قراءات نقدية

قراءات نقدية

إحدى مهام الرواية الحديثة هي نقل الواقع المعاش برؤية فنية حداثية تحمل طابع التشويق، يكون الواقع فيها اكثر تقبلاً لدى القارئ، وهذا ما سعى اليه الروائي علي الحديثي في روايته (وجه في كرة) الصادرة سنة 2019 عن دار نينوى.. قصة ربما تتكرر عبر متوالية حياتية في اروقة المحافل الاكاديمية في مشرقنا العربي، لكنها اختلفت هذه المرة بالرؤية الناضجة، وارتباط النص مع الواقع بطريقة عضوية، كقول الفيلسوف الفرنسي بول فاليري: (الذئب مجموعة من الخراف المهضومة).. اضافة الى انتهاج الروائي اسلوب ربما يكون صعباً على كثير من الكتاب الذكور، حين تقمص دور المرأة في كتابة نصه، تحدث بصوتها، وعبر عن مشاعرها واحاسيسها وهواجسها، وهذا ما اشار اليه الكاتب الروسي مكسيم غوركي بقوله: (ان الكاتب الذي يتحدث عن الطفولة، لا يتحدث بلغة الاطفال بحجة الصدق، وإنما يجب عليه ان يتحدث بإحساس الطفولة وبالطريقة التي يفكر بها الاطفال).. لكن علي الحديثي استثمر البطلة التي جعل منها ساردا ضمنيا مثقفاً واعياً، كي يمرر من خلالها بعض افكاره وآرائه بالحياة بصورة عامة والواقع العراقي بشكل خاص.3461 علي الحديثي

شابة جامعية مثقفة ذات ماضي خالي من اي تجربة عاطفية، يقودها قدرها بأن ترتبط بعلاقة حب ناضجة لكنها متأرجحة في نفس الوقت مع طالب جامعي مثقف، لتكون هذه الواقعة العتبة السردية المركزية، والشاخص الذي يدور حوله النص فيما بعد، والذي اخذ البعد العاطفي والنفسي حيزا كبيرا فيه، عبر مونولوجات داخلية واحلام يقظة وتداعيات حرة عاشتها البطلة في محاولة منها للتأقلم مع هذه العلاقة الشائكة التي اَلت في نهاية المطاف الى الفشل، حين اجبرها اهلها على الزواج من ابن عمها الشاب القروي البسيط، الذي شكل الفارق الثقافي وعلاقتها مع باسل حاجزاً نفسياً لديها في تقبله كزوج لها، لكن القارئ سيجد ان النص انحاز في نهايته الدراماتيكية الى الواقع العام اكثر من انحيازه لطبيعة العلاقة الصادقة التي ربطت البطلة (سما) مع حبيبها (باسل) فقد شكل الاحتلال الامريكي للعراق 2003 محورا اَخر توازى مع النص وتقاطع معه في بعض محطاته المفصلية وأثر في نهايته بشكل مباشر، لذا تعد رواية (وجه في كرة) احدى مظاهر ادب ما بعد التغيير، واحدى المخرجات السردية التي حاولت ان تعالج الواقع العراقي المأزوم الذي خلفه الاحتلال الامريكي وتداعياته الاجتماعية والنفسية والسياسية، حين ارتبط النص بالاحتلال من خلال انخراط باسل في مقاومة الاحتلال، وتعرضه للاعتقال والسجن بسبب موقفه هذا، لتكتشف البطلة ان ابن عمها القروي (فهد) قد حمل نفس الهدف الذي امتلكه حبيبها باسل حين التحق هو ايضا في مقاومة الاحتلال وتعرضه للاعتقال والسجن، هذا التزامن في المواقف ربما خفف من وطأة النهاية الحزينة للروية.

اهم محاور النص:

1-العنونة: يشكل العنوان العتبة الاولى لأي نص، وهو في دلالته يمثل نصا موازيا لمتن الرواية، ومفتاح لفهم قصديتها، (وجه في كرة) هو دلالة على ارتباط بطلة النص وجزء من احداثه بكرة المنضدة التي احتفظت بها البطلة كذكرى من حبيبها باسل الذي اعتاد على لعب كرة المنضدة في اروقة الجامعة، لتذهب هذه الكرة الصغير في حجمها الكبيرة في ما تحمله من مغزى ورمزية في رحلة مع البطلة، وتشكل ثنائية معها وبديلا عن باسل في غيابه، عبر تيار وعي باطني، واستحضار لماضيها الجميل معه، استخدم فيها الروائي تقنيات (المنلوج الداخلي والاسترجاع والاستذكار والقفز والتداعي الحر) لتشكل الكرة رمزية لتقلب هذه العلاقة وعدم استقرارها وحضور طاغي وقلِق لبطلها باسل في ذاكرة البطلة سما: (وجهي في كرة المنضدة البيضاء التي يلعب بها الشباب في زاوية من زوايا ساحة الكلية تتقاذفها الركتات تتدحرج فوق الارض بعيدا عن اطرها المحددة لها، الخروج عنها يعني هناك خاسر، فمن الخاسر في تدحرج رأسي خارج اطار احلامي المعتمة ؟).

2- اللغة: كانت اللغة الوسيلة الناجعة التي استخدمها علي الحديثي في تخريج نصه، والاداة التي مكنته في ايصال ما يريد حين اختار لنصه بطلين مثقفين يمتلكان وعياً مكتسباً مكنهما من التعبير عن مشاعرهما وما يدور من حولهما بطرقة واعية.. مما جعل من وجه في كرة رواية نخبوية في لغتها وطرحها ومعالجتها للواقع، اقتربت لغتها في بعض محطاتها من القصيدة النثرية كما في هذا النص: (اتوه بين متاهات الزمن، اتلمس في شعابه بحثا عن جدار اتكئ عليه، لم يعد صوتي صدى اتكئ عليه.. لم يعد لصوتي صدى انتظره.. اوراق شجرتي تتساقط، اخشى ان يتوقف عزف الهواء في حديقتي يوما، ولا شيء يبقى سوى فراغ يعوي في العدم).

3-القرين: تأسس البناء الهرمي للرواية على مجموعة من العلاقات الاجتماعية التي مثلت نمطين.. منها علاقات اجتماعية ولدت مع النص وشكلت جزءا من تركيبته البنيوية، مثل (علاقة البطلة بأبيها وعلاقة البطلة بأختها سمر) وأخرى مثلت علاقات طارئة على النص لكنها محورية في تركيب وسير احداثه مثل (علاقة سما بباسل وعلاقة سما بأبن عمها فهد وعلاقة باسل بفهد).. من بين هذه العلائق الانسانية، شكلت علاقة باسل مع فهد مفارقة حياتية وسردية جعلت منه (قرين ايجابي) ساهم في تغيير حياة فهد نحو الافضل، حين قادتهم الصدفة الى ان يشتركا في نفس الغرفة داخل المعتقل، مما اتاح لهما ان يتبادلان همومهما وتطلعاتهما، واستثمر فهد وجوده مع باسل بأن جعل منه مرشدا له ومعلماً ساهم في تثقيفه، ومنحه جزءً من وعيه كما في هذا الحوار بين فهد وسما يشير فيه الى التأثير الايجابي لباسل في حياته: (فأخذ يحدثني عن امور شتى.. الحب.. العلاقات.. الحياة.. تعلمت منه فجعلت نفسي رهينة بين يديه اسير معه كمريد صوفي مع شيخه، وصرنا متلازمين حتى لقبنا بين المعتقلين بالصنوين.. كانت لدينا كتب في المعتقل فكان يحثني على ان اقرئ).

4- التشيؤ: ارتبط أبطال الرواية مع الاشياء التي حولهم بطريقة حسية اثرت كثيرا في ادائهم وردود افعالهم وتصوراتهم على الواقع المعاش، وقد بدا هذا جليا في طبيعة الاماكن التي زارها بطلا النص، وارتباطهما الحسي والوجداني معها، كما في هذا النص: (نسير في باب المعظم.. شارع الرشيد.. يخبرني عن الاماكن التي نراها تمتعنا بمشاهدة سوق الانتيكة نقلب الحاجيات العتيكة التراثية التي تحمل عبق بغداد).. وهناك علاقة وجدانية وحسية ربطت سما بغرفتها، كما في هذا النص الذي يمثل تداعي حر للبطلة: (انكرني اثاث غرفتي تتهامس قطعه فيما بينها مستغربة من هذا الوجه الجديد الذي عاد طافحاً بسرور مشوب بقلق).. الا ان علاقتها الفريدة مع كرة المنضدة ذكرى حبيبها باسل، شكلت اهم مظهر لهذا التعالق الحاصل بين البطلة واشيائها: (ضممت الكرة الى صدري.. احسست بأصابع باسل التي لم تزل حرارتها فوق الكرة تلامس نهدي).. هذا التعالق الحسي بين البطلة والاشياء المحيطة بها، عبرت عنه الروائية الفرنسية ناتالي ساروت (بالتشيؤ) وعرفته على انه: (مجموعة من الردود الحسية والنفسية بين الانسان والاشياء).

***

احمد عواد الخزاعي

لأنها مرآة النفوس وصدى الأرواح ثم إلتقاء العقول، لأنها عالم صغير يتجول في عالمنا الكبير، ونحن بحاجة لرؤية من يتجول بيننا بصمت دون أن يشي بأسرارنا أو يحاكم تصرفاتنا. فقط الرواية تمنحنا هذا التجوال الحر الصامت وغير المرئي، لأنها عالم موازٍ لحياتنا، وهناك رغبة دفينة في الذات البشرية للتحرر من ذاتيتها والرحيل إلى مكان آخر، الجلوس مع أشخاص آخرين، رؤية وجوة أخرى ولغات غريبة، لأننا وبصراحة بسيطة نضجر بأحيان كثيرة من ذواتنا وليس من الآخر فقط؛ نحن ببساطة نحب أن نرى مسرح داخلي باعماقنا لا نكون به الممثلين ولا المخرجين ولا المنتجين، نكون به ذلك المتفرج الصامت السلبي والذي يهرب من الواقع أو يريد ان ينساه ولو لبضعة ساعات، يحتاج أن يكسر ذلك الطوق الذي يفرضه عليه الواقع، فتحرره الرواية من ذلك الواقع، تكسر قيده ولو لفترة قصيرة وذلك بغض النظر عن إن كان سعيداً في حياته أو حزيناً، إنها حاجة نفسية روحية وعقلية وإلا فلماذا أحب البشر ومنذ القدم وإلى الأزل القصص والروايات والأفلام؟ لأنها كسر مؤقت للقيد، لأنها تجعلنا نعيش بعوالم أخرى دون أن نتحمل مسؤولية تلك العوالم، دون أن نكون أبطالها ولا جبنائها، أن نكون هناك ولكننا لسنا شركاء.

ولكن ليس كل رواية كاسرة للقيد، وليس كل قصة آسرة للروح، وهنا تكمن براعة الكاتب الحقيقي، أو بالأحرى هي ليس براعة بل قدرة عفوية وموهبة تلقائية بأن يكون ذلك الكاتب جاذب للقاريء مثلما يكون ذلك الفيلم جاذب للمشاهد أو يترك بصمات الملل على نفسه.

وكلما كان الكاتب على علاقة وطيدة مع ذاته، ويمتلك فهم عميق للذات بذلك القدر فقط تكون روايته جذابة لأنه ينزع القشور الواحدة تلو الأخرى، يحلل النفوس دون مواربة ودون ضعف في الوصف أو ركاكة في التعبير، تتماوج الأحداث بين الأسطر كأنها سمفونية خالدة الكاتب فقط يُتقن إدارتها ويدرك متي يتغير ذلك اللحن ومتي ينخفض أو يزداد صداه أو حتى متى يصمت.

في كل الفنون هناك نافذة صغيرة تقول للإنسان: هيا أخرج معي من ذاتك، هيا، هناك عالم آخر لتنظر إليه من خلالي، هيا لنذهب بجولة إلى مكان لا شيء به سوى متعة النظر والفكر والتأمل والابتعاد عن النفس والذات والآخر، ومن ضمنها وبإمتياز الرواية.

لذلك لا يجوز أن تكون الرواية سطحية أو تافهة لأنها تستخف بعقل القاريء قبل أن تُشير إلى ضعف الكاتب، إنها المصنف الأول في الأدب الذي يجب أن يكون عميقاً تحليلياً، بثقافة راقية، بشعور إنساني، بفهم ناضج للذات البشرية؛ وربما تكون الرواية بسيطة ولكنها شفافة تمس الفكر والروح، وفي هذا وذاك نتجول جميعاً في عوالم الرواية التي تتجول بدورها في عالمنا، تُصور، تُحلل، تُخاطب، تُهاجم، تُعلم الحب وربما تزرع الكره، إنها مرآة حياتنا، وصدى أصواتنا، وهي واحة الكاتب وجزيرة القاريء.

***

د. سناء أبو شرار

للاديب الشاعر د. خليل حسونة

"رحلة الشعر: أنغام الفرح وألوان الأمل"

عندما تشرق الشمس وتتفتح زهور الصباح، تتنبّه الروح لحياة جديدة مليئة بالأمل والإشراق، وتغرق الأنوار الصباحية كل نفس تتنفسها بجمال وسحر الطبيعة، فترقص الشمس الطليقة في سماء الصباح وتتلألأ النجوم كألوان ساحرة تملأ السماء، وهذه الصور الشاعرية الخلابة تجسّد حيوية الصباح وتنبعث منها الإشراق والأمل الذي يغمر القلوب والأرواح.

تعد الشعرية واحدة من أعظم التعابير الفنية التي تستخدم لنقل الأفكار والمشاعر بأسلوب جميل ومبدع. في هذه القراءة، سنقوم بإجراء قراءة لثلاث قصائد شعرية، وهي "أنّات الهوى"، "رعد مباغت"، و"الصب مفتاح القلوب". سنستعرض المواضيع والأفكار المطروحة في هذه القصائد، ونحلل التقنيات الشعرية المستخدمة بهدف فهم واستيعاب عمق الرسالة التي تحملها كل قصيدة. لنغوص في عالم الشعر، فهو روح الفن وصوت القلوب، يحمل في طياته العاطفة والجمال بأسلوبه الجذاب والمبدع. سنرافقكم في رحلة قراءة نقدية لثلاث قصائد شعرية للأديب الشاعر د. خليل ابراهيم حسونة، تتألق فيها كلمات الشاعر وتتراقص معانيها بين أبجديات الحروف. أنّات الهوى تعبث بالقلوب، كأنها نغمة موسيقية تعزفها أوتار الشوق. تأخذنا في رحلة مليئة بالأحاسيس والأفكار المتدفقة، نكتشف فيها أعماق العاطفة ونغرق في بحر الحنين. رعد مباغت يهز الكون، صوته كالصاعقة تنبهر له القلوب. يعبث بأوتار الشوق ويثير الشغف، وكأنه نداء يدعونا للاستمتاع بأمطار العاطفة وأشعة الأمل المشرقة. وأخيرًا، الصب مفتاح القلوب يأخذنا في رحلة ساحرة إلى عالم النهضة والتجدد. يفتح بوابة الفرح ويملأ قلوبنا بألوان الإلهام والروحانية. فلنستقبل كل صباح بفرحة البدايات ونستثمره لصقل ذواتنا وتحقيق الأحلام. هي رحلة فريدة ومثيرة نعيشها عبر صفحات هذه القصائد، حيث نتذوق رونق الشعر ونتأمل في جماله وعمقه. فلنتشارك سويًا في هذه التجربة الساحرة ونستمتع بألوان الكلمات وأنغام الشعر التي تنساب من القلب إلى الروح، ولتبقى الشعرية همسًا يملأ حياتنا بالإلهام والجمال.

في لحظات شفافة، يرقص الشوق وتتنهّد الأنفاس، بين أنات العشق وأنين الهوى المشتعل. تشبيهات مرهفة وصور شعرية تتجلى، تأتي بلغة رقيقة تلامس القلوب الحالمة والمتعطشة. في قصيدة "رعد مباغت"، يتوهج الشغف في الدروب، مثل برق يسطع وسط السماء السوداء العميقة. صور قوية تتلاطم وتشبيهات مدهشة تستفز، تأتي بلغة فاتنة تجعل الأرواح تتجدد وتتنفس. أما في "الصب مفتاح القلوب"، تبزغ الفرحة بألوان الصباح، وتتسامى الروح بأشعة الشمس الدافئة الباهرة. صور طبيعية تتجلى وألوان تتفتح وتستشرق، تأتي بلغة بهية تسرق الألباب والأحلام الجميلة. فتكون القصائد قمر الشعور وحديقة المشاعر، تنثر عبير الجمال وتسكب الهمس في المدارك. فلنستمع ونستمتع بتلك الحكايات الشعرية، ونبحر في أعماق الكلمات ونتأمل في الجمال الخالد.

التقنيات الشعرية المستخدمة في قصيدة "الصب مفتاح القلوب" تساهم في إيصال فرحة الصباح والتجدد بشكل قوي ومؤثر.

في قلبي يولد الصباح حكايةً،

تعانق الروح وتحيي الأمل بلذة

تتغنى الأنغام والكلمات تلتحم،

فرحة الصباح تفيض بروعة وسحر

من بين هذه التقنيات الصور الطبيعية. يتم استخدام الصور الطبيعية لوصف جمال الصباح وبداية اليوم الجديد. يمكن أن تكون هذه الصور تصويرية أو رمزية، مثل تصوير الشمس الطليقة، أو غروب النجوم، أو زهور الفجر. تعزز هذه الصور الإحساس بالحيوية والإشراق في القصيدة. الألوان: يتم استخدام الألوان لتعزيز الجو المفعم بالحياة والأمل. يمكن استخدام الألوان الزاهية والمشرقة مثل الأحمر والأصفر لوصف جمال الصباح والإشراق الذي يحمله. تساهم الألوان في توسيع الخيال وإيصال الرسالة الإيجابية للقارئ. التجديد والأمل: تركز القصيدة على فكرة التجديد والأمل الذي يأتي مع بداية كل يوم. تستخدم التعابير والكلمات التي تعكس التجدد والإيجابية مثل "فرح ساطع" و"بهجة الروح" لنشر روح الأمل والتفاؤل.

بشراقة الصبح تتجدد الحياة،

تتناغم الأرواح في فرحة تملؤها البهجة

في قلوبنا تتسامى الأماني،

تزهر الأحلام بألوان الإبداع والإيجابية

في لحظات شفافة، ترقص أشواقنا وتتنهّد أنفاسنا، ما بين أنات العشق وأنين الهوى المشتعل. تتجلى تشبيهات مرهفة وصور شعرية تلامس قلوبنا الحالمة والمجتلية. تنغمس الألوان في كلماتنا، تملأها حيوية وأمل. يشدنا الشاعر بخيوط أحرفه الجميلة ويأخذنا في رحلة مليئة بالعاطفة والجمال. نغوص في بحر الشعر، نستمتع بتلك اللحظات الساحرة التي تلوّن بها حروفنا وترتقي بأفكارنا. تنساب الكلمات بإيقاعٍ مفعم بالحيوية، ترسم لوحات فنية تجذب أبصارنا وتحاكي روحنا. في قصيدته "الصب مفتاح القلوب"، ينتقي الشاعر الصور الطبيعية لتصوير جمال الصباح وبداية اليوم الجديد، كأنها لوحات فنية تعكس رونق الحياة وإشراقها. ينسج الشعر بألوانٍ زاهية ومشرقة، تمنحنا شعورًا بالحيوية والتجدد. يتناغم الشاعر مع إيقاع الكلمات ويرتبها ببراعة، فتنبض الأبيات بالنغمات الإيجابية التي تهز قلوبنا وتثير شغفنا. ومن خلال شعوره الشخصي العميق، يعبر الشاعر عن فرحته وتجدده بطريقة ملموسة وصادقة، تمنحنا الفرصة لتجربة تلك المشاعر العميقة والسعادة الباهرة. تنتشر العواطف في أرجاء القصيدة، تغوص في أعماقنا وتلمس أوتار قلوبنا. ينتقل الشعر إلينا بلغةٍ فنية معبرة، تستخدم التشبيهات والصور البصرية القوية، لتنقل لنا عالمًا مليئًا بالمشاعر والأحاسيس. تتجلى روح الشاعر في كلماته، حيث يصوغ تجاربه الشخصية بأناملٍ مبدعة، ينسج فيها ألوانًا من الحب والألم والأمل. يتراقص الإيقاع والتناغم في أبياته، كأنها نغمات موسيقية تتناغم مع همس الحروف. يستخدم الشاعر الصور البصرية القوية، التي تأخذنا في رحلة خيالية إلى عوالم مختلفة. تتفاعل الكلمات وتتلاقى في تناغمٍ مدهش، يحملنا عبر الزمان والمكان. بلغته الشعرية الجميلة والمعبرة، يصنع الشاعر حكايةً تشدنا إليها وتلمس وجداننا. تتسلل الأبيات إلى أعماقنا، تحرك أوتار الشجن والفرح، وتشعل فينا نيران الشوق والإلهام. إن هذه المقدمة الشاعرية تأخذنا في رحلة سحرية إلى عالم الشعر، حيث ينبض القلب بكلماته الجميلة والعميقة، وترتقي الروح بين صفحات الأبيات.

بأألوان الفجر يستيقظ الروح،

تتفتح زهور الصباح في وجه السماء

تتلألأ الشمس بضياءها الساحر،

تنساب أنوار الصباح في كل نفس تتنفس

أن الشمس الطليقة ترقص في سماء الصباح، والنجوم تتلألأ كألوان السماء الساحرة. الزهور تتفتح برقة وجمال، محملةً بعطر الفجر الندي. هذه الصور تعزز الإحساس بالحيوية والإشراق في قصيدتنا الشاعرية. كما يتم استخدام الألوان الزاهية والمشرقة مثل الأحمر والأصفر لوصف جمال الصباح والإشراق الذي يحمله. فالفجر يشع بألوانه الزاهية، والشمس ترتدي لباس الأحمر المشع، والسماء تتلألأ بالأصفر الساحر. تساهم الألوان في توسيع الخيال وإيصال الرسالة الإيجابية للقارئ. فيما يتعلق بالتجديد والأمل، تستخدم القصيدة التعابير والكلمات التي تعكس التجدد والإيجابية. فنحن نجد كلمات مثل "فرح ساطع" في ضياء الأمل يتجسد الصباح، تتفتح أزهار الفرح في أرواحنا النابضة في قصيدة "بهجة الروح" .

أنا روحٌ تتراقص في ألوان الصباح،

تنساب بهجةً في دمي وتسري في شراييني

ترتسم السعادة في عينيّ،

وتنبض بهجة الروح في صميم وجودي

تتناثر أشعار الأمل كنجومٍ متلألئة في سماء قلوبنا، تنير دروب الحياة وتجلب السعادة. إنها رسالةٌ تحمل بين طياتها تجدد الروح وبدايةٍ جديدة في كل فجر. ترقص الأبيات بإيقاعٍ متناغم، كأنها أنغامُ المشاعر المتجددة، تهمس بالأمل وتعزف سيمفونية الحياة. يرقص الكلمات بخفةٍ وجمالٍ، تنساب من بين أصابع الشاعر كنسماتٍ هادئة، تروي أحلامنا وتنثر البهجة في دروبنا. وفي هذه القصيدة، ينبض الشاعر بالشعور الشخصي بالفرحة والتجدد، كأنه أوراق شجرٍ تتلون بألوان السعادة والتفاؤل. وها قد أتيتُ ببيتين يزيدان تألق هذه الفقرة الشاعرية

في جنبات قلبي ترقص الأملُ

وفي دمي يتجددُ العمرُ

فلنحتفل بفجرٍ جديدٍ يبث الحياة

وبأحلامنا سنرقص على أوتار البهجة والتجدد. الأديب اد. خليل حسونة هو الشاعر النابض بالحياة والعشق، يرسم من حروفه لوحة تنبض بالألوان والعبير. فرحة، ألوف الكلمات تتدفق من قلبه المتجدد، يغني عن بداية يومٍ جديد وأملٍ مرهف، وفي قصيدته ترتقي الروح وتتألق بحرفٍ مميز، أنثى الشعر تغوص في بحر الأحاسيس العميق، في ي رحاب الشعر تنساب الأحاسيس بسلاسة، تتلاقى الأرواح في انسجامٍ متجدد. يتواصل الشاعر والقارئ في عبور عاطفي، فتتناغم المشاعر وتنثر الروح بالألوان، ففي قصيدة "الصب مفتاح القلوب" نشعر بأننا في رحلة شعرية مشوقة وساحرة، تأخذنا إلى عالم الفرح والتجدد المذهل. يستخدم الشاعر التقنيات الشعرية الرائعة، تنجح في إيصال شعورها بالفرح والتجدد. بأسلوبٍ ملموسٍ وكلماتٍ معبّرة، تنبض القصائد بالحياة والعاطفة العميقة. تعيد لنا الإلهام وتنمّي فينا الأمل. فتجلى الشعر في قوته وروعته، بقدرته على إيقاظ المشاعر الحية، وترك أثره العميق في قلوب القراء. إنها قصيدة تستحق الاستمتاع والتأمل. فتذكّرنا بأهمية الصباح والبدايات الجديدة. تأخذنا في رحلةٍ نحو التجدد والتأمل، . بكلماتٍ متناغمة ترقص على أوتار القلب، ينمّي فينا الحس الجمالي ويحيي الروح الشاعرية. تلهم وتثري الحياة.

الديوان من منشورات دار فنون للطباعة وللنشر والتوزيع، الجيزة، جمهورية مصر العربية، الطبعة الأولى 2019

***

زكية خيرهم

بطل براءة أيوبي يطلق صرخة احتجاج في وجه المجتمع في رواية ربطة عنق حمراء الصادرة عن دار الآن ناشرون وموزعون/2023

"زوائدي كثيرة ومنتشرة فوق مختلف أصقاعي ،فأنا أملك ستة عشر إصبعا موزعة بالتساوي بين قدمي اليمنى وقدمي اليسرى،أضف إلى ذلك الغرابة التي تطبع مشيتي بحيث أعجز تماما عن السير سريعا بطريقة ملفتة ومثيرة للشفقة ممن يملكون قلوبا بيضاء ،وما أقلهم!"

هكذا يعرف غريب بطل رواية ربطة عنق للكاتبة براءة أيوبي عن نفسه. غريب الذي لم يستطع طيلة صفحات الرواية بسبب اغترابه أن يشكل هوية ذاتية متجاوزا تشوهه وإعاقته البدنية بسبب نظرة المجتمع وعدم تقبله له بل وتعرضه للتجاهل والتهميش والنفور منه حد الإقصاء خارج دائرته من قبل أفراده.

وحسب قيس النوري فإن الاغتراب " الانسلاخ عن المجتمع والعزلة أو الانعزال والعجز عن التلاؤم والإخفاق في التكيف مع الأوضاع السائدة في المجتمع واللامبالاة وعدم الشعور بالانتماء بل وعدم الشعور بمغزى الحياة"

وتفتتح الكاتبة عملها بوصف الاغتراب الذي شعر به غريب عندما طلب منه الأستاذ أسعد في أول يوم دراسي التقدم نحوه والوقوف أمام زملائه ليروي ما فعله في العطلة الصيفية بلغة فصيحة ففي ص١٢ ما جاء على لسان غريب " المسافة تراءت طويلة،واحتاجت مني عناء في السير وعزيمة لمواجهة هواجسي وخوفي وخجلي من مظهري شبه الآدمي.." فهل طلب بسيط كهذا يحتاج لهذا الكم من الشعور بالخوف والعزيمة لولا أن غريب يواجه مشكلة الاغتراب في مجتمع يرفضه بالرغم من أن الوضع الطبيعي أنه  كأي فرد آخر ينتمي له؟ لكن غريب يفتقد الانتماء لجماعة الرفاق والتقبل من الآخرين والنجاح الاجتماعي وخصوصا بعد ما حصل له أول يوم دراسي من استهزاء من قبل الطلاب ويتضح هذا للمتلقي ص١٦ ما جاء على لسان غريب" جعلني أعتنق يقينا أنني في اختلافي كائن مستهجن مرفوض وحتما لا مكان لي فوق تراب هذه الأرض"

والمتتبع لأحداث العمل يجد بأن غريب حاول قهر انفصاليته وعزلته عن الآخرين بدمج نفسه باحثا عن الأمان بين بشر ينتمي إليهم ذلك لأن الإنسان بطبيعته كائن اجتماعي ينتمي إلى الجماعة ويشعر معها بالتحانس والتوحد ويلتمس فيها القبول والتقدير لكنه كان يفشل في كل مرة بسبب نظرتهم إلى اختلافه وعدم تقبلهم لتشوهاته بل وكان يقابل بالاحتقار. فنجده في ص٢٠ يقول "كي أحيا بسلام،ليس علي اعتزال البشر"  لكنه يرجع بسبب ازدراء المجتمع له ليعترف ص٣٦ " أنا مستهجن بفعل تشوهاتي الجسدية المقززة والنتيجة واحدة..احتقار وتهكم وانتباذ ،يا له من مجتمع مريض" فغريب يرجع سبب ما هو به إلى مجتمع مشوه ومريض يرفض تقبله كفرد منه.

بات يحاول الهروب منه حتى عن طريق إغماض عينيه والهروب من الواقع والالتجاء إلى الخيال ففي ص٤٤" أغمضت عيني لأقيم حاجزا بين روحي وواقعي ولأعتزل بشرا ما كنت يوما منهم ولا هم تقبلوا انتمائي إلى سلالتهم" "رحت أفكر في البحر والشاطئ والأصداف" بهذا كان يعوض اغترابه عن واقعه.

ويزداد اغنراب البطل عند دخوله مرحلة المراهقة حيث تعد الصورة الجسمية لأي شاب من الأمور المهمة التي تشغل باله في فترة تتسم بالحساسية العالية من حياته فكلما كانت الصورة متطابقة مع معايير الجسد المثالي كلما أشعره ذلك بجاذبيته الجسدية وشعوره بالرضا وعكس ذلك هو الصحيح وهذا العكس كان عائقا أمام غريب منعه من إشباع رغباته والرضا عن جسمه وتحقيق التوافق مع نفسه ومع الآخرين. ويتضح هذا ص٥٣ على لسانه عندما أتم الثامنة عشر من عمره " جميع أقراني في المدرسة تبدلت ملامحهم وتغيرت معالم تكوينهم الجسماني ،منهم من أضحى بطول فارع غزا به قلوب الفتيات وعقولهن..إلا أنا! ما زالت الدمامة ترتديني".

وغريب الذي كان ينظر إلى نفسه ويقزمها بناء على نظرة المجتمع الذي ينتمي إليه ولم يمنحه الثقة بنفسه وذاته أدى إلى عجزه عن تكوين هويته فاغترابه كان على علاقة طردية مع رفض المجتمع له.فالهوية هي الشفرة التي تمكن الفرد من معرفة نفسه عن طريق علاقته بالجماعة التي ينتمي إليها وعن طريقها يتعرف عليه الآخرون باعتباره منتميا إليهم لكن هذه الجماعة رفضت غريب فغدا بدون هوية. ويتضح هذا للمتلقي ص١٠٩ على لسان غريب عندما أحجم عن إخبار العم عبدول عن مكان إقامته في الجنوب" أرغب بالبقاء وحيدا وبعيدا عن أي ارتباط يذكرني بهويتي الأولى التي لم تمنحني أي معنى للإنتماء". ويتضح بالتالي تقزيمه لنفسه ص١٣ فعلى لسانه" كم أنا قبيح" وفي ص١٢ " الزائدة الأخرى أحملها فوق خاصرتي اليمنى حيث تقبع كتلة لحمية ضخمة ترفع مؤشر قبحي إلى أعلى المستويات". فأن يتهم الإنسان نفسه بالقبح فهو أقصى درجات التقزيم.فمن الذي دفع غريب لذلك؟ من المسؤول؟من المسؤول عن هذه الحساسية الزائدة والانطواء والعزلة والقلق والإحباط بل والإيمان الدائم بنظرية المؤامرة حتى مع من كانوا يخلصون له حيث نجده يشك بالعم عبدول الذي ما فتئ يقدم كل ما هو جميل له إلى العم شملول الذي كان بطل حلمه عندما دخل غيبوبته وحتى جديلة التي أحسنت إليه ووليد والغول اللذين أخلصا له فما كان منه إلا النكران تجاه الجميع والنظر بعين الحسد نحوهم ففي ص٨٠ على لسانه" لن تستحيل نظرية المؤامرة رمادا في ذهني المتمرد مهما تفانى البعض في مواساة وجعي ولملمة أحزاني". حتى أمه لم تسلم من عقد نقصه في حياتها ،فمن ولد هذه العقد ؟ هذه الأسئلة تطرحها براءة الأيوبي بشكل موارب عن طريق إسقاطها على انفعالات بطلها ولواعج نفسه وهواجسه تجاه كل شيء.

دفعت براءة أيوبي بطلها إلى السفر لتقنعه بأن المجتمع هو المجتمع ولن يتغير في الأغلب في نظرتهم لتشوهه حيث حاول أن يغير من سلوكاته لمواجهة المواقف الجديدة في حياته بعد انتقاله إلى مدينة الجنوب وكذلك تقبله لنفسه وللآخرين وشعوره بقيمته وحريته. وقد تركت الكاتبة المجال لبطلها أن يكتشف بنفسه بأن قناعتها صحيحة. ويتجلى هذا ص١٤٠حينما قرر أن يخرج من الفندق ليبحث عن مطعم يتناول فيه طعامه في مدينة جديدة لا يزعجه أحد أو يتطفل عليه أو يرفض تشوهه " سأجلس وسط الجموع بكل ثقة دون أن أقيم أي اعتبار لحماقات البشر" وهنا كانت صدمته حين أخبره موظف المطعم بأن لا أمكنة شاغرة في المطعم ص١٤٥ فعلى لسان الموظف"سأجهز وجبتك لكنك لن تتمكن من تناولها داخل المطعم الطاولات كلها محجوزة" فتزداد حالة الاغتراب أكثر فأكثر بعد رفض الموجودين لوجوده في المطعم وهنا يلجأ إلى الماضي حيث ذكرياته مع أمه ملجأه وأمانه ليخفف من حدة اغترابه في مجتمع جديد رفض وجوده ففي ص١٦٤ على لسانه" لا أستطيع سوى أن أستحضر طيفها وأجمع أجزاء ذاكرتي معها لأصنع منها شبه حياة".

وياتي أيضا عدم تشكيل الهوية في فشله في المجال الاجتماعي الذي يتفاعل معه حركيا حيث الزوائد اللحمية للبطل كانت معيقة لحركته وبالتالي عدم مشاركته للفعل البدني وقد تجلى ذلك حينما شحن برفقة وليد والغول البضاعة على زورقه دون أن يتمكن من حمل الصناديق كالآخرين ،فشعر بأنه مهمش مما زاد في اغترابه وحقده عليهم.

من خلال غريب أبرزت براءة أيوبي المشكلات التي تعاني منها هذه الفئة المعوقة وتتمثل في عدم الثقة بالنفس وعدم شعوره بإنسانيته كما والشعور بالخجل وبالتالي الاغتراب.

أما ربطة العنق التي رافقته طيلة صفحات الرواية وكان قد أعجب بها ذات وقت حينما لفتت نظره تلتف حول ياقة قميص الأستاذ أسعد فقد كانت من وجهة نظرة هي سبب هيبة الأستاذ ونفوذه عند طلاب الصف ففي ص١٥ على لسان غريب" صارت ربطة العنق في نظري أيقونة للنفوذ وسلاحا لمواجهة كل متغطرس وعديم الشعور" وبقيت بظنه هي السلاح وسبب احترام من قبل الآخرين لو أقدم على وضعها حول عنقه.

رافقته ربطة العنق الحمراء التي أهدتها له أمه ذات مساء طيلة صفحات الرواية في واقعه وأحلامه فكلما هم بارتداءها أحجم. إلى أن أتى الوقت حيث لفها حول عنقه عند قبر أمه لأنها الامان الذي يستحق أن يرتديها بحضورها.

ربطة عنق ربما حملت بين طياتها رسالة واضحة للفت نظر المجتمعات لهذه الفئة المهمشة المهشمة للعمل على دمجها اجتماعيا لتصنع منها فئة تعيش حالة توافق بين مكوناتها البيولوجية والسيكولوجية.

***

قراءة بديعة النعيمي

(النوم في حقل الكرز) رواية للكاتب أزهر جرجيس تتميّز بعنوان يشدّ انتباه القارئ ويثير العديد من الأفكار والتساؤلات حيث تتحدث الرواية في موضوعها الرئيس عن المهاجر العراقي سعيد الذي أُجبر على مغادرة وطنه نتيجة لنكتة سياسية كادت أن تؤدّي به للاعتقال وربما للعذاب والموت وتطرح الرواية سؤال الهجرة والعودة من خلال وصف دقيق لمشاهد الهجرة والتشرد والقتل والدمار والمقابر الجماعية، ويبدأ الكاتب روايته بكلمات للشاعر الفرنسي جاك بريفير (1900-1977) (الحياة حبة كرز نواتها الموت) ولكنّ غاية العنوان ودوره في الحكاية تتضحُ من خلال ما يذكره المهاجر العراقي سعيد عن جاره العجوز النرويجي ياكوب يوندال والذي قام قبل وفاته بشراء حقل من الكرز وأوصى أن يدفن فيه وحين يستفسر سعيد عن السبب تأتيه إجابة العجوز والتي يقول من خلالها الروائي غايته من هذا العنوان (.. تقول أسطورة قديمة بأن الانسان يتحوّل بعد الموت إلى موجود آخر يتلاءم مع ما حوله، فإن دُفن في الجبال تحوّل إلى صخرة، وإن دُفن في البحر صار سمكة، وإن دُفن في الصحراء غدا رملة، لذا قررت أن أُدفن في حقل الكرز كي أتحول إلى شجرة كرز.. المجد لمن نام في حقل كرز.. ص 207).. وتأتي المفارقة المحزنة حينما يحرمُ هذا المهاجر الغريب من قبر يضم رفاته في وطنه نتيجة للصراعات الطائفية والتمزق السياسي والاعتقالات العشوائية ولكنّ ورثة العجوز ياكوب يسمحون لجثمانه أن يستقر- كما تمنى - تحت ظلال شجر الكرز.

صوّ الكاتب أزهر جرجيس العلاقة العاطفية بين سعيد وأمه بطريقة مميّزة وأجاد في ربطها بذكريات الوطن والطفولة بحيث ظهر مفهوم الأمومة كعاطفة وارتباط شاعري بحالة مأمولة من الأمن والاستقرار والسلام فالطفل سعيد يلجأ لوالدته سريعا حين يسمع صوت الطائرات الحربية (.. تذكرت صوت اول طائرة حربية سمعته في حياتي، كنت حينها في التاسعة من عمري أداعب الكرة في الزقاق مع رفاقي، فدوّى في الأرجاء صريخ صفارات إنذار جعلنا نهرع خائفين نحو بيوتنا، دخلت البيت مسرعا واختبأت تحن عباءة أمي بانتظار وقوع الكارثة، حلّقت بعد لحظات طائرات حربية بارتفاع منخفض كاد صوتها يفلق راسي، أغلقت امي بكلتا يديها اذنيّ وراحت تردد: بردا وسلاما.. بردا وسلاما.. بردا وسلاما ص 28).. تظهرُ الأمّ في هذه الرواية وهي تعاني هول المفارقات السياسية نتيجة لاعتقال واختفاء الابّ المعارض للنظام ومطاردة الابن من أجل نكتة تنتقد الديكتاتور مما يجعلها تلهث وراء المستحيل كي يهرب ابنها من هول ما ينتظره من اعتقال وتعذيب وهي الأمّ التي تعاني من فقدان الزوج الذي ابتلعته سجون وزنازين التعذيب فتقوم برعاية البيت ومواجهة أصعب الظروف الحياتية (... أغلقت ام سعيد الباب بوجه كل من جاء لخطبتها وامتهنت الخياطة كي تضع أمامي خبزا خاليا من طعم الذل، كانت حياتنا مريرة في بغداد لم يمدّ لنا أحد يد العون، بمن فيهم خالي إبراهيم الذي كان يتصرف معنا وكأننا دمامل يخاف أن تصيبه العدوى.. ص 35) يرسمُ أزهر جرجيس شخصية الأمّ العراقية من خلال أم سعيد فتظهر كشخصية قوية قادرة على مواجهة الواقع القاسي حيث تواجه احتمال فقدان ابنها بقوة وصلابة فتتغلّب على عاطفتها وتحثّه على الهرب من واقع سياسي مليء بالكبت والقمع والمعاناة (ما شغلني حال أمي أي محنة تلك التي وضعت السماء فيها أمي،وأيّ قدر سيء الحظ هذه البلاد التي لا تشبع من قهر الأمهات! أعطتني بعدما أدخلتني وأغلقت الباب بالمزلاج لفافة دنانير كانت مربوطة بخيط صوفيّ وقالت: لا عيش لك هنا بعد الآن.. خذ هذا المبلغ وهاجر قبل أن تفجعني بك ص 41) وتظهر عاطفة الام وهلعها على ابنها في مشهد الوداع الأخير وكأنّها تفارق قطعة من جسدها فتضمه إليها بعد أن أدركت أن هذه اللحظة المحزنة هي آخر اللقاءات (.. عصرتُ يديها وطبعتُ على رأسها قبلة فألصقت فمها في عنقي وشمتني شمة طويلة، ثم انفجرت بالبكاء مثل سحابة ماطرة، لقد شعرت بأن قلبها يوشك على التوقف من سرعة الخفقان، احتضنتها مسحت على كتفيها، رجوتها أن تهدأ لكن دون جدوى فقلبها كان يدقّ وكأنه طبل في يد قبيلة من الهنود، في النهاية وعند باب الحافلة قال لها جلال محاولا مواساتها: لا تخافي على سعيد يا عمة ولا تحزني لفراقه سيعود ذات يوم.. اطمئني، لكنّ نظرتها وهي تلوح لي من خلف الزجاج كانت تقول بأني لن أعود ص 44) ورغم مسافات الفراق الشاسعة تستمر هذه العاطفة بالتوهج داخل حنايا الشاب المهاجر وكأنّها تُمثل الجزء الأكبر من حنين الغريب إلى وطنه فها هو يطلب منها أن تدعو له بالتوفيق من أجل الحصول على وظيفته الجديدة (في مكتب البريد) في بلاد اللجوء (في المساء اتصلت بأمي طلبت منها أن تصلّي لأجلي كي أحصل على الوظيفة، أمي كثيرة الصلاة لأجلي لكنها لا تلتزم بما أطلب منها أن تدعي به،فيما مضى رجوتها أن تدعو لي بالحصول على اللجوء فراحت تهمس في صلاتها إلهي وأنت جاهي وفق سعيد وأرجعه سالما، كنت أقول لها: يا أم سعيد يا أمي هذا خطأ هذه الدعوة تعيدني إلى العراق أدعي لي باللجوء لا بالطرد أرجوك فترد عليّ ببرود وثقة تامتين لا عليك هو يعدلها من عنده. ماذا تفهم انت من شغل الله؟! ص 113)3449 النوم في حقل الكرز

رواية النوم في حقل الكرز تتناول عدة أفكار ومواضيع تتراوح ما بين الهجرة والعودة وما بين الوطن والمنفى وما بين السلام والحرب وما بين الأمان والخوف فهي رواية الأسئلة التي يلقيها الكاتب أزهر جرجيس كإضاءات هادئة أحيانا وأحيانا أخرى كقنابل متفجرة فهي في معظم مفاصلها تطرح مفارقات ومقارنات متداخلة وتترك للقارئ حريته في أن يستمتع أو يتألم أو يفكّر مع بطل الرواية سعيد والذي يحاول في وطنه البديل (النرويج) أن يكون إنسانا جديدا قادرا على الاندماج في مجتمعه الجديد ومواجهة أية علامات أو إشارات عنصرية بمزيد من التروّي والّتقبّل والتفكير، فبعد أن يستقر سعيد في عمله الجديد ينفجرُ سؤال العودة مُخلفا كثيرا من الآلام والذكريات الموجعة (عليك أن تعود إلى بغداد فورا) هكذا أرسلت الصحفية عبير كاظم مراسلة محطة ال بي بي سي من أجواء بغداد الملتهبة بالأحداث للمهاجر سعيد القابع في صقيع النرويج البارد (.. لماذا تريد مني عبير أن أعود على الفور يا ترى ؟! لم الآن بالتحديد ؟! لقد بدأ موسم العودة إلى بغداد في نيسان 2003م غادر حينها آلاف العراقيين منافيهم، عائدين إلى هناك بمحض إرادتهم منهم من كان يلهث خلف السلطة مثل كلب صيد شره ومنهم من عاد ليستثمر أمواله في مشاريع تبيض له ذهبا صافيا بلا ضرائب ومنهم من ظنّ بأنّ الوطن صار واسعا بما فيه الكفاية لحمله.. ص 22) مرة أخرى يطرح الكاتب أزهر جرجيس سؤال الهجرة والعودة من خلال البحث عن مفهوم الوطن لدى المواطن المسحوق ولدى مُختلف شرائح المجتمع من سلطة حاكمة ومعارضة مقموعة وتجّار جشعين وأدباء منافقين ومهاجرين يائسين وعائدين بلا هدف او عنوان (... العراقيون يشبهون السمك إلى حد بعيد حالما يخرجون من النهر يشعرون بالاختناق لذا تراهم أينما رحلوا شقوا نهرا ومارسوا فيه حياتهم السمكية، ليس هذا فحسب، بل هم يشبهون السمك في قصر الذاكرة أيضا فكلاهما ينسى الفخ سريعا ليقع فيه من جديد ص 53) على امتداد صفحات الرواية يصوّر الكاتب معاناة الهجرة بشكل تراجيدي مع بعض الكوميديا السوداء فهو يصف عملية تجمع اللاجئين بشكل عشوائي وتحوّلهم إلى مجرد أرقام مثبتة على هويات تمنحهم إياها دائرة الهجرة مع ما يرافق ذلك من ألم نفسي وتمزق عاطفيّ وحالة انفصال عن الواقع والحياة ويساعد الحظّ سعيد بوصوله سالما الى الوطن البديل بعد رحلة مثقلة بالخوف والمعاناة والموت حيث يشخّص واقع الحال قائلا (.. كانت هويتي تحمل الرقم سبعمائة وسبعة وسبعين وسينادونني بعد ذلك سبعة سبعة سبعة، لم أكن مكترثا لما سينادونني به واقعا اذا ما دمت سأحصل على سرير دافئ في وطن آمن فلا ضير إذا امسيت ثلاث سبعات أو تسع خمسات أو صفرا على الشمال حتى، لقد امتلكت فيما مضى أسماء كثيرة لكنها لم تجلب لي الدفء.. منحتني أمي مثلا اسم سعيد فكنت يتيما مكسور الخاطر لم أر السعادة يوما في حياتي ص84) ومع حصول سعيد على اللجوء في النرويج يشعر بأن بابا سحريا قد فتح له وكأنّ الماضي بكل معاناته وآلامه قد اختفى حينما أتاه الخبر المنتظر (لقد حصلت على اللجوء في النرويج) فيحدث نفسه قائلا (أخيرا حصلت على وطن بديل يا الله! أخيرا صار من حقي الشعور بالأمان.. ص 96) ويواصل أزهر جرجيس وصف طريقة تعامل سعيد مع مجتمعه الجديد مع ما ينتابه من ذكريات وأحزان تُجبره في أحيان كثيرة على العودة للماضي وتذكره (.. فالأوطان البديلة لا تمنحنا الراحة الكاملة ما دمنا قد قضينا ثلث حياتنا هناك حيث الأزقة الضيقة والبيوت المتراصة ورائحة الخبز الآتية من تنانير الطين، هذا النوع من الأوطان مهما كان رؤوما بنا ومسالما يظل المرء منا يحنّ إلى أول زقاق داعب فيه الكرة مع رفاقه.. ص 137) ويُمثّل لقاء سعيد بمدرسة اللغة النرويجية مثالا على التقاء حضارتين مختلفتين فهي تُدرّسه لغة الوطن البديل من أجل المستقبل القادم وهو يهيم بها حبا وعشقا متأثرا بالعاشق العربي القادم من التاريخ البعيد ويبلغ اللقاء ذروته حينما توافق المدرسة الجميلة ابنة حضارة الفايكنغ على دعوة ابن الرافدين لتناول القهوة (.. أعددت هناك جلسة شرقية ستكون الخطوة الأولى في تلاقح الحضارتين ميزابوتاميا والفايكنغ في المنتصف تقف أرجيلة بغدادية مزخرفة باللازورد يعتليها فنجان فخاري معبأ بخليط العنب المخمر منذ نكسة حزيران 1967م فوق الفنجان تستريح جمرتان متوهجتان كأنهما حجر الزمرد الأحمر وقرب الأرجيلة منضدة ينتصب فوقها سماور تفوح منه رائحة الشاي المهيّل وأقداح مذهبة وأنيقة كعرائس الاناضول.. ص 105)

ويصور الكاتب عملية البحث عن رفات والد سعيد كعملية انتحارية مع ما رافقها من مشاهد المعاناة اثناء العودة من اجل البحث في المقابر الجماعية التي تم اكتشافها حيث يتلقى سعيد المكالمة المفاجئة من الصحفية عبير والتي توضح له (.. لقد تم العثور على أبيك وعليك العودة لاستلام رفاته ص 125) ان العثور على جثة الوالد المفقود يشكل للبطل سعيد سببا للعودة ومغادرة النرويج والانطلاق نحو الوطن حيث يعود في طريقه نحو مكانه الأول وفي مقابل مشهد العودة المفاجئة والقسرية يكون هناك مشهد الرحيل المستمر حيث ما زال هناك من يترك وطنه ويغادر نحو مجاهيل المنافي كل هذه المشاهد المؤلمة يصورها الكاتب أزهر جرجيس من خلال المشاعر المتناقضة التي تنتاب سعيد وهو يرى بني وطنه وهم يرحلون (راح نهار السابع من تموز ينتصف، الشمس تذيب الإسفلت والطريق الدولي موحش وشبه مهجور لم أر على مدى ساعات طويلة سوى بضعة سيارات لعوائل مغادرة باتجاه الأردن سألت وائل سائق الجيمسي المهذار عن السرّ وراء ترك هؤلاء الناس للبلد والنزوح نحو الأردن فقال علمها عند ربي.. ص 139) ويحاول الكاتب ان يستغل عودة البطل في تصوير مشاهد الدمار وآثار الحروب والمجازر والموت (..لقد بدت بغداد منهكة من الأعلى، المحال التجارية أغلقت قبل ان تسدل ستارة الليل والكلاب السائبة تنتشر في الازقة لتشارك اللصوص الغنيمة أكداس من النقابات تسفّ وجه المدينة،وحواجز كونكريتية كئيبة تنام على صدرها وتقطّع أوصالها بمشرط الدواعي الأمنية، كان زعيق سارات الشرطة ومواكب المسؤولين لا يهدأ وكنت بين الحين والآخر اسمع صوت لعلعة الرصاص في السماء ص 170) ثم يصف الروائي أزهر جرجيس التحوّلات التي سيطرت على العاصمة بغداد بفعل الحروب والمجازر والصراع الطائفي الذي يصبغ كثيرا من جوانب الحياة البائسة مما يضطر سعيد لاستخدام هوية مزيفة كي يستطيع اجتياز الحواجز الطائفية (.. علي وعمر اسمان لا يشبهانني منحني إياهما احد مزوري بغداد مقابل ثلاثين دولارا بعد البقشيش فعصابات الموت بدأت تنتشر كالقمل في رأس المدينة وأنت لا تدري متى يظهر امامك حفنة من الملثمين ليقطعوا عليك الطريق مطالبين بما يثبت انتماءك إلى علي دون عمر أو العكس.. ص 181) هي رحلة الحصول على كومة من العظام وجمجمة متوسطة الحجم في كيس بلاستيكي اسود، لقد قام سعيد بالتقاط صورة لهذه البقايا رغم انه غير متيقن أنها رفات الفقيد، وتبدو المفارقة كبيرة حينما تتناثر هذه البقايا البشرية وتتحطم بعد تعرض سعيد للخطف من قبل جماعة طائفية (..في الطريق سلبني أحد الخاطفين الهاتف المحمول وحقيبة الكتف ثم تناول الكيس الأسود كي يعرف ما فيه لكنّ البيك أب ارتفعت إلى الأعلى وهبطت بسبب مطبّ لم ينتبه إليه السائق، فطار الكيس من يد الخاطف وتناقر ما فيه على الطريق، مرت في الأثناء شاحنة نقل مسرعة دهست الجمجمة وسحقت العظام المتناثرة ص 195)... هكذا تنتهي بقايا الاب ولا يتبقى لدي سعيد سوى صورة لجمجة ومجموعة من العظام البالية يحدثها سعيد قائلا (آه يا أبي إنّ الظلام الذي كنت بصحبة رفاقك تحاولون إيقاد شمعة لتبديده ما زال يغلف البلاد ويحيط بأكتارها ما زال ذاك الظلام حاكما وما زال الأوغاد يضحكون على أذقاننا ويمصّون مثل البعوض دماءنا تحت يافطات جديدة لا تقلّ سخفا عما قبلها، لا أريد أن أثقل عليك فما فيك يكفيك لكنّي أودّ أن أصارحك بأنك قد فشلت مرتين مرة في حياتك ومرة في مماتك فلا حياتك حياة ولا مماتك ممات !وأنّي عذرا يا ابي لا أريد أن أكون فاشلا مثلك لذا قررت الرحيل ص 209)

استطاع الروائي أزهر جرجيس أن يوظف العنوان والأسماء لخدمة فكرته الأساسية والتي حاول طرحها من خلال عقد المقارنات وإبراز المفارقات في عدة مفاصل أساسية في الرواية حيث سيطرت على الأحداث فكرة المقارنة بين الوطن والوطن البديل والتي جاءت لصالح الوطن البديل والذي استطاع أن يوفّر للمهاجر ما افتقده في وطنه الأصلي من أمن وسلام وموت هادئ ومرقد مميز وجميل بينما لم يحصل والد سعيد من الوطن الذي ناضل من اجل مستقبله على قبر مناسب يؤوي بقايا عظامه المتهالكة، ان عقد المقارنات المتلاحقة بين وطن تثخنه الجراح ووطن بديل مليء بالحرية والهدوء استمر على طول صفحات الرواية بحيث استطاع القارئ أن يعقد هذه المقارنات المباشرة في الشوارع وفي أماكن العمل وفي البيوت وحتى في المقابر، لقد ظهر الوصف المعبر الذي استخدمه المؤلف لتصوير عملية التفجير في الكرادة التي اودت بالصحفية عبير وصفا دالا على حجم الاستنكار والحزن على الوضع الحالي لهذه المدينة فالكاتب يريد أن يصوّر من خلال كلماته الملتهبة عاطفة تشتعل بالغضب والنقمة فهو يصف بحرقة حالة الجثث المتناثرة فالأجساد المحترقة تملأ المكان وبعض الضحايا لم يبق منهم سوى اطراف ممزقة فهناك اذرع واقدام واحذية متناثرة هنا وهناك(حفل شواء رهيب لا يمحى من الذاكرة) ويحاول الروائي ازهر رسم المشهد من زاوية إنسانية معبرة من خلال صورة الدماء المختلطة بعصائر الباعة المتجولين ومن خلال وصف المرأة التي تجري وتلطم باحثة عن ابنها الذي كان يبيع الأحزمة الجلدية بجانب محل العصائر ولكنها أينما نظرت لا ترى سوى جثث متفحمة وأجزاء بشرية متناثرة، لم يكن بين سعيد وبين الموت سوى لحظات زمنية قصيرة ومسافة اقصر من ذلك أما عبير فقد تحولت لجثة متفحمة تماما..انه الألم الذي يخرج من بين حروف كلمات الكاتب ممزوجا بالحسرة والمعاناة والأحزان

وفي صورة مقابلة لهذا الواقع المؤلم يحتفي الكاتب أزهر جرجيس في هذه الرواية بصفحات مضيئة من التاريخ العراقي القديم من خلال عودة سعيد بالذكريات لدروس الأستاذ عبد الباري مدرس التاريخ (..هتف الأستاذ عبد الباري وهو يشير نحو حدائق بابل المعلقة: الحقوني كي تشمّوا عبق التاريخ، لحقناه إلى هناك متلهفين لزيارة واحدة من عجائب الدنيا السبع.. ص 189) ولكنّ هذه الشواهد والآثار العظيمة تتعرضُ للدمار والتخريب بفعل الحرب والإرهاب وصراع الجماعات المتطرفة فيما يشبه عملية محو وانتقام من ماض عابق بالحضارة والرقي والخلود (دخلت أمريكا أرض الإله من بعد ذلك لتكمل مسلسل التخريب، فسارت المجنزرات ودبابات البرامز فوق شارع الموكب الذي سارت عليه ملوك بابل العظيمة وشعبها وكهنتها،هُشمت القطع الأثرية وامتلأت المتارس الترابية التي بناها الجنود بقطع الفخار والرُقم الطينية المسمارية، لقد تعرض بفضل أمريكا خمسة عشر موقعا أثريا للنبش والسرقة، وتمت استباحة المتحف العراقي أمام أنظار جيشها وهُربت آلاف القطع الاثرية الثمينة إلى ما خلف الحدود.... ص 190)

رواية النوم في حقل الكرز رواية تتحدث عن الهجرة القسرية وعن رحلة العودة المفاجئة والهجرة الاختيارية وهي رواية لوعة الأم الصابرة ذات القوة الجبارة والتي تتقن فنّ التضحية من أجل حياة ابنها سعيد وهي رواية الأب الذي يناضل من أجل وطن ينعم بالحرية والجمال ولكنّه ينتهي مجموعة من العظام المحشورة في كيس صغير في مقبرة جماعية دون اسم أو عنوان أو تاريخ ولكن هذه الرواية قبل كل شيء هي رواية الحلم الأسطوري رواية ساعي البريد المهاجر من بغداد إلى أوسلو وهو يحلمُ بقبر هادئ وسط حقل من الكرز الجميل.

