لمؤلفة ومخرجة العمل بصحبة أبطاله الثلاثة، وبتشكيل موضعي بصري مغاير كشف عن ولادة عسيرة بعد مخاض مضنٍ عاشته تلك الوجوه التي كانت تحمل وهجاً مضيئاً فارقاً أوحى لأسماعنا بصوت ملائكي كصيحة جبرئيل "نحن نمضي قدما باتجاه ما نؤمن به وبما نعتقده" نمضي قدماً باتجاه الشمس التي نحن أحد مخرجاتها المعنوية الفاعلة، نمضي لنظيء، ولا يعنينا ما يحاك خلفنا من هوس ظلامي، لأننا مصدر للضوء، فالضوء فينا أصالة، ونحن من يبدد الظلام بتحولات وانتقالات فكرية نؤججها لدى المتلقي بما نملك من وعي وجنون أسمه المسرح.. وهذا ما أعلنته صورة البروكرام صراحة رغم العتمة المتراكمة كقطع الليل خلف الشخصيات الأربعة التي تحاول أن تقضَّ مضجع النور، إلا أنّها أي العتمة السوداء ومن غير أن تَعِيَ، لجهل ذاتي وموضوعي ساعَدَت في توهج ذوات الأربعة إبداعياً كَمَنْ يريد أن يُطفئ جذوةً مشتعلةً بالنفخ عليها إلا أنّه ومن غير إرادة منه يضخ الوهج في مستويات ضيائها وانفعال حضورها البصري. ﴿يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ﴾ (8) الصف لينتهي البروكرام بعبارة نطقت بها دلالاتٌ مبثوثة ومعبأة في جوفِ العلامة (الصورة) بتحدٍ تحريضي على الجمال.... "نريد بهذه الاطلالة ان نلجم "سوء تفاهم" "ألبير كامو" المُتوقع في حياتنا التي نعيشها ونخرسه بل نُجفف مصادر تأويلاته بخلق لغات مشتركة مع الآخر".. سوء التفاهم العراقي الذي مصدره انقطاع التواصل مع الجمال، انقطاع حجِّ الأقدام المباركة إلى جنَّةِ الله في أرضه، خشبة مسرح الرشيد وبقية أخواتها في بغدادنا الحبيبة، إنّه التواصل الثقافي والفكري والاجتماعي الذي يخلقه المسرح الذي نحن أبطاله ورواده وفرسانه من خلال "جنون الحمائم".. جنون العراقي إذا أراد أنْ يكون.. إذا أراد أنْ يبدع.. إذا أراد أنْ يُبدد الظلام إلى غير رجعة.

وكذلك، صورة أخرى مُسْتَقاة من صورة البروكرام وجدناها ماثلة في أعماقنا الباتافيزيقية "مرحلة ما بعد الميتافيزيقيا" هذه الإطلالة الغير متوقعة لشخصيات "سوء تفاهم" الأصلية بعد غيبة طويلة محلياً، وعربياً منذ القرن الماضي أتَتْ وهي تفصل الضوءَ عن العتمةِ وكأنها قد أحدثت شَقّا في كفنها حيث الظلام، واللاشيء، واللاجدوى، وانطلقت باتجاه الضياء حيث خشبة المسرح والوجود والفاعلية والجدوى، لتُعْلِن العلامة السيميائية (ابتسامة الموناليزا) الفاترة للشخصيات الأربعة بكلمات شكر عظيمة طوقت بها عُنقَ الكاتبةَ والمخرجةِ العظيمةِ د. عواطف نعيم لِما قدمته من جهد كبير لإحياء هذا النص الممتلئ وبعث الحياة في أوصال هذه الشخصيات الجدلية الأربعة، ونفض غبار التجسيد عن النصِّ الذي يَرى فيه كامو أنّ مصيره هو أكثر ما يُقلق الكاتب في أن تموت نصوصه ما إنْ يُعلن نَعيه في الصحف، ونزيد عليه في شريط العناوين في القنوات الفضائية، وصفحات الفيسبوك.

في نهاية ما اكْتَنَزَه وعينا حول صورة البروكرام تأويلاً، ودرايةً، وانطباعاً، نجد أن د. عواطف نعيم أرادت إعلان عودة الحياة المختطفة على حين غرّة من بين الأيادي الطاهرة، وأنّنا لابد أن نعيشها وإنْ تراكمت مآسيها الماضية والحاضرة ومن خلال المسرح بالذات لأنه منطقتنا المناسبة، هذا المسرح الذي آمنت به الدكتورة وبقية كادرها بأنَّه خيرُ وسيلة للتواصل مع الناس واستدعائهم لقول كل ما هو معفو عنه، أو غير مصرح به بطريقة "إياك أعني واسمعي يا جارة" أي نعم بشيء من المواربة والمناورة من خلف حجب نصً أجنبي فرنسي بلغة ثورية، إلا أنّ هذا النهج هو نهج مهم وهو ما يناسب هذا المقام والظرف الذي نعيشه، فقد اعتاد الكبارُ عليه درامياً لاعتبارات إجتماعية وسياسية.. وليس المجال مناسباً في هذا المقال للخوض في غمار هذه الاعتبارات. مع ملاحظة أن جميع عتبات هذا العرض المسرحي هي انطلاقات تثير شهية الناقد ودهشته لتناولها بكم كبير من الاهتمام النقدي، التحليلي، التأويلي، التقييمي لما لها أي تلك العتبات من حيز مهم في أبجديات وجودنا الإنساني.3574 جنون الحمائم

حقيقة، تضمن العرض خطابات عديدة، أينما وضعت يدك فثمة خطاب يحيلك عند حياة منسية متلاشية عشتها وتعيشها وستعيشها وربما ما زِلتَ عاجزاً عن فك شفرات بعض من همساتها الماكثة في أعماق الذاكرة وهي تُثَوِّر لديكَ الحاضر بإيقاظ الماضي بإسقاطات ذكية باتجاه المستقبل كما في قول "آرثر دانتو" " من أولويات حراك الفنان التنويري، إعادة الإعتبار للأشياء المنسية والمتلاشية". وكأنَّ العرضَ يريد أن يقول مخاطباً المتلقي : لا تبتئس.. فثمة حلول ستجدها هنا.. تعال، اقترب، أدنو، ضع يدك في يدنا لنصنع مستقبلاً جميلاً ينطلق من بوابةِ المسرح بإعلانِ الحياة، وجعل ما مضى وتلاشى درساً بليغاً يتعظ الجميع من خلاله.

تناول العرضُ فترةً قاسيةً عاشها الوطن إبَّانَ الحربِ الأهلية التي أكلت أخضرَ يابسنا ويابسَ أخضرنا كالنار في الهشيم، فكان من نتائجها القتل على الهوية وهجرة الشباب والعوائل بطريقة إنفجارية خارج أسوار دائرة الموت الحتمي.. حتى ظنَّ البعض أن العراق أُخلي من أبناءه طلباً للسلامة، وديمومة البقاء، وحياة أكثر حرية لا قتل فيها.. لكن الحقيقة هي زيادة في تفشي اللاتواصل والانغلاق وتفسخ المجتمع وانحلاله وانعدام قوة نسيجه التي عُرف بها في فترات ماضية كثقافة عامرة بطيب العلاقات التواصلية مَيَّزَتْه عن بقية جيرانه على الأقل.

الحكاية

بتأريخ 18/7/2023 من يوم الثلاثاء الماضي قُدِّم علىٰ مسرح الرشيد العرض المسرحي المهم "جنون الحمائم".. بالتعاون مع دائرة السينما والمسرح التابعة لوزارة الثقافة العراقية.. عن النص المسرحي (سوء تفاهم) للفرنسي الراحل "ألبير كامو" الحائز على جائزة نوبل.. إنتاج وتقديم المعهد الفرنسي في بغداد. وحسب علمي هو ثاني نص فرنسي تقدمه الكاتبة د. عواطف نعيم للجمهور من خلال تعريقه واعداده بعد "الصوت الإنساني" ) انتظارات مرّة) ل "جان كوكتو".

اتخذت "د. عواطف نعيم" طريقة درامية مُثلى في التعامل مع نص "البير كامو" بطريقة التحولات الجمالية الإبداعية لانتاج الدلالات من خلال علامات مجالها النفس البشرية وبواطنها (الأنا) بإحالات لها بيئتها لدى المتلقي انطلاقاً من عنوانه "سوء تفاهم" الذي كانت نتائجه لديها "جنون الحمائم" لتقدمه بلغة محلية بسيطة خالية من التعقيد، وبنية مرنة، لذا استطاعت وبذكاء من زج النص في المناخ المحلي ليغادر العالمية مع الإخلاص للفكرة الأم بتداخلات جمّة ونسق مخيال، أي إنتاج ذاتي وموضوعي للعلامات من خلال أسلوب المعالجة الواعية للنص وأحداثه بهواجس عراقية صرفة والتي أعطت للكاتبة عنصراً حيوياً في بثِّ خطاب وطني متنوع يتلائم والتجربة العراقية على المدى المنظور بطريقة المحو والإحلال، لا بتسطيح الأحداث وسذاجة طرحها، بل بتحويل النص من أفقه الساكن البديهي لدى المتلقي إلى أفق جديد متحرك، ومتصاعد بعديد رؤى وقيم ومفاهيم ضمَّ في آفاقه المتشظية النص الأصلي أولاً والواقع المعاش ثانياً، أي إنّ الكاتبة لم تستسلم للخط الأفقي للنص كحقيقة ماثلة في أذهان القرّاء أو ممن شاهده كفيلم سينمائي عربي، أو أجنبي، بل حولته إلى نصٍ أخر بروح عراقية ومع هذه الروح العراقية لم تستسلم أيضا لتسطيح الأحداث بمثاليات جبانة يفتقدها واقعنا، بل ذهبت بعيداً باتجاه العمق الاجتماعي والسياسي وإعادة الحياة لكثير من القضايا بطريقة فيزيكيميائية بتفجير أصابع ديناميت اليومي الرتيب واحدا تلو الآخر من خلال عود ثقاب نحسبه صغيرا وهو كبير بفعله وأثره.. تلك القضايا التي احتفظ بها التأريخ في صندوقه الأسود بشيء من الكتمان والسرية، على اعتبار أنّ كثيراً من حيثيات حياتنا البائسة، وسلوكياتنا الهجينة في الوقت الحاضر هي نتاج لهذه القضايا التي يحاول البعض طيّها لإخفاء بصمات جريمته بجعلها جريمة كاملة وهذا ما يؤكد غاية وهدف المسرح المشروع، في الجرأة والتصريح وكشف الحقائق.. نزولا عند رأي "برخت" وهو يقول "أنا أدعوا إلى مسرحِ يُثَوِّرُ الواقعَ لا أن ينقله كما هو" وفي قول آخر ل "ماركس" حيث قال "انحصر جهد الفلاسفة في تفسير العالَم والواجب هو تغييره" وهذا ما شرعت بأدلجته الكاتبة عواطف نعيم في تفاصيل جنون الحمائم كفلسفة راديكالية تغييرية مفاهيمية بمشاكسة الواقع لتغييره بطريقة إيقاظ الأسئلة وتثويرها داخل ذواتنا وخارجها بجعلنا اداةً ومستهدفاً لنفض غبار تلك الأسئلة.. وهو ما دَرَجَتْ عليه أيضا في كل تحولاتها النصية والإدائية قبلاً وبعداً لإيمانها العميق أنّ المسرح أداة فاعلة في إحداث زلزال ينسف كل قبحٍ من خلال إحلال الجمال بطريقة الهدم ثم البناء.

اعتادت د. عواطف نعيم في رسم منجزها التحريضي الجمالي إعداداً وتأليفاً وإخراجاً وحتى تمثيلاً بجمع شتات الماضي ملغوماً بجنون الحاضر وجنوحه الملتاث، مصوبة نيرانها الدرامية باستقراء مغاير على أبواب عقولنا لتفتحها على مصراعيها بالتوالي بانسيابية البايوميكانيك الهارموني المتقن هندسياً وهي تقول وفقا للعبة "المحيبس" الشعبية العراقية (طلك، طلك، طلك) مشرعة درفتي تلك الباب على أسئلة مهيمنة لا نجرؤ على إهمالها، بل الوقوف عندها ملياً وبذل الجهد المضاعف لوضع النقاط على الحروف وإيجاد الإجابات لها بصرخة مدوية (وجدتها) أو على الأقل مناقشتها على طاولة شفافة ومستديرة بشرطِ إدانةِ ذواتنا أولاً، لأنَّنا جزء حيوي من الألم الذي تعيشه أناة "د. عواطف نعيم" التي هي في حقيقة وجودها مرآة باصرة سامعة بإحساس عالٍ لصراخنا ووجعنا الجمعي في ظل ظروف وأجواء ساخنة صنعها تخاذلنا.. وهذه هي مهمة المثقف والفنان الكوني في اللدغ، والوخز، والاستفزاز، الذاتي والخارجي، ووضع النقاط على الحروف صراحة، وبشجاعة فائقة.

في لقاء صحفي ل "كامو " قال ما يؤكد تناسخ التجربة (الكاموية) وظروف الكتابة زمنيا ومكانيا وتواصلها مع تجربة المبدعة د. عواطف نعيم بما نصه ﴿من المُؤكَّدِ أنّ "سوء التفاهم" هي مسرحية قاتمة، كَتَبْتُها في بلدٍ مُحاصَرٍ مُحتلٍّ، بعيداً عن كل ما أحب، وباريس تهتز لوابل قنابل الحلفاء والنازيين معاً﴾ حيث يستبين هنا نزولاً عند قول كامو التواطؤ والمقاربة بين الظرف العام زمناً ومكاناً وروحاً وأجواءً ل "سوء تفاهم" مع "جنون الحمائم" وكأن كامو عند حدود المنجز المسرحي جملةً وتفصيلاً هو ذات عين د.عواطف نعيم في 2003 و2006 وحتى يومنا هذا من قتل، ورعب، واحتلال، وانحلالِ قيمٍ مجتمعيةٍ، وما إنْ تخرج يدك لم تكد تراها سوى وهي تقبض على رسالة تغوص في أعماق لهجتها رصاصةُ تهديد ووعيدٌ بالقتل، أي أن البعد العبثي الذي ثَوَّرَ وخلق نص "سوء تفاهم" مجايل وملازم واقعياً وزمنياً ومكانياً وفلسفياً وتخيلاً للبعد التنويري لنص "جنون الحمائم".

انطلقت د.عواطف نعيم وبشكل مغاير لنص البير كامو من ثيمة الموت بشكل درامي فاجع وصادم بأسلبة كاسرة للتوقع لدى المتلقي لتحقيق الدهشة التي هي الغاية الجمالية التي يتتبع أثرها كل مبدع صاحب رسالة.. حيث أطلّ الخادم علينا وهو يتجول قلقاً، خائفاً، حائراً لا يستدل طريقه، حاملاً جثة مجهولة أرْهَقَهُ ثُقل حمْلها مادياً وثُقل خطيئته الفادحة معنوياً، تلك الخطيئة التي قوست ظهره وأبطأت من خطواته.. عَلُقَتْ هنا صورة غاية في الروعة والجمال في كامِن شعورِ المتلقي فصّلها الميزانسين بتقنية هندسية رائعة بوجود الممثل "عزيز خيون" وسط الخشبة وخلفية سينوغرافية متقنة الدلالات بإحالات فكرية ناحية الغابة وانفلات القانون ومعنى الحياة الضبابي فيها عند جزئية الدخان المنبعث من الكالوس اليمين بلغة ظاهرة واضحة مفادها البقاء للأقوى والقتل من أجل البقاء وهي صورة واقعية بأننا كنا نعيش وسط غابة شائكة ملغومة بالحيرة والموت في كل تفاصيلها الافتراسية، حيث أوحت حركات الخادم جيئة وذهابا والتفافه حول ذاته وعظيم حَيْرَتِه رغم اتساع الخشبة واتساع مقاعد المتفرجين والفضاء العام للقاعة إلا أنه أجبر إحساسنا بأننا نعيش وسط أزمة كبيرة، أزمة مكان تصل القلوب فيها لدى الحناجر نحاول التخلص منه أي المكان بشتى الوسائل نحو مكان آخر أرحب يُخفي حصاد واقعنا المر وإنْ كانت هي مغامرة بحد ذاتها فجميع الأماكن كانت آنذاك في مرمى الزائد تفضي الى الخراب.. ليمارس "الخادم" هنا مرة أخرى سلطته الحكائية في إجبارنا على مجاورته السكنى وسط متر في متر والنافذة خُرْم إبْرَة لا يطلُّ منها سوى صراخٌ وعويلٌ واحتجاجٌ يعتمل صدره أي صدر الخادم وهو يبحث لتلك الجثة المعتلية عاتقه عن فجوة للنسيان في قلب الأرض بطريقة"ولا من شاف ولا من دري" ليَخفي ليس الجثة فقط بل يُخفي كذلك عُريَّ يديه من الطهر الذي يفتقده لتلوث أقاصيَ روحه، وعُري زمن يسير بالمقلوب أوحى بالعبثية في النفوس المطمئنة، ولكن هيهات فلكل شيء قدر معين يحدد محتواه ﴿إِنَّا كُلَّ شَىْءٍ خَلَقْنَهُ بِقَدَرٍ﴾ /القمر – 49 فما عادت الأرض تسع كل هذه الجثث وكل هذا الخراب كل تلك الجراح الغائرة لذلك كان يقول هذا الخادم للأم وهي تبحث بين فجوات أسنانه عن خبر يؤكد مصير الجثة ولِمَ لَمْ ينجز عمله حتى الساعة.. خلص خاتون.. ماكو مساحة تحتضن جثة جديدة رحم الأرض اكتفى وأعلن تخمته لكثير ما قتلنا لعديد ضحايانا.. هنا تأكيد مفاهيمي جمالي انتهجته الدكتورة عواطف في تحويل الصورة ذات القيم الدراماتيكية المحدودة لأنتاج صورٍ أخرى أعمق وأكثر جدلاً موضعها الذات الإنسانية لمجموعة من الأزمات أفرزتها أحداث المسرحية الآخذة بالإستطالة بخطيها العمودي والأفقي وهذا ما نراه وفقاً لإستنطاق علاماتي دقيق.. هنا استطاع العرض كتأليف، وتمثيل، وإخراج وتقنيات بتجاوز كل ما هو مألوف ومتداول تراه العين المجردة صوب الإنزياح بعلامات مهمة تحاكي الذاكرة الملتاعة للمتفرج وبالتالي إنشاء وجود دلالي ساخن لإنتاج المعنى الذي نبحث عنه في أصل وجودنا وخاصة عند هذه اللحظة المصيرية التي عشنا قلقها مع "الخادم" وهو تائه قلق خائف محتار أين يواري ما اقترفت يداه وهو يقول "عبث، عبث، ميفيد، كُلشي عبث" وهذه هي وظيفة التجريب الذي سارت على دربه الحداثوي "د. عواطف نعيم" وهي تهشم كل ساكن صامت مُجْتَرِّ بتفكيك مثابات "سوء تفاهم" والغاء سلطته وإمكانية تجاوز كل ما هو موشوم بخط أحمر في البنية والشكل كتابو واقعي نخاف مساسه.. هنا يتفجر المعنى لدينا فور معالجة وعينا تلك الصورة في فيض ثقافي يعتمل ذواتنا.. ووفقاً لطبيعةِ التلقي نوعاً وظرفاً، ولأنه لا توجد علاقة موصدة بتمامها بين العلامة والمعنى، ولإعتبارها أي العلامة مصدراً لفضاءٍ واسعٍ كثيفٍ من ردود الأفعال والرؤى والانطباعات والتأويلات لدى المتلقي لذلك وجدنا أنّ الضحية هنا هي الإنسان النظير لنا في الخلق أو الدين أو النسب، إشارة إلى قابيل الذي عجز عن أنْ يواري جثة أخيه (ضحيته) هابيل.. إذْ أنّها إشارة عنيفة بعلامة أشد عنفاً لواقع عشناه يوم استسغنا منظر القتل لأبناء وطننا وأخوتنا وذوينا، وبأيدينا التي نزعم طهارتها كنا نخفي ضحايانا، بل نرميها خلف تل ترابي هو الفاصل بين المثالية المزعومة للمدينة في الجانب المرئي ومستوى خطيئتها الكافر في الجانب المقعي المظلم.. لهذا المشهد المتقن والمرسوم بريشة ساحر وبعناية فائقة اهتزت مقاعد المتفرجين سعادةً وهلعاً وفرحاً خوفاً وانفعالاً ذاكراتياً توزع بين مشاعر متناقضة استوطنت ذوات الجميع.. الأول عاش المأساة ومضغت لهاته جكليت الوجع الذي كان يوزع بقسمة عادلة بين الجميع لكنّه لم يقرأ نص سوء تفاهم.. والآخر قرأ سوء تفاهم ولكنه لم تَرْسِم خطوط المأساة على جلده خريطةً لجراح الوطن يستدل بها عن أي جراح هي جراحه وأيها لغيره بفعل يديه، والآخر لم يقرأ ولم يرى ولم يشهد تقلب روحه كحباتِ بُنًّ فوق صفيح ساخن، والآخر قرأ نص سوء تفاهم وعاش المأساة واكتوى بنارها وهُزم منكسراً يندب حظه العاثر، فقادته قدماه حيث مسرح الرشيد كي يتلمس الخطأ أين كان؟ وفي أي مرحلة هو؟ ومن المسؤول عنه؟ وما شكله أصلاً؟.. وهو ما نعنيه في ما ذهبت اليه د. عواطف نعيم بذكائها وحرفيتها في كسر شوكة التوقع لدى هذا المتلقي البديهي بافتعال أحداث مغايرة شكلاً ومضموناً ووظيفةً لها سمة واقعية حيث أنّ البير كامو استهل النص منطلقاً في ما يشبه الميلودراما متقنعاً بشيء من التسلية التشويقية متمهلا حتى انفجار حلول الأزمة تمهيداً للإنفجار الأكبر حيث كَشَفَ قلمُه حياةَ الإبن المترف بعد عودته من المنفى ورغبته في العودة الى حضن أمه وأخته وتعويضهما عن كل بؤس وألم مرا به وهذا ما يوصف في الدراما بالنسق الخطي المستقيم الذي له نتائجاً سعيدة في نهاية المطاف.. لكن الدكتورة عواطف ونتيجة لموروثات مأساوية عاشتها وعاشها البلد اتجهت بنا مباشرة الى عين المأساة لا وصفها، الى الدراما الذكية وكأنها تقول أننا في كل أزمنتنا التي عشناها نعيش الدراما والمأساة بأوج صورها وأصدق معانيها على خلفية اللاتواصل وسوء التفاهم بين البشر وغياب اللغة المشتركة في هذا التواصل، ولا قدرة لي على تزييف الواقع بمثالية نلجم ألسنتنا بها أو نقمع أسماعنا بعجينة وطين. هاتها !!!.. إنّها حياتي.. إنّه موتي.. أنا الجثث العديدة بلا معالم.. أنا السم الزعاف الذي تسرب في مفاصلها من بين فكرة الطمأنينة والكراهية.. أنا اليد الخاطئة التي حملتها حيث اللاشيء.. أنا مساحة المتر في متر التي احتضنت خطايا إنساننا النادم وهو يلعق دم ضحاياه مستمتعاً.. إنساننا الخاطئ والعاجز عن تبرير خطأه.3575 جنون الحمائم

الحكاية كما هي في مَتْن نص د. عواطف نعيم.. توجد عائلة منعزلة وكأنها تعيش في مكان ليس على الخارطة.. تمتلك فندقاً كما هو لدى البير كامو، ونُزلاً لدى عواطف نعيم، أطاحت بهما الحياة إثر ما مر بالبلد من دمار، أوحى لهما بأنّ طريق الخلاص يأتي من باب قتل النزلاء الذين يأتون لهذا النزل ساعة ينقطع بهم الطريق الى محل سكناهم ما بين محافظتين عراقيتين مهمتين هما بغداد والكوت وفي عرض سابق ما بين البصرة وبغداد.. هنا لابد من تأكيد المغايرة لدى جنون الحمائم مع سوء تفاهم حيث أنّ العائلة لدى ألبير كامو استحوذ عليها هاجس القتل والاستيلاء على أموال الضحايا من أجل تسديد الديون النقدية المترتبة بحق الفندق وبعدها المغادرة وترك المكان وعديد جثثه، أما العائلة لدى عواطف نعيم لم تكن كذلك بل كانت تبحث عن حقيقة مَثَّلَت بصدق واقعاً عشناه واكتوينا بلسع ناره انهم يبحثون عن هوية القتيل مع فكرة تسديد ديون من نوع آخر ديون معنوية لها مساس بتفاصيل حياة المواطن المثخن بالجراح وعلامة ذلك هو قول الأم صراحةً "طَلِّع هويته وشوف اسمه" لم يَرِد على لسانها أو لسان بقية أفراد العائلة أي ذكر للمال وكذك لم يكن القتل لديها أي العائلة المنعزلة لمجرد القتل أو لجنون وهوس تقليدي كما هو في الأفلام الامريكية بل قتل مبرمج ممنهج لأجل شيء محدد جايل أياماً عصيبة عشناها.. تلك الخصيصتين النوويتين اللاهبتين الهوية والإسم كم هو خطر ومؤلم ومستفز ومثير وقعهما الموسيقي في جوف ذاكرتنا، كانا سبباً وجيهاً لأن يرميك أحدهم بكلمة الله اكبر ومِن بعدِها يتحدرج رأسك عند أقدام الولي السفيه بِشَقّيه المعتم والظلامي.. ووفقاً لحجم العلامة وسيميائياتها وتعدد التأويلات نرى بما معناه.. ربما هذه العائلة زُرعت بقصدية عند هذا التقاطع بين الحياة والموت، بين هذه المدينة وتلك، بين الحقيقة والرغبة في طمسها بين ماضٍ جميل وحاضر قبيح، بين الأنا وضميرها. وفقا لهذه العلامة ورمزيتها نستدل ان هذه العائلة الغريبة المجنونة ظاهراً الذكية باطناً وظيفتها جمع أكبر عدد من الضحايا مقابل شيء ثمين تبحث عن استرداده لكن بأسماء وانتماءات حصرية انتقائية كانت فيما مضى تُعَدُّ من التوافه وربما تَوَزَّعَ هذا العمل الإجرامي بنظام المناوبة مجموعة تقتل أصحاب هوية وأسماء معينة باتجاه شرقي عند الصباح لارتباط الصباح بالإشراق ومجموعة أخرى تقتل أصحاب هوية وأسماء معينة باتجاه غربي عند المساء لما للمساء من تعاضد معنوي فلسفي مع الغروب وكل ذلك قد يُنبئ عن حقيقة دامغة أنّ تلك العائلة ناقمة على ما تعيشه وتعانيه ومفتاح خلاصها هي مهمام تقوم بفعلها لإحداث توازن ديموغرافي بين العرض والطلب وبين الشراء والبيع وبين ما لكَ وما يجبُ عليك وبين الوجود وعدمه، وربما هي ديون الماضي الملتاث مستحقة بذيل مؤخرة العائلة واجبة السداد وساعتها لا سداد الا بعدد ممتاز من الرؤوس المقروء عليها بعناية لفظ الجلالة (الله اكبر).. وليَ الحق أن أصور هنا ملابسات هذه الحالة سيسيولوجياً بذكر قصة حقيقية عشتها كان أحدهم ممن يقترب مما ذهبنا اليه بخصوص عائلة جنون الحمائم بمرجعيات واتجاه فكري ثقافي وعقائدي معين لمدينة ريفية في أقاصي الجنوب ارتكب جريمة قتل وسط مدينته وأهله وعشيرته فعُوقب بالجلاء من المدينة فسكن مدينة أخرى بثقافة وموروث واعتقاد ديني آخر ولما أَزِفَتِ الْآزِفَةُ (57) النجم وأعلنت الحرب عن كشف مفاتن جسدها الرخيص للجميع سقط في يد هذا القاتل المدني صاحب الثأر العشائري فطارده سؤال وجودي مصيري ما هو فاعل للخلاص مما هو فيه ؟ هروبه العقائدي الظاهري وعودته للديار لا ترجمة له سوى قتله شر قتلة على يد أبناء ضحيته السابقة.. وبقاءه في المدينة التي تَرى فيه صيداً سهلاً لتصفياتها العقائدية سيترجم بالتأكيد لفصل رأسه عن كتفيه.. ما الحل اذا؟ لا حل سوى التغيير باتجاه الدين والعقيدة والثقافة وارتداء قناع آخر واعلان المصالحة مع هذه القوى الظلامية والتلذذ البورنوليزم لجسد الحرب الرخيص وهي تستخرج مفاتنها واحدة تلو الأخرى وهي تستحثه على قتل الآخر بل قتل نفسه إن لزم الأمر وأن يكون أداة قمعية لاستلال الأرواح من مخابئ خوفها وإشهار هوية جديدة للوجود الدموي بصرخة مدوية الله أكبر.

ولأننا نستظل بسماء تمطر أزماتٍ على مر العصور ونحن أحد أركان تلك الأزمات أرادت د. عواطف نعيم أنْ تقول أنّ الفن هو وليد هذه الأزمات وابنها الشرعي لذا كان خطاب العرض المسرحي في النهاية وعلى لسان الأم القاتلة وبنوع من التبرير لما آلت اليه أمور العائلة من وحشية وإجرام وكأنَّها تُواجه قضاةً في محكمة الوجود محاوِلةً دفع التهمة عنها بلعنها الحرب ومرجعياتها ونتائجها ومبرراتها حيث استطاعت د.عواطف نعيم بهذا الخطاب من زرع التعاطف وبث الشفقة واستدرار العطف الفرجوي لواقع مؤلم عاشته عائلة عراقية كانت ضحية في أصل وجودها لواقع مأساوي خلقه العالم الاستكباري يوم أُحْتُلَّت بغداد فهو خطاب ترجمَتْه الآية الكريمة ﴿ قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ﴾[ سورة النمل: 34] ونتيجة لنذالة الحرب وسوء آثارها تحولت الضحية إلى جلاد بفعل عامل التطور البايلوجي الذي أشار إليه دارون بعمليات التحول الجينية والصفات الوراثية.

هناك بعض التفصيلات المهمة التي عَلَتْ جسد العرض وكشفت هويته ومغزى خطابه ورؤاه فنياً وجمالياً وسيسيولوجياً وسياسياً والواجب النقدي مع التماسنا العذر عن الإطالة يلزمنا تسليط نور التفكيك باتجاه العتمة عند بعضِ زوايا تلك التفصيلات باجتزاء فكري حسب موضع وحراك الشخصيات الأربعة ضمن نسق العرض بطريقة المحاكمة الإنفرادية وسردها كتأريخ يختزن فكر عجوز يروي حكاياه لأحفاده وهم يجتمعون حول موقد نار يجسد رقص لهيبها وهسيس جمرها تلك الحكايا صوتاً وصورة.

مع أول حركة شهدها المنظر العام لفضاء الخشبة بخلفية سينوغرافية اتخذت شكل الغابة تولّدَ نظام الإحالات الصورية الذي أكد عزلة الخادم ومن معه، تلك العزلة الغارقة بشعور الإهمال في ظل غياب اللغة والتواصل مما أفضى الى الكبت والإخصاء الذي كان طريقاً للجريمة التي كانت أدواتها فردية من خلال الخادم وبقية العائلة إلا إنها واقعا جريمة ارتكبتها الجماعة في ظل عالم صامت لا تعنيه استغاثة أحدهم، لا تعنيه الأرقام المهولة لقتلى عملية ارهابية في صميم العالم، لا يعنيه شعب محاصر يموت اطفاله زرافات ووحدانا كل يوم لعدم توفر ابسط طعام عرفه التاريح وهو الحليب.. عالم فقد التواصل لا يعنيه فعل هذه العائلة الدموي مما افضى الى أن ترى في القتل عذوبة وانها تحسن صنعاً، وفي نفس الوقت ولعدم وجود الرادع لها أصبح اليأس حاكمها في النهاية بعدم القدرة على التراجع والعودة الى المربع الأول بالتواصل اللغوي المتفق عليه والعودة الى الماضي القريب حيث الفطرة الأولى فكل ذلك أصبح من الخيال حيث أن الجميع أصبح نهباً لرياح باتجاه واحد لا تراجع لها كنا نأملها رياحاً للتغيير بالإتجاه الايجابي لكنّها أتت بما لا تشتهي سفن النوايا الحسنة.

عند نقطة معينة كان فيها الخادم عائداً تواً من دفن أحد الضحايا تواجدت وبقوة فرضية عبثية الوجود التي تتسيد تفاصيل حياتنا على لسانه وهو يحاور الأم التي لم تنم حتى ساعة متأخرة من الجريمة والموت رغبة في أن يَعزفُ نغماً في مخيالها الدموي اعتادت عليه روحها المعذبة وهو يقول لها تم كل شيء حسب العادة.. وحسب رغبتك

- خلص؟

- إي خلص

لنكتشف هنا سذاجة الإنسان وهو يستسلم لحياة عبثية ما كان مفترض به أن يعيشها بجدية كبيرة كما هو حاصل في حدود جريمتهم وهو يخبر الأم كالعادة بخطواته الرتيبة في ظل دائرة لا فراغ منها ولا حاجز يصرخ بوجهه قائلاً قف!!! يمنعه ويمنعنا من مواصلة التجوال في ميادين تلك الحلقة المفرغة هذا التجوال الذي يكشف رتابة اليومي ونحن نرزح تحت وطأته.

-أشيل وأحط

-والمكان؟

-نفس المكان

لترد عليه بعبارة صفراء تصف ما هي عليه لكنّها ظاهراً تكافئ ما اقترفته يداه بكلمة ترفع من مستوى كفاءته في القتل والتغييب

- عفيه عليك وعلى قلبك الصخر

فيرد عليها بعبارة تلخص شيئا من واقع هذه العائلة المخصية عن صنع الجمال وهو غارق في صراعٍ وعاءَه إبريقَ شاي يغلي بعذابات مهولة مُوزّعٌ بين العاطفة والعقل، بين الأنا وضميرها.

- عفيه على زماني الحول الليّن صخر

مما يعني أنّ هناك عملية تحول جيني طرأت على حياة تلك العائلة وهي عملية متداخلة ضمن عمليات تحول كثيرة وعديدة استثمرتها د.عواطف نعيم لتعلن عن صخب الحياة الأصم وضجيج الواقع المَقْعِي إدباراً.. وهذا ما كشفه عنوان العرض الفلسفي "جنون الحمائم" والحمائم جمع حمامة كما هو معروف والشخصيات الأربعة في أصل وجودها حمامات وديعة والحمام كما هو متداول سيسيولوجي صديق تاريخي عميق للإنسان والألفة واللحظات البيضاء لكنها عندما تضام وتذل وتحرم من طعامها الذي هو حبات حنطة تعد على أصابع اليد تتحول لما يملكه الانسان من حيوانية قاتلة وكأنها استعاضت عن ما حرمت منه بشيء اشد وأقسى وهذا ما يذكرني بفيلم سينمائي امريكي ثمانيني بعنوان امبراطورية النحل حيث كان شاهداً على قسوة الإنسان اتجاه النمل بعبثه وجنونه ومن أشكال جنون الانسان هذا هو رميه المخلفات النووية والنفايات الكيميائية في عرض البحر ليصل ساحل أحد البحار برميل معبأ بهذه النفايات فيتناوله النمل بشراهة متحولاً الى نمل أسطوري بحجم مخيف ليقوم بقتل كل من على الجزيرة من بشر وخاصة من كان سيئاً في سلوكه اليومي.

الخادم في جنون الحمائم هو تتمة لشخصية الخادم في سوء تفاهم حيث كان صامتا أصمّاً أبكماً بشيء من القسوة تطور لدى عواطف نعيم بعد أن كان لعابة صبر خزّن كل ما مر أمامه من مأساة عاشها هو بمعية الآخرين بقسوة ورعب حتى حان موعد لقاءه عند معالجة عواطف نعيم بتوهج فلسفي ليتفجر غضباً بلسان بَيِّن وبتدخلات حاسمة أشد قسوة من خادم البير كامو لكنه مازال يحمل صوت طفولة مذبوحة على أعتاب مجتمع مختل عقلياً لذلك كنا نراه من خلال الأداء الممتع لعميد المسرح العربي عزيز خيون وهو يتقافز بفورات راقصة تلخص تاريخياً لهيستريا حمامات مذبوحة اتهمت بالرقص لشدة الألم ولرفضٍ داخلي عاشته وتعيشه باتجاه ما جرى ويجري من تغييب وقتل للبراءة، للفطرة، للطفولة مما دعاه أن يتعرى بطريقة البورنوغراف كما هي لدى الإبنة لا بنهج إباحي لكشف ما هو مكتشف ومعروف بديهي لدينا فلغة التعري هنا تجاوزت ظاهر الجسد بل تعرٍ كشف حجم المأساة المهول الذي عاشته الشخصيات الأربعة وكأنّهما ارادا أن يقولا أنّ تضاريس أجسادنا ليست بالغريبة عن بعضنا البعض لكن الفارق ما بداخلنا من وجع يغلي لذلك هو تعري داخلي نحتاجه بين حين وآخر كسلوك تطهيري نعلن من خلاله حقيقة كوننا ضحايا لا جلادين ضحايا ظروف قاهرة صنعتها العبثية بطريقة } الما عنده ظهر ينضرب على بطنه {.. وكأنه تعنيف لمن يدين أبطال أفلام البورنو في تعرية أجسادهم التي هي أجسادنا المألوفة للجميع فما بالكم فيمن تعرى ليكشف لكم وجعه الداخلي الممتد من يوم مولده وحتى خاتمته هذا الوجع الذي لكم نصيب كبير في وجوده وخلقه وزرعه في ثنايا أرواحنا المعذبة.

وبعد أن لاحظَ الخادم ارتخاء عضلات الأم وجسدها بآه عميقة أطلقتها وهي جالسة على الكرسي الطغياني لطمأنينة غازلت هوسها بنجاح الخادم كالعادة في تنفيذ ما تريده طلب منها النوم رغبة في إعلان صباح وردي وختم ذاكرة الموت لديها بالشمع الأحمر وأنْ تنسى ما هي عليه من رغبة محمومة في ضخ العزلة لما حولها بشكل جريمة ضحاياها اكتضت بهم الأرض وهي إشارة واضحة الى أنّ ملك الموت هنا في ظل هذه العزلة هو الأم وما الخادم إلا أداة مسيّرة وعليه السمع والطاعة، وفي عبارته هذه أراد القول للأم أن نومك راحة لك وللآخرين وبمونولوج داخلي (مو كافي موت)

- نامي خاتون.. بلكي نفتح عيوننا على صبح شمسه متغيب.. وطيره ميجفل..

ولعظيم الخوف الذي كان مسيطراً على الخادم وهو يواجه دموية الأم وابنتها أصبح محالاً عليه أنْ يحلم وهو مستيقظ، هذا الحلم المشروع لكل إنسان في أنْ يكون غده مشرقاً وحتى وإنْ نام وأصبح الحلم مباحاً لا ضير منه فسيصطدم بالتأكيد بطريقة تحقيقه لأنه مستلب، مقيد فكرياً، وروحياً وربما جسدياً وما هذا الحراك الذي يزاوله أمامنا ما هو إلا هذيانات شبح متقاعد عن الحياة يريد التعجيل في نهايته وختم جوازه باتجاه العدم.

- ما أقدر انام.. حتى ما نحلم بشي نشتهيه وما نحصله

لينتهي بنا المطاف تأويليا أنّ النوم لدى الخادم هو فض نزاع لحجم الشعور بالألم الذي يعيشه وكأنها رغبة في الموت والخلاص، لكن هيهات له لعظيم ما اقترفت يداه وكأنه الحجاج بن يوسف الثقفي الذي كان يأمل النوم ولو برهة دون أنْ يرى ضحيته سعيد بن جبير يطبق على خُنّاقه مبشراً إياه بالنار وسعيرها.

وبرسائل مهمة أوحت بها العلامات العديدة الصاخبة والضاجّة في العرض لاحظنا أنّ الخادم طيلة زمن العرض لم يُرى جالساً على واحدة من المثابات الديكورية التي احتوتها أحضان الفضاء المسرحي فقد نجحت د.عواطف نعيم في بحثها التكاملي عن الجمال الهارموني اللذيذ وبطريقة الأسلبة الواعية بإسقاط الإضافات برشاقة حيث ذهبت باتجاه هذا المنحى التجريدي الجمالي واختزال الواقع وثيمة العزلة والفراغ وعدمية الوجود بمنظر مسرحي غاية في الجمال حيث لاحظنا الأم عند حدود عليائها وجبروتها وطغيانها حيث الكرسي الشاهق.. والإبنة عند مثابة أوطأ من مستوى كرسي الأم في موقع على يسار الخشبة.. والإبن عند نفس مستوى المثابة الآنفة الذكر ولكن على يمين الخشبة.. حيث مثلت المثابتان جناحي الأم التي تصارع الزمن وهي تحاول أن تطير مبارحة هذا النفق المظلم، والمكان الموحش الرمادي، بحثاً عن أفقٍ عريض لحياة جديدة.. لكنها أجنحة كسيحة لا تجيد الطيران ورعونة المسلك والسلوك هما من جعل الجناحين بهذا الشكل المعاق.. الجناح الأول يمثل الإبنة وهو جناح يعاني الجنون والعزلة والاغتصاب والرغبة في الانتقام تفترسه الهشاشة وإنْ بدا قوياً والثاني يمثل الإبن القادم من الضباب والعدم لا يقوى على الرفيف ولا الصفيف لأنه ميت مشلول منذ ثلاثين سنة ولّت ورحلت ووجوده الحالي موت من نوع آخر.. وفي رأيي وقناعتي النقدية أنْ الأم مع هذا الخلل في إمكانياتها المعاقة في الطيران والخلاص نجدها أحيانا قد استسلمت لهذا الأمر فاتخذت من الحكاية برمتها تسلية لقضاء الوقت حتى موعد ينتهي فيه كل شيء وتجلو الغبرة وهي إشارة عبثية بالغة بإحلات وانزياح اتجاه الوجود في الولادة والموت واعلان ان الحياة كوميديا عبثية لا طائل منها.. ومن كل ما مر آنفا نرى بوضوح حرفية عواطف نعيم الإخراجية وجمالية قراءتها للنص وإبداع تعريقها وفقاً لنظرية الثابت والمتحول حيث مازجت عواطف نعيم بين المنهج الساتناسلافسكي ومنهج مايرهولد لتأكيد الدلالة والتشكيل المسرحي للجسد في ثنايا الفضاء بتداخل مع قيمة الكلمة واللغة ووجوب حظورها عند جدلية الوجود وما يرافقها من جدليات متناسلة وذلك من خلال عملية فصل قصدية من خلال الخادم وبقية الشخصيات الثلاثة بين الحركي المتكلم بقسوة وبين الساكن المتكلم على استحياء مما أفضى الى توليد قناعات لدينا أنّ الخادم هو في أصل ذاته القدر الأعمى الذي يراقب بعيون جوانيّة ويتابع ما صنعه الثلاثة منتهزاً الفرصة للقفز على خنّاق أحدهم في صورته الساكنة وهو يعتلي المثابات الثلاثة لينهي حكاية الإنسان وصراعه مع الحياة.. فلو قمنا على سبيل التجريب بعملية نفي لشخصية الخادم عن حدود العرض لما حصل أي خرق أو شذوذ في الفعل لدى الأم وابنتها وأصل الحكاية بل لاستمرتا بالقتل وافتعال الصدفة في تواجد أبناء وأخوة آخرين وضحايا آخرين وتصفيتهم وسداد الدين المعنوي والحقيقي في إشارة الى دين الأم مع ابنها الذي لم يدخر جهداً في مغادرتها يوم كانت بحاجة إليه ودين الإبنة مع المجتمع الذي انتزع منها حريتها وربما أعز ما تملكه.. شرفها.. إذن الخادم هو في أصل ذاته قدرنا المرئي الشبحي الذي يلازمنا كظلنا هذا القدر الذي تعلم كيف يصطادنا كحبات الحنطة بمنقار فاختة جميلة وما افتعال كونه حفاراً للقبور لمحو أسماء الناس بذاتها من صفحة الوجود ما هو إلا تمويهاً وبث ضبابية لإحداث الفعل الدرامي الناضج لدى المتلقي من قبل كامو ونعيم مع وجود الغاية الدرامية اللازمة لتأجيج الفعل وانعكاسته.. وفي تأويل آخر للخادم هو الزمن الذي تحدثنا عنه بما يخص الأم في إنها تعول على مروره وتقادمه حيث يعيق الحساب والمحاكمة لذا بطمره الجثث في خبايا الأرض هو قطع دابر الحكايات واعلان خاتمتها بالتواطئ مع الزمن وعلامة ذلك هو الحاح الأم وابنتها في التعجيل بعملية القتل والتخلص من الجثة مخاطبة الخادم او الزمن بعدم التوقف عن المسير بعد أن طلبت من الإبن الاستمتاع بشرب الشاي المسموم.

- اشرب اشرب جايك لا يروح يبرد..