***

د. عمر الخواجا

أن تكتب عن الشّعر فهي بلا شكّ كتابة وعرة قد لا تفي الشّعر حقّه، فالشّعر حمّال للوجوه والأبعاد، هو مرآة لذات الشّاعر وانعكاساتها، يولد من رحم قضايا الإنسان حاملا همّ البسطاء والفقراء، ينغرس مع سنابل الأرض في ترابها، ويعلو بالحرف ليسمو به فوق السّحاب. وكأنّ الشّعر وما فيه من كلمات إنما هو نور مخبّأ في جيب اللّغة، يمنح الشّاعر سرّ الحرف وسريرة الحياة.

"صبا الروح" هو العنوان الذي اختارته سلمى جبران لمجموعتها الشّعريّة الجديدة، التي صدرت حديثا عن الدّار الأهليّةِ للنّشر والتّوزيع (2023). تضمّ هذه المجموعة باقة من القصائد المتنوّعة في موضوعاتها الاجتماعيّة والإنسانيّة، طغت على أكثرها صبغة نسويّة، فبرزت قضيّة المرأة ومجموعة من القضايا المعبّرة التي تحثّ القارئ على الوقوف عندها.

تتمثّل الرّؤية العامّة لهذه المجموعة في بعدين رئيسيينِ هما: البعد الفكريّ الفلسفيّ، والبعد الاجتماعيّ الإنسانيّ، وهما ينسجمان معا انسجاما تامّا، الأمر الذي كفل لهما درجة من العمق، كما اتّسمت اللّغة بالسّلاسة والوضوح، نجد فيها تعبير الحقيقة وتعبير المجاز والصّور المستعارة، مما يعكس أفكار الشّاعرة ورؤيتها الإبداعيّة، وسمات الأسلوب الرّومانتيكيّ في المضامين والأفكار. ولا أريد في هذه العجالة أن أحلّل أو أشير إلى مواطن الإبداع في كلّ القصائد، سأقارب بعضا منها لمعرفة أَوجهها الفلسفيّة والفكريّة.

"صبا الرّوح" هي القصيدة الرّابعة، وعنوان الدّيوان الذي يوحي بجوهره، تتحدّث الشّاعرة في هذه القصيدة وغيرها من القصائد عن عمق الصّحوة الفكريّة والرّوحيّة التي عاشتها فتقول:

هزَمَتْ فؤادي صحوةٌ

صدَّتْهُ عن عرشٍ تفرَّدَهُ

فقيَّدَني حنيني

وتناسَخَتْ في منطقي روحٌ

تغازلُ غايتي وتُعيدُ لي

قلبًا تعمَّدَ فيهِ

ينقذني ويهديني.

وتتابع الحديث عن العمق الفكريّ الذي تستشعره فتقول في قصيدة مسار ذاتيّ (ص26):

عُمقي يكبرُ

تتباعدُ أطرافُهْ

فتحلِّقُ روحي فيهِ

يتوسَّعُ قلبي

ترقُبُني أطيافُهْ

وتقول في قصيدةٍ أخرى:

وغدوْتُ أحيا في منافيَّ الكثيرةِ

صحوةً سادتْ بها روحٌ

تُدثِّرُها وتحميها

فلا قيدٌ يراوِغُها

ولا كبتٌ ولا عارُ.

لقد تعرّض الفلاسفة للأمور الحياتيّة والقضايا الإنسانيّة ونظروا إليها بعمق، تطرق سارتر إلى التّطور الفكريّ عند الإنسان فقال: إنّ فكر الإنسان هو ما يمثله، فهو لا يتّوقف عن التّطوّر الفكريّ طالما أنّه حيّ.

وضّح أفلاطون أن ﺃﻋﻤﻖّ ﻣﺎ ﻓﻲ ﺍﻟﺬّﺍﺕ ﻫﻮ الفكر، ورأى سقراط أنّ الحياة الخاليّة من التّفكّر والبحث والتأمّل لا تستحق العيش، أمّا نيتشه فقدّر التّفكير والتّفكّر، وصفه بالنشوة العارمة التي تصحو بالذّهن الإنسانيّ وتؤدّي به إلى الإبداع، و‏يرى الفيلسوف بيار دي شاردان أنّ الإنسان يبصر في روحه، ما لا يبصره بالعين المجرّدة.

تظلّ الشّاعرة تنبش ما استقر في ذّاكرتها، تطلق العنان لخيالها، وتقتّنص من الشّعر لغة للحياة، تمرّ بمحطات كثيرة عبر تلك الصّحوة التي وصفتها، وتنثر بذور الأمل قائلة:

لكنَّ الأملَ تعنّقَ

عانقني، قوّى إيماني

وحباني نُضجًا أروى

عمري، ناجاني

زرعَ الذاتَ الأخرى في عمقي

واستنبَطَ عمقًا آخرَ للآتي

تحفزّنا هذه السّطور على التّطلع إلى الأمام بدل النّظر إلى الخلف، فالأمل من الأفكار الحيويّة التي علينا التّمسّك بها، وهو طاقة دافعة للذّات نحو التّحرك والتّغيير.

يقول الفيسلوف آرنست بلوخ: إنّ التّطوّر الذي عاشته المجتمعات الإنسانيّة ما هو إلا انعكاس للأمل، فنتائج اليوم على كافة المستويات العلميّة والثّقافيّة، ما هي إلا آمال الأمس ورغباته وتخيّلاته.

المرأةِ في شعر سلمى جبران:

تثير جبران قضيّة المرأة والمجتمع الأبويّ والفكر الذّكوريّ بجرأة، تتحدّث عن تجربة الأنوثة وأبعادها الاجتماعيّة، تدافع عن المرأة بشكل خاص وتسعى وراء الإنسان بشكل عام، تسير بالكلمة نحو قلب القارئ؛ فيشدّه انغماسها بروح التّمرّد على القمع والظّلم، وذاك ما نجده في إضمامة من القصائد التي تلاقت بجملة من الوسائل التّعبيريّة؛ فشكّلت لوحات شعريّة متجانسة، تقول في قصيدة وهم الرّجولة (ص8):

فيروحُ من كاشَفْتهُ

يندسُّ بينَ الخافقَيْنِ، ويعتلي

وهمًا تكدَّسَ في رجولتِهِ

وعلَّمَهُ الرِّمايَةَ سهلةً فَرَماني

أُنثى تغمَّدَها عرينُ محبَّةٍ

واستلَّها عُمُرٌ، ونُضجٌ فائقٌ

كَسَحَتْ به وهمَ الرُّجولةِ

أسقطتْهُ من حساباتِ المكانِ

ومن حساباتِ الزَّمانِ!

للوقوف على هذا المعنى وتجنّب الخلط بين الرّجولة والذُّكورة، فالذُّكورة هي النّوع الجندريّ أو الجنوسة، أمّا الرّجولة فهي الأخلاق والمواقف، الفكر والسّلوك، والرجل وطن تسكنه المرأة بأمان واحترام، وهذا ما تقصده الشّاعرة فكتبت تقول عن شبح الرّجولة (ص7):

شبَحُ الرّجولةِ يُغرِقُ الكلماتِ في كلماتي

ويُغيظُ فيَّ أُنوثتي

ويُعيدُ لي ذاتًا بذاتي

ويُثيرُ ذاكرتي ويُعمي حيرَتي

ويُثيرُ أسئلتي مُردِّدَةً:

كيف استطاعت.. حِقبةٌ قَبليّةٌ، بسوادِها وبِجهلِها

وهْبَ المعاني كلِّها، تخليدَها

توريثَها لذكورةٍ قيَمًا، تُرفِّعُها على عرشِ الحياةِ.

وتقول في قصيدة ثانيّة بعنوان "بين فكّيّ القبيلة" (ص62):

هلّا يعاتِبُني الزمانُ

على انتزاعِ قضيَّتي

من بينِ فَكّيِّ القبيله

وعلى نجاتي من قيودٍ

أقحَمَتْ روحي بهاوِيةٍ ذليله

فأنا حميْتُ درايتي من عتْمِ

لا وعيي ومن قَسَمٍ تقادَمَ عهْدُهُ

ما اخترتُهُ، فتراجَعَتْ

كلُّ المطامِحِ فيَّ

واخترْتُ أن أبقى بعيدًا

عن صلاتِ الرحْمِ

يعبَقُ في حياتي مطمَحُ الحرّيّه!

تنقلنا سلمى لتلَمُّس الحريّة في أفق الشّعر والتمرّد على السّائد من الفكر البّائس، تقول (ص60):

فكَفَرْتُ بالبنتِ الخجولة

بل كنتُ أنعاها بروحي

كلَّما كسَرَتْ جناحيَّ القبيلَة!

تتحدّى الشاعرة بلغتها المتمرّدة على السّاكن الرّاكد، وتنشغل ببناء صورة أخرى من لغة وألم كامن، فتفرد عنوانا مستقلّا لموضوع قتل النّساء على خلفية الشّرف، تقول في قصيدة قرويّة (ص70):

نرفُضُ عُرفًا فنعاني

نختارُ قيودًا فنُعاني

نقبَلُ بالقَيْدِ قضاءً، فنُعاني

لكنَّ القَدَرَ تنكَّرَ، وتغاضى عن قتلٍ

وتصالَحَ مع روحٍ، تحيا في الكَوْنِ وحيده.

تكتب أيضا عن اضطهاد المرأة فتقول (ص41):

كلٌّ يجرِّبُ حظَّهُ، في قهرِ من رَفَضَتْ

طريقَ الزيفِ والتّعتيمِ عندَهُمُ

كلٌّ تعدّى حدَّهُ وأبانَ نابًا لامعًا

حينَ ارتدى وجهًا أليفًا، يقتنيهِ الدّرهَمُ!

لقد أثبتت المرأة قدرتها على مواجهة التّحديّات، فثمّة إنجازات كبيرة وصلت إليها على كافة الأصعدة، لكنّ صورتها ما تزال أقلّ شأنا من صورة الرجل في كلّ المجتمعات الذّكورية، وذلك ما طرحته د.نوال السّعداوي في كتابها "المرأةُ والجنس"، وما ناقشته أيضا فرجينيا وولف - رائدة الأدب النّسويّ- في كتابها "غرفةٌ تخصُّ المرءَ وحدهُ"، وما تحدّثت به الفيلسوفة الوجوديّة سيمون دو بوفوار في كتابها "الجنس الآخر".

صراعات الحياة:

تصور أيضا المجتمع بكل تناقضاته، وتعبّر عن حاله البّائس بإيجاز وكثافة؛ تتحسّس الجوانب الواقعيّة الحيّة التي نعيشها، تجمعها بحرارة التّعبير الحرّ، فنستشعر الصّدق في وصفها عن حالة الخراب الإنسانيّ التي أصابت مجتمعاتنا تقول (ص48):

حُزْنٌ وحِقدٌ واندفاعٌ زائفٌ

وتسلّقٌ يبغي الوصولَ، فلا

يصُدُّ مُرادَهٌ عجزٌ ولا يثنيهِ

عن غيٍّ جمودٌ أو جحودٌ أو قرارُ

كلٌّ يردِّدُها مآربَ عصرِنا

ويُحيلُها لُغزًا تَقاعَسَ فهمُهُ

وتصف صراعات الحياة (ص55):

طِفلٌ يركُضُ خلْفَ رغيفٍ

ورغيفٌ يركُضُ خَلْفَ الطفلْ

العالَمُ يجري

يرقُصُ خَلْفَ الأشباحْ

وأنا أتحدّى فيَّ القَهْرَ

أُغالِبُ نفسي كي أبقى في الظلْ

والشمسُ تُعانِدُ وتُشاكِسُ

لم تنسَ الشّاعرة أن تعرّج على ظاهرة الجهل المجتمعيّ، تحدّثت عن دوافع الجهل عند الجاهل وقبوله بالجهل خوفا من التّغيير، ظنّا منه أنّه بذلك يحمي نفسَه فكتبت (ص88):

وأُعاوِدُ بحثي عن أمَلي المسجون

أترجّى أنْ يرقى فهمي

لكنّي أدرَكْتُ بأنَّ الجهلَ كفيلٌ أن يحميني!

بحسب الفيلسوف باسكال فإن الوعيّ هو الميّزة التي تعلو بالإنسان، وقد عبّر نجيب محفوظ عن ذلك فكتب في رواية خان الخليلي: فتش عن السّعادة الحقّة، على ضوء العلم والعرفان. وفي نظر الكاتب فريديريك لونوار فتكمن راحة الجاهل وسعادته في غياب التّفكّر في أمور الحياة.

الأنا الفلسفية:

نلاحظ البعد الفلسفيّ في المفردات والكلمات التي تدعو إلى الشّرح والتّأويل، هناك تركيز على مفردة "الأنا الفلسفيّة" التي تتّسم بها الذّات المفكّرة، التي وظّفت في بعض القصائد؛ لتضع القارئ على ناصيّة التّفكير والتّأمّل، وأذكر هنا بعض الأمثلة التي جاءت في مواقع مختلفة:

- فأنا أُحبُّ حرارةً تعلو دمي.

- وأنا أعفو عنهُ.

- وأنا تهجُرُني لاءاتي.

- وأنا أمشي أحملُ عنها كلَّ همومٍ.

- وأنا أتحدّى فيَّ القَهْرَ.

- وأنا أبقى في صمتي.

- وأنا أتشبَّثُ بدقائقَ من نورٍ أعْشَقُها

- فأنا حميْتُ درايتي من عتْمٍ.

- يتحدّى فيَّ أنايَ المُفْعَمَةَ بمأساتي.

- ويغيظُ أنايَ الأخرى، أبكيهِ فيبكيني.

- وأنايَ تنوءُ بأحمالٍ، أثقَلَ من ظُلْمٍ وأمرّ.

نلمسُ الوضوح في هذا الخطاب الشّعريّ الذي يوظف الذّات الفلسفيّة ويفسّر ارتباطها الوثيق بالآخر؛ ليظهر خوالج النّفس المعبّرة عن المواقف والمشاعر المختلفة، فذات الانسان تعكس ما بداخله وتمثّل وجهته في الحياة، ونظرته إلى نفسه ومدى تأثّره بالبيئة المحيطة.

يعتبر "سقراط" أنّ الذّات هي قلب الوجود وهوية الإنسان، ودليله في التّفريق بين الصّواب والخطأ، وأنّ ذات الفرد هي روحه، ويرى "أفلاطون" أنّ ذات الإنسان تتجسّد بالعقل الذي يحكم روحه، ويعتبر "ديكارت" أنّ الذّات جسد مادي وعقل مفكر، وهي تتصل بوعيّ الإنسان وتفكيره، وهذا ما ترسّخهُ مقولته الشّهيرة "أنا أفكر إذن أنا موجود".

فلسفةُ العبثيّة والوجوديّة:

تتحرّر الشّاعرة من محيطها لتنعتق في ظلّ الحرف، تمدّ يدها إلى حيث تولد الكلمات، فلا تهجر إغواء اللّغة وجمال القول الرّشيق، توثّق أحاسيسها وتصوّر آفاقها، وتبحر عميقا في رحلة مع الذّات، فتكتشف عبثيّة الحياة وتعود محمّلة بالرّؤى والشّعر، تقول (ص 103):

أبحَرْتُ عميقًا في روحي

وبدأْتُ أُحاورُها

كي أفهَمَ ما كانَ

يُغطّي عينيَّ وأحيانًا يُعميني

فوجَدْتُ حياتي غارقةً

في عَبَثِ وجودي

تدخل الشّاعرة هنا إلى عالم العبثيّة، فهي لا تنفكّ تبحث عن حقيقة الوجود ومعنى الحياة، وكون الشّعر حالة إبداعيّة حرّة تنقل فكر المبدع ورسالته، من هنا تختار ما يناسب رسالتها من اللّغة؛ لتجسّد رؤيتها إلى الحياة، فتقول (ص 24):

هيَ طفرةٌ هذي الحياةُ

فلا يُضلِّلُني مداها

هيَ طينةٌ نُفِخَتْ بها روحٌ

فأحْيَتْنا وأحيانا ثراها

هيَ جمرةٌ ترتاحُ

تحت رمادِنا لا تنطفي

فتُحيلُ كلَّ زماننا الآنَ

وتفضُّ عنهُ رمادَنا

وتلوحُ فوقَ أديمِها

تجذو بلَمْسِ هوائها

ليعيشَ فينا حُبُّها وهواها.

وتعبّر عن مشاعر الاغتراب والاستلاب التي تعتريها، فتقول في قصيدة "عبثُ الوجود" (ص 28):

عبثُ الوجودِ

يُحيطُ بي ويصدُّني

ويُحيكُ لي مَهْجَرْ

فأعيشُ يحضُنُني اغترابي

يسترِدُّ شقاوَتي

فصغائري تكبُرْ

عُمُرٌ يعايشُني

ويقتصِرُ السِّنينَ

فيستقي منها الحنينَ

ويغتني حُلُمي

ويزيدُني عَبَثيَّةً

ويُعيدُ طيفَ طفولتي

متمرِّدًا ومُحاوِرًا قَلَمي

هل لي بلحظةِ نشوةٍ

أن ترتقي

وتُثير بي لحنًا تخَمَّرَ

هازئًا برصانتي

ومُكَفِّنًا عَدَمي؟

في قصيدة اللاشيء تقول (ص30):

قد غِبتُ في اللاشيءِ

يحكُمُني ويرصُدُ لي زماني

في غياهِبِ لازماني

وعشقتُ أمكنةً تعاينني

وتفقه صحوتي في لامكاني.

تقدّم هذه القصائدُ صورا كفكاويّة؛ لتبقى مفارقة ال

قد غِبتُ في اللاشيءِ

يحكُمُني ويرصُدُ لي زماني

في غياهِبِ لازماني

وعشقتُ أمكنةً تعاينني

وتفقه صحوتي في لامكاني.

تقدّم هذه القصائدُ صورا كفكاويّة؛ لتبقى مفارقة الوجوديّة والعبثيّة من الأفكار التي تثري الدّيوان، فتجسّد المعنى الفلسفيّ وتخاطب عقل المتلقّي ووعيَّه، وتشدّه إلى فضاءات النّور والدّلالات التي تسقطها سلمى على رّؤيتها الشّعريّة، تلك التي لا تريد لها أن تتلوّث بالواقع، الذي وصفته في قصيدة أرواح عاريّة فقالت:

وجوديّة والعبثيّة من الأفكار التي تثري الدّيوان، فتجسّد المعنى الفلسفيّ وتخاطب عقل المتلقّي ووعيَّه، وتشدّه إلى فضاءات النّور والدّلالات التي تسقطها سلمى على رّؤيتها الشّعريّة، تلك التي لا تريد لها أن تتلوّث بالواقع، الذي وصفته في قصيدة أرواح عاريّة فقالت

أرواحٌ تتغشّى بسوادٍ تتستَّرُ فيهِ

تتنقَّلُ بينَ قصورٍ

ولَّتْ منذُ دهورْ

لا ترجو عَوْنًا من ربٍّ

بل تطلُبُ من كلِّ النّاسِ

بأن تحسبها ربَّ العَوْن.

ولا تفتأٌ جبران تعرّي الواقع وما تراكم عليه من صدأ الأفكار، تصبّ عليه لهيب غضبِها، فتصّور بإدراك واقعنا الفجّ، تعبّر عن استيائها قائلة (ص37):

غضبي تفجَّرَ حينما

اختلَطَتْ ينابيعُ المشاعِرِ في دمي

وتضوَّعَتْ كلُّ المعاني في حروفي

وانبَرَتْ عبَراتيَ الثَّكْلى

تصارِعُ مبْسَمي

الحزن والتّجلّيات الرّوحانيّة:

وبشعريّة شعوريّة تفصح عمّا يثير انفعالاتها تجاه الفقد والذّكريات الحزينة، فتذكر الموت قائلة (ص39):

الموتُ يُحدِّقُ بي

من كلِّ زوايا الكوْنْ

فيعيشُ يراقِبُ كلَّ

مَرافِقِ روحي، يركُضُ

يلعَبُ ويزاحِمُني، يغلبني

يتحدّى كلَّ مجالاتِ حياتي

يكشِفُ أينَ اختبأتْ أحلامي

ينتظرُ الأمَلَ، يُحوِّلُهُ ألَمًا

يَنتزعُ البسمةَ من قلبي

يتجلّى هاجس الموت واضحا في بنيّة الكلمات، تقول أيضا(ص31):

أحياهُ ظِلًّا يحياني

ألقاهُ يهزَأُ من قَلَقي

يرعى صحوي يُحييهِ

ويُعتِّقُ ماضيَّ

فيجرعهُ خمرًا يُسكِرُهُ

ويُعرّي فيهِ خُمولًا

يتضوَّرُ خَجَلًا منّي، يهرُبُ،

يتركُني لجُنوني أَنعمُ فيه وأُعانيِ.

يتعاظم البوح في هذا الجمع بين الحياة والموت، ينمو بين الحياتيّ والغيبيّ، فهذا النّصّ الشّعريّ يواجه عبثيّة الحياة بفكرة الضّرورة الأنطولوجيّة بحسب رؤية سارتر، الذي يرى أنّ الموت شأنُه شأن الميلاد فيقول: إن كان من العبث أن يولد الإنسان، فمن العبث أيضا أن يموت.

الفيلسوف الوجوديّ جابريل مارسيل يرى أنّ كلّ إنسان هو لغز أنطولوجيّ، ولا بدّ من الوعيّ بهذا اللّغز لمقاومة اليأس النّابع من مواجهة الموت. أما ألبير كامو فيشبّه الموت بالعدم، ويظهر ذلك العدم في روايته "الغريب" بالإنسان العدميّ العاجز أمام قوانين الحياة، ويقول: إن حتمية الموت تضيف على عبثية الحياة وزنا إضافيّا.

تظلّ سلمى تتأمّل في ملامح نموّها الرّوحيّ، وتتفكّر في طبيعة الحياة، فتصوغ الكلمة وتنصهر معها، وتحلّق في عوالمها بصمت، فتكتب:

صمتٌ أعقَبَهُ صمتٌ

وتبدّتْ آياتٌ في أعماقِ الكوْن

تحكي صامتةً

عن ريحٍ تُسقِطُ أزهارًا وثمارًا

غابت عنها آثارُ اللون

في هذا الصّمت صورة إيمائية تجريديّة الألوان، تشي بفضاء واسع للتّخيّل، فالصّمت صلاة وتَدبّر، تعبير وشعور، وهو من الأفكار التي تستحوذ على قريحة الشّعراء برمزيّته وأسراره وغموضه.

يقول "آينشتاين": الكون مدعاة للتّأمّل والأصوات تكسر الصّمت، والتّنوير يعبّرُ عنه. أمّا الفيلسوف "بيكار" فيشرح الصّمت على أنّه اللّامرئيّ الحاضر، يتفوّق على كلّ الصّخب والضّجيج؛ ليعيد الأشياء إلى كمالها وسّكونها.

الحبّ والتّجربة:

يقول ديكارت: الشّعر عطاء روحيّ جيّاش، لا نِتاجَ تعلُّم. وسلمى شاعرة تكتبها القصيدة بنبض طوعيّ، تتنازع فيها الحياة والموت، فيعلو شأن الحياة ويتسامى فيها الحبّ، تنجو من وسواس الخوف وقهر المجتمع في قصيدة عقود الخوف (ص83)، وتترك الصّخب لأهله وتعتزل في قصيدة سفر العزلة (ص92)، تسكن إلى ملاذها لتعيش لحظات التّجلّي الرّوحيّ في قصيدة نفسي تعيى، وتترك حرفها المشحون بالغضب بحثا عن الهدوء والسّلام، فتستشعر الاكتفاء وشفافيّة الحبّ، ويعلو صوت القلب، تقول (ص21):

يأخذُني حبُّكَ

حيثُ يشاءُ

ولا أدري هل أخطو

نحوَ خميلةِ حُبّي

أم أجري؟

عطَّرْتَ حياتي

حينَ اختارَكَ لي قلبي

وكياني أشرقَ فرحًا

لم أعرفْ أنّي بوجودِكَ

أتصادَقُ مع قَدَري.

نجد الحبّ حاضرا في الدّيوان لا ينفك يغادر، فالشّعر وصف للحظة شعور، والقصائد تؤكّد ذلك، تكتب(ص22):

إنّي عشقتُكَ

فامّحَت من خاطري

صُوَرُ الرِّجالِ

وتفتّحَتْ في داخلي

سُبُلُ الحياةِ

وأشرَقَتْ نورًا

يُضيءُ بصيرتي وخيالي

أحبَبْتُ نفسي فيكَ

فانفجَرَتْ ينابيعُ

المحبّةِ في دمي

فهَجرتُ مالي

واكتفَيْتُ بما لي.

نعم إنه الحبّ، تلك الحكاية الشّغوفة بجمالِ البوحِ وعفويته، تحوّل العاشق بريئا يختزل سيلا من الحكايا والفرح، ولفرط جمال الحلم، يظنّه العاشق حقيقة؛ ليصحو من غفوته متجرّدا منهزما إلا من خيبته، لكنّه بعد التّجربة يغدو صلبا، أكثر عمقا ووعيا، وذلك بعد أن تتراءى له الصّورة الأوفى والأكمل.

تصف الشّاعرة تلك الحالة وتكتب عن فرح البداياتِ في أيّ علاقة جديدة، تلك التي تنطوي عادة على قدر كبير من الدّهشة، فتمنح العاشق طاقة وإقبالا على الحياة، تقول في قصيدة الحبّ الفجّ (ص5):

أدخلَني روْضًا أغناني

عن كلِّ رياض الدُّنيا

وحباني أمَلًا وورودًا وكُرومًا

يتبخْتَرُ فيها الحُبُّ ويَسْطَعْ

وتتابع إلى أن تقول:

فتدافَعَ نحوي موْجُ حياتي

وتَحَوَّلَ حُبّي مِحرابًا ومُصَلّى وقضيّهْ

وغدوْتُ أُكابِدُ بُعدًا عن روحي

واُصارِعُ ظِلًّا يغمُرُني ويحوِّلُ

كُلَّ حياتي جزءًا من آخَرْ

فاختلطَ الضّامِرُ فيها بالظّاهِرِ فِيَّ

تَحَوَّرَ لوْني وتبدَّدَ فيَّ بريقٌ أعماني

فتجدَّدَ بَصَري، لأرى

طفلةَ عُمْري تتعافى، تتنامى

تركُضُ خلفي وأمامي

وتُعيدُ الرّوحَ إليَّ

من وجهة نظر فلسفيّة، لا يمكن التّعبير عن الحبّ منطقيا أو إدراكه بالعقل، فهو لغز غير قابل للتّفسير، يشبه إلى حد كبير تجربة صوفيّة.

يعتبر سقراط أنّ سّعادة الحبّ تتمثّل بالجمال والخير، ويكتب الأديب المسرحيّ أريستوفان: لا يكفي أن يكون المحبوب هو النّصف الآخر كي نحبّه، فعلى هذا الطّرف أن يكون خيّرا ومتفهّما، وإلا فسينتهي الارتباط إلى السمّية والأذيّة.

الأسئلة ودلالة المعنى:

في مواضعَ كثيرة نجد بعض الحيرة والتّساؤلات التي تُقدم من الشّجن الكثير، ومن الشّعور بالفقد والضّياع الذي رافق الشاعرة، فكتبت (ص46):

واعترتني حيرةٌ

فتفجَّرَتْ فيها سؤالاتي

تُوَلِّدُ ضجَّةً في محجري

وتحوَّلَتْ لُغةً تُحاكي

كُلَّ أيّامي وتحكي قصَّةَ

القلقِ الدّفينِ بخاطري

وتُطرَحُ هنا بعض الأسئلة؛ لتغدو المفردات أكثر إیحاء وانزیاحا، فتدفع القارئ إلى الوقوف على دّلالة السّؤال، ولعلّ أصل المفاهيم الفلسفيّة سؤال يتبعه سؤال، مما يفضي إلى البحث والوقوف على أسرار الحياة، أمّا منبت السّؤال فهو الفضول أو الدّهشة التي تولّد المعاني.

تُطرح الأسئلة في أكثر من موضع، أذكر منها:

- حتّى متى سأظلُّ تائهةً؟

- هل لي بلحظةِ نشوةٍ أن ترتقي، وتُثير بي لحنًا تخَمَّر؟

- هل أخطو نحوَ خميلةِ حُبّي أم أجري؟

- هل أعشَقُ الغياب؟

- هل يحتويني حُبُّهُ؟

- هل أنحني وأنطوي؟

- هل أستجيرُ بالنّوى وأهجُرُ العِباد؟

- هل يحتويني حُبُّهُ؟

- هل أُدْمِنُ الحياةَ في غُروبِها؟

- كيف استطاعت حِقبةٌ قَبليّةٌ، بسوادِها وبِجهلِها، وهْبَ المعاني كلِّها، لذكورةٍ تُرفِّعُها على عرشِ الحياةِ؟

إنّ الحكاية هنا ليست في طرح الأسئلة، وإنما بما يتوارى خلف تلك الأسئلة من الدّلالات، وما تقتضيه من الوعيّ والإدراك، فالاستفهامُ المجازيّ لا يسعى إلى الإجابة، وإنما إلى الدّلالة التي تثيرها الصّيغة الاستفهاميّة بأسئلة في الوجود أو العدم، أو في الحضورِ والغياب، وكأنّي بالشّاعرة تؤكّد أنّ الشّعر رفيق مجيد في سرد أسرار الحياة.

وبعد.. تنطوي هذه المجموعة على قدر من الصّور الحيّة بأصواتها وإيقاعاتها، تسير بين فلسفة التّأمّل وشجن الإنسان، وتدعوا إلى التّمرّد على السّكون والرّكون إلى العتمة، وإلى التّحرر من القيود التي تحدّ من انطلاق الرّوح وإدراكها لمكنونات الحياة، وإلى تحرير النّفس من أغلال الفكر؛ لتَلِج إلى عوالم النّور وقد عرفت طريقها، إذ لا حائل هناك يحول بينها وبين الرّؤى، فالنّور نقيّ صاف، والحواجز المغلقة تتهاوى أمام النّقاء والصّفاء.

أبارك للشّاعرة سلمى جبران هذا الإصدار، وأتمنى لها التّوفيق والنّجاح.

***

صباح بشير

.....................

- ورقة مقدّمة إلى نادي حيفا الثّقافي.

عندما يرتقي الشعر إلى مستوى عميق، يتجلى السحر في استخدام الألوان كرموز تعبيرية تنبض بالحياة وتعزز الجمال والتجربة الشاعرية. فكأعمق ألوان الفن، تأخذنا القصائد في رحلة فلسفية متنوعة تربط بين الوجود وتجليات الروح. في سماء الشعر، يتوازن الغروب كرقصة مهيبة على حافة الأفق، يحمل في طياته الانتهاء والتغيير، في حين تصوغ المزاجات المنخفضة ألوان الحزن والكآبة، تنثرها القصائد كرموز للفراق والانفصال، متأملةً في قدرة الشعر على ربط الجمال الشاعري بالحقائق الفلسفية.

تشترك القصائد المذكورة في تركيزها على العواطف والمشاعر، واستخدام اللغة الشعرية والصور الشاعرية لنقل تلك المشاعر بشكل عميق ومعبّر. تستكشف هذه القصائد مواضيع مختلفة مثل الفقدان، الحنين، الشوق، الحرية، الانتماء، التغيير، والعمل. تتجلى قوة الذاكرة في القصائد، حيث تحاول الحفاظ على اللحظات الماضية وتجليدها في الكلمات. تستخدم القصائد صورًا شاعرية ورموزًا لإيصال المشاعر والأفكار، مثل البحر والسماء والسفن، والتي تعبر عن الاتصال العميق بين الإنسان والطبيعة وتعكس الأمل والرومانسية. تعزز القصائد أيضًا أهمية التأمل والاستمتاع باللحظات البسيطة والمميزة في الحياة. يعتبر الشعر وسيلة فنية قوية للتعبير عن المشاعر والأفكار، وتتميز هذه القصائد بقدرتها على نقل تلك المشاعر بشكل مؤثر وإيقاعي. تدعو القصائد القارئ للتأمل والتفكير في المعاني العميقة وتساهم في إثراء وجهات نظره وتعميق تجربته الشعورية.

قصيدة "أو تذكرين يا هيلين

تقدم القصيدة صورة معبرة عن الذكريات والمشاعر المرتبطة بالماضي والوطن. يتم استخدام اللغة الشاعرية لوصف الصور والمشاهد وإيصال الحنين والشوق إلى الزمن الذي كان المطر يغسل الأرض ويرطب الأشجار. تحمل القصيدة رسالة عميقة عن الانتماء والشوق إلى الوطن واللحظات الجميلة التي تمضي. تبرز القصيدة أيضًا قوة الذاكرة في الحفاظ على اللحظات الماضية وإحيائها في الكلمات. تستخدم القصيدة الصور الطبيعية لوصف الأجواء والفصول التي تجلب شوقًا وحنينًا. تشير الرموز المستخدمة في القصيدة إلى البحر والسماء والسفن كرموز للاتصال مع المخاوف والأمنيات المشتركة مع هيلين. تتناول القصيدة أيضًا الموضوعات العاطفية والشخصية والحنين إلى الأماكن والأشخاص الذين شكلوا جزءًا من حياة الشاعر. باختصار، تعبر القصيدة عن تجربة شاعرية غنية بالمشاعر والذكريات المرتبطة بالماضي والوطن، وتستخدم الصور الشاعرية لإيصال تلك الأحاسيس والشعور بالحنين والشوق. في قصيدة "أو تذكرين يا هيلين"، نشعر بمرور الوقت وعودة الحنين، وكأن المطر يغسل الأرض ويرطب الأشجار. وفي هدوء البحر وعبق السماء، تنبثق ذكريات تتجلى في أعماق النفس.

. ي ظل هذه الأبيات الشعرية، يستعرض الشاعر استخدام الصور الشاعرية والرمزية لنقل العواطف والأفكار بشكل مغمور بالجمال والعمق. قصيدة "أو تذكرين يا هيلين" تدفعنا للانغماس في عالم الذكريات والشوق إلى الماضي والوطن. تتجلى اللغة الشاعرية في وصف الصور والمشاهد وإيصال الحنين والشوق إلى أيامٍ كان المطر يغسل الأرض ويروي الأشجار. هذه القصيدة تحمل رسالة عميقة عن الانتماء والرغبة في الاحتفاظ بلحظات الجمال التي تمضي. تظهر هذه القصيدة قوة الذاكرة في الاحتفاظ باللحظات الماضية وإحيائها في الكلمات. وتستخدم القصيدة الصور الطبيعية لوصف الأجواء والفصول التي تثير الشوق والحنين.

قصيدة هلموا بنا الى البحر

تعكس القصيدة شغفًا عارمًا ورغبة قوية في الهروب والمغامرة. تدعو القصيدة إلى الاستكشاف والانغماس في عالم البحر، لاستكشاف جماله وأعماقه. تستخدم القصيدة صورًا شاعرية لوصف الحياة البحرية والمناظر الطبيعية، بهدف إيصال شعور بالحرية والتجاوز للروح. تعتبر القصيدة دعوة قوية للتخلص من القيود والانطلاق نحو المجهول. تستدعي القصيدة الصور البحرية والألوان والمشاهد الطبيعية لإيصال المشاعر والمناظر التي يرغب الشاعر في تجسيدها. تشير القصيدة إلى وقوفنا أمام البحر وإشعال شموع تحت الماء لجذب جزر الحوت الأزرق واستدعاء جند الآلهة الحمر. يتم استخدام الأسلوب الشعري ببراعة لإيجاد صور قوية ومعبرة عن الجمال والسحر الذي يحيط بالبحر. سنحلل الأساليب الشعرية والصور المستخدمة في القصيدة لفهم الرسالة التي يحاول الشاعر إيصالها. باختصار، تتجلى في القصيدة شغف الشاعر ورغبته الشديدة في الاستكشاف والهروب، وتستخدم الصور البحرية والألوان والمشاهد الطبيعية لنقل شعور الحرية والتجاوز. القصيدة تعتبر دعوة قوية للتحرر من القيود والانطلاق نحو المجهول. قصيدة "هلموا بنا إلى البحر" تدعونا لمسح أفق البحر المتلاطم والانغماس في أعماق اللون الأزرق. نحن نتقرب من الأمواج ونحتفظ بأسرارها، كأننا نرقص مع الشموع تحت الماء.

أما قصيدة "هلموا بنا إلى البحر"، فتعكس شغف الشاعر ورغبته القوية في الهروب والمغامرة. تدعو القصيدة إلى استكشاف جمال البحر والانغماس في أعماقه. تستخدم القصيدة الصور الشاعرية لوصف الحياة البحرية والمشاهد الطبيعية، بهدف إيصال شعور بالحرية وتجاوز الروح. تعتبر القصيدة دعوة قوية للتخلص من القيود والانطلاق نحو المجهول. تعزز القصيدة الأهمية العميقة للتأمل والاستمتاع باللحظات البسيطة والمميزة التي تحمل في طياتها قوة التجدد والتأثير العاطفي. وتظهر القصيدة التواصل العميق بين الإنسان والطبيعة، وكيف أن لحظات الغروب تلهم الروح وتعزز الارتباط الروحي بالعالم المحيط.

قصيدة "التفاف"

تستعرض القصيدة الذكريات والمشاعر المرتبطة بالماضي والوطن. تستخدم اللغة الشاعرية لوصف الصور والمشاهد وإيصال الحنين والشوق للوقت الذي كان المطر يغسل الأرض ويروي الأشجار. تحمل القصيدة رسالة عميقة عن الانتماء والشوق إلى الوطن واللحظات الجميلة التي تمضي. تعكس القصيدة أيضًا قوة الذاكرة في الحفاظ على اللحظات الماضية وإحيائها في الكلمات. بينما تناقش قصيدة "التفاف" الحنين والذكريات للشخص الراحل علي بصيص، حيث يستخدم الشاعر الصور الشعرية لوصف المشاهد والمشاعر المرتبطة برحيله. يشير الشاعر إلى لحظات الحديث عن القباب والقمر، وتجولهما سويًا في ممرات الصبح. يستخدم الشاعر الصور الطبيعية والأساطير لنقل المشاعر والأفكار. بهذه الطريقة، تتداخل القصيدتان في استكشاف العواطف والمشاعر، حيث تركز الأولى على الفقدان والحنين والثانية على الحنين والذكريات. تستخدم كل قصيدة صورًا شاعرية وتقنيات شعرية لإيصال العواطف بشكل معبر وعميق.

في قصيدة "التفاف"، يتجلى الاستخدام الرمزي في الصور والمفردات التي تنقل المعاني بشكل مجازي وتعزز العمق الشعري. إليك نموذجًا للرمزية في القصيدة. "النجمة الصبح" و"ناقة الليل": تعبر هاتان الصورتان عن الأفكار والرؤى الداخلية التي تعجز عن الظهور والتعبير عنها بوضوح. "الهجرة الفصلية" و"الغيوم السوداء": ترمز إلى التحول والتغيير والظروف الصعبة التي يواجهها الراحل أثناء رحلته.

اسراب القطاة": تمثل رحلة الانتقال والبحث عن المكان المناسب والوجهة المرغوبة.

"البحر البعيد" و"السماء الخفيضة": تعبر عن البُعد والضيق والحدود التي يجب تجاوزها للوصول إلى الهدف.

"المساحات المظلمة" و"عباءة الليل": ترمز إلى الغموض والتعقيد والصعوبات التي تواجهها الراحل في رحلته.

قصيدة "ماورد في الأفول"

تستكشف القصيدة جمال الأفول والغروب. تصف القصيدة لحظات الغروب وتأثيرها على المشاعر والمزاج. تستخدم الصور البصرية والتشبيهات لإيصال جمال وسحر الأفول، وتعكس قوة الطبيعة وتأثيرها على الإنسان. تتحدث القصيدة عن الفراق والتغيرات التي تحدث في الحياة، وتشد الانتباه إلى جمال اللحظات الخاصة في نهاية اليوم. تعزز القصيدة أهمية التأمل والاستمتاع باللحظات البسيطة والمميزة التي تحمل في طياتها قوة التجدد والتأثير العاطفي. يظهر من خلال القصيدة التواصل العميق بين الإنسان والطبيعة، وكيف أن لحظات الغروب تلهم الروح وتعزز الارتباط الروحي بالعالم المحيط. قصيدة "ماورد في الأفول"، فتعكس رحيل الشمس عن السماء ببطء، وتتدفق الألوان وتتلاشى الأشكال. في غياب النور، يولد السكون الذي يروي الروح بجماله. هذه الأبيات تبرز استخدام الصور الشاعرية والرموز لإيصال المشاعر والأفكار بشكل جميل ومترابط. بفضل قصيدة "ماورد في الأفول"، يستكشف الشاعر جمال الأفول والغروب. تصف القصيدة لحظات الغروب وتأثيرها على المشاعر والمزاج. تستخدم الصور البصرية والتشبيهات لإيصال جمال وسحر الأفول، مما يعكس قوة الطبيعة وتأثيرها على الإنسان. تتناول القصيدة أيضًا الفراق والتغيرات التي تحدث في الحياة، وتلقي الضوء على جمال اللحظات الخاصة في نهاية اليوم. وتعزز القصيدة أهمية التأمل والاستمتاع باللحظات البسيطة والمميزة التي تحمل في طياتها قوة التجدد والتأثير العاطفي. ومن خلالها يظهر التواصل العميق بين الإنسان والطبيعة، وكيف أن لحظات الغروب تلهم الروح وتعزز الارتباط الروحي بالعالم المحيط. باختصار، يمكننا القول إن الأبيات الشعرية التي تم ذكرها تستعرض بشكل رائع استخدام الشاعر للرمزية والصور الشاعرية لنقل المشاعر والأفكار بشكل مغمور بالجمال والعمق.

من خلال تحليل هذه القصائد، يمكننا استنتاج بعض القيم المشتركة مثل الحنين، الفقدان، الشوق، الحرية، الاكتشاف، وقوة الذاكرة. تعتبر هذه القيم جوانب مهمة في الشعر، حيث يعمل الشاعر على تجسيدها وإيصالها للقارئ بواسطة الكلمات والصور الشعرية. تشكل هذه القصائد قصائد معبّرة تستدعي المشاعر والتأمل وتدعو القارئ للتفكير في المواضيع المطروحة.

قصيدة ماورد في الغياب

تركز القصيدة على موضوع الغياب والانفصال. تستخدم القصيدة صورًا ومجازات لوصف الفقدان والشوق إلى الأشخاص المفقودين. تعبر القصيدة عن الحنين والأمل في اللقاء والعودة، وتستدعي الصور الطبيعية والرمزية لتعزيز المشاعر والمشاعر المرتبطة بالغياب. تعكس القصيدة أيضًا العواطف الداخلية والتفكير في الغياب والتأمل في معانيه. في قصيدة "ماورد في الغياب"، يتجلى الاستخدام الرمزي في عدة صور ومفردات تعزز المعنى العميق والتعبير عن المشاعر. إليك بعض أمثلة على الرمزية في القصيدة:

الشمس": ترمز إلى الأمل والحياة، ويمكن رؤيتها كرمز للمشاعر الإيجابية والتجدد

"السكون": يعكس الهدوء والسكينة ويمكن رؤيته كرمز للتأمل والتوازن الداخلي

"الألوان": تعبر عن التنوع والتعدد وتعزز الجمال والتجربة الشاعرية

"الغروب": يرمز إلى الانتهاء والتغير، ويمثل أيضًا الموت الرمزي أو الفقدان

"المزاج الذي ينخفض": يعكس المشاعر الحزينة أو الكآبة، وقد يكون رمزًا للانفصال أو الفراق

في ختام هذا المقال، يتبادر إلى الذهن جمال الشعر وقوته في التعبير عن المشاعر والأفكار. تنتقل القصائد المذكورة إلى أبعد من مجرد كونها مجرد كلمات على الورق، إذ تصل إلى أعماق الروح وتنساب في مشاعرنا بلغة شاعرية تعبق بالرموز والصور المعبرة. تستدعي هذه القصائد العواطف والتفكير، وتشد الانتباه إلى قيم الحنين والفقدان والشوق والحرية والتغيير والعمل. بواسطة استخدام الصور الشاعرية والتشبيهات والمفردات الرمزية، ينجح الشاعر في نقل تلك المشاعر والأفكار بشكل عميق ومؤثر. تأخذنا القصائد في رحلة من خلال الذاكرة والوطن والتجربة الشخصية، محاولة الحفاظ على اللحظات الماضية وتجليدها في كلمات تنساب بروح الأمل والرومانسية. تدعونا هذه القصائد للتأمل والاستمتاع باللحظات البسيطة والمميزة في حياتنا، وتثير فينا الرغبة في الاكتشاف والهروب والمغامرة. إنها دعوة قوية للتخلص من القيود والتحرر، والسباحة في عمق البحر المجهول بشغف وشجاعة. باختصار، فإن هذه القصائد المعبرة تجسد الروح الشاعرية وتعزز الاتصال العميق بين الإنسان والطبيعة والذات. تدعونا للتأمل والتفكير في المعاني العميقة وتساهم في إثراء وجهات نظرنا وتعميق تجربتنا الشعورية.

***

زكية خيرهم

يسعى الكاتب الفرانكفونى د. محمد طعان للغوص بمكامن الكتابة من خلال مستويين في لغة الكتابة: السردية والتصويرية المكثفة للنص الروائى، الذي رسمه لنا في شخوص روايته «سيد بغداد».

و لو سبرنا غور الحياة الشخصية للكاتب الطبيب الجراح، لوجدناها متشظية في عوامل الانتقال بين بيروت وأوروبا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية، وهى حالة سبغت جسد روايته وحولته إلى عالم من الغرائبية الممزوجة بالانطباع الأثنى والمذهبى أحيانا؛ وهنا فهو يشدو بروايته سيد بغداد أنغامه متنقلًا إلى عالم السردية الكلاسيكية للرواية العربية تارة، وإلى التناغم الفطرى للنص الدينى العفوى الذي يفرض وجوده بين أسطر الرواية تارة أخرى.

قد تجد عنوان الرواية يأخذ بمداه نحو تأويلية توحى للقارئ من الوهلة الاولى أنه كاتب عراقى عاش بين العشائر العراقية المتمركزة في جنوبي العراق، أو ربما معتنق أحد مذاهبها؛ وذلك لكونه يشير إلى شعائرها في أكثر من فصل في الرواي،. إلا أن (أهل مكة أدرى بشعابها) فلو اطلع الكاتب وعاش الحقيقة بين هذه العشائر الجنوبية من العراق، واطلع عن كثب على تفاصيل حياتها، لاكتشف الاعمق مما تناوله من تفاصيل روايته، وأدرك عمق العلاقات الاجتماعية وخصوصيتها وتقاليدها وموروثها المذهبى في الشعائر الدينية لتلك العشائر.

 تحديداً؛ وهو يتناول قضية ثورة سيدنا الحسين بن على بن أبى طالب في واقعة الطف عام 61 للهجرة (مدينة كربلاء 170كم جنوب بغداد تقريباً) متناولًا منها البعد الانسانى، وكيف ينتصر الحق على الباطل، في دعوة للسعى في صورة الانتماء للعسكرى الأمريكى جيمى إلى العشائر في الأهوار ومناصرة الحق لهم، كما هو الحال كمعادل موضوعى في شخصية الحر الرياحى الذي ترك جيش يزيد بن معاوية وانتمى إلى جيش الحسين بن على.

لقد استخدم في روايته تقنيات تعدد الاصوات وتخالف المنظور، وتوظيف الرسائل والمذكرات وتحريك الصورة المشهدية لتركيز اللقطة النصية في الحوار، حتى يرتقى للقيمة الكبرى للعادات والتقاليد والأعراف لدى هذه العشائر الجنوبية.

وبالتالى سيكون الاقرب منها في رسم الوصف والسرد وإعطاء البعد الانسانى للشخصية وحركتها داخل البناء الروائى، فضلا عن الاقتراب من دقة الوصف خصوصا عندما يحدد شخصية السيد، وهى الشخصية المحورية التي تعتبر من الاشراف لدى هذه العشائر ويكون نسبه (نسب السيد) عائدًا إلى آل بيت النبى محمد (ص) إلا أن الكاتب تجده ينسب هذه الشخصية (السيد) إلى عشائر الفريجات أو العبيدات ، في حين هاتين العشيرتين ليستا من الاشراف!!، كما هو الحال أيضاً في وصف المكان وتسميته المكررة خطأً للبعض منها، كمقهى الزهراوى والاصح مقهى الزهاوى (نسبة إلى الشاعر العراقى جميل صدقى الزهاوى المتوفى 1930) أو قوله مسلم بن عقيل بن ابى طالب هو ابن خال سيدنا الحسين والاصح ابن عمه.. فضلا عن عملية خلط الراوى بين أحداث ثورتى تموز في 1958 وتموز 1968.

 إن الراوى محمد طعان يختزل الكثير من الرؤى في شخصية البطلة آمنة التي تسعى للبحث عن زوجها الذي كان ضحية المقابر الجماعية، فهى تضمر في داخلها لواعج لماضى يتوزع بين الحنين لحبها البريء، وتضحيتها لزوجها الضحية في الوقت نفسه، وصراعها الداخلى الذي يؤطر سلوكها والسعى للتجرد منه، لان آمنة هذه الفتاة الغجرية التي كانت تعيش في دار غجرى وفى حى يسكنه الغجر في احدى أطراف العاصمة بغداد، والذى كان يلهو معها وطبان وزير الداخلية في حكم الرئيس صدام حسين، تلك الشخصية التي أغمرنا بها الراوى وتسليط الضوء عليها، حيث كان الوزير وقد تعلق بآمنة مذ كان يتردد على بيت أمها بذلك الحى الغجرى..

فضلا عن ارتباطها بزميل زوجها واللقاءات معه للبحث عن زوجها ومساعدته لها المتكررة، والسفر بين بغداد حيث كان يعمل فيها والعودة إلى الأهوار في جنوب العراق عند العيش مع والد زوجها الملقب بالسيد، هذا الارتباط المحورى أن صح التعبير عنه، والتنازع النفسى الداخلى في شخصية آمنة، يقودنا إلى ادراك النمو والتطور الهارمونى والدراماتيكى للشخصية، التي تنساب إلى المتلقى بانتقالات فنية، هنا استطاع الراوى تذويب لغته السلسة والشيقة في نمط سردى بديع يتميز بالحركة والتدفق والشجون التي تطلقها آمنة وهى تنصاع إلى شخصية وطبان المحاصرة لشخصيتها، ومراقبته لها حيث تشاء من التنقل بين بغداد ومناطق الأهوار في جنوب العراق.

إن مثل هكذا شخصيات كما يصفها عالم النفس يونغ، شخصية تفرز رواية من داخل رواية، فهى بحكم مركب النقص الذي يكون في تكوين شخصية آمنة، وتنازع النفس البشرية بين البيئة الغجرية التي كانت تعيشها، والانتقال إلى الأهوار والشعور القسرى الذي كان يلاحقها من الوزير وطبان، كفيل بأن يخلق دراما لرواية قائمة لوحدها.

وعندما تتوزع الرواية بين آمنة وشخصية السيد والعسكرى الأمريكى جيمى، تتشظى صور الأحداث بطريقة غير عشوائية بل تشظي من النوع الابداعى للراوى أو المتمكن من توظيف أدواته في البناء الروائى لعبور اللحظات غير المرغوب فيها وتجاوزها، في أسلوب التصور الفنتازى للاحداث وللزمن الذي يسقطه الكاتب، متجاوزًا الترهل في ديناميكية الحركة التصاعدية للأحداث..

لذا يعطينا الكاتب انطباعًا من الوهلة الاولى وحتى الاخير، بأننا امام مشاهدات تنطوى على احداث عاشها الروائى بواقعية سحرية صورها لنا عن الأهوار في جنوب العراق، والموروث الشعبى الذي يخاطب به شخصية السيد للعسكرى الأمريكى جيمى وكيف تحول الاخير باعتناق الدين الاسلامى..

قد يعزو ذلك إلى الإيحائية التي أراد بها الروائى من خلال شخصية العسكرى جيمى باعتناقه الإسلام بأهمية الدين الاسلامى وبرائته مما يحدث الان من ردود افعال على شبكات التواصل الاجتماعى (السوشيال ميديا) من تطرف فكرى وارهاب وأحزاب اسلامية.. ليؤكد أن المتطرفين فكريا هم أخطر من مرتزقة، وأن ما عاشه العسكرى الأمريكى جيمى خلال فترة غزو العراق لإسقاط نظام صدام حسين، كانت أكبر خدعة أمريكية، عززت لديه مفهوم كذبة دولته العظمى، بأن العراق لا يمتلك أي أسلحة دمار شامل، وأن ما عبثت به القوات الأمريكية بالشعب العراقى اثبتت له بالدليل القاطع أن أمريكا لا تحمل أي مفهوم عن حقوق الإنسان وأن الإنسانية براء منها، والذى جاءت به تحت شعار الديمقراطية وحقوق الإنسان.

ولست أدرى أن كان الكاتب د. محمد طعان قد شهد بنفسه ما عاشته بغداد بعد الغزو الأمريكى لها، أو قام بزيارة جنوب العراق والأهوار والعشائر العراقية التي تنتشر هناك، واطلع على الأعراف والعادات والتقاليد والشعائر الدينية فيها، لاتضحت له حقائق كثيرة وتصورات ربما مغلوطة عن ذلك العالم، عندما لا تتوازى فيه الجرعات المعرفية من ثقافات بين مجتمع إلى آخر، ففى البلد الواحد تختلف العادات والطقوس من شماله عن جنوبه، وبلد كالعراق، تتعدد فيه الديانات والقوميات والمذاهب والاثنيات، وبلد عريق صاحب تاريخ وحضارة، الذي كان موئلًا للكثير من القبائل التي سكنته وتسكنه حتى يومنا هذا، ومسرحًا للحروب والغزوات عبر التاريخ، يحتوى من عادات وقيم وأخلاقيات وطقوس شتى.

ويقتصر أثره على هذا الحماس المشبوب لإصلاح العالم بسلاح الدين كما يتوهم المتعصبون، ولكن هذه الإشارات الثاقبة التي لا تتسنى ملاحظاتها إلا لمن تأملها بإمعان تدل على خبرة الكاتب الوثيقة بهذه العوالم وقدرته على توظيفها في سياقاتها الطبيعية بتلقائية عجيبة.

إن الكاتب قد استطاع تذويب لغته السلسة الشيقة في نمط سردى بديع يتميز بالحركية والتدفق وحكايا بها شجون شخوصه وخواطرهم ونقدهم للحياة في مستوياتها المختلفة.

فإذا كان فن الرواية كما يصفها خورخى بورخيس بانها كتبت في عصور لاحقة ولكنها لم تصل إلى ذروة الفعل الانسانى، إلا أن رواية «سيد بغداد» باختلافنا مع الرأى السابق، فإنها أعطت للقارئ العربى نموذجا يحاكى الواقعية والسحرية والتنبؤ، بأن هنالك مخططا يقود العالم نحو التطرف والصراعات والانقسامات والتحديات، ليس على مستوى قيام الحروب بين دول العالم، وإنما حتى على صعيد الحروب من الاجيال الرابعة والخامسة .. الخ ، فيما سيبقى الفن الروائى راصدًا للوجع الإنسانى الذي شهد العديد من المعالجات المعقدة لانعكاسات واقع عربى سلبًا أو إيجابًا وسريع التحول في مفاصل الحياة والإنسان ذاته.

***

د. عصام البرام

مجموعة (هذا الألم الذي يضيء) أنموذجا.. دلالات مكامن القصيدة ومؤطرات الذات الشعرية

توطئة: إن كل حالة مدلولية لا تعدو كونها منظورا من بنيات دوالية دينامية تؤشر لذاتها تقدما مرتكزا نحو هوية مضمونية قد تبدو تعددية حينا، وحينا أحادية في توحدها داخل عملية إنتاجية تخلق لذاتها موضعا تمر من خلاله مؤولات واقعة النص ــ تبادلا نصيا ــ يجسد لمحمول المعنى مكانة واقعية غاية في الإقبال المقروء والإنجاز في مؤسسة صيانة آليات النص ودلالاته في حسية شيفرات مركزية من معنى النص المتوغل في علاماته الكامنة في مكامن القصد الدوالي وخطوطه المفترضة في حدود متمايزة من مؤطرات الذات المدلولية.من هنا لعلنا نسعى إلى تقويم وتقديم نماذج من تجربة الشاعر العراقي الكبير (عدنان الصائغ) ضمن تجاربه التي وصلت إلينا في أوج نزعتها المدلولية المركزة، لذا فهي قصائد ذات طوابع مدلولية كونها تنتمي إلى مواضع حالات مشهرة في صراعها المضموني، لتصبح من خلالها المنظومة المدلولية كعلامة وهوية وحقيقة تماثل إمكانية (البنيات الكشفية؟) في خلاصاتها الأكيدة في الظاهرة الشعرية، أي إنها تطبيقات تداري عرضية اللغة بمتطلبات إمكانية في النوع والظرف والحال وصولا إلى مخصوصية البؤرة المدلولية تألقا يجعل من وظائفية الدوال بمثابة الأحياء في الربط والعلاقة المتتابعة دون كشفية ما من شأنها استدراك حالة الاستكمال في موصلات المعنى والواصلة الصورية المستحكمة في معاملات القصيدة.

ــ الفعالية الدلالية بين الفضاء المحذوف وبنية البياض:

ونحن نطالع نماذج من تجربة مجموعة (هذا الألم الذي يضيء) واجهتنا جملة من الأحوال الشعرية ـــ تصنيفا وتوظيفا ـــ فهناك القصيدة المحاكمة للأشياء، وبالمقابل منها نجد القصيدة الصورة ذات الحضور المصافح في مستوى العملية الاستدلالية بين (الذات ـــ الحال) كذلك هناك نماذج موغلة في محمول بلاغتها التنافذية بتلاقح المقاصد والإيحاءات مع واصلة الاتصال بمحددات جدل التشكيل والحسية الإدراكية الفنية التي تتلاقى معها تلميحات وتضمينات المادة الشعرية كواصلة بحثية في التنوع وتحديث الأداة القصدية في الخطاب الدوالي.نقرأ ما جاءت به قصيدة (تشكيل) من اجتزاءات وفواصل ومحذوفات متنية، إذ لا تتوفر على ثمة علامة موصلة سوى بموجب المواضعة المدلولية من احياز النص وملاحقه.

صريررُرُرُ

باااابْ

ولا

من

جوابْ./ص14

إن غائية العلاقة بين دال وآخر، تحكمها الاصوات الحروفية إيقاعا (مكانيا ــ زمنيا) أو لربما لسان الحال الموضعي أضاف إلى (الإسناد المقيد) راهنا، وبلا تشكل أفعالي ما فلفظة (صرير) المتكررة بحرف الراء تصبغ الإيقاع النغمي لصرير الباب بدلالة من الإيحاء الظرفي (بااااب) كما أن ورود الجملة المقتطعة (ولا ــ من ــ جواب) تطيل من حركية الموحى في النص بأن حال الدلالة لا يوصل عتبة فعلية سوى بمواجهة ما تدل عليه الجمل اللاحقة (هكذا ما سوف يمضي الاغتراب) وبهذا الاعتبار الممكن يمنحنا الشاعر نتيجة قد لا تكون بالضرورة نواة اقتضائية للحال المخصوص، بقدر ما كانت علاقة إيحائية في حدود (المشابهة ـــ المشبه به) ولو تصورنا أن حالة فكرة التشكيل في قصيدة الشاعر، قد حلت في مجرى (الرؤية الإمكانية) لكان هناك ما هو أولى من تقطيع الحروف وتعدديتها في حيز النص، لأن رؤية التشكيل لا تعني الإيحاء بالأصوات بقدر ما تعنيه من رؤى خطوطية ذا وجهة نظر اعتى مما تعنيه تصديرات جمل القصيدة.ولكننا مع الصائغ من ناحية القيمة المدلولية عندما نراجع الجمل في النص: (صريررُرُرُ ـــ بااااب:ولا من جواب:هكذا ما سوف يمضي بنا الاغتراب) العلاقة الدلالية المرجحة هنا بواسطة جملة (يمضي بنا الاغتراب) إذا الهوية المدلولية هنا هي منقادة بفعل تأويل (الاغتراب) ، وليس إلى مجمل الحدوث الدوالي في سابق المتن النصي، كما الحال في هذه الأسطر المقطعية من ذات القصيدة:

الكتبُ التي في غُرْفَتي

بماذا

تتحاورُ

في غيابي./ ص15

الخطاب ها هنا كحال سابقة من الأسطر الأولى من النص، يمنحنا حالة استقصائية في تداولية الدال: (بماذا ـــ تتحاور) يمكننا ملاحظة المحايثة بين علاقة (الكتب) وصعيد مصداق دليلها في المكان (في غرفتي) يمكننا هنا القول أن العلاقة محصورة داخل أداة (استفهامية ـــ ضمنية) ولا يمكن بلوغ مرادها إلا بمعرفة حال لفظة (غيابي) وقد تتحدد علاقة الحال الغيابية في وضعيات جهاتية غير معلومة: (غيابي = لا كينونة / بماذا تتحاور = علاقة موضوعة = محايثة غير دالة) كما الحال يواجهنا في هذه الأسطر اللاحقة أيضا:

لستُ وحيداً

وحدتي

معي./ص15

إن الوحدات الشعرية هنا لا تكشف إلا عن إلزامات خاصة في مجال تكثيف الإيحاء بالذات أولا وأخيرا، وليس هناك علاقة استكمالية في خصوصية الموضوعة، لذا فإنها تبقى غاية في ذاتها لذاتها، دون المضي بها نحو حالة الارتكاز عبر وظيفة دلالية متطورة.

ـــ التفاصيل اختزالا استباقيا:

الحقيقة أن القارىء إلى قصيدة (عدنان الصائغ) يتنبه إلى مخيلة الشاعر تختزن أجمل الأعماق الأحوالية في شعرية الصورة، لذا غالبا ما تصادفنا قصيدة دون ضربة شعرية مكثفة ومزودة بمسافة مختزلة من السياق الاستباقي في النص:

نثيثُ الثلجِ

على نافذةِ منفاي،

رسائل متجمّدةٌ وصلتني من هناك

هكذا يُخيّلُ لي.

ص25 / قصيدة: رسائل

يسجل حجم هذه الأبنية الدوالية الواصفة، علاقة ما مخصوصة من وظيفة الأداة من وجهة نظر الفاعل المنفذ.يدرك الصائغ الملفوظ جيدا بإنه تداول بين ثنائية علاقة (وطن ــ منفاي : معيق فاصلي = نثيث الثلج : رسائل متجمدة وصلتني من هناك = الفعل التأويلي ـــ لفاعل استحالة : هكذا يخيل لي = مرحلة التجلي ــ ترغيبة في موضوعة المعيق) إن النسق الزمني في النص كما أسلفنا سابقا، حركة ملفوظية في حيز المكان، لذا فإن النص بأبعاده الفعلية تستشعر به وكأنه لم يكتمل ، أو لربما أن هناك نهاية غير كفيلة بإتمام دلالة النص بموجب وضعه الوصفي : (بينما ساعية البريد على دراجتها الهوائية، تشير أن لا رسائل لي اليوم) وبهذا الحد لا تنغلق القصيدة في مداها المدلولي، بل تبقى تشكل مع ذاتها كوقفة ظرفية، خاصة وأن للذات الأولية في سبق الاستجابة الاقتضائية بأن (رسائل متجمدة وصلتني من هناك) ويعتمد هذا التوالد الذاتي (هكذا يخيل لي) من جهة خاصة على نوعية الزمن بأبعاده الحسية بالمكان وتحول جهة الاتصال (على نافذة منفاي) لتكون الذات وحدها داخل النسق المكاني محاصرة بين (نثيث الثلج) والشعور باللاوجدى من مسار إعادة تشكيل حلم اليقظة بالتخييل (يخيل لي) .

ـــ الأنا والهو هو الأنا والهو:

تتكون مخصوصية الصورة الذاتية في عوالم شعر الصائغ، من خلال المجمل الإمكاني الذي يتشكل في ذاته وبذاته كالصورة الاستعارية، الصورة الكنائية، الصورة المجازية، فمن خلال هذه الاطوار البلاغية في المسوغ الوظائفي، تتخذ الذات لذاتها لعبة الصور المراوية، أوالمتخيل الآنوي عبر حوامله التكثيفية المقاربة لتجليات الصورة الحاصلة أو لا حصولية في ثنايا المتن التماثلي للأنا المعادلة:

رجلٌ سكّيرٌ

شبقٌ ...

يُخاصِرُكِ في الحانةِ

وأنا أرقبُهُ بغَيْرَةٍ

رغمَ أنَّهُ لمْ يكنْ أحدٌ سواي.

ص22 / قصيدة: مرآة5

يتبدى لنا من هذا السياق الشعري، ما تحتفظ به تقانة (شعرية المرآة) فالإنابة هنا تحدث وفق فعلية سكونية ــ مراوية، تؤشرها الذات المتحققة عبر ذاتها المحسوسة أو اللامحسوسة في مرحلية زمنية الرائي وحده ــ مجالا لإثراء خصوبة التخييل ــ أو لإنضاج مصدرية الصورة المراوية والمتمثلة في الخلفية من الذات الواصفة، لذا فإن الاشتغال عنا يعد اشتغالا في تباينات الملامح وليس بعلاقة الموجود بالمستشهد دالا، إذ لا عضوية نفسية بين (التوهم ـــ التمعن) إلا من حيث كون العلاقة مؤثرة في حالات معادلها النسبي، كما تصادفنا الحالة ذاتها في قصيدة (تأويل) إذ لا علاقة حقيقية للتأويل كدلالة بما جاءت به الأسطر الشعرية من أحوال موضوعية تختص بالتسمية:

يُملونني سطوراً

ويُبوّبونني فصولاً

ثم يُفهرسونني

ويطبعونني كاملاً

ويُوزّعونني على المكتباتِ

ويَشْتمُونني في الجرائِد

وأنا

لمْ

أفتحْ

غمي

بعد . /ص24

أنا شخصيا لا أعلم ما مدى علاقة مفهوم دال العنونة (تأويل) بكل ما جاءت به الدوال من إجراءات فعلية مفترضة، لعل الشاعر العزيز أساء تقويم مسمى التأويل إغفالاواضحا، فهنا الاستدلال لا يعكس دور الواقع التأويلي: فمن هو المؤول هنا؟ومن هو صاحب التأويل الذي لا يمت بصلة ما لأي جهة حتى وإن كانت إستيهامية مثالا؟القصيدة بحد ذاتها تتحدث عن عملية طبع كتاب وهو يمر عبر مراحله التكوينية وصولا إلى شتمه في الجرائد: (وأنا لم أفتح فمي بعد) هل الضمير هنا معودا إلى الكتاب ذاته وإن كان الأمر هكذا فعلا، فما علاقة جهة التأويل في تعالقات التشكل الدوالي إجمالا؟أعتقد إن الصائغ من جهتي لم يحسن معادلة وشائجه الدلالية في القصيدة لكونها محض كلمات دون علاقة جهاتية دالة، فهي مجرد فكرة لم تأخذ نصيبها في التركيز الصلاتي الدلالي تماما.

ــ مؤطرات الذات وتقانة الوسائط الآنوية:

إن التوغل في جغرافيا الذات حالة من أقصى محفزات الطاقة التخييلية، ولكنها من جهة ما قد تتخاذل أمام تفوق المظاهر التأويلية الكامنة في استجابات المقادير الموضوعية التي تحددها مهام الإيحاء والرموز والبلاغة الاستدلالية.فالشاعر الأستاذ عدنان الصائغ لديه في حياته الشعرية حساسية شديدة في لغة الذات، لدرجة وصول الأمر بالنتيجة، هو إن إحساسنا بأن القصيدة لا تمتلك سوى الأداة الذاتية ــ استقلالا وغاية ــ ومع ذلك لا يمكننا تجاهل حجم جماليات العملية الشعرية لدى هذا الشاعر الأكثر سعة وجموحا في مخيلة الذات:

أَطْرُقُ باباً

أفتحهُ

لا أُبْصِرُ إلاّ نفسي باباً

أفتحُهُ

أدخُلُ

لا شيء سوى بابٍ آخر

يا ربِّي

كمْ باباٍ يَفْصِلُني عَنِّي.

ص25 / قصيدة: أبواب

إن ذات الشاعر تستكشف عمق الحجب عن ذاتها هي بذلك تواجه وجودها عبر الأنا من خلال قطيعة غير متناهية من (فضاءات الوائق؟) لذا فإن مواطن الذات لدى الشاعر ملتحمة بالحدود والحجب ..إنها تجربة الحد والعائق في محل إمكانية معايشة الأشياء الذاتية من وراء اللحظة الأكثر تقيدا وسلبا وتأكيدا بالنفي والتوحد خلف متاريس حجب الأنا:

لي بظِّل النخيلِ بلادٌ مسوّرةٌ بالبنادق

كيف الوصولُ إليها

وقد بعد الدربُ ما بيننا والعتابْ.

/ ص26 قصيدة: حنين

ـــ تعليق القراءة:

هكذا واجهتنا مؤثرات (مكامن القصيدة؟) وتضاريس (مؤطراتها الذاتية) كصورة جمالية زاهدة في تمائم لغة الذات التأملية ــ غوصا في أعماق الأشياء أو تحليقا في أجوائها ـــ إن طبيعة القصيدة الشعرية لدى عوالم العذب (عدنان الصائغ) هي امتلاك لناصية أحلام الأنا عبر جواهر عمليات حلمية ذات أصول مشبوبة بصياغات أرواح الأشياء ضمن خيالات متذوقة بالمادة الفنية، لإبراز الاحساس الابداعي إلى التلقي وكأنه المزاجية المتحكمة في حالات صنيع التعايش مع أجواء التجربة الشعورية كمالا وصعودا نحو مقروئية القدرة التذوقية لحالات الوجود أو اللاوجود التقابلية والاندماجية والترجيعية من تفاعلات أفعال الشعرية الممرحلة في فلك القصيدة.

***

حيدر عبد الرضا

"الملائكة تهبط في بغداد": هو اسم ديوان الشاعر والناقد والمسرحي والفنان التشكيلي العراقي سعدي عبد الكريم، والتي صدرت عن دار المتن 2023.

العنوان:

يُعتبَر عنوان الكتاب، أو أيّ نصِ إبداعي، عتبةً، ونصّاً موازياً، ومفتاحاً يُشرعُ أبوابه أمام المتلقي؛ للولوج في دواخله. لذا يُعَدُّ صياغةً مهمةً للنصّ والكتاب؛ لأنّه الجسر الذي يوصل بين الكاتب والقارئ. وتأتي أهميته من كونه العلامة والإشارة لما يتضمنه النصُّ، وما يكنزه من دلالة ومعانٍ وأفكار وإشارات، وصور فنية مُبتدَعَة خلّاقة، يعمل الكاتبُ على تقديمها وجبةً إبداعية، أو فكرية على مائدة المتلقي. وعليه يحاول ويجهد أنْ يُقدّمَ أفضل ما يمكنه من عنوان ليُحفّز، ويثير فضول، وذوق المتلقي، ويغريه ليدخل النصّ، فيطالع، ويستقرئ، ويستكشف.3438 سعدي عبد الكريم

 قد يكونُ العنوانُ كلمةً واحدة، أو جملةً، تلخّصُ بتكثيفٍ مضمونَ النصّ. ومن وظائفه أيضاً تقديمُ فكرة جامعة شاملة (وحدة موضوعية) رابطة لأجزاء الكتاب، أوالديوان الشعري بتعدد قصائده، وتنوّع صورها، وألوان مضامينها ومعانيها وحكاياتها. وقد يختار الشاعر عنوانَ ديوانه من خلال الخيط الرابط لما يتضمنه من معانٍ وأفكارٍ ودلالات وأحاسيس. أو يتألف العنوان من كلمة واحدة متعددة المعاني والإشارات. أو من عنوان إحدى قصائده، مثلما فعل شاعرنا سعدي عبد الكريم، حيث اختار لعنوان مجموعته اسم إحدى قصائدها "الملائكة تهبط في بغداد" إذ يقول فيها:

تمتلئ ساحاتُ التحرير بالدم .. والهتاف

والسماء تكتظُّ بالشهداء

امرأةٌ في رأسِ الزقاقِ

تخلعُ (شيلتها) ترميها إلى السماء

يحمّرُ وجهُ السماء .. ثمّ

تهبطُ الملائكةُ في بغداد

يحلُّوا ضيوفاً على بيوتِ الفقراءِ"

 فالاختيار إذن، والحالة هذه، يكون للإشارة الى جامع المجموعة من معانٍ (وحدة موضوعية)، وهو الرابط الذي يربط النصوص داخلها بخيطِ واحد متصل واصل شامل يصوغ منها قلادةً منْ خِرَز مختلفةٍ ألوانُها، موحدٍ رباطُها (الخيط)، تحت مسمىً واحد (القلادة/ الديوان)، لتشعَّ بريقاً مُتحِّداً متعالقاً متشابكاً جذّاباً للرائي/المتلقي. لذا فإنّ قصائد المجموعة هي الخِرَز الملوّنة التي يربطها خيط (وحدة) واحد (موضوعية). وهذا ما نجده بجلاء في هذه الديوان قيد القراءة.

  يتألف عنوان المجموعة الشعرية هذه - كما نرى - منْ ثلاثة كلمات: اسمين، وهما الملائكة وبغداد، وفعل مضارع (تهبط)، وحرف جرّ (في). وهي جملة ذات معنىً، ودلالة، وإشارة الى ما تحمله منْ خلفيات تختزن الكثير مما توحيه في ذهن ونفس القارئ:

(الملائكة): يتبادر الى الذهن من أول وهلة سؤال: هل المقصود الملائكة بالمفهوم المقدّس؟

حين نرجع الى الجملة المُستلّة من سياق القصيدة عنواناً لها وللديوان، وبالرجوع الى نصّها، نقولُ: نعم، هم المقصودون بالكلمة.

لكننا حينَ نتوغل في أجوائها، وزواياها، وإيحاءاتها - نقرأ التالي:

"تتيه الملائكة ..!

في أزقة .. ومقاهي .. وأحياء بغداد

تطاردها رصاصاتُ الغدرِ

وقنابلُ الغاز المُسيِّلة للدمِ

الملائكةُ تختنقُ .. تفقدُ وعيها!

تستلقي على الأرضِ

الباعةُ المتجوِّلون .. والشعراء .. والفقراء"

القصيدة تروي عن انتفاضة تشرين 2019 وأحداثها، وما جرى فيها ولها، والتي شارك فيها الشباب والكهول من مختلف طبقات الشعب العراقي: باعة متجولون، مثقفون، شعراء، فنانون، أكاديميون، فقراء الشعب، الذين تظاهروا من أجل حقوقهم الأساسية كمواطنين وبشر، يجمعهم هدف الإصلاح، والعدالة والمساواة، وحقّ العيش الكريم، منْ اجل لقمة العيش، والعمل. وكلهم نقاء وبراءة وصدق وطيبة مثل ملائكة السماء، لذا هبطت الملائكة لتحتضنهم، وتعيش بينهم. وهنا الملائكة الذين تاهوا في الأزقة والمقاهي، وأحياء بغداد، تطاردهم رصاصات الغدر، والقنابل المسيلة للدموع – هم كلّ من ذكرهم الشاعر في المقطع أعلاه داخل القصيدة. إذن فهم الملائكة مجازاً . وبذلك فالملائكة في عتبة العنوان هم المقدسون، وعامة الشعب من أنقيائه وأبريائه، وشهدائه، في هذه الانتفاضة، والذين سقطوا في الحروب العبثية للنظام الفاشي السابق. وحين نمرُّ على عديد قصائد المجموعة، وما جاء فيها من ذكر لشخصيات عايشها الشاعر سعدي عبد الكريم، منهم مَنْ رحل، ومنهم مقيماً في الحياة مازال، وحين يذكرهم مشيداً بخصالهم، وشخصياتهم التي تركتْ أثراً لم ينفكَّ عن نفسه وقلبه، فهو بذلك يضيفهم الى قافلة الملائكة المضيئين، وإلّا لما مرَّ عليهم، ليقدّمهم لنا شهداء وأحياء:

الوالدين وشقيقته رحمهم الله

القابلة المأذونه التي ولّدته

الأصدقاء

الشهداء منْ رفاق السلاح أيام الحرب

الشعراء: مظفر النواب، ابراهيم الخياط، رشدي العامل ... وغيرهم

كلُّ هؤلاء هم ملائكة هبطوا في بغداد، بما قدّموه، وما حملوه في نفوسهم من طُهْر ونقاء، وعمل مثمرٍ وخدمة. وهناك ملائكة ستهبط في بغداد كما هبط أولئك، ومنهم الشباب المنتفضّ في تشرين، فهم سيواصلون الهبوط، مكمّلين مسيرةَ أولئك الذين رحلوا إلى دار الخلود عند ربٍّ رحيم. وهنا الأملُ المُرتجَى من الشباب وثورتهم: ليقول في قصيدة "قرنفلة وثورة" عن انتفاضة تشرين:

يا ابن أمي ..

تعالَ نقتسمْ بيننا عشقَ العراقِ

ونوقدْ في دروبِ الفقراءِ مليون

شمعةْ..

ونحيلُ عتمتها نهاراً .. وأنهاراً

ووردةْ ..

فإنْ ضجّت هتافات الشباب

أينعتْ أغنياتٌ مناضلةٌ

وزهرةْ ..

ومواكبُ تضيءُ ليل العاشقينَ

لتحيل مواسم الأحزانِ

فرحةْ ..

شخصيات عثرَتْ على مؤلف / شاعر

عندما كتب المسرحي والشاعر الإيطالي لويجي بيراندللو (1867-1936) مسرحيته الشهيرة (ست شخصيات تبحث عن مؤلف) كان يسعى لإثبات إزدواجية المعايير الاجتماعية من خلالها. لكنَّ المسرحي والشاعر العراقي سعدي عبد الكريم حين كتب في قصائده عن شخصياتٍ واقعية عايشها عن قربٍ: الأبوين والأشقاء، الأصدقاء، المعارف، رفاق السلاح في ساحات الحرب، أو شخصيات أخرى عامة، من خلال نشاطها السياسي، أو نشاطها الإبداعي، ومتابعة هذا النشاط، وسيرة شخصياته – كان يسعى من خلال ذلك إلى تثبيت تاريخ العراق الاجتماعي والسياسي والقيَمي في العقود الماضية، مثله مثل كثير من الشعراء. لكنّ الفرق أنّه خصّصّ ديوانه هذا لهذه المهمة؛ ليُثبتَ بهذا أنّ الشعر بحقٍّ هو ديوان العرب، مثلما قال القدماء.

 فهو في مجمل قصائده عرض علينا الكثير من الشخصيات العراقية العامة والخاصة، ليسجّلَ شعراً تاريخَ العراق الحديث سياسياً واجتماعياً. هذا التاريخ الغارق في أحداثٍ جسام، واحتلالات، وغزواتٍ، وكوارث، وصراعاتٍ دموية، وظلمٍ وقهر، واستبداد، وحروب عبثيةٍ أودتْ بحياة الخيرة من شبابه آلافاً مؤلّفةً. إضافة الى اضطهادٍ وملاحقةٍ واعتقال وتعذيب الذين ناضلوا وانتفضوا، وقاوموا من أجل الحرية والعدالة والمساواة، والعيش الكريم، فكانَ السجنُ والتعذيبُ والقتل والاختفاء مصيرَهم. يقول في قصيدة "لم يبلغ بعدُ سنَّ التأمل":

لم أعدْ بحاجةٍ لقطعة أرض في المقبرة

أشيِّدُ عليها قبري

فالوطنُ الذي أضاع شبابي

بالحروب ..

ونزق الساسة .. ومجون الطغاة

لم يُسجّل لي في دائرة العقاري

عقد امتلاك أرض

أو عقد ايجار طويل الأمد

قررتُ بمحض تفردي أن أُدفَن في العراءِ

دون قبر ..!

لكي .. لا أضايق الموتى

والشهداء .. والقتلى الأبرياء

ولا يدوس على قبري الحفاة

فأنا على موعد مع الحواري العِين

وفاكهة منْ كلِّ زوج اثنين

وأنهار من خمرٍ

سألتقي هناك بولدي البكر

الذي تلقفته الحرب الطاحنة

فأردته شهيدا

وهو لم يبلغْ بعدُ سنَّ التأمل

 ويقول في قصيدته الرثائية في المرحوم أبيه (كم أنت جميل يا أبي حتى في موتك):

في محبسه الانفرادي

اصفَّرتْ سبابة أبي والوسطى،

منْ جمر السجائر، واللوعات

احتفلت به جدران السجن

بمناسبة إقامته الطويلة بينها

ماتت أمي كَمَداً في غيابه

  فالقصيدتان أعلاه تختصران تاريخاً عراقياً مُثقَلاً بالاضطهاد والمطاردة والقضبان، والحروب والشهداء. وهو ما يسعى من خلاله شاعرنا سعدي عبد الكريم الى توثيقه شعرياً، وتوثيق ما لاقى العراق وشعبه من ويلات الحكام وطيشهم ونزواتهم، إذ يُطلقُ أيضاً صرخته المدوّيةَ في قصيدته "عملٌ منْ رجسِ الحكومات":

في وطني لا نملك إلا الحزن

ولافتات سوداء مُعلّقة

على جدران البيوت الآيلة للسقوط

وأكوام القمامة!

تتناثر أجسادنا على قارعةِ الطريق

لا شيء في وطني غير الموت

والخيانة!...

أنا عاشق بدائي

آتٍ منْ أزمنة الحنظل

والنخل .. ألتحفُ الفقر دثاراً

من أول سوط نخر ظهري

في حجر التعذيب

وفي زنازين الحكومات المتعاقبة

والأمن السريّ!

هذه الصرخات التي يطلقها الشاعر هي أرخَنَةٌ للوقائع والأحداث والزوابع والعواصف التي مرّت وتمرّ، وهبَّتْ وتهبُّ، على العراق دون انقطاع، وكأنها قدرٌ منَ الأقدارِ. وهي بذلك صرخةُ إدانة إنسانية لمعاناة شعب وقع بين براثن الذئاب البشرية التي يُسمَون حكاماً، ورعاةً مسوولين عن رعيتهم، كما قال الرسول الكريم.

 وقد مرّ الشاعر من خلال رثائياته في الديوان على نفس الوقائع والزوابع والعواصف القاصفات قصفاً، التي تهبُّ على الوطن، منذ أن أصبح وطناً. رثائيات لشخصيات مثل الأبوين والشقيقة، وشهداء التعذيب في السجون، وشهداء الحروب العبثية الكارثية، والشعراء الذين عُرفوا بمواقفهم الوطنية، ونضالاتهم التاريخية، مثل مظفر النواب، وابراهيم الخياط، مروراً برشدي العامل... وغيرهم.

 كما ضمّنَ قصائده الأخرى بعدد كبير من أسماء كبار شعراء العراق، في سياقها ومضمونها، وهو بذلك يشير الى عظمة العراق في ولادته لهكذا اسماء كبيرة عظيمة قدَّمتْ عصارةً مواهبها الإبداعية الشعرية، وتجاربها الحياتية، ومعايشتها لواقع أرضها، وتحمّلها المطاردةَ والاعتقال والسجن والتعذيب، وحتى سحب الجنسية، نذكر منهم على سبيل المثال لا الحصْر: الجواهري، النوّاب، السيّاب، إبراهيم الخياط، يحيى السماوي، گزار حنتوش، الحصيري، يوسف الصائغ ... وغيرهم.

 في قصيدته عن الراحل الكبير مظفر النوّاب (محاكمة النواب) قدّم لنا الشاعرُ سعدي عبد الكريم المناضلَ والشاعرَ النوّابَ على شكل محاكمة، يجيب فيها النواب على أسئلة القاضي، ومن خلالها يذكّرنا بتاريخ مظفر النضالي ومواقفه الإنسانية والفكرية، ومحبة الناس له من طبقاتٍ مسحوقة مُهمَّشة مضطهَدَةٍ:

القاضي/ما اسمك؟

النوّاب/مظفر عبد المجيد النواب

القاضي/ أين تسكن؟

النواب/ في قلب الشعر

القاضي/من معك؟

النواب/ أحرار الشعوب

القاضي/هل أنت مذنب؟

النواب/نعم ..

مذنبٌ بحبِّ العراق

والفقراء ..

والضعفاء ..

والمساكين ..

والنائمين على الرصيف

وهكذا حتى ختام القصيدة. وبهذا المشهد الشعري المسرحي نقرأ أثر تخصّص الأديب الفنان سعدي عبد الكريم المسرحي على خطابه الشعري، وأسلوبه في التعبير الفني، إذ يتسلّل السردُ خفيةً من خلف الستار ليدخلَ في جسد قصائده عفويّاً طبيعياً دون صنعةٍ. وبالنظر الى مجمل قصائد المجموعة نلحظ هذا التسلل الفنيّ، الذي يضفي عليها سمة القصة والحكاية، لكنْ في الوقت ذاته يبقى الشعرُ هو سيدَ الموقف بقامة عالية مطلَّةٍ من ذروتها على وادي القصيدة، مهندساً معمارياً بتخطيط هندسيٍّ شعري دقيق، وبلاغة مصاغةٍ بأنامل ماهرة، يقفُ خلفها تجربة شعرية ومسرحية وتشكيلية غنية طويلة الباع، والثقافة، والتجربة الحياتية الحبلى بالأحداث، والوقائع والتأمل، والمعاناة. وكلُّها كانت صقيلةً، فصقلتْ فنَّ سعدي عبد الكريم، بنحتها في نفسه، وذاكرته المتوقدة التي عرضتْ وتعرضُ علينا ما مرَّ به من أحداث شخصية خاصةٍ، ووقائع تاريخية عامةٍ، وذكرياتٍ حُبلى بالأحداث والشخصيات. كلُّ ذلك بقلمه اللمّاح، وحسّه الشعري، والفنيّ المسرحي والتشكيلي، ولغته الثريّة، وبلاغته العالية.

 وأخيراً، وليس آخراً:

في ديوان (الملائكة تهبط في بغداد) جوانبُ عديدة، وصوراً ولوحاتٍ مرسومة بالكلمات، يمكن الولوج في زواياها، والبحث فيما وراءها، والنظر فيها، وقراءتها نقدياً وبحثياً؛ لاستخراج ما تكتنزه منْ معنىً ومبنىً، مضموناً وشكلاً، لغةً وبلاغةً، وتناصّاً فنيّاً يضفي على الديوان غنىً منْ مثل عنوان قصيدته "عملٌ منْ رجسِ الحكومات"، وهو تناصٌّ مع القرآن الكريم في قوله تعالى:

"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ" (المائدة 90 )

وغيرها من التناصّات:

"قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ" (هود 40)

وذلك في قصة النبي نوح. حيث يردُ في قصيدة "أميرُ صعاليك بغداد":

وأنادمُ الحور العِين من كلِّ لون

اثنين ..

اثنين ..

وأقضمُ الفاكهة من كلِّ زوجين

اثنين ..

اثنين ..

  وكذلك هناك في النصّ أعلاه تناصٌّ آخر مع الكتاب الكريم، وهو (الحور العين)، وغيرهما في متن القصيدة.

 يرد التناصّ في الديوان ليسَ مع القرآن الكريم فحسب، وإنّما مع الشعر العربي أيضاً، ولمختلف الشعراء، وهذه إشارة الى الثقافة الموسوعية المتنوعةِ الأجناس، مابين المسرح، والفنِّ التشكيلي، والشعر، والدين، وعموم الثقافة.

***

قراءة: عبد الستار نورعلي

تموز 2023

في نسج "مسودن" النثري، يتأرجح الزمن المشوش بباستمرار، حيث يتشابك بتاريخ العراق المتشظي والواهن. يتميز هذا النص بلغة فريدة وشامخة تنقل عدة معانٍ وتستمد الحوافز، متسلحةً بكلماتها وتراكيبها الحكيمة التي تعكس أجنحة جمالية تجسد الأفكار والمعنى. تسلط هذه النصوص الضوء على أهمية الوطن والانتماء، وتعبِّر عن أمل الراوي في مستقبل مشرق للعراق، حيث يستعيد تألقه وتطوره بعيدًا عن الخداع والفساد.

يستخدم السارد (الراوي- بطل القصة) الصور الشاعرية والمجازية لنقل مشاعره وأفكاره، معززًا تأثير النص على القارئ. تشبه "مسودن" أعمالًا أدبية أخرى كـ "رسائل من باطن الأرض" أو "الإنسان الصرصار" لديستويفسكي، حيث تعتبر إحدى الروايات الجميلة الفلسفية العميقة للكاتب دوستويفسكي.

تعكس قصة "مسودن العراق" حالةً سوداويةً وسخريةً، حيث إن العنوان نفسه يتميز بسخرية مقصودةٍ، وأن من حَكَمَ العراق مجانين. تندفعُ الكلمات وسط التوترات والصراعات الاجتماعية في العراق الحزين. يندب الراوي ابتعاده عن أحبابه وأصدقائه، يتألم بغربته ويتوق لعودته إلى وطنه. تتجلى في نسج "مسودن" النثري تجاذبات الزمن المعقد، حيث يتداخل مع المكان.

كذلك تعبّر اللغة عن مشاعرَ حارة و"متناقضة" أحياناً، وإنفعالاتٍ يثيرها السارد. ينتظر الراوي بقلق وتوتر، متطلعًا لمكالمة هاتفية وهو يشعر بالأسى لبُعده عن أحبابه وأصدقائه، ويعاني من ألم الغربة، يتوق لعودته إلى وطنه مع خوفه على مستقبله. يحلم صاحب الرسالة_القاص-الراوي) بفخر الهوية العراقية وتتصوَّرها جميلة ومتسامحة، وتحمل آمالًا في إعادة بناء العراق كدولة مزدهرة ذات حضارة عظيمة. يندفع البطل (الراوي) بكلماته القوية والعبارات الصعبة أحياناً ليكشف عن التوتر والصراع الاجتماعي في العراق الحزين.

يندب السارد ابتعاده عن أحبابه وأصدقائه، يتألم بغربته ويتوق لعودته إلى وطنه، مترقبًا المستقبل. بالتالي، يستكمل السارد رسالته بتسليط الضوء على الجوانب المتضاربة في الواقع العراقي، من الفقر والاستبداد إلى الثقافة الغنية والتاريخ العريق. يندد بالحالة الراهنة للعراق ويعبر عن رغبته في إحداث تغيير إيجابي يعيد للعراق مكانته العظيمة في العالم. تستعرض السردية الجوانب المعقدة للشخصية الرئيسية، وتسلط الضوء على التحولات النفسية التي تعانيها في محاولتها للبقاء والتكيف في ظروف قاسية.

يتميز نص "مسودن" بخطاب شاعري ويستكشف تفاصيل الشعور، يستخدم كلمات تعكس الحالة النفسية المتشابكة للمرسل (السارد). تبرز هنا أهمية الصداقة كقوة محورية في حياة المرسل، وترسم علاقةً فريدة من الاحترام المتبادل بين الطرفين. يتناول الرسالة العراق بحزنه ويصوِّره كبلد يواجه تحدياته، و يتلألأ فيما بين السطور طموح المرسل، حيث يحلم بترسيخ وطن مزدهر يشع بالحضارة ويستقبل اللاجئين منكل العالم .

وقد ركّزَ الكاتب على أحداث العراق من خلال التلميح. تتجسّد الصور والرموز بقوة، تجعل القارئ ينشغل بتفسير النص من خلال الإطلاع على العراق وتحوُّلات تاريخه،. يسلط نص "مسودن" الضوء على تحديات العراق، ويحمل رؤية المؤلف لها.

يبرز الكاتب زهير شليبه بمهارته الفائقة في رسالته "مسودن"، حيث تتعدد المعاني في تراكيب جميلة، بسلاسة وسهولة، تغمر السرد بإيقاعها الساحر، مجذبة القارئ وموجهة إياه في رحلة شيقة. تتألق براعة الكاتب في صياغة الجمل. حققت اللغةُ توازنًا فنيًا بين الصورة والمعنى، وتميزت بكلمات دقيقة تستدعي الانتباه وتتناغم مع السرد.

هذه الرسالة رائعة، تجسد قدرة زهير شليبه ككاتب، حيث تأسر الأرواح. تتميز رسالة "مسودن" بلغة فريدة وراقية، تتجلى فيها المعاني والكلمات والتراكيب بحكمة وجمال.

تظهر رموز "مسودن" بين بريق الجمال وقوة الروح، حيث تعزز الثقافة وتضفي بُعدًا خاصًا. توجه القارئ هذه الرموز والرمزية في رحلة فهم وتجربة النص، حملته عبر معانٍ عميقة ومفهوم لا يُحصى.

في رسالة "مسودن"، تُنسج اللغة بلمساتٍ متقنة، حيث تُختار الكلمات بعناية لتجسد المشاعر والأفكار بملموسية. يعتمد الكاتب على أسلوبٍ سرديٍ متقنٍ يجذب القارئ ويحافظ على اهتمامه طوال القصة.

يستعين الكاتب بالصور والتشبيهات لتعزيز الوصف وتوضيح الأفكار ويتم بناء النص بشكلٍ محكم ومنظم، حيث ينسج الأحداث والمفاجآت فيتحقق التشويق غير المفتعل لإبقاء القارئ مشدودًا ومتحمسًا لاستكمال مجرى القصة واستيعاب المعاني العميقة. وتظهرالشخصيات بشكلٍ واقعي ومتطور، مما يعزز تجسيد الأفكار والمعاني.

يُسيطر الكاتب على اللغة بمهارةٍ ودقةٍ، حيث يختار الكلمات بعنايةٍ لنقل الأفكار والمشاعر بجمال وتأثير. بإيجاز، تتميز رسالة "مسودن" ببنيتها المحكمة، حيث يركز على التنظيم العام للنص. تطور الحبكة وتدفق الأحداث يثيران الشغف ويشدان انتباه القارئ لمعرفة المزيد.