- لا تشغله خلي يشرب الجاي بالهيل

- يبين تحب الجاي بالهيل

- شراح يكون غير واحد من الساكتين المحنيين الراس.. شيله هو وعوده وادفنه

ليصرخ الخادم هنا بعبارة سحرية ايقضت دموعنا وحرضتها لشق نهر ثالث يتقاطع مع دجلة والفرات حينما شكا للأم عدم وجود مكان يسع جثة اخرى "صرنا نخاف نحفر اساس بيوتنا.. لا نلكه جثة زوج لو اخو لو ابن".. اشارة الى المقابر الجماعية التي مثلت ظاهرة وثقافة دخيلة على مجتمع كان ينام بعد المغرب مباشرة تاركا باب داره مفتوحا دون حراسة.

الأم في جنون الجمائم هي الوطن المشاكس الماكث في الحروب.. الحروب التي قتلت ابنائها لعظيم أنانيتها لاستحواذ جدلية البقاء على مخيالها الوجودي والتي هي المحرك الرئيسي لجميع افعالها فالغاية لديها تبرر الوسيلة وموت الابناء وهجرتهم عامل مهيمن في البقاء لها ولسلطتها مع تأشير مهم طالعناه في سلوكها الاعتذاري حينا والذي أكد كذبها في كل ادعاءاتها لتبرير هذه الأنانية التي هي عليها وهذا ما سنؤكده في قابل مقالتنا لاحقا.. كذلك هي السلطة الحاكمة المهيمنة والتي أوحت بها طبيعة الكرسي الذي احتوى كيانها وقد تمثلت بعمومياتها باتجاه هاجس الخوف الذي خيم بظلاله على الفضاء المسرحي مما أبطل حرية الفعل لدى الشخصيات اشارة لقول أحد الطغاة الحاكمين بامر الشيطان في معرض دفاعه عن سلطته أمام ابنه وولي عهده "أنك لو نازعتني هذا الامر لأخذت الذي فيه عيناك"..مما ولد هذا الطغيان فينا خوفا نشأ وكبر وترعرع حتى اصبح ثقافة وهو الذي منع الخادم من أن يصرح جهاراً أمام الخاتون بأنّ ما نحن فيه نتيجة طبيعية لرعونة التفكير وسذاجة الثقافة التي لازمت تفاصيل حياتِك في ايمانِك بأن الحل والاجتياز لجميع العقبات لا يتم الا بالقتل والحرب والانتقام.. ورغم مشاركتنا في القتل والتغييب ما نحن الا ضحايا لما أنتِ عليه من هوس وجنوح صوب العزلة وتصفية الآخر المضاد.. وما ابنتك إلا امتداد لحليب فاسد غذيته لها صَنَع منها وعاءً لا يركد يعيث بأسماع السماء صخباً وصراخاً حتى يمتلئ بالدم فيهدأ حيث ترجمت الإبنة ذلك الانطباع بمطالبتها أخيها بشرب الشاي المسموم بإلحاح وعلى عجل بطريقة متعطشة والذي يذكرنا بعسل معاوية كي تراه غائبا في طيات الارض السحيقة ميتاً بلا حراك انتقاما لجراح طالتها فيما مضى وسنناقش ذلك عندما يحين دور محاكمة الابنة في قابل المقال..

"لم أعرفه فقتلته.. وحين لا تعرف الأم ابنها فعليها أن ترحل"

ابدعت د. عواطف نعيم في توليد ازمتين بدتا كهرمين دراميين غيرا مسار الحكاية وأججا الموقف باتجاه معقد بعد الأفقي المستمر الذي عكس اليومي الرتيب حسب ملتون ماركس حيث قال "الأزمة هي نقطة التحول التي تغير مجرى الأحداث كلياً".. تداخلت الأزمتان كنواة في خلية وهذا ما نسميه السببية الدرامية بخلق الأزمات وتداخلها وصناعتها لبعضها فالأزمة الأولى وجدناها عند عتبة بلادة الانسان بوصول الإبن للنزل لإكمال فصول تمثيليته الساذجة الغير محمودة العواقب في ظل عالم صامت فقد اللغة المناسبة للتداول والتعاطي اللساني والشعوري مع الآخر وحسب رينيه ديكارت حيث قال "من الخطأ افتراضنا بأن الآخرين يفكرون بنفس طريقة تفكيرنا"

أتى الإبن بعد طول غياب وقد أحدث الزمن ما أحدث في ذوات أمه وأخته فيباس الشعور من أولويات ما اكتوت به قلوب أرحامنا لهول ما مر من خراب ولاعتبارات قصدية لديهما أن الآخر هو الجحيم كما قال سارتر في نصه المسرحي الأبواب المغلقة لذا كان الابن جزءً من الخراب فالظلام دامس والفضاء ضبابي حد اللعنة وقد أحسنت صنعا د. عواطف نعيم ببث جزئية الدخان على جانبي الكالوس لتأكيد الصورة الضبابية التي دفعت بالأم حصراً أن لا تتعرف على ابنها على اعتبار ما قلنا آنفا بأنه جزء من الخراب الذي أحاط المدينة وكل المشاعر المقدسة كمشنقة مفتولة الحبل تخنق كل جميل.. لم تعرفه فقتله.. فقد قتلت هنا الفرح الذي كانت تنتظره ولم تتعرف على هذا الفرح بعد مغادرته عنها فنسيت شكله ولونه وحتى حقيقته لعمى داخلي أصبح ملازماً لشخصية الأم كما أن هذا الفرح ملام هو الآخر فلم يأتي بطبول وعزف وألحان واعتراف جلي بأنه قادم من أجلهما بل أتى منفرداً بصفة مُقَنّعة وبكذب كان يعتقده ابيضاً وحسب سارتر "كل كلمة لها تبعاتها وكذلك كل صمت".. كذبه هذا قاد الأم وبأزمة ثانية صنعتها د. عواطف نعيم لتكذب هي الأخرى "كذب صامت" بادعائها بعدم معرفته والحقيقة هي إرادةُ الإعراض عن معرفته كانت قد سيطرت على عواطفها وخاصة عندما تعاطت معه في أداء الأغنية التي كانت تهدهده بها وهو صغير استعادت ذكرياتها معه لكن أنانيتها وسطوة القوى الغيبية التي تمسك بخنّاقها جعلتها تخرس كل نداء عاطفي يتفجر في جوانياتها فما يملكه من مصداق وجود له ثمن باهض هو ما سوف يخلصها من هذا العالم الموحش من هذا النزل المنفرد المعزول المهمل وكما قال توماس كارليل "الأنانية منبع وملخص كل الأخطاء وبواعث الشقاء" لذلك لابد من مذبحة ديونيزيوسية بقربان بشري يمثل أعز ما تملكه الأم وهو فلذة كبدها ليحيلنا ذلك بمقاربة مع ما جرى ويجري من مشاهد الذبح والقتل والتصفية التي كانت صورة حقيقية لواقع فوضوي يبرر القتل، الفارق في الأمر أنّ عزيز خيون وعواطف نعيم وشذى سالم ومصطفى حبيب ممثلون وصنّاع فرجة ومن كان يقتل آنذاك أونلاين قاتل مع سبق الإصرار والترصد بوعي قصدي.

ومن ضمن آليات المغايرة النصية ل د. عواطف نعيم والتملص من عباءة ألبير كامو جعلت الابن الضحية فناناً لقصديات واقعية وفلسفية نعيش فصولها على مدى الأيام باعتبار الدكتورة هي فنانة وفنانة ذات رسالة هي ومن رافقها من الجماليين وقد عانت من الاجحاف والظلم ما عانت من خلال تحجيم الحكومات لحراكها بافتعال ضيق ذات اليد في عدم الدعم وقطع سبل الحضور أمامها بطرق استفزازية كونها محسوبة على النخبة الواعية لماض تنويري في مواجهة الجهل المركب لواقع خرف هذا الواقع الملتاث الذي وقف أمامها كحجر عثرة وعصاً كأفعى تلتف حول عجلة الجمال تعيق قول ما يجول في وعيها من إبداع ترى في وعيها الكامن أنه طريقاً مناسباً للنجاة.

أفرز العرض واقعاً ممسوساً ملغماً بالدلالات والاشارات لإنتاج جيش من التأويلات النفسية لشخصية الإبنة التي جعلتنا المخرجة عواطف نعيم بمعية الممثلة شذى أن نعيشها معهما بمشاعر متناقضة بين الرضا والعطف والشفقة وبين الرفض والبغيضة والاستهجان ففي معرض حوار الإبنة والخادم وهو يحاول امتصاص سورة غضبها لما هي عليه نتيجة ماض ملوث وذكريات معجونة بخسارات تترى

- الدين يتسدد ونرتاح

- الا ديننا شما ندفع اكثر يرجع اكبر واكبر

اشارة الى ان القتل لا نتيجة له الا القتل والخراب

- اهدي بنتي

- اني مو بنتك.. لا تقول بنتي ما ارضى ان اكون ابنة لواحد جبان

- صبري نفذ

-  ابويه لو كان موجود محد قدر يلمس شعرة من راسي.. كلكم عفتوني وخليتوني بين اغراب

عند هذه النقطة اكتشفنا ان هذه الأنثى ناقمة على من فشلوا في توفير الحماية لها ومنهم الخادم الذي هو بمثابة أبيها أو هو أبوها فعلا لكن خنوعه وضعف شخصيته في مواجهة الخطر المحدق بابنته التي تُمثل بالتأكيد الوطن وعاصمته بغداد ووقوفه متفرجا وهي تغتصب بين الأغراب جعل منه شخصية تقاد كيفما يريد الراعي شخصية مستلبة لذا لم يعد له الحق في منادة الإبنة بكلمة "ابنتي".. وما عانته الابنه يحيلنا عند مشارف طفولتها وربما اغتصابها وهي بعمر الزهور ومن خلال الاستبطان الذاتي لشخصيتها وحسب "كننغهام" "أن النساء الناجيات من اعتداءات في الطفولة يعانين غالبًا من التوتر ونوبات الفزع والرهاب" نجد بالتأكيد أن كل ما مر هو "صدمة" بكل المقاييس، صدمة في خسارة ذاتها يوم احتوشها الأغراب وخطفوا أثمن ما تملك، وصدمة أخرى تمثلت في رهانها الخاسر على الخادم الساكت التابع وعلى أخيها الذي هاجر بحثاً عن نجاته مُفَرِّطاً بأخته وحاجتها له.

ومن أعراض الإجهاد بعد الصدمة "عبالك الي شفته هين يا غشيم" كما هي الصدمة لدى المحاربين الأمريكان الذي احتلوا بغداد.. ولدى الناجين من الاعتداء الجنسي في الطفولة.. هذه الصدمة التي سببت عرقلة النمو الاجتماعي الطبيعي لديها وبالتالي فرض حاجز شاهق من العزلة.. وفي النهاية تتطور لديها الاستجابات الانفعالية بتكرارها والاستمرار عليها كعادة طبيعية والقتل واحدة من تلك الاستجابات كما اوردت العالمة النفسانية اليزابيث هيرلوك ذلك في معرض حديثها عن رابط الطفولة بما ينتجه المجتمع في المستقبل.. وهذه الاستجابات الانفعالية أصبحت ملازمة للعائلة مثل عملية جراحية مؤلمة في البداية لكنها باعتقادهم فيها راحة كبيرة بعد التنفيذ وهذا ما لاحظناه على الام بعد اعلامها من قبل الخادم بكلمة "خلص".

نعود الى الابنة وراحتها المطلقة في الانتقام والقتل هو موت من نوع آخر. فعقدة الطفولة مازالت تعيش معها مرافقة لها وطريق الخلاص من هذه العقدة ورغبتها في مفارقة هذا العالم الموحش ان تختلق سببا للعقوبة فعقوبة القتل الموت لذلك هي في يقينها أنّها يوماً ما لابد أنْ تُكتشف ولابد أنْ تنال جزاءها وتعاقب بالموت وهذا انتحار من نوع خاص اعتراضا ورفضا لما مر بها من عنف اجتاح براءتها.

اعتقد المتلقي ان ابتعاد خطاب سوء تفاهم عن خطاب جنون الحمائم بما نصه لكامو "لسنا ننشد عالماً لا يُقتل فيه أحد بل عالماً لا يمكن فيه تبرير القتل" وبما نصه لعواطف نعيم "وإن انتهت الحرب فهي مصدر لتوليد ويلات لا تنتهي" وكأنه بما يشبه تبرير للقتل الذي ارتكبته العائلة لكنه في حقيقة الامر وهذا ما عرفناه في ادق تفاصيل منجزات د. عواطف نعيم انها حريصة على زج خطاباتها في طيات العرض بشكل لا تنتهي معالمه وإن كانت إدانة الحروب ثيمة لمسناها ضمنيا طيلة مدة العرض لكنها ولامتلاكها لعوامل الدهشة الفاعلة في صفع المتفرج بعد خدر دام فيه متسمراً على مقعده وإيقاظه على حقيقة أكبر وأعظم وأجمل وهي الواعية المحنكة التي تعرف كيف تقدم خطابها مغلفاً بطريقة تشكيلية بصرية لتحدث ضجة فلسفية في ذات المتفرج وذلك عندما أنزلت في خاتمة العرض جثث الضحايا بتزيين كروتسكي بالغ الصدمة في ذات المتلقي من أعلى نقطة في مدى بصرنا حتى متوسط رؤيتنا لتقول لنا الدكتورة ترجمة ل "جان كوكتو" حيث قال "الحياة سقوط عمودي" أي أن كل من فارقنا مظلوما في ظل هذا الخراب الذي عشناه أو هذه الجثث التي هبطت من عليائها ما هي الا حياة ناطقة ما زالت تتحدث بذاكرة مجروحة وانها اي الجثث لم تمت فما زال الدم يجري في عروق من غيب من اصحابها فهم احياء يرزقون.. اشارة اخرى في العودة والرجعة للضحايا لمحاكمة الجلاد والاقتصاص ممن قض مضجع احلامنا.

حاولت المخرجة فنجحت من خلال الموسيقى والمؤثرات الصوتية والاغاني والرقصات والحركة العامة الآخذة بشكل موجات تدفع أخرى منح كل ذلك بعداً تأويلياً أو استعارياً لتأكيد الخطاب الرافض لقسوة الزمن الذي نعيشهُ ومدى اعتقادنا الواضح بأن الرابح في الحرب خاسر لا محالة.

أما على صعيد التمثيل ولأن الممثل علامة مسرحية تمثل لبنة متعاضدة مع لبنات العرض وعناصره الجمالية أثبت الجميع بإمارة عميد المسرح العربي عزيز خيون أن التطور الادائي لديهم لم يقترن بالزمن في خطه الأفقي أو الانحداري بل كان شاهقاً ولم يكرر نفسه بل افرزت حداثة الفعل الميكانيكي الدرامي جسدا والقاء وبتفرد خصيصة تمثيلية راسخة لدى هذه القامات منحت المتفرج هارمونية تلقي لا شذوذ فيها بابتكار علامات ادائية مثلت درسا للجميع بأن المبدع لا يتحرك على خشبة المسرح الا ومعه الخبرة والموهبة والاخلاص والعدوى والاقناع فهذا هو مفهوم الخصوصية والتميز لدى الممثل عند هضبة "التقنية الداخلية والخارجية".

***

كاظم نعمة اللامي

ترى جوليا كريستيڤا أن التناص عملية تداخل وتمازج مجموعة من النصوص ينتج عنها ولادة نص إبداعي جديد. ويُعد الموروث الديني المصدر الأول الذي يوظفه الكاتب في نصه الأدبي. والرواية خاصة تتميز بالقدرة على احتواء النصوص التراثية وتحويلها إلى إبداع أدبي يحقق غايات جمالية ودلالية.

والتناص الديني عبارة عن اقتباس أو تضمين من القرآن الكريم أو الحديث الشريف وغيره. وهنا يحصل التداخل بين النصوص التي تكسب العمل الأدبي ميزات وخصائص شكلية وفنية جديدة.

وقد عمدت الكاتبة صفاء بيدس إلى التناص الديني لتعزيز الرؤية الإسلامية للرواية لدى جيل الناشئة في مواجهة معززات الراهن الخاضعة لهيمنة العقل المادي. فكانت على دراية للمضامين والدلالات القرآنية والحديث الشريف فنجحت في ربط تلك النصوص بالواقع.

- التناص مع القرآن الكريم:

الغالب في التناص مع القرآن الكريم الأخذ من قصصه لأنها تحمل دلالات عدة. وقد احتوت رواية حياة نصوصا كثيرة متنوعة اندمجت وتداخلت وعمقت الرؤية للأحداث وساهمت في تشكيل البناء الفني للرواية.

وأول نماذج التناص القرآني استدعاء شخصية النبي موسى عليه السلام. وقد تلاعبت الكاتبة بحيث غيبت الشخصية الحقيقية للنبي عن طريق التناص والإحالة،ولولا المغزى وبعض المؤشرات التي توحي بتناصه مع القرآن الكريم لما أدركنا أن الكاتبة اغترفت من النص الديني الذي تماشى بكل حرفية مع مسارات السرد. فنجد في قصة سديل وأبيها في الرواية تناصا مع قصة النبي شعيب وابنتيه مع النبي موسى عليه السلام.قال تعالى في سورة على لسان ابنة النبي شعيب عن النبي موسى (يا أبت استأجره إن من استأجرت القوي الأمين). حيث نجد الكاتبة تعطي يحيى بطل الرواية هذه الصفات فعلى لسان الساردة ص54 (كانت سديل تتابع يحيى من هودجها، كانت ترى صدقه وحسن معاشرته لوالدها..لم يكن ليرفع بصره في وجهها). وفي قصة موسى طلب النبي شعيب أن يتزوج إحدى ابنتيه، وفي الرواية نجد والد سديل ص59 يعرض ابنته على يحيى (إني أعرض عليك الزواج بابنتي لحسن خلقك ودينك).

أما النموذج الثاني للتناص مع قصة النبي موسى عليه السلام فنجده في الآية 7 من سورة القصص حيث يقول الله تعالى (وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه فإذا خفت عليه فألقيه في اليم ولا تخافي ولا تحزني إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين). وهذا ما حدث مع أم يحيى بعد وفاة زوجها وخوفها على ولدها من عادات القبيلة فابعدته مع جماعة عبر البحر ص 80 (أخذته وأوصت به جماعة تركب البحر فهناك حياة هناك خلف البحار) فيحيى بطل الرواية والنبي موسى تم إنقاذ حياتهما عن طريق الماء. وكل منهما تربيا على يد غير والديهما، فهذا تناص آخر مع قصة موسى عليه السلام.

كما ورد في الرواية تناصا مع قصة النبي يوسف عليه السلام مع امرأة العزيز ففي سورة يوسف 29 يقول الله تعالى (يوسف أعرض عن هذا واستغفري لذنبك إنك كنت من الخاطئين). وقد تناصت قصة يحيى مع ملكة بلاد الفرسان حيث حاولت جره إلى المعصية لكنه تمنع وفضل الموت في الصحراء على أن يعصي ربه. ففي ص45 ما جاء عن الملكة على لسان الساردة (قالت وهي تمسك ثيابه بيدها الأخرى،لكنه دفعها بقوة فارتدت إلى الخلف وسقطت). فاتهمته عند زوجها الملك كما فعلت امراة العزيز فكان مصيره أن ترك في الصحراء ليموت فسلم نفسه للحراس طوعا كما فعل النبي يوسف عليه السلام عندما فضل السجن على الوقوع في المعصية.

كما تستحضر الكاتبة قصة هدهد النبي سليمان وتقصيه لأخبار البلاد ففي سورة النمل 22 يقول الله تعالى على لسان الهدهد للنبي مبررا غيابه للنبي سليمان (وجئتك من سبأ بنبأ عظيم). وفي روايتنا عندما يسأل الهدهد يحيى من أي البلاد جاء فيخبره من بلاد الفرسان يعقب الهدهد ص52 (بلدة فاسدة وأهلها ظالمون) وهنا تكون الكاتبة قد استخدمت تقنية التناص باستعادة قصة هدهد سليمان عليه السلام..

- التناص مع الحديث الشريف:

يعد الحديث النبوي الشريف التشريع الثاني بعد القرآن الكريم والتناص مع الحديث الشريف من أنجح الوسائل لإيصال وتبليغ رسالة ما وقد استثمرته الكاتبة في نصها فاستخضرت نصوصه بما يتماشى مع مضمون كتابتها ويخدم إبداعها. ومنها التناص الذي جاء على لسان هجان أخت يحيى ص95 (لأن يهدي الله بك قلبا خير من الدنيا وما فيها) مع حديث (فوالله لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم). وما جاء على لسان سديل لوالدها ص61 (ألم تقل لي أن المسلم أخو المسلم؟) فقد تناص مع حديث النبي صلى الله عليه وسلم (المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه) إلى آخر الحديث.

وغيرها الكثير من التناصات التي لا تسعنا هذه الدراسة بالإلمام بها والتي نجحت الكاتبة في توظيفها.

بقي أن نقول بأن رواية حياة رواية موجهة بذكاء إلى فئة الفتيان حيثراعت صفاء بيدس استخدام الخيال الذي كما قال عنه الباحث العراقي نجم عبد الله يرمم الفجوة بين مدركات الطفل وخبرته المحدودة وبين ظواهر العالم المعقدة التي يبدأ بملاحظتها منذ أن ينضج وعيه على العالم حوله .

كما استخدمت عنصر التشويق وهو عامل مهم في أدب الفتيان لشد انتباههم طوال صفحات الرواية وأن تكون الأحداث غير اعتيادية. كما واهتمت بطول الجملة ولغة الحوار..وقد قدمت العمل بحيث امتزجت فيه الحكمة والمغامرة والحب والخيال الواسع.

* الرواية من إصدارات الآن ناشرون وموزعون/2021

***

قراءة بديعة النعيمي

(حينما اتكلم، اتكلم نفسي، اتكلم ثقافتي)

تبنى الناقد عبدالله الغذامي قضية النقد الثقافي في الوطن العربي على اساس انه آلية جديدة لقراءة النصوص من وجهة نظر النقد الثقافي، اذ تجلت ملامح هذا المشروع ضمن كتب عديدة له، اذ يرى انه فرع من فروع النقد النصوصي العام، ويرى انه احد علوم اللغة والحقول الالسنية، يعنى بنقد الانساق المضمرة التي ينطوي عليها النص  بكل انماطه وصيغه، ماهو غير رسمي وغير مؤسساتي، كذلك لم يعد يرى للنقد الادبي لازمة ومن هنا اعلن الغذامي موت النقد الادبي وولادة النقد الثقافي، كونه رأى ان تركيز الناقد على جماليات النص جعله غافلا عن عيوب الخطاب النسقي، وهو يعني بذلك الزام الناقد دراسة المكون الاول لشخصيتنا السلوكية والثقافية، وهذا ما ولد سجالا وجدلية واسعة وروى متباينة حول الموضوع ما بين المؤيد والرافض والمتقبل للقضية لكن برؤيا جديدة.(١)

من المؤكد ان ما طرحه الغذامي يحسب له، اذ احدث طرحه للقضية موجة من الحراك في ساحة النقد العربي  بعد خموده لفترة طويلة، لكنه ركز على الجانب السلبي لمفهوم الجمالية وهذا ما أخذ عليه.

مثل النقد الثقافي التوسع في مجالات الاهتمام والتحليل للانساق، اذ لم يعد ينظر الى الادب بالمفهوم التقليدي السائد في مجال الدراسة النقدية والتحليلية، بل غدا يمثل في الدراسات المعاصرة جزء ا من كل، وهو اكبر واوسع واشمل، اذ سُمّي هذا الكل بالدراسات الثقافية بما تعنيه الثقافة، والتي بامكاننا ان نوجز دلالتها على انها مكون معرفي شمولي يرصد حراك الانسان وفاعليته في ابداعاته وانجازاته بتخطيطات ذكية، ودوافع عقلية، ومواقف فكرية ونوازع شعورية متنوعة ومعقدة، هي دائرة نشاط الانسان المتحققة على الارض، ووصفها ويليامز بأنها كل طريقة للحياة يعيشها الناس، ويؤكد الناقد روبرت شولز ان قراءة النص الادبي ترتكز على نمطين من الشيفرات توليدي وثقافي، ويوكل للشفرات الثقافية تحليل المادة اللفظية كي نبني عالما اساسه الخيال، وتكون فيه انفسنا مشرقة، اذ ان فهم احداث الشخصية وتراتيبيتها الاجتماعية، وتموقعها لا يكون الا بفعل اللغة، التي تكون مركزا للشيفرات الثقافية، ما يعني ان النص هو نص ثقافي منتج للانساق مولّد للجدلي والفلسفي والاشكالي وتشكيل عالم وفضاءات رحبة يتمازج فيها الواقعي بالمتخيل وتندغم الذات مع المعية، ويكون ذلك اما تصادما او تقاربا أو تضادا، هذا بدوره يثير المتلقي ويحفزه على كشف العالم وتجلياته ضمن مسار فاعل للاسئلة حول الانسان ومكانه وزمانه، ضمن هذه الجدلية يبقى النص نابضا بالتوتر، والحس القلق، والتساؤل، كونها تدور حول الانسان كقضية اساسية، لهذا تكون القصيدة قابلة للقراءات والتأويلات المضاعفة) اما الدراسات الثقافية فقد تشكلها اسئلة ما بعد الكولونية  حول القهر الاستعماري، ومثلت الوسائل التكتيكية لمواجهة تلك الممارسات، اضف لما تقدم فهي كذلك من الممكن ان تتشكل من دراسة النوع، (الجنس) يعني ذلك ابانة العلاقة الخفية بين الرجل والمرأة، وقد تتشكل من الدراسات النفسية، والاجتماعية ايضا ؛ وهذا حسب فكر الفلسفة الماركسية، وقد يكون للاجراءت الانثروبولوجية دور في تشكيلها، او تطبيقات النقد الادبي اوالجمالي.(٢)

من الرؤى النقدية التي تتوافق مع ما سبق ذكره، مايراه (ميكل دوفرين) الذي افترض وجود شكلين متنافرين من قصدية الابداع الفني، يتمثلان بالقصد الحاضر وقصد التأمل، اما القصد الحاضر اي الحاضر المعاش تتحد فيه الذات مع الموضوع، وتؤكد الذات في قصدها التأملي، بعدها التأملي عن موضوعها الخاص، ومن خلال الانتقالية بين القصد الحاضر والقصد التأملي يتولد الجدل الذي يؤلف الجدل الجوهري لوعي الانسان، اذ يزاح الحاضر المدرك الخاضع لسيطرة الافكار ازاحة مستمرة، اما الدور الانتقالي فيكون الخيال فيه محكما سلطته.(٣)

ولرؤية ياكبسون صداها ضمن هذه الجدلية، اذ يرى ان الدراسات الأدبية يمكن ان تصبح علما،  اذا ما سلط التركيز على دراسة النسق فقط، كون النسق نظاما، اذ تتجلى نظاميته في مخاتلته وطبيعة لغته المراوغة، فضلا عن ذلك يصبح شكل النص المؤلف بهذه اللغة الخاصة بابا لتحرر رؤية الشاعر وقيدها في الوقت ذاته.(٤)

من الرؤى النقدية التي رفدتها الحقول الثقافية ما قدمه ستيفن غريبلات حول الانطلاق من مفهوم جماليات النقد الثقافي، اذ مكنت هذه الرؤيا من تخفيف حد الهوة السحيقة بين الشعرية والثقافية، ورأت من الجمالية اداة تسويق وتمرير المخبوء، فكل ايحاء جمالي يضمر نسقا، فيكون له دور على التعمية الثقافية، وهذا بدوره يمكن الانساق من الاحتفاظ بحيويتها ودلالتها، ووجدت هذه الرؤيا صداها في الاردن، اذ تبنى الناقدعبد القدر الرباعي هذه الرؤيا منطلقا من مرتكزات النقد الثقافي التي حددها الغذامي وقد تبعه الناقد يوسف عليمات والعديد من النقاد، إذ اطلق عليمات عليها (بالرباعية الجديدة)

اما تركيز الناقد على الانساق المضمرة هدفه ابانة االوظيفة النفعية لكل ما هو جمالي او بلاغي، نعني بذلك انه لايمكن للجانب الجمالي ان يهمل من لدن الناقد، في الوقت الذي تنظر فيه العديد من الدراسات للجانب البلاغي والجمالي على انه حيل خادعة وعلى الناقد ان لا يتطرق لها، و من جهة اخرى لا يمكن لمبدع النص ان يتجاوز الجانب الجمالي كونه الهدف الرئيس والاساس لتحقيق شعرية الشعر، هذه الرؤيا التي شكلت عالم النص هي ذاتها التي تقتحم العالم لتخرج الشاعر من قوقعته ضمن حدود زمانية ومكانية متينة الاسوار وعالية الجدران، فتخترقها تلك الذات المبدعة ويعلو فوقها ليصل الى عالم لا تحده المواد مهما كانت صعبة.(٥)

تتمثل علاقة علم الجمال بالنقد من خلال تمثيل العمل الفني بثلاث دوائر متداخلة، مثلت الدائرة الاولى الكبرى وتشمل هذه الدائرة العناصر التي تجعل العمل الفني عملا فنيا وهي ضمن ساحة عالم الجمال واهتماماته، وفي الوقت ذاته تفيد الناقد، اذ توضح له من البداية بأن العمل الذي ينقده عمل فني او انه بعيد عن الفن، ويتمثل بالتفكير بالصور اما الدائرة الثانية الاوسط فهي التي تحدد العمل الفني فيكون قصة او  شعرا او الرواية، وهي محل اختصاص عالم الجمال والناقد، اذ يحدد عالم الجمال العناصر العامة التي تميز كل عمل ادبي، اما مهمة الناقد فيصور لنا كيف ترجمة المبدع هذه العناصر الفنية ووظفها وجسدها في ابداعه، اما الدائرة الصغرى فتتمثل بالعناصر الاسلوبية والتكنيكية، وتقع ضمن اهتمام الناقد و اجتهاده اذ يعمل على اجلاء الخصائص التي تميز اسلوب الكاتب وطريقة بنائه للعمل الادبي والوسائل التكنيكية التي وظفها، ويعد الفيلسوف الالماني الكسندر جوتليبب بومجارتن (1714 /1767) اول من امسك مصطلح علم الجمال، اذ كان يقصد به علم الاحساس، هدفه دراسة الافكار الغامضة مقابل الافكار الواضحة التي دعا اليها ديكارت، و يرى ان الفن تعبير يوقظ الشعور، وهذا بعيد كل البعد عن الجلاء العقلاني، اي ان مادة الفن ليست عقلية، وفي الوقت ذاته يرى ان القيمة الجمالية لاي عمل فني تلتقي مع الحيوية الحدسية للصنعة المنصهرة للتجربة التي تبعتها، وهذا يعني انه اول من مهد الطريق لجعل الجمال ليس علما بل انه شديد الصلة بالأحساس مقابل هذا التيار ظهر تيار اخر للفيلسوف الالماني فردريك هيجل (1770 /1831)، اذ جعل من الجمال فلسفة للفن الجميل، اي انه تحليل فلسفي للوعي الجمالي ورسم خط فاصل بين الفن الجميل والفنون التطبيقية، اذ يرى المفكر المجري جورج لوكاتش، ان الادب يجيب عن  سؤال واحد والذي يتمثل بقوله (ما الانسان ؟)، وهذا السؤال يختزل النظرة الكلية للادب ازاء العالم والمنظور في رايه.(٦)

من الممكن لاي شخصية ان تعلي من قيمة ما وتدافع عنها بمحاولات حتى وان باءت بالفشل، اذ يرفع هذا المنظور من شأن الفن ويجعل منه رؤية كلية شاملة بعيدة عن التجربة الذاتية، بعبارة اخرى توحد الذاتي بالموضوعي.، ويذهب لوكاتش الى ابعد من ذلك ويصبو الى نقل الحياة وتصويرها في كلية شاملة، ومايوحد ذلك هو الاهتمام بتكامل الانسان، ويكون ذلك بالخروج عن المصالح الضيقة والتعبير عن الوعي الشمولي، والايديو لوجية هو ان يتنازل المبدع عن ذاته الجزئية من اجل الانسان، فجوهر الادب هو التوحد مع التجربة الذاتية كشفا للقيمة الانسانية العامة، ولا ينقل الادب الواقع الفج او ايديولوجية محددة،  بل انه يحاول ان يسمو بالواقع وينقيه ويرفعه نحو المستقبل، ويؤكد لوكاتش ان الادب فن عظيم يسعى الى تقديم صورة يحاول ان يحل من خلالها التناقض بين المظهر والحقيقة، والجزئي والعام، والمباشر والتصوري،، حتى ينصر كلا النقيضين وتقديم شعور يوحي بالتكامل الذي لا ينفصل، ما يعني اننا ملزمون بالنظر الى الادب برؤية كاملة شمولية ولا يقصر على حقبة تاريخية بعينها وواقع اجتماعي بعينه، اي ان عليه ان يتجاوز الحقبة التاريخية، وبتتبع منتج السماوي تجلى لنا انساق مخاتلة تصارع انساقا تنافرها، لكن اذا ما حاولنا تنقيب تلك الانساق بدت مقبولة، مقنعة للمتلقي، من خلال تبنيه قانونا يسمح بذلك انطلاقا منها يدرك الجمال الفني، وعندما نقول ان النص الشعري هو انعكاس لظاهرة ثقافية جمالية، يعني ذلك ان الشاعر يرفد مادة النص الشعري من منبع الثقافة من صورة او فكرة او مادة فنية، من نبع ثقافة التفاعل مع المجتمع بأعرافه وتقاليده، وهذا يلزمنا الوقوف على (النسق الجمعي) و(النسق الفردي) اما النسق الجمعي يتمثل بثقافة المجتمع الذي ينسب اليه الشاعر او الممدوح، كذلك الاعراف والمرجعيات التي تخضع لهذا النسق ويمثل النسق الفردي ؛اي النسق الشعري، رؤية الشاعر الذاتية للأخر، اما الاخر فيمثل القبيلة، او الوجود، او الممدوح، او المهجو.(٧)

يتجلى لنا السماوي رافضا ثائرا تارة ومتعاليا تارة اخرى، فيقول في قصيدة (عصفا بهم):

حاشاك تنثر للغزاة ورودا

فقد خلقت كما النخيل عنيدا

*

لازال فيك من الحسين بقية

تأبى الخنوع وان تباح وريدا

*

ومكبرون يرون في وثباتهم

باسم الحنيف على الغزاة سجودا

ومرابطون يشدهم لترابهم

ما شد للكتف السليم زنودا

*

يأبن الاباة المرخصين

ونفيسهم عن عرضهم ووليدا

*

كن مثل طين الرافدين

ولا تكن  ان اوقدوا نار الضلال حديدا

*

سل الضلوع اذا عدمت اسنة

واقم عليهم بالجهاد حدودا

*

واكنس بمجرفة الرصاص قمامة

بشرية لا تستحق وجودا

*

شطبا لها من لوح طينك

حسبها  ان شرعت يوم احتلاك عيدا(٨)

نستذكر من خلال هذه الحماسة حقيقة احداث وقعت بعد دخول المحتل الاميركي وما اثير حول هذه القضية من استقبال بعض من رخصت له ارضه وشعبه المحتل بالورود، وهذه الحقيقة مثلت الارضية التي انطلق منها السماوي رافضا التهاون والخنوع للغزاة، اذ يوجه خطابه للذات المنقادة المتعاونة مع الغزاة فقد تمثل السلطة السياسية،  أولي الامر والحكم في العراق  ومن معهم ممن سولت له نفسه التفريط بأرضه،  ما يوكد ان النص يرتكز على نسقين متعارضين  تمثل الاول ذات الشاعر السماوي / العراق، ومثل الثاني ذات المتهاون الخنوع / السلطة السياسية، الادارة السياسية، وما يتجلى للمتلقي ان خطاب السماوي محمل بنبرة تحدٍّ لتلك الذات واستعلاء، فشاعرنا يرى ان الاستعلاء والعنف من لدن ذات السلطة لايمكن ان يواجه بالضعف والاستسلام، بل يلزم الشعب بأعلاء صوت الرفض، متجاوزا ما تفرضه السلطة، ولنا ان نقول ان صوت الشاعر الرافض لإملاءات السلطة المتعاونة مع المستعمر تحمل اشارة تحذيرية، واشارة ترفض الاستعباد والذل، فمن خلال استحضار الذات الشاعرة لقضية الحسين(عليه السلام )، التي لا تمحى من ذاكرته، دعا السماوي ابناء العراق الى الثورة، اذ مثلت قضية الحسين (عليه السلام) الثورة والرفض والانقلاب على الواقع، وهذا ما يقابل الخنوع  الذي اوحت به دلالة لفظة الغزاة / يوم الاحتلال، وبتصادم تلك التناقضات على ارض واقعه ؛ تشكل الصراع داخله ؛ لمحاولة الشاعر بعث الواقع من جديد وتحويل السلبية الى ايجابية، اذ كان لصيغة الامر التي شكلت نسيج النص دلالة على التهاون والخضوع ففي قوله (كن، لاتكن، سل، اقم، اكنس، شطبا) وهو ما يدل على محاولة الشاعر ايقاظهم من حالة الركون والتهاون والخضوع، فهم كالنخيل بشموخهم، وهم مازالوا يحملون مبادئ الحسين عليه السلام وهم شعب يرفض الذل والخنوع، وكأنه اراد القول عليكم ان تكونوا حماة للوطن فأنتم احفاد الحسين وانتم شعب أصيل، لا ان تكونوا شعبا متهاونا في قضية وطنه، ولو حاولنا تنقيب المفردات المكونة لنسيج النص نرى انها اوحت حاول الشاعر أن يتجاوزها بتقديم ماهو ايجابي ماهو الذي احكم سلطته على اسلوب الشاعر وفكره فبدل أن يعري تلك الذات المتهاونة بأمر وطنهم، حاول ان يسند تلك الذات ويعلي من شأنها، ويذكرهم بمجدهم فهم أبناء بلده، وهو فرد منهم لم يتخل عن مسؤولية بلاده، فحب الوطن والولاء له والتعظيم من شأنه هو ما يعزز انتماءك ويثبت هويتك، كذلك لصيغة الامر التي شكلت نسيج النص دلالة على التهاون والخضوع الذي يغلب على أبناء بلده لذا حاول تنبيههم ففي قوله (كن، لاتكن، سل، اقم، اكنس، شطبا)  ما يدل على ذلك، ومن المؤكد هذا غرس الثقافة ببعدها الانساني الذي اتكأ عليه النص والذي فسره الناقد الثقافي الذي يحاول تنقيب قبحيات النص على انها نبرة استعلاء، لكن ما يراه ناقد الثقافة الجمالي ماهو الا توازن يحاول الشاعر ان يحدثه بين ذات الشاعر والاخر الذي يصارعه.

ونلمح صراع السماوي مع المكان الذي يشكل نسق الطلل والوقوف على ما آلت اليه مدينته السماوة ذاكرا الاهل والجيران، وتفاصيل المكان الذي نشأ وترعرع فيه مسقطا خلجات ذاته على متن النص اذ يقول:

كاللص

فـي حَـذرٍ دخـلـتُ مـدائـنَ الـوطـنِ الـجـريـحِ

مُــفــتِّــشــاً فـي زحـمـةِ الأيـامِ

عـن أمـسـي الـقـتـيـلْ

*

وعـن الـسـمـاوة والـفـراتِ

ونـخـلـةِ الـبـرحـيِّ وسـطَ الـحـوشِ والـجـارِ الـقـديـمِ

وبـيـتـيَ الـمـوعـودِ فـي فـردوسِ بـسـتـانـي

الـذي اسـتـودعـتـهُ

مَـنْ خـان نـامـوسَ الأمـانـةِ والـرجـولـةِ

والـخـلـيـلْ

*

فـرأيـتُ أقـمـاراً مُـهـشَّـمـةَ الـسـنـى

والـنـهـرَ يـســتـجـدي الـنـدى

والـعـاشـقـيـن بـأرضِ نـخـلـةَ يـشـربـون الـدمـعَ

والـبـسـتـانَ مـذبـوحَ الـنـخـيـلْ(٩)

نلمح صراع الشاعر مع نسق الطلل، اذ يقف معاينا المكان (السماوة، مدائن الوطن الجريح، نخلة البرحي وسط الحوش بيتي الموعود في فردوس بستاني)، فيحاول اقناع ذاته بجمالية المكان وسعادته لرؤيته من جديد رغم سلبية المكان الذي بدى له عكس ماتمنى ان يراه فتضاربت احاسيسه تجاه المكان، ففي الوقت الذي يتوق الشاعر العودة الى وطنه نراه ينفر منه وذلك لما آل اليه المكان من دمار، وهذا يتجلى من الحقول الدلالية المكونة لبنية النص (الاقمار مهشمة السنى، النهر يستجدي الندى، العاشقين يشربون الدمع، البستان مذبوح النخيل)، وهو ما عكس صورة سلبية للمكان،، ليس هذا فحسب فنراه ايضا يستدعي نسق الزمان الذي يتوق الى استرجاعه، مفتشا عنه من خلال استرجاع ذكرياته وكأنه يجد في ذكرياته والعودة الى الماضي مايثبت هويته وانتماءه للوطن الذي نراه يدخله كاللصوص وهذا مايؤكد شعوره بالاغتراب، ورغم ان ما مضى من ايامه كان قد احدث ندبا لا يلتئم الا انه يحاول ان يعود اليه وكأنه يعكس موقفا ايجابيا تجاه ما مضى من الزمان رغم سلبيته وهنا يكمن الصراع بين الهروب من الماضي والرجوع اليه، فأيا كانت الثنائيات النسقية التي تحكمت بسير الامور، نرى السماوي يراوح بين الانتماء /والاغتراب، الكينونة / والتلاشي، القوة / والضعف، اذ احدثت تلك الانساق انسجاما يتناسب مع ايديولوجية الشاعر وثقافته، وكأنه يقول انني اتوق للعودة الى وطني رغم ما حلَّ به من دمار وابحث عن ذكرياتي رغم انها لم تحمل الا الحزن والالم الا اننا نراه يجد ذاته الضائعة المغتربة في ذلك الوطن المسلوب الارادة، المستغل من قبل السلطة السياسية، فأثبات هويته وبناء كيانه لا يتحقق الا بالانسجام والانغماس في ذلك الوطن الجريح وهذا ما أراد السماوي التعبير عنه فهو يحاول التعبير عن اصالة الانتماء واثبات الهوية مؤكدا مكانتها ودورها لاثبات وجوده، رغم الترف وحسن الحال في بلاد الغربة الا انه يفضل العودة الى الوطن، لذلك نراه يوجه سؤالا لقلبه طالبا منه النصح في امره هل يترك الترف ويعود الى العراق ام ان ما يحدث في العراق لا يعنيه كونه نال منه ما نال، فيقول:

أأقـولُ مـا شـأنـي

رغـيـفـي طـازجٌ وحـبـيـبـتـي قـربي

وبـيـتـي عـامـرٌ

وكـؤوسُ مـائـدتـي طِـلاهـا الـزَّنـجـبـيـلْ؟

*

فـسـألـتُ قـلـبـي

أيـهـا الـقـلـبُ الـفـراتـيُّ الـمُـنـى والـعـشـقِ

والـحُـلُـم ِ الـجـمـيـلْ

*

كـُـنْ نـاصـحـي..

فـأجـابَـنـي قـلـبـي ســأبـرأ مـنـكَ

لـو خِـفـتَ الـلـظـى فـي الـذودِ عـن عـشـبِ الـغـزالِ

وعـشِّ عـصـفـورٍ عـلـيـلْ

*

وعـن الـحـديـقـةِ والـفـراشـةِ

والـكـمـنـجـةِ والـهـديـلْ

*

فـخـشـيـتُ أنْ يَـعْـتـابَـنـي شَــرَفـي

ويـبـرأ مـن جـذوري

طـيـنُ بـسـتـانـي الأصـيـلْ

*

لـو أنـنـي أطـبـقـتُ أجـفـانـي

وقـلـتُ

حـبـيـبـتـي قـربـي وبـيـتـي عـامـرٌ

وكـؤوسُ مـائـدتـي طِـلاهـا

الـزنـجـبـيـلْ (١٠)

الواضح لنا ان الصراع الذي يرتكز عليه المقطع الانف الذكر يتمثل بصراع داخلي يتأجج في كوامن ذاته لذلك نرى قلبه ينفصل عنه ليكون الاخر الذي ينصحه ويوجهه الى الصواب، اما السماوي فقد بدى متحيرا في امره مترددا بين البقاء الذي عكس الصورة الايجابية وبين العودة الى العراق والذي عكس الجانب السلبي، لكن السماوي فضل العودة على البقاء رغم ماتجلى لنا من سلبية العودة

خلاصة القول، لنا ان نقول بأن المبدع يعمد الى طرح ايديولوجية عامة مطلقة، وان عليه ان يكون ملتزما، اذ يكون الالتزام فلسفيا ؛ اي اثبات ان الانسان هو اساس الوجود وليس زائدا عن الحاجة الكونية، ويكون الالتزام كذلك اجتماعيا يخص قضايا المجتمع.

ما يتجلى لنا من النصوص المنتقاة ان صورة النسق الفردي الشعري تناور بين الانتمائية الى النسق الجمعي والولاء له، او التمرد عليه بنسق مضاد ليشكل الشاعر عالمه الذاتي الخاص، ما يعني ان النص الشعري هو محاولة الشاعر لمعالجة الواقع وتحقيق الانسجام من خلال الانسجام الحاصل ضمن حدود الواقع المعاش، ولان النص ينتمي الى الواقع من خلال شرطه اللغوي، لذلك يعمد الشاعر صياغة واقعه من خلال الواقع، بتمرده عليه لاعادة بنائه بما يتلاقى مع ميوله ورؤيته، اما البنية اللغوية فتتجلى غريبة عن واقعها الاول واقع القول المؤتلف، يكون ذلك من خلال صورتها الغريبة فتتجلى معانقة للواقع الثاني، المتمثل بواقع القول المختلف، وهذا يلتقي مع رؤية ج.ب. بالب، اذ قال ان اللغة الشعرية لاتعزل عن سياقها الثقافي والتاريخي والجغرافي، لذا فالشاعر لا يخرج عن حدود واقعه المدرك بتلاقيه او تنافره.(١١)

***

نسرين ابراهيم الشمري

.....................

المصادر

1. ينظر. تمثلات النسق الثقافي في الشعر الجاهلي، يوسف محمد عليمات، الاهلية، الاردن، ط١، ٢٠١٥

2. ينظر.الاسس الجمالية في النقد العربي عرض وتفسير ومقارنة، عز الدين اسماعيل، دار الفكر العربي، القاهرة، ط١،  ١٩٩٩

3. ينظر.البنية الجمالية في الفكر العربي الاسلامي، د.سعد الدين كليب، منشورات وزارة الثقافة، دمشق، ١٩٩٧

4. ينظر.جدلية النقد وعلم الجمال، مجاهد عبد المنعم مجاهد، دار الثقافة للنشر والتوزيع، القاهرة، ١٩٩٧

5. ينظر علم الجمال الاستطيقا، دنيس هويسمان، تر اميرة حلمي مطر، المركز القومي للترجمة، القاهرة، ٢٠١٥

6. ينظر.جماليات التحليل الثقافي الشعر الجاهلي انموذجا، د.يوسف عليمات، الموسسسة العربية للدراسة والنشر، الاردن، ط١، ٢٠٠٤

7. المصدرالسابق

8. تعالي لابحث فيك عني، يحيى السماوي، دار التكوين، استراليا، الطبعة الاولى، ٢٠١٢

9. ينظر.جماليات التحليل الثقافي ف الشعر الثقافي، يوسف عليمات.

10. المصدر السابق

11. المصدر السابق

ديوانُ (التّحْليْق بأَجْنِحَةٍ مِنْ  حجر) أُنموذجًا

المُستخلص: إنمازَ التناصُ بصفاتٍ مُلهمةٍ للنصِ،  قادرةٍ على سَبْرِ أغوارهِ والتّغلغلِ إلى عُـمقِ طبقاتِهِ، فالمتحسّسُ لهذه الظّاهرةِ يُدرِكُ الغنى التناصِّي فيه، والذي يَستحقُ التوقْف عندَهُ للبحثِ والدّراسةِ والتّحليل، وإنْ أشارتْ بعضُ الدّراساتِ الأكاديميةِ بإيماءاتٍ لا تُغني عن تناولِ الظّاهرةِ على نحوٍ مُتخصّصٍ في شعرِ يحيى السّماوي، ومحاولةً منا لرصدِ ملامحِ هذه التّجربةِ الجديدةِ وتقديمِ رؤيةٍ تناصيةٍ تنبعُ من ملاحقةِ الشكلِ وتتبُّع مراحلِ تطوّرهِ، كما نقفُ عندَ المضمونِ، متأملينَ تشكيلَ اللّغةِ الشّعريةِ لديه، ومدى تعبيرها عن المفهوماتِ الاجتماعيةِ والفكريةِ والعقائدية والآيدلوجية الثقافية.

يُقدّمُ هذا البحثُ قراءةً عن جمالياتِ التّناصِّ في شعرِ السّماوي، إذ جاءتْ الدراسةُ في مقدمةٍ ومبحثين : تضمّنَ المبحثُ الأولُ: مفهوم التناصّ، مبينًا إيّاهُ لغةً واصطلاحاً، فيما عرضَ المبحثُ الثاني مستويات التناص الدّيني (القرآني) في شعرِ السّماوي، مع عيناتٍ اجرائيةٍ تطبيقيةٍ مُختارةٍ من شعرِهِ، أعقبهُ التّناصُّ الأدبيُّ (الشّعري) في شعرِه، ومن ثَم  التّناص التّاريخي، والذي تناصَ فيهِ بإشارةٍ أو إيحاءٍ مع أبرزِ الشعراءِ، مع ذكر الشواهد التناصية المحكمة، تلتهُ ثمارُ النّتائج والمصادر والمراجع.

الكلماتُ المفتاحيةُ: السّماويُّ، التّناصُّ، التّناصُّ القرآنيُّ، التّناصُّ الشّعريُّ، التّناصُّ التّاريخيُّ.

مُقدِّمة

تنوّعت مصادر التناص لدى الشّعراء بتعدّد الثقافات التي احتكَّ بها كلُّ شاعر، فإذا ما تتبعنا مفهومه ونشأته في تراثنا العربي القديم، نجده مُصطلحاً جديداً لظّاهرةٍ أدبيةٍ ونقديةٍ قديمةٍ، وكانوا يُسمّونه بأسماء أُخرى، مثل: (التّضمينُ، التّلميحُ، الإشارةُ، الاقتباسُ،....)، فالتأملُ في طبيعةِ التّأليفاتِ النّقديةِ العربيةِ القديمةِ وخاصة البلاغية يُعطينا صورةً واضحةً لوجودِ أصولٍ أو جذورٍ لقضيةِ التّناصِ فيه، ولكن تحتَ مُسمياتٍ أخرى وبأشكالٍ تقتربُ من المصطلحِ الحديث.

وقد ازدهرت مصادرُهُ عندَ السّماوي[1]. بحكم العصر والمكان الذي عاش فيهما  إذ جاء عصرهُ مزيجاً متعددًا من الحضارات والثقافات التي انصهرت معاً في وعاء الحداثة، وتجلّى في شعره تنوّعُ هذه المصادر المعرفية. إنَّ أهمَّ ما يُثيرُ في هذا النوعِ (التناص) عـندَ الشّاعر هو أسلوبُهُ المُميزُ والتّعبيرُ السّاحرُ والقُدرةُ الفائقةُ في استدعاءِ النّصوصِ القديمةِ ومحاكاتهِا تاريخياً، مما شكّلت وحدةً موضوعيةً ناهضةً لديه، حيثُ رسمت نسيجاً معرفياً وتاريخياً وجمالياً في إنتاج النصّ، فشعره يتجذّرُ امتدادًا لخنادقِ التاريخِ وكهوفِهِ، لِما عاصر من حقبة زمنية مضمّخة بالمتغيرات التاريخية والانقلابات السياسية، فاحتواء النص السّماوي للتاريخ ينطلق من رؤيته ومنهجه الساميين، فضلاً عن قراءاته المحضة للواقع المحيط به، غير أن الذي زاد التّناصَّ جمالاً هو تخييله الشعري الوقّاد، الذي لم يكن ليتجاوز رؤيته المعهودة، ويلاحظ أنَّهُ يولجنا في نصٍّ جديدٍ من خلالِ سكبهِ في نصٍ تليدٍ، ويتكرّر هذا الاستدعاء ليولد من رَحِمِهِ تناصٌ جديدٌ.

وقد أثرى السّماويُّ في تناصاته المتنوّعة ومخياله الحسّي المرهف آفاقًا واسعةً وعوالمَ مُعصرنة من أساليب التعبير وتجلّيات التلقّي المرتبطة بهوية وطابع الشعر العربي القديم، والذي يستمدُّ مضامينه من ظلاله الغنية الوارفة، كالإشاراتِ التّناصيةِ التي تتضمن في تركيبها اللّغوي الشعري تضميناتٍ لُغويةً مجردةً أو اقتباساتٍ حسيةً محضةً، وجدت طريقها المباشر دونَ تكلّفٍ أو اقحامٍ في مستوى التّناصِّ الشعري للشاعر. ومن خلال هذا المهادِ التقديمي سنسلطُ الضوءَ على مباحثِ الدّراسةِ الآتية.

المبحثُ الأولُ: مفهومُ التّـناصِ

لـجماليات التناصِ في شعر السّماوي أثرٌ واضح، فإذا ما تأملنا في مفهومه ونشأته في تراثنا العربي، نجده مصطلحاً جديداً لظّاهرةٍ أدبيةٍ ونقديةٍ قديمةٍ موروثةٍ، فالقِراءةُ المتأنيةُ للنتاجِ النّقدي العربي القديم، تُعطينا تصورًا ناضجًا لوجود أصول التّناص فيه، حاملاً عنواناتٍ مختلفةً تداني المصطلح الحديث.

وقد تطوّر التناص لديه لتطوّر عصره ثقافيًا وفكريًا، وكذا البيئة التي نشأ  فيها ؛ إذ جاء عصره مزيجاً من الحضارات والثقافات التي انصهرت معاً في وعاء الحضارة والثقافة، مما دعا إلى تنوع أشكال التناص فكان (دينيًا، أو شعريًا، أو أسطوريًا، أو رمزيًا، أو تاريخيًا)، كما نقف عندَ تعريفهِ لغةً واصطلاحًا.

يُعدُّ التّناصّ من المصطلحات الغربية الحديثة، التي دخلت على الأدب العربي مبكّرًا، إذ أنَّهُ من الأساليب الشعرية الزاخرة والتقنيات الفنية  المؤثرة التي لجأ إليها السّماوي في خطابه الشعري، معتمداً اللّغة وعناصرها النّصية ومقدرتها الشّعرية، ومستغلاً هذا الإرث بما فيها من سماتٍ إيحائيةٍ ورمزيةٍ ودلاليةٍ؛ لأنَّها ضربٌ من تقاطع النّصوص، يُفضي على النّص ثراءً ونضجًا، ويُسهم في البناء الجمالي وخلق الأثر في المتلقّي بما يتّجهُ من أبعادٍ دلالية، إذ تكمن" قدرة المبدع في توليدِ تراكيبٍ  وصورٍ جديدةٍ لم تكن مألوفةً في الاستعمال، تُفاجئ المتلقّي وتهزُّ كيانَهُ وتحققُ متعةً له"[2].

ويمثّلُ التّناصُ انفتاحاً على الأعمال الأدبية وتنوّعها ليفسح المجال لأقوال أُخر، وتأويلاتٍ أُخر تعيش التجديد مع أقواله وتأويلاته حالة من التعدّدية التي تتناقض وتتعاضد من دون أن تصل إلى مرحلة المواجهة والسّعي إلى إلغاء الآخر، لهذا فالتّناص" جزءٌ من استراتيجيةِ الانحرافِ القائمةِ على مغايرة اللّغة الشّعرية للخطاب الاتصالي – النثري" [3]. وهنا تكون العملية تواصلية بين (الشّاعر والماضي والمتلقّي)، فبالإضافةِ إلى مخزونِ السّماوي الثقافي، فإنَّ إدراكَ أبعاد النّصِ التّاريخية واللّغوية والنّفسية تتوقف على معرفة المتلقي وذاكرته الحفظية، وطريقة ترشيحه المتداخل في النّص، وعليهِ فالتّعالقُ النّصيُ ظاهرةٌ لغويةٌ معقدةٌ في نظرِ بعضِ الدّارسينَ، ويصعبُ ضبطها؛ لأنّها تعتمدُ على ثقافةِ المُتلقّي– كما قلنا – وقدرته على التّرجيحِ[4].

وانبثقت فكرة التناص" لتبعث الاضطراب في كلِّ أنواع التّرسيمات الابيستيمية المعرفية الاتجاهية الذاهبة من المُؤلِّف إلى العمل ومن المرجع التجريبي إلى التعبير(اللّغوي) ومن الينبوع إلى التأثير بالمتلقّي – من الجزء إلى الكل – ومن الرّمزِ إلى التّجليةِ، ولكي تضع في النّصِّ خطيته وسياجه موضع التساؤل، من الحرف الكبير إلى نقطة النهاية"[5]. وهناك من يرى أن التناصَ ارتبطَ في الدّرسِ اللّساني الحديث بالتّعالقِ النّصي بينَ نصٍ وآخرٍ أو بتداخلِ النّصوصِ بما يعنيه من حضورِ نصٍ في نصٍ آخر، استدعاءً أو تأثراً[6].

مَفْهُوْمُ التّـناصِّ (لُغةً واصطلاحاً)

التّـناصُ لُغةً

للمعاجمِ العربيةِ أثرٌ جليٌ في تبيانِ معنى التـناصّ لغةً، حيثُ جاءَ في لسان العرب: " النص رفعه الشيء، نص الحديث ينصه نصّاً: رفعه، نصّ الحديث ينصه: رفعه ونصّ المتاع، جعله بعضًا على بعض[7]. أما القاموسُ المحيطُ فيرى أنَّ التّناصَ من: نص الشيء، حرّكه ونصّ العروس، أقعدها على المِنَصة [8].

وحينما بحثنا عن معنى التناص في بطون معاجم اللُّغة العربية، وجدنا أن كلمة (تناصّ) هي فعلٌ في تصريفهِا اللّغوي من (تناص، يتناصُّ، مصدر تناصّ)، أي تناص الناس تزاحموا، والتناص في الأدب العربي مصطلح نقدي يُقصد بهِ وجود علائق وتشابه أو تقارب دلالي بينَ نصين أحدهما قديمٌ وآخرهما حديثٌ، أو بينَ عدةِ نصوصٍ بينهما فارقٌ زمنيٌّ.

التّـناصُ اصطلاحًا

إنَّ التناصَ بتغيراته غير المتناهية مقترن بالتطوّرات الجذرية لهذا المصطلح، إذ أغدق دلالاتٍ ذات ظلال حافة استجلت ثيمة النّصّ الشعري وآزرته، وهذا الشَّكل التّعبيريُّ وظّفّ تقنيةً مائزة داخل النص، إذ أنَّ التّناصَّ المقصود يُثير ضباب الدلالة ويفتح التأويل، فهو استرجاعات فنية لنصين مختلفين زمانًا ومكانًا.

و(لرولان بارت) بصمةٌ في استراتيجية مفهوم التناص، إذ انطلق في مشروعه التناصي هذا من ثراء مشاريعه النقدية لمفهوم التناص، فيرى أنَّ" كلَّ نصٍ ليس إلّا نسيجاً جديداً من استشهادات سابقة"[9]. أي أن هذا النسيجَ تُحْبَكُ خيوطهُ النقدية بشكلٍ مُحكمٍ من رَحِمِ النصّ التليد حتى يستقرَّ به بعد تعالق متين تناصاً مُكتنزًا.

ولعلَّهُ من المفيد أن نؤكد أن فكرة جماليات التناص جاءت" لتبعث الاضطراب في كل أنواع الترسيمات الابيستيمية الاتجاهية الذاهبة من المؤلف إلى العمل، ومن المرجع التجريبي إلى التعبير اللّغوي، ومن الينبوع إلى التأثير بالمتلقّي – من الجزء إلى الكل- من الرمز إلى التجلية، ولكي تضع في النص خطيته وسياجه موضع التساؤل، من الحرف الكبير إلى نقطة النهاية "[10]، ولكنه اضطراب تخليقي انتاجي جديد.

وفي هذا الإطار فإنَّ الناقد الروسي ميخائيل باختين ينظر إلى التناصِّ على أنَّهُ بؤرة تواصل في ضوء حزمة من العلائق التي تنتج بينَ المُرسلِ(الكاتب) والمُرسلِ إليهِ (المتلقي)، لذا عرّفَ التناصَ بأنَّهُ، " عبارة عن وسيلة تواصل لا يمكن أنْ يحصل القصد من أيّ خطاب لغوي بدونه، إذ لا يمكن أن يكون هناك مرسل بغير متلقٍّ مستوعبٍ مُدركٍ لمراميه"[11]. ويؤكدُ باختين هنا على العلاقة المبرمة بين المرسل والمتلقي،  فهي علاقة تشعرنا بعمق هذا التعالق وتواصله معَ النصينِ القديم والحديث.

وعلى وفقِ ذلك فإنَّ النَّصَّ لا يتفاعل كثيراً مع جزئيات النص السابق، بقدر ما يسعى الإشاري إلى إنشاءِ علاقةٍ فريدةٍ بينَ النّصينِ تبدأُ بــ" الإشارة العابرة اللَّاواعية، وتنتهي عندَ إحاطةِ القارئ بمُناخٍ دلاليٍ يدفعُ بهِ نحوَ قراءةٍ تأويليةٍ تقومُ على التّفكيكِ وإعادةِ البناءِ"[12].

هذا وأنزل د. جبّار ماجد البهادلي النَّصَ" بمنزلة الابن الشرعي الذي يستمدُّ خصوصيتهُ الثقافية واستقلاله الذاتي من رَحِمِ آبائه النصوص الأصلية السابقة دون أن يفقد ميزاته اللُّغوية والجمالية؛ كونه نصّاً قائماً بذاته الاستقلالي، تمنحه نظريات القراءة وجماليات التلقي الحديثة وضعاً قرائياً تأويليّاً جديداً يسبرُ أغوار وحدته الموضوعية، ويفكُّ شفراتِ هُويته اللُّغوية ويجلو سياقات مستوياته الدلالية، فيُحقّقُ بذلك النّصِّ أبجديتَهُ التي تؤمِّن له من أن النّصَّ يُشكّلُ فضاءً واسعاً رحباً قابلاً للتأويل بقراءاتٍ فاعليةٍ مُتجدّدةٍ كثيرةٍ تجلو صفحاته المتنوّعة المتعدّدة الرؤى، سواء أكانت الرؤى الفلسفية المتجليّة والخفية منها، مرئيةً بصريةً، أم غيرَ مرئيةٍ بصريةٍ "[13].

المبحث الثاني: مُستوياتُ التّـناصِ في شعرِ السّماويِّ

يمتاز التناص - من بين جماليات الخطاب الشعري ـــــ بأنَّ له مستوياتٍ متعددةً ومصادرَ متنوعةً تعضدها فنياً في رسم البنية النصية، وتغذيها تنوّعاً وثراءً لغوياً وجمالياً، له الأثر البالغ في هندسة  التناص لدى المتلقّي.

إنَّ البحثَ في الخطاب الشعري لدى السماوي قد تضمن اقتباساً شعرياً يؤكّد فيه أنّ النصَّ هو محاكاة ومتواليات لنصوص أُخرى، مجتمعة وموحّدة في نصٍ موازٍ آخر، انماز بلغته الرشيقة وشكله التناصي الذي وقع في أصفاده الشاعر؛ كونه من الوسائل اللّغوية المتطوّرة، وقبساً لغوياً من تناصات الشاعر المتلونة في الشعرية النقدية المستحدثة، فالتناصُ يمثّلُ مهمةً استذكاريةً واسترجاعيةً تستعيدُ نَصاً سابقاً؛ مُعيدةً إيَّاهُ بلباسِ ثوبٍ جديدٍ آخر، والغاية منها استحضار الرصيد السابق للنصوص التليدة الناهضة، فضلاً عن استنهاض الخزين المعرفي واستثماره للنص الأول، من أجلِ قراءةٍ تفاعليةٍ بينَ المُرسلِ والمُرسلِ إليه، وهذه المتغيراتُ النّصيةُ وتحولاتُها في شعر يحيى السّماوي، تجلّت ملامحُها في تناصاتهِ الشّعريةِ المُتباينة، فـ" النّصُ الإبداعيُّ ينبغي أن يكونَ منتجاً يكسرُ شكلَ النّصِ القديم"[14].

ينقسم التناصُ القرآنيُّ لدى الشّعراء على قسمينِ: تناصٌ كُليٌ لآيةٍ من القرآن الكريم مع محاكاة يسيرة عند توظيفها، أو إعادة هيكلة النص المتناص معه، وعادة يكون هذا التناص بعيداً عن سَبر الوزن، أمَّا الثاني فهو محاكاة المعنى وصياغته بلغةٍ رشيقةٍ، مع البقاء على قرينة تدلُّ عليهِ في سياق النص، فالأول عُرف بالنُّدرةِ والنُزُر القليل، أم الثاني فقد ذاعَ صيتُهُ وحسنُ استخدامُهُ.

التّناصُ الدّينيُّ (القُرآنيُّ) في شعرِ السّماويِّ.

تُعد ظاهرة استدعاء النّص القرآني أو معناه من الظواهر المهمّة البارزة في الساحة النقدية والإيحائية، التي تُؤدي إلى تَدعيم الخطاب وتكثيف دلالته بين النصين القديم والحديث، لينتج بحثاً لغوياً تنويرياً إبداعياً جمالياً مناسباً لواقعة الحدث الموضوعية والجمالية التي وهبته تعبيرية هذا الثراء الفني التقني، والمُتلقي لنصوص النهج يجد نفسَه إزاء هذه الأنواع الاقتباسية التي تَتَمحور حول (استحضار) مُفردةٍ، أو تركيبٍ، أو آيةٍ، أو بعضٍ منها، أو أكثر، أو استحضارِ لمعانيها، أو مَبانِيها.

وجديرٌ بالذكرِ أن الاقتباسَ ظاهرةٌ ملحوظةٌ في البلاغةِ العربيةِ القديمة، وهي أقربُ ما تكونُ لظاهرةِ التناصِ في النقدِ الحديث، مع تمظهر بعض الفروقات، منها أنَّ الاقتباسَ كان يَرِدُ في النصِّ لفظًا ومعنى، وقَـلَّما يوظّف الشّاعرُ اللّفظ والمعنى توظيفاً جديداً، بينما في التناصِّ نرى أن الشَّاعرَ في أغـلبِ الأحايين يُعيد إنتاجَ المعنى ويسُوقه وفقاً لرؤيته وتحقيقاً لأمانيه ووصولاً لغرضه ومقصدياته الفنية.

لشعر السّماوي تجلّياتٌ تناصيةٌ مع القرآن الكريم بشكلٍ واضحٍ وجليٍّ؛ لأنَّهُ مقومٌ أساس من مقومات ثقافة الشّاعر المُسلم، لذلك نراه يتناص معه بوصفه شاعراً؛ لأنَّ القرآنَ الكريمَ بحرٌ من الدّلالات لا ينفد معينُهُ، لِما يحتويه من قصصٍ وعبرٍ وأحداثٍ، وهكذا اتكأ الشاعرُ على مفرداتِهِ ومعانيهِ واقتبسَ بعضاً من آياتهِ، ليعكسَ بذلك مدى ما يشعرُ بهِ اتجاهَ العصر وما شهده من تطور حضاري وفكري وعقائدي،  وإذا أمعنا النّظرَ في ما بينَ أيدينا من ديوانه (التّحليقُ بأجنحةٍ من حجرٍ) وإلى محاكاتِهِ معَ القرآنِ الكريم، فإنَّهُ يثبت مدى تأثره به، فنجدُ في بعضِ أبياته كأنَّهُ يصوغ تلك الآيات قلائدَ من جُمان، إذ تميّزَ بقدرتِهِ على استيعابِ معاني القُرآنِ وصياغتها شعرًا، فضلاً عن هذا كلِّهِ أنَّ ثقافة السّماوي القرآنية المكتسبة تؤهلهُ شِعريًا إلى التّناصِّ مع آياتهِ وسورهِ التي تدبّرها شكلاً ومضمونًا.

فالقارئُ لشعرهِ يستطيعُ أن يميّزَ من أيِّ آيةٍ استقى هذا البيت، فعند اطّلاعنا نتصور أنفسنا أنَّ شعره يعكس تماماً شيئاً عن الحالة العقلية والمخيالية التي كانت تُسيطر عليه، والتي يذود عـنها شاعرنا ويدعمها بكلِّ ما أوتي من بيان، فيحتاج إلى ذلك صوراً قرآنيةً يستشهدُ بها ويستدعيها لتُضفي على دلالةِ نصهِ دلالةً سَماويةً أخرى، وبهذا تمثّل آلية فاعلة لإحياء التراث العربي واستحضاره تاريخياً من خلال نصوص مرآته التناصية العاكسة للتراث، واستحضار النص الغائب، وإنشاء الصلة بين الحاضر والغائب، عندئذٍ يتسع الأفق الدلالي للنص الناتج عن تعالق النصين أو التركيبين.

وثمةَ مزيةٌ أخرى للتناص القرآني لدى السّماوي، هي تفخيمُ شأنِ نصِّ الشّاعر وتعظيمه فنيًا وجماليًا، وتزيين سبكهِ على وجه لا يشعر بأنَّه منه،   وهذا ما اعتمده الشاعر في تناصاتهِ لترقية أبعاده اللّغوية والفكرية، فالتّناص القرآني يجعل الشّاعر يميل بلغته صوب آفاق دلالية عميقة لها أثرها ووقعها الدلالي والجمالي على ذائقة المتلقي.

فمن روائع التناص القرآني عند يحيى السّماوي قولهُ في قصيدة (تَبتُّلٌ)  [15] :

مــا عــــادَ لـــيْ إلآ هـــــواكِ

بُـــراقَ مِــعـــراجِ الــتـّــــمـنّـي

*

لـولاكِ مـا عـــرفـــتْ صَـدىً

لـلـشـدوِ حـــنجـرةُ الـمُـغـنّـي

*

ولَمّا اهتديتُ إلى الصّراطِ

وكــنــتُ ذا شـــــكٍّ وظــــــنِّ

في هذا المُناخ القرآني وما يحويه من شحنةٍ تناصيةٍ طافحةٍ بالمعاني الدلالية في مخيال السّماويِّ؛ كونه مرتكزًا ذاتيًا خاصًا من جهة وفكرياً من جهةٍ أخرى، إذ انبثقَ النصُّ بمحاكاته التضمينية والاقتباسية وهو إنشاء لنص مُغاير، راسمًا علاقته التصاعدية مع النصِّ الدّيني ومسرحته تناصياً، إذ ذكر الشاعر في تفاعله مع النص الديني السابق دلالةَ: (الصّراط)، وقد تفاعلت تناصيًا مع الآيةِ القرآنية، ولكنهُ في تعامله النصي التصاعدي هذا، أراد أن يعكس التناص الديني بشكلهِ التّفاعلي مع أجواء مفعمة بالحبِّ منشودة بالعهود. فنلمح اشهارَ تناصه مع قوله تعالى: ((اهدِنَــــا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ))[16]. وأشار السّماوي هنا إلى (الصراط) فصرّحَ جهاراً إنْ كانت العلاقة لا تصلح في أحد من الناس إلا بيننا؛ لأنَّكِ لن  تبرحي قلبه وجفنه. مستثمراً الرصيد التناصي للأبيات من أجلِ قراءةٍ تناصيةٍ تفاعليةٍ مع المتلقّي، وهذه المحاكاة التناصية في شعره ظهرت آثارهُا في تناصاته الشعرية ذات المظهر الديني الذي جادت به قريحته وذائقته الشعرية. فضلاً عن هذا التناصِّ استخدمَ السّماويُّ في هذه الدّفقةِ الشِّعريةِ لبعضِ الألفاظِ والرّموزِ الدّينيةِ في القُرآنِ الكريمِ، مثل: البُراق، الدّابة التي حملت الرّسولَ(ص) من مكةَ إلى المسجدِ الأقصى ولفظة (المعراج) التي هي ليلة الإسراء والمعراج، وتعطي الاهتداءَ إلى الهدايةِ والظن، كلُّ هذه الألفاظِ أسهمت في تلاحمِ النصِّ القرآني التناصي.

أنتجت التناصاتُ السّماويةُ مع النصِّ القرآني قيمتين مائزتين؛ الأولى جمالية زادت من سبكهِ، والثانية دلالية أضفت إلى المضمون قوةً؛ إذ عضّد هذا التناص ما قصد إليّه الشاعر من عذابات حبه التي لم يذقها من قبل أحد، ومحبوبته قد سمت وارتقت في الوجدان حتى أصبحت صورةً لافتةً في حياته، مُنزلًا إيّاها منزل الوجد مشفعًا ومقدسًا ومطهرًا في يوم رغيدٍ، هي لن تبرح قلبه وجفنه، ولم يرَ المحبوب أمام ناظريه سواها. وهنا لم يخرج الشّاعرُ بالتّركيب المقتبس من معناه الأصلي، بل جاء التناص الجزئي متوافقاً وسياق النّص. ولا شكَّ في أن " التراكيب اللغوية لها قيمة وأهمية نسبية  متفاوتة بحسب ذلك التركيب وصياغته، وهذا ما يُكْشَفُ في ضوء دراسات الشكل والمضمون، ومعايير كلٍّ منهما، ووفقاً لِمَا حُدِّد في علوم البلاغة، وما يُظهرهُ النقدُ في ميادينه المختلفة، وليس القرآن الكريم بعيداً عن ذاك"[17].

وما زاد استخراج هذا الجمال التناصّي روعة ما تمتّع به يحيى السّماوي من حذاقةٍ ومخيالٍ وقدرةٍ على الغوص في بطون النصّ الديني واستخراج مفاتنه الساحرة، هذا وانماز في تناصه بأنَّهُ ميالٌ إلى الإيجاز والإشارة والتلميح دون التفصيل، وهذه الخاصية الفريدة لا تأتي أُكُلها إلا عند المقتدرين من الشعراء  ذوي الحظ العظيم، والسماوي في طليعتهم وشاخصهم الأميز في الشّعرية.

ويقول في قصيدته (قَسمٌ) [18]:

أَقسِمُ

بالتُفاحةِ المُقدَّسَةْ

*

وبالنّدى النّاضحِ مِنْ زَهرتِهَا

واللّذةِ المُحْتَبَسَةْ

*

أنَّ طقوسي كلَّها قبلكِ

كانتْ

نَزوةً  مدنَّسةْ

ولعلَّ النظرةَ الفاحصةَ لجمالياتِ النصِّ الشّعري الغزلي الشّفيف لمعشوقتهِ الرّوحيةِ، تُؤكّدُ أنَّ التناصَّ القرآنيَّ الإشاري أُبرمَ مع قصةِ آدم (عليه السلام) في القرآن الكريم ما تؤكّد إشارته ودورها في صقل الروح وتهذيبها، وهو قوله تعالى: ((وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَـذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الْظَّالِمِينَ }البقرة35))[19]. وهكذا وُفـقَ السّماوي في هذا التلوين التناصّي مع الآية المباركة، إذ نقله إلى المتلقّي باستلهام النَّص القرآني، ولا سِيّما إشارته إلى (التفاحة المُقدسة)، إضافة إلى ذلك أنَّهُ استخدم رمزيةَ اللّذة ودلالتها التناصية. وهكذا يستمدُّ من قوة هذه اللّفظة (اللّذة المحتبسة) أثرها في النصِّ لكي يُثري بها أسلوبَهُ، لِيوفق في أن يبثَّ روحَ الإيمان والحماسة عند القارئ، مُحققًا في ذلك أمانيه. ولا شكَّ أنَّ محاكاةَ القرآن والتناص معه يُعدُّ فـنًا جماليًا زاهرًا ومؤثرًا في النّص الشعري، وما يترتّبُ على هذا التناصِّ من أيديولوجيات ناهضة. إذ يقول في قصيدته (لي فيكِ ما لا تعرفينَ وأعرفُ)[20]:.

أستعطفُ الأيامَ حمْلَ حقيبتي

نحوَ الفُراتِ  ونخلَهُ أستعطِفُ

*

لا والذي حجَّ الحجيجُ وكبّروا

في بيتهِ واستغـفروهُ وطـوَّفـوا

أفادَ السّماويُّ في رحلتهِ الإسرائيةِ نحوَ الفراتِ من جمالياتِ تفاعلِهِ التّناصّي التّحوّلي من خلالِ تعالقِ هذينِ البيتينِ معَ لفظتي (الحج والطّواف) في قوله تعالى:((وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ)[21]، إذ استحضر مستنطقاً في ذات الوقت الآية القرآنية بما تحمله من رمزية وظّفها لخدمة غرضه، في مقام إعلانه عن استعطافه للأيام، فنلحظ في الفضاء النصي التناصّ القرآني السّماوي استدعاءه نصوصًا دينيةً متنوعةً متمثلةً في سُور(الحج) ومنها قوله تعالى: ((وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ))[22]. وتمثّل إشاراتٍ تناصيةً لمقدّمات متناسقة، وفي هذه المتوالية التناصية أحكم الشاعر التناص برمزيتها الدينية، إذ تجلّت من خلالها دلالتا (حج) لدى الشاعر، وكان السّماوي يروم من هذا التناص سلطنة المعنى واستحكامه دلاليًا، متكئًا على فرضية (التـأمَّــل)، لتبقى فرضية حضوره داخل أروقة النص شاهدًا مائزًا على ذلك، معتمدًا على ما أثارته بنية التناص الشعري دينيًا وفكريًا.

يُجدُّد السماوي تناصَّهُ مع آيةِ أخرى وفضاءات تناصية متنوعة كقوله: ((الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللّهُ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ))[23]. ففيها دعوةٌ لنقاء بياض الروح والسريرة من خلال الانغماس في صومعة بيت الله والطّواف في كنهه وعظمته، فالشّاعرُ هنا يميل إلى توظيف النّص القرآني بشكلٍ جليٍّ.  وثمةَ مزيةٌ أخرى للتناص من القرآن، ومزيةُ هذا التّناص الدّيني هو التّعالقُ الرّوحيُّ والجماليُّ الذي يسعى إليهِ الشّاعرُ، من خلالِ الارتقاءِ فنياً وتناصياً ببناءِ نصوصهِ الشّعريةِ ومنحها قوةً دلاليةً مغايرةً للمألوفِ الاعتباري.

وفي رؤيةٍ فلسفيةٍ عميقةٍ في قصيدةِ (تسبيحة في محرابِ النّدم)، يقولُ[24]:

هـيَّأتُ قـبري يا طـهورُ فَهَيِّئي

كَـفَـنـاً مـن الصّلَـواتِ لِلـمُـتـفـــــــاني

*

عطفاً عليكِ كتمتُ ما أدماني

كيّ لا يضرَّكِ من لـظايَ دخــاني

*

ولقـدْ  يُبرَّأ قـاتـلٌ من جُـرمِـــهِ

ولـربّـمـا كـان الـقــــتـــيــلُ الـجــــاني

وبما أنَّ الشّاعرَ هائمٌ بحبّه الروحي الجمالي بالوجود وما يحمله من أسرار قاهرة وكنه خفاياه وتراتيل عظمته الدالة على قدّرة الصّانع والمدبّر، إذ تتوارى خلفه يدٌ جبارةٌ مقتدرة، لذا أصبحَ هذا الخيالُ الصّاخبُ يُشكلُّ مكوّنًا مُهماً لافتاً من مكونات أشعاره، إذ يمكنُ القولُ: إنَّ التناصَ يؤدِّي دورًا فاعلياً بنّاءً عندَ السماوي؛ كونه تناصاً جمالياً للغةِ الشّعر.

إنَّ ما يمكن أن نستشفَهُ من هذه الأبيات المشحونة بموحياتِ الشّعورِ بالزُهدِ هو أنَّ القصيدةَ جاءت تُصوِّرُ خاتمة الإنسان وفناءه، حيث " لِلـمُـتـفـــــــاني" . إنَّ المُدققَ في هذه الأبياتِ السّابقة يكشفُ التناصّ الديني الذي شكّلَهُ السماوي، إذ جاء النصُ متناصًا مع الموقفِ القرآني الذي استلهمه الشاعرُ مّن قــولــه تــعــالى: ((كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ))[25]، وإنَّ مثلَ هذا النصِّ الشّعري الذي بين أيدينا، يشهد بأنَّ الشّاعر ركّزَ تركيزًا مباشرًا على الخبر  (فَانٍ) والذي جاء مرفوعاً بالضمة على الياء المحذوفة وهو اسم منقوص، ليظهر من خلاله استمراريته وديموميته وثباته، وموسيقاه التي جاءت متوافقةً ومتناسقةً ومنسجمةً مع مبتغاه، فهذا النصُ يشيرُ بوضوحٍ إلى تأثرِ الشّاعر بالنّص القرآني، والسّماويُّ لا يتأثرُ باللّفظِ والموسيقى فحسب، بل تأثّرَ بالأسلوب واللّفظ والمعنى على حدٍ سواء، حيث استخدمَ التناص في النصِّ الشّعري بشكلٍ مباشرٍ أو غيرِ مباشرٍ (الرمز والإشارة). ونخلصُ إلى القول: أنَّ التناصَ القرآني (الديني) يكادُ يكونُ هو المهيمنُ عددًا وعُدةً على سيميولوجيا الخطاب الشعري السّماوي، فضلاً عن جمالياتِ الجناساتِ البديعيةِ التي حفلت بها ألفاظُ الدفقةِ الشّعوريةِ المُحتدمةِ بآياتِ السّمو الرّوحي.

التّناصُّ الأدبيُّ (الشّعريُّ) في شعرِ السّماويّ

يُشكّلُ التّنَاصُ الشِّعريُّ موروثاً أدبياً آخرَ، ومصدرًا من مصادر الثقافة لدى السماوي، والذي عُرف باهتماماته الفكرية والثقافية؛ إذ اعتمدها بوصلةً يلجأ إليها في نصه الشّعري التناصي موظفًا دلالات معمقة في بنيته الشعرية، ومكوَّناً لغوياً ودلالياً غنياً، فيه من توثيق أواصر العلاقة بينه وبين المجتمع ما لا يُنكر، فهي تعكس نباهته وفطنته وخبرته، وغالباً ما يكون هذا التناص يحمل صوراً شعريةً ورمزيةً وإشاريةً وإيحائيةً، منحت نصَّهُ قيماً جماليةً بالغةَ الرّوعة.

إنَّ البحثَ في ديوانِ السّماوي -والذي تضمن محاكاةً واضحةَ المعالم- يُدلي بأنَّ النّصَّ هو متوالياتٌ متناسقةٌ لنصوصٍ موروثةٍ سابقةٍ، توحّدت بمعالم نصٍ آخرَ لِيُولَدَ نصٌ جديدٌ لغةً وشكلاً وانزياحًا، وبدوره يمثّل محاكاةً تطوريةً وثوبًا لغويًا مائزًا من التناص الشعري في شعره، فضلاً عن أنَّ التناصَ بأشكالهِ المُتعدّدةِ يُمثلُ وسيلةَ استدعاءٍ لنصوصٍ سابقةٍ لاعادة إنتاجها بمخيالٍ ونصٍ آخرين، وبذلك يتمُ التناصُ مع نصوصٍ سالفةٍ واستثمار شحناتها الفكرية والثقافية والعاطفية، لرسم ملامحها في النص الجديد قائم على التفاعل والانسجام بين المُرسل والمُرسل إليه. وهذا التناصُ الانزياحيُّ التّحوليُّ في شعرِ السّماوي بزغت ملامحُهُ في تناصاتِهِ الشّعريةِ الناصعةِ الخيال، وهذا ما جادت به قصائدُهُ.

إنَّ هذا التكرارَ لدوال نصيّةٍ تناصيةٍ في أكثر من موضعٍ لشعرِه لا يعني اجتراراً لأفكار سابقةٍ مُستهلكةٍ، بقدر ما يُفصح عن مخياله المُتقـد في خطابه الشعري، مُعبرًا عن التوأمة بين نصهِ والنّصوصِ الأخرى، رغم نظرته الحداثوية وهي نظرة ثابتة لا تتغير بتغير الأزمنة والأمكنة. وبتلك المحاكاة السّماوية انبرى عمّق تواتر الدوال النصية ببعدها العلامي لعملية التناصّ، وابتعد بها عن التكرار والاجترار ليقترب من حركية الدوال التناصية، التي رَسّخت وأكّدت على النسق الثابت في الرؤية التي لا تميل إلى التغيير. فاستدعاءُ النّص ومجاراته صوريًا وصوتيًا " ليست شيئاً ثانوياً في الشعر يمكن الاستغناءُ عنه، بل هي وسيلةٌ لإدراكِ نوعٍ متميزٍ من الحقائق، تعجزُ اللّغةُ العاديةُ عن إدراكه"[26].

إنَّ هذه العلامات الرئيسة التي تكوّنت عبر التفاعل التناصّي بينَ نصِّ السّماويِّ وأشعار القدامى، لا تنغلق أسوارهُا عندِ هذا الحدِّ، بل تنفتحُ في آخرِ هذه المحاكاةِ على علاماتٍ أخرى تُعزّزُ من الثنائياتِ السّابقة، وبذلك تتوافقُ هذه العلاماتُ مع العلاماتِ السّابقة، لتؤكْدَ على الثنائياتِ التناصيةِ عبرَ تواترٍ نصّيٍّ يتّحدُ فيهِ التسلسل التناصي مع المخيالِ الشّعريِّ في التّعبيرِ عن تلك العلاماتِ؛ إذ " يكشف العمل الأدبي عن طاقة المبدع، وقدرته على تحويل تفاصيل الحياة التي تثير اهتمامه إلى عملٍ فنيّ، تظهر فيه الكثير من تجلّيات الذات المبدعة ونظرتها في الكثير من القضايا"[27].

ومن الدفقات التناصية الشعرية لدى السّماويّ قوله[28]:

ما مُنقذي مني سوايَ إذا جَنتْ

نفسي ولا غيري لجرحي مُسْعِفُ

*

لولا هدى الروح انتهيتُ خطيئةً

تـلهـو بها ريـحُ الضّـلالِ وتـقـذفُ

*

والنفـسُ ناصِـحَـةٌ إذا ناصَـحْـتـها

وإذا تُـــــرَدُّ إلى الـغـرائـــز تُـقـــــــرِفُ

إنَّ السّماويَّ في هذا التناصِ لا يُمكنُ الاعتقاد بأنَّهُ يقومُ بإعادةِ معاني الشّعر التليد الذي تراكمَ في مخياله، وتجديد صياغة نص كان قد تأثرَ بهِ مسبقاً فاستقرَّ في مهجتهِ فحسب من دونِ توظيفِ تلكَ النّصوص أو مغازلتها، بل أنّ تضمينَ التناص الشّعري هو انتقالٌ دلاليٌ يتحاورُ فيه المتناصُ مع تجربةِ الشّاعر الآخر، كاشفًا موقفاً شعورياً دعا إلى استذكاره؛ وذلك يتطلب إثارة القيمِ الجماليةِ المكنونةِ فيه، فلاشكَّ أنَّهُ يُجاري فيه الشّعور والأفكار، فقد تناصَ السّماويُّ في هذه الأبياتِ معَ الشّاعرِ المُخضرمِ أبي ذؤيب الهذلي، من قصيدةٍ حكميةٍ لهُ، رثى بها أولادَهُ الذينَ ماتوا بالطّاعونِ، بقوله[29]:

والـنـفـسُ راغـــــبـةٌ إذا رغّـــــبـتـهــــا

وإذا تُـــردُّ إلى قـلـيـلٍ تـقـــــنعُ

*

كم من جَميلِ الشَّملِ ملتئمِ الهوى

باتوا بعيشٍ ناعمٍ فَتَصَدَّعوا

ومنَ الواضحِ فإنَّ من يطالعُ ويتفحّصُ شعرَ السّماوي يُدركُ أثرَ الشّعرِ الإسلامي واضحًا في الشكلِ والمضمون، فإنَّهُ قد تأثّر في هذا المقطع من القصيدة أكثر من غيره، إذ نجحَ في إيتاء الدّلالات السّاحرة، مستثمرًا جماليات النّص الموروث، ومستدرجًا إيّاها إلى صومعته الشعرية. فالشاعرُ يَستثمرُ ثقلَ حاضرهِ وما يحملهُ من نضجٍ فكريٍ وحضاريٍ، فيدعو بذلك ما يشاء من النصوص الشعرية، ليتناصَّ معها بطريقته المُثلى، وخاصةً إذا كان المتناصُ شعراً ذا أهميةٍ كبيرةٍ ومؤثرةٍ على ذائقةِ ونفسِ المتلقي القارئ.

وهنا يُعْلِنُ السّماوي مدى تأثّرهِ  بشعرِ أبي ذؤيب الهذلي، فهو لا يتأثرُ باللّفظِ والموسيقى فحسب، بل انطلق من رونق الأسلوب وجمال السّبك، لذا اعتمدَ البيتَ بِرُمّتهِ مُغيرًا القافيةَ وبعضَ الألفاظ، فقد استبدلَ لفظةَ (راغبة) مكان لفظة (ناصحة) وكذلك (رغّبتها) مكان لفظة (ناصحتها)... ، والتي تُصوّر ملامح الرّأفة والرّقة والتهذيب. لا ريبَ أن توظيف المتناص، وبعثه من جديد في سياقاتِ نصوصهِ التّعبيريةِ الحاضرةِ، يَكسبهُ قالباً جديداً من منطلق رؤيويٍ جديدٍ أضفى عليهِ واقعَ عصره في تواصلهِ مع التّراثِ العربيِّ الشّعريِّ القديم.