يتجسد تطور الشخصيات بطريقة واقعية ومتقنة. يتحكم الكاتب في اللغة ببراعة ودقة، مستخدمًا الكلمات بعناية لتعكس المشاعر والأفكار بوضوح وجمالية. يتجانس البناء السردي بتناغم يخلق الإثارة والترقب. في الختام نتأمل الجمال في رسالة "مسودن" ونتذوق سحر الكلمات وروعة السرد. إنها رحلة أدبية ألهمتنا وأثرت فينا بعمق. تمكن الكاتب زهير شليبه من خلق عالمٍ فريدٍ ومتنوعٍ ينبض بالأفكار والمشاعر، وتأخذنا هذه الرسالة في رحلة مليئة بالتأمل والتساؤلات. تتنوع الرموز والتشبيهات والصور لتصوّر الواقع وترسم صورة تراثية غنية للعراق وشعبه.

***

زكية خيرهم

الرواية على الرغم بما توفره من متعة القراءة، إنما ايضا متعة المعرفة وهي الاهم والأكثر تشويقا وشدا؛ في الاحداث التي يتم سردها في متن الرواية. كما ان الرواية، عندما تكتظ بحوادث التاريخ وبالذات التاريخ المسكوت عنه، في الذي يخص تفاصيل حياة الناس؛ تصبح رواية ممتعة لجهتي المعرفة والتشويق. رواية الضفادع للروائي الصيني مو يان؛ تروي تفاصيل حياة الناس في الصين، التي تحولت خلال عقود من دولة من العالم الثالث، يقاسِ شعبها من الفقر وحتى الجوع في ظل حرب التحرير وبعد هذه الحرب؛ الحرب الاهلية لتنتهي في نهاية المطاف؛ الى دولة عظمى تشق طريقها الى ان تكون واحدة من اهم الدول التي تسعى الى صياغة نظام عالمي جديد وعادل. بالإضافة الى السرد التاريخي الممتع لتجربة الصين التي تكاد تكون فريدة او انها بالفعل متفردة؛ المعرفة بشعب يقاوم بقوة ورسوخ وثبات، على ما يتخلل هذا من ألم انساني يمس القلب، بل انه يسبب جروح قد لا تندمل لأجساد نزفت الكثير من دماءها؛ من جروحها المتعددة. رواية من هذا النوع توفر للقاريء متعتين؛ المعرفة وروي الاحداث مشوقة جدا بفعل الشد والترقب لما سوف تجري بها او على متونها من احداث. هذه الرواية التي تروي معاناة الناس، من حرب التحرير من الغازي او المحتل الياباني الى الحرب الاهلية الى الانتصار واقامة الصين الشعبية، مرورا بالثورة الثقافية، وسياسة تحديد النسل؛ والأخيرة هي مركز الثقل في الرواية اذ ان اغلب الاحداث تدور حولها. ان من اهم مهمات الرواية الناجحة هي ان تسرد المسكوت عنه في السرد التاريخي المجرد من التفاصيل، الى سرد ادق تفاصيل الأحداث لحياة الناس التي صنع منها او من مكابدات الناس فيها وخلالها ولعقود؛ تاريخ الصين الحديث. تعني وفي جوهر ما تعني؛ هو اظهار او اشهار المعاناة الانسانية التي ظل الناس او ان الناس تعاني اشد ما تعانيه، فيها، من ألم واوجاع تجرح النفس والقلب وتترك على الناس جروحا قد لا يكون لها من سبيل؛ كي تندمل او ان يتم نسيانها ممن تعرضوا لها. والاهم هنا ان افرادا لدولتين متحاربتين او دولة محتلة ودولة اخرى خاضعة بالقوة الى الاحتلال بكل ما يتبع هذا الاحتلال من اهانة لكرامة الناس في الدولة التي خضعت للغزو والاحتلال. لا يمنع هذا بعد انجلاء غبار المعارك وتغييرات الاوضاع تغييرات كلية؛ من ان يلتقي الابناء على قاعدة التبادل الثقافي والمشورة الثقافية في تبادل وتفاعل معرفي عميق؛ بحب وتقدير فائق واحترام. السارد تيتار، الشرغوف، وهو ايضا الشخصية المحورية او المركزية في الرواية، اي انه سارد مشارك في الروي؛ يراسل الاديب الياباني، سوجيتاني يوشيهيتو. يستشيره حول عزمه على كتابة مسرحية تسرد تداعيات تحديد النسل التي اتبعتها الحكومة الصينية لمنع الانفجار السكاني بما لو لم يحددوا النسل سوف يجوع الشعب وتضيع عن الشعب فرص التطور. اسم الراوي المشارك في متون الرواية؛ هو الخبب الوئيد بالإضافة الى العمة، عمة الخبب الوئيد، التي تلعب دورا فاعلا ومركزيا في جميع مجريات احداث الرواية. بهذه الاستشارة يبدأ سرد الاحداث عبر رسائل الراوي الى الاديب الياباني التي يحكي فيها لصديقه الاديب الياباني ما دار فيها من تطورات واحداث قبل عقود من لحظة كتابته لهذه الرسائل؛ الي ان تنتهي بالمسرحية التي يقول عنها السارد من انها قد طال انتظاره لها او طال امر المباشرة بكتابتها. في هذه الرواية، رواية الضفادع، والتي هي اضا؛ عنوان المسرحية التي يتم سردها تاليا بعد الكم الهائل من الرسائل. تبدأ الرسائل بشرح ما يتعرض له الناس من قهر ومصادرة الإرادة البشرية التي جبل الانسان عليها منذ الخلق الاول له؛ وهو فرحة الحمل ومن ثم انجاب الاطفال. تقوم العمة وهي عمة الخبب الوئيد؛ بإجهاض الحوامل على الرغم من إرادتهن الرافضة لهذا الاجراء القسري. مما يسبب الضياع للكثير من الناس، ليس النساء فقط، بل الازواج الذين يرغبون في انجاب الاطفال وبالذات حين يكون الطفل الاول انثى، فانهم يرغبون او يطمحون الى ان تنجب زوجاتهم ذكرا يحمل اسم العائلة ويحافظ عليها من الانقطاع. اثناء عملية الاجهاض تموت البعض من الحوامل التي خضعهن للإجهاض على الرغم من إرادتهن. ان هذه العمليات تجعل الناس في القرى التي هي الآن مدن حافلة بالنشاط في الصناعة والزراعة والحضارة؛ تكره العمة كرها شديدا. والد الاديب الياباني كان ضابطا في جيش الاحتلال الياباني للصين. اثناء عمليات المقاومة لجيش الغزو الياباني للصين، وتاليا عمليات تثبيت الاحتلال في مواجهة فصائل من المقاومة بقيادة ماوتسي تونغ؛ يتم اعتقال العمة مع والدها الذي كان من قيادات المقاومة، تتعرض هي ووالدها الى التعذيب من قبل الضابط الياباني والذي هو والد الاديب الياباني. تواجه العمة الضابط الياباني بقوة وشراسة على الرغم من انها لم تبلغ بعد العاشرة من عمرها. في النهاية يقوم الضابط الياباني بأطلاق سراحهما معا العمة ووالدها. في الثورة الثقافية التي قادها ماوتسي تونغ؛ يهمش والد العمة تماما بسبب موقفه من الثورة الثقافية، لكن العمة تواصل نشاطها السياسي بقناعة تامة بصرف النظر عن موقف والدها. الخبب الوئيد ينظر الى موقف العمة بأعجاب وانبهار ودهشة، إنما هذا الاعجاب لم يمنع عنه، أو لم يكن هذا الانبهار حاجزا عن طرحه للأسئلة عن شخصية العمة، ودوافعها واندفاعها ومواقفها من الثورة الثقافية وسياسة تحديد النسل، التي تلعب هي الدور الكامل في تنفيذه في المنطقة التي هي فيها، طبيبة النسائية والتوليد، وترأسها للجنة الحزب الشيوعي في تنفيذ سياسة تحديد النسل في المنطقة. في خضم هذه الرسائل التي تستظهر للقاريء حجم الكم الهائل من الظلم والقهر ومصادرة الإرادة الانسانية في اختيار الطريق الذي يراه  الأنسان اي انسان وفي اي زمان وفي اي مكان؛ مناسبا له، بهذا تتراجع شخصية الانسان كانسان، ويتحول الى اداة لتنفيذ الاوامر التي تصدرها القيادات العليا؛ مما يجعله او تجعله هذه السياسات؛ يضيع ويتيه في الحياة او ان الحياة بإشراقاتها وامالها، لم يعد لها وجود في حياته؛ ليتحول في النهاية الى رقم تسحقه ميكانيكية السياسة المجردة من الفعل الانساني في الحركة والهدف والاجراءات. العمة التي تتزوج من ضابط طيار صيني؛ تتعرض للتحقيقات والمراقبة على الرغم من نشاطها ومواقفها الفاعلة في تنفيذ سياسة تحديد النسل؛ بسبب هروب زوجها الطيار بطائرته الى الصين الوطنية، (جزيرة تايوان حاليا) الذي اعتبر بفعلته هذه؛ جاسوسا وخائنا. العمة مع انها؛ نددت بزوجها، وتبرئت منه ومن فعلته هذه؛ إنما هي وفي اعماقها ظلت تكن له الحب والاحترام؛ في تناقض صارخ بين الظاهر والمدفون في اعماق القلب والنفس. في هذا الزمن يلتحق الخبب الوئيد الى الجيش كضابط بعد ان اكمل دراسته. يتزوج، ويرزق بطفله الأول. هنا عليه الالتزام بسياسة تحديد النسل وبالذات كونه ضابطا في جيش التحرير الشعبي الصيني، مما يترتب عليه ضوابط مضافة. الطفل الذي جاءه كانت من سوء قدره انثى وكانت زوجته تريد او انها كانت تطمح ان يكون الوليد ذكرا؛ كي تحافظ على امتداد سلالة زوجها بدافع الحب العميق له. لذا عملت في مغافلة لزوجها على ان تحبل عل الحمل هذه المرة يكون ذكرا. الا ان العمة حين عرفت بالأمر ابلغت الجيش او وحدة ابن اخيها بان زوجته حامل في مخالفة لسياسة تحديد النسل. عندما علم امر الخبب الوئيد بهذا الامر او الحمل خيره بين امرين اما الاجهاض او الطرد من الجيش. مما جعله بالضد من إرادته الانسانية وإرادة الحب في اعماق قلبه لزوجه؛ ان يجبرها على الخضوع لعملية الاجهاض، الا ان الزوجة رفضت بقوة وشراسة هذه الإرادة واصرت على الاحتفاظ بالجنين. في النهاية وبعد مطاردات واختفاءات وهروب؛ خضعت على الرغم منها لهذه الإرادة اللانسانية. تموت اثناء عملية الاجهاض لتكون الرابعة التي تموت اثناء عملية الاجهاض، وتتبعها ثلاث عمليات اجهاض اخرى؛ تموت الحوامل والاجنة معا فيها، جميعها على يد العمة الطبيبة النسائية والتوليد. الصورة التي ما انفكت تلاحقه، الدقيقة الفاصلة بين الحياة والموت، التي فيها قالت له زوجه:- احبك الخبب الوئيد، آه لو تعرف كم الحب في قلبي لك ووضعت يدها على جهة قبلها، اخفيت عنك الحمل حبا بك الخبب الوئيد؛ ودخلت الى صالة الإجهاض التي لم تخرج منها حية. الكوارث تترى في هذه الرسائل بين المطاردة والعنف والموت والإجهاض القسري، التي قادتها او صنعتها العمة بالتزامها الحدي في سياسة الحزب الشيوعي، والذي كان مبعث حسرة لقلوب ونفوس الناس. في احد هذه المطاردات تصاب بالصدمة، لكنها مع هذا لم تتخل عن قيامها بما هو مطلوب منها في التطبيق الصارم لسياسة الطفل الواحد. في احد هذه الملاحقات التي تصطحب فيها العمة الشرطة في اعتقال من تحاول الهرب او اخفاء الحمل. في هذه المتابعة الشرسة من قبل العمة مع الشرطة لواحده كانت قد انبجت طفلتين، وارادت ان تنجب الطفل الثالث في غفلة من العمة، لكن الطبيبة، كان لها عيونها التي كانت قد بثتها في ارجاء القرى. تختفي المرأة الحامل في زاوية مظلمة من البيت، لكن العمة تعرف هذه الزاوية تماما؛ لذا يتم بيسر اعتقالها من قبل الشرطة. الكارثة حدثت هنا عندما تم نقلها مع العمة والشرطة الى الزورق المعد سلفا لنقلهما الى المستوصف الذي يقع على الجرف الثاني من النهر؛ المرأة تلقي بنفسها في النهر، تحاول ان تغطس الى اعماق النهر كي تفلت من متابعة الشرطة. إنما يحدث ما كان غير متوقع من الحامل ومن الطبيبة؛ أذ تتعرض للإسقاط وهي في اعماق النهر لا يظهر منها الا جزءا من وجهها. تموت في المستوصف بسبب النزف، لتترك لزوجها طفلتين. بعد عدة سنوات، يتزوج الخبب الوئيد من الأسد الصغير، الممرضة التي تعمل كمساعدة للعمة في عمليات الإجهاض؛ بترغيب واغراء من العمة. تمر السنوات، لم يرزقا خلالها بطفل مما يشكل هذا الحرمان؛ هاجسا مخيفا للزوجه التي كانت تحب الاطفال وترغب رغبة شديدة في ان يكون لها طفلا من صلب الخبب الوئيد. وفي التزامن يكون هناك وجع اخر لعائلة اخرى وهو اشد وجعا واعمق تأثيرا، مما يعاني منه الخبب الوئيد وزوجه. هذه العائلة هي العائلة التي ماتت الام اثناء عملية الاسقاط بسبب محاولتها اخفاء جسدها عن الشرطة والعمة والممرضة في اعماق مياه النهر. يتولى الاب رعاية الطفلتين الى ان يصبحا شابتين. لكن ألم الخسارة والفقدان والحسرة، التي ظل الاب المكلوم يكابدها حتى اتت على عقله وصار او اصبح فاقدا لرشده، يمشي في المدينة بلا هدى ولا هدف. اما الشابتان فقد عملتا في معمل لصناعة ادوات التجميل كي يفيا بمتطلبات العيش في عائلة فقد راعيها عقله وصوابه. هنا نلاحظ كم ان تحويل الانسان الى ألة، تجرده من ادميته؛ التي ينتفض من اجلها او بالضد منها تحقيقا لإنسانيته او لما يرغب ويريد من دون ضغط واكراه؛ تأتي على وجوده بالكامل، ويصبح رقما تتلاعب فيه الحياة او من صنع معايير وقواعد هذه الحياة من دون ان تحضر امامه؛ عند رسمه او خطه لهذه المعايير والقواعد مدى تأثيرها على البشر المستهدف منها. بهذه السياسة يدخل الكثير من الناس الى حلبة الخداع والكذب، والغش بلا واعز من ضمر واخلاق، أذ انهما تغيبا عنه تحت ضغط الحاجة بالحصول على ما يريد حين يتم سد جميع الطرق لما كان يرغب فيه. يحدث حريق في المعمل الذي تعمل فيه الفتاتان، تموت احداهما في الحريق لأنها غطت بجسدها اختها التي ظلت حية بتضحية اختها لكنها مع هذا خرجت من الحريق مشوة الوجه، مشوة جدا. وزوجة الخبب الوئيد تغافل زوجها ايضا وتأخذ الحيامن منه من دون علمه، وبمساعدة وارشاد العمة الطبيبة النسائية والتوليد؛ تزرعها في رحم الفتاة التي انقذتها اختها من الحرق؛ تحت ضغط الحاجة الى المال. في النهاية يلد الطفل وكان ذكرا. لكن الفتاة تظل متعلقة بالطفل على الرغم من انهم عند الولادة قالوا لها ان الطفل ولد ميتا، لكنها لم تقتنع، وتستمر تبحث عنه او انها استمرت تبحث عن الممرضة وزوجها الخبب الوئيد. في الخاتمة تصل لهما وهما في حفل لأحياء حفل احتفاءا بولادة طفل للخبب الوئيد وزوجته الممرضة، على الرغم من تقدمهما بالعمر؛ تحضره شخصيات من نخبة المجتمع. تصرخ في الحفل عند دخلها:- انه طفلي وليس طفلها.. هنا تنتهي الرسائل وتبدأ المسرحية..

المسرحية

على خشبة المسرح: واجهة المستشفى الصيني – الامريكي ذو رؤوس الاموال المختلطة، الكنز العائلي، واجهة فخمة. صور للأمهات والاطفال. ابطال المسرحية هم كل من الاسد الصغير زوج الخبب الوئيد، وصديقه ورفيق دراسته، صاحب احد المطاعم الفخمة، والعمة التي بلغت السبعين من عمرها، وتعاني من الهواجس والكوابيس التي تمنع عنها النوم ليالي طويلة بسبب ما كانت هي السبب في انهاء او اطفاء حيوات الكثير من الاطفال وهم لم يزلوا اجنة في رحم امهاتهم. صاحب مؤسسة الضفادع الثيران وهي مؤسسة كان وجودها غطاء لعمليات غير قانونية وغير اخلاقية. صاحبها او مالكها ايضا رفيق دراسة الخبب الوئيد. مهماتها الحقيقية هي ان تجعل الفتيات الفقيرات يحملن من الاثرياء ممن يريدون طفلا ذكرا اخر في تحايل على شروط وضوابط تحديد النسل؛ لقاء مبالغ مغرية من المال في صفقة كما هي صفقات التجارة في البيع والشراء. يتم توليد الاسد الصغير في مستشفى الصيني – الامريكي والذي يحمل الاسم التسويقي؛ الكنز العائلي، في مخادعة وغش لا اخلاقي، أذ، من يتم توليدها هي شين الحاجب، الفتاة التي تشوهت في حريق معمل ادوات التجميل والذي اتى على حياة اختها التي حمتها بجسدها، من الحريق. في الفصول التالية، وفي الفصل الأخير، الفصل السابع، من هذه المسرحية التي تعكس بقوة مشهدا مؤثرا جدا؛ ووحشية ان يتحول الأنسان او ولادة انسان مادة تعرض للبيع والشراء، ربما قريبا ما كان يحدث في اسواق النخاسة في عصور ما قبل الحضارة والتمدن؛ يجري احتفال فخم يتم فيه دعوة نخب المجتمع رفيعة المستوى، وصحفية لتصوير هذا الحدث، او هذه الحفلة. مادة الاحتفال هو حصول الحمل ومن ثم الولادة؛ من الزوجين الخبب الوئيد والاسد الصغير اللذان بلغا من العمر ما يحَول وحصول الحمل في هذا العمر. إنما يتم احالة الامر كله الى القدرة الالهية. في منتصف الحفل وفي مفاجئة؛ تدخل شين الحاجب والدة الطفل الحقيقية، وتصرخ في الجميع بان الطفل هو طفلها وليس للأسد الصغير اي علاقة بالأمر. ثم بعد دقائق يدخل والدها هو يصرخ في المحتفلين؛ بأنهم او بان مؤسسة الضفادع الثيران قد خدعت ابنته، لم تعطها المبلغ المتفق عليه بينهم وبين ابنته، قالوا لها ان الطفل ولد ميتا وها هو امامكم بكامل صحته وعافيته. الصدمة تذهل المحتفلين، وايضا العمة والزوجين. "تنتزع شين الحاجب الطفل من يدي الأسد الصغير، وتهرول خارج المسرح. يتسمر جميع الحضور للوهلة الأولى، مذعورين متفاجئين"..

- رواية الضفادع

-  للروائي الصيني مو يان

- من اصدارات شركة المطبوعات للتوزيع والنشر.

- تقع الرواية في 533 صفحة من القطع المتوسط.

- ترجمة ميراي يونس

***

مزهر جبر الساعدي

"كتابة الرواية تعني الوصف بالكلمات، وقراءة الرواية تعني تخيُّل الصور من خلال كلمات شخص أخر" (باموك، 78)

فهل أتقنت مؤلفة هذه الرواية الوصف بالكلمات؟ وهل استطاعت من خلال روايتها أن تخلق واقعاً خيالياً بديلاً يستطيع القارئ من خلاله أن يرسم صورة واضحة للواقع الواقعي الموازي له، فتصل بذلك الرسالة التي أرادت المؤلفة أن توصلها إليه؟ بمعنىً أخر، هل افلحت المؤلفة في اصطحاب القارئ معها في رحلتها إلى ذات المرأة في المجتمع الذكوري الشرقي؟

بمزيد من التشوُّق والترقُّب قرأتُ رواية "رحلة إلى ذات امرأة"، باكورة إنتاج الكاتبة المقدسية صباح بشير، في محاولة للعثور على إجابات لهذه التساؤلات، التي من شأنها أن تحدد تقييم القارئ لهذه الرواية. وعلى الفور رأيتُ أن الكاتبة تتقن رسم الصور بالكلمات، وتحسن الوصف اللغوي للشخصيات والأحداث بلغة عربية سليمة فصيحة وعبارات مجازية شاعرية جميلة، لا بل إن بعض العبارات الشاعرية في بداية الرواية هي على قدر من الروعة والعذوبة بحيث تجعل القارئ يتيقَّن من أن الكاتبة تمتلك موهبة فائقة في الإنشاء اللغوي تَعِدُ بالكثير، فهي تقول في صفحة 15، على سبيل المثال: "لقد وهبتني الأيام مخزوناً هائلاً من الذكريات، تلك التي سارت بموازاة الجرح وأمسكت بيده.." وفي صفحة 25 تقول: "كلها ذكريات مضت، تسكنُ في حوافِّ القلب وتستقرُّ في حنايا الذاكرة، لا تغادرني ولا أغادرها.." وقبل أن تنطلق في سرد قصتها من على "شُرفة الدهشة" تُعلن: "وجلستُ على تلك الأريكة في الشرفة، أمتطي صهوة ذاكرتي وأنطلق عائدة إلى الماضي." هذا "الامتطاء لصهوة الذاكرة" يثير في النفس زخماً من الصور وتداعيات المعاني يصعب على المرء أن يوقف تدفقه، ويدفع بالقارئ إلى الركوب خلف الفارس على صهوة جواد الذاكرة لمرافقته في رحلته إلى أعماق ذاته كامرأة في مجتمع ذكوري شرقي.

وكما يتضح من خلال هذه الاقتباسات القليلة، فإن الكاتبة تبرع أكثر ما تبرع في وصف الذاكرة والذكريات، فهناك تتجلى قدراتها المتميِّزة على رسم الصور بالكلمات وعلى تطويع اللغة لغايات الخلق الشاعري للجمال، علماً بأن الرواية بأكملها هي بمثابة رحلة على صهوة الذاكرة في غياهب الذكريات، وهذه الرحلة تتخذ شكل دائرة مغلقة تعود على ذاتها، فهي تبدأ من حيث تنتهي وتنتهي من حيث تبدأ، أما ما ستؤول إليه الأمور بعد هذه النهاية/البداية فمتروك لمخيلة القارئ الذي ينتهي من قراءة الرواية ولكنه لا ينتهي من التفكير بمصير بطلتها التي أصبح الآن يتعاطف ويتماهى معها.

كما ويُضاف إلى رصيد الكاتبة صباح بشير مقدرتها المدهشة على وصف أوضاع ومشاهد في غاية التعقيد بعبارات بسيطة، ومن الأمثلة على ذلك هذا الوصف البلاغي المقتضب للانتفاضة التي اندلعت في الأراضي الفلسطينية المحتلة في نهاية عام 1987، والتي كان قد وُضع في وصفها العديد من المقالات والمؤلفات:

"بدأت الأحداث الساخنة تشتد مع بداية الانتفاضة، لتبشر ببدء مرحلة سياسية صعبة، فالوقائع التي تجري على الأرض مأساوية لا يمكن السيطرة عليها، والمظاهرات والاعتصامات والاحتجاجات اليومية تملأ المدن والقرى الفلسطينية من شمالها لجنوبها، والمشاهد قاسية وأعراس الشهداء لا تتوقف، أغلقت المدارس والجامعات أبوابها.. كان علينا الإيمان بالمعجزات كي لا نفقد الأمل." (ص 27)

حين أقرأ هذا النص المقتضب، أشعر أنني حصلتُ على ما يكفي من الوصف لأكوِّن صورة واضحة عن أوضاع الانتفاضة في مراحلها الأولى بما يخدم الهدف الذي أوردت الكاتبة هذه الفقرة من أجله.3344 صباح بشير

بيد أن الوضع السياسي المتأزم في مدينة القدس التي ترزح تحت نير الاحتلال الإسرائيلي وممارساته العنصرية (أثناء الانتفاضة أو ما عدا ذلك) ليس هو المحور في هذه الرواية، وإنما محورها هو وضع المرأة في المجتمع الذكوري وما يُلحِقه هذا المجتمع بالمرأة من مصائب وويلات تحطم شخصيتها وتنغص عليها حياتها وتجهض مشاريعها لتحقيق ذاتها كإنسان كامل الإنسانية. هذا المحور هو "ما يميِّز الروايات عن أشكال السرد الأدبية الأخرى" (باموك، 28)، وهو كامن في كل مكان من الرواية ومرتبط بكل التفاصيل فيها. وبهذا المعنى فإن "رحلة إلى ذات امرأة" هي بمثابة أنَّة ألم طويلة يقطِّع سماعها نياط القلب، وصرخة احتجاج مدوية على ما يرتكبه المجتمع الذكوري بحق المرأة من ظلم واضطهاد واستعباد، وبالتالي من ضرر وإيذاء وتحطيم.

ولكن من حق القارئ هنا أن يتساءل: لماذا اختارت الكاتبة صباح بشير هذا المحور بالذات؟ لماذا قررت أن تكرس روايتها الأولى لهذا الموضوع؛ موضوع التآكل الداخلي في المجتمع الفلسطيني؛ موضوع الغطرسة الذكورية المتجذرة والمستفحلة في المجتمع، والتي تجعل نصف المجتمع يضطهد ويقمع ويدمر نصفه الآخر؟ ما الذي يدفع امرأة من القدس المحتلة الجريحة إلى أن تخاطر باتهامها بالخروج على الإجماع الوطني وإضعاف قضية المقاومة والنضال من أجل الحرية والاستقلال لكي تتحدث بإسهاب عن ذكورية المجتمع وتوجه الأنظار والوعي العام إلى العلاقات غير المتوازنة وغير العادلة بين الجنسين؟ ذلك لأن هذا الصوت المُشكك (المُخوِّن) الذي يرى أنَّ قضية المرأة يجب أن تتراجع إلى خط الدفاع الثاني أو الثالث وأن تحتل مرتبة منخفضة في سلم الأولويات الوطنية، هو أحد الأصوات المهيمنة في المجتمع الفلسطيني، وذلك على الرغم من وجود صوت آخر لا يقل عنه هيمنة في المجتمع يدَّعي أن الصوت الأول ما هو إلا وسيلة لذر الرماد في العيون وذريعة للتهرُّب من مواجهة الواقع المرير. وعليه فإن دافع الكاتبة إلى هذا الاختيار لا بُد أن يكون دافعاً قوياً بشكل استثنائي، وربما يكون نابعاً من تجربة شخصية مع ضحايا الذكورية من نساء القدس.

هنا يجب أن نذكر أن القارئ يلاحظ منذ الصفحات الأولى أن الراوية في الرواية هي نفسها بطلة الرواية، فالصبية "حنان" تمخر عباب الذكريات لكي تسرد قصة حياتها هي نفسها، أي قصة حياة "حنان" البطلة أو الشخصية المركزية في الرواية. وعليه فإن القارئ لا يستطيع أن يمنع نفسه من الشعور، منذ الصفحات الأولى من الرواية، بأن الطرف الثالث من هذا الثالوث الروائي – أي مؤلفة الرواية – مشمول بشكل من الأشكال في هذا التماهي والتطابق التام، بمعنى أن الراوية والبطلة هُنَّ نفس الشخص. ويستمد القارئ شعوره الطاغي بهذا التماهي والتطابق من حقيقة أن المؤلفة تضع المسرح الأول لمشهديات القصة في أحد أحياء القدس، وهو بأوصافه التفصيلية يتطابق مع المنطقة التي كانت تشكل مرتع طفولة المؤلفة صباح بشير ومسرحاً للمراحل الأولى من حياتها الواقعية، وهو يستمده كذلك من حقيقة أن مواصفات البطلة/الراوية "حنان" من حيث الدراسة، ومستوى التعليم، والمؤهلات الأكاديمية، ومجالات التخصص والعمل، والمحطات المركزية في الحياة، كلها متطابقة مع مثيلاتها لدى المؤلفة. ومع أن هذه هي رواية أدبية من صنع الخيال وليست سيرة ذاتية بالمعنى الدقيق، إلا أنها تبدو للقارئ على أنها "رواية ذاتية" من نوع "ديفيد كوبرفيلد" لتشارلز ديكنز و"أغنس غري" لآن برونتي و"المثقفون" لسيمون دي بوفوار. ولا شك أن القارئ معذور في شعوره بهذا الشعور الطاغي، حتى وإن لم يكن مصيباً، حيث أنه "ليس هناك عمل أدبي موضوعي بحت، مجرَّدٌ كُليّاً من ذاتية الأديب" (كناعنة، 11)، والكاتب والقارئ "كلاهما يعرفان ومتفقان على حقيقة أن الروايات ليست خيالية بالكامل، كما أنها ليست حقيقية بالكامل... فالإبداع الروائي هو خدعة تمكننا من الحديث عن أنفسنا كأننا شخص أخر، وعن الآخرين كما لو كنا في مكانهم" (باموك، 35 و63). ولا شك أن الكاتبة صباح بشير بارعة في تطعيم الواقع بالخيال من أجل إبعاد الرواية عن أن تكون مجرد "سيرة ذاتية"، إلا أن القارئ العادي ذكي لا يمكن الاستهانة بذكائه في القراءة فيما بين السطور، علماً بأنَّ "عقل القارئ ينزع دائماً، أثناء فعل القراءة، إلى العثور على العالم المُعاش للأديب في طيات النص الأدبي الذي يقرأه له" (كناعنة، 12).

بغض النظر عما إذا كانت صرخة الألم والاحتجاج على الغطرسة الذكورية التي تطلقها الكاتبة في روايتها صرخة ذاتية أم بالإنابة عن "حنان" ومثيلاتها من نساء القدس وفلسطين والمجتمعات العربية والشرقية بشكل عام، فإن هذا ليس من شأننا ولا يغيِّر في الأمر شيئاً على أية حال، فنحن في الحالتين نحاسب الكاتبة على ما أودعته بين أيدينا من نص روائي، ونطالبها بالالتزام بما يجب الالتزام به من براعة الإبداع وسلامة المنطق وتوخي الصدق والشفافية في عمل روائي ذي رسالة سامية يهدف إلى أن يكون مؤثراً بشكل فعلي على توجيه الوعي وتحفيز الفكر وتأجيج المشاعر والدفع نحو التغيير فيما يخص قضية اجتماعية جوهرية تحدد مصير المجتمع وجودة حياة الإنسان فيه. فليس المقصود من رواية كهذه أن تكون وسيلة للتسلية والمتعة وقتل الوقت فحسب، بل هي تطمح إلى أن تكون محركاً للفعل ومحرضاً على التغيير، ومن هذا المنطبق نستمر في هذا التحليل.

في كتابه "أركان الرواية"، يفرق الكاتب والناقد البريطاني إدوارد فورستر بين "الشخصية المُسطَّحة" و"الشخصية المستديرة" في الرواية. ونستطيع أن نقول، باختصار شديد، أن الشخصية المسطحة هي الشخصية النمطية أحادية الفكر والموقف والمزاج، المألوفة بحيث نشعر أننا نعرفها ونلتقي بها في حياتنا اليومية، والتي نستطيع دائماً أن نتنبأ بأفعالها ومواقفها فلا يُدهشنا شيء مما تفعل أو تقول حتى لو كان ما تفعل أو تقول كريهاً علينا مناقضاً لعقليتنا وتفكيرنا وفلسفتنا في الحياة. أما الشخصية المستديرة فهي شخصية معقدة غامضة غير مفهومة، متقلبة المزاج يصعب علينا غاية الصعوبة أن نتنبأ بأفعالها ومواقفها وكثيراً ما نُصدم أو نصاب بالدهشة حين نرى ما تفعل أو نسمع ما تقول. والروايات تزخر في العادة بالشخصيات المسطحة، وبعض الروائيين يهتم بأن يُضمِّن في روايته شخصية أو اثنتين من الشخصيات المستديرة لضمان عنصُرَيّ المفاجأة والتشويق في الرواية، ولكن في بعض الروايات الكلاسيكية العظمى يبرع الروائي في رسم شخصية مستديرة واحدة يخلق من خلالها حبكة روائية عبقرية تمتد على طول الرواية وتجعل من قراءتها رحلة مستمرة في عالم من متعة التفكير والتأمل واستخلاص العبر والدروس، ومن أسطع الأمثلة على روائيين عباقرة من هذا المستوى؛ ليو تولستوي في "أنا كارينينا"، وفيودور دوستوييفسكي في "الأبله"، وغوستاف فلوبير في "مدام بوفاري"، وفيكتور هيغو في "البؤساء"، وشارلوت برونتي في "جين آير"، وأليف شافاك في "لقيطة إسطنبول"، ونجيب محفوظ في "أولاد حارتنا". المشكلة في الروايات هي، كما يقول فورستر، حين تكون هناك "شخصية مسطحة تحاول أن تبدو مستديرة" (85)، أو بكلمات أخرى، حين يريد الروائي أن يرسم شخصية مسطحة ولكنه – لسبب ما – يعجز عن ذلك فتخرج الشخصية "مستديرة" بشكل مشوَّه أو غير مقنع، والأمثلة على ذلك كثيرة جداً في تيار "الروايات" الذي يجتاحنا في السنوات الأخيرة.

كل الشخصيات في رواية الكاتبة صباح بشير هي من نوع الشخصيات المسطحة، أحادية الطبع والمزاج بحيث نستطيع في كل الحالات والمواقف أن نتنبأ بسهولة بما سوف تقول أو تفعل، فلا نفاجأ ولا نندهش حتى حين نشمئز ونمتعض مما تقوله أو تفعله؛ هكذا هي والدة البطلة "حنان"، وأختها "غادة"، وصديقتها "ماري"، وجارتها "تغريد"، وزوجة أخيها "رحاب"، وزوجها الأول عمر، وحتى زوجها الثاني "نادر" الذي تكشف زوجته "حنان" فجأة أنه مدمن على القمار، فالحقيقة أن هذا الكشف المفاجئ لا يفاجئنا كثيراً، لأننا كنا منذ بداية علاقة "حنان" به نتوقع أن يكون في شخصيته خلل تراجيدي يدمِّر زواجها ويعيدها مُحطَّمة من باريس إلى شرفة بيتها في القدس حيث ابتدأت الرواية وانتهت، الأمر الذي كنا نعرفه طوال الوقت. حتى شخصية "حنان" نفسها هي شخصية مسطحة، وهذا سيتضح لنا بعد قليل.

إلا الأب، والد "حنان"، فهو الوحيد في الرواية الذي لا يمتلك شخصية مسطحة. فهل هذه شخصية مستديرة، أم شخصية أريدَ لها أن تكون مسطحة ولكنها (لسبب ما) انتهت إلى أن تكون شخصية مستديرة؟

ما يرجِّح الإمكانية الثانية هو ما أوردته الكاتبة في صفحة 35 من الرواية، حين تقدَّمَ أهل الشاب "عمر" إلى الوالد لطلب يد ابنته "حنان" منه، حيث تقول على لسان البطلة: "لم يهتم أبي أيضاً لطلبهم ولم يأخذه على محمل الجد." لماذا لم يأخذه على محمل الجد؟ ما الذي دفعه إلى رفض "عمر" حتى قبل أن يعرفه، وحتى قبل أن يسأل عنه ويستفسر عن أحواله وأحوال أسرته؟ وإذا كان بالفعل يهمه أمر ابنته واستمرارها في الدراسة وتحقيق الذات إلى هذا الحد، فلماذا انقلب في موقفه رأساً على عقب بعد أيام قليلة فقط؟ وكيف نجح "عمر" في التأثير عليه و"إدخال الفكرة إلى رأسه" حتى قَبِل به زوجاً لابنته إن هي قبلت؟ هذا غير مفهوم على الإطلاق. لا بل إن كل شخصية الأب غير مفهومة، ومواقفه وتصرفاته غير منطقية وغير مقنعة للقارئ. هذا الرجل التقليدي الرصين المحترم، التقي الورع ذو الجاه الرفيع والكلمة النافذة والسمعة الحسنة، حامي حِمَى الأخلاق والأعراف والعادات والتقاليد، المنغمس في المجتمع التقليدي الذكوري حتى العظم، المُحاط دائماً وأبداً بأشخاص ذكوريين متزمتين ذوي مواقف متخلفة وعقليات متحجرة... كيف استطاع أن يكون رغم كل ذلك متحرر الفكر عقلاني التفكير نسويّ المواقف، متفهماً للمرأة داعماً لمطالبها مُسانداً لحريتها، حامياً لابنته مشجعاً لها قابلاً بخياراتها مؤيداً لمطالبها في الدراسة وتحقيق الذات إلى حد أنها تقول عنه (ص 166): "مرّة تلو مرّة، أجد يد أبي تمتد من بين موج الحياة لتنقذني من الغرق في آخر لحظة"؟! أما كان من الأفضل لو أن الكاتبة أعانت القارئ على الفهم والتغلب على هذه المتناقضات في شخصية والدها، من خلال سرد بعض التفاصيل عن خلفيته في الطفولة والشباب، والبيئة الاجتماعية المميَّزة التي أحاطت بتربيته وتنشئته بهذا الشكل الاستثنائي المميّز؟ صحيح أن القارئ يستطيع في كل الظروف والمواضع أن يتنبأ بأن الأب سيقف دائماً إلى جانب ابنته ويدعمها في السرّاء والضرّاء، ذات اليمين وذات الشمال، إلا أن تصرفات الأب ومواقفه تظل عصية على الفهم، فهو يتعامل مع صمت ابنته على أنه قبول، وحين تسوء الأمور يلوم ابنته على صمتها ذاك أشد اللوم.. وهو يشجع ابنته على الرفض ويشجعها على القبول.. يشجعها إذا تمردت ويشجعها إذا استكانت وخضعت.. يشجعها إن هي ثارت ويشجعها إن هي استسلمت.. يشجعها حين تقرر أن تسافر لوحدها إلى باريس هرباً من شوفينية المجتمع وظلمه، ويشجعها حين تقرر أن تعود خائبة مستسلمة إلى أحضان نفس هذا المجتمع! من حقنا هنا أن نتساءل؛ لماذا لم يشجعها على البقاء في باريس لتظل بعيدة عن جور المجتمع الذكوري وغطرسته وتجرب حظها مرة أخرى في الحرية والسعادة وتحقيق الذات؟ أهو هذا الحب المتفاني لابنته في السرّاء والضرّاء؟ أم أنه ضعف في الشخصية وتذبذب في المواقف؟!

لعل الكاتبة أرادت أن تخلق نموذجاً بديلاً للرجل الشرقي مناقضاً لشخصية "عمر" وأمثاله، على أمل أن تُقنع القارئ بأن هذا النموذج البديل للرجل الشرقي شائع ومنتشر في المجتمع فترضي المجتمع وتحظى بقبوله لها ولورايتها، ولكنها – بطريقة طرحها لشخصية والد البطلة في الرواية – نسيت أنها جعلت من هذا الرجل شخصاً استثنائياً فريداً وحيداً في عالمه الروائي لا يشبهه أحد أخر في الرواية.

هذا يأخذنا إلى قضية أخرى مشابهة، فيما يخص المحاولات لكسب وُد ورضا وقبول المجتمع العربي الشرقي المسلم في القدس وفلسطين وسائر أقطار المشرق العربي. ففي صفحة 142 من الرواية تقول الكاتبة على لسان البطلة: "تباً لذلك الفكر الظلامي الرجعي الذي لا يمت للأديان بصلة، لكنهم ألصقوه بالدين افتراءً."

لماذا ترد هذه العبارة التقريرية على حين غرَّة ودون أن يكون هناك داعٍ لورودها في سياق السرد الروائي؟ لعلمك يا عزيزتي الأستاذة صباح، هناك الآلاف من المفكرين والمؤرخين والمثقفين، ومن الفلاسفة وعلماء الاجتماع وعلماء الإنسان ممن لا يتفقون معك في ذلك بل يدّعون العكس ويسوقون البراهين الدامغة عليه، ولكيلا نُعقِّد الأمور بأسماء عالمية، يكفي أن نذكر من العالم العربي أشخاصاً مثل فراس السواح، وخزعل الماجدي، وسيِّد القمني، ونصر حامد أبو زيد، ومحمد عابد الجابري، وصادق جلال العظم، وعبد الله القصيمي، هذا فضلاً عن نوال السعداوي في مصر وجُمانة حداد في لبنان. من حقك طبعاً أن تحتجي على هذا الطرح وتقولي: "ولكني بالفعل أومن بهذا! أنا بالفعل أومن بأن الفكر الظلامي الرجعي لا يمتُّ للدين بصلة. وأنا من حقي أن أضَمِّن عقائدي ومُسلّماتي في نصوصي، فهذه روايتي، وهذا حيّزي الخاص أفعل به ما أشاء." نعم، صحيحٌ تماماً، فهذا حقكِ بالطبع ولا أحد ينكره عليكِ، فمن حقكِ أن تطرحي معتقداتك وأرائك حتى وإن كانت تتعارض مع مسلمات الفكر والمعرفة في هذا الزمن. ولكن بالمقابل، من حق القارئ أن يحكُم على مدى الترابط الداخلي بين ما تطرحينه في نصوصك من عقائد وأفكار ومقولات... من حقه أن يحكم على مدى المصداقية والانسجامية في الرسالة التي تريدين إيصالها إليه من خلال روايتك، وعلى جدوى ما تقترحينه من حلول لمشكلات الواقع.

وبنفس الروح تقول الكاتبة في صفحة 102 على لسان البطلة في إشارة إلى زوجها "عمر": "كان يعاملني كجارية من سبي الجاهلية." "سبي الجاهلية"؟! لماذا "الجاهلية"؟! هل كان السبي مقتصراً على عصر "الجاهلية" ومميزاً له عما أعقبه؟ وهل كان السبي أحد الأمور التي جعلت عصر "الجاهلية" جاهلياً؟ إن مُجرد الاطلاع على النصوص المقدسة في الإسلام بمختلف مُكوّناتها، وعلى كتب التفسير وأحكام الفقه، وعلى ما أجمع عليه المؤرخون المسلمون وعلماء الإسلام قديمهم وحديثهم، من الترمذي وابن كثير إلى راغب السرجاني وعبد العزيز بن باز، يخبرنا بما لا يدع مجالاَ للشك بأن السبي كان يُمارس في الإسلام عبر تاريخه كله، وأن السبايا والجواري ومُلك اليمين كُنَّ يُغرقنَ بأعدادهنَّ الهائلة المجتمع العربي والإسلامي منذ معركة حنين وأوطاس في العام الثامن للهجرة حتى انهيار الخلافة العثمانية في مطلع القرن العشرين. ولم يكن السبي في الإسلام يطال نساء "أهل الكتاب والمشركين والكفار" فحسب، وإنما كان يطال نساء المسلمين أنفسهم، فالأمويون سبوا نساء الحسين بن علي بعد موقعة كربلاء، والعباسيون سبوا نساء الأمويين، والفاطميون سبوا نساء العباسيين، والمماليك سبوا نساء الفاطميين، وهلمًّ جرّا. فإما أن الكاتبة لا تعرف ذلك فتقع في الخطأ، وإما أنها تعرفه ولكنها تنكره وتتنكر له، وإما أنها تعرفه ولكنها تنتهز الفرصة كي تبيِّض صفحة الإسلام والمسلمين وتمرر معلومة "إيجابية" تحظى باستحسان ومباركة الغالبية العظمى من عامة الناس في المجتمع... وإما أنها تقصد في هذه العبارة شيئاً آخر غير الذي فهمناه! ومن بين الكثيرين الذين كتبوا عن هذه الرواية أو تحدثوا عنها، لم يعلق أي واحد منهم على هذه العبارة "العابرة" ولو بكلمة واحدة! فإما أنهم مرّوا عليها وتشربوا بها دون أن ينتبهوا إليها، وإما أنهم يجهلون الحقيقة فلا يدركون الخطأ في العبارة، وإما أنهم (وهذا الأرجح) يعرفون الحقيقة ولكنهم يقبلون الكاتبة ويباركون طيب نيتها وحُسن مسعاها ورغبتها في إظهار غيرتها على الإسلام والمسلمين.

إن الكاتبة لا تأخذ موقف الحياد في روايتها، بل تتعمد الدفاع عن الدين في وجه الذين يلصقون ذكورية المجتمع به "افتراءً"، على حد تعبيرها. إنها تصر على إقحام الدين في الموضوع كي تعفيه تماماً من المسئولية وتلقي اللوم، كل اللوم، في مآسي الذكورية وما تلحقه من ظلم وإجحاف بحق المرأة على العادات والتقاليد، وكأنَّ العادات والتقاليد تنشأ من اللاشيء وتأتي من الفراغ.. وكأن العادات والتقاليد لا يمكن إلا أن تكون متناقضة مع الدين!

إن الإيمان الديني والعقائد والنزعات الدينية الشخصية كثيراً ما تتسرب إلى الأعمال الروائية، وهي في الواقع تطغى على النص في العديد من الروايات العالمية الكبرى كروايات فيكتور هيغو وأناتول فرانس وجين أوستين وليو تولستوي، على سبيل المثال، وهي تطغى كذلك على النص في العديد من الروايات العربية الكبرى كروايات توفيق الحكيم وعبد الرحمن الشرقاوي ونجيب محفوظ ومحمد عبد الحليم عبد الله. ولكننا نتقبل ذلك من هؤلاء الروائيين برحابة صدر ونحترمهم عليه، لأن العنصر الديني يأتي في سياق السرد الروائي متناغماً ومنسجماً مع كل شيء آخر في الرواية، فلا يبدو مُقحماً على النص بشكل تعسفي، وهو يأتي في سياق رسم الشخصيات ووصف الواقع الروائي وليس في سياق تشخيص مشكلة اجتماعية مأساوية ووصف علاج لها. فالكاتبة إذ هي تختار أن تفعل ذلك، فإنما هي تخاطر في أن تخطئ في التشخيص ووصف العلاج، وبهذا تنتفي أهمية الرواية وتتفاقم المشكلة بدل أن تُعالج، وهذا أشد ما أخشاه.

إنني لا أستطيع أن أجزم بشكل قاطع إن كانت هذه النزعة إلى كسب وُدّ المجتمع الذكوري ورضاه وتفادي تأليبه والتصادم معه، تنسجم أو لا تنسجم مع المواصفات الأخرى لشخصية الكاتبة. ولكني أستطيع من خلال قراءتي للرواية أن أجزم بدرجة قصوى من اليقين بأن هذه النزعة تنسجم انسجاماً رائعاً وكليّاً مع المواصفات الأخرى لبطلة الرواية "حنان". فبطلة الرواية هي امرأة سلبية انسحابية تتفادى المواجهة والتصادم مع أية جهة وأي إنسان، تنتظر الانتفاضة أن تهدأ كي تعود إلى مقاعد الدراسة ولا تحاول أن تفعل شيئاً حيال ذلك، وتنتظر المجتمع الذكوري أن يتغيَّر كي تأخذ فرصتها لتحقيق الذات ولا تحاول أن تفعل شيئاً حيال ذلك (فهي "امرأة بقلب طفل" كما تصرِّح في صفحة 267)، تلوذ بالصمت في العادة وتتفادى التعبير عن موقفها بجرأة وصراحة، وتخضع مستسلمة للأمر الواقع إلى أن تحدث كارثة تهز كيانها (كتمزيق كتبها وحرقها) فتجد من يأخذ بيدها وينقذها، تترك حريتها واستقلاليتها في باريس وتعود أرملة حزينة مهزومة لتجلس في شرفة أحد بيوت مدينة القدس التي لا تزال ترزح تحت احتلالين، احتلال العدو الصهيوني واحتلال الرجل الذكوري، فلا الاحتلال زال ولا المجتمع تغيَّر إلا إلى الأسوأ.

هنا بالذات، تخرج البطلة "حنان" (بنفسيتها الثكلى) عن السياق السردي لتصرح لنا بنداء وطني من الدرجة الأولى:

"أيها الفلسطيني – تعالَ وانزع غُربتك الملطخة بأوجاع الحياة، تأكد من نبضات مدينتك ولا تغادرها، فهي تتألم بصمت، وتشعر بفقدان أبنائها كلما طال غيابهم عنها."

إنَّ هذا الحس الوطني، المصرَّح عنه بهذا الأسلوب الخطابي، لا يشفع لبطلة الرواية انهزاميتها، ولا يكفي – على الرغم من أهمته وجبروته – لينطلي علينا كتبرير لاستسلامها لغطرسة المجتمع الذكوري وما يلحقه بها وبأخواتها من تدمير وتحطيم. وإنني لأتجرأ هنا فأقول: الوطنية لا تشفع للذكورية. بمعنى أن البطولات الوطنية مهما بلغت، لا تبيح للرجل الفلسطيني أن يكون رجلاً عنيفاً متغطرساً حقيراً في تعامله مع النساء من حوله. فالوطنية هي في جوهرها حب الوطن، والرجل لا يستطيع أن يحب الوطن وهو يسعى إلى تحطيم إنسانه وإنسانيته.

القضية هنا ليست قضية اختيار بين حب الوطن والولاء له، وبين التمرُّد على المجتمع في الوطن والسعي إلى تخليصه من مساوئه وعنجهياته. القضية هي في واقع الأمر أعقد من ذلك بكثير؛ في معرض الحديث عن رواية "الحي اللاتيني" للأديب اللبناني سهيل إدريس، قلت في كتاب "مختارات في النقد":

".. وعلى ذلك فالصراع الأساسي هو صراع بين الذات والوطن؛ بين الذات الفردانية التي تتعطش إلى الحرية من أجل التغلب على الحرمان الشرقي، وبين الذات الجمعية التي تتعطش إلى الأمان في الموروث الشرقي من أجل الانتماء إلى الوطن." (كناعنة، 109)

هذا بالطبع ينطبق على ذكورية المجتمع والدوس بوحشية على حرية المرأة وإنسانيتها. فحب الوطن وأهله ليس من الفروض به أن يرغمنا على السكوت على الضَّيم والرضوخ للأمر الواقع وقبول المجتمع على علاته وآفاته ومآسيه.