يَكشفُ النّصُّ السّماوي اتصاله بالتّراثِ التّليدِ من ناحيةٍ ومحاكاتهِ واهتماماته الفكرية والثقافية والعاطفية من ناحيةٍ أخرى، إذ عبّرَ من خلالِ هذه الشّخصيةِ عن تجاربهِ المنشودة، وأعطاها دلالةً تناصيةً جديدةً  لتكون شاهدةً لهذه المتناصات، في توصيفِ سفرهِ خلال جائحة كورونا والذي تعثّر مرات عديدة بسببها الحائل، وذلك في قصيدتهِ الدالةِ على عنوانهِا (أنا وحقيبتي وخيباتُ الوجعِ) حيثُ يقولُ[30]:

أمشي

ولكن الحقيبة لا تريد المشيَ

ها أنذا توسّدت الحقيبة أستحثُّ الشمسَ

واسعةٌ هي الصحراء

لا ماءٌ ولا شجرُ

سوى قمرٍ خجولٍ خلفَ غيمتهِ سَجا

إذ جاءَ ذلك التّوافقُ الشّعوريُّ الذّاتيُّ مُتناصاً معَ ما قالهُ الشّاعرُ الأُمويُّ الحُطيئةُ بقولهِ[31]:

مــاذا تــَقـــولُ لِأَفــراخٍ بِــذي مَـــرَخٍ

حُمْرِ الحَواصِلِ لا ماءٌ وَلا شَجَرُ

*

غَيَّبتَ كـاسِـبَهُم في قَـعــرِ مُظلِمَةٍ

فَاِغفِر عَلَيكَ سَلامُ اللَهِ يا عُمَرُ

*

أَنتَ الأَمينُ الَّذي مِن بَعدِ صاحِبِهِ

أَلقَـت إِلَيكَ مَقـاليدَ النُّـهى البَشَرُ

*

لَم يـوثِــروكَ بِها إِذ قَــدَّمــــــوكَ لَها

لَكِن لِأَنــفُـسِـهِــم كانَت بِـكَ الخِـيــَرُ

وقد نجحَ  السّماويُّ وهو يتناصُ معَ الحطيئةِ في هذا البيتِ مع استدعاءِ عبارة (ماءٌ وَلا شَجَرُ) إذ كساها شحنةً تناصيةً شعرية، مُغنيًا في ذات الوقت تجربته الشّعرية، معتمداً في تناصه الأدبي مع الحطيئة على محاكاة بعض الألفاظ في النص، وهذا ما كان حافزاً مُثيراً في أن يتخذ من تقنية (ماءٌ وَلا شَجَرُ)، أسلوباً شعرياً متفشياً في تجسيد تناصاته الشعرية وتضمينها محاكاةً سلطويةً رمزيةً متموضعةً في النّص، قائمًا على بثِّ شحنةِ التّناصِ الشّعري بتحولاتهِ المقبولةِ في تقنيةِ النّصِ، لتكوين لوحةٍ تشاكلية انسجامية إشهارية فنية رائعة في بنيةٍ تناصيةٍ واضحة، وهذا التّناصُّ لمسناهُ مبثوثاً في شعره، إذ حلّقَ فيه بعيداً في مخياله الشعري، موصلاً إيَّاهُ إلى دولته الشعرية المنشودة، وما تحمل من عشق متـقـد. ورُغمَ ذلك يبقى السّماويُّ مُتفردًا مائزًا في ديوانه، ولا نكاد نرى بريقَ الشّعراءِ الذين أثّروا فيه إلا نزراً، لِمَا تمتّعَ بهِ من إتقانٍ ونضجٍ لقصيدته، وإنَّ المُعادلَ المَوضوعيَّ بينَ الشّاعرينِ هو الشّعورُ بغربةِ الذّاتِ الشّاعريةِ وتوحدها معَ نفسهِ المهجوسةِ بالحنينِ والفراقِ والاغتراب.

وكما تناصَ السّماويُّ معَ الحطيئة فإنَّهُ يتناصُ معَ الشّاعر نصير الدين الطّوسي في عدةِ مواضع،

حيثُ يقولُ السّماويُّ [32]:

ولَرُبَّ صَوَّامٍ أضرُّ على الورى

من راغِبٍ في الطّيشِ لا يَتَحَنَّفُ

*

ليْ موقفانِ: معي بسِلْمِ  تبتّلي

وعـليَّ في حـربِ الـلـذاذةِ موقِــفُ

*

وأمرُّ أنـواعِ البكاءِ على امـرئٍ

جَـلَـدُ العيونِ وليسَ دمعـاً تَذرِفُ

ونرى التناص الشعري مع الطّوسيِّ متجلّيةً في قوله [33]:

لو أنّ عـبــداً أتى بالصّالحاتِ غـدًا

وودّ كـلُّ نـبـيٍّ مـرسـلٍ ووليِ

*

وصـامَ ما صـامَ صـوّامـا بـــلا مـلـــلِ

وقـامَ ما قـامَ قوّامًا بلا كسلِ

إنَّ استعمالَ السّماويّ لطرائق شعريةِ حكميةِ سابقة آلفَ بين التاريخي والمتخيل الشعري، فهناكَ الأشعارُ العربيةُ الفصيحة، كان مهمًا وضروريًا لاثراء اللّوحة الدقيقة والصادقة التي عبرت عن أمانيه، لذلك كان الاعتمادَ على أكثر من نصٍّ يرتبطُ بوشائج مختلفةٍ ومتعددةٍ. وهكذا يدورُ النّصُّ معَ المتلقّي في ترتيل مخيال هادر يوصل بعضه ببعض، إذ يقومُ السّماوي بطرحِ المعاني تشاكلياً، فقد جاءَ تناصُهُ طافحاً مشعاً في دلالاته، إذ دأب في هذه الأبيات إلى كسر أفق التوقع، مبيناً تناصه (ولَرُبَّ صَوَّامٍ) مع (صامَ صوّام)، وبيان ما افترق منهم من هيام النقاء، فتناصه مع الطوسي يكشف لنا عن استدعاء السماوي لهذا النص بالذات، لِمَا يتمتعُ بهِ من نقاءِ الوجدِ والسّريرةِ، ليوشجَ بها نتاجه الشّعوري الإبداعي، بصورٍ وانزياحاتٍ لغوية جديدة تُمتّعُ المتـلقي وتدهشهُ جمالياً.

ويقول السماويُّ [34]:

أزِفَ الوداعُ وما تزالُ سفينتي

في الغربَتَينِ حَبيسَةَ الخلجانِ

*

عينايَ عيناها عليَّ وليسَ ليْ

عـينٌ عليها وهْي عـقـدُ جُمانِ

ويتناصُّ معَ النابغةِ الذبيانيِّ بقوله[35] :

أَفِــدَ التّـّرَحـلُ غــيـرَ أنَّ ركـابَنا

لَمّا تَــُزلْ برحالنا وكأنَّ قـَـــــدِ

أجرى الشّاعرُ في تناصهِ هذا تداخلاً جزئياً مع النابغة (زياد بن معاوية بن ضباب)، حيث استدعى  بيته وتحديداً قوله: (أَزِفَ التّرحلُ) لتوظيفها في سِياقٍ آخر، وأراد بذلك دنو الفراق والرحيل، حيثُ استلهم من ذلك التراث الثر التميز والمحاكاة والتماهي، من أجل إنتاجه من جديد، بطريقة تمكنه من مد جسور الوصال مع الموروث لبعثه من جديد، لأنَّ الشّعرَ يؤسس لصدى تجارب متنوعة، لها من جذور الأصالة ما تفتخر به الأمم، بوصفه رافداً معرفياً وسجلًا لتاريخها الشامخ، وعلى الرّغمِ من ذلك، فإنَّ قافيةَ الشّاهدين الشّعرية قد اختلفتا، فقافيةُ السّماويِّ العينية مُطلقة متحركة في حين قافية النابغة العينية مقيدة ساكنة، وجاءت شاهداً على الترنّمِ الموسيقي.

3- التّناصُّ التّاريخيُّ في شعرِ السّماويُّ

لم يخلُ الخطابُ الشِّعريُّ السّماويّ من استدعاء التاريخ واستلهامه في مختلف منعطفاته المكانية والزمانية والإنسانية، لذا حاولَ الشّاعرُ أن يتخذَ من التاريخ فناراً لبيانِ المُناخ السياسي لتلك الفترة، ما أُسدل الستار عن الحراك السياسي المتلوّن، وبيان زيف المتخاذلين المتواري خلفَ السُحبِ، فعكف على قراءة التاريخ بعين باصرة، باحثًا عن نقاطهِ السّوداويةِ المفـتعـلةِ، والتي يمكنُ أن تكونَ سببًا لمعاناتهِ ومطاردتهِ في تلك الحقبةِ الحرجة.

ويرى الباحثُ أنّ شعرَ السّماويّ يمثّل المجال الأرحب في التناص التاريخي وانسجام النصوص وتجاورها، وإذا ما أيقن بهذا القدر من الانسجام والتجاور فلا بدَّ من قراءةِ شعرهِ قراءةً مكثفةً، تُمكِّنُ من سبرِ أغوارِ النصِّ، وهذا ما يتطلّبُ قارئاً حاذقاً واعياً قادراً على الكشف عن هذه الأنماط المتناصة، لأنَّ النّصَ المقروءَ تناصياً يخبّئ خلفه نَصّاً آخر. كما يُلاحظُ أنّ التّناصَّ التّاريخي يمثلُ شكلاً مفتوحاً على قيمنا النقدية والتاريخية معاً، حينما نستدعي هذه القيم في ضوء المعطيات التناصية، فيستدعي الماضي  ليترجمه في الحاضر بوعي شديدٍ، يمنح القارئ تمثّلاً مباشراً للخطاب التناصي.

كما يستغلُ الشّاعرُ المنعطفَ التّاريخيَّ وقابليتَهُ للتأويلِ أثناءَ التّعبيرِ عن تجربتِهِ الشّعريةِ؛ كي يمنحَ عملَهُ الفنيَّ نوعاً من الشّموليةِ، مُسترعيًا فكرَ المُتلقي ووجدانَهُ، ومحققاً تواصلاً وتفاعلاً مع العملِ الفني الجديد[36].

يجنحُ السّماويُّ في هذا التناصِّ للاستفادةِ من التّراثِ التّاريخيِّ الدّيني التّليد والشّخصيات المركوزة  في ذاكرة الأمة، فقد تألقَ الحوارُ في مقصديةٍ حواريةٍ تناصيةٍ في قصيدتِهِ (شُقي من الأمامِ يا زُليختي ثوبي)، إذ نلمحُ الحضورَ مع مرموزته الحبيبةِ في علاقةٍ وثيرةٍ، مُستدعيًا نصاً تراثياً دينياً خالداً، يرتبط ارتباطاً وثيقاً بقصة نبي الله يوسف(ع)، وتحديداً مع زليخا زوج عزيز مصر، في ترجمان قوله تعالى في سورة يوسف: ((وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِن دُبُرٍ))[37] ، يقول[38]:

سيدةَ الأمطارِ والسّلامِ والجمالِ والحبِ

شُقي من الأمام يا زُلَيختي ثوبي

واقـتـربـي أكـثـرَ من  جفنٍ إلى هُـدبِ

يتجلَّى التضمينُ النصّي للخطاب الشعري في هذه الدفقةِ الشّعوريةِ المُزهرةِ للسماويّ، فهذا القلبُ أضحى مرتعاً للإنسانية، وهذا التّحولُ التّاريخيُّ المعهود أضفى على البؤرةِ التّناصيةِ الشّعوريةِ التّاريخيةِ صوراً جماليةً متتابعةً للحدث، في أجواءِ الحبِّ السّرمدي، إذ استمدَّ الشاعرُ ثيمتَها الدّينيةَ والفكريةَ والعاطفيةَ وأسقاطها على شعريتِهِ الحاليةِ بتناصهِ التّاريخي الرمزي. إذ عبّرَ في هذه العلاقةِ التّناصيةِ دلالةَ       الاشتياقِ المعتقِ بالألمِ، التي وثــقــت رمزيتُها التّاريخية والتّناصية مع بؤرةِ النصِّ (زُلَيختي)، إذ جعلَ تلكَ الصّورةَ مرآةً لحبيبته، ولا يكترثُ لِمَا تؤولُ إليهِ الأقدارُ.

إنَّ العلاقةَ بينَ الّلغة والتّناصِ علاقةُ تفاعل وانسجام، يُعْرَفُ من نمطيتها التناص عبر الرّمز والإشارة، فالتناصُ مخاضُ اللّغةِ ونتاجُها، وهو مزاوجةُ نصينِ ينتجُ عنهما نصٌ جديدٌ ناهضٌ باللّغةِ وتراكيبهِا، وكلاهما يسموان من خلال رؤيتنا للواقع وترجمتنا له.

وتأسيسًا على ذلك، فإنَّ مقدرةَ السّماويّ تجلّت فيما يُشكِّلُهُ من تناصٍ تاريخيٍ معَ الشّعراء، إذ يتناصُ مع جزءٍ من قصيدتِهِ، ليرسم ذلك الجزء ممتداً على طول قصيدته في حراك تاريخي تصاعدي، فلم يكتفِ باستدعاءِ النصِّ فحسب، بل أذابهُ مع واقعهِ الفكري، فقد أنزلَ  السّماويُّ التاريخَ على واقعهِ الآيديولوجي السّياسي الراهن، لينضحَ بإبداعاتهِ المُتدفقةِ، فيصبحُ نصاً تناصياً تاريخياً متماسكاً منسجماً مع تطلعاته الفكرية.

لخزين الثقافةِ التّاريخيةِ المكانيةِ أثرٌ واضحٌ في شعرِ السّماويّ وفي شخصيتهِ الأدبية أيضاً، إذ تنوعت معطيات هذا الأثر من أمكنة وأحداث رافقته في تلك الحقبة، فكان لكلِّ جانبٍ من تلك الجوانب بصمته المتدفقة في شعره، كما مثل البعد المكاني جزءاً رئيساً من ماهية التّناصِ التّاريخي، لِما يحمل من رؤيةٍ خاصةٍ للشاعر، فقد تداخلت بالمَعْلم المكاني المحدث. كانت (السّماوة) بالنسبةِ للشاعر يحيى السماويّ حقلاً ثرياً بالموضوعاتِ والرّؤى والرّموز؛ لِمَا تختزنه في وجدانه من دلالاتٍ تثيرُ الذات وتهيج الذاكرة. وقد أفادَ الشّاعرُ من الرقعةِ الجغرافيةِ المكانيةِ هذه أيّما إفادةٍ، فهذه البقعةُ بكلِّ ما تثيرهُ من إحساسٍ بالحدثِ وتراكماتِهِ الوجدانية والعاطفية والتّاريخيةِ، كانت صدىً لانفعالاتِ السّماوي وتصوراتِهِ المُنبثقةِ من زمكانيةٍ لا تنفصلُ عن ذاتِهِ، إذ يقول عن السماوة[39]:

وبأنَّ آخرَ ما رأى  الحلاّجُ قبلَ الصلبِ

بَدرُ العشقِ مُكتمِلاً بوَجهِكِ..

والسّماوةَ

سوفَ تلبسُ  بُردةً ضوئيةً من

أنجمِكْ

وفي قصيدةٍ أخرى يقول[40]:

فأنا ومولاتي

يُسافرُ في جنائِننا السَّفرْ

نطوي خِيامَ الغربتينِ إلى السّماوةِ

فهْيَ نِعمَ المُستَقَرْ

إنَّ التّناصِ التّاريخي في شعره يُمثّلُ حقلاً مرجعياً لرؤى الشّاعر مُكتنزاً بالإبداع؛ لأنَّهُ يتكئُ على كثيرٍ من المعطيات المركوزة في حقوله التناصية، ولذلك برزت سمته الاجتماعية داخل نصه الشعري، فبإدامةِ النّظرِ في صورةِ السّماوة وأديمها السّامق استطاعَ أن يصلَ بخطابِهِ ونصّهِ الشّعري إلى تجسيد ذلك الواقع بصورة تتجدّد فيها الإثارةُ والحزنُ والولاءُ. هذا وتكرر لفـظ (السّماوة)  عشر مراتٍ في ديوانه، ثم انفتحت فيما بعد قصائده اللّاحقة على التناصِ في إشاراتهِ التّاريخية لذلك المكان. لقد جاءَ استحضارُ هذا المكان في شعره بتجلٍ للفظةِ ولِما راقته من أحداثٍ تاريخيةٍ وسماويةٍ مُقدسة، وكلُّ ذلك لا ينفكُ عن الأحداثِ المُرتبطةِ بها. هذا " وإنَّ أقدمَ إشارةٍ عن السّماوةِ في العصرِ الحديثِ وردت عام 1394م في الوثائق العثمانية، والتي وصفتها بقريةٍ زراعيةٍ تقعُ على شط العطشان والذي يعني نهر الفرات الاصلي"[41]  .

نخلصُ مما سبقَ أنَّ التّناصَ لدى السّماويّ على اختلاف ألوانه كانت قرآنية أو أدبية (شعرية) أو تاريخية، تحاكي التراث التليد لتنتج من جديدٍ بعدَ مرورهاِ بمتغيراتٍ فنيةٍ متعددةٍ، مُعتمداً في تركيبِ هذا التناصِّ على مخيالهِ الوقّاد، بعدَ أن يحاكي شعرياً دلالتها الموضوعية؛ لإنتاجِ نصٍ انزياحيٍ رمزي جمالي، فقد أدغمَ النصُّ السّماوي مفاتنَ إبداعِهِ لإنتاجِ تناصٍ راكزٍ مُفعَّمٍ بالإبداع، يختلفُ عمّا سبقهُ من نتاجٍ تناصيٍ ، لِما يحملُهُ من رموزٍ وإشاراتٍ نضّاخات، وما يقتضيه من تكثيفٍ دلاليٍ، يمازجُ فيهِ بينَ الشّعرِ الجاهلي والأُموي.

ويبدو أنَّ استخدامَ التقنيةِ المُثيرةِ للتناصِّ الشّعري في تتبعِ الأبياتِ المُكتنزةِ في النّصِ، مهدَ لاستنطاقِ دوالِ النصِ السّماوي، بعدة ثنائياتٍ متناصةٍ سواءٌ أكانت كليةً أم جزئيةً.

نتائجُ البحث

إنَّ الدّراسةَ اتّجهت إلى بيانِ شعرِ السّماويّ واستنطاقه تناصياً من خلالِ كشفِ علاقاتِ محاكاتهِا معَ النّصوصِ الموروثة، والسعي إلى ربطِ تلكَ العلاقاتِ بالنّصِّ الكُلي، وعلاقته بالمتناصِ معه، وهو البؤرة التي دارت حولها الدراسةُ، معتمدين في ذلك على التناص نفسه- والتي شكّلت مرجعياتٍ هذه الدراسة- لا بوصفهِا منهجًا إجرائيًا وحسب، بل بوصفهِ ممارسةً إنتاجيةً متمظهرةً في النصِّ، ولا نعني بالإنتاجية إقصاء الذات المبدعة للنصِّ، ويرادُ بها إعادة إنتاج النص الشعري، بوصف الذات خالقةً له متخلقةً. وعلى وفقِ ذلكَ نخلصُ إلى ايجاز أهمِ النتائج التي توصّلنا إليها قطافاً مثمرةً في البحثِ:

يُعَدُّ الشّاعرُ يحيى السّماويُّ امتداداً لشعراءِ العصرِ الحديث، كـ (الجواهري، ومصطفى جمال الدين، وعبد الرزاق عبد الواحد) وغيرهم، إذ مثْلَّ بمنجزهِ عطاءً زاخراً تتدارسَهً الأجيالُ، معتمداً على جمالِ لغتِهِ، وعُلو أسلوبهِ، ومخيلتهِ المُتوهجةِ التي جعلت تناصَهُ ناضجاً متماسكاً.

تجلّى من ماهية التناص أنَّ ثقافةَ السّماوي انمازت بالشّموليةِ، مما جعلَ شعره يحاكي مختلف الثقافات والأزمان، إذ كان للتناصِّ الأثرُ الواضحُ على شعرِهِ، وهذا ما يشي بثقافته المتنوعة المـتـقــدة، التي تجمعُ بينَ آثارِ الماضي وقيمِ الحاضرِ الراهنِ المعيش.

ترسّخت الألفاظُ الدّينيةُ في تناصهِ القُرآني بشكّلٍ واضحٍ، حتّى كوّنت جزءاً مهماً من معجمهِ الشّعري، إذ تكررت في شعره ألفاظٌ معينة، وتركّزت في إشاراتِهِ ورمزيتِهِ ومحاكاتِهِ التّناصيِةِ.

أفادَ الشّاعرُ من قصصِ وأحكامِ القرآن الكريم مُضمنًا إيَّاها في نتاجِهِ التّناصي، كقولِهِ تعالى: ((إنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَّوْقُوتاً))[42]، ومن قصصه السّردية الحكائية.

انمازَ تناصُهُ القرآنيُّ بالجودةِ والكثرةِ إذا ما قورن بالتناصاتِ الأخرى، لأنَّ السَّماويَّ كان واضحًا في رسمِ ملامحِ تناصهِ، وتحقيق مآربه بلوحةٍ جماليةٍ شاهقةِ الجمالِ برؤاها وصورها التي عكست حبّه الجمّ لدينهِ وعقيدتهِ الإسلامية السّمحاء.

تميّزَ التّناصُ الأدبيُّ (الشّعري) بأنَّهُ استدعاءٌ لنصٍّ تليدٍ، وإعادة إنتاجه من جديد، من خلال استحضار مهارته الشعرية، لتولد قراءات منتجة ومؤثرة بينَ المُرسَل والمُرسل إليهِ.

أسهمَ التّناصُ التّاريخيُّ في نضجِ مخيالِ السّماوي من خلالِ وقوفهِ عندَ أبرزِ المعالمِ المكانيةِ كالسماوة، وبابل، وأوروك، أو محاكاته لأبرزِ الشّخصياتِ والرّموزِ التّاريخيةِ في الوجودِ كالنبيِّ الأكرمِ محمد (ص) وأميرِ البّلاغةِ والبيانِ عليٍ (ع).

لم ينحصرْ التّناصُ عندَ السَّماويِّ بالقُرآنيِّ (الدّيني) والأدبيِّ (الشّعري) والتاريخي، بل يحتوي على تناصاتٍ كثيرةٍ أخرى، مثل: الرّمزيُّ والأسطوريُّ وغيرُ ذلكَ من التّناصات، ولعدمِ سعةِ المقامِ البحثي لم نسلطْ الضّوءَ عنها في هذه الدراسة البحثية.

***

م. غسَّان عـبَّاس عبد الزّهرة السَّاعـدي : ناقد عراقي / ماجستير نقد حديث، يتهيّأ لمناقشة أطروحة الدكتوراه .

...................

الهوامش

[1]- هو يحيى عبّاس عبُود السّماويُّ، الشّهيرُ لقباً بـ(يحيى السماوي)، ولِدَ في مدينةِ السّماوةِ بالعراق في السادس عشر من آذار/ مارس عام 1949م، شاعرٌ وأديبٌ عراقيٌ معاصرٌ من شعراءِ العصرِ الحديث. (البهادلي: د. جبار ماجد، تمثلاتُ شعريةِ الآيروتيك الحسي في غزلياتِ يحيى السّماويّ،9.

[2] - فلحي: علي غانم، ظاهرة الانزياح في بائية عنترة بن شداد (بحث)، مجلة ميسان للدراسات الأكاديمية، العدد 42،  مجلد 21.

[3] - الموافي: عبد العزيز، قصيدة النثر من التأسيس إلى المرجعية، 220.

[4] - ينظر: مفتاح، محمد: تحليل الخطاب الشعري(استراتيجية الخطاب)، 121-122.

[5] - البقاعي: محمد خيري، آفاق التناصية المفهوم والمنظور،83.

[6] -  ينظر: ياسر عبد الحسيب رضوان، الاقتصاص القرآني والتناص ابن فارس نموذجاً،(بحث)، ع 146، 1.

[7] - ابن منظور: 1418هـ-1990م، ن ص ص .

[8] -  القاموس المحيط، ص 122.

[9] -دهنون: إبراهيم مصطفى، 2011م، 15.

[10] -ينظر: مفتاح: محمد، 1992م، (121-122).

[11] - سماح رواشدة: 1999م، 119.

[12] - إبراهيم، خليل: 2006م، 163.

[13] -البهادلي: د. جبار ماجد، 2022م، 140.

[14] - الشمالية: معتصم سالم، التناصُ قي النقد العربي الحديث، رسالة ماجستير، ص43.

[15] - ديوان السماوي (التحليق بأجنحة من حجر)،  2022م، 178.

[16] -سورة الفاتحة :1/6.

[17] - عبد علي، ناصر حسن،2022م، الدلالة الصوتية في ألفاظ المثل القرآني، مجلة ميسان للدراسات الأكاديمية، مجلد: 21، 42/321.

[18] - ديوان السماوي (التحليق بأجنحة من حجر)،  2022م، 63.

[19] - سورة البقرة :2/35.

[20] - ديوان السماوي (التحليق بأجنحة من حجر)،  2022م، 102.

[21] -سورة البقرة: 2/196.

[22] -سورة الحج:27.

[23] -سورة البقرة: 197.

[24] - ديوان السماوي (التحليق بأجنحة من حجر)،  2022م، 76.

[25] - سورة الرحمن: 26.

[26] -(نعيمة، علي مطشر) و (جابر، كريم قاسم)، التشكيل الصّوري لخاتمة القصيدة في عهد بني الأحمر،

(بحث)، مجلد :21، العدد: 42/ 147.

[27] -نجيب: نجيّة فتحي عبد الرحمن الحاج، قصيدة السيرة في الشعر الفلسطيني المعاصر، محمود درويش،

فدوى طوقان، مريد البرغوثي، نموذجًا، رسالة ماجستير، ص27.

[28] - ديوان السماوي (التحليق بأجنحة من حجر)،  2022م، 103.

[29] -ديوان الهذليين، 1965م، ص3.

[30] - المصدر نفسه: 86.

[31] - ديوان الحطيئة برواية وشرح (ابن السكيت)، (1413ه- 1993م)، 107.

[32] - ديوان السماوي (التحليق بأجنحة من حجر)،  2022م، 96.

[33] -العلاّمة الخواجة نصير الدين الطوسي حياتُهُ وآثارُهُ ، (1419هـ ق)، 442.

[34] - ديوان السماوي (التحليق بأجنحة من حجر)،  2022م، 73.

[35] -ديوان النابغة الذبياني: (1416هـ- 1996م)، 105.

[36] -  ينظر: أبو زيد، شوقي أحمد يعقوب، تواصل الشعر الفسطيني الحديث بالتراث، رسالة دكتوراه، ص184.

[37] - سورة يوسف :25.

[38] - ديوان السماوي (التحليق بأجنحة من حجر)،  2022م، 93.

[39] -المصدرُ نفسه: 19.

[40] -المصدرُ نفسه: 67.

[41] -عبد سالم: لطيف، 2019، 21.

[42] -سورة النساء / 103.

المصادرِ والمراجع

القرآنُ الكريمُ

إبراهيم: خليل، 2006م، من معالم الشعر الحديث في الأردن و فلسطين، ط1، عمّان، دار مجدلاوي.

ابن منظور: 1992م، لسان العرب، د ط، دار صادر، بيروت، مادة (ن ص ص).

البقاعي، محمد خيري: 1998م، آفاق التناصية المفهوم والمنظور، د ط، القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب.

البهادلي: د. جبار ماجد، 2022م، تمثلاتُ شعرية الآيروتيك الحسي في غزليات يحيى السماوي الجمالية، ط2، سوريا- دمشق، دار الينابيع للطباعة والنشر والتوزيع.

دهنون: إبراهيم مصطفى، 2011م، التناص في شعر أبي العلاء المعري، ط1، أربد - عمّان، عالم الكتب الحديثة للنشر.

ديوان الهذليين، 1965م، القاهرة، الدار القومية للطباعة والنشر.

رضوي: محمد تقي مدرّس، 1419ه، العلاّمة الخواجة نصير الدّين الطّوسي(حياتُهُ وآثارُهُ)، ط1، مشهد- ايران، مؤسسة الطبع والنشر.

رواشدة: سماح، 1999م، فضاء الشعرية، د ط، عمّان، المركز القومي.

السّماويُّ: يحيى، 2022م، ديوانُ(التحليق بأجنحةٍ من حَجرٍ)، ط1، سوريا- دمشق، دارُ الينابيع.

عبد السّاتر: عباس، (1416ه-1996م)، ديوان النابغة الذبياني، ط3، بيروت-لبنان، دار الكتب العالمية.

عبد سالم: لطيف، 2019، مرافئُ في ذاكرة يحيى السّماويّ، ط1، سوريا- دمشق، تموز ديموز للطباعة والنشر.

الفيروز آبادي، 1993م، القاموس المحيط، د ط، بيروت، تحقيق: مكتب تحقيق التراث، مؤسسة الرسالة.

قميحة: د. مفيد محمد، (1413هـ - 1993م)، ديوان الحطيئة برواية وشرح ابن السكيت، ط1، بيروت – لبنان، دار الكتب العالمية.

مفتاح، محمد:1992م، تحليل الخطاب الشعري(استراتيجية الخطاب)، ط3، بيروت، المركز الثقافي العربي.

موافي، عبد العزيز: 2004م، قصيدة النثر من التأسيس إلى المرجعية، ط1، القاهرة، المجلس الأعلى للثقافة.

الرسائلُ والاطاريحُ الجامعية.

نجيب: نجيّة فتحي عبد الرحمن الحاج، 2003م، قصيدة السيرة في الشعر الفلسطيني المعاصر، محمود درويش، فدوى طوقان، مريد البرغوثي، نموذجًا، رسالة ماجستير، الجامعة الهاشمية.

أبو زيد: شوقي أحمد يعقوب، 1995م ، تواصل الشعر الفسطيني الحديث بالتراث، اطروحة دكتوراه، الجامعة الأردنية، عمّان.

الشمالية: معتصم سالم، 1999م ، التناص قي النقد العربي الحديث، رسالة ماجستير، جامعة مؤتة، مؤتة.

المجلاتُ والدّورياتُ.

رضوان، ياسر عبد الحسيب: 2011م، الاقتصاص القرآني والتناص ابن فارس نموذجاً، مجلة الرافد، تصدر عن دائرة الثقافة والإعلام، الشارقة، ع146، 1.

المصادر الاجنبية

Falhi: Ali Ghanem، 2022 AD، the phenomenon of displacement in the epidemiology of Antarah bin Shaddad، Iraq - Maysan، Maysan Journal of Academic Studies، No. 42، Volume 21.

Abd Ali، Nasser Hassan، 2022 AD، Phonetic Connotation in the Words of the Qur’anic Proverb، Iraq - Maysan، Maysan Journal of Academic Studies، No. 42، Volume 21

(*Naima، Ali Mutashar) and (Jaber، Karim Qassem)، 2022، the pictorial formation of the conclusion of the poem in the era of Bani al-Ahmar، Iraq - Maysan، Maysan Journal of Academic Studies، No. 42، Volume 21

تحكي المجموعة الشعرية "ملحمة الخلق"، للصديق الشاعر الراحل عدوان ماجد عنبتاوي (1948- 2018)، قصةَ حياته ومعاناته خلال السنوات الخمس لتألقه الشعري، من أواسط الستينيات إلى أواخر السبعينيات من القرن الماضي، وقد أصدر عدوان هذه المجموعة الشعرية بفرحة غامرة، وانصرف بعدها عن الشعر لمزاولة كتابة اللافتات لكلّ مَن طلبها آنذاك من أهالي الناصرة ومنطقتها، وقد حاول فيما بعد، العودة إلى انتاج الشعر إلا أنّ شيطانه استعصى عليه، فجاء ما كتبه ضعيفًا فجًا، خاويًا مِن حرارة التجربة التي عاشها إبان انتاجه ملحمة خلقه تلك، وكان أن عاودته أفراح الشعر في سنواته الاخيرة رغبة في مسايرة الموجة الشعرية المتصاعدة، فتوجّه إلى كتابة الشعر باللغة العبرية، وهو ما لم يلقَ قبولًا من أحد، وكاتب هذه السطور في مقدمتهم، فلماذا نحن نكتب الشعر للتباهي.. أم للعيش؟

يقول عنوان مجموعة ملحمة الخلق، مجمل ما أراد أن يقوله عدوان، فهو هنا يتحدّث عن ملحمة خلق تشبه إلى حدّ بعيد الاسطورة الدينية حول خلق العالم، وقد اختلطت في هذه المجموعة الشعرية الاولى وأكاد أقول الاخيرة لصاحبها، الاحاسيس والمشاعر الوطنية الجيّاشة بالأحاسيس الشخصية الذاتية الصرفة، الامر الذي قرّب صاحبها من فجيعته الذاتية التي سأتحدث عنها فيما يلي من سطور، فقد ولد عدوان عام النكبة وعاش لسعها الكاوي، أكثر من مرة، وذلك عندما قتل والده ماجد عنبتاوي في معركة الشجرة وهي المعركة التي قُتل فيها الشاعر عبد الرحيم محمود، صاحب القصيدة المشهورة" سأحمل روحي على راحتي والقي بها في مهاوي الردى/ فإما حياة تسر الصديق وإما ممات يغيظ العدا"، وتضمّنت حياة شاعرنا تفاصيلَ محزنةً جدًا كان كاتب هذه السطور شاهدًا على أطراف منها، وبما أنه يجد صعوبة في التحدّث عنها لخصوصيتها الشديدة، فإنه يكتفي بالإشارة إلى واحدة من نتائجها القاسية وهي أن عدوان اضطر بعد انهائه دراسته الثانوية للإقامة في غرفة وحيدة أجّره إياها الشاعر المرحوم إدمون شحادة تعاطفًا معه ومحبة له. تلت هذه الظروف القاسية ظروف أخرى أفضت لاعتقاله فترة من الزمن بدعوى اللقاء مع عميل أجنبي أو مُعادٍ في قبرص، وكان ذلك خلال دراسته في جامعة القدس العبرية، أما نتيجتها فقد تمثّلت في انصراف عدوان عن الدراسة والشعر، وفي انخراطه في الحياة العملية اليومية، رغبة منه في العيش بكرامة في عالم لا يرحم. لقد جرت بيني وبين عدوان خلال وجوده في السجن مكاتبات، أكدت مأساته الشخصية، وأذكر هنا أنه جمع هذه الرسائل وأعطاني نسخة منها لعلّنا نتمكن من إصدارها في كتاب خاص، غير أنها اختفت بين أوراقي الكثيرة، الامر الذي حال دون إصدارها في كتاب كما خطر له.

فيما يلي سأتابع قراءتي حياة عدوان عبر مجموعته الفريدة " ملحمة الخلق"، بعدها سأقدم تلخصًا أعتقد أنه هو الدافع لكتابة هذه المقالة الاشارية.

كما ورد آنفًا حكى عدوان في ملحمته هذه قصته العامّة مازجًا إياها بروح من شعر بفجيعته الشخصية، وهناك مقطع شعري في هذه المجموعة يلخّص معاناته التاريخية الانسانية هو:

أحبيبتي

أمضيت عمري والهروب هو الهروب

أمضي فتخدعني الدروب

وأتوه في برد غضوب..

إنها الوحدة والنضال من أجل العيش والوجود، فهو كما يلحظ الاخ القارئ، يخاطب حبيبته المتخيّلة (عدوان بالمناسبة لم يدخل قفص الزوجية وبقي عزبًا طوال أيام حياته)، وها هو يشرح لها ما اوقرته الايام في قعر فنجان حياته يحدّثها عن الهروب وعن خداع الدروب له، كما يحدّثها عن المتاهة القاتلة التي وجد نفسه فيها مُرغمًا ودون إرادة له فيها أو شأن. إنها قصة الانسان " الكافكاوي- نسبة إلى الكاتب التشيكي اليهودي فرانز كافكا)، ذلك الانسان الذي فتح عينيه ذات يقظة صباحية ليجد العالم وقد أطبق عليه فكّيه الحادين متسبّبًا في آلام لم يكن شريكًا فيها، بل لم يكن له يد في حدوثها المُرعب. يقول عدوان:

عندما كان أحبائي عرايا

كنت ثوبًا مهملًا فوق الطريق

إنّه يحنّ إلى اولئك الناس الذين كانوا هنا، اولئك الاحباء الذين غالتهم يدُ البشر وتشرّدوا أيدي سبأ، وها هو يفتح دفتر فجيعته الشخصية ليخبرهم أنه لا حول ولا طول له فيما حدث لهم، وأنهم عندما كانوا عرايا، كان هو ثوبًا مهملًا فروق الطريق، يا الله ما اقسى هذا، ما اقسى ألا تكون وألا يكون أحباؤك إلا حلمًا ووهمًا، طائرًا مهيضَ الجناح وعاجزًا عن التحليق، وكلّ ما حولك يدعوك للرفرفة فوق شجرة الحياة حيث أنت واحباؤك. إنها صورة مؤسية الجميع فيها خاسر. ثم يقول:

إنني خنت جميع الخائنين

فاذا ما متّ يومًا

فخذوا منهم بثأري..

في هذه الابيات نرى كيف تختلط الامور، فلا يرى الشاعر بارقة أمل، يسترشد بها في متاهته اللاهبة، وها هو يطلب من حبيبته، بل منهم جميعًا، من أحبائه، أن يأخذوا بثأره إذا ما مات يومًا، أما السبب فإنه يتمثّل في وفائه لأناه ولعالمه، وخيانته لجميع الخائنين، اولئك الذين اغتالوا حلمه واجهزوا على فرحه في ذروة نشوته.

في قصيدة أخرى، يتصوّر عدوان نفسه مي زيادة تتوجّه إلى حبيبها الافتراضي جبران خليل جبران، ذلك الشاعر الذي عاش في المهجر الامريكي في حين عاشت هي في المُغترب المصري، ولم يلتقِ الاثنان في حياتهما إلا على صفحات الرسائل المتبادلة التي تواصلت خلال حوالي العشرين عامًا.. دون لقاء واحد. وها هو يرتدي القناع الشعري ممثلًا بمي وهي تخاطب حبيبها المفتقد دائمًا وابدًا، يقول:

سأموت يا جبران قبل الخامسة

عدوان هنا يتنبأ بموته دون أن يحقّق أي شيء مما حلم به وأراده، وهو ما حصل له في النهاية ليقضي وحيدًا وأكاد أقول شريدًا، ولينطبق عليه ما قاله أبو الطيّب المتنبي وهو: بمَ التعلّل لا أهل ولا وطن ولا نديم ولا كأس ولا سكن.

هكذا تتراكم الاحزان فلا يجد عدوان أمامه سوى أن يهتف بالجميع، من رأى ومن لم ير، قائلًا:

افتحوا الابواب

قلبي لا يحبّ الباب مغلق

كما يلاحظ الاخوة القراء، تمكّن عدوان في مجموعته الفريدة هذه، ملحمة الخلق، أن يمزج ما بين العام والشخصي فابتعد عن الايديولوجي واقترب من الشعر في فترة كان الشعر الايديولوجي هو السيد المُطلق في شعرنا العربي المحلي، أما السبب في هذا كما أرى فإنه يعود إلى أن عدوان أحبّ الشعر آنذاك حتى الفناء فيه فاطلع نماذج جامحة منه لدى العديد من شعراء تلك الفترة في مقدمتهم الشاعر العراقي عبد الوهاب البياتي، وأدرك مُبكرًا أن الشعر إما أن يكون شعرًا او لا يكون.

في المجمل أقول إن عدوان كتب هذا كله وغيره خلال خمسة أعوام، قد تُذكّر بالتجربة الرائدة في الشعر الاجنبي لأحد رواد الحداثة في العالم وأقصد به الشاعر الفرنسي البارز آرثر رامبو، تلك التجربة التي لم يتجاوز عمرها عمر تجربة عدوان، وتمثّلت في مجموعة واحدة رائدة هي " فصل في الجحيم"، أو أكثر قليلًا، تلك المجموعة التي كتبها قبل بلوغه العشرين من عمره وانصرف بعدها إلى شأنه الحياتي اليومي تاركًا الشعر لعشّاقه المُدنفين حبًا به وبخيراته. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: هل سيقيّض لملحمة الخلق العدوانية أن تكون موضع دراسة أحد باحثينا الاشاوس، لتعيد إليه الاعتبار بعد كلّ ما عاشه من الماسي والآلام؟

***

ناجي ظاهر

انتهت الحرب، أو أن استعار نيرانها هدأت حدته منزاحًا عن بغداد،

إلا أنها خلفت "شظية في مكان حساس"

*** 

 تقتنص رواية "شظية في مكان حساس" للأديب العراقي وارد بدر السالم، الصادرة عن دار نشر خطوط وظلال 2021، جانبًا خفيًا وموجعًا أرسته التفجيرات الدموية في حياة العراقيين، التفجير الأخير في العاصمة بالذات، قبل استتياب الأمن، ولو بشكلٍ نسبي، يوغل مخالبه في جسد امرأة وزوجة وأم، منتزعًا منها ومن أسرتها السلام لتندلع حربـ ضارية في أحشائها، بالتحديد في مكمن أنوثتها، عبر شظية تسبب لها حكة داخلية شرسة، نزيفًا، و... هيجانًا جنسيًا غريبًا يتطلب من زوجها ما لا يطيق، ولا يتوقع من زوجته القروية الخجول، ذلك الخجل الذي هو من سمات نساء تربين في مجتمعات مقيدة بالكثير من الأعراف والتقاليد التي تفرض على المرأة أكثر من حجاب يلقي كل ما يخصها في دائرة المحرمات، فما يمنحها إياه الزوج عليها أن تتشبع به بامتنان وحياء دون أن يبدو عليها أي تذمر وإلا صارت موضع ريبة وتوجس وأقاويل... غير أن الحرب اعتادت قلب كل الموازين، على كافة الأصعدة، وفي أدق التفاصيل الحياتية، تكشف لنا ما يكمن في أنفسنا من خبايا وما يحاول المجتمع تجاهله وغض الطرف عنه.

"الحرب أظهرت عريها أمام الناس ورأوه ولمسوه في غفلة الجروح الكثيرة التي انتشرت في جسدها، وبالتالي فصلت عنها روح الخجل الفطري الذي كانت تحافظ عليه" ص 44

 الزوج/ الراوي، غير العليم بما يجري  لزوجته في الفراش وما يجتاحها من شهوة جنونية تصل به حد الإنهاك دون أن تبلغ ذروة الإشباع إلا لوقتٍ محدود، يجد نفسه مرغمًا على الانصياع لصرخاتها المتسولة في عملية تبادل الأدوار بين الرجل والمرأة التي اعتادت أن تنساق لرغبة زوجها كلما حفزته شهوته نحوها وإلا لوقعت في المحظور الديني والأخلاقي، وكأنها تبيح له فرصة السعي وراء أخرى، بزواج أو خارج نطاق الشرعية، إلا أن الزوجة ليس لها سوى فحولة زوجها، وبطلب غير مباشر عادة، أما في حالة وجود جسم غريب لم يستطع التدخل الجراحي المساس به، لاحتمائه بستر الأنوثة، فالوضع جد مختلف ومربك للطرفين والاستقرار العائلي، خاصة لدى وجود ابنتين، إحداهما طالبة جامعية تعي كل ما يحدث في بيت يسوده الاضطراب والفوضى، كانعكاس لما يجري في البلاد التي تشهد الكثير من التغيرات على كافة الأصعدة، بينما تبقى الأم مستلبة الإرادة المتراقصة ما بين الحياة والموت الذي ظل يعبث بجسدها كما يشاء حتى وهي تنهل (إكسير الحياة) من شغف زوجها بعد انقطاع أشهر إثر التفجير الذي ظل يشم تداعيات روائحه المختلفة في ثنايا جسدها لتؤكد الحرب حضورها العبثي في أكثر الأوقات والأماكن خصوصية، يبدد دفء وقدسية العلاقة المجدولة بالحب ليحيلها إلى شهوة حيوانية مجردة من جوهر المشاعر الإنسانية.

 "حياة السياسة الطائفية التي غيرت فينا المزاج وجعلتنا ننتظر ما هو أسوأ... لكن المصاب الشخصي يختصر تلك القائمة الوطنية من الرعب والعذاب ويصبح كأنه استهدفك أنتِ لا غيرك، مع أن المأتم واسع ويتسع كل يوم في حياتنا الصغيرة والجميع مصابون بالشظايا في كل مكان لا سيما في أرواحهم" ص 763562 وارد بدر السالم

 رغم أن الموضوع العام يغري بالتشعب والاسترسال في تفاصيل كثيرة، إلا أن الكاتب التزم بالتركيز ضمن مسار درامي مستقيم، يأخذ بالتصاعد رويدًا رويدا ليوجه دائرة الضوء السردية نحو شخصية (نور) البسيطة، كما تبدو على الأقل، مثلها مثل أغلب نسائنا اللاتي تجرعنَ آلام الحروب، شأن الرجال وربما أكثر في أحيان كثيرة لا تفرق بين ضحايا التسلط وتجار الأزمات، تلك القروية المنغمسة ببراح الأرض وفوح خيرها المعطاء،  لا تتمنى أكثر من حب زوجها وتربية ابنتيها، فإذا بهذه الحمامة المحلقة في سماء العائلة الممثلة للطبقة المتوسطة، التي يقع على كاهلها أغلب ما يواجه البلد من إرهاصات فكرية وسياسية واقتصادية... تتحول بفعل آلة الحرب المتخفية بين المدنيين إلى ما يشبه وحش جنسي صعب المراس والإرضاء، تعيش صراعًا مزدوجًا ومتخبطًا لا تدري شيئًا عن نهايته، صراعًا مع أقرب الأشخاص إليها، وآخر، ولعله الأشد صخبًا، يقبع داخلها وهي تنتفض على الأنثى الشهوانية التي آلت إليها، مما يزيد من مخاوفها من مقبلات الأيام وما يمكن أن تحمل من فواجع ليس لها أن تنعزل عنها بملازمة البيت، ومن هاجس تطور حالتها نحو الأسوأ، فتلجأ وزوجها إلى دكتورة متخصصة في الطب النفسي، تكتظ عيادتها بالحالات الغريبة على أي مجتمع يتمتع بحياة طبيعية غير مهددة دومًا بالفناء، وعلى مدار عقود، فالأزمة تراكمية، تزداد استفحالًا مع كل وهج حرب وبيان انتصار تليه بيانات أسف الاندحار، مع كل مفخخة تلقى شضاياها في الأجساد بعشوائية المصادفة المجردة من أي مقصد عقلاني، فالحروب لا تخضع عادةً لأي منطق.