وبالنتيجة فإن هذه الرواية ليست ثورية على الإطلاق، ولا هي دعوة جادة إلى التغيير الثقافي الاجتماعي الجذري، وإنما هي مجرد حيِّز أدبي للشكوى والتذمُّر والتعبير عن الاستياء والإحباط والمعاناة، وربما زيادة الوعي العام بمساوئ الذكورية ووضع قضايا المرأة على أجندة ذوي الشأن وأصحاب القرار في المجتمع. بيد أن أوضاع المرأة في مجتمعاتنا الذكورية الراهنة قد تفاقمت ووصلت إلى حد مثير للقلق، بل إلى حد مثير للرعب، بل إلى حد لا يُطاق ولا يمكن السكوت عليه:

"صدقاً، لا أعرف كيف يمكن لامرأة أن تكون على قيد الحياة اليوم من دون أن تستشيط غضباً في كل لحظة حيال الإهانات الهائلة التي تلحق بها، أكانت هذه الإهانات تهدف إلى إلغائها تحت سجن أسود أم إلى استغلال جسدها وتشييئه." (حداد، 145)

وعليه فإن ما نحتاجه الآن ليست أعمالاً أدبية تعدد بأسلوب وصفي أشكال ومواضع العنف والظلم والاعتداءات اللاإنسانية على المرأة في مجتمعنا الذكوري؛ الزواج المدبَّر، والزواج المبكِّر، والزواج القسري، وتعدد الزوجات، والخوف من العنوسة، ووضع الأرامل والمطلقات، والعنف الأسري... كل هذا معروف لنا، وكل هذا مذكور ومتوفر في عدد لا يُحصى من الأعمال الأدبية وغير الأدبية. ما نحتاجه الآن هو أعمال أدبية ثورية تصف تمرُّد المرأة وسعيها إلى الحرية والمساواة في نضال لا هوادة فيه؛ أعمال أدبية روائية تقدم المرأة الشجاعة الجَسور وتشجعها على قلب الطاولة على رؤوس الرجال الأسياد المتألهين:

"المرأة وحدها هي التي تحرر المرأة، والأصحّ أنَّ العلاقة جدلية؛ لن تتحرر المرأة دون أن يتحرر الرجل، ولن يتحرر الرجل دون أن تساهم المرأة وتسعى لذلك. إنَّ عدم استسلامها أو خضوعها ورفضها الدائم والمُعلن للهيمنة الذكورية، وسعيها المستمر نحو حقوقها ووعيها لذاتها، هو الكفيل لإحداث التغيير بالرفض والمقاومة." (الفاهوم، 110)

***

حين أقرأ رواية محلية وأجد أن سيئاتها أكثر بكثير من إيجابياتها، وأنه لا أمل منها ومن صاحبها/ صاحبتها في عالم الروايات، فإني أقرر ألا أكتب عنها بل أتركها للزمن منتظراً أن يقصيها عن المشهد الأدبي. وكوني قررتُ أن أكتب عن رواية "رحلة إلى ذات امرأة" وأوليها جهداً خاصاً، هو بحد ذاته مؤشر على أنني أرى فيها الإيجابيات أكثر من السلبيات، وعلى أنني بالفعل أعتبرها تستحق النقد الجريء والتوجيه الصادق كي ترقى إلى المستوى الذي يليق بها. ومن أجل التوجيه الصادق، ومن باب الغيرة على هذا العمل وصاحبته الأديبة الواعدة صباح بشير، فإنني سأذكر هنا أمرين في الرواية أرى أنهما يستحقان اهتماماً خاصاً وجهداً مميزاً لما فيه مصلحة الرواية (وروايات مستقبلية):

1) الشاعرية الساحرة التي ذكرناها وذكرنا إعجابنا بها في البداية، تختفي كلياً من النصف الثاني من الرواية فيصبح النص نوعاً من الهرولة في الوصف، ويهبط المستوى اللغوي البلاغي، خصوصاً في وصف المشاعر والحالات النفسية، كهذه الجملة: "فكرتُ بنادر وفي نفسي وأهلي وشروق (أبنتها)، آه يا شروق ماذا سأقول لكِ يا حبيبتي؟ أه يا حزني، آه يا ألمي.. آآه." (ص 265) ربما كان السبب اضمحلال نشاط الكاتبة كما يحدث لغيرها من العاملين، وربما كان أنَّ الشخصيات بدأت تخرج من أيدي الكاتبة وترفض أن تستمر في البناء الروائي، ولذا فعلى الكاتبة أن تتظاهر بأنها هي التي تحرك الشخصيات حتي يتم الانتهاء من الرواية.

2) عنصر المفاجأة والتشويق معدوم كلياً من هذه الرواية، فنحن دوماً وطوال الوقت نستطيع أن نتنبأ بما سيحدث في الصفحات التالية وماذا ستكون أفعال وردود أفعال الشخصيات المختلفة (حتى وإن لم نفهم تصرفاتها). وحتى حين تجري الرياح بأفضل ما تشتهي السُّفن في باريس، فإننا نتوقع أن أمراً كارثياً سيحدث ويدمر كل شيء، لأننا نعرف منذ البداية وطوال الوقت أن "حنان" لن تبقى في هذه الجنة في باريس بل سينتهي بها الأمر خائبة مُحبطة على شرفة البيت في القدس.

***

يقول الكاتب التركي أورهان باموك، الحاصل على جائزة نوبل للآداب عام 2006، أن الروائي "يَعلَق بين الرغبة في كتابة الحقيقة والرغبة في أن يكون محبوباً" (121). وفي هذا الزمن الذي تسود فيه هستيريا الإنترنت ومنصات التواصل الاجتماعي، يبدو أن الروائيين المحليين يرغبون في أن يكونوا محبوبين أكثر مما يرغبون في قول الحقيقة، وهذا بالفعل ما يحصلون عليه بقليل من الحذر والمداهنة والضرب على وتر "المقبول" من قبل الجمهور العربي. ولكن إذا كان الهدف من العمل الروائي أن نشخِّص مرضاً اجتماعياً ونقترح له العلاج، فإن الحذر والمداهنة والضرب على وتر "المقبول" اجتماعياً يمكن أن يؤدي إلى خطأ جسيم تكون عواقبه وخيمة.

على ضوء ما وصلت إليه الذكورية في المجتمع العربي من شذوذ وعنف وإجرام بحق النساء، فإن ما نحتاجه الآن هو أعمال أدبية جريئة تنقُض وترفض وتتمرَّد، لا إلى أعمال أدبية تربّت وتطبطب وتتملَّق.

ولنتذكر في النهاية ما يقوله ميلان كونديرا: "ليس طموح الروائي أن يكتب أفضل من سابقيه وحسب، بل وأن يرى ما لم يروه، وأن يقول ما لم يقولوه." (ص 20)

***

بقلم: مصلح كناعنة

.....................

المصادر التي تم اقتباسها في هذا النص:

1) أورهان باموك: الروائي الساذج والحساس. بيروت، منشورات الجمل، 2010.

2) صباح بشير: رحلة إلى ذات امرأة. نابلس، الشامل للنشر والتوزيع، 2023.

3) جمانة حداد: سوبرمان عربي. بيروت، هاشيت أنطوان، 2022.

4) وليد الفاهوم: حكايات الحبل بلا دَنَس. عمان، فضاءات للنشر والتوزيع، 2022.

5) إدوارد فورستر: أركان الرواية. القاهرة، منشورات الربيع، 2018.

6) مصلح كناعنة: مختارات في النقد. عمان، دار الشروق، 2023.

7) ميلان كونديرا: الستارة. الدار البيضاء، المركز الثقافي العربي، 2015.

الفرق بين القيم النبيلة والرذيلة المنحطة في رواية (سيبندية) للمبدع شوقي كريم حسن

صياغة متألقة في ابداعها الروائي الحديث في اسلوبية مدهشة في البناء الروائي وهندسته، الذي يمتلك الابتكار والخلق في الطرح المرهف في تصاعد وتيرته الانفعالية نحو الذروة، بتناول أصعب القضايا الحساسة في نبش الماضي، أحداث عاصفة بخطورتها وبطرحها في أسلوب سلس ورشيق وجذاب، يشد القارئ كالمغناطيس كتوثيق في أسلوب روائي في سرد الأحداث، تعتمد على الجرأة والصراحة في تسليط الضوء الكاشف، بالزلزال السياسي الذي هز كيان العراق هزاً، في انعطافات خطيرة أن يتخذ الجانب السياسي أسلوب العنف الدموي، أن هذا العمل الروائي، يشكل وثيقة تؤرخ تلك المرحلة في جوانبها الخفية والظاهرة، يمتلك الحس الروائي خبرة عميقة في الاطلاع على تلك المرحلة المشؤومة وتجسيدها في الفن الروائي، واسلوبية الطرح بشكل غير مسبوق في المنظور الروائي الحديث، رواية سياسية بامتياز، تبحث في الشؤون السياسة من زاوية السرد في قلب الحدث وباللغة التي تشكل اساس وعقلية الشخوص بطعمها باللهجة العراقية، كما ابدعت رواية (النخلة والجيران) للراحل الروائي الكبير غائب طعمة فرمان، وتميزت في مواصفات تكوينية مدهشة البناء الروائي، أن توظيف اللهجة العراقية، لكي تنسجم مع احساس شخوصها في سلوكهم وتصرفاتهم، وفي عقلياتهم السياسية والحزبية، في الحدث السردي الذي جعله يحلق عالياً بجناحي : السرد والدراما والحوار. بما يمتلك من دلالات فكرية عميقة في المغزى والمعنى، وهو يرسم صورة المشهد السياسي من كل جوانبه بالضوء الكاشف عن فترة سياسية تاريخية حرجة وصعبة، التي فتحت باب العنف الدموي بعد مقتل الملك الشاب (فيصل) ان هذه الفعلة الخسيسة في بشاعتها بالقتل الهمجي، والتي انتهت بمجزرة للعائلة المالكة، انها جريمة لاتغتفر، وهي ايضاً فتحت باب الصراع السياسي الدموي بين الأطراف السياسية المتخاصمة. بهدف إجهاض الثورة والعهد الجمهوري الوليد، وتميزت الخارطة السياسية آنذاك، بالفوضى والانفلات والتهديد بالانتقام من كل الأطراف السياسية، مما دلفت الحياة إلى العنف، وبرزت طفيليات من المستنقع العفن، أو من قاع المجتمع، أو من الحثالات الساقطة في الأخلاق والسلوك والتصرف، تتميز بالسفالة والرذيلة، أصبحت تتحكم في مصير الناس، وتنتهك الشرف والأعراض، لأنها تربت في بيئة منحطة بكل أشكال الرذيلة السافلة بلا اخلاق وشرف، ودفعت الحياة السياسية الى الابتذال والانحطاط. وقد برع السرد الروائي في الوصف الدقيق لتلك المرحلة الكالحة، من مليشيات الموت (الحرس القومي) الذين تمادوا في غطرستهم وعقيلتهم المتوحشة، التي لا تعرف سوى القتل والشبق الجنسي الشاذ والمبتذل،ليصلوا بغدرهم بقتل قائد الثورة (عبد الكريم قاسم) الذي انتهج معهم سياسة التسامح على نهجهم الإجرامي، أسلوب التراخي في نهج عفا الله عما سلف، رغم انه يملك الاداة الفعالة لردع وكسر ظهرهم، بما يمتلك من زخم جماهيري واسع، وخاصة من شرائح الفقراء، رغم انه يملك حب الناس الطاغي، لم يستخدم العنف مقابل العنف، لم يعالج سلبيات التناحر السياسي بالردع الصارم، وخاصة من القوى المضادة للثورة التي تتوعد بالانتقام وتهديد الثورة الفتية، وراحت تدير المكائد والدسائس وتخلق الاضطراب والفوضى بهدف إسقاط الثورة، والتي انتهت بقتل زعيمها بشكل بعيداً عن الاخلاق. لكي تتخلص منه سريعاً لانه محبوب الناس. وصندوق العجوز (الجدة) يكشف الخفايا والكثير من الاحداث الدراماتيكية بعد مقتل الزعيم، لقد وصفت حزنها وحرقة لوعتها الحارقة بالقتل الغادر والخسيس لمحبوب الشعب (ألم أقل لك حاذر، تركتنا نصارع اليتم. طيبتك رمت بك وبنا الى التهلكة، ما عسانا نفعل ووحوش الموت بدأت تملأ الطرقات.. ألم أقل لك أن الحذر غلب القدر، لكنك اندهرت بكرم عفوك.. أما رأيت فوهات البنادق وهي تتوعدك.. ما كان عليك أن تصمت، لا لأجلك بل لاجلنا، ما فادت أغانينا في حمايتك، عبدالكريم رب العباد يرعاك) ص12. والحدث السردي افرز قطبي الصراع. قطب الحب للزعيم وهو يمثل عنوان الوطنية والانسانية، والقطب الآخر هو عنوان الكراهية والرذيلة والسفالة والعهر، أن تقوم فرق الموت (الحرس القومي) في ارتكاب جرائم ضد الانسانية، والسرد الروائي يكشف الكثير من الخفايا، التي لا يمكن تغطيتها بالغربال، تناولها بالتصوير الدقيق لحالة العنف والدماء في دوامة لعلعة الرصاص، والتهديد بحبائل المشانق في خارطة الصراع السياسي، الذي اتسم بالفوضى والانفلات في المشهد السياسي المتخبط، ولكن السؤال الذي يستفز العقل : كيف قبلنا أن نكون حطباً واحلامنا الخضراء تجف او تتيبس ؟ بهذا الشكل في المشاهد تمثل اسوأ الجنون في الشأن السياسي المتهور (دوامة رصاص، مشانق.. هههههههههه هههه ماكو مؤامرة تصير والاحبال موجودة.. هههههه هوب هوب عفلق كدامك الطسه جمال نايم بالخره وما نسمع حسه.. وحده ما يغلبها غلاب عربانه ومليانه جلاب.. ههههههههه نزيهه بالت عل جسر واتمزلك المهداوي) ص160. وبعد مقتل الزعيم في انقلاب دموي، أطلق العنان للوحوش الضارية من الذئاب المتوحشة، التي جاءت من قاع حثالات المجتمع، حثالات منخورة في الشرف والعرض والأخلاق، حثالات ساقطة في أعماق الرذيلة والعهر. ابطالها (الكركدن، وسلمان بن مديحة الحفافة، وغيرهم على شاكلتهم المنحطة) أن يحملون رشاشات بورسعيد، ويجيبون الطرق والشوارع، يجلبون الموت بحجة القضاء على الشيوعية والشيوعيين (- لا نريد الشيوعية في محلتنا، هي كفر والحاد، قدموا البراءة من الدم الأحمر، نريدها قومية ناصرية. اسمعتم.. عبدالناصر حبيب الجماهير وحلم عروبتنا المحتاجة إلى الوحدة) ص32. لذلك اصبح الموت رخيصاً والحياة تافهة بالصراع الدموي، دفع العراق الى هاوية الخراب وحمامات الدم، لكي يصاب الواقع بالخيبة والخذلان والانهزام. من عناصر شاذة ومنحطة تطوعت في ميليشيات (الحرس القومي) لكي تغطي على عهرها وشذوذها وسمعتها السيئة في المجتمع (- أرقص سطل.. ارقص !!

- ابن العاهرة.. أنت ليس اكثر من عاهر.. تقبض ثمن ما تقوم به !!

- تعال.. اقترب.. ممانعتك تغريني.. أحب النظر إليك واشتهيك وانت ترقص !!

- سطل.. لولاك لكانت دنيانا هواء في شبك.. لا اتصور الليل من دونك.. ارق.. صص) 62. وكانوا يتصيدون بنات الناس لغايات جنسية متوحشة ويبتزون الناس بحجة بأن ابنائهم شيوعيون (- أبنك الشيوعي الكافر الذي يمجد الهالك الارعن ويحلم بدولة اشتراكية !!.

رد الاب بصوت تعالى رويداً كأنه يعلن عن بضاعة للبيع.

- من تقصد أبنك الشيوعي، عبدالكريم تربية يدي وانت تعرف من اكون والى من انتمي !!

- انا لا اعرف شيئاً وابنك مطلوب في المقر) ص41. هذه النوعيات الساقطة والمنحطة تصبح ابطال الإجرام السياسي. مما خلقوا ضجة واحتجاج واسع في صفوف الناس، في ممارساتهم اللاأخلاقية (- لعنة الله عليكم وعلى حرسكم القومي، وعلى عبدالناصر ووحدته.. كيف نعيش وسط افعالكم المشينة ؟!!) ص47. ويستهزئون بالناس بسخرية فجة بتهديد مبطن (- ولائكم لقاسم نعرفه.. لا يمكنكم نسيانه زعيمكم الذي تنوح عليه نسائكم ليل نهار) ص39. لقد مزقوا جسد العراق طعناً ودماء، وتحويله الى غرفة تعذيب وتحقيق شبيهة بغرفة صالة العمليات (لا أحد يقدر على تشخيص الشبه الرهيب بين صالة العمليات، وغرف التحقيق، المليئة بالآلات الغريبة،وغير الواضحة الملامح ؟) ص88. و بغسل ادمغة الشباب بجرهم الى الشعارات المزيفة والى صفوفهم بأسم العروبة وناصر، من أجل إشراكهم في العنف والإجرام ضد الناس (- أنت منا.. شاباً نشيطاً نطالبه أن يكون يقظاً حذراً من اقرب الناس اليه.. رفيق كريم الامة العربية وقيادة عبدالناصر في خطر.. الاستعمار والصهيونية والخونة الاوغاد الذين يريدون هيمنة موسكو علينا، والرجعية.. الرجعية كريم هي البلوى) ص137.نصبوا المشانق وحولوا لعراق الى مسلخ للذبح من هذه الحثالات، كأن العروبة لا تأتي إلا بالدماء والشهوات الجنسية المبتذلة، وابطالها ابناء البغايا، ان يصبحوا مناضلين من اجل العروبة، لكنهم اصبحوا مسخرة الناس، بأنهم يمثلون الوجه السيء والمظلم في شعاراتهم الزائفة، وفي صراخهم وضجيجهم وهذيانه الغث بالغثيان (.. دعك من هذا السافل الذي لا يجيد سوى الدناءات.. ابن بائعة الهوى في الصابونجية يريد تحقيق الوحدة العربية.. تصور لملوم السفلة يسعى من أجل تحقيق حلم ناصر برشاشات بور سعيد، لا تعرف سوى الغدر) ص155.

المتن الروائي قال ويقول الكثير في الايغال في أعماق تلك الفترة الكالحة أو مثل ما يقال ازاح الغطاء عن (القدر)، وبأسلوب روائي مدهش في الصياغة والرؤية الفكرية الرصينة، في نبش الخفايا والحقائق في تاريخ العراق السياسي لتكون شاهد عيان، في كشف اجرام فرسان انقلاب شباط الاسود.

***

جمعة عبدالله

قراءة نقدية للقصة القصيرة "الطائر الزئبقي" للكاتب أحمد علي بادي

قصة أحمد علي بادي رائعة وماتعة في نفس الوقت. بفعل قوة عتباتها ودلالاتها يضطر القارئ للتموضع في فضاءين متباينين، الأول واقعي وجغرافي يتواجد فيه السارد ومقر ساعات حياته اليومية، والثاني حاضر في مخياله بقوة تاريخ شخصيته وانتمائه. وضعنا الكاتب كذلك في فضاء يتقابل فيه النفسي والروحي والشعوري واللاشعوري. خاصية الزئبق هي التحول السريع بفعل الحرارة. يتمدد، ويغير شكله ويفرز خاصية التقلب السريع. العنوان غير فاضح وتم اختياره باحترافية فنية مرتبطة لا محالة بالحمولة الفكرية والأدبية للكاتب. بذلك فهو معبر على روح القصة بمعانيها المفترضة من أول كلمة في النص إلى آخرها.

توالت الأفكار الإبداعية وانقشعت دلالات فحواها جزئيا في الفقرة الأولى، لتجذب القارئ بشغف كبير، وشحنته بلهفة البحث عن تطورات الأحداث. الراوي مغترب بكندا، ومتزوج من امرأة كندية. بلا شك طبيعة الحياة الحميمية بحواراتها وتواصلها تنم أن الرجل يعيش حياة زوجية حضارية وناعمة. اطمئنان الزوجة عليه في آخر القصة، بعدما أقر بوعي تام كظم ما يخالجه كل ليلة وما يجبره للاتجاه نحو النافذة، أبرز المستوى الإبداعي العالي للكاتب. لقد ربط بفنية جذابة عتبتي العقدة والقفلة في القصة. مواجهة السارد للألم والبحث عن التكيف مع متطلبات الحياة الجديدة بالكتمان أحدث هزة نفسية لدى القارئ، بحيث وجد نفسه متأرجحا بين الصواب والخطأ وبين الأمل وخيبته، وبين الحاضر والمستقبل.

تصوير الوطن الأم كطير غريب حول الفقرة الأولى إلى منبع يفور في نفس الوقت حزنا وأملا. منذ البداية أراد الكاتب أن يقف على الأهمية القصوى للشخصية البشرية وجذورها وانتمائها الترابي. وهو يتحدث عن هذا الطير انفصمت شخصية الراوي وتموقعت في عالمين مرغوبين، الأول كملاذ للعيش الآمن، والثاني ثقيل وثمين بتراكمات ذكرياته. حضر في النص الوطن وواجب المواطنة والنضال من أجله.

ليلة استحضار الكينونة بماضيها وحاضرها لدى الراوي كان يوم حصوله على الحق في جنسية جديدة. احتفل بالحدث ليلا، لكن الليل وهواجسه حاصره بقوة، وغاص به في أعماق وجود حياته السابقة. أبرز قوة نقرات الطير التي انتشلته من غيابة النوم العميق. اختياره وصف الوطن بطائر استثنائي في كل شيء كان دقيقا ومؤثرا. بدا له طائرا غريبا ومألوفا في وقت واحد؛ كان له منقارٌ كأنه المنجل، وجسدٌ في حجم ولون الغراب، وجناحان حين يفردهما يضاهيان جناحي نسر ذهبي، أما عيناه فكانتا واسعتين بارزتين لونهما يذكرانك بلون أمواج البحر... إنه طائر عجيب كان ينقر بشكل قوي على النافذة، حتى خشي السارد أن يلقي بزجاجها على الأرض.

الكاتب ارتبط بحدث اكتسح عالمه في يوم غير عادي في مساره المعيشي في بلاد الغربة. السرد في منطقه ينم وكأن الراوي اغتبط لانبعاث الطائر فجأة في حياته، لكنه مال لمقاومة هذا الإحسان الجميل مرتهنا للمتعة التي تتميز بها حياته الجديدة. رد على زوجته وعيناه في تلك اللحظة كانتا قد تحولتا أيضا إلى طائرين صغيرين يدوران في السماء. وهو يغرد في سماء الوطن الأم، اعترف في نفس الوقت بجاذبية وضعه الحالي. تلذذ الأنوثة في عالمه الجديد، وانجذب بحاضر ومستقبل كينونته. ألقت زوجته بذراعها العارية على كتفيه وقالت وهي ترسم ابتسامة رقيقة على فمها: "إذن صفه لي"....عادت عيناه من السماء لتحط على وجهها الذي لم يزل مشرقا بابتسامتها، وراح يصفه لها حتى معبرا لها لون عينيه يشبه لون عينيها، فتوسعت ابتسامتها إلى أن تحولت قبلة على خده.

عاد الطائر كل ليلة يلح بمنقاره على السارد وكأنه يطالبه بالعودة إلى التفكير في الوطن وكذا في واقعه ومصيره .... فاختار الكاتب لقصته قفلة التكيف مع الواقع الجديد والتملص من ضغط الشعور والحنين إلى الوطن. استسلم للآتي موجها الكلام لزوجته " كنت محقة يا عزيزتي! يبدو أني كنت متعبا في اليومين السابقين، اليوم لم أسمع صوت نقرات ذلك الطائر! " ... ردت بابتسامة وهي تعدل تحتها الكرسي قائلة "قد جعلتني أطمئن عليك".

ختم السارد قصته المشوقة بفقرة بالغة الدلالة: ..." وإلى اليوم.. مازال ذلك الطائر يأتيني مع مخاض السماء وهي تلد يوما جديدا، فيقف عند النافذة ويأخذ بالنقر عليها، لكني الآن صرت أستطيع تجاهله، وغدا إزعاجه لي تفصيلا يوميا اعتدت عليه كل صباح"..

***

الحسين بوخرطة

............................

الطائر الزئبقي

الكاتب: الأستاذ الأديب أحمد علي بادي.

أتذكر أول مرة بدأ فيها بإزعاجي، وقتها استطاع بصوت نقراته انتشالي من غيابة النوم العميق، فأسرعت نحو النافذة لأزيح عنها الستائر وأرى من وراء ذلك، بدا لي طائرا غريبا ومألوفا في وقت واحد؛ كان له منقارٌ كأنه المنجل، وجسدٌ في حجم ولون الغراب، وجناحان حين يفردهما يضاهيان جناحي نسر ذهبي، أما عيناه فكانتا واسعتين بارزتين لونهما يذكّر بلون أمواج البحر.

في تلك اللحظة انتبهت لي زوجتي الكندية وقالت وهي تنظر إلي في نصف إغماضة وما تزال ملتصقة بالفراش:

- لم أنت هناك؟

قلت لها بصوت رسمت ملامحه الدهشة:

- طائر عجيب كان ينقر بشكل قوي على النافذة، حتى خشيت أن يلقي بزجاجها على الأرض.

فأسرعت بالنهوض تاركة السرير حتى إذا أصبحت إلى جواري، أخذت تنظر من النافذة وتسأل في فضول واستغراب:

- أين هو؟

- لقد طار بسرعة.. لا أعرف أين ذهب!

رددت عليها وعيناي في تلك اللحظة كانتا قد تحولتا أيضا إلى طائرين صغيرين يدوران في السماء.

حينها ألقت بذراعها العارية على كتفي وقالت وهي ترسم ابتسامة رقيقة على فمها:

- إذن صفه لي.

عادت عيناي من السماء لتحطا على وجهها الذي لم يزل مشرقا بابتسامتها، ورحت أصفه لها حتى إذا قلت أن لون عينيه يشبه لون عينيها، توسعت ابتسامتها إلى أن تحولت قبلة على خدي ثم دعتني للعودة إلى السرير، فاستجبت لها؛ كان النوم مازال يتشبث بجفوني من أثر سهرة الأمس التي امتدت حتى وقت متأخر من الليل وكانت احتفالا بمناسبة حصولي على جنسيتي الجديدة.

وفي اليوم التالي، جاء أيضا وأيقظني بصوت نقراته، فما كان مني إلا أن أيقظت زوجتي:

- ألِيس! يبدو أنه طائر الأمس هل تسمعين صوت نقراته؟

أخذتني الدهشة حين ردت زوجتي قائلة وهي تحاول تحسس الصوت وتعقد حاجبيها متعجبة:

-  لا أسمع أي صوت؟

- كيف لا تسمعينه وصوت نقراته يكاد يثقب أذني؟!

قلت مستنكرا، فابتسمت في وجهي قائلة:

- لا بأس، لنذهب سويا لمشاهدته.

- نعم.

قلت لها موافقا.

وعند النافذة، طلبت منها إزاحة الستائر برفق وأنا أهمس لها:

- مازال ينقر على الزجاج، هل تسمعينه الآن؟

ردت بنفس صوتي الهامس:

- غريب.. لا أسمع! لكن لنر.

وما أن أزاحت الستائر حتى أشرع جناحيه وطار بشكل خاطف، عندئذ صرخت وكأني طفل يشاهد شيئا مشوقا:

- لقد طار، هل رأيته؟

عادت تدحرج نحوي نظرات استغراب:

- لم أشاهد أي طائر!

ثم أردفت وهي تضع يدها على كتفي:

- قد تكون متعبا يا عزيزي، عد للنوم وحاول أن تنسى الأمر.

خجلت من زوجتي وقلت لها ودوامة الدهشة تدور بي:

- يبدو ذلك!

وعاد مجددا في اليوم الثالث، لكني ظللت فقط أستمع إلى نقراته حتى توقف عنها بعد مدة ليعقبها صوت خفقة جناحيه فأدركت أنه قد طار.

يومئذ انتظرت حتى جلست زوجتي معي على مائدة الإفطار فقلت لها، وأنا أصطنع صوتا صاخبا ممتزجا بالضحك:

- كم كنت محقة يا عزيزتي! يبدو أني كنت متعبا في اليومين السابقين، اليوم لم أسمع صوت نقرات ذلك الطائر!

ابتسمت زوجتي وهي تعدل تحتها الكرسي:

- لقد جعلتني أطمئن عليك.

وإلى اليوم.. مازال ذلك الطائر يأتيني مع مخاض السماء وهي تلد يوما جديدا، فيقف عند النافذة ويأخذ بالنقر عليها، لكني الآن صرت أستطيع تجاهله، وغدا إزعاجه لي تفصيلا يوميا اعتدت عليه كل صباح.

***

قراءة نقديّة في رواية "بياض اليقين" للروائي الدكتور عبد القادر عميش

ظهرت معالم الرواية العربيّة في النصف الأول من القرن العشرين، بظهور أولى الروايات الاجتماعية في مصر على يد صاحب رواية زينب لـ هيكل 1914 م. وكان تلك هي خطوات الرواية العربيّة، في مرحلة التأسيس الفنّي، التي ستشهد لاحقا ازدهارا وانتشارا بأقلام روائيين في المشرق العربي ومغربه في مرحلة التأثيث و. أبرزهم على الإطلاق: عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين (دعاء الكروان والمعذبون في الأرض) والعقاد (سارة ويوميات نائب في الأرياف) والمازني وحنّا مينة والطاهر وطار ويوسف السباعي والطيّب صالح وغيرهم...و ما لبث أن اقتحم التيار الصوفي حقل الرواية العربيّة والإسلاميّة، من بوابة الفلسفة الصوفيّة، القادمة من بلاد الفرس وتركيا (اليف شافاك). ونتج عن ذلك التلاقح والتآلف ميلاد الرواية العربيّة الصوفيّة المعاصرة، مستمدّة مواضيعها وأفكارها من واقع عربيّ مأزوم اجتماعيا وأخلاقيّا وسياسيّا وإيديولوجيا، ومنهارا اقتصاديا ومهزوما عسكريا، خاصة، في معارك النكبة والنكسة. ممّا دفع كتاب الرواية الصوفيّة إلى مواجهة الهزائم الماديّة والانكسارات الحضاريّة المعيشة، بتشييد عالم من المثل الصوفيّة العليا بديلا عن الواقع المعيش، على غرار الأسلاف الصوفيين في بلاد الشرق والأندلس.

أن نكتب رواية ما، ثمّ نجنّسها فنيّا، فنقول: هذه رواية كلاسيكيّة أو رومانسيّة أو واقعيّة أو رمزيّة أو صوفيّة أو فلسفيّة، ذلك أمر راجع إلى نمط فكرتها ومضمونها، وسمات شخصياتها والفكريّة والسلوكيّة. أمّا القراءة النقديّة للرواية (الصوفيّة) من لدن الناقد الحاذق، فلها ثلاثة أوجه: قراءة مباشرة، وقراءة انحيازيّة دلاليّة، وقراءة بينيّة (بين المباشرة والانحياز الدلالي).

الشطحات الصوفية في الفن الروائي كثيرة، فقد يلجأ الروائي إلى حشد مجموعة من الرموز والمصطلحات التي تفضي إلى انتاج نصّ سرديّ صوفيّ، ملغّم بتأويلات صوفيّة بحتة، والتي تقابلها في الأدب الأمريكي اللاتيني (أمريكا اللاتينيّة)، الواقعيّة السحريّة بشطحاتها الخياليّة والأسطوريّة والخرافيّة إلى درجة الفلسفة الميتافيزيقيّة، عند غابرييل غارسيا ماركيز (مائة عام من العزلة) (الحب في زمن الكوليرى). والتي من أهم

خصائصها: جمعها لما هو عجيب في ثنايا الواقع، ويقصد بهذا أن سرد الأحداث في الرواية الواقعية السحرية يكون غير واقعيًا في ثنايا أحداث واقعي، وهي بذلك تجمع بين المتناقضات العجيبة والساحرة.

ولم يتخلّف الروائيّون الجزائريّون المعاصرون عن نظرائهم العرب في المغرب والمشرق في اقتحام عوالم الرواية الصوفيّة، وإن كان سعيهم مازال في مرحلة التأسيس، ولم يبلغ بعد درجة التأثيث والتأصيل، نظرا لحداثة التجربة. ومن بين الروائيين الجزائريين المعاصرين، الذين خاضوا هذه التجربة الفنيّة الفتيّة، واقتحموا عوالم الصوفيّة من بوابة الفنّ الروائي، الدكتور عبد القادر عميش، في ثلاثيته الأخيرة بياض اليقين وسكوت... العارفة إيزابيل تتحدّث والحب في زمن كرورونا (سونيتو).) (Sonetto

و قد ارتأيت تناول، في مقالي هذا، روايته " بياض اليقين " تحت عنوان " المنظور الصوفي في رواية بياض اليقين ". الصادرة سنة 2022 م، عن دار خيال للنشر والترجمة. عدد صفحات الرواية من 197 صفحة، من الحجم المتوسّط. وقد قسّمها الروائي مقسّمة إلى 12 مشهدا. وأهداها إلى رفيقة الجنة هايدي قائلا: " إلى نسخة هايدي... رفيقة الجنة داخل دائرة اليقين بعيدا عن الظن. ".3387 عبد القادر عميش

طفق الروائي الدكتور عبد القادر عميش في رسم ملامح بطله وبقيّة الشخوص من منطق الافتراض المشبع بالظنون، وقام ببناء أحداث روايته وتشييدها من عالم الرؤى النورانية الغيبيّة ولبنات العشق الصوفي، متجرّدا من مادة الجسد الفانية. وهكذا سار الروائي ببطله الراوي (الأستاذ الجامعي) بين فجاج الواقع المعيش والخيال المأمول، ساعيا إلى تخليصه من الأوهام والأشباح ووساوس الشيطان والدنس والظنون، والوصول به إلى اليقين النوراني. " أنا الفاني في حضرة الضوء الآسر، وأنا اليقين بعد الظن فلا ظن من بعدي " ص 61.

أول ما يواجه القاريء أو الناقد ويشدّ انتباهه، أو ربّما يستفزه ويثير عاطفته وفكره، إيجابا أو سلبا، عنوان الرواية. فهو واجهة العمل السردي أو الشعري، حيث لم يعد العنوان الروائي مجرّد جملة أو كلمة تؤدي ما تؤديه لوحة إشارة مروريّة توجيهيّة للدخول إلى المعمار الروائي، بل اكتسب مكانة العتبة الموحيّة والمفتاح الرامز في النص السردي، والشفرة السريّة للمعمار الروائي كلّه. وقد اختار الروائي الدكتور عبد القادر عميش، عنوان متنه السردي (بياض اليقين)، انطلاقا من خلفيّة ثقافيّة صوفيّة. فالبياض ضد السواد. قال تعالى: " يوم تبيّض وجوه " (آل عمران: 106). وهو كناية عن المسرّة، ورمز للإطمئنان الروحي. كما رأى الفيروزآبادي في كتابه. إذن، فالبياض، عند الصوفيين، يدّل على النقاء والطهارة والصفاء الروحي والعشق النقيّ من شوائب اللذة الجسديّة والحبّ المتعالي عن المتعة الماديّة.

أمّا اليقين فهو روح أعمال القلوب التي هي أرواح أعمال الجوارح. ومتى وصل اليقين إلى القلب امتلأ نورا وإشراقا. وانتفى عنه كل ريب وشك وسخط، وهم وغم. فامتلأ محبة لله. وخوفا منه ورضا به، وشكرا له، وتوكلا عليه، وإنابة إليه. فهو مادة جميع المقامات والحامل لها.، رحمه الله: " اليقين ارتفاع الريب في مشهد الغيب " قال الجنيد

" وسئل عن اليقين فقال: "اليقين ارتفاع الشك

- وقال أيضا رحمه الله: "اليقين هو استقرار العلم الذي لا ينقلب، ولا يتحول، ولا يتغير في القلب ".

و من هذا الحقل الصوفي صاغ الروائي د. عبد القادر عميش عنوان روايته، وطفق يخوض في عالم الصوفيّة، ممتطيّا صهوات الخيال، محرّرا النفس من جغرافيّة الجسد، ومطلقا العنان للروح المجنّحة، السابحة، المتجاوزة جغرافيّة الجغرافيا. لقد تبوأت شخصية الأستاذ مكانة البطل السارد، وتقمّصت ضمير المتكلّم (أنا). وراحت تسري سريان النور المطلق بين مسقط رأسها (الشلف) ومدينة قسنطينة ذات الجسور المعلّقة، وموطن الآداب والعلوم، الشرعيّة وطالبة الشريعة، الشبيهة بـ (هايدي)، ومدينة غروزني، عاصمة الشيشان، وموطن (هايدي)، وموسكو، أين استشهدت (هادي)، ودمشق، مدفن محي الدين بن عربي والأمير عبد القادر. وقد وظف الروائي، هذه الأمكنة، توظيفا رمزيّا، معنويّا وروحيا، لا توظيفا ماديّا وبيئيّا وحسيّا.

و قد كان بطل الروايّة (الأستاذ)، يعتبر نفسه، مريدا، أي متجرّدا عن إرادته، ومرادا، مجذوبا عن إرادته، متجاوزا الرسوم والمقامات دون مكابدة، وقد تهيّأت له الأمور المعقولة والاعتبارات، لا تخضع للوقت، لا بالماضي ولا بالمستقبل. جاء في الصفحة 25: " وأنا وحدي أتبع لغتي، لغة الحكي، لغتي الآن تكتبني، تملأني بسواد كلماتها الذاهبة بي إلى المقامات العليا، تمنحني عشقي المرتجى. " " كأنّ الله جلت قدرته زوى لي ارض الشيشان او كاني حللت بارض الشيشان اسري بروحي ليلا او نهارا خارج مادة الجسد الفاني. بعيدا عني رايت بام روحي عجبا. قلت وقتها هي فراسة المؤمن الرائي بنور الله خلف الحجب او شطحات الروح حين تعلقها بالمقامات العليا. بالذات العليا. حركات الروح الظماى الى فيض نوره ونفحات الغيب " ص 7.

هكذا تبدو لنا شخصيّة البطل (الأستاذ)، شخصيّة تعيش عشقا روحيّا، وصفاء ذهنيّا، بعيدا عن الوجود المادي. شخصيّة تعشق النظر إلى ما خلف الحجب، عشقا صوفيّا. وتسعى الى المكاشفة والبوح في حضرة النور الاسر. والبحث عن " مفاتيح للقبض: السالك. المسافر المقام المراد المريد الشطح القبض البسط التواجد الوجد الوجود الجلال الجمال العشق جمع الجمع البقاء الفناء الحضور الصحو الذوق السُّكر سرد الروح لما لا يسرده الجسد " ص 10.

هايدي اسم غير عربي. من اصل اسباني او الماني، وهو من الاسماء المميزة للبنات. ويعني الفتاة ذات الصفات المحمودة والملامح الجميلة وهي الفتاة في اللغة الاسبانية ذات القلب الحنون والهدوء. فتاة رقيقة تحب الخير. بارة بوالديها. طيبة القلب. طموحة. تحب العمل.متفوقة في دراستها. تسعى الى النجاح. مهتمة بمظهرها واناقتها التي تبهر جميع من حولها. مثقفة تحب القراءة والاطلاع كثيرا. لبقة في حديثها.

هايدي، وهي شخصيّة (أنمي)، اختارها الكاتب لأداء دور البطولة في الرواية. وهي شخصيّة من بنات الخيال، ولدت في الثقافة الأوربيّة. ماذا أراد الكاتب من وراء هذا الاسم (الأنمي) هايدي ؟ هي المعادل لشخصية طالبة الشريعة، التي أحبّها البطل (الأستاذ). هما وجهان وجسدان لروح واحدة، وعشق واحد، وهيام، هما الحضور والمسلك والقطب والوله وعين اليقين.

في النص تعدّد الأبطال، على غير العادة في الرواية العربيّة الحديثة، المقتبسة فنيّا عن الرواية الغربيّة في أروبا وأمريكا بجناحيها الشمالي الأنغلوفوني والجنوبي اللاتيني. وهذه ظاهرة جديدة في الرواية المعاصرة عند بعض كتاب الرواية. فقد تخلّى بعض الروائيين عن صورة البطل الفرد، والشخصيّة الرئيسة الوحيدة في المعمار الروائي، والذي تخدمه الشخصيات الثانويّة الناميّة أو الجاهزة أو الحاسمة، ليصبح بمثابة النهر الذي تصب فيه الروافد كلّها أو بدر الرواية في الليلة الظلماء.

ففي رواية ' بياض اليقين " للروائي د.عبد القادر عميش. ثلاث أبطال أو شخصيات رئيسة، تتحرّك بشكل متواز عبر جغرافيّة المكان المطلق وصيرورة الزمان السرمدي؛ فالتشكيل الزمكاني في هذه الرواية منفتحة على فضاءات واسعة ومتباينة إلى درجة التناقض والتصادم. وهكذا يحلّق بنا السارد (الأستاذ) في عوالم صوفيّة هروبا من الواقع المعيش، وطلبا للراحة والطمأنينة النفسيّة التي، غالبا، ما ينشدها المتصوّفة، ويسعون إلى ورودها، والإرواء من منبعها الصافي.

شخصية فنيّة، خياليّة، تعبّر عن المخبال الصوفي، هي المرأة الشيشانيّة الشهيدة في غروزني، التي أطلق عليها الروائي اسما فنيّا (أنميّا) (هايدي). " منذ البدء أسمّيك يا هايدي حمامة الغسق وأرتّل من أجلك المعوذتين " ص 9.

و شخصيّة الطالبة الجامعيّة الواقعيّة الموازيّة لـ (هايدي). طالبة الشريعة في جامعة قسنطينة الاسلامية.

كان لجوء البطل (الاستاذ) الى هاتفه المحمول (الفضاء الأزرق) نوعا من الهروب من الواقع والتطهر والترحال في العوالم الصوفية البيضاء كبياض الثلج. كلما ضاقت به سبل الحياة المادية. "... افتح عالمي الإشراقي. فكلما ضاق علي العالم من حولي لجأت الى مقاماتي أو مواقعي العجيبة " ص 88.

فالبطل (الأستاذ) الصوفي يحاول أن يتسامى بوساطة اللجوء إلى مقاماته، والاستعانة بالمواقع العجيبة (في نظر غير الصوفي)، العاديّة في نظر الصوفي، لولوج عالمه الإشراقي. وهذا يعني أن بطل الرواية (الأستاذ)، يشعر بأنّه ميّت (غائب)، فإذا تجاوز الواقع الفعلي للأشياء استيقظ. وهي مقولة تتماهى مع قول الصوفيين واعتقادهم، (بأنّ الإنسان نائم، فإذا مات استيقظ). والنوم هنا هو الموت وغياب الروح مع وجود الجسد، واليقظة معناها حضور الروح في حالة غياب الجسد. وهي ثنائيّة عجيبة، لكنّها ليست غريبة عن العقل المفكّر، ولا عن النفس المطمئنّة. فالبطل الصوفي في رواية د. عبد القادر عميش، ينشد الحريّة الروحيّة، أيّ تخليص المعنى المطلق من قيود اللفظ. وهو يدين ويبغض استبداد اللامعقول بالمعقول، والمحدود بالمطلق. " أيها الدرويش الفاني آسرك عشق الذات العليا. أفناك النور الآسر. فاخرج من الظلمة تعيش.. أيتها الروح الطيبة في غيابات الثلج، السابحة في عالم البياض، بياض اليقين، تجلي قليلا. ارفعي روحي إلى مقاماتها المرتجاة " ص 61.

رمزيّة الثلج في النص:

رجل الثلج في الرواية، يمثّل (يرمز) إلى الصفاء والنقاء، هو رجل الخلاص، هذه لوحة صوفيّة شفّافة ومدهشة. حين يلتقي الثلج (البياض) مع نور الشمس (اليقين). فيحدث تفاعلهما ذوبان صامت في قلب الثرى، كما تذوب روح الصوفي في بوتقة التوكّل الذي يساكن اليقين بوساطة الكشف المدرك بالمشاهدة، دون حاجة إلى الدليل المادي والاستدلال العقلي.

هذا الرجل (التمثال) هو ظلّ البطل الأستاذ الظاهر. يودّ البطل أن يذوب في قلب اليقين، كما يذوب الثلج في عين الشمس. والذوبان هنا، لا يعني التيه والضياع والفناء. لأنّ لا شيء في الطبيعة يذهب سدى، فالطبيعة تحتضن نفسها، ومعادلة وجودها هو التحوّل. ألا ترى، كيف تتحوّل الأجسام الدمويّة، السائرة على قدمين، أو على أربع قوائم، أو الزاحفة أو الطائرة أو السابحة، إلى رميم وتراب. وكيف تتحوّل الأجسام النباتيّة الصلبة بكل أصنافها إلى تراب أيضا. ومن هذا المنطلق، يسعى البطل (الأستاذ) في هذه الرواية الفناء الجسدي، والخلود الروحي. ظنّا منه أنّ الحياة، التي وُهِبها في الدنيا، ما هي إلأ ضرب من الوهم، بل هي وجود جسمانيّ، لا يحقّق للروح مبتغاها المرتجى. " وحدي بلا يقين كأني غيري وأحيانا غيري في جسدي الفاني... لما ألاحق شبحا ميتا ؟ شبحا جميلا...ألاحق شبحا من ثلج.. حلما ميّتا.. وهما أوهن جسدي... ضيّع عقلي..بدّد قصدي.. أيّها الدرويش الفاني ضيعك الفناء في حضرة الضوء... على مرفإ عمري أقف أشيّع بعين اليقين سحابة الظنّ.. مزن الوهم وأنادي في الريح:

يا مجري السحاب ومنزل الثلج ردّ عليّ روحي، نقّني من وسوسة الشيطان كما ينقّى الثوب الأبيض من الدنس بالماء والثلج والبرد، خلّصني من جنوني، من وهمي... أنا الراوي المتيّم ببطلته، صنعها وهمي، وصدّقها عقلي، ثم ضاع بين أحداث الحكاية، اختلط الحاكي بالمحكي له، مثلي مثل هايدي ولدت بين الكلمات وماتت بين متاهات الحكي في ليلة ثلجية وهي تضحك. " ص 30.

غالبا ما يعتمد كتاب الأدب الصوفي (الشعر والرواية) على " الشفرة التي تقلب موازين العادي المـألوف لتصـوغ نمطـا جديـدا لـيس علـى شـاكلة الموروث المتداول، وهذه الشفرة اللغوية هي المولد الأساس للذة النصية على حـد تعبـير رولان بارت. " (1)

معالم اللغة الصوفيّة في النص:

القاريء المتأمل في أسلوب رواية " بياض اليقين " للروائي الدكتور عبد القادر عميش، يقف على مدى اعتناء الروائي بعنصر اللغة (اللسان) في غمرة السرد والحوار. لغة، اقل ما يقال عنها، أنّها لغة الحكي في مجالس المقامات الصوفيّة والتكايا العثمانية والخانقاوات المملوكية، فما أشبه لغة الروائي بلغة بطله، كما جاء على لسانه: " وأنا وحدي أتبع لغتي، لغة الحكي، لغتي الآن تكتبني، تملأني بسواد كلماتها الذاهبة بي إلى المقامات العليا، تمنحني عشقي المرتجى.." ص 25.

و قد غرف من المعجم الصوفي ما شاء له أن يغرف من مصطلحات الصوفيّة لإضفاء الجوّ الروحاني والنوراني على عنصري السرد والحوار، بعيدا عن ماديّة الجسد. وكأنّي به يقرّر، من منطلق صوفي وأفق روحاني، أنّ الجسد الفاني ما هو إلاّ مطيّة لحمل الروح في الدنيا حينا من الدهر، ثم تلبث أن تغادره نحو عالم اليقين والخلود.

" إن اللغـة الصـوفية هـي تلـك اللغـة الـتي تعتمـد الإيحـاء والرمـز وسـيلتين للتبليـغ، حيـث لا تـتم قـراءة هـذه اللغـة قـراءة سـطحية بقـدر مـا تسـتدعي هـذه اللغـة خلفيـات ثقافية خاصة تمكن المتلقي من فهم رسالتها المتضمنة داخل الخطاب. " (2)

" فاللغـــة هـــي عنصـــر فعـــال في التجربـــة الصـــوفية، إذ تتعـــالى اللغـــة الصـــوفية في دلالات معتمـدة علـى المجاز، وعلـى السـياقات الرؤيويـة، وعلـى فعاليـة الرمـز باعتبـاره أرقى وسيلة للتعبير لدى الصوفية " (3)..

" إن اللغة هنا مجازية لا تحمـل دلالـة واحـدة، فهـي منفتحـة علـى بعـد صـوفي كمـا يمكنهـا أن تعـبر عـن حالـة نفسـية عاديـة " (4) (لغة إشراقيّة)

(اليقين، الثلج، البياض، الحلم، الحاسوب، الموت، الفناء، الحب، العشق...).

الانزياح الدلالي في الرواية:

غالبا ما يعتمد الأديب الصوفي (الشاعر والروائي)، على الانزياح الدلالي، بغرض إحداث رجّة نفسيّة وزلزلة عاطفيّة في حواس القاريء أو المتلقّي. يعمد الروائي الصوفي إلى إطلاق العنان لمشاعره وأحاسيسه لتجاوز الواقع المعيش، وطيّ حواجز الزمان والمكان. فيصبح (سفره) و(هيامه) و(عشقه) أشبه بالحلم المتخيّل في برزح بين الوهم والحقيقة، أو بين المشاهدة الصوفيّة والتوهّم..

الانزياح الدلاليّ، ويكون في البلاغة أو الصور أو التّشبيه أو المجاز، وهو من الأنواع المؤثّرة تأثيرًا كبيرًا في القراء.

ان تكتب نصا صوفيا، لا يعني توظيف المصطلحات الصوفيّة التراثيّة المقدّسة أو الرموز الدينيّة، التي وظّفها الشعراء والفلاسفة (ابن عربي، أبو حامد الغزالي، رابعة العدويّة، الحلاّج، ابن طفيل، ابن حزم، ابن الفارض، عفيف الدين التلمساني..). بل لا بد أن يعيش الأديب وجدا صوفيّا، لا عن طريق الانتحال أو التقمّص أو التصنّع. فالتجربة الصوفيّة، تجربة ذاتيّة، يكتنفها الصدق والمعاناة والرؤية والمماثلة والتضاد.

و قد ظهر الانزياح الدلالي واضحا في هذه الرواية، حين غرف الروائي د. عبد القادر عميش من بحر المعجم اللغوي الصوفي، إيمانا منه، أنّ اللغة أداة رئيسة في بناء السرديّات الصوفيّة وحواراتها. " وأنا وحدي اتبع لغتي، لغة الحكي، لغتي الآن تكتبني، تملأني بسواد كلماتها الذاهبة بي إلى المقامات العليا، تمنحني عشقي المرتجى، تمنحني وجه هايدي الذاهبة الى مقامها " ص 25.