 "بدت لي العيادة كأنها إفرازات الحرب المختلفة التي لا نراها بارزة ولا نتلمس وضوحها، فأيقنت بشكل مبدأي أن الحقائق هي في عيادات الأطباء وليست في قاعات المحاكم." ص 124

 للمرأة كما نلاحظ حضور كبير في نصوص الكتّاب العراقيين، ربما بتأثر مثيولوجي في الدرجة الأساس، فنجد شخصية (عشتار) تطل من بين طيات السرد، تتبدى في ممازجة أدبية متقنة ما بين الأسطورة والواقع المعاش في حاضر يملي على الجميع تحدياته ونكباته ومشاقه الَمتضاعفة حربًا إثر أخرى، إذ تتحول إلهة الحب والحرب إلى أيقونة تتمثل في مواضع القوة والضعف، الإرادة والاتكسار أمام شظية تشوه العلاقة الزوجية وتحيلها إلى سلسلة من التأوهات الحادة، أشبه بتضرع باكٍ يستغيث من الموت المستبطن (تاج الخصوبة) لدى المرأة، تأوهات تردد صدى انهيار الجمال في زمن القبح المستشري بين أرجاء المدينة، يتبدى في وجوه الناس وتصرفاتهم، في الثقافة الغريبة التي حطت بصماتها الثقيلة في حياتنا، تلبس لباس التقوى في سطحية تفضح الإزدواجية التي أودعتها حياة الجدب فينا عبر عقود من الموت والدمار، وكما توارت أغلب النساء، بمختلف الأعمار والحالات الاجتماعية، بالعباءة والحجاب توارت معهن تلقائية غرائزهن ورغباتهن، طموحهن واستقلاليتهن، فالمرأة في بلادنا انتظرت النماء طويلًا إلا أن مواسم الحصاد لم تأتِ أبدًا.

 "المرأة العراقية تحملت الكثير من الأورام الوطنية جسدتها الحروب من أربعة عقود تقريباً وبالتالي وقعت عليها أدوار متعددة أكثر من طاقتها النفسية والروحية والجسمانية، لكنها واصلت الحياة بالرغم من كل القتل والرعب والموت" ص 182

 محنة نفسية أم عضوية بالدرجة الأساس، أم أنها محنة حياتية عامة فجَرَها ذلك الجسم الغريب الصغير ليثير المياه الراكدة فينا ومن حولنا، فتتشعب تساؤلات حيرى كثيرة تفتقر إلى الإجابة في فضاء المسكوت عنه المتكاثف مثل غمامة تأخذ بالاتساع حينًا بعد حين، ومع تدهور حالة (نور) وارتفاع حدة شبقها المعتصر جسدها الآخذ بالضمور، تتصاعد حمى اللهاث لدى بحثها عن السكينة التي كانت تكتنفها وأسرتها قبل أشهر معدودة فحسب.

" هذه هي الحرب.. تعرّينا حينما لا نكون مستعدين للتعري وننتزع الخجل منّا لتكشف عن بعض ما لا يجب أن ينكشف فينا فتجعلنا نرى في الجمال قبحاً كثيراً."  ص 162

 الحرب ما بين اللوثة والتلوث بكافة أشكاله، ثنائية تتلوى كالأفعى بين الأحراش، تنفث سمها في أوصال المدن والأبرياء المتوسلين النجاة من أهوال حاضر ينعطف بنا ذات اليمين وذات الشمال، عسى أن نستدل على دربٍ يبرأ فيه الوطن من شظايا الموت القابعة في الخفايا. 

"نور سلبتها عاصفة الانفجار وتناثرت في جسدها الأبيض شظايا ومسامير وفتيت حصى وشرائح زجاج صغيرة ولوّث البارود روحها البيضاء" ص 200

***

أحمد غانم عبد الجليل - كاتب عراقي

26 ـ 2 ـ 2022 عمان 

أو حينما يكون عزف ناي الشعر تصاديات الروح في التاريخ والمكان

***

"الإبداع جار الأبدية الخالد، والاغتراب قوت يومه الخالد"[1].. إبراهيم الكوني

"إن مغادرة البلاغة من أجل الرياضيات، هو التقزز من عشيقة في الثامنة عشرة من عمرها والسقوط صريعا في حب امرأة عجوز".. كويز دي بلزاك[2]

***

على سبيل التقديم، بين يدي الشعر:

يورد صاحب "الشعر والشعراء" أن أبا عمرو بن العلاء كان يقول: "لقد كثر هذا المحدث وحَسُنَ حتى لقد هممت بروايته"[3] وهو يقصد شعر المحدثين في العصر العباسي مثل: أبي تمام وبشار بن برد وأبي نواس ومسلم بن الوليد ووالبة بن الحباب وغيرهم... تأكيدا لقداسة ما كتبه الأسلاف منذ العصر الجاهلي، كامرئ القيس، وعنترة بن شداد، والنابغة الذبياني، والأعشى، وعمرو بن كلثوم... وغيرهم، وصولا إلى البحتري، أبرز شاعر مطبوع في العهد العباسي، وأن كل تجديد وخروج عما أسسوه شعريا، وقد استجمعه المرزوقي في شرحه لديوان الحماسة لأبي تمام تحت مسمى "عمود الشعر"، أو اجتراح شكل إبداعي جديد، أمر مرفوض وبغيض، ولا يسلم صاحبه أن تلوكه كل الألسن بقاذع الصفات، وكأن الحقيقة الكلية المتناهية للإبداع انتهت إلى الكمال، ولا يمكن إيجاد أفضل مما هو كائن، وقد سُدَّ بابُ الإبداع الحق والتجديد والاعتراف به دون الباقين في آباد التاريخ لما فَوَّزَ الأوائلُ الفحولُ؟

وحقيقة سأشفق على أبي عمرو بن العلاء، ألم يسمع قول أبي العلاء المعري:

"وإني وإن كنت الأخير زمانه *** لآت بما لم تستطعه الأوائل"[4]

ألم يسمع البارودي يقول:

"كَمْ غادَرَ الشُّعَرَاءُ مِنْ مُتَرَدَّمِ   *****  وَلَرُبَّ تَالٍ بَزَّ شَأْوَ مُقَدَّمِ

فِي كُلِّ عَصْرٍ عبْقَرِيٌّ، لاَ يَنِي  *****  يفْرِي الفَرِيَّ بكلَّ قولِ محكمِ"[5]

ولو مد الله في عمره أو لو حيي بيننا الآن. كيف يكون حاله؟ افترض أن يضع أصابعه في أذنيه، ويهرب متخذا مكانا قصيا، لسان حاله: أن "لكم دينكم ولي دين"[6] و"سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين"[7]. أم يعتذر عما بذر منه، ويُقَوِّمُ حكمه النقدي، ويُحَيِّنُ آلته النقدية أيضا، وكيف لا؟ وقد مرت مياه لا تحصى تحت الجسر، لما تولد شعر الحداثة العربي مع أجيال ذاقت ويلات الاستعمار، والاستغلال، والتهميش، والنفي، والغربة.. مثل: بدر شاكر السياب، ونازك الملائكة، وعبد الوهاب البياتي، وصلاح عبد الصبور... والذين دفعوا بالتجديد الشعري إلى تخوم جديدة، فاتحين أراضٍ بكرٍ خصيبة، كأدونيس وأحمد عبد المعطي حجازي، وأحمد المجاطي، وعبد الله راجع.. تمثيلا لا حصرا، حافزيتهم في ذلك، غنى وتنوع فكري وإبداعي يجمع بين الأصالة من تراث شعري عربي غني ومتنوع، وفكر صوفي إشراقي، والمعاصرة والانفتاح على الأجنبي كشعر توماس إليوت، وبول فاليري، وبودلير، ومالارميه، وهولدرلين، وماياكوفسكي، ولوركا، وراينر ماريا ريلكيه، وبلول إلوار، ولويس أراغون، وآرثر رامبو، وبابلو نيرودا... وغيرهم. وكذا فلسفات تحررية ووجودية وغيرها حديثة، وأساطير ورموز ثقافية متنوعة، ومترامية الثقافات والجغرافيات. وهذا ما جعل التجربة الشعرية لديهم فذة خصيبة، ثورية، استشرافية، مستقبلية، بلغت مداها مع تصاعد موجة الكتابة بالنثر، والضرب بالعروض الخليلي عرض الحائط والنسيان، فظهرت قصيدة النثر - رغم ما في الموضوع من كثرة القول والتوجهات لا نُعْنَى بالخوض فيها وتفصيلها الآن - والتي أغرت الكثيرين، وأوصلت التجديد الشعري إلى أقصى مداه في الشكل الفني، بالأساس، لقيامها على: الإيجاز والتوهج والمجانية... وغيرها حسب سوزان برنار[8]، ومن روادها عربيا، أنسي الحاج، ويوسف الخال، وتوفيق صايغ، ومحمد الماغوط، وسيركون بولص... واللائحة طويلة. فكانت بانفجاريتها تعبيرا صادقا عن تشتت الذات العربية أو المُوَاطِنَةِ عامة في الأوطان العربية والإسلامية، وانكسارها وضياع أحلامها وحقوقها، وتخبطها في الجهل والفقر، والتهميش، وهلم أسقاما، وعاهات.

وبهذا أغرت الكثيرين من الشباب في الكتابة على منوالها استجابة لاندفاعات وثورات وجدانية فكرية داخلية، هي نتاج تفاعل الذات مع واقعها ومحيطها، وقضايا مجتمعها. ومالكة حبرشيد واحدة من الشاعرات والشعراء الذين يمموا وجههم شطر هذا الخيار الإبداعي بديلا عن الشعر العمودي أو التفعيلي أيضا، متسلحة بقدر لا يستهان به من المعرفة الأدبية والنقدية التنظيرية وكذا الجغرافية الإبداعية في هذا الإطار، والمنجز حوله في المشرق والمغرب، وبمعرفة وإنصات عميقين لواقعها المغربي ونبض الشارع وحاجات الأجيال المقبلة في هذا الوطن، وُكْدُهَا في ذلك التعبيرُ عن فداحة الواقع وجنائزية الحياة فيه لمَّا تسربلت بكل إثم ومثَبِّطٍ ومُحزِن من ظلم، وقهر، واستغلال، وتجهيل، وتهميش، وترهيب، ونفاق.. إلخ، وكل محارب لإنسانية الإنسان وكرامته، وحقه في المستقبل المزهر والمشرق، أفلا يحق لهذه الذات أن تخون هذا الوطن حسب الماغوط؟ وأن أفضل توصيف للخيانة ههنا أن تكون قمة الشرف؟

لكن الشاعرة مالكة حبرشيد - التي رأت النور في مدينة خنيفرة بالأطلس المتوسط في المغرب، بطبيعتها وجغرافيتها الآسرة التي ستترك سحرها في الذات الشاعرة، وتقوي الإحساس بفكرة الرحمية بينها وبين هذا المكان وأنطولوجيتها المنبثقة متوثبة منه لتنفتح على فوهة العالم - لم تستسلم ولم تداهن وأيضا لم تخن هذا الوطن لسبق المحبة والارتباط به بحبل سري لا تنفصم عراه مهما توالى القهر والطغيان والتهميش، وإيمانها أن قدرها الانغراس في هذا الوطن وأن حب الأوطان من الإيمان.

من هنا، نسجل الحضور القوي لهاجس المكان في الشعر والإبداع عامة، فالذات المبدعة امتداد للمكان وهو نقطة التمركز والتجاذب لها، وهو أس كينونتها الأول. كما أن هذا الاحتفاء بالمكان سيحضر، بقوة، في التجربة الإبداعية للشاعرة بأكملها، ولكن بشكل جنوني آسر في الديوان الجديد الموسوم بــ: " بين القصيدة وحزن الناي" فكيف يتشعرن المكان في الديوان ليصير الرمز والمنفى معا؟ ما حدود التعالق بين الذات الشاعرة والمكان؟ ما التحققات الممكنة للهوية لدى الشاعرة في ارتباطها بالمكان والمجتمع؟ وما تجلياتها؟ ..... تلكم أسئلة جوهرية تسعى هذه الورقة المتواضعة مقاربتها والنبش في الديوان للوقوف على تجوهرها داخله والإجابات الممكنة عنها بين السطور، وفي المسكوت عنه أيضا مندسا في البياضات التي لا تقل شعرا عن السطور الواضحة، لهذا يصرح رامبو: "أيا نفسي لا تجعلي القصيدة من الحروف التي نثرتها كالمسامير على بياض الورقة وإنما اجعليها من البياض المتبقي في الورقة"، وذلك لأن "تصوير الألفاظ وحده لا يؤدي الأشياء كاملة. وعليه، فالفراغ الأبيض متمم"[9] أي أنه متمم للقصيدة وكيانية النص الشعري والتجربة الإنسانية والرؤياوية التي يتطلع للنهوض بها، وتتصادى الشاعرة مع هذا المذهب كثيرا حين تقول: " بأبجدية عشق كنا نكتب الشعر / اليوم نكتبه بياضات تروي / انتظاراتنا العالقة في جوف الريح..."[10]. ولهذا تدعونا رجاء عيد إلى التحفز وركوب صهوة التأويل، متسلحين بكل الممكنات المعرفية، والمنهجية، والثقافية، والمخيالية... لنكشف المعنى الخبيء في النص ونعيد تشكيله من جديد، إذ تقول: "عندما يصمت النص، وتلتف خيوطه على نسيجها، هنا يشرع القارئ في تأويل ما سكت عنه النص"[11].

أولا: بين يدي الديوان، قراءة في العتبات:

لقد جاء الديوان في طبعته الأولى سنة 2016 متشكلا من 106 صفحات من الحجم المتوسط، منشورات مركز روافد للأبحاث والفنون والإعلام، وينهض العنوان "بين القصيدة... وحزن الناي"[12] على قطبين اثنين متقابلين هما:

الاسم (القصيدة) وما تحيل عليه من إبداعية وجمالية، وتشكيل فني مشبع بالاستعارات، والكنايات، والتشبيهات، والمجازات، والرموز المختلفة، والتراكيب اللغوية البديعة، والقصيدة ذات بعد مادي حيث تكون نصا أدبيا.... إلخ، والمركب الإضافي (حزن الناي) الذي هو ضارب في الرمزية، ومعنوي، إذ الحزن شيء دفين في النفس والروح، وهو نتاج توالي الانكسارات والخيبات، وأفول التحققات الممكنة للحلم أو الرغبة، ونتاج الفقد للمحبوب والغالي، فيجثم على القلب والصدر، ويخنق النفس ويكاد يودي بها ويفنيها، فلئن قالوا قديما "من الحب ما قتل"، فأيضا، من الحزن ما قتل، والحب لا يقتل كحب، بل يقتل بما ينتج عنه لما ينكسر ويصاب بالإحباط والرفض، فيولد حزنا على الحبيب يؤدي بصاحبه إلى الموت أحيانا، ولنا ما يؤكد ذلك في قصة يعقوب عليه السلام وحزنه على فقده ابنه يوسف عليه السلام في سورة يوسف حيث قال تعالى: "وابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم"، وقوله أيضا: "تالله تفتأ تذكر يوسف حتى تكون حرضا أو تكون من الهالكين"، ثم قوله عز وجل: "إنما أشكو بثي وحزني إلى الله"[13].

أما الناي فآلة موسيقية قديمة مع الإنسان، سهلة الصنع خفيفة الحمل، لهذا كانت ترافقه كثيرا في أسفاره ورحلاته، كما اشتهر استعماله في مجال الرعي، إذ يخلق للراعي بعزفه فسحة الأنس واستحضار لحن الحب والتوق للفراديس العلوية، حيث الطهر والقداسة، وأيضا يتخفف بعزفه من وطأة الزمن وقفر المكان، مكان الرعي طبعا، ويمتاز أيضا باللحن أو الصوت الصادر عنه، المرتبط بالحزن والأنين والتوجع، كاشفا عن إحساس عميق في النفس، وصَمْتُهُ إذن بالموت "سكانها رعاة بلا قطيع/ في قلب ناياتهم/ اختنق الصمت"[14]. لكن لماذا اختيار الناي قصدا وليس آلة أخرى؟؟ ربما لأن الشاعرة حالَّةٌ مرتحلة، مسافرة دائما، لهذا، اتخذت الناي رفيق دربها مؤنسا لها، أم لأن الناي يشبه المرأة الأنثى في رقيق الإحساس والشعور وعمقه، وربما لكون الشاعرة مشبعة بالانكسارات والخيبات والأحزان، إذ تقول: "لما ابتعدْتِ يا نصفي المعافى/ حتى اعتلى النشاز ألحاني.."[15]. والتي يضطلع الناي بالكشف عنها بكل اقتدارية آسرة. ولهذا، تتموقع الشاعرة بين القصيدة باعتبارها دالا لغويا على مدلول ما قد يكون: المكان خنيفرة، أو الأرض، أو الوطن، أو الحياة بكل ما يعتمل فيها.. وبين الناي بحزنه وانكساره، تدل على هذا التموقع نقاط الحذف وظرف المكان (بين) في استهلالية العنوان. كأن الشاعرة تقول: بين القصيدة وحزن الناي تكمن أوجاعي وانكساراتي وروح أشعاري... تكمن أناي وكينونتي الشعرية متسامقة كشجر الأرز والسَّرْوِ مجابهة الواقع، متطلعة للمستقبل والآتي الذي ما انفك يأتي دون أن يتحصل، إذا استعرنا عبارة الشاعر العراقي عبد الوهاب البياتي.

وتتظافر مع دلالة العنوان وإيحاءاته الترميزية والشعرية الصورة في الغلاف لفتاة تعزف على الناي، حيث اليدين، بأناملهما الملائكية، تداعبان الناي في تناغم متناه، والعينان مغمضتان لتكملا إهاب المشهد وروحانيته، وتحليق الذات عاليا في تماه مع ألحان الناي وشجونه، حيث الحياة البرزخية توجد هنا، فتصبح الذات محسوبة على الأحياء في الدنيا، ولكنها مشدودة في نفس الوقت لزمن ومكان آخرين، وفراديس علوية روحا ومخيلة، وهذا ما نستشفه في أن الفتاة انشطرت نصفين على مستوى اللون من رأسها وحتى منتهى الصورة، حيث الأخضر دال على الحياة والخصوبة، والعطاء، والحيوية، والدينامية، واكتناز الذات والتجربة الإبداعية.. في حين ينهض اللون الفضي المائل للبياض للدلالة على الطهرانية، والصفاء، والملائكية، والامتداد، والانطلاق، والحرية، والحلم، والاستشراف... وكأن الشاعرة تشجع ذاتها حتى لا تستسلم، وتؤكد أن هناك متسعا للحلم والأمل، رغم ما يعتري الذات والواقع من وهن ومواجع.

وتأتي بعد هذا العبارة التنصيصية على المتن الإبداعي وتصنيفه على أنه قصائد نثر حتى ينعقد الميثاق القرائي بين الشاعرة والقارئ على الوضوح واتفاق مسبق منذ البداية، أن الذي أنت مقبل عليه هو قصائد نثر، فاحشد طاقتك اللغوية، والمخيالية، والبلاغية، لفك طلاسم القصائد ودلالاتها، والقبض على مكنونها، وتجوهرها الإبداعي المكين، واشحذ آلياتك التذوقية والأدبية أيضا لتدخل القداس وأنت مستعد لكل مراسيمه. فلا صلاة بدون وضوء ينقلك من الدنيوي إلى الروحي والأخروي، وإن كانت كذلك فلا يعول عليها، ولا قراءة للشعر بدون استعداد وحشد لمقومات البلاغة، واللغة، والفهم، والتأويل.. للقبض على جمرة الشعر، وإكسير الحياة في القصيدة، وإلا فهي قراءة لا يعول عليها.

ولتسهيل هذه المهمة، يواظف المنتج في ظهر الغلاف مجتزأ من القصيدة الأولى "مقدمة حائرة بين النص والبداية" تؤكد على الحياة الدائرية الرحمية، حيث النهاية تعود إلى البداية والعودة للزمن الأول والحالة البدئية، حيث الطهر، والقداسة، والبراءة، والحلم.. التي تبقى الذات مشدودة إليها مهما توالت عليها الأحزان والمدلَهِمَّات والخطوب، فمهما ذهب بها الغجر وأبعدوها منفى في منفى، فهم لم يستطيعوا قطع الحبل السري الذي يربطها بالرحم الأول، بالمكان الأول. هذا وينهض الإهداء في مستهل الديوان على تأكيد انشطارية الذات، وتوقها لِلِّقاء والاكتمال، مستسندة بنصفها الثاني المدجج بالحلم، فيكون بوصلة تهدي النوارس إلى الخلود، متحللة من الزمان، حيث الخلود انبعاث جديد، وهنا تكتمل الذات القصيدة. ولا ننسى في أسفل لوحة الغلاف اسم الناشر وهو "مركز روافد للأبحاث والفنون والإعلام" بخنيفرة. مشكورين طبعا على هذه الأناقة في التنضيد، والاختيار، والإخراج للغلاف، والديوان.

ثانيا: فتنة المكان وتعميده صعودا نحو الرمز والهوية:

لا أحد ينكر احتفاء الإبداع، عموما، والشعر خصوصا، بالمكان، إذ هو الرحم والمحضن الأول للشاعر، ومهما طوحت به الحياة ومشاغلها يبقى منشدا إلى مكانه ومسقط رأسه الأول، وقد قال الشاعر أبو تمام قديما:

" نقل فؤادك حيث شئت من الهوى *** ما الحب إلا للحبيب الأول

كم منزل في الأرض يعشقه الفتى *** وحنينـــــــــــــه أبدا لأول مــــــــــنزل"[16]

فهاجس المكان مطروح في الشعر منذ القديم، ويشغل المبدع إلى حد كبير، ولهذا، مع تغيرات الحضارة وظهور المدينة المعاصرة بسلبياتها وإيجابيتها، احتفى بها الشاعر الحديث، فتوزع ما بين مادح لها، منجرف إليها، وبين ساخط ناقم عليها، يرتجي تبدلها أو اضمحلالها، فهي وحش يقضي على إنسانية الإنسان ويبددها فتصير المدينة بلا قلب حسب أحمد عبد المعطي حجازي[17]، والحديث عن المكان يستلزم، بالضرورة، الحديث عن الزمان، إذ هما متعالقان، فانغراس الذات وانقذافها في المكان لا بد له، باعتباره فعلا وحدثا، من زمان يقع فيه، وله خواصه ومياسمه التي ينماز بها عن الأزمنة الأخرى، إذ مجرى الزمن متبدل ومتغير باستمرار في اشتراطاته وحيثياته. "إذ بالقدر الذي تجد فيه تجريدية الزمن كنهها المادي من خلال المكان لا يتيسر لهذا الأخير العثور على معناه الأنطولوجي المتراكب إلا إن هو استصدى تجريدية الزمن، وأدمجها ضمن علاميته"[18]، وأما ما يتحلى به المكان من خواص مائزة، يدركها الذهن والشعور عبر قنوات الحس من بصر ولمس.. هو ما يجعل المكان سابقا عن الزمان في المدرك الإنساني.

وهكذا، أخذ الشاعر الحديث يستحث طاقاته الإبداعية، وينحت طرائقه الجمالية والشعرية والتخييلية، معلنا مغايرته للهش والمألوف وثورته عليه، محتفيا بالمكان أو الفضاء بمفهوم أوسع ومقوماته الناطقة والصامتة، وذلك بشكل جديد، مفسحا المجال للقصيدة كي تُعْمِلَ حفرياتها في تضاريس المتخيل الشعري والتوهج الإبداعي لِيَهَبَ المدينة والمكان سلطتهما وايهابهما الرمزيان، ويكشف ما يعتورهما من سوء، وتناقضات تربك الكينونة البشرية، وتكدر صفو عيشها وإن كانت من صنع بشري طبعا.

"لن أبتدئ من حيث انتهيت / وأنتهي حيث بدأت / سأُخسِر الزمان رهانه حول تاريخ ولادتي / أجعل العرافات يدركن أن رملهن كاذب / وأن الغجر مروا من هنا / يوم اشتد مخاض أمي / أخذوني معهم سبية / ولم يقطعوا الحبل السري..."[19].

هكذا، تتبدى الذات الشاعرة متعلقة بمنبتها الأول، عاشقة له حد الجنون، ولهذا، فهي غير راضية عن وضعها الحالي لما تعاورها التشرد، والضياع، والمنفى، والغربة عن الواقع والمجتمع، وإثر هذا، ستمزق الماضي وتقتلع الحاضر من جذوره... وتكتب ذاتها قصيدة عشق بعثرتها المنافي، ويصير بمكنتها ذلك لما صارت غيابا يثقله الحضور[20].

ولكن الشاعرة لا تستسلم، بل تلملم قواها وتنتفض متسائلة "من حذف الشمس من لوحتي / كان يرغب في بتر ظلي / لأغدو صلاة ضارعة في العتمة / لا يعرف ملمحها بياض الفجر.."[21] فتدعو إلى اعتماد اللا فهم واللاعقل لمواجهة جنون العالم أو قراءته بلا خلفيات مسبقة والتَّحَصُّلِ على إجابة جديدة علها هي الشفاء لا الشقاء "تعالوا نقرأ دون فهم / نغير زاوية الرؤى / نبدأ من حيث لا يرغب الفاعل والمفعول / ... / قد نحظى بفسحة جميلة / لنصلح ذات البين بين السماء والأرض"[22] يا للهول: يجب أن نكون أشد عماء لنرى بوضوح سافر؟ هذا التصالح الذي تتوق له كل البشرية ولا يتنكر له إلا من كان خلده خلوا من أية ذرة فكر سليم أو قيم إنسانية سامية.

"الشعر لغات وألوان / جاذبية ملامح وأشكال / وأنا عيون تغفو في حضن الأبجدية / من بين ألعابي الطينية / يطل صخب تيعلالين / النابت عند سفح باموسى / صخب النسوة / وهن يغزلن الصوف / ... / خوف الصبية من رصاصة طائشة / تسقط الحي في الشراك المرمية على الطريق / ... / تطفني هذه المشاهد الدرامية / فأجدني مشدودة / إلى أرض توارت أحجارها / خلف دخان أسود / والعجز خمار تداعبه / المايات الأمازيغية / أينك / يا من تخضب بنظرتها شفافية المكان؟ / هزي عمود الخيمة.../ ليستفيق القر.. / ينتفض الرماد المسكون بالهيجان"[23].

وهكذا، مع معايشتنا للديوان وقصائده، تستوقفنا صور ومشاهد موغلة في الوجع والقتامة، تفضح واقع مدينة خنيفرة، عروس المتوسط وقلبه – لا كشرقه الذي كان عند عبد الرحمان منيف- وتبكي حظها وانزواء المدينة في ظلال التهميش والخذلان، وتسلط المخزن وغيره، وإرادات التهميش التي تطالها من المسؤولين... وهذا يكشف عشق الشاعرة للمدينة التي تصبح دالا بانيا للخطاب الشعري، الذي تتكثف شعريته المنفتحة على حرارة التساؤلات بين الفينة والأخرى، والتي تشف عن علاقة الجسد بالمكان، أو الشاعرة بالمدينة، ثنائية تكشفها مغامرة الكتابة في لغة تكشف العشق الآسر للمدينة، فهي محراب لصلوات الشاعرة، وكنيسة لتراتيل العشق، وقداس التعميد، حيث المعمد المكان رغبة في صعوده نحو السماوي، وتخلصه من كل المواجع البشرية المقصودة وغير المقصودة.

هكذا، وبألق العشق والغبطة والمحبة العميقة تكتب الشاعرة مالكة حبرشيد عن خنيفرة من خلال نص شعري ينجذب للأعماق، مسكون بالسؤال والحنين والوعد والذكرى، حيث الغياب عن المكان خنفرة منفى، سواء كان الغياب تحققا واقعيا أو رمزيا، واسترجاع المدينة باللغة مسكنا وإقامة ومأوى، لتراهن الكتابة الشعرية في استراتيجيتها الواعية على الالتفات لشساعة المدينة، لسحرها الذي لا يقاوم، لرائحة تفاصيلها الصغيرة التي تستنبطها ألفة القصيدة وتستلذها... وجغرافيتها المتنوعة وطبيعتها الآسرة سحرا وجمالا، وتكمن قدرة الممارسة النصية الخلاقة في استطاعة الشاعرة وخبرتها في أن تروض المكان/المدينة وتؤنسنه، وتجعله أليفا ومنصتا لحرارة الذات الشاعرة وهي تستعد لسفرها في ذاكرة الأمكنة مستكشفة أن بإمكان القصيدة أن تكون سيرة لإقامة المدينة داخل اللغة. هو الافتتان بمدينة تنفتح على شهوة اللقاء، وتنخرط في سؤال الكتابة عن المكان بوعي يتجاذبه، الشوق والغياب. لأن "لا بداية ولا نهاية للمغامرة. هذه القاعدة الأولى لكل نص يؤسس ويواجه. لا بداية ولا نهاية الكتابة نفي لكل سلطة، وبهذا المعنى، لا يبدأ النص لينتهي. ولكنه ينتهي ليبدأ، ومن ثم يتجلى النص فعلا خلاقا دائم البحث عن سؤاله وانفتاحه، لا يخضع ولا يستسلم ولا يقمع. توق إلى اللانهائي واللامحدود، يعشق فوضاه وينجذب لشهوتها. كل إبداع خارج على زمن الإرهاب، مهما كانت صيغته وأدواته"[24].

بهذا المعنى، تشتغل القصيدة على المدينة/المكان بوصفه كائنا مستفزا، ومحرضا للذات الشاعرة لتقول فرحها أو حنينها في علاقتها الممكنة مع الأمكنة، وهي العلاقة التي تؤسس رؤيتها الجمالية لتخصيب متخيلات بناء الخطاب الشعري. في الاحتفاء بقراءة بلاغة المدن، تختبر اللغة مجهولها في بناء الممارسة النصية، مشدودة للفضاء حيث الروح المبدعة تمارس طقوسها القصوى في الإنصات للكائنات، الجدة، الأم، الأخت، الصبية، عامة الناس... وللداخل الإنساني المفتوح على العتمة والإشراق، والمجهول، واليقظة، والذهول. "هكذا تتغذى القصيدة من فتنة المدن بوهج لا تعلنه إلا الكلمات"[25].

هكذا إذن تحتفي الشاعرة بالمكان مسقط الرأس والولادة مدينة خنيفرة، بمواظفة مشاهد متعددة وذكريات الطفولة والنشأة، وأخرى عن حياتها ومشاهداتها من حياة الناس المكتنزة بالتفاصيل الدقيقة عن المعيش اليومي، يخالطها تأمل ومساءلة لواقع المدينة والمكان، معلنة عدم الرضى بالمتحقق، راغبة في الأفضل لهذا المكان الذي هو حبها المكين وأنسها الأوحد، تعتورها الغربة ويتقاذفها المنفى كلما كانت بعيدة عنه، كما ورد على لسان الشاعرة ذات حوار معها.

هذه المشاهد والرؤى المتسربلة بالحب تصعد بالمكان، وترتقي به، ليصير في مصاف الأيقونية والرمز، رمز الولادة، والكينونة، والانبثاق الأول، والتبلج في فجر الحياة، إن المكان يصير، بهذا، معادلا لكينونتها ووجودها الأنطولوجي، وامتداد للذات، وجزء من هويتها. وهذا يجعلنا نستذكر رمزية جيكور للسياب حيث هي الحياة، بل هي الكون والوجود.

على سبيل الختم:

هكذا، ومن المنجز أعلاه، نؤكد على حتمية المكان، وأن انغراس الذات المبدعة فيه لا يمكن أن يجعلها إلا متفاعلة معه، وكلاهما امتداد للآخر وتعريف به، هنا يصير المكان رمزا ودالا لغويا ذا قوة خلاقة في الإفصاح عن الهوية وتشكلاتها المختلفة، حسب تجذر الذات في المكان وارتباطها به، ومدى معايشتها له، وارتباط أحلامها وطموحاتها به، لهذا تنهض الترسانة الإبداعية عند الشاعرة أسلوبا، ومعجما، وبلاغة تصوير، وعمق مخيلة، واستسناد ذلك باستضافة مقومات الإيقاع الداخلي صوتيا، وتراكيب صرفية، من أجل ترجمة هذا الحب والتعالق مع المكان، والتسامي به بالقدر الذي يليق به شعريا، وجماليا، ووجدانيا فــ "خنيفرة هي حبي الأبدي - تقول الشاعرة ذات حوار معها منشور على الأنترنت-  الذي لا بديل عنه، جرحي النازف، وحكايتي الغريبة التي أعشق اجترار مرارتها كي أتألم أكثر، وأحبها أكثر وأكثر، هي لغز كبير - رغم جغرافيتها الصغيرة - استعصى على التاريخ فكه وعلى الناس فهمه، خنيفرة هي أمي وابنتي، مهما ابتعدت أسمعها تناديني وبداخلي دائما حنين إليها. وأنا بين ظهرانيها. هي كالفجر تشرق فيَّ حيثما كنت، يهزني فقرها، يرجني حزنها، وابتسامات أطفالها العائدين من المدارس وقد جمد الصقيع أطرافهم، وسدت الثلوج دروبهم، وأنهك الجوع أجسادهم الصغيرة. لكن أرواحهم شامخة شموخ الأرز، صامدة صمود جبالها التي لا تطأطئ هاماتها مهما أمعن القهر.. خنيفرة ماية أطلسية تهز الإنسان لينفض عنه غبار الموت، والفقر، والجهل، والجوع... بحثا عن الحياة...عن الجمال.. هي البحيرات التي تروي ضفاف النوى، وحقول الجحود وقلوب الصقيع التي لا تمنحها أي التفاتة. جغرافيا مهمشة، منفية، مبعدة كليا عن دائرة الاهتمامات الرسمية عبر التاريخ، لكنها باقية ما بقي الأرز والإنسان هي القصيدة، وأنا الناي الحزين. توحدنا ملحمة النضال - في الهواء الطلق - لوطن يحكمه الحجر الصلد وقوانين التهميش"[26]. هكذا إذن تفصح الشاعرة أن القصيدة في العنوان هي خنيفرة وأما الناي الحزين فهو ترميز للشاعرة، وهكذا، نجد أن الهوية تتشكل من جماع التفاعلات الممكنة مع المكان والناس والمجتمع بكل أطيافه، خاصة المجتمع الخنيفري، حيث يتلامح لنا كيف يضطلع الآخر بتشكيل وتحديد هوية الذات إذ عبر الآخر تتعرف الذات نفسها، نواقصها، نبض الحياة، قيمة الجمال وقيمة الإنسان.. وخاصة لما يتعدد هذا الآخر بتلاوين شتى، فهو الذات والأنا في نفسها وأعماقها عبر حوارات منولوجية، تستكشف بواطن الروح وتستغور الرؤى والأحلام، وهو الحبيب والنصف الثاني، تحققات الذات في الصفاء والحب كما في الحزن والوجع، وهو الأبناء النوارس، امتداد الذات وعمرها الذي يشب بمرآها، وهو الأهل والوالدين وبقية الناس والأصدقاء... كما هو المخالف الرابض في الضفة الأخرى يمكن وسمه بالعدو الذي له يد طولى في معاناة الناي الحزين، وعذابات القصيدة، وعسر تجددها وولادتها... ولهذا، نسجل هيمنة الحزن والألم على قصائد الديوان وشعر مالكة حبرشيد عموما، وأيضا التشظي والانكسار المتناثرة دواله اللغوية بين ثنايا القصائد على مدار الديوان، ومن هنا، لا ضير أن اختارت الشاعرة الناي نظيرا لها، ولصوتها العميق المكلوم الآتي من زمن بعيد، يند ظلما، وقهرا، وتهميشا، ومعاناة.

هذه العلاقة المربكة المتنوعة مع المكان والآخر، الضاربة في التاريخ والزمن، لهذا، ليس بمكنتنا إلا الإلحاح على حضور التاريخي في الديوان، عاملا ساندا لتشكلات الهوية، ولهذا حضر التناص فاعلا أساسيا في ترميم الهوية واستكمال تجربة الذات مع المكان والآخر عبر الزمن، من مواظفة سجل اللغة الشعبية العامية، والمفردات الأجنبية منطوقة بلهجة مغربية، أو نصوص وأسماء شعراء أجانب، وأعلام أو رموز ثقافية وتارخية، أو أسطورية، تسند التجربة الشعرية، وتستدفع طاقاتها التعبيرية إلى أقصى الحدود، احتفاء بالمعنى حتى يحدث هزة في القارئ، ويستنفر وجدانه ومخياله للتفاعل مع الذات في تجربتها الشعرية المتفلتة التي لا يُقْبَضُ عليها كلية، بل لماما، لهذا، يبقى حبل الإبداع طويلا، والقصيدة الكلية مجازا وحلما يراود الذات أبدا، ويستحثها للمزيد من الكتابة والجمال.

ونسجل كذلك التناص مع النص القرآني في سياقات عدة، أو مع النص التراثي، خاصة الملحون.... وغيره، هكذا، تشيد مالكة حبرشيد سيرة شعرية في الديوان - ليس بالمعنى الأكاديمي للسيرة – لا تتوقف تشتغل على نصوصها الغائبة[27] في إطار المشترك الإنساني، وسعيا في سبيل الفرادة والإضافة الجديدة التي تغني الأدب والشعر المغربيين، وخاصة الشعر المحلي بخنيفرة. فهنيئا للمدينة بهذا الاحتفاء وهنيئا لنا بمساحة هذا البوح الجميل، والتجربة الإبداعية المتولدة من رحم الحياة واعتمالات الذات فيها، لتصير هذه التجربة بطاقة هوية للذات والمكان معا.

***

د. محمد معطلا، الأكاديمية الجهوية للتربية والتكوين فاس – مكناس. دكتوراه في النقد الأدبي والدراسات الثقافية، كلية الآداب فاس- سايس.

.....................

لائحة المصادر والمراجع:

إبراهيم الكوني، من اغتراب الطبيعة إلى اغتراب الهوية، ضمن كتاب: الكتابة والمنفى، تحرير وتقديم عبد الله إبراهيم، دار الأمان الرباط، ط1.

ابن قتيبة، الشعر والشعراء، تحقيق أحمد محمد شاكر، دار المعارف القاهرة، ط 2.

أبو العلاء المعري، سقط الزند، دار صادر ودار بيروت للطباعة والنشر، بيروت، سنة 1957م.

أبو تمام، ديوان أبي تمام، شرح الخطيب التبريزي، تحقيق محمد عبده عزام، دار المعارف، القاهرة، ط 3، بد ت.

أحمد عبد المعطي حجازي، مدينة بلا قلب، دار الكتب والوثائق القومية، بد. ت، وبد. ط.

أنطوان كومبانيون، مقال: الأدب.. من أجل ماذا، ترجمة محمد المزديوي، مجلة نزوى، العدد 79، مؤسسة عمان للصحافة والنشر والإعلان، مسقط، يوليوز 2014م.

بنعيسى بوحمالة، أيتام سومر في شعرية حسب الشيخ جعفر، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، ط1، سنة 2009م.

سوزان برنار، قصيدة النثر، ترجمة زهير مجيد مغامس، مراجعة علي جواد الطاهر، الهيئة العامة لقصور الثقافة القاهرة، ط 2 سنة 1999م.

القرآن الكريم، برواية ورش عن نافع.

مالكة حبرشيد، بين القصيدة... وحزن الناي، ديوان شعري، منشورات روافد بخنيفرة، ط1 سنة 2016.

مالكة حبرشيد، حوار مع الشاعرة بعنوان: "مالكة حبرشيد بين القصيدة والناي الحزين"، حاورتها بشرى رسوان، منشور على الأنترنت.

مجلة عالم الفكر، ضمن مقال لمحمد عدناني حول الشعر العربي الحديث والحداثة الشعرية ومقوماتها.

محمد بنيس، حداثة السؤال، المركز الثقافي العربي، بيروت، ط 2، 1988م.

محمد علوط، محمد بنطلحة أخسر السماء وأربح الأرض التخييل الشعري الذاتي وسؤال الهوية، جريدة الاتحاد الاشتراكي، بتاريخ 22/ 04/ 2015.

محمود سامي البارودي، ديوان البارودي، مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، مصر، بد ط سنة 2012م.

مقال المدينة في القصيدة المغربية المعاصرة، مجلة نزوى، الموقع الإلكتروني.

الهوامش

[1] إبراهيم الكوني، مقال: من اغتراب الطبيعة إلى اغتراب الهوية، كتاب: الكتابة والمنفى تحرير وتقديم عبد الله إبراهيم، دار الأمان الرباط، ط1، ص: 104.

[2] أنطوان كومبانيون، مقال: الأدب.. من أجل ماذا، ترجمة محمد المزديوي، مجلة نزوى، العدد 79، مؤسسة عمان للصحافة والنشر والإعلان، مسقط، يوليوز 2014م، ص: 24.

[3] ابن قتيبة، الشعر والشعراء، تحقيق أحمد محمد شاكر، دار المعارف القاهرة، ط 2، ص: 63.

[4] أبو العلاء المعري، سقط الزند، دار صادر ودار بيروت للطباعة والنشر، بيروت، سنة 1957.ص: 193

[5] محمود سامي البارودي، ديوان البارودي، مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، مصر، بد ط سنة 2012، ص: 256

[6] القرآن الكريم، سورة الكافرون الآية 6.

[7] القرآن الكريم، سورة القصص، الآية 55.

[8] سوزان برنار، قصيدة النثر، ترجمة زهير مجيد مغامس، مراجعة علي جواد الطاهر، الهيئة العامة لقصور الثقافة القاهرة، ط 2 سنة 1999. وفيه تطرح الكاتبة أسس ومقومات قصيدة النثر مع كبراء الشعراء الفرنسيين الذين بشروا بها، وكانوا الفاتحين لهذا الشكل الشعري الجديد.

[9] محمد عدناني، بنية اللغة في المشهد الشعري المغربي الجديد، مجلة عالم الفكر، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، الع3، المجلد34، يناير مارس 2006م، ص: 114.

[10] مالكة حبرشيد، بين القصيدة... وحزن الناي، ديوان شعري، منشورات روافد بخنيفرة، ط1 سنة 2016، ص: 74، 75

[11] محمد عدناني، بنية اللغة في المشهد الشعري المغربي الجديد، مجلة عالم الفكر، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، الع3، المجلد34، يناير مارس 2006م، ص: 113.

[12] مالكة حبرشيد، بين القصيدة... وحزن الناي، ديوان شعري، منشورات روافد بخنيفرة، ط1 سنة 2016.

[13] القرآن الكريم، سورة يوسف، الآية: 85- 86.

[14] مالكة حبرشيد، بين القصيدة... وحزن الناي، ديوان شعري، منشورات روافد بخنيفرة، ط1 سنة 2016، ص: 43.

[15] مالكة حبرشيد، بين القصيدة... وحزن الناي، المرجع نفسه، ص: 20.

[16] أبو تمام، ديوان أبي تمام، شرح الخطيب التبريزي، تحقيق محمد عبده عزام، دار المعارف، القاهرة، ط 3، بد ت، ج 4، ص: 253.

[17] أحمد عبد المعطي حجازي، مدينة بلا قلب، دار الكتب والوثائق القومية، بد. ت، وبد. ط.

[18] بنعيسى بوحمالة، أيتام سومر في شعرية حسب الشيخ جعفر، دار توبقال ط1 سنة 2009، ج1، ص: 161.

[19] مالكة حبرشيد، بين القصيدة... وحزن الناي، ديوان شعري، منشورات روافد بخنيفرة، ط1 سنة 2016، ص:5

[20] مالكة حبرشيد، المرجع نفسه، ص:7

[21] مالكة حبرشيد، المرجع نفسه، ص: 8

[22] مالكة حبرشيد، بين القصيدة... وحزن الناي، ديوان شعري، منشورات روافد بخنيفرة، ط1 سنة 2016، ص: 13

[23] مالكة حبرشيد، المرجع نفسه، ص: 14،16.

[24] محمد بنيس، حداثة السؤال، المركز الثقافي العربي، بيروت، ط 2، 1988، ص18.

[25] أحمد الدمناتي، المدينة في القصيدة المغربية المعاصرة، مجلة نزوى، مؤسسة عمان للصحافة والنشر والإعلان، العدد 77، بتاريخ يناير 2014م، ص: 30.

[26] مالكة حبرشيد، حوار مع الشاعرة بعنوان: "مالكة حبرشيد بين القصيدة والناي الحزين"، حاورتها بشرى رسوان، موقع الحوار المتمدن، العدد: 4726، بتاريخ: 2015 / 2 / 20. الرابط:

https://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=456134

محمد علوط، محمد بنطلحة أخسر السماء وأربح الأرض التخييل الشعري الذاتي وسؤال الهوية، جريدة الاتحاد الاشتراكي، بتاريخ 22/ 04/ 2015.

المبدع والمتلقي يجمعهما نتاجاً جمالي مشترك فاعل، فالأبنية اللغوية وانتاج الصورة والموضوع الشعري وكذلك الايقاع النغمي وغيرها من العناصر التي تشكل الشعرية المعاصرة، ومن هنا فان الاهم شعرية الشعر وبناء العلاقات اللغوية التي يخرجها عن سياق الاخبار والمباشرة الى سياق الشعرية مضافا الى تلك العناصر التلقي بوصفه العنصر المهيمن وعملا حاسما في تحديد النوع الشعري وسماته الجمالية بما صادق عليه الوعي الجمعي والارباب اللغة من جماليات أقرتها الذائقة ..