لقد تبوّأت اللغة الصوفيّة في رواية " بياض اليقين " للروائي عبد القادر عميش، مكانة السبق في صياغة الأسلوب الروائي، الذي طغى عليه عنصرا السرد والوصف. وكان الهدف – فيما بدا لي – إضفاء جوّ روحانيّ على سيرورة الأحداث، لمنح بطل الرواية والشخصيات الأخرى، الجنسيّة الصوفيّة. وكأنّي بالروائي، قد سعى في حشد كمّ هائل من المصطلحات الصوفيّة بغرض تحقيق غايته المثلى، ألا وهي، إخراج نص سرديّ صوفيّ مثاليّ. لقد اجتهد الروائي عبد القادر عميش في ذلك، وغرف من بحر الصوفيّة ما شاء له من المصطلحات الصوفيّة والألفاظ المتخمة بالرموز والدلالات، دون تحفّظ. لكنّه، ربّما نسيّ أو تناسى، أنّ غايته تلك ستورّطه في الغموض السردي، لأنّه سيواجه قرّاء لا باع لهم ولا ناقة لهم ولا جمل في عالم الصوفيين. لا أقصد، القراء المحدودي الثقافة، والكسالى النائمين الذي يتخذون الأدب مروحة – كما قال عباس محمود العقاد -، ولا أنصاف المثقفين،العاجزون عن التفريق بين الغث والسمين. إنّما أقصد القراء الجادين، والنقاد المجتهدين. ومذهب الصوفية في الغموض معروف، فهم يستعملون الألفاظ المعقّدة والمعاني المغلقة. وكأنّهم يكتبون لخاصة الخاصة من القراء.

كقول المتنبي: أفيكم فتي حيٌّ يخبرني عنِّي ** بما شربت مشروبة الروح من ذهني

و قول شرف الدين بن الفارض:

حديثي قديم في هواها وما له ** كما علمت بعد وليس له قبل

ومن كلام ابن عربي:

يا من يراني ولا أراه ** كم ذا أراه ولا يراني

" إن الكاتب لا يحسن به دائمًا أن يخاطب جميع الناس، فللوضوح مقامات، وللغموض مقامات، وكانت معاني الصوفية أدق من أن ترسل إلى مختلف الجماهير في ألفاظ واضحة المدلول. (5) (موقع هنداوي)

في رواية بياض اليقين للروائي الدكتور عبد القادر عميش، فلسفة المزج بين المذهب الواقعي والمعطى الصوفيّ ؛ واقعيّة المكان وفضاءاته المحسوسة، المحدودة (قسنطينة، غروزني، دمشق، الشلف، فضاء الجامعة) وصوفيّة الزمان المطلق. فقد كانت غاية الروائي عبد القادر عميش – فيما أرى - تأسيس نص صوفيّ وبناءه وتأثيثه وإخراجه في صورة تكتنفها عوالم التحلّي والتجلّي. وهذه غاية الروائي الصوفي فهـو يسعى بكل أدواته اللغويّة والبلاغيّة إلى مواجهـة ذاتـه قصـد السـمو بهـا إلى عالم المثل. { باعتبارهــا تحمــل مكونــات أساسـية لتحقيـق هـذا الحلـم، لكنـه لا ينطلـق مـن شـيء يحـيط بـه بقـدر مـا ينطلـق مـن داخله ليصوغ إحساسه الفياض تجاه ذات عليا، عبر خطـاب يحمـل صـفة التجريـد لأنـه يتعامل مع شيء مطلق لا يمكن رؤيته عيانا.} * ص 9

قد يتبادر إلى أذهان بعض القرّاء والنقاد، أنّ الرواية الصوفيّة، لا علاقة لها بالواقع المعيش، مقطوعة الصلة بالحياة الإنسانيّة الأرضيّة، الدنيويّة، الماديّة. فهي رواية تتعلّق بحالة النفس في تجليّاتها وإشراقاتها النورانيّة، ومشاهداتها وكشوفاتها الروحيّة، لا شأن لها بالجسد وإفرازات جوارحه، وسلوكاته وشهواته وقوته أو ضعفه. فالجسد ما هو إلاّ كتلة من الطين في أشكال وصوّر معيّنة، تحرّكه النفس إلى أجل مسمى، وتذهب به مذاهب شتّى، فإذا رجعت إلى ربّها، حال الجسد إلى مأدبة للدود وعاد إلى أصله الترابي. أمّا مدار الحياة، فهو النفس، بها يولد الجسد ويحيا، وبدونها يتلاشى عن الأنظار ويترب.

في رواية " بياض اليقين " للروائي، د. عبد القادر عميش. صوفيّة واقعيّة، وواقعيّة صوفيّة. الأمر ليس تلاعبا بالألفاظ، بل هي الحقيقة المستخلصة – حسب رأيي – من متن الرواية. فقد عمد الروائي إلى مزج الحدث الصوفي بالحدث الواقعيّ، لإضفاء جوّ من الروحانيّة على البنية السرديّة الواقعيّة، والتعريج بالواقع المنظور في عوالم الكشوفات الميتاصوفيّة المطلقة. فكانت شخصيّات الرواية، تتحرّك في أماكن جغرافيّة حقيقيّة ومعلومة (الشلف، مدينة قسنطينة وجامعتها الإسلاميّة، عاصمة الشيشان غروزني، دمشق، عاصمة سوريا، حلب وقلعتها...)،

لا يمكن اعتبار الروائي،الذي يكتب الرواية الصوفيّة، بالضرورة، صوفيّا، معتنقا المذهب الصوفي، كما كان عرفه أئمّة الصوفيّة قديما (الحلاّج، محي الدين ابن عربي رابعة العدويّة، جلال الدين الرومي، أبو حامد الغزالي)، لكنّه معتنق لأفكار صوفيّة بدوافع نفسيّة أو اجتماعيّة أو فنيّة أو فلسفيّة أو دينيّة. فالطريقة الصوفيّة في عرف العامة، وفي نظر بعض الخاصة، سليلة الدين الإسلامي، شبيهة في ظاهرها بالأسلوب الكهنوتي والكنسي والرهباني عند اليهود والنصارى، مختلفة عنه في الآليات والغاية.

يلجأ الروائي، كاتب الرواية الصوفيّة - عادة - إلى توظيف الانحياز الدلالي والرموز، وخاصة الطبيعيّة منها، والاختفاء خلفها بغرض تسريب مواقفه وأفكاره السياسيّة والاجتماعيّة والأخلاقيّة. لتجنّب مقص الرقيب السلطوي وقمعه واستبداده. ويسعى من خلال تلك الرموز إلى ولوج عوالم المشاهدة والمكاشفة واليقين والأنس وغيرها من عوالم الصوفيّة.

لقد عرّت رواية " بياض اليقين "، للروائي د. عبد القادر عميش، في متنها وبين سطورها، عورات العالم العربي والإسلامي وأزاحت اللثام عن أزمات المواطن العربي، الاستبداد السياسي، الأسلوب العسكري في إدارة المجتمع المدني، أو عسكرة المجتمع المدني، قمع الحريّات الفرديّة ّو الجماعيّة، الجهل المستشرى، التخلّف، الإرهاب والعنف.

و لعل أم الأزمات – على منوال أم المعارك – في البلاد العربيّة، بجناحيها ؛ المشرقي والمغاربي، هي أزمة الجهل التي كبّلت العقل العربي، وسفّهت الفكر النيّر، وفتحت أبواب الجدل المبني على الترّهات والخرافات والظنون والخلافات المذهبيّة، وعلى النبش في قمامة التاريخ النتن.

لقد لبست رواية " بياض اليقين " ثوبا صوفيّا، من خلال الاتّكاء على الأساليب المجازيّة المتنوّعة وتوظيف الرموز الغنيّة والعميقة فكريا وجماليا، مثل الرمز الطبيعيّ (الثلج، المطر، الليل، النهار، الريح، الأرض....)، لكن ّ بالمقابل، لم تكن وظيفة الرمز في الرواية غاية مثلى، بل أخذت أبعادا سياسيّة واجتماعيّة وفلسفيّة. فهاهو البطل (الأستاذ) يسعى إلى تحقيق غايته الصوفيّة، بمواجهة ذاته من أجل عتقها من عالم المحسوسات، والارتقاء بها إلى عالم المثل العليا. وكأنّي به يمتطي حلما يتمثّل الفلسفة المثاليّة الأفلاطونيّة للعيش في المدينة الفاضلة.

إنّ بطل الرواية يعيش أزمة فكريّة ونفسيّة وروحيّة وعاطفيّة، وهي أزمة تجسّد الحسّ المأساوي والقلق الوجودي للإنسان الصوفي عامّة في مجتمع طغت عليه الفلسفة الماديّة الغربيّة، الدخيلة. ويعيش تناقضا صارخا بينه وبين محيطه، وبين الواقع المعيش والمرئي والرؤى التجريديّة المطلقة التي لا تُرى بالعين المجرّدة إلى درجة الشعور بالاغتراب الروحي، وهو مقيم بين أهله وعشيرته، وفي أحضان وطنه. وقد يفضي به، ذلك، إلى انفصام الشخصيّة ووقوعها في معمعة الصراع النفسي بين الواقع المعيش والمأمول المثالي.

. (بطل الرواية، عاش عشريّة دمويّة قاسيّة في بلاده، وشاهد حروبا فظيعة خارج حدود بلاده عبر شاشات الإعلام، مثل قناة (الجزيرة)، بطل مشتت الأفكار، متوتّر، قلق، عاشق، محبّ، فرح، حزين، مقهور، منتصر، منكسر، يائس، حالم، معذّب، ممزق المشاعر، ضائع بين الدروب، متعلّم، مثقف، عصري (الحاسوب)، أصيل (الأصالة)، واهم...).

و لعلّ تجليّات البطل الصوفي (الأستاذ) في ثنايا الرواية، تعكس محنة تمزّق الإنسان العربي المعاصر روحيّا وفكريا وسياسيّا وإيديولوجيّا.

و هي محنة أفرزتها تراكمات سلبيّة وقاسيّة، ترويها صفحات تاريخيّة سوداء، مليئة بالانكسارات والهزائم والخيبات التي أصابت خير أمّة أخرجت للناس في مقتل. وقد كانت البداية مع حروب الردّة في عهد الخليفة الراشدي أبي بكر الصديق (ض)، ثم تلتها مأساة مقتل عثمان وما أعقبها من فتن في الجزيرة والعراق، والحرب الضروس بين فريقي الإمام علي ومعاويّة وانقسام الأمّة إلى فصائل وطوائف، ثم سقوط بغداد في أيدي التتار والمغول وسقوط الأندلس واحتلال أوربا الصليبيّة للبلاد العربيّة، وأخيرا القدس الشريف في أيدي العصابات الصهيونيّة، وغيرها من سلسلة المآسي المتمطيّة على النفس العربيّة كأمواج البحار وسلاسل الجبال.

خاتمة:

و مهما قيل عن رواية بياض اليقين للدكتور الروائي عبد القادر عميش، من مدح أو قدح، فهي – في رأيي - تجربة رائدة، تضاف إلى تجارب أخرى في العالمين العربي والإسلامي. وهي، أيضا، إضافة متميّزة للرواية العربيّة في المشهد الجزائري والعربي والإسلامي.

***

بقلم الناقد والروائي: علي فضيل العربي – الجزائر

..........................

هامش:

(1) الأستاذ محمد كعوان. اللغة الصوفية بين الدلالة المعجمية والدلالة السياقية)

(2) الأستاذ محمد كعوان. اللغة الصوفية بين الدلالة المعجمية والدلالة السياقية)

(3) المرجع السابق نفسه.

(4) المرجع السابق نفسه.

(5) موقع هنداوي الالكتروني (النت).

رحلة إلى ذات امرأة باكورة إنتاج الكاتبة المقدسيّة صباح بشيرالتي صدرت مؤخرا عن مكتبة الشامل في نابلس، هي رحلة البحث عن الذات التي تشظّت نتيجة التّقاليد والأعراف العائليّة والمُجتمعيّة التي عادة ما تكون المرأة او الأنثى بشكل عام أولى ضحاياها.

تتمحور معظم أحداث الرّواية حول حنان الشّخصيّة الرئيسة والتي عانت الكثير من التّفكير النمطي لوالدتها  وتصفها بأنها " كانت من النمط القديم في تفكيرها الاجتماعي،وكأنّها تورثنا ما ورثته عن والدتها وجدّتها، كلّ شيء تطوّر من حولنا إلاّ تفكير أمّي". وتضيف :" لم تكن جاهلة، لكنها كانت صنيعة مجتمع لا يرحم، تردّد الأمثال الشعبيّة ليل نهار وتريدنا أن نعيشها كقوانين ملزمة لا نحيد عنها..(ص19)

تناولت الكاتبة في روايتها العديد من المحاور والقضايا الجدليّة، ومنها: الزّواج التقليديّ غير المتكافىء، قضايا الطلاق وأسبابه وآثاره، عقدة العمر والخوف من العنوسة، نظرة المجتمع لولادة الصبّي والبنت والتّفريق بينهما إضافة إلى تطرقها للحديث ولو بشكل مخفف عن الحياة المجتمعيّة والتّسامح الدّيني وغيرها من المواضيع كالعنف الأسري والتّسامح الدّيني والتّعاضد في المجتمع الفلسطينيّ.

وسنحاول فيما يلي الإضاءة على هذه المحاور:

1-  قضيّة الزواج التقليديّ الذي غالبا ما يتم دون سابق معرفة بين العروسين، كما فعلت حنان الفتاة  وهي على أبواب الدراسة الجامعيّة عندما فوضّت والدها باتّخاذ القرار الذي يراه مناسبا وانصاعت  لرغبة الأهل بالزواج من عمر، الذي لم يكمل تعليمه ويعيش في منزل العائلة مكتفياَ بإيجاد وظيفة ثابتة له. وغالبا ما يتغاضى الأهل عن ضرورة توفر شرط التكافؤ بين العروسين لناحية المستوى التّعليمي والثقافيّ وأيضا لناحية التّقارب الفكريّ، بينهم3344 صباح بشيرا وهي من أهم الشّروط الواجب توافرها لبناء أسرة ناجحة وبغيابها تهتز العلاقة بين الزوجين وتصل الى حد الإفتراق، وهذا ما ظهر جلياً عندما لم ينظر عمر لأيّ كتاب من الكتب التي أمسكت حنان بها لتحدّثه عنها، لكنه بدا وكأنه مغيّب وفي عالم آخر، ولا يفهم او يكترث لما تقول، كما أبدى استهجانه ورفضه بأن تستمع خطيبته او تتابع لبعض البرامج الإذاعيّة والأغاني  معتبرا ذلك مضيعة للوقت.

2-  مسألة  الطّلاق وقد نجحت الكاتبة إلى حد بعيد في تناولها من مختلف الجوانب، فالطلاق كما تراه والدة حنان هو من المحرّمات التي لا يمكن القبول بها، فطلاق البنت غير مسموح به وهو عار يلاحق سمعة المرأة، فواقع المرأة المطلّقة سيّء والنّظرة إليها أسوأ. وتبرز الكاتبة توجس الأهل من مسألة الطّلاق وخوفهم من أن يصبحوا عرضة لكلام الناس، تقول والدة حنان مبررة رفضها للطّلاق:" ألا ترين في ذلك تقليلا لقدرنا وقيمتنا؟ يا ويلنا سيلوكون سيرتك وسيرتنا بالحقّ والباطل".

وفي سياق متصل أضاءت الكاتبة على الآثار السلبية للطّلاق وما تدفعة المطلقة من أثمان يطال سمعتها وكرامتها، سيّما وأن الرّجل ولكي يخفي فشله ومسؤوليته عن انهيار زواجه يلجأ إلى تشويه سمعة مطلّقته وقذفها بأبشع التهم، وهذا ما فعله عمر طليق حنان عندما إدعى زوراً أمام أهلها ورفيقاتها بأنّها "كانت كثيرة التّذمّر والسّخط وتبقى عابسة شاكية باستمرار، راقبتها عن كثب واكتشفتُ خيانتها وقذارتها لقد كانت على علاقة برجل آخر"(ص162). هذا التّشويه الممنهج لسمعة حنان المطلّقة، كان لا بد من أن يؤثر سلبا على وظيفتها فقد واجهتها مسؤولة الدار الذي تعمل به بالقول: " أستمحيك عذرا، فوجودك أصبح يشكّل إحراجا لي. وأطلب منك بشكل شخصيّ تقديم استقالتك ونصيحتي لكِ بحلّ مشاكلك مع طليقك الذي يتحدث إلى زميلاتك الموظفات بطريقة غير لائقة عنك وعن أخلاقك"(ص187)

وفيما يشبه النقد او الإعتراض لما هو شائع في التّعامل مع قضية الطّلاق وكيف يستند البعض على بعض النّصوص الدينيّة ويفسرها على هواه وفقا لمصلحته، وفي ظلال المجتمع الذكوريّ ولغاية في نفسه يتمسك البعض وإمعانا في قهر الزّوجة ببعض الأحاديث التي تمنحه السّلطة والقيادة على امرأته بغض النّظر عن صحة هذه الأحاديث من عدمها، ومنها "إذا دعا الرّجل امرأته إلى فراشه فأبت، لعنتها الملائكة حتى تصبح" أو "أيّما امرأة سألت زوجها طلاقها من غير بأس، فحرام عليها رائحة الجنّة".. انطلاقا من ذلك تتساءل حنان " هل حرام على المرأة طلب الطلاّق من زوجها وحلال عليه أن يطلّقها ساعة يشاء؟  وهل يمكن إثبات جريمة الاغتصاب الزّوجيّ وهي ترتكب في غرف النّوم المغلقة واللّحظات الخاصّة؟ (ص142).

3- العنف المنزلي والأسري: عندما يفقد الزّواج صفة الشّراكة الحقيقيّة لبناء حياة سعيدة وعائلة صالحة، تطفو الخلافات الزوجيّة على السّطح وينتج عنها ظاهرة ما يُسمّى بالعنف المنزلي وهي الظّاهرة التي تبدو مستشرية في مجتمعاتنا، وقد أشارت الكاتبة لهذا في تعامل عمر مع زوجته حنان وإقدامه على كيّل الضّربات لها حتى وقعت على الارض مغشيّا عليها، ولم يكتفِ بذلك بل تشارك مع والدته  إمعانا في إذلالها بأن أقدما على حرق وإتلاف الكتب التي تحتفظ بها بحجة أن هذه الكتب قد  أفسدتها مشيرا بيده  إلى الورق الممزق طالبا منها بأن تنظف هذه القمامة وأردف قائلا :" أنا رجل البيت ستبقى كلمتي هي الأولى والأخيرة، سأعمل على تطويعك وستنفذين ما أطلب منك رغم أنفك (ص147).

4- عقدة العمر والخوف من العنوسة:  محور آخر تناولته الرّواية وهو مسألة عقدة العمر والخوف من العنوسة والذي غالبا ما يكون أحد الأسباب المؤدية لزيجات متسرعة غير متكافئة  فقط للهروب من فخ العنوسة. تقول سميّة إحدى صديقات حنان: " نحن الفتيات نعاني عقدة العمر، فالفتاة عانس في نظر الناس إن لم تتزوّج، يصبح عدم زواجها قضيّة رأي عامّ تثرثر بها الأفواه" (ص38).

وفي هذا الشأن تورد الكاتبة كيف أن البعض من الأهل يسارع إلى تزويج البنت ولو بالإكراه وإرغامها على القبول بمن لا ترغب به، دون أن يراعوا حقيقة مشاعرها، وكنموذج عن هذه الحالة كانت أسماء التي أحبت شابا لكن أهلها رفضوا هذا الحبّ وقاموا بتزويجها من رجل ثريّ طاعن في السّنّ على خلاف رغبتها، فكانت النّتيجة المأساة لهذا الزواج أن أصبحت أسماء لاحقا من عداد المطلقات وعرضة لثرثرات النّساء يشتمنها ويصفنها بالعاهرة وأنّها أصبحت من بنات اللّيل. فكثرت الظنون بشأنها بأنّها ما زالت تلتقي حبيبها الأوّل سرّا، كما أنّها لم تسلم من سياط والدها الذي يعود متسلّلا إلى بيته مترنّحا ثملا في وقت متأخر من اللّيل لينهال عليها بالضرب معتبرا انّها جلبت له الخزّي والعار، وقد منعته أنانيّته وهيمنته الذّكوريّة من الموافقة على تزويجها ممّن تحبّ، فقام  بإحراقها دون أن يرفّ له جفن  تحت ما يسمّى بجريمة الشرف.

5- التمييز بين الجنسين الصبّي والبنت: ما هو مسموح للصبّي غير متاح أمام البنت فالخروج من البيت يكون فقط للضّرورة واللّعب في ساحة الحّي ممنوع والبنات لا يلعبن إلاّ في البيت، ذكوريّة طاغيّة بشكل لافت في مجتمعاتنا العربيّة سيّما فيما يخُصّ النظرة والتّمييز بين الجنسين الصبّي والبنت، ولا تزال الأمثال الشعبيّة يتردد صداها عند الكثيرين وتُملي عليهم تصرفاتهم  وقرارتهم  ومن هذه الأمثال: "همّ البنات للممات" .. "عقربتين في الحيط ولا بنتين في البيت".. "البنت بتجيب العار وبتدخّل العدو في الدّار". هذه الأمثال وغيرها تجعل من ولادة الصبّي أمنية ومطلبا عند العديد من الأمهات والمفارقة أن هذه الأم التي تتمنى ولادة الصبّي هي أساسا أنثى! تقول والدة عمر" لقد زوجنا عمر ليمتلىء بيتنا بالأولاد الذّكور، يبدو أنّكِ لا تنجبين إلا الإناث".

كما تناولت الرّواية مسألة الأسرة والتّباين فيما بين أفرادها متخذة من أسرة حنان المثل والمثال، فالوالد كان منفتحا ويمتاز بدرجة لا بأس بها من الوعيّ وهذا ظهر من خلال تعاطفه مع ابنته حنان في محنتها وطلاقها وكذلك كان متفهما لزواجها الثاني لاحقا من نادر الذي التقت به في باريس، أما شخصيّة الوالدة فقد ظهرت بصورة تقليديّة تهتم بآراء النّاس وتولي اهتماما شديدا بوجهات نظرهم ظنا منها أنّها بذلك تحافظ على العائلة وسمعتها  ولو على حساب سعادة وهناء أولادها، وأخيرا غادة الأخت الصغرى لحنان فقد أعماها الحسد ولم تمنعها غيرتها من الاتّفاق مع طليق أختها ومساندته بغير وجه حق في بث الشّكوك والشّائعات المغرضة التي تطال أختها  وقذفها بأبشع التُهم.

وفي إشارة لافتة تبرز الرّواية شخصيّة ماري وهي الصديقة الأقرب لحنان، ويلاحظ بأنّ ماري وهي الفتاة المسيحيّة تتمتع بقدر عال من الذّكاء والوعيّ ظهر من خلال مناقشاتها مع حنان وإبداء رأيها فيما وصلت إليه فتقول: " أنت السّبب يا حنان، لقد وصل بك الحياء إلى درجة لا تطاق، والأمر كله بيدك، فالتحلّي بخصلة تقدير الآخرين ومشاعرهم والحياء منهم وأخذهم بالحسبان تعدّى الحدّ اللازم عندك، وهذا ما يعيق خطواتك، عليك بمعالجة الأمر وتعلّم الرّفض، تعلّمي أن تقولي لا".  وفي تعليقها على موضوع الزّواج تقول ماري: " تخيفني فكرة الزّواج العشوائيّ، للأسف نعيش في مجتمع لم تتطوّر أفكاره، صحيح أننّي لم أتزوج حتى اليوم؛ لكنّني لا أشعر بالخوف على نفسي، سأنجو من تلك الأفكار، سأتعلّم وأعمل وأصبح فعّالة في المجتمع لتحقيق أهدافي التي طالما حلمت بها".

نلاحظ أن ماري أحسنت الاختيار ونجحت في زواجها بعكس صديقتها حنان التي أخفقت في تجربتيّ زواج، وهنا نطرح السّؤال هل التربيّة والتّقاليد وسلطة الأهل التي لا تُرّد هي السبب وراء فشل حنان، وهل أن مساحة الحريّة في التّفكير والاختيار الممنوحة من قبل الأهل لصديقتها ماري هي التي أوصلتها لبر الأمان؟.

6- المعاناة الفلسطينيّة: ولأن الأماكن كالبشر لها أحضانها التي تهبنا الكثير من الحميمية والحنين، كان لا بدّ للكاتبة المقدسيّة صباح بشير من أن تُحضِر المكان في روايتها، والمكان الأقرب والأحبّ على قلبها هو مدينة القدس عندما وصلت أوّل الدّرج في باب العامود أجمل الأبواب في سور المدينة الشّامخة، وفي هذا تقول: " دخلنا باب العامود، وكأنّي أدخل في عمق الزّمن والتّاريخ، يأسرني هذا المكان، أشعر أنّي أتنفسه وأمتلىء به؛ لأعود إليه كما الابن الضّال، يحدثني وأحدثه، يحتويني وأحتويه" (ص58).

وإلى جانب مدينة القدس وأسواقها، حضرت المعاناة الفلسطينيّة أيضا من خلال الحديث عن الإنتفاضة الأولى والأحداث السّاخنة والمظاهرات والاحتجاجات اليوميّة التي تملأ المدن والقرى الفلسطينيّة وأعراس الشّهداء التي لا تتوقف، ومن جملة الشّهداء كان الشاب خالد ابن ام ابراهيم الذي وقع خبر استشهاده عليها كالصّاعقة، ركضت بلا وعي لتحتضن فلذة كبدها، والمرارة تعتصر قلبها، كان ملفوفا بالعلم الفلسطينيّ ككلّ الشهداء، وقد تجمع سكّان الحيّ أمام بيتها بحزنهم على الشّهيد الذي أستشهد وهو يحمل جرحه النّازف، وبيده الأخرى يحمل الوطن.

ختاما نقول أنّ حنان التي دفعت بداية ثمن حياءها وانصياعها التّام لرغبة الأهل والأعراف المجتمعيّة وخرجت بزواج فاشل مع عمر، فإنها وللمرّة الثانيّة دفعت ثمن انبهارها بشخصيّة نادر وتصديقها له تقول "رغم كل هذا الحبّ الذي منحته إياه، لم يفكر أن يغيّر أسلوب حياته التي كان يخفيها عنّي. وها أنا أدفع ثمن ابتسامته غاليا، فأنا امراة بقلب طفل، هل كان ذنبي أنّي أحببت وصدّقت؟ وهل الصدّق في الحّب ذنب"؟

ولأن العقل لا يستفيق إلاّ بعد أن يُصفع تختم حنان رحلتها إلى الذّات وتقرر العودة إلى نفسها وموطنها وإن كانت هذه العودة مشتهاة وحزينة في ذات الوقت، لتقول بلسان كل فلسطيني يتوق للعودة: "أيها الفلسطينيّ..تعال وانزع غربتك الملطّخة بأوجاع الحياة، تأكّد من نبضات مدينتك ولا تغادرها، فهي تتألّم بصمت، وتشعر بفقدان أبنائها كلّما طال غيابهم عنها."

أخيرا  وعلى أمل أن تكون حنان قد أكتشفت ذاتها، نبارك للكاتبة صباح بشير هذا الأثر الأدبيّ الذي يشكل باكورة نتاجها ونتمنى لها المزيد من التّألق والنّجاح.

***

عفيف قاووق – لبنان

حين أتحدّث عن (غابات الإسمنت) وهي رواية جديدة للكاتبة والشاعرة السيدة ذكرى لعيبي، أجدني اطلع للمرة الأولى على موضوع حيوي أعطاه الغرب مجالا واسعا من البحث والتدقيق والنشاط سواء من الناحية الأدبية أم الناحية الاجتماعية والعلميّة أو النفسيّة.

لا مشكلة في باب المثلية أو مايعادلها لدى الغرب ولا تثير عيبا أو استغرابا.

لكن.. يبقى المجتمع العربي يراها مشكلة وعيبا ويطالب بإيقاع أقصى العقوبات على من يوصفون بها. ومن يقترفونها.

لا أحب أن أدخل في نقاشات فقهية وغيرها فأنا في مقالتي هذه أود أن أشير إلى المساحة التي دخلتها السيدة ذكرى بهذه الرواية. إنها مساحة الاستثناء الذي يشكل حراما وعيبا، غير أن الكاتب أو الكاتبة ليسا هما فقيهين ولا رجلي دين بل إن المؤلف هو فنان يلتقط الظواهر فتؤثر فيه فيصوغها شعرا أو مسرحية أو عملا روائيا حسب تمكنه الفني وقدرته الإبداعيّة.

فلأترك دراسة الرواية لناقد آخر ولأتناول جانبا واحدا منها هو شخصية نقيب الشرطة ابتسام التي صاغتها الكاتبة بدقّة متناهية ورسمت ملامحها من دون تحوير ولا زيف.

حين نطالع شخصية الضابطة نجد أنفسنا أمام شخصية غير نمطية للشرطية تلك الصورة التي كوّنّاها عن الشرطي والشرطية في حياتنا العامة من خلال المعايشة اليومية أو من خلال الأفلام العربية التي ترسم ملامح أفراد الشرطة القاسية وعنفهم وسلوكهم المشين.

اعتقد أن الكاتبة رسمت صورة للشرطية فريدة من نوعها وجديدة، ولو تابعنا حياتها لوجدنا أنها ابنة لامرأة لاحول لها ولا قوّة، أبوها تزوج على أمها وخلف أولادا ورثوه. صحيح أنها ورثت بعض مال إبيها وبيتا من أمها لكن الحصّة الأكبر ذهبت لأخوانها.

إنها الخطوة الأولى التي جعلتها تتخذ موقفا سلبيا من الرجل أيّا كان أو لنقل ترسم علامات استفهام على الرجل.

المرحلة الثانية جاءت لأسباب فسيولوجية هي كما تقول الرواية ليست جميلة وليست قبيحة، تكتشف أنّ لها ميولا نحو الأنثى مثلها ويبدو أنها ميول فسيولوجية وليست من باب الشذوذ قد تكون المسألة قضية هرمونات أو طفرة عضوية. لذلك تصادق فتاة في مرحلة المراهقة ثم بعد فترة تنتهي هذه العلاقة. لاشك أن ابتسام أرادت أن تحقق ذاتها وقد اكتشفت مبكرا أنها ذات ميول مثلية فسيولوجية فتقاربت مع النساء أكثر وأعجبت بهن.

المرحلة الثالثة:

وتتجسد في أن ابتسام وصلت إلى نقطة تتقمص فيها دور الرجل. الرجل الذي أهان أمها وأخذ حصته الكبرى في الميراث، فكيف تأخذ بثأرها منه؟ ليس هناك من سبيل إلا أن تكونه هو الذكر الذي تعدى عليها بصفتها أنثى، والذي يتتبع علاقاتها الجنسية بخاصة عندما تدخل البطلة في الحمام يجد ابتسام تبدأ بالتحرش كما لوكانت رجلا يغازل أنثى. إن مثليتها المتطورة تجعلها أقرب إلى الذكورة لاسيما أنها متوسّطة الجمال والبطلة جميلة.

من خلال ماتقدم يمكن أن نسأل ماهي ملامح الرجولة في سلوك ابتسام؟ على وفق قراءتنا للرواية، إن العلامة الدالة على انسجامها مع الوضع المثلي كانت تشير إلى اختيارها في المرحلة الثانية لوظيفتها الحالية. استغلت مكانة أهلها وسمعتهم عند الدولة فدخلت كلية الشرطة لتتخرج ضابطا، ونحن بصفتنا محايدين نقول ان هذه وظيفة خشنة تتطلب قوة وصرامة وموضوغية وقباحة في الوقت نفسه، فهي لم تختر وظيفة شرطية من باب الهواية بل لتحقق انتقامها من الرجل هذا من ناحية، من ناخية أخرى إنها حين تصبح شرطية تكون بالطبع في قسم النساء وهناك في هذا القسم سجينات لأسباب عديدة: القتل.. السرقة.. البغاء إلخ.. يعني هذه أسباب تتعلق بالرجل، فتكون قريبة من سجينات هن من ضحايا الرجال حسب تصورها فتكون أكثر رحمة بهن من أي ضابطة أخرى. تستطيع أن تعاملهن بلطف وتفكر بمساعدة من تخرج من السجن، ولعلها تجد من تحبها بصفة دائمة من السجينات الضحايا حسب تصورها، كانت تريد أن تكون هي الرجل لتنتقم من الرجل فأصبحت ضابطة في الشرطة لتعايش النساء اللائي كتب عليهن لسبب ما أن يكنّ ضحايا، ولم تنس مشاعرها .اختارت واحدة لتكون حبيبتها تدعوها إلى بيتها، ولأجلها كانت تختار بعض الليالي سجينات أخريات تصحبهن لبيتها فينمن في المطبخ أو الصالة. تعاملهن باحترام وتثق بهن، إن مشكلتها مع الرجال فقط وربما استخدمت مع السجينات طريقين، أحدهما إيجابي والآخر سلبي:

الإيجابي هو أن تشجع وتدعم من يطلق سراحها سواء من كانت مهرّبة أم تمارس البغاء في إيجاد عمل شريف لها ترتزق منه بدلا من العودة بعد السجن لما كانت عليه الحال قبله.

ثانيا الطريق السلبي أي طريق الغاية تبرر الوسيلة. هناك نية عند الضابط ابتسام لمعاقبة التجار الكبار ومن بيدهم مقادير البلد ممن ينضوون تحت مسمى الرأسمالية والبرجوازية، أو يحتلون مراكز حكومية، بحكم عملها في الشرطة ومسؤوليتها عن سجن النساء كانت تنتقم بالمرأة نفسها من هؤلاء بتوظيفهن وهن سجينات عند المخابرات التي تستغل جمالهن وفتنتهن، لتضمن لهن رواتب ومستقبلا أفضل بعد أن يخرجن من سجنهن. وقد وقع اختيارها على اثنتين هما البطلة القاتلة وزوجة سجين سياسي، في الوقت نفسه كانت تستغل وظيفتها في الحكومة فتقيم علاقات مع المهمين في الدولة مثل رئيس غرفة تجارة البلد، كانت حريصة على أن تعمل البطلة حبيبتها في سلك المخابرات لتمارس الجنس مع هؤلاء المتنفذين لسرقة معلومات منهم، ومعرفة خصوصيّات تصبح ورقة يُهدَدون بها وهي لا تشعر بالغيرة من ذلك، فلو وجدت عشيقتها السجينة تمارس الجنس مع امرأة أخرى لقتلتها هي تعترف بذلك لكن مادم الفعل مع رجل بغرض تهميشه وتحطيمه فالأمر لا يستحق الاهتمام والغيرة والقلق، هذا السلوك قد نجده عند الشخصية غير المثلية التي يطلقون عليها في بلادنا العربية الشخصية السوية، شاهدت مرة شريطا سينمائيا أمريكيا لرجل يعمل عسكريا ذا رتبة رفيعة يكتشف أن امرأته تمارس الجنس مع فتاة مثلها فلم يبال لأن الفعل لم يكن مع رجل، والشريط نفسه تناولت أحداثه مع سيدة دنماركية فكان جوابها لو وجدت زوجي يمارس الفعل مع رجل لما غضبت ولما غرت، هل أغار من رجل؟ وشاءت المصادفة أن أتابع مسلسلا كويتيا منذ أكثر من 20 سنة تكتشف فيه الزوجة زوجها يمارس مع رجل فتطلب الطلاق، ولو حللنا نفسية الضابط ابتسام لوجدنا أنها شرقية غير أن دافع السيادة والمساواة التي تؤمن بها كل ذلك دفعها إلى أن تتنازل عن حبيبتها لرجل بل أكثر من رجل لتحقيق رغبة تتمثّل في دفع الذكورة إلى مرتبة أدنى.

يثبت ما أشرنا إليه مجتمع الفتيات اللائي يشكلن تنظيما دينيا وثنيا وعبادة الشيطان، فهي تغتنم الفرصة وتطلب من حلبيبتها تأجير الشقة فوق محل الحلاقة لهن، وتتحرك فيها رغبة الشرطي لتراقب سلوكهن، لا بدافع الانتقام منهن بل لكسر شوكة آبائهن، هناك فيهن ابنة السياسي وابنة العسكري، إن ابتسام كونها أنثى وكونها مثلية في الوقت نفسه ولأنها ضابط تستطيع أن تحقق نتائج ايجابية للسجينات عبر طريق الغاية تبرر الوسيلة.تريد أن تحتل مكان الذكر لتنتقم منه.

ليس هذا فحسب إن الضابط ابتسام تجمع بين الثقافة والحزم والعلاقات العامة التي تتمثلها في أعماقها بكره الرجل، تعامل السجينات بإنسانية، وليس لديها مانع أن تتحول إلى مجرمة في تعاملها الخاص مع الرجال وتنسيقها في علاقاتها الخاصة مع دائرة الأمن للتخطيط لسجنهم وتجريدهم من صلاحياتهم بوسائل شريرة.

الرجل عندها مجرم.

والمرأة ضحيّة

ولكنها بذكائها المتوازي مع غريزتها تدرك ضرورة الرجل لاستمرارية الحياة، تحلم بمستقبل يغير العالم ولو جزئيا: أن تتزوج رجلا لأجل أن تكون أُمّا

وتحلم أن تتزوج حبيبتها من رجل لكي تصبح تلك أيضا أُمّا، هي يرثها وليدها وحبيبتها ييرثها وليدها ويمكن إذا كبر ابنها يتزوج بنت حبيبتها إو العكس.

إنه تخطيط وليس حلما يمكن أن تتزوج موظفا عندها فتطلقه، ثم بعد تحقيق الحلم لايهم أن يقتل بحادث أو يضيع في فوضى العالم.

إنه حلم أشبه بمخطط يحمل الخير والشر وذلك متأت من روح التناقض التي تعيشها ابتسام البطلة الموازية لبطلة الرواية الضحية.

***

د. قصي الشيخ عسكر

يصدمك الفضاء الروائي في الصياغة والتعبير والرؤية، في أحداث سردية مدهشة في تفاصيلها ومعطياتها في الطرح والتناول، كأنها تؤكد، بأن لكل زمن له يوسف يحمل صخرته على كتفه بأشكال مختلفة، ولكن يبقى البئر هو السائد والمسيطر على مشاهد المعاناة الحب والواقع، ويقول الكثير من الحكايات، تستمد قوتها وخامتها من مجريات الواقع الفعلي، من عقلية وثقافة المجتمع الظالم، ومن الاعراف العشائرية المتشددة تجاه ظلم واجحاف حق المرأة وسلب إرادتها بسيف القتل أو في جرائم غسل العار، حتى في تعاطي الحب البريء في نقاوته و طيبته وبساطته وعفته، كأن هذا الحب العفيف خطاً احمراً للمرأة والشرائح الفقيرة المظلومة، ولكن هذا المجتمع يبيح زواج القاصرات في عمر الطفولة، واغلبهن لا يتحملن اعباء الحمل، ويتعرضن لموت عند الولادة العسيرة، وهن لم يخرجن بعد من أحلام الطفولة البريئة ولعب الأطفال. لذا فأن المرأة بصورة عامة والريفية بصورة خاصة، تواجه جملة من الصراعات الاخطبوطية في الحرمان و الاجحاف والظلم. الاديبة (رسمية محيبس) تعاملت بجدية رصينة في كشف عيوب المجتمع (العشيرة. التقاليد. السلطة) في الحب في البيئة الريفية والفقيرة، بحكايات الحب العفيف النزيه في برائته ونزاهته وبساطته. نجد أن المعادلة غير متكافئة من الإجحاف بحق المرأة وخاصة الريفية، في مقابل التمسك المرأة بالحب العفيف والنزيه كسلاح تقاوم به الحياة والظروف الصعبة، لتدلل على قوتها في الحب، تجاه ضعفها في معطيات المجتمع الأخرى، أي بتعبير آخر نور الحب الطاهر بالوفاء يضيء الاحساس الداخلي، تجاه ظلام المجتمع الدامس. من هذا المنطلق توجهت الاديبة الى اعماق مشاعر والحب واحساس العشاق العميق بهذا الشغف واللهفة، بشخصيات يؤطرون الصورة الجميلة للحب في حكاياته، ليس الغرض استنساخ صور وحكايات الواقع، بل وضع الواقع في مجهر الجدل والمناقشة والتأمل والتفكير. ووضعنا أحداث السرد الروائي ومجرياته المتلاحقة على صفيح ساخن من أحداث تراجيدية ودراماتيكية في شخوص الرواية وكيف تعاملت الأديبة (رسمية محيبس) مع شخوصها أو مخلوقاتها، الذين حولتهم في نهاية المطاف الى جثث واموات، وكأنها تسير في طريق معبداً بالجثث المتناثرة هنا وهناك بشخصيات الروائية، هذا يضعنا أمام سؤال وتساؤل وجيه: هل هي نزوة عابرة ارتكبتها الأديبة تجاه مخلوقاتها ؟ أم أنها تريد ان تشير الى معنى ودلالة بليغة التعبير، بتحميل الواقع الظالم تبعيات اجرامه، ومعاناة المرأة، وظلمها حتى في اختيار الحب العفيف الذي أن يقتل بدم بارد، أن ينهزم بالخيبة والإحباط، لتدلل بأن المجتمع غير صالح للحب، وكانه يحرث الحب في رمال الصحراء، غير صالح للبقاء، فما على العشاق ويوسف الذهاب الى العالم الاخر، ربما يكون أكثر عدلاً وإنسانية، من ظلم الواقع فوق الارض، الذي يكره الصدق والنزاهة والعفة، لانه تعود على التزييف والتجاهل والظلم والاجحاف والخداع. بذلك تعاملت الاديبة بصدق وحقيقة من معطيات الواقع رغم مرارته كالعلقم. وبراعة النص الروائي، استلهام في تناص بشخصية النبي يوسف والبئر، مع يوسف الجديد، الذي يحمل صفات وخصائص وسلوك يوسف القديم، في الجمال والسحر كما تقول اسطورة النبي يوسف (له بعض سمات النبي يوسف الذي تقول الأسطورة بأن الله خصه بنصف الجمال وترك لبقية البشر النصف الآخر) ص12، ولكن كما أبتلى يوسف القديم بالبئر، ايضاً ابتلى يوسف الجديد بالبئر الواقع الحياتي، حيث تهالكت عليه الازمات والمشاكل في حكايات الحب، رغم انه يفيض بالطيبة والصدق بكل مشاعره وإحساسه العميق، أن يسمع آهات وانين الحب المقتول من عمق شخصياته تجرعت مراته وافضت بكاياتها الى يوسف، يوسف المكافح بعقليته المتفتحة على الثقافة الإنسانية والأدب العالمي الانساني، يوسف ابن الريف والطبقة الفقيرة، عاش ظروف صعبة وقاسية، وكان يطمح الخروج من الواقع المأزوم بالتغيير، الذي يستجيب لطموحات وآهات الطبقة الفقيرة، والظروف القاسية للبيئة الريفية التي تتحكم بها الأعراف والتقاليد العشيرة المجحفة ضد المرأة والحب (لم تمنحني الحياة بعد الوقت الكافي، والمناسب لي كما أرغب يا صديقي، نحن الفقراء لا يحق لنا أن نحب ونستمتع بالحياة يا عزيزي، الحياة بالنسبة لنا مجازفة كبرى، ولا أخفيك بأنني حظيت بمحطات مضيئة شعرت من خلالها بالأمان هنا، لكن في أعماقي شيئاً لم يريوِ بعد ! أنا ابحث عن الحنان، ولم أحظَ بعد بحضن دافىء، وها أنا أخرج كما تراني فارغ اليدين، أنها مجرد محاولات، لكنني اقفز في الفراغ) ص160. واصل تعليمه الجامعي بالانتقال من الريف الى المدينة (بغداد) وانخرط في الكثير من النشاطات الادبية والفنية والثقافية، وصاحب شخصيات مرموقة في الوسط الثقافي والأدبي، وواصل ثقافته في الغرف من ينابيع الاصيلة من الادب الانساني العالمي، وتعامل مع الأشياء بواقعية رصينة وهادفة، وتحاشى الانخراط في السياسة والحزبية والخوض في غمارها الصعب، وكسب ثقة واحترام الناس، أنه يوسف في براءة الحياة وطيبتها، يوسف يحب بيئته الجنوبية، الماء والصيد والمشحوف، احب الحياة الحرة، وكان يسعى الى زرع شتلات الخير والصفاء والمحبة، لكن كان الواقع كان كرمال الصحراء لا يزهر بالنمو والخصب والعطاء، وكانت نهايته المأساوية مثل باقي شخوص الرواية، حيث مات يوسف، في حادثة قطار بالاصطدام وسقط القطار في الوادي العميق، وراح ضحيته عشرات المجندين الذين ركبوا القطار مجاناً متوجهين الى الموصل، وكان يوسف مجنداً وذاهباً الى وحدته العسكرية في الموصل، لتنهي رحلة حياة يوسف بالموت، ولم يكتمل حلمه بالتغيير في اعوجاج المجتمع والأعراف الظالمة تجاه الحب والمرأة. ذهب الى العالم الآخر هو ما يزال غصناً اخضراً طرياً، يفوح بالعطاء والخير، ربما الذهاب الى العالم الآخر، ارحم واكثر أنسانية (رحل في ظروف قاهرة من الفقر والحرمان، ومن أشياء أخرى، لا اعرف لمََ تجمع هذا الحزن كله في اجمل عينين في العالم ؟) ص172. وكتب صديقه يرثيه حزناً (ما يؤلمني ليس الموت ! فهو نهاية حتمية لنا، بل أنني أتألم، لان الايام غدرت بك، ولم تكمل حلمك الجميل، أيها الطائر نحو المستقبل بروح حية........ عيناك لم تغيبا واسمكَ يتوهج في كل حين، كالنار التي كنا نشعلها في الليالي المظلمة، فتضيء العالم من حولنا) ص174. اذهب ايها المحبوب حرستك ملائكة السماء.

بعض حكايات الحب:

- حكاية حب حسنة وجواد:

هذا الحب يحمل صفة النقاوة والبساطة والشفافية العاشق الذي يتمسك بالوفاء، مهما كانت الضغوط الهائلة في كسر شوكة الوفاء. هذا الحب انتهى بالزواج المبكر والرحيل المبكر بعدما انجب طفلين، فقد قتل الزوج (جواد) في نزاع عشائري لا طرفاً ولا شريكاً فيه، وترك زوجته (حسنة) في ريعان الصبى والشباب، وعاشت مع أمها وطفليها تئن بجروحها واحزانها (تجتر أحزانها أذا جاء الليل، وقد دفنت نفسها في الملابس السوداء، كشأن الجنوبيات الفاقدات، ولا يخلو لياليها إلا اذا سكبت الدمع مدراراً متذكرة الايام الخوالي، وهي مقعدة في الفراش لا تكاد تخرج من البيت) ص87، تقدم إليها الكثير لطلب الزواج، ولكنها كانت ترفض بذريعة تربية الاطفال حتى تبقى وفية لحبها لزوجها المقتول، وفي اثناء الانتفاضة عام 1991، ضاعت اخبارها، ولكن بعد سقوط النظام وجدوا هويتها ضمن جثث المقابر الجماعية.

- حكاية حب بدرية:

المرأة الريفية تنتمي الى عائلة فقيرة، بعد وفاة والدها في الحرب، أخذت مسؤولية توفير العيش في العمل في السوق في بيع السمك لتوفير الخبز لعائلتها واخوتها الثلاثة، وساعدهم في تدبير أمور المعيشة في تقديم المساعدة من العم (أبا عمران) الكبير بالسن، وبعدها تزوجت، ولكن يلتف القدر لتجد (ابا عمران) ينهشه المرض في حالة يرثى لها أمامها، طريح الفراش بدون عون وسند، فكان واجبها ان ترد المعروف بتقديم المساعدة وتوفير العناية، وإبعاد وحشة الحياة والموت عنه، ولكن زوجها وقف حائلاً في تقديم المساعدة والعون، وهددها بالعواقب الوخيمة إن واصلت زيارته، فضطرت مجبرة على قطع الصلة في مواصلة زيارة العم (ابو عمران) وتمادى الزوج أكثر في تهديد (ابا عمران)، غاضباً ومزمجراً، لم يعجب هذا السلوك الخشن من زوجها، رغم أنها صارحته بما كان يقدم مساعدة لعائلتها، فخرجت من البيت وضاعت أخبارها في انتفاضة عام 1991، وبعد سقوط النظام وجدوا هويتها من بين جثث المقابر الجماعية.

***

جمعة عبدالله

رواية "زمن القناطر" للكاتب عامر سلطان، الصّادرة عن دار ومضة للنّشر والتّوزيع، تقع في مئتين وست وخمسين صفحة من الحجم المتوسط، يستهلُّها المؤلف بالإهداء الذي قدّمه إلى والديّه وجدّته وروح جدّه وإلى جميع الشّهداء وكلّ الّذين حفروا ذكراهم في القلوب.

هي رواية الذّكريات المخبّئة والأسرار السّاكنة، وحكايا الجدّات التي تدلّت كعناقيد الحلم، والطّقوس التي أخذت شكل المكان وهويته، والأمسيات التي نخالها انقضت، فاذا بها حيّة حاضرة تفترشُ زوايا الذّاكرة، تسطع مع أهلها وتعبق بذويها، تصدح وتقول:

هنا كان أجدادنا وكان وقع خطواتهم يملأ المكان، هنا كان أهلنا وما زالوا، وسيبقون ينابيع الأرض التي لا تنضب، فتلك النبضات في قلوبهم سمعناها منذ أزل بعيد، وبادلناها الحبّ والشّوق والحنين.

الأحداث:

تدور الأحداث في مدينة الخليل الفلسطينيّة، التي حضرت بقوّة فأحاطت بفكرة الرّواية وعناصرها واحتضنت شخوصها، منها انطلق السّارد بحبكته الرّوائيّة، وزوّدها بذخيرته المعرفيّة.

تحتوي الصّفحات على فصول عدّة، تتنوّع بعناوينها الفرعيّة، وتكشف عن المسار السّرديّ للنّصّ.

الفصل الأوّل: بعنوان زمن التّلال والاغتراب: يدخل القارئ إلى أجواء الرّواية حين يلتقي راشد بشارلوت، التي يناديها الجميع شيري، تعرض عليه العمل معها ومساعدتها في تحضير دراسة توثيقيّة؛ لإحياء الموروث الشّعبيّ والحكايات المهدّدة بالضّياع، فيطمئن لها راشد ويوافق دون التّحقق من نواياها، ودون معرفة مسبقة بها.

الفصلُ الثاني: بعنوان زمن البدايات: يطغى وصف الأمكنة والطّرق والشّوارع والطّبيعة على هذا الفصل، يتقرّب راشد من شيري أكثر من السّابق، يتّفقان على تنفيذ الدّراسة ويسافران معا من رام الله إلى الخليل، ويلتقيان هناك بالجدّ رباح.

الفصل الثالث: زمن المفاجآت: يستحضر الموت في هذا الفصل كعنصر بارز فاعل في تشكيله، يأخذ القارئ باتجاه موت الجدّ وأسراره التي بدأت تنكشف بعد رحيله.

الفصل الرابع: زمن سارة: يتحدث هذا الفصل أيضا عن أسرار الجدّ ورسائله التي وجدوها بعد موته، ومنها تعرّفوا على قصة حبيبته سارة. 

الفصل الخامس: زمن البحر: يصف هذا الفصل رحلة راشد ونادرة وشيري إلى البحر، يكتشف راشد مشاعره الدّفينة تجاه نادرة وحبّه لها.

الفصل السّادس: زمن الحبّ: يتحدّث هذا الفصل عن بعض الطّقوس والأهازيج الشّعبية التّراثيّة القديمة لمدينة الخليل.

الفصل السّابع: زمن الثورة: في هذا الفصل يطلب راشد من أخته أمل زيارة خطيبته نادرة، وذلك لمحاولة الإصلاح بينهما بعد قرار الأخيرة بفسخ الخطبة.

نقرأ في هذا الفصل أيضا عن محتوى الرّسائل التي تركها الجدّ، تلك المتعلقة بالأحداث السّياسيّة والتّاريخيّة التي عاشتها مدينة الخليل، يكتشف البطل أيضا حقيقة صديقه عليّ وهوية شيري.

الفصل الثّامن: زمن الحنين: في هذا الفصل تنكشف الأسرار وتتّضح الحقائق، يسافر راشد في إجازة قصيرة مع شيري ويلتقي بجدّتها سارة.

الفصل التّاسع: زمن الاضطراب: نشهد فيه موت البطلِ راشد واغتمام نادرة.

أمّا الفصل العاشر: فقسّمه الكاتب إلى ثلاثة أجزاء بعد موت البطل، يتحدّث فيها عن حياته وذكرياته ويصف حزن حبيبته نادرة عليه بعد موته، وهذه الأجزاء الثّلاثة هي:

زمن البيادر: وفيه الذّكريات وما بعد موت راشد.

زمن الأحقاد الدّفينة: نتعرف فيه على حقيقة براءة والد راشد من دم والد نادرة وحقيقة قتلهما.

زمن العدالة: يتميز هذا الجزء بالخيال المطلق، إذ يعود راشد إلى الحياة من جديد، ويزّف إلى حبيبته نادرة يوم زفافها من ابن عمّها الذي يتنازل عنها بطيب خاطر، يقدّمها لراشد قائلا (ص260):

يا ابنة عمّي انظري من يدخل هناك، ذاك هو العريس، فنظرت من خلف دموعها، أجلسوه مكان ابن عمّها، وجلست نادرة غير مصدقة لبرهة، تأخر كتب الكتاب لحين استوعب الجميع الصّدمة، وسلّموا على العائد من الموت!

نوستالجيا المكان من داخل المكان:

تجاوز المكان وظيفته الأوليّة، فتحول إلى فضاء يتّسع لبنيّة الرّواية، أثّر في الشّخوص وظهر كما لو كان مستودعا لأفكارهم ومشاعرهم الدّفينة، كاشفا عن الصّلة والرّابط القوي الذي نشأ بينهم.

إذن.. فالرّواية باختصار هي "نوستالجيا المكان" من داخل المكان.

مشاهد كثيرة وأكفّ تحتضن الأمل، باقية هناك في أزقّة القلب، تتّكئ على سياج الحكايات الوفيرة، تصوّر المكان ليغدو كائنا حيّا شاهدا علينا، يشاطرنا الآمال والطّموحات، فبين جنباته تعيش مسرّاتنا وتختبئ أحزاننا، فهناك تعالت زغاريد الفرح ونشوة الحبّ، بهجة الصّبا وعنفوان الشّباب، وهناك تألّمنا حين فقدنا فجأة من يفترشون القلب.

كلُّها ذكريات حاضرة، تتوهّج في طغيانها، نستنشق عبيرها كلّما كبرنا وابتعدنا عنها، تشكّلنا وتتّكئ بنبضها على شرفات أيامنا، تضعنا على أول الخطى، وأمام وهجها، تغدو النّفس شفّافة، ويقطر الحبّ من حنايا القلب، فنجوب بين الذّكرى المشتعلة حتى الذُّروة، والخيال الذي يطفئ اشتعالها، فنستحضر الإنسان الغائب فينا ونرتعش انفعالا ونقاء.

الزّمن.. محور العمل:

الزمن هو محور هذا العمل وإيقاعه الضّابط، شهد على مصير الشّخوص وحرّك الصّراع الدّراميّ.

واختيار الزّمن كعناوين للفصول كشف عن تشكيل بنيّة النّصّ الذي جاء بلغة قريبة من القارىء، كما عبّر عن رؤية الكاتب تجاه الواقع والحياة بشكل عام.

تقدّم الزّمن الرّوائيّ بصورة منطقيّة من الماضي إلى الحاضرِ، وذلك بتسلسل زمنيّ تتابعيّ، وقد قام الخطاب على أساس التّناقض بين ماضي الوطن وحاضره المعيشيّ الرّاهن.

وعند الحديث عن الزّمن يتبادر إلى الذّهن سؤال عن ماهيّته، فما هو الزّمن؟

لقد أثار الزّمن اهتمام الفلاسفة منذ القدم فتناولوه في الدّراسة والتّحليل، منهم من رأى أن لا وجود له، فهو لحظة لا يمكن الإمساك بها، ومنهم من اعتبر وجوده موضوعيّا يمكن ضبطه وقياسه، ومنهم من رآه مجرّد وجود نفسيّ ذاتيّ لا يمكن قياسه بمعزل عن النّفس التي تستشعره، وذلك لتغيّر قيمته في ذهن الإنسان وفقا لإحاسيسه وتأمُّلاته في الماضي والمستقبل.

من هنا فاختلاف مفهوم الزّمن يرجع إلى اختلاف زوايا النّظر إليه، فهو عند بعض الفلاسفة وجود هلاميّ في نزوع مستمرّ نحو العدم، وعند البعض الآخر ظاهرة مجرّدة لابدّ من قياسها لضبط الحياة، وعند آخرين هو حقيقة نفسية يصعب فهمها.

وفي العالم الرّوائيّ يغوص الكتّاب في عمق الإنسان لوصف صدى الأشياء في نفسه، وتتبّع اللّحظات الباقية المستقرّة في شعوره؛ ليغدو الزّمن هو التّفاعل المستمرّ بين الماضي والحاضر والمستقبل.

في رواية زمن القناطر يعيد الزّمن استعادة الحياة الماضيّة من خلال نفض الغبار عن ذّاكرتنا الجمعيّة، وذلك باسترجاع تلك اللّحظات المضيئة التي غدت ماضوية، فيستحضرها الكاتب ويبثُّها في نفوس القرّاء من جديد.

الوصف والحكاية:

يعيد هذا العمل خلق الأجواء التي انقضت، ملخّصا بعض المشاهد التي تجذّرت عبر التّاريخ في الحكاية التي أراد لها الآخر النّسيان، فيستردّها المؤلف بوصفه لتفاصيل المكان بدقة عاليّة، أهل المدينة وأزقّتها، بيوتها معالمها وطرقاتها، هذا التّوسع في ذكر المعلومات بالإسهاب والبسط والشّرح قرّب المشهد للقارىء، ولحواسه البصريّة والذهنيّة، كما أبرز علاقة الفلسطينيّ بأرضه ومكانه، وقد برز الصراع واضحا حول المكان والانتماء إليه، ففي هذا العمل وصف لحقبة تاريخيّة كاملة.

يكاد هذا النّصّ ينطق ليقول: إنّ هذه الأرض تجمع بين جنباتها تنوّعا وثراء ثقافيّا، حيث تختلط الأجواء والمشاهد الموصوفة بما اتّسمت من بنيّة اجتماعيّة وأيديولوجيّة.

من ناحية أخرى فقد تفوّق الوصف على الأحداث، إذ وصفت الأمكنة والشّخوص والأزمنة باستفاضة واسترسال بالغ، ذلك الوصف لم يخل من الجمال، لكنّه شارك السّارد فكرته وبدا كعنصر أساسيّ فيها، فشقّ جوهر الفكرة، وطغى على الصّفحات وتألّق على حسابها.

أبطال الرّواية:

يرمز الإيقاع المتكرر لذكر القناطر إلى الماضي والحنين إلى الجذور والذّكريات الغائبة، والأحلام والطّرقات والمنحدرات والبيوت العتيقة، ومن زاوية أخرى تأخذ القناطر شكل القصص المحكيّة وتفاصيل الأسرار المخبّأة، وكلُّها إشارات قامت بدورها في التّأثير على أبطال هذا العمل.

أما الحالة النفسيّة لمعظم الشّخوص فكانت قلقة متوترة حزينة، بسبب الواقع السّياسيّ والأحداث المؤلمة، فقد ﺟﺳّد النّصّ ﻣﻌﺎﻧﺎة أبطاله ﻓﻲ اﻟﺣﻳﺎة، توقّف عند محطات هامّة في حياة الجدّ رباح، الذي عاصر الانتداب البريطانيّ، وكان كاتب استدعاءات وعرائض أمام المحكمة لعقود مضت، عاصر الانجليز والحكم الأردنيّ، وبقيت ذاكرته تلمع ببريقها حتى يوم وفاته، ثبت في وجه الأيام وكان من حجارة المكان وبنيانه العتيد، فكانت له الغلبة في حيّز النّصّ بأسراره ورسائله العديدة.

شخصيّة نادرة كانت بسيطة، تعاني الفقر والحرمان واليتم، تنقصها المعرفة والخبرة، كانت ترى الموت والعطب المزمن في الحياة، ويراها القارئ مستسلمة عاجزة عن إسعاف روحها.

بطل الرّواية راشد كان مسالما حالما لدرجة كبيرة، وافق شيري دون التّحقّق من نواياها الحقيقيّة، ودون معرفة مسبقة بها، مفترضا حسن نّواياها.

شّخصيّة "شيري" اليهوديّة الفرنسيّة، كان دورها بين السّطور إيجابيّا، وتلك إشارة واضحة على أنّ الصّراع القائم في المنطقة ليس دينيّا، وإنما هو صراع سياسيّ بامتياز، وأنّ الإنسان العربيّ يلتقي على المستوى الإنسانيّ مع كلّ الشّعوب. لاحظنا ذلك من خلال انفتاح النّصّ على مواضيع ومناطق شديدة الخصوصيّة.

أمّا بقية الشّخوص فتنوعت بأدوارها، وقد عبّرت عن أفعالها كما أراد لها الكاتب.

ثنائيّة التّاريخ والسّرد:

من الطّبيعيّ أن يتأثّر الأدباء بالأحداث السّياسيّة والقضايا الفكريّة والاجتماعيّة في المنطقة، خاصة وأنّ بلادنا تحفل بالصّراعات والنّزاعات.

تتلازم تلك الصّراعات عادة مع ثنائيّة التّاريخ والسّرد في أحداث ولّت وخلت، فتطرح قضية المكان والزّمان، ورؤية سياسيّة لواقع تكبّد المعاناة ولا يزال، وسعيا إلى تجذير الأصول وترسيخها وتوثيقها، تحاول الرّواية بعث التّاريخ والبحث في حلقاته المفقودة، لتظهر عمق ارتباط الحكاية الفلسطينيّة بواقعها.

كما استخدم الكاتب الأسلوب التّقريريّ في سرد الأحداث، نستشعر ذلك من حكاية الأبطال التي كانت مسيرتهم نحو التّوثيق هي ذاتها مسيرة الرّواية، مع مراعاة الشّروط في تسلسل الأحداث التي جمعت طبيعة الحياة الاجتماعيّة منذ عهد الاستعمار البريطانيّ إلى وقتنا الحاضر.

ثنائية الموت والحياة:

تواصل الصفحات اشتقاق مفرداتها من جوف المدينة، ومن ألم الفراق حين يُفجع الأبطال بالفقد؛ فيرتسم الحزن على وجوههم ويدمي قلوبهم بأحداث تروي حكاية وطن مفقود وألم مسرود، يرويها الكاتب بذات الأسلوب حتّى النّهاية، متطرقا لفكرة الموت التي تكرّرت بشكل لافت بين الصّفحات.

إن ثنائية الحياة والموت تحفّز القارئ على التفكّير، تدفع به إلى اليقين بفنائه، والتّأمّل بحقيقة كيانه ومآل تجربته، وتوقظ وعيه نحو أسئلة البقاء والفناء.

هكذا تستند البنيّة الرّوائيّة على الموت الذي نبّأ بتوجّهها، فظهرت الصّلة بين السّرد والموت وثيقة فيها، فلا تكاد تخلو صفحة من الصّفحات إلا وتذكر الموت بأيّ صورة وأيّ شكل.

لم يقتصر تناول الموت على الموت الماديّ فقط، بل تعدّى ذلكَ إلى ظهوره في وظيفته الرّمزيّة، فهناك إشارة إلى المستقبل البائس الذي يواجهنا، وإشارات إلى الموت المعنويّ والعاطفيّ والاجتماعيّ.

وحين تحدّق طويلا في هذا الموت تثيرك الرّوايّة بسيل من الأسئلة التي تتّصل بالوجود الفرديّ والمصير الجماعيّ، فهذا الموت المتكرّر شكّل فضاء نصيّا، اتّسم بسجال متوتر بين الواقعيّ والخياليّ والفجائعيّ، وذلك حين ظلّ الموت ماثلا بين السّطور حتى النّهاية وفي حكايات متعدّدة، كموت الجدّ رباح، موت والد راشد، موت والد نادرة، موت علي، موت الضابط إيتسك، موت نتاليا، والأهمّ هو موت بطل الرّواية راشد وخطف جثّته، وقد جاء هذا الموت الأخير صادما مفاجئا دون أيّ مقدّمات.

يتحدّث المؤلّف عن الموت من وجهة نظره قائلا (ص190):

لعلّ استحضار الأحداث دفعة واحدة في اللّحظات التي تسبق الموت، ما هي إلا لإدراك أنّ الموت انجلاء لكلّ خطب، فك لكلّ العقد وحل لكلّ التّشابكات، لحظة الموت هي الحدّ بين حياة عاشها الجسد، وأخرى تعيشها الرّوح، حياة من خيال وذكريات، فالجسد عند الموت يستسلم للسّكون ونوم الحواسّ، بينما تنشط الرّوح وتتسلّم دفّة إدارتِها.

بهذه الصور التي تقارب بين الموت وأبعاده الوجوديّة، وذلك الرّابط الذي يصوّر صراع الإنسان والفناء، تحضرني تلك الصّورة الماثلة في الملاحم البابليّة والسّومريّة كملحمة جلجامش، حيث الصّراع الظّاهر بين الحياة والموت المقدّريّن على البشر، وبين إرادة الإنسان المتشبّثة بالوجود سعيا إلى البقاء.

يحضرني أيضا الفيلسوف "سقراط" حين تحدّث شامخا أمام القضاة قبل الحكم عليه وموته، فظهر متساميا كفارس يتأهّب للارتقاء نحو السّماء، قائلا: لن أُعرض عن الموت طالما أنّه حضر، أفضّل الموت وقد أفضيت إليكم بما آمنت به، على أن أقبل العيش لأقول مضطرّا ما ترون أنتم أنَّه حقّ، وإنّ حسبتم أنّ الموت شرّ فما أنتم إلا في ضلالٍ مبين، لا أحد يعرف ماهيّة الموت ولا ما يخبئه للإنسان، بَيد أنّ النّاس يخافونه وكأنّه الشّر! أو ليس من الجهل أن يزعم الإنسان حقيقة الموت وهو ما لا يدركه؟

أمّا شاعرنا الكونيّ محمود درويش فيأخذنا بدهشة أشعاره الإنسانيّة دائما عند الحديث الموت، يقول:

كم من الوقتِ انقضى منذ اكتشفنا التّوأمين

الوقت، والموت الطبيعيّ المرادف للحياة

ولم نزل نحيا كأنّ الموت يخطئنا

فنحن القادرين على التّذكّر

قادرون على التّحرّرِ

سائرون على خطى جلجامش الخضراء

من زمن إلى زمن.

النّهاية:

وبعد.. يحاول الكاتب استرجاع الصّور الغائبة لمدينته، متأرجحا بين خيوط الماضي والحاضر، محاولا وصف معالم المدينة، معبّرا عن شعوره المستمرّ بالفقد للأشخاص والوطن.

وتسير الأحداث لنصل إلى النّهاية، تلك التي تأخذنا إلى تساؤل هام: ما الفكرة التي سعت إليها الرّواية في فصولها الثّلاثة الأخيرة؟ التي انتهت بطريقة خياليّة مغايرة عن المألوف للواقع المعاش في مدينة الخليل، فاختلفت بنبض وقائعها عمّا بدأته من الواقعيّة الحياتيّة والتّاريخيّة، فبعد أن انقضت الأحداث بغياب بطل الرّواية راشد وموتِه، لم تكن هناك حاجة للزّوائد والإطناب. كنت أتمنى أيضا لو تمّت مراجعة الرّواية قبل نشرها؛ لتجنّب الأخطاء المطبعيّة التي تكرّرت بين السّطور.

وفي الختام فهذه الرّواية تعرّي الواقع السّياسيّ، وتكشف القيود التي حرص الآخر على رسمها، لتعيش الضّحيّة تحت قوانين جلّادها بصرامة مجحفة لا تجيز لها الحياة، فلا استطاعت أن تتحرّر أو تفكّ قيودها.

أقدم تحيّاتي وتمنيّاتي للّكاتب بالتّوفيق والنّجاح.

***

صباح بشير

..........................

* ورقة مقدّمة إلى نادي حيفا الثقافي.

زهرة الحواشي اسم جديد في دنيا الأدب بتونس وأضحى حاضرا بما تواتر من إصداراتها المتنوعة فقد خاضت غمار الشعر والقصة والرواية والترجمة مراوحة بين اللغة العربية الفصحى والدارجة التونسية واللغة الفرنسية كما كتبت لليافعين الأمثولة أيضا ومن إصداراتها نذكر:

ـ رأسي في قفص الانسان

ـ حديث الروح

ـ حرف ودمعة

ـ دبشليميات

وهذه المجموعات الشعرية تتضمن كل منها نصوصا بالعربية الفصحى وبالدارجة التونسية وبالفرنسية أما في الترجمة فقد انبرت لترجمة قصائد - اللحمة الحية - للأديب صالح القرمادي من العربية إلى الفرنسية وقامت بتعريب قصائده التي كتبها بالفرنسية في نفس الديوان وبذلك أسدت عملا جليلا للمكتبة التونسية ناهيك أن هذا الديوان صار مفقودا وتناسته الأيام بالرغم أن صالح القرمادي يعتبره الكثيرون أحد أعمدة اللسانيات في العالم العربي وأحد أهم دعاة التجديد الأدبي في تونس .Exif_JPEG_420

- ابن العاقر - آخر ما صدر للأديبة التونسية زهرة الحواشي وهي رواية تتحدث عن امرأة من ربوع الشمال الغربي التونسي لم تنجب برغم تواصل سنين زواجها فكان مآلها الطلاق والعودة إلى أبويها ورفضها الزواج مرة أخرى خاصة وأنها تقدمت في السن غير أن أحد معارف أبيها في القرية ماتت زوجته وتركت مولودها فتقدم إلى أبيها يسعى للزواج منها بغاية أن تعتني بالرضيع  ولا تكلف نفسها الشؤون الأخرى فالرجل فلاح ميسور الحال وبعد تردد وإلحاح قبلت ربح بنت الضاوي الزواج من - علي بالخمري - فوجدت سعادتها في المولود كأنه ابنها الذي لم تنجبه.

في هذا المنعطف تبدأ طرافة هذه الرواية عندما تصور تطور الحالة النفسية لربح التي تحنو على الرضيع فتصف تفاصيل ذلك بأسلوب الأم التي لها خبرة في الإعتناء بالمولود وهذه ميزة لا تتوفر لكل كاتب حيث يكمن الفرق بين قلم الأديب والأديبة باعتباره إضافة نوعية لا غير .

وفي مسار هذه الوقائع يتحول نفور ربح من زوجها ومن مهمة رعاية ابنه إلى قبول ورضا بعدما وجدت منه الاهتمام والحظوة واللطف في معاملته لها وبدأت تشعر بميلها نحوه فانفجرت فيها جداول الأنوثة بعدما كاد يدركها اليأس منها وذلك عندما أحست مرة بقوة ذراع - علي بالخمري - فوق كتفيها وحرارة وجهه وشاربه يلامس جبينها وقد كان رأسها قريبا من صدره العريض فتمازجت فيه رائحة العطور بحرارة الشهوة الرجالية حينئذ استلذت - ربح - تلك اللحظة غير أنها لم تدم طويلا.

ومن هذه الواقعة التي شعرت فيها بهاجس الأنوثة تسري فيها عرفت العلاقة بين ربح وبين زوجها دفقا جديدا بعد أن ظلت مدة لا تتجاوز علاقتهما وظيفة المربية الساهرة على الرضيع بعناية فائقة لكنها منذ تلك الملامسة أصبحت علاقة زواج تامة فتغيرت ربح وعرفت السعادة المفقودة التي كانت تحلم بها وحرمت منها سنوات طويلة لكن أمر المستقبل وهلوساته بدأ أيضا يحط عليها بسحبه الداكنة فاحتارت في مصيرها بعدما يكبر الصبي ويطالبها أبناء زوجها الآخرون بنصيبهم من الميراث

لقد سبرت الرواية بعمق شجون ربح في مختلف أطوارها سواء في علاقاتها مع أمها وأبيها وأختها أو في معاناتها في عهد زواجها الأول وقرار طلاقها وكذلك عند ترددها وحيرتها في قبول الارتباط بالزوج الثاني وتحملها مسؤولية الاعتناء بمولوده والسهر على تربيته فجالت بنا أطوار الرواية بين حالات نفسية مختلفة الأطوار تشتد حينا وتلين أحيانا بين انقباض وتأزم مرة وبين انسياب وانفراج مرة أخرى.

هذا السبر في أغوار نفس الزوجة ربح جعل من الرواية سردية مهمة بما تخللها من تشويق واندياح وارف في ظلال الحياة اليومية لريف الشمال الغربي لتونس فقد سجلت الرواية العادات والتقاليد في أدق التفاصيل اليومية من الولادة وما يسبقها من عوالم عجائبية إلى الختان وما يحيط به تحضيرات وإلى الزواج وما يتطلبه من إعداد وإلى عادات التزاور والتجاور والتعاون في شتى الأعمال والمناسبات وسجلت الرواية في كثير من سياقاتها الأغاني التي كانت منتشرة في تلك الربوع والتي أضحت اليوم من التراث الذي تعبق به الذاكرة .

ولكن أين ابن الزوجة العاقرة من تطورات الرواية؟

نعم ستنجب - ربح - وهذه هي الغرابة في بقية الوقائع التي لا مناص من الاطلاع عليها عند قراءة بقية الرواية.

***

سُوف عبيد - تونس 

تابعتُ حلقات العراقي محمد السيد محسن والتي تحدث فيها عن سنوات أسره في إيران فترة الحرب العراقية الإيرانية، ثم الافراج عنه وبقائه في طهران، وعمله صحفيًا بالقسم العربي بالإذاعة الإيرانية، وقد دوّنها لاحقًا في كتاب بعنوان "أسير عراقي في إيران"، بعد أن راجت تلك الحلقات وحققت مُتابعات ومشاهدات عالية.

ما لفت نظري واستوقفني كثيرًا في حديث الأسير محمد السيد هو حديثه عن فترة عمله في إذاعة طهران؛ حيث قال: "كُلفنا ذات يوم بإعداد برنامج محلي بعنوان "حدث في مثل هذا اليوم"، فعكفنا على مراجعة أرشيف الإذاعة للبحث عن مواد تناسب البرنامج، فاستشكل علينا أثناء بحثنا الجواب على سؤال: هل يمكن أن يشتمل البرنامج على تواريخ من أيام الشاه أم من زمن الثورة فقط؟! حيث رفعنا الأمر إلى مدير الإذاعة حينها وهو محمد هاشمي رفسنجاني شقيق الرئيس علي هاشمي رفسنجاني، والذي كان جوابه صاعقًا لنا كعرب وعراقيين، حين قال تاريخ الشاه من تاريخ إيران ويجب عدم تجاوزه أو إلغائه". يقول محمد السيد عرضنا مقاطع لشاه إيران وهو يُعاتب مسؤولين ويحثهم على الإصلاح وتقديم خدمات تليق بالشعب ومطامحه، ولم يعترض عليها أحد وأذيعت كما هي، والأكثر من ذلك أن قصر الشاه والذي أصبح مزارًا لاحقًا تُركت فيه كل آثار الشاه ولحظاته الأخيرة دون مساس كشواهد تاريخية، من أدوات شخصية ومقتنيات وأوان استخدمها الشاه وأفراد أسرته للمرة الأخيرة، وقبل مغادرتهم طهران بصورة نهائية بعد انتصار الثورة.

كلام محمد السيد محسن أعادني بمرارة إلى وضعنا العربي واستعدتُ ما تمكنت من سياسات حرق المراحل التي وظفها النظام الرسمي العربي لتصبح من السمات اللازمة له؛ حيث يأتي النظام الجديد وكل همه كيفية طمس منجزات من سبقه وكأنها مكاسب شخصية أو ثارات، وبالتالي حُرمت أوطاننا من نعيم التجارب التراكمية والتداول السلمي للتاريخ السياسي لهذا البلد أو ذاك. لهذا نجد التراجع الكبير للتنمية في الأقطار العربية والترحم السريع على كل نظام سابق حين نفتقد سكينة أو استقرارا أو نمطا معيشيا ما.

كما سادت ثقافة التشفي وترحيل الثارات والأحقاد من عهد إلى عهد، واتسعت الفجوة والقطيعة بين الحكام والشعوب أكثر فأكثر وأندس من خلالها جميع خصوم الدولة من الداخل والخارج فأشاعوا ثقافة العداء والثأر من الحكام، وقد تجلى ذلك بوضوح تام في شعارات وتفاصيل "الربيع العبري"، وامتهن المحسوبون على النُخب الترويج لثقافة البؤس والفجيعة وتكريس الهزيمة النفسية بزعم الغيرة على حال الأمة واستنهاض شعوبها!!

لم يسلم قُطر عربي للأسف الشديد- إلا ما رحم ربي- من ثقافة حرق المراحل والاجتثاث حتى في أبسط الأشياء، فلم تسلم مناهج تعليمية ولا خطابًا إعلاميًا ولا تعريفات للهوية والثوابت من التغيير؛ بل وحتى بعض الغيورين من رجال الدولة أو ممن حملوا المسؤوليات في هذا القُطر العربي أو ذاك، والذين دونوا مذكراتهم أو ذكرياتهم لتصحيح المسار في لحظة صفاء وعي ويقظة ضمير، لم تسلم رؤاهم تلك من الانتقائية أو الثأر والإدانة بلا وعي لهذا الطرف أو ذاك تلميحًا أو تصريحًا، فحملت الأجيال تلك الشهادات كما هي وتداولتها جيلا بعد جيل، وكأنها حقائق ومسلمات لا تعرف النقاش أو النقد، وهذا ما يُهدد الذاكرة الجمعية للمجتمع ويُفرغها، وينال من مناعة الدولة وحيويتها نتيجة التغييب القسري للحقائق.

قبل اللقاء.. الغريب أن معمر القذافي شذَّ عن القاعدة العربية وكأنه يقرأ المُستقبل؛ حيث منع إطلاق اسمه على أي مرفق أو منشأة أو وحدة عسكرية أو مشروع في ليبيا، وحملت جميعها أسماء رموز تاريخية وجهادية ودينية ليبية، لهذا لم يجد جرذان الناتو شيئًا يُغيرونه ويتشفون به سوى العبث بالدولة الليبية ومكتسباتها.

وبالشكر تدوم النعم.

***

علي بن مسعود المعشني - كاتب عماني

كان Bakkehuset في "فريديركسبيرغ" Frederiksberg في أوائل القرن التاسع عشر مكانًا للقاء الأوساط الأدبية والعلمية في أوائل القرن التاسع عشر. حيث اجتمع العديد من الأدباء والفنانين والعلماء حول صالون الزوجين "كما رابيك" Kamma Rahbek الفنانة الدنمركية وسيدة الصالون، وزوجها المؤرخ الأدبي والناقد "كنود لين رابيك" Knud Lyne Rahbek، حيث كان المنزل مسكناً لهما. في عام 1925 تم تحويل المنزل إلى متحف للعموم.

حوالي عام 1750 بدأ التنوير كموجة واسعة في الأدب الدنماركي، حملها وعي ذاتي برجوازي جديد قائم على أسس اقتصادية، وعلى تقدم العلوم التجريبية الجديدة. وضعت مؤسستان إطار العمل للشعر الجديد "المسرح الملكي" Det Kongelige Teater الذي تأسس عام 1748 وأصبح المؤسسة التعليمية والثقافية المركزية في الدنمارك حتى النصف الأخير من القرن التاسع عشر. وجمعية النهوض بالعلوم الجميلة والمفيدة  بالنرويج تأسست عام 1759 Selskabet til de skiønne og nyttige Videnskabers Forfremmelse.

ضمن هذا الإطار تم تطوير الأفكار الجديدة بشكل أساسي حول العالم المنظم، ومفاهيمه الأخلاقية والمسيحية اللطيفة والإنسانية، وليس أقلها مُثُل التعليم اللغوي التي تطورت في "أكاديمية سورو" Sorø Akademi التي أعيد بناؤها من قبل وريث "هولبرج" Holberg الكاتب الدنمركي وأستاذ العلوم السياسية "ينس شيلديروب سنيدورف" Jens Schielderup Sneedorff الأديب التنويري مؤيد أسلوب النثر الجديد المستوحى من الفرنسية.

ظهر الشاعر ورجل الأعمال النرويجي "كريستيان براونمان تولين" Christian Braunmann Tullin باعتباره الشاعر الشهير للمملكة التوأم في ستينيات القرن التاسع عشر. وقد ظهر في ذاك العصر أيضًا شاعر الترنيمة "بيرجيت بوي" Birgitte Boye والكاتبة المسرحية والمترجمة الدنمركية "شارلوت دوروثيا بيل" Charlotte Dorothea Biehl مؤلفة المسرحيات وسلسلة من الحكايات الأخلاقية، وكذلك الفكاهي "يوهان هيرمان ويسل" Johan Herman Wessel.

أصبح منزلBakkehuset  مكانًا للقاء للناس من مختلف التيارات، على الحدود بين التنوير والرومانسية وبداية "العصر الذهبي".

وحوالي عام 1800 أدت أفكار التنوير والحماس للثورة الفرنسية إلى نفي الكاتبين "مالثي كونراد برون" Malthe Conrad Bruun، و "بيتر أندرياس هيبرغ" Peter Andreas Heiberg.

ما قبل الرومانسية

التقت العديد من التيارات في كتابات "يوهانس إيوالد" Johannes Ewald ولكن قبل كل شيء قام بتشكيل وعي ذاتي شعري جديد، حيث أصبح الفن مصدرًا للهوية، بينما تحترق الذات الخاصة للشاعر كوقود يُستخدم لخلق الفن، كما حدث بالفعل لإيوالد نفسه، يصور هذا الأمرفي مذكراته بكتابيْ "الحياة" Levnet و"الآراء" Meeninger عام 1774م وما تلاهما.

بصفته شاعرًا غنائيًا قام إيوالد بضبط اللغة لجعلها سامية، وبصفته كاتبًا مسرحيًا تطرق إلى الصراعات الذاتية بين الشعور الذاتي والنظام في "آدم وإيوا" Adam og Ewa عام 1769م. وفي "موت بالدر" Balders Død عام 1773/75 وحصل على أكبر تقدير في ذلك الوقت من خلال مسرحية "المهرجان الوطني للصيادين" nationale festspil Fiskerne والتي تمجد القوة الأخلاقية للشعب.

أعطى الشاعر الدنمركي "جينس باجيسين" Jens Baggesen مرحلة ما قبل الرومانسية لمسة عالمية. كتب كتاب السفر الرائع واعترافات الشاعر "المتاهة" Labyrinten عام 1972م، يتحدث عن الحالة المزاجية لثورة قلب الشاعر والثورة السياسية. كان ثلث كتاباته باللغة الألمانية، بما في ذلك كتاب "بارثينا أو رحلة عبر جبال الألب" Parthenaïs oder die Alpenreise عام1802م الذي لاقى نجاحاً أوروبياً واسعاً. وهو عبارة عن مقياس سداسي الشكل امتد بين الشاعر الألماني الشيق "يوهان هاينريش فوس" Johann Heinrich Voss والحماس الشعري المحموم لما قبل الرومانسية.

الرومانسية والعصر الذهبي

تأسس الأدب الرومانسي في الدنمارك بعد عام 1800 مباشرة، وحصل على صدى خاص خلال الحروب النابليونية. سرعان ما التقط الأدب الدنماركي أفكار وموضوعات الرومانسية الألمانية. استوحى الشاعر "شاك فون ستافيلت" Schack von Staffeldt الإلهام الرومانسي من إقامته لعدة سنوات في ألمانيا في تسعينيات القرن الثامن عشر جزئياً، حيث أتى عالم الطبيعة والفيلسوف "هنريك ستيفنز" Henrik Steffens إلى كوبنهاغن عام 1802 ونشر الأفكار في محاضرات في السكن الجامعي Elers Kollegium.

أيقظ الشاعر "آدم أولينشلاغر" Adam Oehlenschläger الشاعرية الرومانسية وأصبح الشخصية الرئيسية الفاعلة للرومانسية الدنماركية المبكرة.

تلاه القس والشاعر والفيلسوف الدنمركي "نيكولاي فريدريك سيفيرين غروندفيج" Nikolaj Frederik Severin Grundtvig. والأديب الطبيب الدنمركي "كارستن هوش" Carsten Hauch.  في حين أن الروائي والشاعر الدنمركي "برنارد سيفيرين إنجمان" Bernhard Severin Ingemann اتبع مساراته الخاصة، التي هي أقرب إلى "ستافيلت" Staffeldt والرومانسية الألمانية الأكثر راديكالية.

تطوروا جميعًا في أوقات مختلفة بعيدًا عن الرومانسية الأصلية ونحو النقد الوطني والشعبي والتاريخي والمعاصر في التراتيل، والقصص القصيرة، واليوميات، والروايات.

كان للرومانسية بطريقتها الخاصة تأثير طويل الأمد في الدنمارك، حيث اختلطت عبادة الشعر كقوة حياة مع المعتقد الديني المسيحي في الأبدية وقدمت المادة الخام لاعترافات لاهوتية للشعراء في النصف الأول من القرن التاسع عشر.

ثم أسست الرومانسية لغة شعرية متأثرةً بلغة الأغنية الشعبية، والتي أصبحت تميز أجزاء كبيرة من الشعر الدنماركي حتى حوالي عام 1900. ولكن في شكلها الحقيقي أصبحت الرومانسية في حد ذاتها فترة فاصلة قصيرة العمر. فالثقافة البرجوازية من نهاية القرن الثامن عشر شكلت النظرة الأساسية للحياة، التي يغديها بشدة التأثير الواسع للأديب الألماني "يوهان فولفغانغ فون غوته" Johann Wolfgang von Goethe.

تشكل النزعة الإنسانية والمسيحية، والأخلاق، والرومانسية المخففة لغوته، العناصر الرئيسية لما يسمى "العصر الذهبي" نظرًا للثراء الاستثنائي لجميع الفنون في ذلك الوقت.

بينما كان الشاعر الدنمركي "آدم جوتلوب أولينشلاغر" Adam Gottlob Oehlenschläger الشخصية الرائدة في الرومانسية الفعلية، كان الكاتب المسرحي والناقد "يوهان لودفيج هيبرغ" Johan Ludvig Heiberg الشخصية الرائدة في تحول الرومانسية نحو الحياة اليومية ونحو الموضوعات الأكثر توجهاً في علم النفس المثير للاهتمام حينذاك.

أصبحت الدائرة حول الزوجين المتزوجين "يوهان لودفيج" و"يوهان لويز هايبرغ" عاملاً ثقافيًا مهيمنًا في عشرينيات وثلاثينيات وأربعينيات القرن التاسع عشر. ضمت الدائرة والدة يوهان لودفيج هيبرغ "توماسين جيلمبورغ"  Thomasine Gyllembourg التي اكتسبت من خلال قصصها اليومية ذات الشعر الأدبي والديني المعتدل والأخلاقي، شعبية كبيرة في ذلك الوقت وأصبحت مثالًا لروح العصر التي كان يُطلق عليه "بيدرمير" biedermeier، وهي حقبة في أوروبا الوسطى بين عامي 1815 و1848 نمت خلالها الطبقة الوسطى من حيث العدد وتشاركت الفنون المشاعر المشتركة. بدأت مرحلة بيدرمير مع مؤتمر فيينا في نهاية الحروب النابليونية عام 1815 وانتهى ببداية ثورات عام 1848.

تأسيس واقع جديد

شهدت فترة عشرينيات والثلاثينيات القرن التاسع عشر اضطراباً في الأدب، تحت تأثير التيارات الأوروبية وبدعم من الميول الليبرالية في الاقتصاد والفكر السياسي التي فشل الاستبداد الراحل في قمعها. تم ترديد الحداثة في الكلمات المركزية للشعراء الإيروتيكيين مثل "كريستيان وينتر"  Christian Winther و"إميل أريستراب" Emil Aarestrup الذي أدخل الحداثة أيضًا في قصائده السياسية.

كان ذاك الوقت عبارة عن فترة انتقالية  "الفترة السياسية"، شهدها عالم اللاهوت والفيلسوف والشاعر الدنمركي "سورين كيركيغارد"  Søren Kierkegaard وكان من بين الشخصيات الرئيسية في ذلك الوقت الشاعر الدنمركي "ستين ستينسن بليشر"  Steen Steensen والشاعر والفيلسوف الدنمركي "نيكولاي فريدريك سيفيرين غروندفيج" Nikolaj Frederik Severin Grundtvig، والأديب الدنمركي الشهير "هانز كريستيان اندرسن" Hans Christian Andersen.

تمكن هؤلاء الأدباء سوياً من تجاوز حدود المجتمع الشمولي البائد، وتم تناول طرق الكتابة والقضايا وتصورات الجمهور التي بشرت بأنماط أدبية جديدة. أصبحت قصص بليشر القصيرة الواقعية أساساً للواقعية في حقبة لاحقة.

قام  غروندفيج بمزيج من الحماس للتنوير والمسيحية البدائية والإيمان الرومانسي بالروح والكلمة الحية (الله) بإصلاح الكنيسة والجماعة من خلال حركة النهضة التي بدأها. لقد ترك بصمة أساسية في فهم الذات الدنماركية، وتصور المدارس والثقافة العامة من خلال الحركة الجامعية التي انبثقت عنه.

شكلت الفترة المتبقية من القرن الأساس لتشكيل هوية الفلاحين حتى استيلائهم السياسي على السلطة في عام 1901، وظهر ذلك بشكل أكبر في الثقافة الديمقراطية الاجتماعية في القرن العشرين.

اخترق أندرسن في مسار حياته حواجز الحكم الأوتوقراطي الجامد البرجوازي المتأخر في الحكاية الخيالية، وهو نوع شائع في الأصل من الأدب الذي حوله أندرسن إلى نوع واقعي وغريب الأطوار ومعاصر من نوعه. عبّر أندرسن عن التجارب المتنوعة والمعقدة التي جعلته عالمًا نفسيًا حادًا وخبيراً في التفاعل مع الناس، ولكنه أيضًا صاحب روح دينية غير أرثوذكسية.

وقف أندرسن على حافة عصره من جوانب عديدة، متحمسًا للتقنية الجديدة، مؤمنًا بالتقدم والظروف الأكثر إنسانية.

لم يرد كيركيغارد أن يعرف عن "مشهد الظواهر الخارجية" لكنه وقف أيضًا على حدود الفترة، حيث شدد موقفه القائم على اعتبار أن سلوك الفرد مزيج من المثالية المسيحية والواقعية النفسية، وأشار إلى الواقع باعتباره المكان الذي يجب قياس حياة الفرد فيه.

في السنوات التي تلت إلغاء الحكم المطلق في عام 1849، بدأ تأسيس مجتمع جديد ترك آثاره الواضحة. تمت الدعوة إلى مناقشة أفكار جديدة، وفي مقدمتها النقاش حول تحرير المرأة. فظهرت الأديبة والحقوقية الدنمركية "ماتيلد فيبيجر" Mathilde Fibiger التي دافعت عن حقوق المرأة من خلال روايتها الأولى "كلارا رافائيل، اثنا عشر حرفًا" Tolv Breve التي نشرت عام 1851. القصة عبارة عن سيرتها الذاتية جزئيًا. ظهر حينذاك أيضاً العديد من الكتّاب والأدباء ساهموا في تشكيل ملامح الهوية الروحية لتلك الفترة، مثل الروائية الدنمركية "مير آرون جولدشميت" Meïr Aron Goldschmidt. والكاتب والسياسي الدنمركي "هانز إيجيد شاك" Hans Egede Schack.

الاختراق الحديث

اندلع أدب جديد وتشكلت جبهة ثقافية وأيديولوجية راديكالية جديدة خلال سبعينيات القرن التاسع عشر لتظهر أخيرًا متطورة تمامًا نحو عام 1880. لقد كانت حركة شمالية مشتركة كان روّادها الأساسيون هم  "جورج وإدوارد براندس" Georg Brandes، Edvard Brandes. كان الاختراق الحديث كما أطلق عليه الناقد والباحث الدنمركي جورج براندس الذي حصل عام 1883، وثيق الصلة بالتصنيع والعلوم الطبيعية الجديدة والاضطرابات السياسية التي أحاطت بتفكيك بقايا المجتمع الاستبدادي.

بلغت العملية ذروتها في ديكتاتورية الحُكم حتى عام 1901، وهي الفترة المؤقتة التي أصبحت نقطة البداية لكتابات "هنريك بونتوبيدان" المبكرة، وهو الأديب الدنمركي الذي حصل على جائزة نوبل للآداب عام 1917 مع الشاعر والروائي الدنمركي " كارل جيليروب" Karl Gjellerup.

نظرًا لأن العقود التي سبقت بداية القرن العشرين كانت فترة من الاستيطان وإعادة التنظيم، كان لا بد من أن يتميز الاختراق الحديث في الدنمارك بشكل خاص بمواجهة ثقافية مع الماضي. احتل هذا الأمر مكانة في الأدب الدنمركي أكبر من التطورات الجديدة في المجتمع والصناعة والتكنولوجيا، والتي كان الشعراء غالباً ما يغلقون أعينهم عنها.

ظهرت في تلك المرحلة رواية "نيلز لين" Niels Lyhneللروائي الدنمركي  "جينس بيتر جاكوبسن" Jens Peter Jacobsen. وأصدر الأديب الدنمركي "هيرمان يواكيم بانغ" Herman Joachim Bang أولى رواياته باسم "أقارب بلا أمل" Haabløse Slægter عام 1880.

تعرضت الكنيسة المسيحية التقليدية والأخلاق المدنية، وخاصة الأخلاق الجنسية للهجوم، بينما دُفعت المفاهيم الداروينية إلى الأمام باعتبارها وجهة نظر نموذجية في ذلك الوقت.

حدث الاختراق الحديث في المذهب الواقعي، نحو الانغماس الجديد في الحياة الفردية المستوحى جزئيًا من الراديكالي الوجودي "فريدريك نيتشه" Friedrich Nietzscheالذي قدمه "جورج براندس" Georg Brandes في عام 1888.

براندس الذي اشتهر بنقده المسرح الأوروبي وليس فقط المسرح الدنماركي أو الاسكندنافي، مع ترجمته لكتاب "ستيوارت ميل" Stuart Mill حول إخضاع المرأة أعطى دفعة للنقاش حول تحرير المرأة، ولكن الكاتبات من النساء في ذلك الوقت "أمالي سكرام" Amalie Skram، و "إرنا جويل هانسن" Erna Juel-Hansen وآخرين، أسسوا بأنفسهم اختراقًا حديثًا بواسطة كتباباتهم.

تم توفر الظروف المناسبة في جميع أنحاء الدنمرك من أجل استيلاء الفلاحين على السلطة في عام 1901 من خلال رسائل ما بعد الرومانسية لهذه الطبقة الاجتماعية، والتي كانت تؤسس وعيها الذاتي الثقافي. حيث تم وضع الأساس للأدب الفلاحي المميز والشامل للغاية في الدنمارك من عام 1900 حتى عام 1950.

منذ الاختراق الحديث، أصبحت الراديكالية سمة مميزة للحياة الثقافية والسياسية الدنماركية حتى يومنا هذا. وفي الوقت نفسه، كان الاستقطاب الأيديولوجي يعني أنه منذ تفكك الثقافة الوحدوية السلطوية المتأخرة، ظهرت صورة للعديد من الثقافات والآداب جنبًا إلى جنب. إنها سمة ظلت حتى يومنا هذا أيضاً.

رمزية أدب نهاية القرن

في مطلع القرن العشرين تطور الارتباط بالواقعية إلى جبهة عريضة لشعر الطبيعة، وهو أكبر اختراق شامل لشعر الطبيعة في الدنمارك. تحقق عن طريق الشعراء "جوهان يورجنسن"  Johannes Jørgensen، و"فيجو ستوكينبيرج" Viggo Stuckenberg، و"سوفوس كلاوسن"  Sophus Claussen، و"لودفيج هولشتاين" Ludvig Holstein، و"ثوجر لارسن" Thøger Larsen.

كانت أيضًا فترة تم فيها تعميق التركيز على الفرد، الذي ميز أدب المذهب الطبيعي/ الواقعي، عبر النظرة ذاتية مرتبطة بالمزاج (غالبًا ما تكون متشائمة) للعالم الخارجي، مرتبطة بإعادة التوجيه الديني، مثل كتابات "ينس يوهانس يورجنسن" Jens Johannes Jørgensen الذي اشتهر بكتابة السير الذاتية للقديسين الكاثوليك. وكتابات الناقد "هيلج رود" Helge Rode.

في مطلع القرن العشرين ظهرت رواية "سقوط الملك"  Kongens Fal للروائي الدنماركي "يوهانس جنسن" Johannes Jensen. التي نُشرت في ثلاثة أجزاء من عام 1900 إلى عام 1901. وتروي قصة ميكيل ثورجرسن والتشابك الاجتماعي الذي جعله في خدمة الملك "كريستيان الثاني" ملك الدنمرك Christian II of Denmark.

كما ظهرت كتابات الأديب الدنمركي اليساري "مارتن أندرسن نيكسو" Martin Andersen Nexø مثل مجموعته القصصية "الظلال"  Skygger التي صدرت عام 1898م. وروايات مثل "بيل الفاتح" Pelle Erobreren، ورواية "طفلك الإنساني" Ditte Menneskebarn، ورواية "رش" Dryss. ورواية "طريق المعاناة" Lidelsens vej للروائي والفيلسوف الدنمركي "إرنستو دالغاس" Ernesto Dalgas، وهي رواية تربوية فلسفية تحاول شخصيتها الرئيسية أن يجد السلام الداخلي مع نفسه، من خلال السلطات وأنظمة الفكر القائمة.

***

د. حسن العاصي

باحث وكاتب فلسطيني مقيم في الدنمرك

للزجال المبدع عبدالحكيم خيي

- تمهيد: في سيمياء الوخز الاجتماعي يوظف الشاعر الزجال عبدالحكيم خيي إبداعه اللهجي لممارسة حقه في فضح حالات النشاز الاجتماعي من أجل التعبير عن حقه في العيش الكريم له ولأمثاله ممن انكوتْ قلوبهم وجيوبهم بصهد فعل فاعل مفسدٍ مجهول ومعلوم في نفس الآن.

و قد جنّد في تثبيت رؤيته الفنية الرافضة مجموعة من الزجليات البعيدة في عمقها الدلالي. وقد ضمّها في ديوان بخمسين صرخة بدأتْ بصرخة (اعْلاشْ) لتنتهي بنجوى (نتْرجّاكْ). أي أنها بدأتْ بالسؤال المفتوح على الحيرة، وانتهت بالتسليم إلى الخالق والقادر والرحيم.

من السؤال إلى التسليم. هو ذا مسار هذا الديوان الموسوم بعنوان مفعم بالإثارة والانزياح (اخْيُوطْ الْڭَمْرَة). رحلةٌ فنية تمسك بقرار الفن من أجل حياة كريمة في إيمان كبير بدور الكلمة في التغيير الاجتماعي. وفي أضعف الإيمان، هي رحلة تستفز دينامية التغيير في الروح البشرية الغارقة في الصمت المبيّت.

- في ثنايا العنوان:

اختار الشاعر عبدالحكيم لديوانه عتبة فاتحة لعالمه الزجلي الخاص، صاغها في إطار عبارة دالة (اخْيُوطْ الْڭَمْرَة). وهي عبارة نحولها إلى النحو العربي العالِم فنجدها مبتدأً لخبر محذوف تقديره (هذه خيوط القمر). ولكن التعبير اللهجي أمدّ الدلالة بكثير من الظلال المعنوية والدلالية الباعثة على السؤال المفتوح جدا. والعنوان المتوّج للديوان هو نفسه عنوان القصيدة رقم 23، وفيهما، أي في الديوان وفي القصيدة، تمارس (الْڭَمْرَة) وظيفتها الإشعاعية داخل سياق معتم ومغلّف بطبقات من قشور الفساد، وداخل سياق فارغ من الصوت والهمس والصراخ والشجب والتنديد... قال الزجال عبدالحكيم:

ڭَمْرَة دلات خيوطها

اخيوط مفتولة بالجوهر

منقوشة بحرف غالي

محفوظ بالجاه العالي

ونحن ندرك باعتبارنا قراء نمتلك مع الشاعر المشترك الثقافي:

* أن القمر مذكر لا مؤنث

* أن القمر ليس له خيوط

* أن القمر يمتلك حضوره القوي ليلا

* أن القمر ظاهرة نورانية في مخيالنا

* أن القمر ارتبط في أنساقنا الذهنية بالمرأة

* أنه ارتبط أيضا بالغزل

*...