بين يدي مجموعة شعرية موسومة (آخر رجال الموهيكانز) للشاعر طه الزرباطي الصادرة عن اتحاد الأدباء في العراق، 2022)

حضور العنوان بوصفه بنية نصية لها اشتغالها الدلالي في النص وبنائه الدرامي وانزياحه الانفعالي المكثف ودوره في انتاج المعنى لدى الشاعر، وقد مهد الشاعر في تعريف بعنونة مجموعته آخر رجال الموهيكانز تناصا مع عنوان لفلم انتج عام 1992 من اخراج مايكل مان .. فضلا عن تناص الافكار مع التيمة في سلسلة تصفية الشعوب الاصلية في امريكا وكيفية تشويه الحقيقة باستثمار الاعلام ليصور لنا هذه الاقوام كشعوب متوحشة، يستوجب القضاء عليها ..

استنبط الشاعر عنونة نصوص مجموعته من نفس المجموعة، عنوان استنباطي معجمي صريح ويقصد به ورود العنوان كما هو (صريحاً) داخل المجموعة

استهل الاديب طه الزرباطي مجموعته بالاهداء كعتبة ومناص

لعب الإهداء دوراً مهما في توجيه القراءة وأفق التلقي، وانطلاقا من وصفه نّصا تداولي قائماً على الاتصال ومن خلال أطرافه، الكاتب / النّص / القارئ/ تتشكل شبكة من العلاقات النابعة من خصوصية الإهداء كونه خطابا موازيا بصفةٍ عامةٍ او خاصةٍ، وهو أمر يمكن الوقوف عليه..

فللإهداء وظائف سيميائية ودلالية وتداولية عدة، كما يؤدي الإهداء وظيفة التلميح، والإيحاء، والتكثيف، وخلق المفارقة والانزياح فقد جاء بلغة شعرية عذبة يربط بين حب الام والوطن:1

الاهداء

الى أمي دائما..

كانت تُعلمني الوطن، وهي تُرتلُ (دللولها) العذب،

وحين يَسقط دمعها، سهوا على خدي تبتهلُ وهي

تعلمني المطر سهوا؛ وتزداد دمعاً كانت تبسملُ،

وتحوقلُ بأكثر من لغةٍ، لله أن يفُك طلاسم دعائها، وترانيمها، وحروف لغاتها، لعل العراق سُقي من

دموع أمهاتنا.. لذلك وجعه لذيذ ومالح...

نصوص مجموعته تتنوع فيها عتبات العنونة الا انها ذات مناخ شعري يكاد يهيمن على تجربة قصائده مناخ الحب، والوجع وويلات الحروب والذكريات الطافحة بالفقد والاحزان3554 طه الزرباطي

تحتوي المجموعة على ثمانية وثلاثين نصاً، تفاوتت العنونة الداخلية للنصوص بين الرمزية والواقعية استهل مجموعته بقصيدة (أشجاري) وانتهى بقصيدة (زجاج شيركوبي كه س).

يرسم لنا الشاعر الزرباطي بلغة ابداعية نابعة من هواجس نفسية صورة او صور متعددة أمام المتلقي صورة لغوية تجديدية تعطي للقصيدة دلالاتها بعيدا عن السطحية المملة.

اللغة مادته التي يصوغ بها منتجه الإبداعي (العلاقات اللغوية والبناء النصي).. والتي تعد من السمات الاساسية للشعرية المعاصرة في بنائها وفي تلقيها، فلابد لهذه اللغة أن تكون قادرة على احتواء فلسفة الشاعر نلمس ذلك في قصيدته (أشجاري):

أشجار الله الحزينةِ،

تتعرى في الخريفِ،

لتستدرج المطرَ،

خجولاً يأتي كشاعرٍ مبتدئ!

بقصائد حبلى بمطر الحروفِ؛

تفقد الأشجار عذريّة أحلامها..

وتغنّي للريحِ بكاملِ عُريها..

وفي نص آخر جميل من قصيدة (من انثيالات السمفونية التاسعة لبتهوفن) تتجلى الخصائص الاسلوبية وهو ينحت جماليات وسمات فنية

بِفارِغِ الشِعْرِ؛

أنتَظِرُ نَصَّك الذي لمْ يولدْ بَعْدُ !

نَصَّك الذي يَحْتَلُنِي تماماً؛

ان ما جاء به الشاعر نصوص حداثوية من حيث انها تتماشى مع روح العصر واعتماده في اشتغالاته تكثيف الجانب الدلالي لتحقيق الايقاع الداخلي من خلال جملة الانزياحات فضلا عن شعرية نصوصه

نص باذخ نابض بالروح والشعرية بانزياحات متعددة ومتنقلة، انزياحات بائنة عن فضاءات الشعرية البلاغية وبشفافية شعرية تتماهى في جسد لغة النص يتشكل من خلالها الشعريات تتجلى كألوان قوس قزح بإيقاع داخلي يتواشج مع الموسيقا صعودا بغضب وارتعاشات الوتر مع تسارع في نبضات القلب وهبوطا مع انسيابية واستسلام جناحي باشق، كما في نصه:

جنودُ كلماتِك تُحِيطٌنِي من كُلِّ صَوبٍ،

وأنا أرفعُ راياتيَ الحَمْراءَ مُستَسلِماً ..

كَباشِقٍ ..!

نَصَك الذي يَفْضَحُ الصَمْتَ الجَبانَ؛

يملأهُ ضرباتٍ للأوتارِ الغاضِبَةِ؛

اعتمد الشاعر التشبيه وهو انحراف لغوي ومفارق الذي يضفي على النص الجمالية الشعرية سيما وان للشعرية علاقة وشيجة بالجمال، والتي تتسم بها وخروجها عن المألوف واللغة النثرية المباشرة العادية الى (الميتا لغة)2 كما في قصيدته (كف من وطن)

أشرب قهوتي الصباحية؛

تحليها ذاكرتي بابتسامتك..

قهوتي المسائية مرّةٌ كالقصيدة!

نكهتها عِطر راحتيك...

*

معَ أول أزيز طائرةٍ؛

أحتمي بشوقي اليك...

ومن شوقك أستبسلُ في المعارك

الحروب شهواتٌ للقتلِ...

يفتعلها الشاذون ...

وينزفها المخدوعون...

وظف الشاعر (الكف) كرمز يحتوي في طياته الكثير من الخفايا والخبايا والأسرار وما ينطوي من ذاكرة المكان والزمان وما يكنه من حب لوطنه فهو عاشق ولهان كما هو واضح من خلال العتبة الخارجية للنص

تفتضح كفه تراب وطنه/ أكتفي بملء كفي بالتراب

فثمة إيحاءات إلى زمن الكامن في هذا النص، ما هو الا زمن بائس، ضجر بنفسه، وضاق بعصره، من وويلات الحروب وإيحاءات إلى موت، وحجم المعاناة والتشظّي في الذات الشاعرة .

فعلى مستوى اللفظ نلاحظ تكرار الحرب والأسى والقتل.. متشابه من حيث الدلالة الرمزية، كما هو جلي في مفرداتها (أزيز طائرة / استبسل في المعارك/ الحرب لعبة الاضاحي/ الحروب شهوات للقتل/ أذهب للأسر / دخلت الحرب شهيدا/ في الحرب نقتل عدوا / لكن الحروب قائمة / )

وهذا التشكل "اللفظي" متعدد الدلالات "المعنوية" حسب المواقف التي يمثلها النص.

وظَف موهبته أولا، ثم ثقافته ثانيا لإخراج نصوصه من إطاره الضيق (لفظا) إلى رحاب الدلالات العميقة (معنى) كما في المقطع الخامس من قصيدته (كف من وطن) ص54

محلتنا...

وكر للذكريات الطافحة،

كالمجاري...

الحروب شهوات للقتل..

يفتعلها المخدوعون...

لجأ الشاعر في نصوصه الاهتمام باللغة الشعرية والتكثيف الدلالي والتركيز العالي واللغة الايحائية مبتعدة عن اللغة المعيارية المباشرة

اعتمد التجريب الذي بدوره يخالف السائد من اتجاهات جمالية، أما على مستوى النصوص ففيها من الجمال والصور الشعرية مليئة بالإنزياحات اللغوية ومن استعارة ومجاز واضداد ومفارقات لفظية تبهر المتلقي.

منجز شعري يكشف عن ملكة ابداعية وامكانات عالية في تشكيل اللغة

***

طالب عمران المعموري

..........................

المصادر

1- الزرباطي طه، آخر رجال الموهيكانز، ط1، منشورات اتحاد الادباء، بغداد، 2022 .

2- الشعرية في ديوان السياب، سعدون احمد، رسالة ماجستير، الجزائر، جامعة محمد خيضر – بسكرة، كلية الآداب واللغات، قسم الادب العربي، 2010 .

مدخل: الوقوف أمام التجربة الشعرية للأستاذة الطاهرة حجازي يستدعي أولا التعريف بهذه القامة الشعرية التي لم تنل نصيبها من التقدير والاهتمام:

الطاهرة حجازي،شاعرة وكاتبة مغربية،أستاذة سابقة، حاصلة على الإجازة في الدراسات العربية،صدر لها

- عندما يتحدث الشلال ديوان شعر

- قيظ الهجير ديوان شعر

- بيداغوجيا الإبداع في شعر الطفل

الأستاذة الطاهرة حجازي حاصلة على عدة شواهد تقدير وطنية ثقافية وتربوية، وجائزة الاستحقاق الوطني للأساتذة.

شاركت الأستاذة الطاهرة حجازي بندوات تهم المرأة والطفل، في العديد من المؤسسات التربوية وبعض جمعيات المجتمع المدني.

كما عملت على تفعيل شعر الطفل، على مستوى الأكاديمية الجهوية للدارالبيضاء وقد حظيت الشاعرة بالعديد من التكريمات بمختلف المدن المغربية من طرف العديد الجمعيات الثقافية.

وسنركز في هذه الدراسة النقدية على ديوان قيظ الهجير في طبعته الثانية الصادر عن مطبعة بلال في طبعة أنيقة ومميزة تضم 16 قصيدة بعدد صفحات يصل إلى ست وثمانين صفحة، قبل الولوج إلى متن ديوان قيظ الهجير لابد من المرور عبر عتبته أو عتباته، والغلاف هو أول ما يجذب انتباهنا في هذه العتبات، حيث تتوسطه لوحة فنية تشكيلية للفنان التشكيلي والشاعر مصطفى كووار، تتضمن أشكالا متداخلة تمتزج فيها ألوان حارة (الأحمر والأصفر والبرتقالي) وألوان باردة (الأخضر والأزرق والبنفسجي) والأكيد أن لكل لون دلالة نفسية معينة، وتدل على معنى واضح، فاللون الأحمر يرتبط بلون الدم وهو من الألوان الجريئة التي تعبر عن التضحية، أما الأصفر فهو لون الشمس ويرمز للدفء والطاقة والحيوية ومزيج من التميز والقوة، و يرمز اللون الأزرق إلى السقم بسبب تلون الكدمات بلونه، ولكنه أيضا لون السماء الجميل الصافي ولون البحر، وهو يدل على الهدوء والرقة والطمأنينة.

أما البنفسجي فينسب إلى زهرة البنفسج وهو ناتج عن خلط اللونين الأحمر والأزرق، وهو لون يشعر بالخيال والرومانسية وتدفق الأفكار.

اعطى علم السيميولوجيا أهمية كبرى للعنوان إذ اعتبرته أساسيا في مقاربة النص الأدبي، وبوابة لِدخول أغوار النص، واستنطاقه .واعتبره

شولز:"خالق النص الأدبي ومانحة الهوية"[1]

عرف “جيرارجينيت”، العتبة العنوانيّة بقوله: إنها «نقطة ذهاب وإيّاب إلى النَّص.. » أيْ إشارات دالّة ورامزة تفتح مغاليق النَّص وتكشف عن غموضه!! وعرّفها بقوله إنّها «علامات دلاليّة تشرّع أبواب النصّ أمام المتلقّي للولوج إلى أعماقه» أي إنّها مداخل قِرائِية لكي نصل إلى أعماق النَّص

إنّ العنوان وإن كان حَمّال أَوجه لا يكون صادقا دائما، فالعناوين مُخاتلة وربما صادمة.

وعنوان الديوان الموسوم ب " قيظ الهجير" نجد أنه في تجليه اللغوي يعني حرّ الهاجرة عند منتصف النهار، في حين تركيبيا هو عبارة عن جملة إسمية وإعرابه كالتالي:

قيظ: خبر مرفوع لمبتدأ محذوف وهو مضاف

الهجير: مضاف إليه مجرور بالكسرة الظاهرة في أخره

العنوان مقتبس من بيت شعري للشاعر السعودي الكبير محي الدين خوجة قدمت به الشاعرة قصيدتها ويحرق البوح لغتي وخوجة سفيرلسابق لبلده بالمغرب وهو من تكفل بنشر الطبعة الأولى من هذا الديوان، يقول خوجة:

برد وقيظ واشتعال فتيـــــــــــــلة

ما من محيص في انتظار الانطفاء

وهو عنوان عميق في إشارة إلى أن العتبة ملتهبة مشتعلة ويحضرني هنا المثل العربي الشهير:

المستجير بعمرو عند كربته ... كالمستجير من الرمضاء بالنار

فالهجير يحيل على القيظ وكلاهما يحيل على الحر الشديد، والشاعرة كانت موفقة في اختيار عنوان ديوانها لأن الولوج إلى متنه يفضي بنا لاكتشاف نصوص ملتهبة لما تضج به من إشارات ذات حمولة ناقدة لواقع انساني غامض بدرجة أولى وواقع اجتماعي قاس بدرجة ثانية.

إذا تجاوزنا العتبة وولجنا المتن، فإننا نجد أنفسنا أمام فيض جمالي دافق يتشرب لغته من الموروث الثقافي العربي سواء القديم أو الحديث الحامل لجينات تاريخ الهوية المغربية المتأصلة التي تميز المغاربة عن غيرهم من الشعوب، لأنها تؤسس لعلاقة وجدانية راسخة بين الذات الشاعرة ووجدان الأمة.

والملاحظ أنه يمكننا الوقوف من خلال قصائد الديوان وهي كالتالي:

1) ويحرق البوح لغتي

2) بوثقة التشرّد

3) تلكؤ في المدار

4) تهَجّد على مشارف الرؤيا

5) حذار!

6) يا لمنطق الإرهاب

7) حجارة الغضب

8) أمشاج من الوهم

9) انبعاث

10) شروخ

11) من نزيف الفرات

12) شاعر من الشرق في الأندلس

13) تأمل في البداهة

14) غربة

15) الرّيح

16) إليك أبي

على الحضور الانساني، والعاطفي، والوصفي، وعلى تجربة الشاعرة الجمالية من خلال التجليات والإشراقات الوجدانية. وهذا يتطلب منا إنصاتا دقيقا إلى هذه النصوص الشعرية، عبر البحث، والكشف والسفر، في التجربة الجمالية والإنسان والرؤيا والمعمار النصي .

إن الشاعرة في هذه النصوص تؤكد على الصورة الشعرية، والموسيقى والإحساس والوجدان، والمخيلة. فهي تكشف لنا حبها لشعرية النص وقوته التعبيرية،ومحاولتها التوفيق بين القضايا الوجودية والاجتماعية والقومية التي تطرقت لها في نصوصها وفنيات خطابها الشعري الذي يدور حول مفهوم المعاصرة والتراث في الخطاب الشعري ومدى تأثر الشاعرة بالتراث العربي الإسلامي خاصة والإنساني عامة ومظاهر هذا التأثير في ديوانها .3555 محمد محضار

تقول الشاعرة الطاهرة حجازي في قصيدة:

شاعر الشرق بالأندلس

هل يُدفن التعبُ

في التّعبِ

ياذاكرةَ التاريخِ

المُؤجَّج في لهبي

جئتُكِ

منَ الزّمَنِ المنْسيِّ

الحاضرِ في رُكبِي

يَا منارةَ

تشِعُّ جمالاً

مُهرقاً أسى في كُتُبي

يا قاموسا من الذّكرى

ملْتحفاَ

برَوائِعِ الفنونِ من أدبي

يا زهرةً فوّاحَةً

ضَاعَتْ في مَضايِعِ الشّغبِ

في هذا النص العميق نلمس " شعرية" قوية تضفي عليه تدفّقا عاطفيا يسهم في ثراء الإبداع الشعري الصادر عن ذات شاعرة متمرسة وعاشت في أجواء شعرية واستعداد طبيعي لقول الشعر، ويمكن القول أن" الشعريّة ليست تاريخ الشعر ولا تاريخ الشعراء.. والشعريّة ليست فن الشعر لأن فنّ الشعر يقبل القسمة على أجناس وأغراض.. والشّعرية ليست الشّعر ولا نظريّة الشّعر.. إن الشعريّة في ذاتها هي ما يجعل الشّعر شعرًا، وما يُسبِغ على حيّز الشّعر صفة الشّعر، ولعلّها جوهره المطلق،إنّ الشعريّة ” محاولة لوضع نظريّة عامة ومجرَّدة ومحايِثة للأدب بوصفه فنًّا لفظيًا، إنّما يستنبط القوانين التي يتوجه الخطاب اللغوي بموجبها وجهة أدبيّة، فهي إذًا تشخيص قوانين الأدبيّة في أي خطاب لغوي، وبصرف النظر عن اختلاف اللغات"[2]

2) التجربة الشعرية للكاتبة:

لجوء الطاهرة حجازي لكتابة قصيدة النثر يمثل رغبة قوية لديها للتجديد ومسايرة التطور الذي يعرفه الشعر العربي الحداثي الذي راكم تجارب شعرية مؤثرة مع ظهور شعراء مبدعين من طينة أنسي الحاج ومحمد الماغوط وأدونيس ويوسف الخال أغنوا هذه التجربة وساهموا في تطويرها وقد وجدوا ضالتهم التي ینشدونھا في كتاب (قصيدة النثر من بودلیر حتى أیامنا) للكاتبة الفرنسية سوزان برنار وقد تبنت مجلة شعر الصادرة ببيروت سنة 1957 م معظم إبداعاتهم ومقالتهم التنظيرية.

يقول يوسف الخال: " نحن نجدد في الشعر لا لأننا قررنا أن نجدد، نحن نجدد، لأن الحیاة بدأت تتجدد فینا، أوقل: تُجَددنا"[3]

ويقول أيضا في نفس المجلة:" أن الشعر تجربة شخصية كیانیة فريدة، وأنّ التعبير عنھا يجب أن یَتِمّ بتحرير تام من تأثير القوالب التقليدية الموروثة والقواعد الموضوعة"[4]

رغم جرأة هذه الآراء فهذا لا يمنع من التأكيد "أن الحداثة العربية ينبغي أن تنبع من الجذور العربية نفسها، ولا يمكن أن تكون صدى لسواها، ولا يمكن أن يكون هناك انقطاع مع الماضي أبدا " كما يؤكد جهاد فضل

لأن الملاحظ أن البعض ينظر لقصيدة النثر باعتبارها مطية ذلولاً كما يحسبون، يبثون من خلالها خواطرهم من جهة، وباعتبارها من جهة أخرى تمثل حركة «الحداثة» الشعرية، التي انبثقت من الشعرية الغربية.[5].

الشاعرة الطاهرة حجازي لم تكتبْ قصيدة النثر إلا وهي مطلعة على الموروث الشعري القديم سواء خلال العصر الجاهلي أو العصر الأموي والعباسي والأندلسي وكذلك لها اطلاع واسع على الشعر العربي المعاصر وبالتالي لها رصيد قوي وأدوات فنية أكسبت نصوصها شِعْرّيّة نلمسها في صورها الشعرية ذات البعد الايحائي والتعبيري تقول شاعرتنا القديرة:

صَلَّيتُ فاتهَمونِي بالجُنُونْ

قالواْ صَلاتِي باطِلةْ

تواريْتُ فَرَمُونِي بالسُّفُورِ

قالواْ عنِّي غيرُ عاقلةُ

وحينَ حمَلتُ السَّيْفَ

أردُّ في الليلِ الجناةْ

ردَّدُوا: أنتِ قاتلةْ

صوبوا إلي كلَّ الرِّماحْ

طعنونِي بكل الدُّروعْ

هشَّمُواْ سَنَابِلِي

مزَقُوا خبائلِي

قطعواْ أنَامِلي

قالوا أبدا نطاردكِ

أبداً نُحارِبُكِ

سَوْفَ نجتثك

أنتِ لَا محالة راحلةْ

استكثروا في أذني

همسة الريح

استنكروا في عيني

رعشةَ الّشمس

أجهضوا التاريخ في أحشائي

أحرقواْ مساطير كتبي

أحالواْ خضر أيامي عجافاً

عَكَّرواْ مَائي

لَوَّثوا سمائِي

قالواْ هذَا قَانونٌ

لِإقالةِ كلِّ مُوغلَةْ

هذا النص الشعري يمتح من قاموس الشعر العربي الأصيل وهذا ما نلمسه من خلال الحقول المعجمية لهذا النص و"يقصد بمفهوم الحقل المعجمي مجموع الألفاظ التي تتعلق بموضوع معين ": حقل الحرب يتضمن (الرماح، الدروع، السيف ...) حقل الدين (صليت، صلاة، السفور...) حقل الطبيعة (الشمس، الريح، ماء، سماء...) حقل الجسم (أحشاء، عين، أذن...) حقل الزمن(أيام، التاريخ، الليل...) .

3- الصورة الشعرية والايقاع:

أ) الصورة الشعرية:

من المتعارف عليه أن الصورة الشعرية هي تركيب لغوي لتصوير معنى عقلي وعاطفي متخيل لوجود علاقة بين شيئين، وهي تبنى بأساليب متعددة من أهمها: المشابهة والتجسيد والتشخيص والتجريد

ويقال عن الصورة الشعرية أنها رسم قوامه الكلمات، والقصيدة نص قوامه الصور، وارتباط الشعر بالصورة ارتباط وجودي. فعندما يوجد الشعر تتبدى الصورة تلقائيا.

واللجوء إلى التعبير بواسطة الصورة الشعرية وراءه سعي إلى نقل المشاعر بأسلوب مؤثر مقنع وبألفاظ تجمع الإحساس والصدق الفني وجمال التصوير، "من خلال بصيرة الشاعر التي تتمثل المعاني الشعرية، وهذه المعاني لا يمكن أن تتمثل إلا في صور والصورة دائما دائما مظهر للمعنى"[6]

أصبحت عند شعراء الحداثة ونقادها تعتمد ما سمي بعين القلب أو الحدس أو بالإشراق، أي بنوع آخر من التجلي المعرفي يتطابق مع الباطن اللامرئي لأنها تتجاوز المرئي وتخترقه لتصل إلى جوهر الأشياء وكنهها[7]

إن سبر أغوار نصوص الطاهرة حجازي يجعلنا نكتشف أنها اشتغلت على تطوير الصور الشعرية داخل النص حيث جعلتها تتحرك وتُثريه .فداخل هذه الصور الشعرية نجد توظيفها للتضاد والمقابلة لرصد تلك الحركة داخل النص وكذا المقابلة لخلق الجمال، ومنح المتلقي فرصا متعددة للتأويل والاستمتاع بتوهج هذه الصور ورفع درجة الوعي لديه بقيمة الكتابة الشعرية،وهناك نماذج متعددة.

تقول الشاعرة الطاهرة حجازي في قصيدة إليك أبي:

إليكَ رسالتي يا أبي

لمْ يُواريك عَنِّ الرحيلُ

الطّريق أجْهشَ بالبكاءْ

والغَيثُ مهجورُ الرُّواءْ

تخضّبتْ بحُزنها المدينةْ

تعتَنِقُ مضاضةَ الهزيمةْ

ساحتْ في مَجَّانِيّةِ الدّماءْ

تمزَّقتْ أحشاءُ الأبجديةْ

أحرقَ فيهَا التتار الحروف

سيفُ حَجّاجٍ زُوميٍّ يقْذفهَا

يَنْسِفُ النَّخوَةَ العربيّة

لستُ آسفَة[8]

على موتك يا أبي

كْنتَ ستموت

ألف مَرّةْ

تعتقدُ الوحشةَ

ألْفَ مرّةْ

تخنُقُكَ لا آتُك المُرَّةْ

وحيداً في المَدى

لا رَجْعَ لا صدَى

أبي:

سأخبِرُك عن مدينةِ الأحزانْ

عنِ الثّكالى وعنِ الأيتامْ

عن الإنسان تجرَّد من الإنسان

عنِ العدلِ يتَمَزَّقُ في الفلواتْ

يَلْتقطُهُ الغُولُ في الطُّرقاتْ

يجَشّمه ما لا يُطيقْ

يمَثّلُ بنَا يا أبي

فَآهْنأْ بعيداً

عنْ هذا المُروقْ[9]

في هذا النص نلمس جمالية الصورة الشعرية وعمقها ونكتشف الاشتغال القوي للشاعرة، على المكونات الداخلية متمثلة في اللغة والعاطفة والخيال، وكذلك على المكونات البلاغية من تشبيه واستعارة وكناية ومجاز مرسل، فعلى سبيل المثل تقول الشاعرة:

"الطّريق أجْهشَ بالبكاءْ"

الاستعارة هنا مكنية وقد صرح بالمشبه وهو الطريق وحذف المشبه به وهو الانسان ولكن أبقى على شيء من صفاته وهي البكاء

وتقول الشاعرة أيضا:

" عنِ العدلِ يتَمَزَّقُ في الفلواتْ"

فقد شبهت الشاعرة العدل بأنه إنسان يُمَزقُ في الفلوات، وهنا تم التصريح بالمشبه وهو العدل وتم حذف المشبه به وهو الإنسان ولكن أُبقي على شيء من صفاته وهو إمكانية قتله وتمزيقه بحد السيف.

الانزياح في اللغة هو زوالُ الشّيء وتنحّيه، ويكون بمعنى ذهب وتباعدَ، وبذلك يكون في اللغة له علاقة بالذهاب والتباعد والتنحّي، أيْ تغيير حال معينة وعدم الالتزام بها، وقد ترتبط الدلالة اللغويّة بشيء غير المكان كقول: زاح عنه المرض أيْ زال عنه، أمّا اصطلاحًا فهو يُشبه دلالتَه اللُّغويّة فهو الخروج عن المألوف والمُعتاد، والتنحّي عن السائد والمتعارَف عليه، وهو أيضًا إضافة جماليّة ينقل المبدع من خلالها تجربته الشعوريّة للمتلقي ويعمل على التأثير فيه، وبذلك فإن الانزياح إذا يحقق قيمةً جمالية[10]

والغَضبُ نبالٌ

يقْذِفهُ جُرْحُ الأيامِ أحجاراً

له الرّكْضُ نارٌ

يُؤَجِّجهُ الثَّرى

منْ تحتِ الثلْجِ نارا

سباقٌ نَحوَ الحَتْفِ

يُرديهِ عزْمُ الصِّبْيةِ اندحارا

لهيبٌ ذَابَ الغيمُ في مداهُ

والمطر منْ جُرْحِه

تصبَّبَ فِي الصيف انهمارا

في نص حجارة الغضب تتعمق جراح الذات الشاعرة فنلمس بوحا شعريا يوظف الصورة الشعرية لرسم مجموعة من الأفكار والمضامين ذات بعد تعبيري وإيحائي.

كما أننا في هذا المقطع نجد الشاعرة تستحضر لغة خارجة عن المألوف وتستدعي ظاهرة الانزياح وهذا نلمسه في تشكيل لغتها الشعرية، وتعميق محتواها الدلالي وامتيازها الشعري الذي يحفظ لها بصمته الإبداعية، ويتيح لها إثبات ذاته الفكرية.

والغَضبُ نبالٌ

يقْذِفهُ جُرْحُ الأيامِ أحجاراً

له الرّكْضُ نارٌ

يُؤَجِّجهُ الثَّرى

منْ تحتِ الثلْجِ نارا

في هذا المقطع الشعري نجد أنّ الانزياح هنا دلالي حيث تنزاح الدَوالّ عن دلالاتها الأصلية فتختفي الدلالات المألوفة لتحل محلها دلالات جديدة غير معهودة ولا محدودة مثلا:

الغضب نبال

يقذفه جرح الأيام أحجارا

طبعا الغضب لا نبال له،وكذلك جراح الأيام لا تقذف أحجارا ولكن الشاعرة انحرفت باللغة عن المعتاد واستعملت انزياحا استبداليا(دلاليا)،وهذا يعتبر خرقاً منظّماً لشفرة اللغة، يحاول بناء نمط شعوري آخر بنظام جديد، وجملة الأمر أن تجاوز نمطية اللغة أصبح من أهم المرتكزات الأساسية المحدثة في الخطاب الشعري المعاصر.

ب) الإيقاع:

يرتبط الإيقاع عند ابن طباطبا باِعتدال الوزن وصواب المعنى. في حين عند المحدثين فإن الايقاع هو التتابع والتواتر ما بين حالتي الصمت والكلام؛ حيث تتراكب الأصوات مع الألفاظ والانتقال ما بين الخفة والثقل ليخلقا معًا فضاء الجمال..

والايقاع:

1- داخلي يستند على الموازنة (يعني أن يكون البيت متعادلًا في الأوزان والألفاظ،) والتكرار(هو مجموعة من الوظائف من أبرزها لفت الانتباه والتأكيد على المعنى ونحو ذلك)

2- خارجي و هو العروض والقافية.

فإلى أي حد نجحت الشاعرة في نصوصها بشكل يخدم نسق التتابعات والإرجاعات ذاتِ الطابع الزمني والموسيقي، ليقوم بوظيفة جمالية مع غيره من عناصر تشكيل النص الشعري ؟وإلى أي حدّ نجحت في صياغة شعرها على النحو الموسيقي الذي يتناسب وخلجات نفسها ودفق مشاعرها؟

على الرغم من أن معظم قصائد الشاعرة الطاهرة حجازي يمكن أجنسَتُها تحت مسمى قصائد النثر فيجدر بنا أن نؤكد أن الشاعرة تلجأ إلى استعمال القافية والرّوي في بعض قصائدها، كما نجد أن هناك نصوصا بوزن في كثير من مواضع في الديوان وإن لم يكن ذلك مقصودا .

أرجع محمد مندور في:" الشعر العربي: غناؤه وإنشاده وأوزانه» الوزن إلى كم التفاعيل، والإيقاع إلى النبر أو الارتكاز عن طريق تردد ظاهرة صوتية ما على مسافات زمنية محددة.

النبر:" ظاهرة صوتية دقيقة تهدف إلى إبراز الصوت على مقطع من الكلمة. في العربية لا يغير النبر المعنى لكنه قد يساعد السامع على الفهم."

سنأخذ كنموذج قصيدة ويحرق البوح لغتي

حنين يسبح خلف أنين

تطلّع لمرامي الارتقاء

واللاَّمبالاة في الرّبوعِ

عَجْزٌ تردّى في انحناء

حرب تُتْلف توازُنَها

والصّوْتُ الجريح نزيفُ الدماءْ

ورجع الصدى

منافي الغياب ْ

حضور ضامرٌ

من قهقهات الجبنِ والارتخاءْ

خُدْ يدي

تعانق يداً ممدودةً

تُقَصِّفُ الإعصار

تَقُضُّ مضاجع اللاَّمبالينْ

تَسْتشِفُّ الأنَا

تُمَزّقُ أَقنِعةَ المرابينْ

تحرّكها آلات الجسد الخُوَاءْ

خد يدي لمدينة الرفض

أمتزج بالامتناع

انتشلني من هذا الضياعْ

ضَمِّخنِي بالشّذى

من طَعْمِ الوجود

خد يدي

سافر بها[11]

في قصيدة ويحرق البوح لغتي نلمس جمالية الايقاع الداخلي من خلال التواشج اللفظي: "التقاء الكلمات في جمل في صورة او اكثر من جهة اللفظ،" [12] مما يخلق تناغما داخل الاسطر الشعرية ويربطهما ببعضهما رابط موسيقى محبب يشد انتباه المستمع للقصيدة ونجده كملمح أسلوبي للسيطرة على الموسيقى الداخلية بشكل يحقق الانسجام ما بين الألفاظ والمسموعات اللتان تؤديان معًا إلى تحقيق الغاية التركيبية التي تؤدي إلى الوصول إلى غاية البلاغة والبيان.

كما نلاحظ أن الطاهرة حجازي استغلت كل الإمكانيات الإيقاعية المتاحة لها لتحقيق تناغم موسيقي يخدم البنية الجوهرية للنص.

4) خاتمة:

الأديبة الطاهرة حجازي أدبية متميزة وهي من الأصوات الشعرية التي تتمتع بمكانة بارزة في المغرب تتميز قصائدها بتنوع وثراء جمالي يشوبه نوع من الغموض الفني المقصود الهادف إلى فتح باب التأويل أمام القارئ للمشاركة في عملية تشكيل النص وبناء معماره، كما أن لغتها مُوحية تتكئ على التكثيف والايجاز، وتبتعد عن المباشرة، ولم تخلو بعض نصوصها من الترميز والتناص، سعيا لتوسيع المعنى وتجويع اللفظ بأسلوب بلاغي قوي.

***

محمد محضار

...................

[1] ألزميت بلقاسم السيميوطيقا وحدود التفضية في الشعر العربي

[2] حسن ناظم، مفاهيم الشعرية دراسة مقارنة في الأصول والمنهج والمفاهيم، المركز الثقافي العربي، بيروت، ط 1، 1994 ص9

[3] العدد 6 ص 152من مجلة شعر

[4] لعدد 6 ص 152من مجلة شعر

[5] قصيدة النثر وأزمة الشعر العربي المعاصر عبد الجبار العلمي موقع القدس العربي 3أبريل2019 د

[6] عز الدين إسماعيل/ الأدب وفنونه ص 168م

[7] أدونيس الصوفية والسريالية ص 222

[8] حجازي الطاهرة ديوان قيظ الهجير ص82

[9] نفس المصدر ص83

[10] بوطاهر بوسدر ظاهرة الانزياح موقع الألوكة بتاريخ22.01.2018

الطاهرة حجازي ديوان قيظ الهجير ص 9و10 [11]

[12] (يوسف ابو العدوس، الاسلوبية الرؤية والتطبيق،دار المسيرة للطباعة والنشر،2007 ص262-

القصيدة بشكل رسالة عرفت كنوع من أنواع القصيدة في الأدب الروسي منذ القرن التاسع عشر، إذ بإمكاننا رؤية هكذا قصائد لدى الكساندر بوشكين (الرسالة المحروقة)، ولدى تيوتشيف (رسائل قديمة)، ولدى نكراسوف (رسائل تلك المرأة الغالية). أما في القرن العشرين فقد طوَّر الشاعران المعروفان سيرغي يسينين وفلاديمير ماياكوفسكي- طورا هذا النوع من القصيدة.

دون أدنى شك القارئ الروسي اليوم كما القارئ العربي كل منهما لا يثمن عاليا أهمية ودور هذا النوع من الكتابة، كون الرسالة وأهميتها الأسرية والإجتماعية غدت صورة من صور الماضي، بفضل ثورة الاتصالات، ووجود جهاز الهاتف المحمول.

في القرن الماضي لعب هذا النوع من القصائد في الشعر العربي بذاك الزمن دورا ذات أهمية نذكر من تلك القصائد قصائد الشاعر العربي الكبير نزار قباني، إذ أننا نرى في نتاج القباني قصيدة (خمس رسائل إلى أمي) التي دونها بعد سفره في منتصف الستينيات، والتي مطلعها

صباح الخير يا حلوة

صباح الخير يا قديستي الحلوة

ونجد لدى القباني (100 رسالة حب) دونت عام 1970

في إحداها يقول: أريد أن أكتب لك كلاما

لا يشبه الكلام

الذي يعنينا اليوم - رسائل قباني إلى أمه، كون موضوع حديثنا هو حنين الشاعر الى أهله وموطنه وكتابته ما يلامس خلجات الروح في نص قصيدة من نوع القصيدة بشكل رسالة.

لدى الشاعر الروسي سيرغي يسينين نجد قصائد تأخذ شكل الرسالة مثل

(رسالة إلى أمي)، (رسالة إلى إمرأة)، (رسالة إلى جدي). أولى تجارب الشاعر الشاب كانت عام 1910 حين دون قصيدته المعروفة (إلى الأصدقاء)، وفي عام 1911 كتب قصيدته (إلى الصديق). تلك كانت تجاربه الأولى في هكذا نوع للقصيدة. إنّ شعر يسينين كما أشار عدد من الباحثين الروس – هو شعر السيرة الذاتية، إذ أنّ يسينين كان يكتب ما يلامس خلجات الروح في لحظات السعادة وفي لحظات الشجن. لابد هنا من الإستشهاد بما قاله الباحث المختص بنتاج يسينين يوري بروكوشيف، إذ أشار "أنّ أشعار يسينين هي بمثابة قصة حياته" وأكد أنه قد وجد في نتاج الشاعر عددا كبيرا من الرسائل، أما القصائد التي كتبت فيها كلمة رسالة فهي قليلة(1). ويشير الباحث تينيانوف إلى أن أشعار يسينين كأنها رسائل استلمت من موزع البريد، فهي تحكي عن قضايا خاصة، شخصية، وبذات الوقت لها طابع إنساني عام. ويجمع النقاد على أنّ أشعار يسينين، التي جاءت على شكل رسالة قام بكتابتها في عامي 1924-1925، وإذا ما سألنا - لماذا قام الشاعر باللجوء إلى هكذا نوع من القصيدة في تلك المرحلة من عمره؟ فمن المؤكد أن المنطق سيجيبنا بأنه في اللحظات الحرجة،الصعبة والقاسية لجأت روح الشاعر إلى موطنه الصغير، إلى حضن الأسرة كي تشتكي، لجأت إلى مرابع الطفولة، إلى بيت الأهل.

إن هجرة الشاعر من ضيعته ومن موطنه الصغير الى موسكو، ومن ثم الى بطرس بورغ، ثم إلى خارج روسيا، هذه الهجرة أوقدت نار الحنين في نفس الشاعر، وهيجت مشاعر المحبة تجاه مرابع الطفولة في بلده، حيث النهر الجميل والسماء، والماء، والغابات الكثيفة والوسط الريفي الإجتماعي البسيط والصادق.

وإذا عدنا إلى شاعرنا القباني العظيم أليست الهجرة ومغادرة دار الأهل بالشام، أليس هذا ما أوقد نار الحنين وهيّج مشاعر المحبة والإلتصاق بكل ما تركته فترة الطفولة والفتوة في الذاكرة: البيت، والدار، والبركة والزهور في فسحة الدار، وعلاقته بأمه وأبيه... .

أليس هو من قال في (خمس رسائل إلى أمي):

أنا وحدي

دخان سجائري يُضجر

ومني مقعدي يَضجر

وأحزاني عصافيرٌ

تفتش بعدُ عن بيدرْ.

ويضيف

صباح الخير من مدريد

ما أخبارها الفله ؟

بها أوصيك يا أماه..

تلك الطفلة الطفله

فقد كانت أحب حبيبةٍ لأبي

يدللها كطفلته

ويدعوها إلى فنجان قهوته

ويسقيها

ويطعمها

ويغمرها برحمته

ومات أبي

ولا زالت تعيش بحلم عودته.

ويضيف

سلامات ...

سلامات...

إلى بيتٍ سقانا الحب والرحمة

إلى أزهارك البيضاء..(2)

***

سوف نكتفي بهذا القدر ونستمر في عرض أشعار يسينين المرسلة إلى الأهل بشكل رسائل.

***

إعداد وترجمة إسماعيل مكارم

 إنّ جغرافيا الأدب جزء من الخريطة الكونية الانسانية، والرواية منجز حديث من تشكّلات هذا الأدب المعرفي، وإذا ما اعتبرنا أنّ الرّواية فنّ محض فإن هناك الكثير من التّصوّرات الذهنيّة والأماكن التي تحيلنا إلى الوقوف عند مسارها وأماكن وصولها.

فالرّواية عالَم متكامل يشيّده مؤلّفه، بدقّة مهندس خبير، فيناسق بين أبنيته، ويخلق شخصيّاته التي تتّسق مع الأحداث الحركية عبر حبكته، ويناسب بينها حسب رؤاه وأفكاره لتكون الشّخصيّة أكبر وأعمق من مجرّد موضوعة. فهي إمّا تفتح أبوابًا للتأمّلات الفكريّة في رحلة إلى المستقبل، وهذا يحتاجه الإنسان بين الحين والآخر للعودة إلى ذاته، وإمّا تكون الرّواية باعثًا إلى البحث في التاريخ الذي يشكل جذوره فيربطه بالماضي بصورة أو بأخرى، وبهذا يكون الإنسان عبر الرّوايات حلقة وصل بين التاريخ والمستقبل كغصن يرتبط بجذوره ويحمل أوراقًا يانعة خضراء.

وإنّ أيّ عمل روائي لا ينشّط التأويل والخيال لقارئه ويدخله قسرًا في متاهاته، إنّما هو عملٌ ضحلٌ لا يغري صغار المبتدئين في العوم. كما يقول بيرس" يجب أن تترك العلامة لمؤولها مهمّة تجهيزها بجزء من معناها".  وهذا يعني أنّ كل نصّ أدبي أو عمل فني يجب أن يكون آلة لتوليد المعنى لينتج عنه مستويات متعدّدة في القراءة والتّأويل سواء على مستوى الأحداث، أو الشّخصيّات، وقلّما نجد شخصيّة استقلّت بعوالمها فغادرت دفّتي الرّواية لتحيا في ذاكرة الأدب العربي مثل شخصيّة "سي السيّد" لدى نجيب محفوظ في ثلاثيّته، أو الطّيب صالح في "موسم الهجرة إلى الشمال".

والمتتبع لمسيرة الرواية العربية وتشكلاتها يجد أنّ التّاريخ الاجتماعي للرّواية يُعتبر نصّا متعدد المستويات خضع لأيديولوجيات متنوّعة منذ بداياته، فظهرت الرّواية في القرن الماضي وكأنّها خطاب أدبي يثبت مرتكزات الواقع السّياسي، واتخذت شكل البطل بثلاثة نماذج، الشاب المناضل التنويري الذي يدعو للتحرّر الوطني خلال فترات الاستعمار كبطل ينتمي للمستقبل، ونموذج البطل الإيجابي الذي سلك دروب الرّواية الواقعيّة في الحياة من خلال تعزيز القيم وإدراك معاني الانسانيّة فيها، والنموذج الأخير هو البطل المغترب الذي عبّر عن إخفاقات المجتمع في تأخّره وعدم مواكبته ركب الحداثة الذي جعله معزولًا يرثي زمنه.

ومع تحوّلات المجتمع العربي وفي ظلّ آثار الكولينيالية ثم الحروب التي عاصرها، والانفتاح الحضاري في بعض الدّول لمواكبة الحداثة، مرورًا بزمن العزلة الذي صاحب انتشار حالة كورونا نجد أن النموذج الرّوائي بدأ يمضي في طريق مختلف، فلم يعُد البطل النموذج هو الحدث الأهم، إنما آثار الأحداث والحروب وويلاتها والخيبات نتيجة عدم التوافق الفكري كانت البطولة والحدث معًا، لتكون صفعة جديدة للمجتمع على مستوى الأفكار والمعتقدات تلتمس مستوجبات الحداثة، وصيرورة المابعديات، فحتّم وجود رواية متمركزة حول الذّات، تسقط الهمّ الجمعي لصالح الفردانيات، مما جعل انفتاح الرواية يتمثل بسرد الذّات، ولا يحمل همّ المثاليّة والبطولات التي غادرت الساحة أو تظهر على استحياء، وبهذا التشكّل اقتربت الرّواية من مسارين أوّلهما الحقيقة حسب النظرية الأجناسية للكتابة الذّاتيّة، بأن يقول الحق كلّ الحق كمبدأ عام. والثاني عبر تزييف الأهواء، وانتقام المؤلف لنفسه، كمحاولة لردم هوّة النسيان.

فالكتابة الذّاتيّة في الأغلب هي كتابة خاضعة للتحقيق، بينما المتخيّل الروائي لا سند له، كل ما عليه هو تفعيل الرّموز والأقنعة. يعود فيها المؤلف إلى تفاصيل حياته، والعودة إلى الطّفولة وهناك ما يُبتكَر أكثر من استعادته، فتظل الحقيقة نسبيّة بلا شهادة ولا توثيق. وقد لا تكون كتابة السيرة الذّاتية اعتبارية بالمفهوم التقليدي، لكنها تجنح إلى تأسيس حالة يتزامن فيها مع خط سيرها حوادث مؤثّرة فيها يخصّها بالوصف الزماني والمكاني كأبعاد أصيلة لها. 

في الكتابة الذّاتيّة قد يبدأ الروائي بنيّة حسنة فيكتب نفسه، حتّى يظهر ما يحول إلى الوصول للحقيقة وهذا يُعتبر عائقًا. فتظل إثارة ذاكرة الروائي بمثابة رمي حجر في بركة النّفس الرّاكدة، لاستخراج جوهر كلّ الأشياء فقط، من دون توثيق.

ولو طرحنا سؤالًا: إلى أيّ مدى من الممكن أن تكون المذكّرات صادقة وهل الرّغبة في الالتزام تجعل النّص أكثر تعقيدًا، وماذا عن تعالق السيرة بفنون أخرى وانتمائه الفنّي ؟ فمن الممكن أن تكون الإجابة أنه لا يمكن بأيّ صورة قول الحقيقة كاملة، إلاّ في عمل متخيّل، والقارئ الفعلي معني بالحقيقي سواء كان عبر أشخاص حقيقيين أو متخيلين.

الأمر الذي يجعل نضارة الرّواية تتأثر بالحياة الباهتة التي يعيشها الروائي العربي، فيقوّض الحقائق، بحيث لا تكون مطلقة، ويتحوّل إلى مجرد ناسخ لتمظهراته الشخصيّة، ويبث خلالها التفاعلات بين الأدب والحياة وارتباط الأنا بواقعها وتحويلها إلى واقعة ورقيّة. 

إنّ أكبر النّصوص الرّوائية هي التي تمنحنا قراءة مفتوحة لتأويلات متجدّدة بتجدّد الزّمن وتنوّع القراء، وفي النّهاية إذا كانت القراءة عملًا مُتقنًا فإنّ الكتابة تفكير مخصّص في قارئ نموذجي تتوافق موسوعيته الفكريّة مع موسوعة النّص الروائي ليقدّم عملًا يتماشى مع جغرافيا الرواية، وتحوّلات المجتمع العربي بكل فئاته.

***

ريما الكلزلي – أديبة وكاتبة

رواية معبد الغريب للأسير الفلسطيني رائد الشافعي،  رواية تنتمي إلى أدب السجون جاءت مكثفة تلامس المشاعر الوطنية وتهز الضمير العربي والفلسطيني بعد النتوءات والجراحات التي أصابت جسد القضية الفلسطينية وحولته للأسف إلى جثة هامدة  وفي أحسن الأحوال إلى جسد مقطع الأوصال نتيجة ما خلفته اتفاقية أوسلو من تداعيات كارثية على الشعب الفلسطيني حسبما جاء في هذه الرواية وتبعا لما يعتقده كاتبها، الذي أصيب غريب بطل روايته كما يبدو بخيبة أمل كبيرة بعد خروجه من المعتقل ليجد نفسه من جديد أسير قناعات لم يعد قادرا على ممارستها،  وأنّ أحلامه أصبحت بعيدة المنال بعد أن تنازلوا عنها.

معبد غريب المقدّس هو ذلك الركـن البعيـد بـن أشـجار الزيتـون يلجأ إليه كلما شعر بالحاجة إلى الإنفراد بنفسه بعيدا عن ضوضاء وصخب الناس فيجلس على ذاك الحجر يتخّذه مقعداً،  ذاك الحجر الـذي لـم يُمَّـس ولـم يتغيـر أو يتحـرك مـن مكانـه منـذ تلـك الطفولـة البعيـدة.

في هذه الرواية يشير الكاتب إلى أهمية الكتابة والدورالذي تلعبه في حفظ الذاكرة الجمعيّة لهذا الشعب،  فهو يكتب بلسان الجماعة وعنها  يقول:" نحـن نكتـب حتـى نتخلـص مـن أعبائنـا مـا دمنـا نعيـش في حقـل ألغـام لا نعلم متى تصدر عنّا كلمة تُفجّر لغمًا  تحت أقدامنـا،  أو تُنهـى علاقتنـا بالآخريــن ممــن يخشــون الحريـّـة والنقــد وتقبــل رأي معاكــس،  وأنا  أسـعى إلـى تخليـد الذاكـرة الجمعيّة ولا أكتـب عـن ذاتـي.(ص31). أمّا رفيق زنزانته أبو عماد يحثه على أن يضمـن سـلامة مــا يكتبــه حتــى لا يضيــع تعبــه ســدى.

اللافت في هذه الرواية  اعتماد الكاتب بشكل ملحوظ على الحوارات بين شخوص روايته لإيصال ما يريد إيصاله،  أكثر من اعتماده على السرد الذي يكون مملاً في بعض الأحيان،  وكتب روايته بأسلوب سلس لامس فيها وجدان القارىء وجعله ينجذب وبتلقائية للإستزادة من هذه القراءة الممتعة والهادفة.

أفرد الكاتب مساحة لا بأس بها  في تناوله لإتفاقية أوسلو وتداعياتها ويبدو أنّه من رافضيها من وجهة نظره على الأقل،  وفي حوار غريب مع جاره ابو حسن تتم الأشارة إلى إنقلاب الصورة وتبدل في القيــم الوطنيــة،  أبـو حسـن يصف أوسلو بسلام الخرفان وينبه من مخاطرالثقافـة المضـادة التـي تولـدت وانتشـرت وإلى حالة الإحبــاط الــذي تفشــى بين جموع الأسرى المحررين خاصة، بعد أن أصبح شرط خروجهم من السجون التوقيـع علـى وثيقـة تُجَـرّم النضـال وتدينـه وتعتبره بمثابة الإرهاب  ضـد الكيان الإسرائيلي،   وبقـي معتقـلًا مـن رفـض التوقيـع علـى ذلـك الشـرط المـذل. وفي إشارة الى التعاون المقنَّع بين السلطة الوطنية والإحتلال يذكر أبو حسن واقعة إستدعاؤه إلـى أحـد مراكـز الأمـن الفلسـطيني،  وهو والد لشهيدين مما أشــعره بالإســاءة والحنــق والقهــر. أما سبب إستدعائه والتحقيق معه فهو حيازتـه قطعـة سـلاح غيـر مرخصـة،  ويجب عليه  تسـليمها حتـى ينتهـي كل شـيء. يقول أبو حسن لقـد داسـوا علـى جثـث شـهدائنا حيـن اقتادونـا إلـى مقراتهـم كالمجرميـن واللصـوص،  هكـذا كافـأوا آبـاء الشـهداء،   وبحسرة وغضب يكمل أبو حسن الحديث عن أوسلو ويصفــه بالجريمــة التــي جلبــت العــار والخيانــة .لقـد أبـادوا القضيـة والحلـم بعـد أنّ أبيـد الشـعب وقـراه ومدنـه (ص52).

وفي حواره مع رفيق سجنه أبو عماد يستذكر غريب كيف إقتيد إلى أروقـة مكاتـب التحقيـق وإتهامه  بمحاولــة تقويــض عمليــة الســلام وممارســة مـا مـن شـأنه تهديـد الأمـن القومـي الفلسـطيني. وهنا يتمنى غريب ليته لم يتحرر ويخرج من معتقلات العدو ليدخل إلى مقرات التحقيق للأمن الوطني التي تشبه بكل تفاصيلها مقرات التحقيق الصهيونية  لولا لون العلم الذي كان يخفق باستحياء وهو مشبع بالرطوبة.

لقد أصبح  غريب كإسمه غريباً ومنكسراً كأي مواطـن عربـي هتكـه نظامـه الحاكـم. وبأن كل  أحلامه عن الوطن،  العودة والتحرير تحولــت بجــرة قلــم ولحظـة استسـلام إلـى كابـوس مزعـج بعد أن شـهد بعينيه كيف َ بيـع الحلـم في بـث حـي ومباشر (64).

كما تظهر الخيبة أيضا في حوار غريب مع صديقه يوسف الذي يقول : منـذ "سـلام الشـجعان" يـا غريـب لـم أذكرأن تلفظــت باســم فلســطين أصبحــتُ مــن المثلــث وحســب لا مــن فلســطين.(ص69).  لقـد تنازلـوا عـن الوطـن يـا صاحبـي،  وعندمـا قبلـوا باسـتعادة جـزء منـه،  ً قدّموا أثمـن ممـا اسـتعادوه؛ قدّموا أحلامنـا نحـن ودفنوهـا  تحت مقـرات شـيدوها، (ص71). وفي تبريره لإنقلاب حاله من حال إلى أخرى وإنغماسه في اللهو والملذات يقول يوسف لقد باعونا وأحالونــا بموجــب الاتفاقيــة الجديــدة  رعايــا لـدى هــذا  الكيـان الصهيونـي،  لـم يكتفـوا ببيـع الوطـن بالجملـة،  فباعونـا بالمفـرق.ومنـذ أوسـلو يـا صاحبـي سـيطر علـيَّ شـعور بـأن الوطـن لـم يعـد لـه معنـى. لقد صرنا "عرب إسرائيل"  مواطنـي دولـة طيبـين أو سـيئين. ذلـك حسـب اقترابــك مــن حلمــك وابتعــادك عنــه. ألقونــا خــارج الزمــان والمــكان.

أما سماح تلك الفتاة التي صادفها في حيفا فتقول: "أتعلـم يـا غريـب!! لـم ينجـح الحكـم العسـكري بـكل مـا بـه مـن قهـر وإذلال في إخراجنـا مـن أرضنـا،  بينمـا أوسـلو لـم يقتصـر علـى تحويـل الوطـن إلـى مزرعـة خاصـة،  لقـد أخرجنـا نحـن فلسـطينيو الدّاخـل مـن الهويـة الوطنيـة،  حتـّى إنـه لـم يعتبرنـا جـزءا مـن هـذه المزرعـة".

وفي لغة لا تخلو من المرارة  وتُبّرز حجم الضياع والألم الذي يعيشه غريب يخاطب نفسه قائلا: "تخلـص مـن بعـض المفـردات المهترئـة والصدئـة ذلـك لا يتناسـب وشـروط المواطنـة الســعيدة والقيــم الحداثيــة والعصريــة.

الوطــن: هوأينمــا وجــدت مصلحتــك وسـعادتك وأمنـك.

الحريـة: هـي حـدود بيتـك.

الكرامـة: أن تجـد لقمـة العيـش.

الوفــاء: غبــاء لا حــدود لــه،  ضعــف تجــاه الآخريــن.

الصداقــة: ملهــاة للوقــت،  مشــاعر خادعـة تنتهــي أمــام أصغــر مواجهــة مــع المصلحــة الذاتيــة.

الحــب: وهــم يخلقــه النــاس ينتهــي في الفــراش.

الحلــم: ثمنــه باهــظ لكنــه خبــز الفقــراء.

الســعادة: التخلــي عـن الأحـلام الكبيـرة .

الديـن: عبـادة الـذات وتقديـس المـال.

الضميـر: عـبء ٌ ومازوشــية،  مــرض خطيــر يجــب الشــفاء منــه.(ص73).

وفي موضع آخر يتطرق الكاتب إلى الشأن الثقافي وجمهرة المثقفين،  وقد أبدى دانيال شريك غريب في زنزانته خشيته من أن يتحول المناضل إلى مثقف عقلاني ســرعان مــا يبــدأ بإطــلاق توصيفــات غريبــة علــى المقاومــة والنضــال،  إمــا مغامــرة أو رومنســية أو عبثيــة.  وفي إدانة واضحة لما آل إليه بعض الوسط الثقافي يقول دانيال  لســنا بحاجــة إلــى مثقــف آخــر،  يكفــي مــا لدينــا مــن مثقفيـن بعقــول مأجــورة،  وأقــلا م مرتزقــة.(ص104).

محور آخر تتناوله الرواية وهي موضوع الإحتلال وما تبعه من دعوة للتعايش وقبول الآخر وهذا ما يظهره الحوار الذي جرى بين غريب وصديقته هلا،  تلك الفتاة التي هي ثمرة زواج هجين بين أم يهودية وأب فلسطيني،  ثمـرة تـزاوج الحـق والباطـل،  وهي ثمــرة لأبويــن شــرعيّين اعتقــدا أنهمــا بارتباطهمــا ســيضعان حدًا  لصـراع ٍ مديـد ٍ وقـاس لمجـرد التقائهمـا،  فهي مجرد طفلـة ولـدت علـى الحـدود بيـن الأنـا والآخـر. فوالدتها اليهوديــة تــرى أنهــا صاحبــة الحــقّ وأنهــا هــي المظلومــة،  ووالـدها الفلسـطيني يـرى أنـه هـو صاحـب هـذا الحـق وأنـه هـو المظلـوم.  وكل واحــد منهمــا يشــدّها  إلــى طرفـه حتـى انقسـمت نصفـين،  ليأتيها الردّ من غريب بأنّ عليها الاختيـار فـلا يمكنـها البقـاء في المنتصـف،  ويسألها كيــف لا تزالـيـن مؤمنـة بفرضيـة التعايـش والسـلام وهـذه الأوهـام وأنـت أكبـر دليـل علـى فشــلها.(ص211).

أيضا كانت العمليات الإستشهادية محور النقاش بين غريب وهلا،  هذه العمليات  تدينها هلا وتعتبران من يقومون بها  لم يعطوا فرصة للسلام،  وتسأل لقـد فجَّـر نفسـه ومـات. مـاذا اسـتفاد؟ ويجيبها غريب بأنّه تحـول مـن إنسـان طبيعـي إلـى كائـن مقـدس،  فهــو لــم يفجـّـر نفســه عبثــا بل حبًا بالحياة،   إنـه بـذاك العمـل الشـجاع إنمـا يعيـد تكويـن ذاتـه عبـر أشـلائه،  فيصبـح هـو الـكلّ ونحـن الأجـزاء.

كما ذكرنا فقد أفرد الكاتب مساحة لا بأس بها للمرأة والحوارات المكثفة التي أجراها غريب معها،  وقدَّم لنا نموذجين عن المرأة،  نموذج هجين جسدته هلا او هيلانة المتلطية وراء دعوتها للسلام والتعايش ولكن في حقيقة الأمر كان دورها المشبوه  هو إصطياد الشريحة الصلبة من الأسرى المحررين بغية غسل دماغهم وإيهامهم بعبثية النضال والمقاومة،  أمّا النموذج الآخر فهو المرأة الفلسطينية المناضلة على طريقتها والمؤمنة بعدالة وأحقية قضيتها والذي تمثَّل في كل من أمل التي رسمت على كتفها وشما يرمز إلى حنظلة الذي تعتبره ملاكهـا الحـارس وأنـه يعبـرعـن هويتهـا وثقافتهـا وهو بمثابة وطنها الصغير،  وكشفت الرواية أن أمل وصديقتها دنيا تقومان بالإشتراك مع رهـط مـن أصدقائهمـا المثقفين بنشـاط  يهـدف للتعـريف بالقـرى المهجّـرة،  البعـض يرسـم معالمهـا المتآكلـة،  والآخـر يقيـم على أنقاضها خيامًا يتـم دعـوة نشـطاء أجانـب إليهـا لتعريفهـم علـى آثـار التطهيـر الشـامل الـذي تعـرض لـه سـكان هـذه القـرى. وكثيرا ما كانت أمل تحثُ غريب على أن يبقى علـى قيـد الحلـم  ولا يُفــرّط بحلمـه.تقول له :" إيــاك أن تُهــزم وتســمح لهــم بكســرك. انكســارك ســيجعلك شــريكا  في ً مأســاتك". وهي بذلك تتماهى مع والدته التي خاطبته قائلة:" اسـمعني جيـدا كلّ الذيـن حققـوا أحلامهـم يـا بنـي كانـوا بشـرا وكلّ أم تخـاف علـى ولدهـا مـن المـوت أو الأسـر،  لكـن مـا هـو أقسـى،  أن ترى الأم ابنها مكسوراً ومهزومـا إن لم نناضل لاسـتعادة ما فقدنا سنخسر أنفسنا أيضا وحينها لن نختلـف عمـن باعـوا القضيـة وأورثـوك كل هـذا اليـأس والإحبـاط" (ص56).

وككل روايات أدب الحرية،  لا بد من ان يُعرّج الكاتب على الحركة الأسيرة ومواجهاتها مع السجّان وأيضا الإشارة إلى معركة الإمعاء الخاوية التي خاضها الأسرى،  وكيف يتم التضييق على الأسرى ونقلهم من سجن لآخر بغية كسر إرادتهم في تنفيذ إضرابهم عن الطعام.

في إشارة تحذيرية مما يحاك لأجل طمس الحقوق وتسطيح القضية يشير الكاتب إلى ما تلجأ إليه بعض المنظمات غير الحكومية والتي غالبًا ما يكون جــلّ أعضائهــا يهــود إســرائيليون،  وبعـض الفلسـطينيين الذيـن التقـت مصالحهـم وأهدافهـم مـع أفـكار هـذه المنظمـة التـي تدّعي العمل على إشاعة السلام والتلاقي بين الشعوب،  ولكن حقيقة ما تعمل له هو إصطياد النواة الصلبة من الأسرى المحررين خاصة وثلة من النُخَب الفلسطينية المثقفة عامة لأجل تفتيتهم ظنًا منها  أنّها بذلك يمكـن هزيمـة الذاكـرة الجمعيـة لشـعب لـم يتبـق لـه غيرها بعـد أن فقـد أرضـه. وبعبارة أخرى تهدف مثل تلك المنظمّات تحويـل الصقـور إلـى حمائـم وقطـط بيتيـة ووكلاء للرفاهيـة الوهميّـة والسـعادة المزيفة..  ولمجابهة هذا النوع من التحركات تقول دنيا صديقة غريب وأمل بأنّهما تعملان ضمن حــراك شــبابي فلســطيني عابــر للاديــان والطوائــف والعــرق والجنــس،  والأهــم أنــه عابــر للأحــزاب السياســية،  يجمعنــا هـدف واحـد هــو الحفـاظ علــى الذاكـرة الجمعيـّة ضـدّ التزويـر والنهـب (ص342).

ختاما نقول ان الأسير رائد الشافعي قدّم لنا في روايته هذه ما يشبه المطالعة السياسية لتبيان وجهة نظره وربما وجهة نظر الكثيرين مما حصل ويحصل في الوطن الفلسطيني،  وإذا كان الشاعر نزار قبّاني يقول "إنّ الثورة تولد من رحم الأحزان" يمكننا القول أيضا أن أدب الحريّة يولد من قمع السجّان،  وإذا كان للسجن والإعتقال من منقبة ما فهي ولادة تلك الجمهرة من الكُتّاب الأسرى مثل رائد الشافعي وغيرهم،  وما كانت انتاجاتهم وإبداعاتهم لتصلنا لولا الجهد الذي بذل ولا يزال من قبل المحامي حسن عبادي صاحب مبادرتّي "لكلّ أسير كتاب" و"من كلّ أسير كتاب"،  وأختم بما قاله الأستاذ عبادي عن هذه الرواية "حين قرأت المخطوطة وجدت كلماته تفجّر لغمًا تحت أقدام كلّ من تسلّح بالسراب والوهم الأوسلوي لتخلّصه من عبء يرزح تحته. عادت القيادة من الشتات بأضغاث أحلام لتخلق وطناً من وهم وفرقة وطنية وعبث وفراغ"

مبارك للأسير الحُر رائد الشافعي هذا الإبداع الذي وضع من خلاله الإصبع على الجرح  آملين ان يتوقف هذا النزيف العبثي ويتم إعادة توجيه البوصلة في الاتجاه الصحيح،  في اتجاه فلسطين القضية المركزية مهما حاول المهرولون نحو التطبيع  وتقديم خدمات مجانية مقابل بعض الفتات من المكاسب الزائلة.

***

عفيف قاووق – لبنان

في "رحلة البحث عن الهوية" يتداخل الحلم بالذكريات وبالأسئلة الحارقة التي تذهب طويلا مع الإنسان...

نسيج لغوي ناعم يأخذ القارئ إلى عوالم متداخلة من حيوية الواقع ولعبة التخييل، كل ذلك ضمن فضاء سردي يرتقي بالقص كفن مأخوذ بالتشويق والإبهار... إنها سلاسة الوصف المولد في شعرية متدفقة تمنحها البراءة والحنين وأصل العناصر والتفاصيل والأشياء في زمن ذهبت بعض كتاباته إلى اللهو بالتصنع والفبركة والافتعال... هي الكتابة زمن طفولتها لا تلوي على غير التأنق لأجل أن يجد القارئ عند نهاية كل قصة شيئا من المتعة التي تتركها الشخصيات أو الأمكنة أو الحالات أو حتى نبرة القص والمشاهد التي تحيل عليها القصص... إنها لعبة القص ومشتقاته الجمالية... لعبة الأمكنة وأسرارها... لعبة المشاهد والظلال...

هكذا رأيت الأمر وأنا أخلص من قراءة المجموعة القصصية " المشهد والظل " للأديبة هيام الفرشيشي الصادرة عن دار البراق للطباعة والنشر والتوزيع في 152 صفحة من القطع المتوسط حيث يتحلى الغلاف بعمل فوتغرافي للمصور حسن بحصون في جريدة الأخبار اللبنانية...

ثمة خيط  رابط بين مختلف القصص في هذه المجموعة يتمثل في الشحنة الحسية والنفسية التي عملت من خلالها القاصة هيام الفرشيشي على إذكاء عنصر التشويق لشد القارئ خصوصا أمام تعدد الشخصيات من قصة إلى أخرى وتنوع حضورها ونحن نعرف بالخصوص ميل بعض القصاصين إلى افتعال الأحداث والتفاصيل للتأثير على القارئ وتتم من ذلك إهمال سلاسة السرد وحميمية طرائقه فكثيرا ما كانت الأعمال جافة وبعيدة عن العذوبة وعناصرها المحبذة في التعاطي مع الإبداع القصصي...3553 هيام الفرشيشي

لقد نجحت القاصة هيام الفرشيشي في " المشهد والظل " في شد القارئ من خلال جمالية القص حيث دقة الوصف والخطاب الذهني الموجه والمعبر عن مسائل فكرية تتعلق أحيانا بالفلسفة والوجود والحرية إلى جانب ما يتبع ذلك من مواقف وآراء، وكل ذلك يحصل بعيدا عن الإقحام والإسقاط. فهي توفقت إلى السرد الحميمي والصادق في ذهابه إلى الأشياء والعناصر والتفاصيل والحركات والأحداث والمفارقات بنعومة السرد وما ينهض عليه من عناصر الفن والجمال...

وأما الشخصيات فقد تخيرتها القاصة بدقة من حيث مكابدتها الوجدانية والنفسية والفكرية، بما يحببها للقارئ ويقربها من هموم الذات وأعماقها لنجد أنفسنا في النهاية أمام عمل لا يبعد كثيرا عن أشجان الكتابة وهي تعري حالات وتكشف ممكنات اجتماعية وثقافية وحضارية كما أنها عملت على توثيق الصلة والعلاقة بحيز من الأمكنة التي لها مجالات شاسعة في الوجدان العام. من ذلك المدينة العتيقة هذه التي اشتغل عليها العديد من الشعراء والروائيين ولكن الأمر عند هيام الفرشيشي كان مختلفا بالنظر لطريقتها المخصوصة في السرد. التي يتبين معها قارئ هذه المجموعة القصصية أن القاصة تكتب وفي الآن نفسه تكتشف معه ومثله الحالات والأمكنة وما إلى ذلك من العناصر التي يقترحها هذا العمل القصصي البديع...

في قصة المشهد والظل تكشف القاصة حيزا من معاناة الصحفية التي تسعى للذهاب إلى الحقيقة وما يواجهها من عراقيل نفسية وميدانية في هذا العمل النبيل الذي كان همه بالأساس إنارة الآخرين بالحقائق. وقد أبدعت في وصف ذلك السرد الذي اقتضته الظروف الحافة بهذا العمل إلى جانب متعة نقل مشاهد المكان أي القرية التي قصدتها في حالات مناخية خاصة فيها الرياح والعواصف والصقيع...

تقول في القصة بالصفحة 57 : " شرد ذهنها وهي داخل الحافلة تستعرض سبب حلولها بهذه القرية المختفية وراء الجبل، وخمنت أنها ستشعر بالراحة قليلا، فرغم تشعب الطريق، فهو لا يخفي نضارة أشجار الفلين والصنوبر وأشكال الهضاب المتدرجة التي تراءت كديار ذات قباب أعادتها إلى تصاميم معمارية يبدو أنها نابعة من الطبيعة. عادت إلى ذاكرتها نبرات رئيس التحرير نائمة في خيالها كعائق صخري يطمس جمال المشهد المنفتح، توقفت الحافلة في ساحة تنطلق منها الطرق المنحدرة، استفسرت السائق عن الطريق المؤدي إلى نزل الخطاف فأجابها بضرورة السير بضعة أميال والحذر من الأمطار الأوحال الزلقة... "

في "رحلة البحث عن الهوية" يتداخل الحلم بالذكريات وبالأسئلة الحارقة التي تذهب طويلا مع الإنسان في حله وترحاله ذلك أن القاصة لعبت على الحنين والقلق والاستعادة حيث الذاكرة لا تغيب حتى في حالات اليأس وما إلى ذلك تقول بالصفحة العاشرة : " استقبلتها ساحة باب سويقة ببناءاتها الحديثة التي انمحت منها بقية المشاهد الراسخة في ذاكرتها منذ أيام الطفولة. شعرت بتكسر الحلم في أعماقها وتكثف الخدر الجاثم على كتفيها... استوت الذاكرة مع الحاضر... إلى أن تقول في الصفحة 111: " اتجهت إلى القباضة المالية لتقتني طابعا جبائيا من أجل تغيير بطاقة هويتها التي مازالت تحمل صفة آنسة... كان عمق الانسلاخ عن الماضي أشبه باجتثاث تلك الصورة العالقة في هذا المكان، فقد شيدت القباضة المالية على أنقاض المقهى القديم الذي طالما جاءته رفقة أقاربها الصغار أيام عيد الفطر... إنها فتنة السرد في تجوال الذات بين الأمل وهنا تعبر القاصة عن ذلك بالحلم والمولود المنتظر وحميمية القلق الإنساني والوجداني في تعاطيها مع المكان والذكرى... إنها المراوحة بين القلق والحنين وهنا نلمس خصوصية هذه الكتابة القصصية لدى هيام الفرشيشي التي كثيرا ما كانت نظرتها للأشياء التي تسردها مفعمة بالشعرية... شعرية الحالة وشعرية التعاطي معها وهو ما أكسب المفردة السردية شحنة هي من قبيل ما يعبر به الشعراء في قصائدهم وهم يتحاورون مع الحياة والوجد يحاولون بناء عالم حالم فيه الحنين والحيرة... وقدرة الذات الإنسانية على الخوض في هذه العوالم...

في قصة "غياهب الوهم" تطرح القاصة خصائص كل من عالم المدينة وعوالم الريف والقرية التي رأتها فسيحة على عكس أزقة المدينة التي رأتها أتربة وأوساخ وغبار وروائح كريهة منبعثة من المنازل... فبين حكايات الحمام وعجوز الستوت ودور ودكاكين المدينة العربي التي صارت مجرد قضبان تسجن أحلامها البكر والريف الذي رأته مجالا أوسع للحياة... تبرز نظرة القاصة إلى الفهم الذي يسيطر لدى البعض في الخلط بين الوسطين حيث ترى الحياة منطلقة وأجمل في الريف حيث تقول بالصفحة 117:

" عذراء حياة الريف. الهواء نقي والأرجاء رحبة. والسماء لوحة ضاجة بالحياة. سارت عربية بين الهضاب والروابي وكأنها تبحث عن أغصان جديدة أو عن أعشاب نبتت هنا أو هناك. فشدو العصافير يبهجها ورقرقة السواقي تنساب في مشاعرها...

"الرسم على الروح" قصة في غاية الأناقة حيث المتاهة بين الواقعي والخيالي في عشق القاصة للفنون ومنها الفن التشكيلي ضمن متعة السرد المقتحمة لعوالم جمال الصافي وستيورات كونديلي والرسم والسينما... طقس قصصي آخر ولكن ببصمات هيام الفرشيشي التي نجحت في نحت أسلوبها في الكتابة الذي برز في القصص مع اختلافها في المكان والشخصيات... نقرأ في هذه القصة بالصفحة 132:

" لم يكن ذلك صوتها حتما بل صوت هدى المنبلج من المتاهة وهي تتخيل عودة آل غورخاس إلى الهند القديمة... "لم ينتبه الرسام المنهمك في تلوين لوحته إلى أثر لوحاته على روحها.. غادرت المرسم، تأملت أشعة الشمس الحمراء المنتشرة على أمواج البحر المتلاطمة والبجع الوحشي وهو يفتح أجنحته. في تلك اللوحة الخلاقة عاد إلى اللون توازنه وهي ترقص مع البجعات رقصة الانسياب...

هكذا تتعدد الأسئلة التي تستبطنها مختلف قصص المجموعة لتلتقي في أمكنة ومناخات سردية وحالات ذهنية ونفسية ووجدانية مختلفة يجمع بينها جوهر وروح القص المعتمد في هذا العمل المميز الذي لفت إليه عددا من الأدباء والنقاد ومنهم الروائي المصري إبراهيم جاد الله والأديب الفلسطيني جهاد أبو حشيش والناقد راسم المدهون والأديب المغربي عبد الحميد الغرباوي والأديب التونسي أحمد ممو حيث أجمعوا على أهمية هذه الكتابة القصصية في خضم الأصوات الأخرى وضمن التخييل الذي يرسم عالمه الخاص...

هذه المجموعة تم تتويجها في تونس من خلال فوزها بجائزة الكريديف لهذه السنة وقد أفادت القاصة والناقدة هيام الفرشيشي من تجربتها هذه باعتبار ما يتيحه النقد والبحث الأدبي والدراسة من خبرات تنعكس في النظر على النثر الأدبي على كونه الجزء المميز ضمن المحصلة الإنسانية ولذلك كان عملها القصصي هذا مميزا في أدبيته وتيماته المقصودة وثريا نظرا للدأب الأدبي الذي عرفت به الأديبة هيام الفرشيشي التي نحتت صوتها السارد بكثير من التأني والصدق والشغف...

" المشهد والظل " مجموعة قصصية حرية بالقراءة والمتابعة والاهتمام لتميز أسلوبها وتعاطيها الجاد مع متطلبات القص الجمالية والفنية فضلا عن الإشارة إلى دور الأدب في النظر إلى الذات وإلى الآخرين ,,

***

شمس الدين العوني

حرصت الاجناس الادبية الحداثية جميعا على تفاعل الذات مع الآخر ومن ثم الذات مع نفسها فيتحقق الانفتاح والابداع، انفتاح على الذات الموغلة في العزلة، ، وجاء تيار الوعي ليبرز في ميدان الرواية الحديثة شكلا جديدا يعبر عن هذه الازمة التي تعيشها الانسانية في شرنقتها، فاطلق العنان لتدفق الافكار والمشاعر والثورة على المألوف والسائد استنكارا للمواصفات اللاأخلاقية وهذا ما نلمسه في رواية (سيبندية) للروائي شوقي كريم حسن في طبعتها الاولى الصادرة عن دار العرب، 2023 .

وأنا أقرأ رواية (سيبندية) أقف عندها من حيث كيف يبني الروائي مادته الروائية؟، وما هي تقنياته السردية، من يروي؟ وكيف يرى الراوي الى ما يرويه ؟ وما هي علاقته بمن يروي عنهم ؟ فقد تناول النقاد مضمون الرواية وتناولوا موضوعة القيم النبيلة والرذيلة والمرحلة الزمنية لأحداث الرواية التي شكلت وثيقة تؤرخ مرحلة بدأً من مقتل الملك الشاب فيصل ومجزرة العائلة المالكة وما بعدها من صراع سياسي الذي اتسم بالفوضى والتخبط ..

ان ما يقدمه الروائي من تكنيك من حوار ووصف وتيار وعي واستبطان ذاتي وتقنية الفلاش باك فضلا عن استخدام المونتاج السينمائي والقطع والتنقل المشهدي، يعطي للرواية قوتها ومتعتها وان كانت الفكرة مطروقه..

"وقفت أمي تنتظر حيرتها، مبصرة من عند باب الحوش، صرخات الاستغاثة ودوي الرصاص وتوسلات حناجر تخرخش بفتور خائف يشوبه وجل ممتحن لا تعرف كيف تجتاح وجودها، وبين يديها ولد يتبرغث من الوجع حين ابصرت المسلّحة العسكرية، تحاول اجتياز الرصيف اندفعت مؤشرة بالوصول اليها ثمة آخر يتعلق بأذيالها. صبي مراقباً المشهد الصاخب بحذر ظل يصاحبه طوال حياته، قال الرجل المعلم بخرقة خضراء موشومة (بحاء قاف) لاعقاً شفتيه بابتسامة وقحة جعلت الأم تتراجع مهزومة إلى داخل خيبتها"1

"طريقة في الكتابة تقدم مدركات الشخصية وأفكارها كما تطرأ في شكلها العشوائي وهذا التكنيك يكشف عن المعاني والاحساسات دون اعتبار للسياق المنطقي او التمايز بين مستويات الواقع المختلفة (النوم، اليقظة..) او بناء الجملة من حيث ترتيب كلماتها في اشكالها وعلاقتها الصحيحة" 2

عتبة العنوان (سيبندية) التي جاءت بصيغة الجمع والتي من خلالها استطاع جلب الاهتمام والانظار لمفردة تعني المنحرف الذي لا أخلاق له بمعنى اناس افسدوا وقد وظفوا كل الوسائل الدنيئة والخسيسة فهي مباحة لهم ومشروعة من اجل الوصول الى غاياتهم.

 كتبت رواية سيبندية بطريقة وبتكنيك يكشف عن المعاني دون اعتبار للسياق المنطقي ولم تعد تعني بالترتيب المنطقي النمطي للعقل المنسق ببداية ووسط ونهاية فنراه يقوم بتكسير القوالب النمطية والثورة على الجمود والرتابة .

قسم الرواية الى عشرة فصول كل فصل اطلق عليه مدخل لأبجديات عشرة كعتبات ومناصات (عنونة داخلية) فيها عنوان اصلي واسفلها عنوان فرعي جاء على شكل جملة او عبارة (مقولة) للروائي مفتاحا وعتبة للدخول لعالم روايته تكشف العلاقة بين الراوي (الكاتب) وبين المروي " أبجدية اليتم" (المساحة واسعة بين القيم والرذيلة)، "أبجدية الأثم"، (الخطيئة اشد فتكاً بالضمائر التي تعدّها جسراً تعبر من خلاله الى ملكوت الرب)، "أبجدية القحط"، (من وصايا العارفين.. لا تترك خطاك تقود كلك إلى مرابع التفاهات)، "أبجدية القسوة " (قيل لمجنون ما الحكمة ؟ قال أن تبصق بوجه الحاكم من دون أن يعترض)، "أبجدية النهاية" (النهايات مشروع بدايات غير واضحة المعالم)، "ابجدية الرفض " (الاحلام أخطر اختراعات العقل الانساني وأشدها فتكاً)، " أبجدية الهذر"(لاتعادٍ الصمت في الاوقات الحرجة التي تحتاج بها اليه)، "أبجدية الازاحة" (ربة الوقاحة فاجرة، ما دارت مفتاحها يوماً لعارف)، "أبجدية الرغبات (..................)، "أبجدية الافتضاح" (لاشيء أقبح من الاعتقاد بأن الكذب فضيلة).

ربما اراد الكاتب ان يجعل من كل فصل ومدخل مسرودات لا متناهية،  باستهلال داخلي الذي يتصدر كل مدخل في الرواية تعين المتلقي وتمكنه من "ربط العلاقة بين العناوين الداخلية وفصولها من جهة والعناوين الداخلية وعنوانها الرئيسي من جهة أخرى ... "3

بدأ باستهلال افتتاحي / بدئي قبل القول جاء على شكل تنبيه كمؤشر لفهم السياق الذي تنخرط فيه الرواية:

تنويه

ذات حكاية.. سمعت حكيماً خبر الدنيا وخفاياها يقول:

- محال تغطية الحقيقة بغربال.. وهذا ضرب من ضروب المستحيل. فطنت الى المعنى وما أريد منه، وما الحقيقة التي تحتاج منا الى اعادة كشف. لذا ما جاءت به المسرودة حقيقة من المنبوشات بين اطمار ماض قريب مسكوت عنه، رغم اهميته في تأسيس ما بعده من حروب وفواجع وانتهاكات انسانية ماتزال مستمرة حتى الساعة... قد لا نصدق ما قيل ودوّن كونه ضرباً من الخيال.. ما أقبح الواقع الذي ينافس الخيال ويتغلب عليه.

في تقنية فنية تعبيرية وجمالية وظف الروائي تناصاً يعقب التنبيه مقطع من مسرحية شكسبير.. بهلوان الملك لير جاء على شكل نبوءة:

سأنطلق بنبوءة قبل ان اذهب.

إذا امتثل الكاهن لفظاً دون معنى

إذا غشّ الخمّار الخمر بالماء

إذا أضحى النبيل معلماً للخياطة

وسلم الزنديق من نار عقبى دون طلاب النساء

إذا كانت كل دعوة في الشريعة صائبة.

وما من سيّد، او فارس بالفقر يوما مبتلى

إذا الغيبة هجرت كل لسان

وأحجم النشالون عن الجموع.

إذا راح المرابون يحسبون الذهب في العراء.

وراح القوادون والبغايا يبتنون الكنائس،

عندما يحل في البلاد شغب وفوضى

عندها يأتي زمان من عاش رآه

يصبح السير فيه على الأقدام جريمة.

هناك تكنيكات اخرى توظف مع رواية التيار كالمنولوج الداخلي والفلاش باك والاسترجاع الحدثي والمكاني والزماني واستحضار المواقف أو الشخصية أو اللقطة وتداعيات الصور والاخيلة وكذلك الشعرية.

مقولة نمط السرد

اعتمد الكاتب اساليب متعددة في سرده من حيث علاقة الراوي بأصوات الشخصيات ، "اسلوب يتصف بالمباشرة، اسلوب يتصف باللا مباشرة، او نمط اسلوبي لا مباشر حر" 4 .

اسلوب يتصف بالمباشرة

نرى في هذه الحالة ان الراوي يترك القول في سياق سرده بصوته الى الشخصية او لصوتها يدعها تنطق مباشرة بصوتها الذي بإمكان القارئ ان يميزه عن سياق القول السردي للراوي عن طريق الحوار ففي هذه الحالة يقطع الراوي سرده فيتقدم صوت الشخصية المباشر محاورا المخاطب:

"ضحك (حسان ثابت) بصوته المجلجل، آخذا (دنوش) الى صدره، مقبلا جبينها الذي أضاء بفرح كان دفين اعماقها منذ رحلة الوالدين الابدية.

قال- لا تخافي .. كل ما ترينه محسوب الحساب.. حتى ان فتحوا الباب لن يجدوا لك مكاناً.

صاحت مديحة- أنت ليشر راسج يابس.. افتحي الباب تره للصبر حدود. أنت ما تعرفين شراح يصير بيج اذا اشتغلت الغدارة.

قال حسان – خذي ما ترغبين به وسأكون معك لا تنتظري انتظارك قد يخسرك جولة رهان.

قالت نادية – وأمي هل نتركها وحيدة؟ ص103

اسلوب يتصف باللامباشرة

نرى في هذه الحالة يبقى الكلام بصوت الراوي وان بدا لنا بشكل واضح انه لشخصية من الشخصيات كما المقطع السردي في ابجدية اليتم ص 7:

وقفت العجوز، التي نسميها (حبوبتنا) المثقلة بالهموم المجللة بثياب سود لم ارها تغيرها منذ مقتل الزعيم، فقدت بهجتها، تتأمل صورة ابن كيفية. كما تسميه متفاخرة ذارفة بقايا احزانها المتلاحقة الدافعة إلى التأمل، اخذت الصورة إلى صدرها، موقنة أن ما حدث اخفى الزعيم الى الأبد، قبلت بدلته العسكرية، وتناوشت جبينه بسيول هرمة من القبل الفيّاضة بالتقديس هامسة بحزن

- ألم أقل لك حاذر، تركتنا نصارع اليُتم... طيبتك رمت بك وبنا الى التهلكة.. ما عسانا نفعل ووحوش الموت بدأت تملأ الطرقات ألم أقل لك إن الحذر غلب القدر ؟

اسلوب لا مباشر حر:

يبدو في هذا الاسلوب محيرا وملتبسا يتداخل بين صوت الراوي وصوت نطق الشخصية بين ان يكون منقولا بصوت الراوي وبين ان يكون منطوقا بصوت الشخصية مباشرة في هذه الحالة الراوي لا يضع كلام الشخصية بين مزدوجين وهذا الالتباس يضفي على النص طابع البساطة والعفوية كما نلاحظه في المقطع:

- لا أظنّه يكذب، قال سأجيئ، أخبري المحبين بعودتي. فما الذي حصل؟ غيابه يبعد المسافة ويقلل الاحتمال... كرومي ماذا تقول.. وتلك الكتب التي تقرأ هل اخبرتك عنه بشيء، أخبرني اثق بما تقول.. لأنك الأحب إلى روحي والأقرب اليها. لا شيء يشير الى عودته، حبوبتي.. كل هذه الكتب تتحدث عن أمور لا تخصه!!" ص15

مستويات السرد

على مستوى تنوع ضمير الراوي اختار شوقي كريم حسن لروايته (سيبندية) طريقة تعدد الاصوات وهذه الطريقة متأتية من المجتمع المتعدد الفئات ومتنوعة الافكار حملت كل شخصية طريقة سرد خاصة بها ..

يؤكد الراوي ذلك في عدة مقاطع توضح الآراء المختلفة ووجهات النظر المتباينة في النظر الى ذلك الماضي يفصح عن تركيبة اجتماعية غير متجانسة:

"حبوبتنا" نقلت هذا الحب الى زغب احفادها الذين يتأملون الصورة المخفية بين طيات نضد الافرشة، أصرت على تسميتي (عبد الكريم)

" رغم اعتراض والدي، الذي يكره كرومي دون تبيان الاسباب، يتعمد اغاضتها، حين يعلن امام همومها " أرعن تافه.. غره تصفيق اناس يتبعونه مصالحهم.. تخلو عنه فور انطلاق اولى الرصاصات، ماذا يخسر لو اسس حزباً واستند اليه، الفقر لايحمي كرسيا، والقلوب لا تواجه الرشاشات" ص8

"- هل ما زلتم ترددون في صفوف الصباحات الباردة.. عبد الكريم رب العباد يرعاك فلم تخلى عن رعايته الرب الذي كنا نتوسل اليه أن يرعاه؟ لا اعرف ما الذي حصل أنت كرومي اعلمني ان كنت تعرف. الرب الذي طالبناه برعايته لِم لمْ ينصت لتوسلاتنا ؟"

يقدم الروائي مبناه الفني على طرق سرد متداخلة، الراوي تارة الشخصية الحكائية اي الشخصية التي تتولى الحديث عن شخص محوري يتقمص هويته ويتكلم بلسان حالها، و" قد يكون الراوي مزيجا من المؤلف والشخصية المحورية مزيجا من ان يكون راوياً وان يكون مروياً عنه".5

***

طالب عمران

........................

المصادر

1- شوقي كريم حسن، سيبندية (رواية)، ط1، دار العرب، دمشق-سوريا، 2023 .

2- ابراهيم فتحي معجم المصطلحات الادبية التعاضدية العمالية للطباعة والنشر، صفاقس، 1986، ص116

3- بلعابد، عبد الحق، عتبات (جيرار جينيت من النص الى النص) ط1، دار العربية للعلوم ناشرون، منشورات الاختلاف، الجزائر، 2008 .

4- النصير، ياسين، ما تخفيه القراءة، ط1، دار نينوى للدراسات والنشر والتوزيع، سورية، 2022.

5- العيد، يمنى، تقنيات السرد الروائي، ط3، دار الفارابي، بيروت- لبنان، 2010 .

النص

حينَ نظرَ عبد الأمير الحصيري إلى جرف نهرِ دجلةَ

بدأَ يسمعُ بائعةَ البالوناتِ

وهي تنشدُ أغاني النهرِ

يتأملُ باراتِ أبي نواس العتيقةَ

وحاراتِ المسيحِ المتنقلةَ

في أزقةِ البتاوين النظيفةِ

والقواربَ المسافرةَ لتنحني عندَ آخرِ تمثال لشهريار

وهي مثقلةٌ بالبلحِ الناضجِ

من مزارعِ البصرة

وأغاني الخشابةِ و دبكاتِ الصيادين

وكتاباتِ بدر شاكر السيّاب

وهو يترقبُ حضورَ وفيقة

بينما تأتي النوارسُ كئيبةً من القيظِ

فوقَ السهولِ و المدنِ الهادئةِ

إذ هنالك يتأملُ أحمدُ الفراهيدي

تحتَ إرثٍ كبيرٍ

ينشدُ قصائدَ امرئ القيسِ

"اليومُ خمرٌ و غداً أمر"

وعن المدنِ البعيدةِ

كيفَ قاومتْ الهجمات البربريةِ

لسيوفِ الغزاةِ الدمويّةِ

وحواراتِ الفتنِ المجاورةِ

بينما ضجَ الكونُ من حروبٍ عبثيّةٍ

فسارتْ النعوشُ بغير بكاء لكثرة النحيب

ولم يعدْ أمام المدفونِ إلا انتظارَ زواره القادمين

بانتظارِ محاكماتٍ عادلةٍ

وعودة بقايا طمأنينة من دهاليزِ الميتين في ترقبٍ

إن يفتحَ اللهُ نوافذَه

للمرةِ الأخيرةِ

ويطلُّ من وادي السّلام

على أسرابِ الموتى

وينتهي المطافُ

ويُدفنُ آخرُ مقاتلٍ

قبلَ ان يُصابَ بالجبن

لكثرةِ ما قرأَ آياتٍ وتعاويذَ السلامة

وقصصَ الحروبِ الخاسرةِ

 ***

القراءة

السرد كما يصفه "جيرار جنيت" بنية يشكل بها الشاعر رؤاه الفنية، الذي حدد مفهوم السرد بأنه (عرض لحدث أو لمتوالية من الأحداث حقيقية أو خيالية، عرض بواسطة اللغة، وبصفة خاصة عرض بواسطة لغة مكتوبة)، "جيرار جنيت، حدود السرد، ص92".

لقد أتخذ السرد عدة مظاهر فنية في تشكيل بنية النص الشعري، الذي (بات قادراً على استيعاب الكثير من خصائص النصوص السردية)،"خليل شكري، القصيدة السير ذاتية واستراتيجية القراءة، ص15".

وفي قراءتنا هذه نقف على تجليات البنية السردية في نص الشاعر "علي لعيبي"، الذي اتسم بنفس سردي تجلت فيه عناصر السرد وآلياته السردية والوصفية، وتداخل البنى السردية والشعرية التي وظفها الشاعر في النص. ومرد ذلك يعود تميز الشاعر بالتعددية الثقافية (أدبية ونقدية وفنية وسياسية)، انعكست في كتابة نصه الذي صاغه بأسلوب حداثي إثرى به النص، وقدرته في توظيف تقنيات الأجناس الفنية والتداخل والتفاعل بينها.

قد يبدو مصطلح (السرد الشعري) متناقضاً اللفظين المكونين له، بسبب وجود جنسين أدبيين مختلفين في مفهوم اصطلاحي واحدة، فالسرد ينتمي إلى عالم النثر، والشعر ينتمي الى عالم الشعر، وما بينهما من اختلافات في الشكل والوظيفة وغيرهما، ولكن الجامع بينهما هو ما أصطلح عليه بـ(تداخل الأجناس)، الذي يشير الى وجود تعالق بين الأجناس الأدبية.

أعتمد الشاعر "علي لعيبي" في بنية النص على التداخل السردي مع الشعري، فالسردي يعتمد على عناصر السرد ( الحدث والشخصية والمكان) وتقنياته، أما الشعري صنع بنية النص بالأعتماد على الصورة والانزياحات اللغوية والترميز.

صنف الباحثين والنقاد شخصية النص السردي نوعين هما:

النوع الأول: الشخصية الفاعلة التي (تقوم بدور تنمية النص من خلال عدد من الوظائف الفنيّة التي تمارسها)، "محمد زيدان، البنية السردية في النص الشعري، ص 192". فهي المحور المهم في بناء النص السردي، والتحكم في توجيه النص الشعري.

أما النوع الثاني: الشخصية غير الفاعلة، وهي (ساكنة إلى حدّ ما، وهذا السكون إما أن يكون مؤثرا، أي يقوم بدور ما في أحد محاور النص، وإما أن تكون الشخصية في حدّ ذاتها هامشية، لا تسهم إلا في نطاق داخلي، على مستوى الوحدة السردية التي تمثلها)،"محمد زيدان، البنية السردية في النص الشعري، ص 203".

استلهم الشاعر "علي لعيبي" الأسلوب السردي وتوظيفه داخل النص، حتى بدأ على شكل سرد ذاتي، وعلى تقنية سردية شعرية في بناء النص، من خلال الإنزياحات التي استحضرها في أمكنة وشخصيات النص، التي تمثل رموزا وظفها دلالياً، فنرى السرد يتحكم بمجريات  النص، وشكل بؤرة تدور حولها لغة مكثفة وصور شعرية.

اشتغل الشاعر "علي لعيبي" في بناء نصه على فضاء حكائي يختزن دلالات لها معانيها، يحاكي هواجس ذاتية، ذات نزعة واقعية تعتمد التجربة الحياتية، يضعنا أمام إيقونة، تجسد في النص سير ذاتية للشاعر  "عبد الأمير الحصيري"، بلغة شعرية، مبنية على تكثيف العبارة وعمق المعنى، هذه النبرة الحكائية في النص تخاطب الواقع، وتستفز المتلقي الذي يترقب ما يفرزه هذا السرد في النص.

أعتمد الشاعر "علي لعيبي" على الخطاب الشعري الوصفي الذي يعتمد الرمز، لأن الرمز يحمل تداعيات تربطه بحكايات يومية تشير الى أمكنة وشخوص تتوقف على معرفة الشاعر لها. مازجاً في النص بين التقريرية المباشرة والرمزية الواقعية.

الرمز كأصطلاح هو (ما دل على غيره، وله وجهان: كدلالة المعاني المجردة على الأمور الحسية، ودلالة الأمور الحسية على المعاني المتصورة)، وقسم النقاد الرمز نوعين: رمز كلي؛ يستغرق النص كله. ورمز جزئي؛ يكون جزءاً من النص ولا يمتد ليشمل بناءه الكلي.

إن توظيف الرمز في النص الشعري الحديث دفع الشعراء الى إعتماده كوسيلة تعبّر عن رؤاهم الشعرية، فهو هدف، لجأوا اليه في (توفیر التعقید المطلوب في الشعر، وتكثیف الدلالة فیه). فالرمز في الشعر حسب تعبير "مارتن هايدغر" (يجعل المعنى ملتصقاً بالكينونة الأصيلة)، لأنه يعميق المعنى، ويستحوذ على لغة النص وتراكيبه وصوره، فيكون مصدر للإدهاش وتجسيداً لجماليات التشكيل الشعري، كذلك يعمق دلالات النص ويؤثر في المتلقي. ويعرف "أدونيس" الرمز بقوله: (هو ما يتيح لنا أن نتأمل شيئاً آخر وراء النص. فالرمز، هو قبل كل شيء، معنى خفي وإيحاء. إن اللغة تبدأ حين تنتهي لغة القصيدة، أو هو القصيدة التي تكون في وعيك بعد قراءة القصيدة)، "أدونيس، زمن الشعر، ص 160".

ما الذي جعل الشاعر "علي لعيبي" أن تكون شخصية الشاعر "عبد الأمير الحصيري" موضوعاً رأسياً ورمزاً كلياً تدور حوله كل موجودات النص؟.

لابد أن نعرف إن تجلي حضور الشخصية الرئيسية للشاعر "عبد الأمير الحصيري" في النص، لأن (النص الشعري يعتمد على شخصية واحدة ساردة تروي الأحداث وتسرد الأحاديث والصفات والأفعال والأفكار)، "د. محمود الضبع، السردي في الشعر/الشعري في السرد، ص 355". فكان أختيار الشاعر "علي لعيبي" في نصه، شخصية الشاعر "عبد الأمير الحصيري" كرمز كلي، أو (فكرة مطلقة)، ومحور تدور حوله كل الصور الشعرية، ودعامة رئيسية لتأكيد دلالة النص وتأصيل فكرته التي أغنت النص، وعمقت رؤى الشاعر الفنية. هذا الأختيار لم يكن أعتباطياً، بل جاء إيقونة قامت عليها فكرة بناء النص، أراد الشاعر من خلالها أن يطرح موضوعة "عبد الأمير الحصيري"، والتعبير عن أفكاره وارائه، ورؤاه الخاصة التي يريد أن يبثها للمتلقي في محاولة قراءة الواقع، كمعادل موضوعي لما يشعر به، من أزمة ذاتية يعانيها، وقلق وجودي، وتمرد على عالم لا يريده.

يختلف الشاعر "علي لعيبي" في أستحضاره رمزية الشاعر "عبد الأمير الحصيري" عن غيره من الشعراء، أو أراد أن ينفرد في أستحضار شخصية لم يلجأ اليها آخرون. فأستحضار شخصية الشاعر "عبد الأمير الحصيري" المتمردة ليس مجرد رمز لبيان وضع مؤلم له، وأنما غربة قاسية يلفظها شعرياً، أنتجت خطابه الشعري.

لقد أستغرقت شخصية الشاعر "عبد الأمير الحصيري" النص كله، وشكل محاور النص الأصلية، وفكرته الأساسية التي تدور حوله جميع الأفكار، ويمكن الأستدلال على ذلك من خلال سياقات النص، أضافة الى بعض القرائن التي تختلف أشكالها بإختلاف بنائها، فتضفي على النص أبعاداً نفسية تتوغل في مكنونات النفس المنفعلة.

اعتمدنا في قراءة نص الشاعر "علي لعيبي" المنهج الوصفي الموضوعي الذي سار عليه الشاعر، لأن النص يفرض على القارئ قراءة واعية تحثه على كشف تعددية المعنى الخفي في النص، لما تحمله شخصية الشاعر "عبد الأمير الحصيري" من غنى في أبعادها الفكرية والإنسانية. تمتلك هذه الشخصية القدرة على تجسيد مضمون الصورة الفنية التي يريدها الشاعر الذي أستهل نصه، وهو یقف أمام عذابات الشاعر "عبد الأمير الحصيري"، كشاعر تفرد بأسلوبه الشعري، وبطاقته الشعرية المتميزة، ورؤيته المعبر.

یمكن ملاحظة أن أدوات الشاعر "علي لعيبي" هنا كانت غير متكاملة في تحقیق شعریة عالیة لأسباب عدیدة أولها، أنه لم یكشف عن دواخل الشخصیة، وإبراز أهمیتها الشعرية والفكرية وقیمتها الإبداعية، رغم أن الشخصية حظيت بنصيب وافر من أهتمام الشاعر "علي لعيبي" في النتاج الفني للنص، كرمز كلي، ولكن (لا يقول فيها كل شيء، بل يكتفي بالتلميح فقط).

عاش الشاعر "عبد الأمير الحصيري" حياة أقل ما يقال عنها حياة صعلكة وتشرد، وهروب واغتراب داخلي، وتمرد على التابوهات التى تحكم المجتمع، رافضاً للقيم السائدة فيه.

واصفاً حاله بهذه الأبيات، المقتبسة من قصيدته (أنا الشريد):

(ما زلت طفلا غريرا، كيف تقربني

أنا التشرد والحرمان والأرق؟!

أنا الشريد!! لماذا الناس تذعر من

وجهي؟ وتهرب من أقداميَ الطرق؟!

وكنت أفزع للحانات، تشربني

واليوم!! لو لمحت عينيّ، تختنق).

الصعلكة عند "عبد الأمير الحصيري" رؤية فلسفية، لتفريغ الألم النفسي والوجودي، تمظهرت في (التشرد والتسكع، وإدمان الخمر، والتمرد)، فكانت حانات، ومقاهي، وشوارع بغداد، ملاذاً وسكناً له، فكان يُردد عبارته الشائعة في حانات بغداد (أنا شيخ الصعاليك منذ ابتداء الزمان)، لم تكن الصعلكة عنده تمرداً فحسب، بل كانت هوية بكل عذاباتها، ومأزق وجودي وتحرر ذاتي وهروب من واقع اجتماعي وسياسي وثقافي بائس.

الشاعر "عبد الأمير الحصيري" بعد أن توج أميراً للصعاليك في حانات ومقاهي بغداد، أضحى مسجوناً في فناء الشعر والخمر، ثم قتيل الشعر والخمر، وهو انتحار تدريجي بإدمانه على الخمرة، عندما عثر عليه ميتاً في غرفة في أحد فنادق بغداد البائسة.

(ولم يعدْ أمام المدفونِ إلا انتظارَ زواره القادمين

بانتظارِ محاكماتٍ عادلةٍ

وعودة بقايا طمأنينة من دهاليزِ الميتين في ترقبٍ

إن يفتحَ اللهُ نوافذَه

للمرةِ الأخيرةِ

ويطلُّ من وادي السّلام

على أسرابِ الموتى

وينتهي المطافُ

ويُدفنُ آخرُ مقاتلٍ

قبلَ ان يُصابَ بالجبن

لكثرةِ ما قرأَ آياتٍ وتعاويذَ السلامة

وقصصَ الحروبِ الخاسرةِ).

كان الشعر رفيقاً وملاذاً للشاعر "عبد الأمير الحصيري"، فهو ذو ذائقة شعرية، كانت حياته عبارة عن مغامرة شعرية كبرى، يضيء حانات بغداد ومقاهيها بقصائده التي يلقيها، عاش على أرصفتها وفي حاناتها، نائماً في شوارعها. الصعلكة في منظوره منهج حياتي، ومنظومة قيم، وأحتجاج على واقع، كونه مثقف، لم يخضع أو يتقيد بالتقاليد الاجتماعية.

لقد أصر الشاعر "عبد الأمير الحصيري" على نهج الصعلكة كموقف، تراه متنقلا بين الأرصفة والحدائق والحانات. فشاعت عنه القاب وأسماء كثر منها (شيخ الصعاليك)، (الشاعر الشريد)، (الشاعر المتمرد)، (صعلوك الشعراء). أراد الشاعر "علي لعيبي" أن يوظف ملامح هذه الشخصية بما يتلاءم وطبيعة التجربة التي يريد التعبير عنها، والتي لا يقتصر وجودها على الجانب الدلالي في النص، بل تسهم في التشكيل الجمالي للنص. فجاءت شخصية الشاعر المتمرد داعمة للنص بما أحتوته من رموز، وتوظيف لأسماء وأمكنة معلومة ومؤشرة في ذاكرة الجميع، تعطي دلالة من كينونتها، هذه الأمكنة التي أفترضها الشاعر "علي لعيبي" هي (باراتِ أبي نواس) و (حاراتِ المسيحِ) و (أزقةِ البتاوين) و (تمثال شهريار) و (مزارعِ البصرة) و (وادي السّلام) و (نهرِ دجلةَ)، هي أمكنة محلية، بغض النظر عن الموقع الجغرافي لها، وانما دلالتها في بنية النص، تتحول الى معرفة وبؤرة للتاويل، والذي دعا الى إدراك الشاعر "علي لعيبي" أهمية المكان، وهو استنطاق دلالاته التاريخية والحضارية، لأنه يعد خصوصية إنسانية، يعمق رؤية الشاعر ويعكس أفكاره، وحرصه على استرجاع  الأماكن ذات العلاقة بطبيعة تجربة الشاعر الذاتية، لأن ذكرها دلالة على تعلقها في الذاكرة، ومحوراً أساسياً في بنية النص الشعري المعتمد على البناء السردي، وتوظيفه توظيفاً عكس رؤية الشاعر لواقع "عبد الأمير الحصيري" وحالة الضياع والعزلة التي يعانيها، فشكلت صورة المكان وتنوعها (مشهداً بصرياً) سعى الشاعر من خلاله لإبراز قيمة المكان ومعاناة الشاعر. فكان المكان (وسيلة إلى إدخال القارئ مباشرة في الحياة الداخلية للشخصية)، "رينيه ويليك، أوستن وارين، نظرية الأدب، ترجمة محى الدين صبحي، ص235".

ثم أضيفت لهذه الإيقونات المكانية، شخوص (بدر شاكر السيّاب) و(وفيقة) و(أحمدُ الفراهيدي) و(امرئ القيسِ).

یعود الشاعر "علي لعيبي" في هذه الإيقونات إلى الوراء لیستمد من التاریخ رموزاً حیة یعید تشكیل الواقع على وفق رؤیته وتصوره، وإقامة نوع من التواصل بین الماضي والحاضر.

لقد استخدم اسم الشاعر "أبا نواس"، في سياق مسميات الأماكن، جاء من باب التناغم بين الأسمين الشاعر "عبد الأمير الحصيري" و الشاعر "أبا نواس"، في مجونه من جهة، وفي الصعلكة من جهة اخر ، ويرجع سبب هذا الاستخدام الى الدلالات المشتركة بين الشاعرين، لإن شعر أبي نواس (صورة لنفسه، ولبيئته في ناحيتها المتحرّرة، فكان شاعر الثورة والتجديد، والتصوير الفنّي الرائع، وشاعر خمرة غير منازع. ثار على التقاليد، ورأى في الخمرة شخصاً حيّاً يُعشق، وإلاهةً تُعبد وتُكرم، فانقطع لها، وجعل حياته خمرةً وسَكْرة)،"ويكيبيديا". أضافة الى شخصية الشاعر "بدر شاكر السيّاب"، الذي (أتى بغداد وراح يطلب فيها ما لم يجد في بيئته من طمأنينة حياتية، كما مال إلى الشرب والمجون يطلب فيهما الهرب من مرارة الحياة ومتاعبها؛ وكان إلى ذلك مفرط الحساسية يشعر بالغربة ولا يجد له في المجتمع مُستَقَراً، وينظر إلى الوجود من خلال غربته النفسيّة ومن خلال فرديّته التي كانت تحول دون اندماجه في المجتمعات التي عاش فيها، وكان من أشدّ الناس ميلاً إلى الثورة السياسية والاجتماعية)، "ويكيبيديا". وأما "أحمدُ الفراهيدي" وهو الضليع في اللغة العربية صوتاً وصرفاً ونحواً ودلالةً ومعجمةً وموسيقى، و"امرئ القيسِ"، (الذي لم يكن في مطلع حياته يؤخذ بأُبَّهة الملك وشهرة السلطة والحكم، بل شغف بالشعر يصور به عواطفه وأحلامه وبالحياة ينتهب لذائذها. وقد طرده أبوه وخلعه لمجونه وتهتكه، فهام على وجهه مع جماعة من الصعاليك وكانوا إذا وجدوا ماء أقاموا عليه يصطادون وينحرون ويحتسون الخمرة ويلهون)، "موسوعة المعرفة". هذه الأسماء كقرائن ذات صلة لما حصل للشاعر "عبد الأمير الحصيري" هذه التوظيفات للشخوص والأمكنة، لا يمكن أن يكون توظيفها أعتباطياً، وانما تم توظيفها من لدن شاعر متمكن من أدواته، وظفها كدلالات لفظية في سياق النص الشعري، وأضفاء مسحة جمالية على صياغتها وتراكيبها في توليد فضاءات النص، وبناء الفكرة الشعرية داخل النص.

***

حسين عجيل الساعدي

كيف أكتب قصة؟.. سؤال طرحته على نفسي، مدة نافت على نصف القرن.. هي مدّة معاقرتي للكلام. في البداية كنت أطرحه على نفسي، أما فيما بعد، بعد أن بتّ واحدّا من كتّاب القصة وصدرت لي مجموعات قصصية عديدة، تضمّن بعضها قصصًا بات يُدرّس ضمن المناهج التدريسية في بلادي، فقد انضمّ إليّ اخرون في طرح هذا السؤال.

في كلّ مكان أذهب إليه تقريبًا يطرح عليّ مثل هذا السؤال، لا سيّما من قبل الطلاب الذين التقي بهم أو أنوي تعليمهم الكتابة الإبداعية في مجال كتابة القصة.

فكيف تكتب القصة؟ وماذا عليك أن تفعل كي تتمكّن من كتابة قصة تلقى القبول وتحظى باهتمام القراء؟ وماذا يُطلب منك كي تنضم إلى نادي كتّاب القصة؟

أجيب بداية، أن حال كاتب القصة نادرًا ما يختلف عن حال سواه من كتاب القصة، المجلّين، فهو إنسان حسّاس، يمتلك درجة عالية جدًا من الحساسية، يعمل أربعًا وعشرين ساعة في اليوم، كما يقول الكاتب دي فوتو في كتابه الآسر عن " عالم القصة"، ويجسّد حساسية دائمة الاشتعال ومتميّزة تجاه الواقع، كما يري فرانك اوكونور في كتابه الهام عن الفن القصصي" الصوت المنفرد".

هذا الانشغال المتواصل وهذه الحساسية المتوترة، تدفعان بصاحبهما، لأن ينشغل بكلّ ما يحيط به، فتراه يتوقّف منشغلًا بالمرأة المسنّة الذي رآها وقد استقلّت باص الساعة السابعة المسافر من مدينته الناصرة إلى المدينة القريبة حيفا، ويرى ما وضعته على وجهها من أصباغ وعطور لا يمكن لعطّار أن يعيد إليه بهاء كان، فيقول لسان حاله إن العطار لا يُصلح ما أفسده الدهر، وقد ينشغل بهذه المرأة المسنّة، وينساها ثم يعود إليها ليتذكرها مجدّدًا، فإذا ما بقيت، انتابه إحساس، مثل ذاك الذي انتاب الكاتب العربي المصري يوسف إدريس، بقيمة ما وقعت عينه عليه من إيحاءات، أما إذا نسيها، فانه يتأكّد من أنها لا تستحق عناء التذكر وينساها إلى لا رجعة، آملا في قدحة أخرى، يبعثها" سقط زند" آخر على طريقة أبي العلاء المعري.

إلحاح هذه المسنّة قد يدفع الكاتب مع مضي الوقت، لأن يوغل في عالم متخيّل لتلك المرأة، فهي مسنّة، إذن هي عاشت في زمن النضال الفلسطيني، في عام النكبة الفلسطينية، أما سبب سفرتها تلك فلا بدّ من أن يكمن وراءها سرّ، فما هو؟ إنه خبر غريب مذهل تلقّته تلك المرأة، على حين غرّة، من محبوب لها كان مقاتلًا إبان الفترة المشار إليها، ذاك المحبوب كتب إليها ما مفاده، انه أقام منذ عام النكبة في حيفا متشبثًا بأرض الوطن، وانه لم يتّصل بها منذ ذلك الوقت لسبب بسيط هو أنه لم يشأ أن يكون سببًا للتنغيص عليها وعلى حياتها الشخصية مع زوجها!! أما دافع كتابته لها، فانه يكمن في سبب لا يقلّ أهمية عن ذاك الذي جمع بينهما أيام فلسطين، هذا الدافع يتمثّل في أنه بات يشعر بأن أيامه قليلة على هذه الأرض، وأنه يريد أن يراها في لحظاته الأخيرة.

تلك المرأة، وقد باتت واضحة المعالم وأطلق عليها خالقها مجدّدًا اسم كلاريس، حملت نفسها يوم الأحد، وانطلقت في باص الساعة السابعة إلى حيفا، بيدها عنوان ذاك الرجل الذي كان، على أمل أن تلتقي به ولو في لحظاته الأخيرة، لقد بات واضحًا أن تلك المرأة إنما تزيّنت واستقلّت الباص، في تلك الساعة، لتلتقي بحلم كان وآن لها أن تلتقي به ولو في لحظات رحيله الأخيرة. لكن هل ستلتقي حلمها ممثلًا بذلك الرجل؟ سؤال لا تجد له أية إجابة، لهذا تواصل السفر وفي عينيها أكثر من حلم.

يتوقّف الباص أخيرًا في حيفا، هناك تُسارع للنزول منه، ترتقي درج البيت في الدور الذي حدّده لها. قبل أن تصل بخمس من الدقائق، تنطلق صرخة، إنها صرخة مدوّية تنبئ بموت ألفته وعرفت بأية نبرة من الصوت يـُعبـّر عنه الناس.

في تلك اللحظة تدرك أنها لم تتأخر منذ ذلك العام، عام النكبة، إلى العام التي تعيش فيه، وإنما تأخرت دقائق، لا تعدو عدد أصابع اليد الواحدة، فتعود على عقبيها.

ترون والحالة هذه، أن القصة ولدت من منظر مميّز ترك تأثيره الخاص في نفسية صاحب القصة، ثم تشكلت في أبعاد ذات علاقة بما عاشه الكاتب من تجربة حياتية، كونه ابنًا لعائلة من المهجّرين الفلسطينيين وفدوا للإقامة في مدينة الناصرة، بعد تهجير إسرائيل ألقسري لهم من قريتهم سيرين، وهي مهدّمة حاليًا وكانت تتبع لمنطقة بيسان. كما ترون.. القصة ابتدأت بتلك المرأة المُسنّة، ثم تنقّلت معها لتعيش بعضًا من هواجسها وأفكارها، ثم انتهت تلك النهاية الفاجعة التي قادت إليها الأحداث، بكلّ ما تضمنته من فجائعية حفلت بها" التغريبة الفلسطينية"!

صاحب القصة، كما قد ترون أيضًا، اعتمد على مخزون لا باس به من المعرفة بالنفس الإنسانية، كما استعان بتجربة حياتية يومية لها زمانها ومكانها، فهي لا تحلّق في فضاء الخيال إلا لترتد إلى الواقع، ولا تتضاد مع الواقع إلا لتلتصق به أكثر، هي باختصار تحاول أن توجد مساحتها المتخيّلة الذاتية، غير أنها لا تقوم بأي تعاكس مع الواقع، بقدر ما تحاول أن تتصالح معه عبر فتحها نافذة جديدة على الرؤيا، تضيف إليه، ولا تنتقص من حدّته.

بناء على هذا كلّه، يمكننا ملاحظة أن صاحب القصة إنما يعيش تجربة فريدة من نوعها ويحاول دائمًا أن يقدّمها إلينا على أنها الواقع، علمًا أنها ليست الواقع بحذافيره، وإنما هي واقع متخيّل قد يكون أشد صدقًا من الواقع، أقول هذا لسببين أحدهما أننا في القصة نلمس واقعًا متكاملًا، وليس مُجتزءًا، كما هو الشأن في الحياة اليومية المعيشة، والآخر أنه يقف وراء القصة، كاتب ذو حساسية دائمة الاشتعال، لا يخبو لها أوار، وهو ما يمكّن صاحبها من تقديم واقع متخيل ومتكامل أيضًا.

***

بقلم: ناجي ظاهر

في إطار الجهوية الموسعة وسياسة اللامركزية آن الأوان لإبراز مؤهلات وخصوصيات المحلي في مختلف المناحي السياسية الاقتصادية والثقافية... لذلك نفتح اليوم ملفا بكرا نتحدث فيه عن "الرواية في أسفي" مع ما يثيره المفهوم من إشكالات: هل المقصود ما كتب في المدينة وحولها؟ أم المقصود ما كتبه أبناؤها والمنتمون إليها مولدا ومنشئا؟ وهل يدخل في المفهوم العابرون والمنتمون للمدينة مسكنا ووظيفة... وما مدى مساهمة المرأة في الرواية بهذه المدينة...

لا بد في البداية من الإشارة إلى مدينة أسفي عرفت كتابة الرواية منذ مطلع سبعينيات القرن الماضي برواية " الهاربة" لمحمد سعيد الرجراجي، التي صدرت في طبعتها الأولى عن مطبعة الأندلس، الدار البيضاء سنة 1973 متزامنة مع بواكير الرواية في عدد من الدول العربية كليبيا والإمارات، وعمان التي ظهرت بهما أولى النصوص الرواية بداية السبعينيات بل ومتقدمة على دول مثل موريتانيا والصومال التي تأخر ظهور أول نص روائي فيهما إلى سنة 1981 بإصدار رواية الأسماء المتغيرة لأحمد ولد عبد القادر، ورواية "مان فاي للصومالي إبراهيم هود، وقبل أن تكتب أول رواية في قطرة سنة 1993 "العبور إلى الحقيقة" للروائية شعاع خليفة وإن جاء في مقدمة الرواية أن صاحبتها كتبتها سنة 1987، ليتضح أن أسفي سبقت دولا ، ليتراكم العطاء بالشكل الذي نعرفه اليوم، حيث (قرأت منها أزيد من عشرين رواية ويصعب حصر جميع روايات المدينة)

لكن الأكيد أن روايات أسفي تجاوزت الحدود المحلية واستطاع بعضها انتزاع جوائز عالمية يكفي ذكر من جائزة كتارا (رواية جينوم لزكريا أبو مارية) واللائحة القصيرة لجائزة البوكر (تغيبة العبدي المشهور بولد الحمرية للروائي عبد الرحيم لحبيبي) وجائزة الشارقة (سيرة الصمت لياسين كني) )وجائزة منف بمصر التي احتف فيها روائيو اسفي المرتبة الأولى والثانية برواية بروزاك لسيومي خليل ورواية انتقام يناير للكبير الداديسي) إضافة إلى الظفر بجائزة الطيب صالح في السودان ب"حالة حصار" لزكريا ابومايا وغير ذلك كم الإنجازات التي حققتها روايات اسفي...

لكن مقابل هذا التراكم وهذه الإنجازات يسجل المتتبع حضورا خافتا لروائيات المدينة إذ انتظر القارئ حوالي أربعين سنة ليكون ميلاد الرواية بآسفي، فلم نعرف لحد اليوم نصرا روائيا اقدم من رواية "طريق الغرام" لربيعة ريحان الصادرة عن دار توبقال سنة 2013.، وظل الإنتاج الروائي يراوح مكانه بإصدارات قليلة... وكانت لوباء كورونا دفعة قوية للنساء في الإبداع الروائي إذا كان إنتاجهن في في الرواية خلال السنوات الأخيرة أكثير مما أنتجن قبل ذلك ، هكذا أضافت الروائية ربعية ريحان روايتين هما :

* رواية الخالة أم هاني: عن دار العين للنشر والتوزيع، 2020

*  ورواية بيتنا الكبير، دار العين للنشر، 2022.

كما أصدرت الكاتبة أسماء غريب ثلاث روايات هي رواية السيدة كركم 2019 / رواية أنا النقطة 2020 ورواية وريثة السر2022 ، كما صدرت باكورة الروائية منى الهردي "بحيرة البجع رواية الموت جوعا " عن مؤسسة اسكرايب للنشر والتوزيع بالقاهرة سنة 2022، وفي ذات السنة أطلت على القارء وراية فاطمة المعيزي "ما تبقى من ذاكرة الرماد" صادرة عن مؤسسة بيبلومانيا

ولمساعدة الدارسين على البحث الأستاذ الكبير الداديسي يضع رهن إشارتهم هذه البيبلوغرافيا الأولية تتضمن حوالي أربعين رواية لأهم روائيي المدينة مرتبة حسب سنوات الإصدار:

1. محمد سعيد الرجراجي " الهارية" مطبعة الأندلس 1973

2. حسن رياض "أوراق عبرية" مطبعة المعارف الجديدة. ط1 الرباط 1997

3. صلاح الوديع الاسفي "العريس" مطبعة النجاح. 1998

4. أحمد الفطناسي "ملح دادا" دار وليلي منشورات حوض أسفي 2003

4 محمد أفار "مجهولة وغريب: رحلة تيه و أمل" دار وليلي مراكش. 2004.

5 أحمد الفطناسي "الخطايا" مطبعة وليلي 2006

6 عبد الرحيم لحبيبي "خبز سمك وحشيش" إفريقيا الشرق. ط1 الدار البيضاء 2008

7 زكريا أبو ماريا "جلنار" جائزة الشارقة 2008

8 أحمد الفطناسي "وشم الجنوب" مطبعة نورسافي 2013

9 حسن رياض "زاوية العميان" منشورات وزارة الثقافة. الرباط 2009

10 عبد الرحيم لحبيبي "سعد السعود" إفريقيا الشرق. الدار البيضاء. 2010

11 أحمد السبقي "باب الشعبة ج1" مطبعة طوب بريس. الرباط، 2011

12 ربيعة ريحان "طريق الغرام" دار توبقال للنشر. 2012

13 محمد أفار "درب كناوة، ج1" مطبعة سفي غراف آسفي. 2013

14 محمد أفار "درب كناوة، ج2" مطبعة طوب بريس الرباط. 2013

15. عبد الرحيم لحبيبي "تغريبة العبدي المشهور بولد الحمرية" إفريقيا الشرق، الدار البيضاء. 2013

16. عبد الله إكرامن" السيد "س" ط1 مطبعة الكتاب آسفي. 2013

17 زكريا أبو ماريا " جينوم ـ مزامير الرحيل والعودة" جائزة كتارا 2014

18. محمد نادر فهمي " تراب الصيني" دار النشر كوول ن هوت ميديا 2015

19. عبد الرحيم لحبيب "يوم يبعثون" إفريقيا الشرق الدار البيضاء. 2016.

20 المصطفى حاكا"أناس عرفتهم ط1 " دار وليلي للطباعة والنشر مراكش. 2017

21. ياسين كني "تيغالين حلم العودة، ط1 " المكتبة العربية للنشر والتوزيع القاهرة 2017

22. خليل سيومي " بروزاك" روافد للنشر والتوزيع 2017

23. حسن رياض "اسفار يعقوب الأربعة" المركز الثقافي العربي بيروت/ البيضاء 2018

24 عبد الرحيم الدريوشي النيني "نهاية بحار" دار سليكي طنجة. 2018

25 ياسين كني " سيرة صمت" دار راشد للنشر ط1، الإمارات 2019

26 يا سين كني "اسفار القلوب والصوارم" مكتبة نور 2019

27 عبد الرحمان الفائز" النادل والصحف، ط1" المطبعة والوراقة الوطنية، مراكش 2019.

28. أسماء غريب"السيدة كركم" دار الفرات للثقافة والإعلام ط1 العراق. 2019

29. الكبير الداديسي "انتقام يناير" ط1 دار بلال فاس 2020

30. ربيعة ريحان "الخالة أم هانئ " دار العين للنشر.2020

31. الكبير "الداديسي قهوة بالحليب على شاطئ الأسود المتوسط" مؤسسة الرحاب الحديثة بيروت 2021

32. منى الهردي "جزيرة البجع رواية الموت جوعا" دار اسكرايب القاهرة 2021

33 الكبير الداديسي "قهوة بالحليب على شاطئ الأسود المتوسط طبعة منقحة مؤسسة الرحاب الحديثة بيروت 2021

34. فاطمة المعيزي "ما تبقى في ذاكرة الرماد" مؤسسة بيبلومانيا 2021

35. أسماء غريب "أنا النقطة" دار الفرات للثقافة والإعلام 2021

36. عبد الرحيم الخصار "جزيرة البكاء الطويل" دار المتوسط 2022

37. أسماء "غريب وريثة" السر دار الفرات 2022

38. ربيعة ريحان "بيتنا الكبير" دار العين للنشر 2022

39. الكبير الداديسي "رقصة الفلامنكو" مؤسسة الرحاب الحديثة بيروت 2023

40 عبد الرحمان شكيب "حدائق درب مولاي الشريف" سيرة روائية دار سليكي 2023

41. عبد الرحيم الدريوشي النيني "بهيجة واخواتها" دار سليكي 2023

***

 الكبير الداديسي - المغرب

...................

* رابط لفيديو طرحت فيه الخطوط العريضة لهذا المقال

https://www.youtube.com/watch?v=YMlyK3V5Jtw

مسرود الوجع الشخوصي ومسافة تعالقات المواطنة المأزومة

توطئة: إذا شئنا القول التقويمي في حدود مستوى استعدادات الأفعال في رواية (سواقي القلوب) لإنعام كجه جي ـ مسرودا في أشكال الخطاب ـ فذلك لأن الوظائف والأحداث والشخصيات تستمد عناصرها السردية بموجب وضعيات حال (السارد المشارك) ـ متعديا ومقيدا ـ بعلامات العوامل المتفصلة من جراء معطيات الخروج بالموضوعة إلى مواقع متمفصلة من حركية الأدوار العاملية، والتي تحددها وقائعها رؤية متوحدة ومتغايرة من الأوضاع الشكلية من فضاءات الرواية.. لعل القارىء إلى علامات الرواية الدلالية ومختلف مشاربها الوحداتية المفصولة ما بين اختلاف المكان ودلالات الإيحائية والصفاتية، بأن هناك ثمة ضمير أفعالي يتماشى ويتوازى ويتساوى إلى جانب الأسباب والمبررات التي جعلت من مستوى التمايز الشخوصي منظورا متعددا ومتوحدا في استقبال ملامح الغايات المصيرية المشتركة، لذا لا تحتل الأغراض الشخوصية في دائرة موضوعتها سوى التغيرات الشكلية الطفيفة التي تعتمدها الرواية بشكلها الزاخر بحكاية (الوجع العراقي؟) بالأحوال والمراحل والانساخ عن ويلات الواقع المأزومي في مستوى لا تغيب عنه دلالة الاغتراب والتمييز وديمومة الانعزال خارج قهرية الأوطان.

ـ الأنا العاملية ومحكيات الانفصال والاتصال بلغة المسرود

تواجهنا موضوعة الرواية بالانفكاك والتجسيد وصولا إلى البعد الأسمى في التوصيف نحو مغزى الغايات المواقعية المتصالبة بوصفها دلالات للأنا وللأخر كوسيلة للعبور أو الانقطاع عن عملية الوصل الفعلية. تنفرد استهلالات البداية الروائية بلبوس تيار الوعي أو المسرود المونولوجي ـ مكونا ولونا وتدويرا ـ نحو عكس تداعيات المؤشرات القصوى من المحصلة الحكائية المبثوثة في تفصيلات الوازع (المتن ـ المبنى) المحصل بإشارات فعلية من خصوصية هذه العلاقة الاستهلالية من عتبات النص ـ تداخلا إظهاريا ـ بالشكل الخيوطي الذي راح يمكنه تشخيص وتقليب الإشارات والأحوال الوقائعية في محاور السرد، إلى جملة اجتزاءات في سرد الأحداث (الاستباقية ـ تعاقبية الأحداث تحولا) لذا تركت فينا الأحداث الروائية ذلك الأحساس الذائقي بأن كجه جي تود تقليب الزمن بضمير الأنا الشخوصية المشاركة في أطوار خاصة من جرعات التداعي كوسيلة مختلفة في موارد الحكي.

1ـ الفاعل الشخوصي: مخاطبة المسرود واستعادة المكتوم:

فمن خلال إطار فاعلية المروى مسرودا، نتعرف على حالات الكشف بالوسائل التقنية الخاصة بماهية السارد المشارك، والذي لم نتعرف على هويته في كيفيات الأحداث السردية، سوى كونه منفلتا من قيود التسمية والكنية الاشارية حول مصدرية التحامه في إطار المعرف الشخوصي والأحوالي في سيرة الحكاية الروائية. لذا وجدناه من جهة غاية بالأهمية بوصفه كأنذلاق الحبرر فوق لبوس ثوب الرواية متطاولا في رصد الهواجس وتعريف منطويات المحابس السرية لأفئدة الذوات، والمبادر أولا في أستشعار الفاعلية الجروحية واللذية في بواطن الأفعال.. فهو من جهة أولى بمثابة (القوس والوتر والانقضاض) ومن جهة ثانية كحالة الاتجاه من المغلق إلى المفتوح، كالهدم والبناء، كنهرا هادرا في الجداول الذاكراتية الآسنة. ولذلك وفي سبيل ذلك احاطنا لهذه الوحدات الأولى من الكشف واللاكشف في شعاب الاستقبال و التلقي: (أمضيت زهرة سنوات عمري وأنا أنتظر هذا الإيباب وأرسم له، على صفحة الغيب، مئات الرؤى السعيدة، دون أن تكون بينها الصورة القاتمة التي أراها الآن ـ دخلت إلى الوطن، ذات ضحى نسياني ساخن ـ ثلاثة أحياء في الداخل، وفوق رؤوسهم يقبع، على سقف السيارة، تابوت ملفوف ببطانية بالية. /ص7 الرواية ) تتخذ الأحوال المكانية والزمانية والعاملية وجودا مستقلا في علاقتها بالفضاء المعطى بالحالة المتمركزة بالفاعل المحور المباشر، وبهذا يكون هو السارد وقد ترجم هذا الفضاء المعطاة بعين (الاتصال = الانقطاع) متخذا من زاوية رؤية الواصف، الشخصية المشاركة والمتواجدة ـ الشاهدة، فأصبح الفضاء الاستهلالي من الوحدات (تعليق الراوي ـ مسافة الرؤية ـ المبأر تأثيثا) حيث استطاعت عين السارد تتمت المتأمل للفضاء (المقيد من زمن الماقبلي: أمضيت سنوات .. وأنا انتظر.. هذا الإياب وأرسم له = اتصال بعلاقة ناظمة ـ السارد بالامتداد (النصي) وتجد الاشارة إلى أن مستوى (الذات العاملة) ها هنا حلت في حدود التلقي الناتج عن حصيلة الدلالة المتصلة بالذوات الفاعلة: (ثلاثة أحياء في الداخل ـ فوق رؤوسهم يقبع) الافتراض المعادلاتي هنا يمنحنا شكلا ترميزيا يظل مرتبطا بأحوال البنية الاجرائية (الثيماتية) للرواية في شكلها التحليلي، وذلك ما يجعلها تكتسب مقصديات خاصة في محددات موضوعة الرواية، لذا فإن هذه الوحدات من الاستهلال جاءتنا واردة بخطاطة مؤولة في كون موضوعة الحكاية تبص لذاتها (أدلة علاماتية) خاصة ومخصوصة في علاقة وصياغة وأداء رؤية عين الواصف بالمسرود النصي الكلي: (دخلت الوطن = العالم الفنائي من حدود مقصدية الرائي / في سيارة أجرة تنقل ثلاثة ركاب = المستوى الدينامي بالدليل / جالسا إلى جوار = فضاء علاقة ماثلة /في المقعد الخلفي تكومت كاشانية خاتون على نفسها = دليلا مفردا بتأجيل المقصدية / مثل صندوق عرس عتيق = الدليل الاستهلالي بين مدار الذات الواصفة ومؤشرات الرؤية المرتبطة) وقد تكون حالة الانتقاء هنا انطباعية نوعا ما، ولكنها تلخص بالضبط حدود الدليل الجزئي إلى أسانيد المدلول المداري في الرواية، وبعد دخولنا إلى سياق العالم الروائي ذاته، نلاحظ الدليل الاستهلالي في بداية وحدات الرواية كان مؤولا لمدار كافة تعالقات النوعية واللانوعية من السياقات العامة والخاصة المرتبطة ببعضها البعض.

2ـ المظاهر المؤنثة وأدلة الواصف الأنثوية:

في الواقع استندت إنعام كجه جي إلى ضمير المذكر عندما حولت من ضميرها المؤنث إلى مرونة ذكورية متصلة بحياة شخصيتها الساردة الذكورية، ولكن الواقع الإجرائي في تعيينات الدور الذكوري لساردها الشخصية لا تؤشر بأي حالة ما تعكس دوره الذكوري إطلاقا، فهناك إيحاءات ظلت تعكس بأن وراء هذا السارد ثمة ملامح لأنثى في مجمل أوصافها وشرائط خصوصيات القابلية المستحالة على أن يكون هذا السارد ذكرا، رغم ما تسعى إليه إنعام من فحولة ساردها المؤنث: (حيث لاحت لي، بعيدا عن يمين الطريق الصحراوي، نخلتان تصفق سعفاتهما مع لفح ريح غبراء، فاض أمامي حتى كاد ينز دمعا من عيني، تذكرت المرات القلائل التي بكيت فيها. /ص8 الرواية) لعل إنعام لم تجرب العيش في جلباب ومهام ومشاعر الرجل جيدا، فهذه الوحدات لم تكن معنية بمشاعر ذكورية تماما، فالرجال لا تبكيهم الأحوال العابرة إطلاقا ولا حتى الأسوأ منها. فالكاتبة قد لاحظناها في مواضع عديدة من روايتها لم توازن بل لم تحسن رسم مظاهر الرجل في إطار شرائطه الحقيقية، لذا ظل ساردها المشارك يبدو حينا مخنثا وحينا وكأنه شبح فتاة تهوى دور الرجولة المفتعلة، على أية حال لا يعنينا من أمر هذا السارد المؤنث سوى حدود تمظهرات السرد والشخوص من خلاله أحيانا. أردت أن أقول أن أحداث موضوعة الرواية (سواقي القلوب) رواية تتحدث حول مواجع عراقية مؤثرة حقا، خصوصا فيما يتعلق بشخصية كاشانية العجوز الأرمنية ومشاعرها الحسية إلى مدينتها العراقية الموصل، كذلك ما جرى لشخصية ساري الذي كانت تعصف به أهواء أحاسيس الأنوثة أكثر من الرجولة ونجوى وسراب وزمزم.

ـ تعليق القراءة:

ما يؤكد رجحان دليل الرواية نحو إيجابية الذائقة القرائية، هو حفاظها على طبيعة ملامحها الإنتاجية الموضوعية المؤثرة.. وعلى هذا النحو لا أزعم لرواية (سواقي القلوب) بوصفها فعلا روائيا متفردا لا طبعا، فقط كون حكايتها حلت تعبيرا مشروطا على سلامة وصحة المشاعر الأكيدة لمواطنة عراقية تحيا في باريس وتكتب رواية معبرة عن مدى صلاحية وديمومة مشاعر المواطنة عند هذه الكاتبة لبلادها الأم. فالتفكير في دلالات الرواية يحملنا إلى التعاطف مع مقصديات الذوات التي تحيا بعيدا عن أوطانها، لولا أن الكاتبة لا تبتعد أحيانا عن عملية تفريغ وتخفيف من انفعالات حسية تذهب في أوقات أصطدامها مع ظروف منكدة تواجه هذه الأفراد في حياتها اليومية، وليس بالضرورة القصوى من أن تكون الأبنية الدلالية في هواجس النصوص مظاهرا ملازمة لكل حالات الكاتب الطبيعية والشخصية. عموما تبقى رواية (سواقي القلوب) صورة سردية حققت لقارئها فسحة قرائية جمالية محكمة في عناصر انظمتها الدلالية والاسلوبية صعودا نحو تراجيديا تراتيبية مصيرية قاهرة جسدت كفاءة الفعل الروائي ضمن مشروعية مسرودة الموجع الحسي في القوالب الشخوصية ومسافة تعليقات حسية المواطنة الصورية المؤطرة بأقصى إحباطات الوطن واغتيال ظلال الأحاسيس الكتابية الطازجة والمعلبة والجادة والمفتعلة. لذا تبقى مغامرة التجارب الروائية الناضجة مختلفة ومتراوحة، فمنها من ظل أنموذجا عبر آليات، وموضوعة التجربة ومنها من تكاد أن تكون عبارة عن ردود انفعالات ومحاكاة تجملها اللغة الكنائية ومظاهر أصحاب النصوص الخارجة عن حقيقة أحكام القيمة داخل جمال عوالم النصوص وجديتها الابداعية المؤثرة في الذوق والذائقة القرائية الرصينة.

***

حيدر عبد الرضا

في المثقف اليوم