وهذه التداعيات كلها حاضرة في نسق الشاعر الذهني إلا أن بعضها يلغي البعض الآخر، لأن سياق المقال يؤكد على الدور الإيحائي بالدرجة الأولى. ولم يتحدث الشاعر عن ضوء القمر أو إشعاعه وإنما تحدث عن خيوط القمر وبالتأنيث (الْڭَمْرَة) بدلالة أقوى من التذكير. فالأنوثة هنا مصدر حياة: قال الزجال (ڭَمْرَة ادّلاتْ خيوطها – تلحف الكون بنورها – تبسم فم الزمان ببهاها).

وحيث إن الماحول معتم أعلنت عن إعتامه أغلب قصائد الديوان، فإن الأمل باقٍ وقائمٌ لتبديد بعض هذا الإعتام، ما دامت في الذات حشاشة روح، عبّر عنها الزجال الشاعر بالمعادل النفسي وهو مفردة (الْڭَمْرَة)، ومن ثمة فالقمر ينزاح عن وجوده الفلكي إلى وجود وظيفي رمزي يدل في عليائه على انتصار النور. قال الزجال عبدالحكيم:

من ڭَدام خيوط الْڭَمْرَة

ضباب لغدر غبر

وبانت النجوم تلالي

- تجاوز المرآتية:

في تصوير الفساد لا يذهب الزجال عبدالحكيم مذهب المرآتية التسجيلية الواقفة عند حدود النسخ لمشاهد الواقع وتكرارها في بلادة مقيتة لا تقدم ولا تؤخر في مشروع الفن الشخصي لهذا الزجال شيئا. فهذه المرآتية إمكانٌ متوفر لكل ناظر للواقع ولكل ناقد له. إن الزجال عبدالحكيم يذهب في ذلك مذهب التصوير الفني الممتطي صهوات الانزياح اللهجي في رؤية فنية تحاول الاجتهاد في الصوغِ الزجلي حتى يأتي ديوانه قيمة مضافة في مجال الزجل وفي ساحاته، لا تكراراً أو تركيماً لبضاعة محسوبة على الفن وما هي بالفن.

وهذا التصوير الفني اللهجي ليس كلاما جزافيا يقول ليسجل ثقافة القول البرناسية، وإنما يقول ليستفز المتلقي في دعته واسترخائه، ومن ثمة يحوّله من سلبيته التاريخية ويدفعه دفعاً إلى معانقة روح السؤال والمساءلة باعتبارهما أول خطوة لبدء مشروع التغيير.

- انزياح المساءلة:

من أمثلة التصوير الفني الراكب صهوة المساءلة نذكر على سبيل التقريب:

القصيدة 1 – اعْلاشْ

اعْلاش بالهم والغم

فاضت كيسان لعمر

و بلسان الحية

الفم يسوك ويعكر

و بمرود الغدر

العين تكحل الشفر

ص 6 من الديوان

نسجل أولا أن أداة الاستفهام اللهجية (اعْلاشْ) تتكرر سبع مرات في القصيدة التي تتألف من أربعة وأربعين سطرا هي في ظل الوزن الزجلي (لمْبيّتْ) اثنان وعشرون بيتا. بمعنى أن معدل التوارد لمقولة (اعْلاشْ) معدل مرتفع بارتفاع منسوب الغضب، وبالتالي ارتفاع منسوب السؤال. لأن منسوب الفساد و(الحڭرة) زاد عن حدّه.

وأرى بأن أجلّ وصف لهذا التجاوز المقيت هو قول الزجال عبدالحكيم (فاضت كيسان لعمر). ففي العبارة ما يدل على بلوغ السيل زباه، في تصوير شعبي يمتح مادته من مقولة الكأس التي اجتهد فيها الوجدان المغربي وفي تصوير حالات الفيضان بتحويل الوصف من مقولة الماء إلى مقولة العمر، بمشترك بلاغي ودلالي هو انسياب كل من الماء والعمر في اتجاه النهايات وقابليتهما معاً للوعاء. والكأس هنا تخرج من وجودها المتشيء إلى وجود زئبقي يشي بالاحتواء كما يشي بالفيضان أي الخروج عن الحد الممكن.

من هنا بلاغة الانزياح في قدرة الزجال الفنية على تطويع مفردة العمر وتحويلها إلى مادة سائلة متدفقة خارج الممكن لتعبر عن دلالات أعمق لا ترتبط بالمحتوِي والمحتوَى بقدر ما تعبّر عن حالة نفسية تكاد تتاخم مفردات اليأس والقنوط والتدمر.

وهنا بالذات ندرك قوة التعبير اللهجي في سيمياء التركيب في غير قصد، فالشاعر لا يبني زجلياته داخل هذا الوعي السيميائي، فهو، أي الشاعر، في حالة انبثاق. وما يترتب عن هذا الانبثاق من تخريجات هي من صميم النقد والقراءة والتأويل.

نجد الخطاطة التالية فارضة نفسها كتأويل يمارس حضوره الفني عبر ما يلي:

- الكأس: مقولة مادية من زجاج وأسطوانية الشكل وهي أداة من أدوات المطبخ توظف لأغراض الشرب والزينة...

- العمر: مقولة زئبقية لا تقاس بالحيز المادي وتقاس بالحيز الزمني وترتبط بصيروة وسيرورة الإنسان من المهد إلى اللحد بحساب السنوات...

- التركيب الدلالي: لا يلتقي هذان المؤشران السيميائيان إلا خارج مجال الحقيقة، وأي تضام بينهما سيثير السؤال حول المعنى وفائض المعنى. من هنا التقاء العنصرين داخل المجاز، أي داخل البلاغة وبتعبير آخر، داخل المخيال الذي يبنيه ويثريه الانزياح.

استطاع الزجال عبدالحكيم أن يحول التوتر الدلالي بين الكأس \ المادة، والعمر \ الزمن إلى انسجام لا يجد مصداقيته الفنية إلا في دوائر التأويل الواسعة. هكذا تخرج العبارة (فاضت كيسان العمر) من حالة التشيؤ الدالة على السائل \ الماء إلى حالة التذمّر.

- زجل المفارقة:

لا يقف الزجال عبدالحكيم عند حدود المفارقة ليسجلها في عبور سريع بقدر ما يرسمها ويسطر أسفلها سطرا غليظا باعتبارها واقعا مفروضا يستحق المساءلة الحارقة والواعية بالتناقض.

اعْلاش الدودة بنت الدود

تصنع الحرير الحر

و هي لباسها عريان

ما خادتْ منو اشْبر

و قد لجأ الزجال إلى هذه المفارقة، هنا وفي سياقات أخرى كثيرة لإيمانه أنها قادرة على إقامة عالم جديد متخيّل على أنقاض عالم الواقع المعيش والمهدوم في وعي المبدع. ولأنها ثانيا صياغة لغوية قائمة على التناقض بين معنىً ظاهرٍ وآخر خفيّ. وقد امتطاها الزجال عبدالحكيم باعتبارها تعبيرا لغويا بليغا يهدف إِلى اسـتثارة القـارئ وتحفيـز ذهنـه.

لهذا اختار الزجال صورة الدودة للتعبير عن حالة المفارقة بخلاف المغني عبدالهادي بلخياط الذي أدرجها في سياق التواضع. وعبدالحكيم هنا أبلغ لأنه لا يتغنى فقط بل يشجب ويدين حالة متناقضة ويضعها في قفص السؤال مادامت قد قتلتها البداهة والألفة ولامبالاة الناس. فالدودة التي تصنع الحرير لا تلبسه، وهذه صورة مفردة أعتبرها شجرة تخفي غابة من المفارقات... وبالتالي فقدرها العراء رغم كونها مصدرا للدثار والغطاء. وهنا تخرج المفارقة من تسجيل التناقض إلى الوخز الأسود لحال أوشك أن يصبح طبيعيا وعاديا وحريا ألا يحرك في الناس نقدا أو تذمرا أو حتى مساءلة بسيطة.

هكذا فالزجل في عرف الشاعر عبدالحكيم يتجاوز التصوير إلى التصوير الفني البليغ والمتسائل إلى الانزياحات الدلالية الموغلة في العمق إلى المفارقة الفاضحة للتناقضات المتغولة في المشهد الإنساني عامّة.

- تيمات الديوان:

لا يهمنا في هذا المنبر الإشادة بقولنا إن الزجال عبدالحكيم طرح في ديوانه مجموعة من القضايا مثل الوطنية والوعي الديني والاجتماعي والفلكلوري والحقوقي ومواضيع العشق وتراث البداوة والمناجاة والحكمة والنصيحة وسؤال الكينونة والاخلاقيات والحرية والغربة والخيانة وفن الكتبة و... في زخم غزير من المواضيع.

و لا يهمنا رصدها تباعا الواحدة بعد الأخرى، فهذا مبحث خاص لا نصيب فيه إصابات أحسن من المتخصصين فيه من أهل علم ذلك. وحسبنا هنا أن نقول إن الزجال عبدالحكيم وهو يرصد كل هذا الزخم من القضايا يمتلك بوصلة فنية لا تمر على الماحول المكتوي مرور الكرام. يسجل وقفته المتأملة والناقدة والطارحة للبديل الجمالي الذي لا يكتفي بمزالق التشخيص ويعبرها إلى ضفاف التعبير الفني واللهجي المدين والشاجب والمتمرد على تفول الفساد.

و يهمنا أن الزجال عبدالحكيم لا يعيش في الأبراج العجية البهيدة عن قضايا الناس. ومن هنا فهو يتبنى الزجل المعانق للوجدان المغربي. يسائله ويحلله ويقوّمه بعد أن ينتقده وو يشجبه ويرفضه...

* في فن المساءلة:

وعلاش ضو الشمس

كمم وجهو وتغنبر

* في فن الوطنية:

آها على بلادي آها

ما بغيتها تقاسي لهموم

نعشق ترابها وهواها

قلبي متولع بها مغروم

* في فن التدين:

هي صلاة لفجر مولاة الهمة

كملات سعدي ضوّات ايامي

* في فن الاخلاقيات:

الصدق والكدوب سارو محاورين

على غرايبهم حروفي منظومة

* في فن الحرية:

ترجيتك لله يا الطير الحر

علمني نطير كيف الطيور

* في فن السخرية:

العود البركي مشا للحرت بلجامو

جر المحرات بسكتو

و التمون ف حزامو

العصا من وراه

و الدنابة قدامو

* فن الغربة:

حياتي عداب عايش غريب

شعر راسي كساه الشيب

و غدر الزمان ف وجهي بادي

سوالف همي مفتولة بسبيب

والقائمة هنا طويلة لا ينفع معها حصر أو تسييج. ولقد اكتفينا بما يمثل لا بما يحصر لأننا نكنفي بالإشارة التي تسود على العبارة.

والشاعر الزجال عبدالحكيم لا يرضى في هذا المقام بالعرض. أي أن ذائقته أكبر من أن تقف عند عرض الظواهر والقضايا وكأنه عالمٌ يجرد حصيلة التشخيص الذي لا يقدم في شأو التغيير شيئا ذا بال. ولكن الزجال احتار أن يشخص ويصف ويتجاوزهما إلى الكشف عن الخلل في أسلوب زجلي لهجي مبدع وفنان يرتقي بالزجل إلى مقامات الكشف العارف.

من ذلك:

* طرحه لمقولة المساءلة بكل الحمولة الاستفهامية وتجاوزها الى الحمولة الاستنكارية ثم المتجاوزة والرافضة عبر مواقف نقدية فاضحة تتغيّى التغيير أكثر من غايات البكاء والتشخيص الخاوي. واضعة في محك السؤال كلا من الفرد والجماعة والكينونة والمفارقة وإدانة المعلوم والمجهول.

* إغناؤه النظم بألوان الغيرة الوطنية حتى يتأتي للذات وللأخر مشخصا في المتلقي تذوق الزجل في تساميه على الأنا الضاغطة وانفتاحها على الجماعة الأكثر مصداقية

* ندرة الموضوع في حديثه عن صلاة الفجر. وهذا لعمري مبحث زجلي قلّ من طارحه الشجن. وهذا يحسب للشاعر ويدخل في تميزه وفرادته.

* لا يتطرق الزجال عبدالحكيم لموضوع الاخلاقيات من باب العرض المسطح، بل يختار لذلك مدخلا ذكيا يرتبط بالوجدان المغربي، فيصوغه صياغة تراثية ترتبط بفن الحلقة. قال: بسم الكريم نبداو يا السامعين – من قصة جوج نستافدو معلومة – الصدق ولكدوب سارو محاورين – على غرايبعم حروفي منظومة... وهنا يكمن ذكاء المبدع وهو يصب القضية في قالب ممتع ومستثير لذكتء المتلقي هو أقرب إلى المسوكة المتداولة بين الناس في الأدب الشعبي وخاصة في فن الحلقة. وهنا يتم نسج الزجل في فن الحكي بأبطال خارقين لا ينتمون للواقع بقدر ما ينتمون لعالم التجريد.

- رِهانٌ وزني:

راهن الزجال عبدالحكيم من منطلق اختيار فنيّ على وزن زجلي موسوم بالقوة البنائية والإيقاعية، ويتعلق الأمر بصوغه جلّ زجلياته إن لم نقل كلّ زجلياته في ميزان (المبيّتْ). وهو في هذا يخلص لنسق التشطير القديم والتراثي عبر آلية (لغْطا ؤ لفْراشْ).

و أعتبر هذا الاختيار نوعا من الموقف الفني يريد به الزجال أن يقول للزجالين: الأمر في بناء القصيدة داخل اللهجة ليس أمرا يسيرا ولا أمرا عابرا يتيح لمن هبّ ودبّ أن يقول فيه نثرا دارجا لا ضابط له ولا قواعد توجّهه. الأمر في الزجل أكبر من ذلك وأجلّ وأصعب في مقارنته بالقصيدة داخل اللغة العربية العالمة لأنها واضحة الضوابط والقواعد ومتّفق عليها. أما في الزجل فالأمر محتلف جدا إلى درجة الإشكال.

اختار الزجال عبدالحكيم وزن (المبيّتْ) اختيارا واعياً نستفيد منه معه بما يلي:

* المْبيّتْ يذكرنا بأصالة البيت الشعري الخليلي بما يفيد أن الشاعر أخلص لنسق إيقاعي ماضوي وتراثي وقوي الحضور

* البناء داخل إيقاع (لمبيّتْ) بناء موجب لكثير من البراعة التي لا تتأتّى إلا لمن خبر العمود الخليلي خبرة معينة، وذلك لأن البناء داخل هذا الوزن هو مغامرة موسيقية غير مأمونة العواقب إلا على من أوتي فصل الخطاب

* حرص الزجال على التشطير بين (الغطا) و(الفراش) هو حرص على موسقة الزجل والذهاب بأذن المتلقي مذهبا جماليا يشد لحمة الجمالية شدّاً قويا وحريريا في نفس الآن

* هذا البناء الإيقاعي يتيح للزجليات قابلية الغناء

* وهو البناء الذي يقربها من فن الملحون ويهبها مصداقية الإنشاد بقوة

لهذا وأنت تتجول داخل (اخْيوط الْڭَمْرَة) ستجد أذنك مشدودة إلى الموسيقى التي تحترم ذائقتك ولا تزج بها في أتون الاضطرابات اللاوزنية. وبالتالي ستكتشف كم هو صعب أن تأتي بالقوافي والأروية المتناغمة والموحدة في هذا الكم من القصائد، بما يفيد ثراء القاموس اللهجي عند الزجال عبدالحكيم، وأنه لا تغلبه في بيان أو بناء الإيقاع مفردة من هنا أو من هناك، في غير تعسف أو ليٍّ لأعناق الكلمات والضغط عليها حتى تستجيب لرغبة الزجال المتكلم.

و يفيدنا أيضا أن لغة (المرڭَد) حاضرة ومسعفة وقد أمدّت الشاعر بما يناسب المقامات من قول فنيّ مسؤول وناضج ولا نحس فيه أبداً قسرا أو ضغطا مهما كان.

و قد جربت مجموعة من الزجليات داخل هذا الديوان على مستوى الغناء فوجدت أغلبها منسابا انسيابا جميلا ورقيقا وسهلا وأنا أحاول الغناء، وقد نجحت في ذلك أيما نجاح وأنا أشنف مسامعي بلذيذ النظم المتأتي من قدرة الزجال عبدالحكيم على الصوغ اللهجي الراقي.

- خاتمة:

لا ننتهي من بحر الفاضل عبدالحكيم الزجلي إلا لنعشق الدخول في غماره مرة ثانية. فالديوان من تلكم الفصيلة الإبداعية التي لا نشبع من استلهامها في أي لحظة نعود لمعاينته أو لقراءته، نظرا لما يحمله في ذاته من قدرة على التجدد كلما تغير سياق حال القراءة وظروفها أو إكراهاتها. من هنا قولنا إن الزجال عبدالحكيم ليس من النوع الذي يبتغي تركيماً لفن القول بقدر ما هو من النوع الذي يقدم عملا فنيا مسؤولا وناضجا ومُعلّما في نفس الآن. فهو يقدّم دروسا جيدة في فن البناء اللهجي للعبارة الزجلية، ويقدم بناء انزياحيا بليغا ويقدم أيضا وأساساً إيقاعا ثابتا ومتغيرا في نفس الآن. وهو الإيقاع الراكب صهوة نظم (المبيّتْ) الذكي والقادر على احتضان الحرف والكلمة والعبارة والانزياح في تلوينات موسيقية تتسم بمكر السهولة وتنضح بعمق الصعوبة. وهنا أقدم تحياتي العاليات للزجال عبدالحكيم على اجتهاده النوعي في الذود عن حمى الزجل في عهد موبوء بالرداءات التي يُصفّق لها في المؤسسات وفي غير المؤسسات.

***

نور الدين حنيف

 

شاعرة الشّعر الفارسي المجعد المعاصر (1934 —1967)

منذُ عقود وقد سُلبَ حق التحرك الحر وكتابة الشعر من النساء الإيرانيات، وخروج المرأة من الحدود المحددة، فهي تحتاج إذن الزوج أو القيّم، والزقاق والسوق وحقّ الخروج دون إذن وترخيص محصورة بالرجال. والاعتقاد العام هو أن تحرك النساء لا ينتج عنهُ سوى الهرج والمرج والانحلال. والمرأة والرجل مثل القطن والنار إذا لم تحدد العلاقة بينهما، ستقوم فتنة وستشتعل النار.

التحرك الجنسي النسائي بات علاقة العفة القومية والعامة والحجب والحياء والخجل، حتى أن الغيرة تُلازم غياب النساء عن المجالات العامة. وحسب الملا أحمد النراقي في (معراج السعادة): الجلوس في البيت يخص بالنساء والرجولة رهان هذا السكون. فالتحرك الحرّ والتحسر على النساء كانت من مواضيع نتاجات الشاعرة فروغ فرخ زاد وإحدى العلامات البارزة. ورأت حركة المرأة غير المشروط أنهُ حق لا نزاع فيه. والمشكلة لا يوجد كاتب في الأدب الفارسي أهتمّ بهذه القضية مثلها. فأعمالها الشعرية أهمت بنماذج التجدد في إيران عهد الشاه.

كانت (فروغ زمان فرخ زاد عراقي) أصغر شاعرة إيرانية حقبة خمسينيات القرن الماضي، ولدت عام 1934م في العاصمة طهران، وبدأت دراستها فيها وأكملتها وكانت الأولى في كل الصفوف، إلا الصف التاسع إذ عشقها جارها الشاب ورسام الكاريكاتير برويز شابور، فتزوجت منهُ عام 1943، وذهبت معهُ إلى الأهواز، وهي في السابعة عشرة من عمرها، وأنجبت منه ابنها الأوحد كاميار، لتنصرف إلى الشعر، وإلى علاقة عمرها الحميمة مع القاص الإيراني الشهير إبراهيم كلستاني بعد طلاقها من زوجها.

أول دواوينها الشعرية كان بعنوان (أسير) ثم (حائط) ثم (عصيان) و(ولادة أخرى) كما صدر كتاب احتوى مختارات من شعرها. عملت فروغ إلى جانب ضخ الشعر، في إعداد وتصوير وتمثيل الأفلام منها (البحر) و(الخطوبة) و(الماء والحرارة) و(البيت الأسود) وسواها. كما عاشت حياتها القصيرة فتوفيت في عمر الثانية والثلاثين إثر حادث سير، وكرّمها المخرج الإيطالي (برناردو برتولوجي) حين أنجز فيلماً عنها مدته ربع ساعة.

كانت قد أثرت على فروغ فرخ زاد جماليات كارون الأهواز ولياليه الساحرة. المرة الأولى التي أنشدت فيها الشعر لم يتجاوز فيها الثانية عشر عاماً، ثم كرهت هذا الشعر ولم تعتنِ به ولكنها عادت مرة أخرى ونجحت فيه نجاحاً كبيراً. أول نص شعري نشر للسيدة فرخ زاد كان باسم (الهاربة) في مجلة (المثقف)، ثم غزت الكثير من المجلات.

كانت تحب من بين شعراء إيران حافظ شيرازي، وتهتم ببودلير كثيراً. وقد اعجبها من بين الكتّاب الأجانب أندريه جيد وإميل زولا. فروغ في نصوصها الشعرية جريئة، وكل ما تراه وتعرفه جميلاً تعكسه بصراحة.

رغم كل ذلك أحبت فروغ حياتها العائلية جداً، وكانت تقضي أوقات فراغها في البيت، وإن كانت ليست ماهرة في هذا الحقل، ولكنها لا تجلس ساكنة. ليس لدى فروغ سوى أمنيتين: الأولى تحوّل المجتمع بصورة تتساوى فيها النساء مع الرجال. والثانية أن يكون لهنّ حق مثل الرجال في كتابة الشعر ووضع كل ما يرغبن به. وكأن فروغ فرخ زاد أوجدت هذا الجو الصحي بجرأة خاصة لنفسها، ولكنها لم تصل إلى ما هو مطلوب وعلى أي حال فقد تفوقت كثيراً على محيطها.

لا ريب أنّ فروغ فرخ زاد التي كان يجب أن يطلق عليها تسمية شاعرة الشعر المجعد، كان لها مستقبلٍ زاهر، إذ نظراً لفترة إنشادها للشعر ونظراً لعمرها فقد تقدمت كثيراً... فهي تمتلك عينان واسعتان ونافذتان، ونافذة مشرعة على قلبها الهائج.

عاشت فرخ زاد في أكثر مرحلة حرجة في تاريخ إيران، تلك فترة أربعينيات وخمسينيات القرن الماضي؛ حتى مطلع الستينيات منه، كانت أكثر الشعراء صراحة في الأدب الفارسي المعاصر، وقد عانت في عائلة غير منظمة، كما علمتها الحياة أن الحب، وخاصة في مرحلة الشباب، ليس سقفاً فوق الرأس ولا طعاماً في القدر ولا ثياباً على الجسد. لكنها كانت ترغب أن تصبح شاعرة كبيرة، ولم تفكر بغير هذا الأمر، وقد أصبحت كذلك. فهي تعشق الشعر، فكان الشعر لها آلهه تفكر بها ليل نهار. وكانت قصائدها جميلة، ومن تلك القصائد (الخطيئة)، ما هي إلا نموذجاً على هذه الجرأة(1):

أرتكبتُ، خطيئة، خطيئة طافحة باللذة

في أحضان خابية ونارية

ارتكبتها بين ذراعين

ساخنة وحاقدة وحديدية

في ذلك المختلى المظلم

نظرتُ لعينين مملوءتين بأسراره

رجف قلبي في صدري دون استقرار

من رجاءات عينيه المطالبة

في ذلك المختلى المظلم والقاصي

جلستُ بجانبه مشتته

سكبت شفتاه في شفتي الرغبة

من حزن قلب رستم المجنون

قصصتُ قصة حبّ:

(أريد يا روح الروح،

أريدك يا حضناً مانحاً

أنتَ يا حبي المجنون)

اشتعلت الرغبةُ في عينيه

رقصَ النبيذ في الكأس

جسدي بين سرير ناعم

على صدره الثمل ارتجف

ارتكبتُ خطيئة، طافحة باللذة

بجانب جسد راعش ومندهش

يا إلهي وما علمي بما فعلته

في ذلك المختلى المظلم.

لذلك لا تقبل مثل هذه الممنوعات والحدود في الأدب الفارسي القديم علاقة الحب بين الرجل والمرأة دون مداخلة ووجود شخص ثالث، وفي الأعم الداية أو النديم، فقد ثارت فرخ زاد على هذه القيود وأزاحت الستار، اغتصبت حقل وحق الرجولة، جلست تحاور قراءها وجهاً لوجه، من جانب ثانٍ سحبت الحجاب من الهاجس النسوي ومن جانب آخر أدخلت الحبيب الرجل للأدب الفارسي. تمارضت عن إخفاء إحساسها وميولها الجنسية، وهي فضيلة نسوية. لم تختبئ خلف ستار الخجل والحيلة، لم تتكتم أدبياً، لم تتكلم بخفاء.

في قصائدها كانت تكشفت الستار عن الرجل الحبيب، الرجل الإيراني. فرخ زاد وعلى خلاف مجايلتها لأغلب الأديبات المعروفات من: (بروين اعتصامي، جالة قائم مقامي، بروين دولت آبادي، سيمين دانشور، زهراء خانلري، سيمين بهباني، ولعبة إلا)، كانت في طريقها الأول الخطر قد لاقت الصعوبات. لكنها عاشت بين ناس يؤمنون أن الحب مفتاح وجود سرمدي، ويرون كما رأى لسان الغيب (لن يموت من عاش قلبهُ بالحب)، لكن في بلاد فارس نفسها ولقرون كان الحب للمرأة خطيئة كبيرة. ورثت أدباً يعتبر كنزاً ومن أجمل أبيات الحب العالمية. ولكنهُ حرَمَ المرأة من التعليم العالي خوفاً من اطلاعها على شعر الحب وإنشاده. تتغذى من أدب الحب وديعة سماوية، أساس وعمود وجود العالم وطلسم يعصف البحر ويهزّ الجبال، ولكنهُ يرى أن آلهة الحب في المجال العام يملكها الرجال فقط.

عاشت فرخ زاد في بلاد آمنت طوال قرون مديدة بأن (لا تمنح زوجتك القلم/ خذ القلم بنفسك/ لا من رجل بات دواةً/ ولا من خاتون تسوّد الرسالة). أو على حد تعبير نظامي كنجوي وهو خالق بعض أجمل حكايات الحب، (ولأن الفتاة أمسكت المداد/ ترسل جواب الرسالة/ هذه الرسالة علامة اسوداد الوجه/ ولأنها كتبت اسمها باتت وثيقة)(2).

عبّرَت فرخ زاد في شعرها عن حصار مثل هذه القيود في مجتمع وأدب تحدد للمرأة، وطرحت أطروحة جديدة. لم يكن الشعر بالنسبة لها تسليط قصة لتمضية وقت، بل كان ضرورة حياتية، كان نافذة على عالم ممتد ومنظم، كان اعتراضاً على موانع مجتمع تعيش فيه، كان وسيلة لتقبض على عنان الحياة بمساعدته وتغير الجبر والتقدير إلى اختيار وانتخاب. فأختارت هذا الطريق بدراية، قالت الشعر ألماً وعلاجاً تجده إلههاً وشيطاناً: أحياناً أفكر وفكرت لماذا خلقني اللهُ على هذا الشكل وأحيا فيَّ هذا الشيطان باسم الشعر...)(3).

فرخ زاد وفي مثل هذه الأجواء ودون حماية عائلية، صرخت بإيمان راسخ، أنها تريد أن تكون شاعرة كبيرة واستطاعت في فضاء ضيق ومسموم أن تزهر مثل زهرة اللوتس من أعماق مستنقع وتصل لقمة الإبداع، ولو لم تمتلك هذه الجسارة التي تطلق عليها الجنون لما استطاعت إيصال صوتها المتمرد للآخرين. لو تقبلت المفاهيم النسوية الرائجة ولخصت هويتها في دور الأم والزوجة والفتاة، فمن الممكن أنها لم تستطع أن تكون شاعرة من الطراز الأول:

ارمهِ بعيداً حديث الاسم، أيها الرجل

فقد أعطاني لذةً خجولة ثملة

سيسامحني على ذلك الإله

أنه أعطى شاعرة قلباً مجنوناً

تعال افتح الباب حتى أفتح جناحيّ

جهة سماء الشعر المضيئة

لو سمحت لي بالطيران

سأكون وردة في بستان الشعر(4).

كانت فرخ زاد ترى نفسها في تلك الأيام طائراً مرتاح البال يريد التحليق عالياً ناظراً للأفق ويريد الطيران، ولكن طريق الطيران صعب وكثير المشاكل. بعد فترة تعبت أجنحتها وأُجبرت على الهبوط، ولتنسى في النهاية، حتى حاولت الانتحار مجبرة ثم مشفى الأمراض العقلية. تصور نفسها أثناء السرير العلاجي الكهربائي موثقة اليد والرجل، وتحترق خلايا روحها مثلما تحترق خلايا مخها، مما يمر من خلالها:

يا أشعاري

يا شعلة قلب مملوء بالمحن

يا تجسدات لامعة لروح غير مستقرة

دائماً في انحدار من سجون الجسد الضيّقة

يا ضحكات الاشتياق

يا دموعاً باردة

يا نغمات النحس

يا ضجيج الألم

اهمسي في أذنهِ حكاية القلب

جددي ألم الفراق واحتراق الروح(5).

حتى وصلت فرخ زاد إلى عتبة الموت وحافة ومنحدر الخواء، ما هي جريمتها، أي خطيئة هذه لا تغتفر ليكون مصيرها الموت عام 1967 وهي في مقتبل العمر؟ لماذا باتت اشعارها وتحركها ونجاحها يشكل تهديداً لأيام عاشتها في عهد الشاه، إلا أن فرخ زاد عرفت جيداً ثقافة عبادة الصنم وبعيداً عن الأسطورة والتصنيم، في ثقافة تترادف فيها مفردة المرأة النموذجية مثل التمثال، لا رجل تتحرك بها ولا لساناً تتحدث به، لم تكن مطيعة ولا منفعلة، لا تقف خلف الستار ولا هي لعبة بيد الآخرين، لا تتقبل الاستسلام، لا تحب فقد الإرادة، لا ترغب أن تكون عمياء وصمّاء وخرساء وثابتة. لم تودّ أن يكون وجودها أو عدمه متساويين في العمل وفي الرؤية، كانت تحارب بانتظام المرأة المؤطرة في إطار معين مطرقة الرأس، تريد الهيام والوله بموازاة استقلال الرأي والكرامة الإنسانية. ترى الحب الشيء الوحيد بين موجودين، كانت إحدى خصائصها البارزة في عمرها القصير التأكيد على الفردية وشجب حياة الدمية:

قبل هذا، آه، نعم

قبل هذا كان يمكن البقاء ساكنة

يمكنها لساعات طويلة

وبنظرة مثل نظرة الموتى، ثابتة

تحدق في دخان السيجارة

في شكل فنجان

في وردة فقدت لونها على السجادة

في خطّ وهمي، على الجدار...

يمكنها البقاء في مكان

بجانب الستارة، لكنها عمياء، صماء

يمكنها الصراخ

بصوت كاذب، غريبة جداً

(أحبك)(6).

قد تبدو فروغ فرخ زاد، تبعاً لذلك، وفية لتقليد شعري درج عليه شعراء الفارسية منذ القديم، وهو استحضار النبرة العرفانية/ التصوفية في القصيدة. ذلك أن الحس العرفاني لم ينقطع بغياب أسماء الكلاسيكيين الكبار الذين أوقفوا نصوصهم لقول التصوف شعراً. بل استمر ذلك التقليد وإن كان بشكلٍ موارب في كل أنات الشعر الفارسي، إذ نجده لدى (أحمد شاملو ونيما يوشج)، كما نجده بشكل أوضح عند (سهراب سبهري) وشاعرتنا فروغ، وصولاً إلى الجيل الشعري الجديد كما لدى (أحمد رضا أحمدي)، على سبيل المثال.‏

غير أن التصديق على هذا القول لن يمنعنا من النظر إلى تعاطي الشاعرة مع العرفان نظرة مختلفة يمليها اختلاف هذا التعاطي ذاته. فبمقايسة نصوصها مع نصوص شاعر كبير آخر هو (سهراب سبهري)، نجد أن هذا الأخير ساع إلى استخلاص شفافية عرفانية محضة وبثّها في ثنايا القول الشعري والتنويع عليه، الأمر الذي جعل من هذه الشفافية ملازمة لشعره كما في قصيدته (المسافر) أو قصيدته (صوت قدم الماء) كمثال.‏

أما لدى فروغ فرخ زاد فإن هذه الرؤية التصوفية قد قُيّضَ لها أن تصل مختلطة بالمادة، غير صافية، فهي محتفلة بامتزاجها مع شوائب وكدورة عناصر العالم (الماء والتراب والهواء والنار) بل هي سمّتْ ذلك صراحة في كثير من قصائدها، كقصيدة (على التراب):-‏

أبداً لم أكن منفصلة عن الأرض‏

لم أتعرفْ إلى النجمة.‏

على التراب وقفتُ بقامتي‏

مثل ساق نبتة‏

تمتص الهواء والشمس والماء‏

لتحيا.‏

حبلى من الرغائب‏

حبلى من الألم‏

أقف على الأرض‏

لأمتدح النجوم.‏

لعل اصطلاح (تصوف مادي) هو الأنسب لتوصيف شعر فروغ، فمن خلال هذه النبرة المترعة بتسام صوفي لا يخفى، نلحظ الرغبة الجسدية كأجلى ما تكون، نرى انشغالاً لذائذياً أيروسياً في سائر نصوصها، كأنما طمحت بذلك إلى إنشاء مسافة توتر مبتناة في عمقها على تناوب هذين المبدأين: قول التهتك بلغة الكشف، أو إضمار المعرفة في جسد، جسد مترع بالدم كعنقود عنب:‏

جسدي محموم من ملامسة يديك‏

ضفيرتي تنحلّ بأنفاسك‏

شفتاك -الإحساس الدافئ بالوجود‏

ضعهما برفق على شفتيّ‏

كلما اقتربت شفة من شفتي‏

انعقدت نطفة في إحدى النجوم.‏

أخيراً، لا يمكن اختزال شعر فروغ فرخ زاد تحت عنوان أوحد دون الوقوع في تناقض مماثل لتناقضات شعرها. فهو شعرُ تأمل بامتياز، في الوقت الذي يستقصي أشد ذكريات الطفولة استعصاء على الحضور، وهو شعر عشق بكل ما لكلمة عشق من مداليل، شعر ميول ورغائب، شعر الروح المنقبضة والجسد المتهتك، شعر إدمان اليأس بانتظار الأمل.‏

كانت فرخ زاد تعيش في البلاد قلقة، لم يكن قلقها اعتباطياً، كانت هناك علاقة مباشرة بين شرف المرأة وحرية حركتها. صورة امرأة تترك الجدران الأربعة للبيت وتسير في بلد غريب، لهو مترادف مع طلب لذائذ غير مسموحة، منذ قرون سُلب حق التحرك الحرّ من النساء في إيران. في أحد أيام تموز من عام 1967 رحلت فروغ فرخ زاد بسبب حادث سيارة.

وجاءت الثورة وأوامر جمهوريتها الإسلامية لتفرض الحجاب والتفكيك بين الجنسين، وغياب المرأة من المشهد السياسي، وحذفها من مشهد التربية والتعليم. كفاءة سياسية أقل، حركة تشكيلية أقل ومدنية، من اليمين واليسار وحتى الوسط للوصول إلى الشرعي والعرفي، من القومي والشيوعي والاشتراكي حتى الأصولي، تم تفكيك التراث عبر العلاقات الشخصية والخاصة، فمنعت تداول قصائد ودواوين فروغ فرخ زاد، حتى اصبح تداولها سراً بين عشاق شعرها، إذ اعتبروها خطرة ومهدمة للوضع الموجود. منع صدور اعمالها الشعرية الأولى، وما زالت حتى اليوم المجموعات الشعرية الثلاث الأولى لها، خاصة الأسيرة، إضافة لمجموعتيها الأخريين تحت مقص الرقيب.

في أقل من خمسة عقود أجبروا النساء بالعنف على ارتدائه، لو أقروا يوم كشف الحجاب كيوم حرية النساء، لرأوا هذا اليوم فيما بعد يوم أسر المرأة. وبعد جدل لا نهاية له حول الحجاب وقعت واقعة خطيرة في إيران، ولم يلتفت لها أحد، ولكن قبل ثمانية عقود من نزع الحجاب الإجباري، خرجت النساء رويداً رويداً، عبر فتح الأبواب المغلقة والحركة من الداخل للخارج، بتحول عظيم، برأيي إزاحة هذه الستارة، هذا الحضور غير المسبوق واللامع للنساء في فضاءات تراثية رجالية، تلك الأحكام الآمرة، لتغير وجه وثقافة إيران للأبد.

***

نبيل عبد الأمير الربيعي

....................

المصادر:

1- فرزانه ميلاني، فروغ فرخزاد.. الرسائل السرية والسيرة الأدبية، ترجمة: أحمد حيدري، دار الرافدين/ بيروت، ط1، 2018، ص498/499.

2- فرزانه ميلاني، من الكتابة للكاتب: من المكتوب للكاتب، إيران، عدد/1، 1372، ص51.

3- 1- فرزانه ميلاني، فروغ فرخزاد.. الرسائل السرية والسيرة الأدبية،  رسالة لأبي بتاريخ 6 مايو.

4- هوشنك كلشيري، الخطوط الكلية للأدب النسوي، النساء، العام السابع، عدد/ 48 لسنة 1377، ص39.

5- فروغ فرخزاد، يا أشعاري، في (فروغ أيام الشعر الجيدة)، زن روز، عدد/ 692، السبت 21 مرداد 1357، ص34.

6- اللعبة المتحركة، ولادة أخرى، طهران، مرواريد، 1375، ص74.

 

صدرت عن دار نقوش التونسية الطبعة الاولى لرواية الكاتب منجي الحدادي والمتأمل في المسار السردي للكتاب يلحظ منذ العتبة الأولى رمزية العنوان حيث حلق الكاتب في عوالم الوافع وتاق  لاختراق عوالم الشخصيات حتى يبلغ الفكر مداه وتنبجس الفكرة من رحم الواقع المعيش داخل كون مرصف من الكتب. انها كتابة الذات والعودة للأصول حسب مفاربات فيليب لوجون في كتابه عن السيرة الذاتية وانعتاق الأنا بحثا عن كينونة جديدة في مخطوط هو البيان الخطي لمسار فاصل بين فاطمة الكاتبة والعاشقة للكتب وأحمد الملهم والذي يسعى للقاء المتجدد.

لا يمكن الغوص في مسارات الرواية دون التعريح على سيكولوجيا الحنين لدى الشخصيات في بحثها داخل  طيات الكتب عن مسار وجودي يراوح ما بين رؤى الماضي وطغيان الحاضر وهيمنة الشكل وضمور المحتوى ...كل ذالك يدعونا للبحث عن فكر لاعبي محض للانسان مثلما بينه هوزنغا في كتابه الانسان اللاعب. ان المقاربة الجندرية لشخصية فاطمة تنزاح عن المعتاد كي تبعد عن المراة الوعاء الانثوي الخاضع للشهوات كي ترقى الى انسانية ثقافية بامتياز داخل بنية روائيى دائرية منطلقها رفوف الكتب ومنتهاها تجلي المخطوط وهي كتابة الذات بعيدا عن الأوهام والسلبية فالمرأة انعتاق وشحذ للأنا.

نقرأ في فاتحة الرواية.." هذا يومها الأول من حياتها الجديدة. ولليوم الأول دائما مزاج خاص."[1] وبعد مسار طويل من الحكايا عن الأب التهامي والعم ناصر والأم وغيرهم ينتهي المساربمسيرة أطول.." أدركت حينها أن طريقي الطويل لم ينته بعد"[2] فالبداية هي نهاية بحد ذاتها والطريق هو ذاكرة للوجع مع مسرحة للواقع وظلال للثورة بكل رمزياتها.

عندما تأخذنا الرواية الى أحداث عاشها الكاتب مابين واقع حقيقي في فلكه تكون للأسرة صورة مقدسة وللأب مكانة خاصة وفيها ذكر لحرب العراق ورسم لمأساة أمة لم تكرم مخطوطها الرمزي وبقيت حبيسة الترهات وتفتت الذات دونما التوصل الى عقلنة الحاضر وتبيان الغكر الانساني بتمعن. أن الحدادي وهو يستعرض غزوات الخطوط الذي كانت فاطمة بصدد خطه يراوح ما بين السيكولوجي والأيديولوجي في بنية سردية متماسكة هي أقرب اي الكلاسيكية الأدبية دون انزياح الى التيارات الحداثوية في تضارب الشخصية مع ساردها أو تفتت الفضاء أو الايهام بالوقت ولاعبية الأنا.

ان الباحث في تراث الكتابة الرومنسية التي تعلن انتصار الأنا وقدسية الماضي والنبش في الذاكرة يشد الي تفاصيل رواية المخطوط رغم ظاهرها الواقعي والذي يحتفي بالتفاصيل وياثث أكوانا من الرمزية والغوص في الذات. ما من شك في اتسام خطوط الرواية بخصائص مسؤحية تساوي ما بين الشخوص الرئسشية والثانوية رغم ندرة الحوار وعدم الغوص في عامية تونسية مخصوصة. البناء السردي لدى الحدادي محكوم بالزمن وان كان قد خير التصوير المجهري لحيثيات الذات لدى الشخصية الأنثوية فاطمة التي لا تعلن الحب بل ترتحل داخل الكتب.

" فتحت محلها واقبلت تغير اماكن الكتب تحب ان تستدعي شيءا من التجديد داخل مكتبتها. تنفر الروتين الذي عاشت عليه. لذالك رشت عطرا في ارجاء المحل حتى تطرد رائحى الرطوبة ثم اخرجت احواض النعناع ووضعتها امام باب المكتبة وعلى جنباتها." ص. 163352 المخطوط منجي الحدادي

وحري بنا ونحن في هذا الموضع أن نسلم يأن ذاكرة الوجع الانساني تندرج ضمن طيات المخطوط فالصراع بين الشخصيات مبطن وغير معلن ولا تجد أثرا للصدام العلني وكاني بالسارد قد انتهج السيرة الصوفية في تبيان مكامن الشخوص وقد خلق تعادلية ما بين المضمر في المخطوط والجانب الظاهر في الحكاية. يتسم حينئذ اللقاء

" تملكها شعور بالغضب  ممزوج بالغييظ وهي ترى نفسها مهزوزة المشاعر أمام موقف عابرمن فرط غضبها انطلقت نحوه وهي تحاول أن تضع على وجهها غضب الدنيا ..بدت ملامحها الصارمة مضحكة على الأقل بالنسبة اليه حين سألته عن حاجته. ظل ينظر الى عينيها دون أن ينقل بصره الى جسدها الفاتن مثلما يفعل الأخرون..." ص. 17

من خلال وصف الانجذاب تكون المشاعر الفياضة قد اتسمت بعفوية ورومنسية باطنية بعيدا عن كل انعالات جسدية بينة وهذا هو مسار الكتابة لدى الحدادي فحينا يعرج على النكبات الأيديولوجية في العالم العربي ووهم النضال وحينا يروي لقاء الأحبة بكل تفاصيل اللقاء والتيمة الرئيسية في كل ذالك هو المخطوط الذي يكتب على مهل وكأنه القدر الذي يستوي طعامه.

ان مغامرة الكتابة داخل فلك السرد تتجلى من خلال معاينة فاطمة وأحمد لهذا الفضاء الضيق لشيخ يغوص في الكتابة ويبحق عن ذاته وكأننا بصدد الحديث عن تلوينات وجودية في سرد محمود المسعدي من خلال أسئلة الكينونة..

" تخمر أحمد لجلالة الموقف المهيب وراح يطرح أسئلته على الرجل الطاعن في السن...سأله عن سبب توقفه عن الكتابة منذ زمن طويل. عاد الرجل وجلس على مكتبه بعدما أعياه الوقوف. بسنما فاطمة تمسكه من يده وكأنها تعينه على عذاب وقوفه وهو يرتعش..." ص. 49

من خلال هذا اللقاء الحمسمس نلاحظ هذا التوق لاختزال الزمن والبحث عن الحكمة لأن الأدب ولوج لأكوان المجهول.

ان العلاقة بين الأدب والميتا أدبي أي التفكير فس مألات الأدب  وأسئلته العميقة  تتجلى كما يقول جيرار جينيت من خلال التوازنات أو الانزياحات داخل الفضاء السردي المفترض. وهو الذي يعلن جمالية اليومي المخصوصة لأنها في رواية المخطوط مثلا تضفي على الشيخ المنعزل أو الأب التهامي سمة الحكمة الفلسفية.[3] وانطلاقا من كل هذه الاعتبارات يمكن الحديث عن مفهوم المأساة والوجع في الكتابة أو الشجن في الموسيقى كتعاقب لأزمنة شتى وتوق للتحرر.

ان الكتابة السردية جمالية مطلقة تجعل من الفنون جميعها قد حلت داخل المنظومة السردية ويكون بالتالي من الشرعي جدا أن نكتشف المساحات التسكيلية داخل الرواية بصفتها مضمونا وفي ذات الوقت شكلا كما تحدث عن ذالك الناقد الفرنسي جيرار جسنيت

يمكن الحديث أيضا عن مغامر الكتابة وهذا هو سرالمراوحة ما بين صوت المضمر والزمن والتلفظ البياني داخل منظومة السرد وهو نفس التوجه الذي ذهبت فيه رواية المخطوط أشواطا عديدة وأوغلت في كشف الواقع المعيش. [4]

لا يمكننا ادراج هذه الرواية في خانة الكلاسيكية أو الحداثية لأنها تخرج عن كل تصنيف سوى من المنحى الثقافي الذي يدحض مسارات الرواية المعاصرة في تونس حيث فانتازيا الأنا أو طابو الجنس من المنظور النسوي كإعلان التحرر من كل القيود والانزياح عن الناموس الاجتماعي بالعودة الى الانسان البدائي الخير من منظور جان جاك روسو في كتابه أصل اللامساوات بين البشر.

جملة فارقة في الفصل الرابع عشرة يحكي ميل فاطمة للقلم وللفيم النبيلة والبحث عن كيان انساني قد أراد الحدادي من خلاله أن يلامس جرح اليقين في النفس العربية:

" بدا أن ايامها لا يملؤها الا صخب ذالك الزائر الغريب. مر اسبوع ولم يحضر أحمد الى المكتبة. لم تجد فاطمة الا فراغها الضاج بالقلق وأنه بمجرد حضوره يصبح المكان عامرا به عدى ذالك فهي أيام رتيبة لا ترتقي الى صخب حضوره." ص.97 انها الأشكال السردية التى تتفرق في الفضاءات لتزداد ألقا وتوهجا.

تذكرنا هذه الكلمات بوضع البطل مرسو من كتاب الغريب لألبير كامي الفرنسي  حيق الوجع والتألم والكأبة المهيمنة على الذات وما ينقذ المرء من كل هذا التشظي سوى المخطوط كبديل مجرد عن كون المحسوسات وقد يتبين للعديد من الكتاب ان تجربة الجسد هي المحرار لكل يقين وفي الحقيقة تكون الكتابة ولادة جديدة في منظور الحدادي وحتى النهاية الحزينة بسقوط  أحمد تحت قصف النار

الرواية المخطوطة لم تنتهي بعد وليس لها عنوان واللقاء قد انفرجت أساريره أوان الموت فهل هي رواية الحفر في الذاكر ووشم للوجع وانطلاق أمل جديد بخضاب الأرض بالدماء؟

" هذه النهاية يا فاطمة وأيضا بداية طريقك..." ص.186

جملة تختزل الوجع ولكن تأخذنا الى مشارف الأمل المتجدد.

***

منذر بشير الشفرة - جامعة القيروان

دكتور في الأدب المعاصر

......................

[1] المطوط.منجي الحدادي. ص.9

[2] نفس المصدر.ص.191

[3] Plus généralement, il a exploré l’espace du langage, celui de la littérature, celui de l’écriture. En fait, on peut arguer que ses travaux de critique, de poéticien et d’esthéticien constituent une cartographie des espaces qui façonnent la littérature ou l’œuvre d’art : entre signifiant et signifié ou entre signifié apparent et signifié réel, entre des narrations différentes d’une même série d’événements, entre texte et paratexte, entre genre et texte, les mots et les choses, le factuel et le fictionnel, le langage et le style, la nature et la fonction d’une œuvre ou encore son statut objectif et sa réception subjective. Certes, je le cite, « tout notre langage est tissé d’espace [10][10]Figures, Paris, Seuil, 1966, p. 107. »

[4] « Temps, mode, voix, c’est très bien, mais enfin, dans tout ça, que faites-vous de l’espace ? » et que je ne trouvais pas grand-chose à rétorquer pour ma défense, sinon que mon exploration portait sur les formes narratives et que l’espace est, dans le récit, une catégorie non pas de forme, mais de contenu […]. Classique ou moderne, le récit peut jouer avec l’ordre, la vitesse et la fréquence, et il ne s’en prive pas, mais il ne peut jouer avec l’espace ][17]Épilogue, op. cit., p. 46-47..

تكمن أقدم الشهادات المكتوبة عن الأدب الدنمركي في القصص العظيمة عن الخلق، وعن الآلهة والبشر، عن راجناروك الذي يُعتبر حدثًا مهمًا في الأساطير الإسكندنافية، وكان موضوعًا للخطاب العلمي والنظرية في تاريخ الدراسات الجرمانية. وكذلك عن الكوارث، والأرض الجديدة والسماء الجديدة.

من الصور الموجودة على المجوهرات المعدنية، والنقوش الذهبية، نعلم أن الأساطير الإسكندنافية قد تم تطويرها بمرحلة ما قبل الكتابة. وتمت كتابتها لأول مرة في آيسلندا بين 1190 و1210.

هذه الحكايات الأسطورية هي أصل الثقافة الدنماركية/ الشمالية. إنه عالم مرئي يعود فيه الأدب مما قبل عصر الرومانسية، ومنذ ذلك الحين يُعاد سرده وتفسيره مرارًا وتكراراً في ثقافة المدارس الدنمركية المتوسطة والثانوية.  كانت حكايات الجان والعمالقة على مدار أكثر من مئة عام جزءًا من بصمة ثقافية شعبية واسعة. على الرغم من أن الأساطير كانت مادة دينية، إلا أنه يجب أيضًا اعتبارها أقدم دائرة سرد لعوالم تصويرية دنماركية واسكندنافية تشكل هوية الشعوب.

أقدم دليل مكتوب

تشبه النقوش الرونية كتابًا مفتوحًا في المشهد الدنماركي. لا تزال إمكانية الوصول إلى العديد من الأحجار الرونية الكبيرة التي يتجاوز عمرها ألف عام متاحًا مجانًا للعموم.

ربما لا تحتوي على أدب حقيقي بالمعنى الضيق، لكن النقوش الرونية هي أقدم دليل مكتوب في الدنمرك. تتضمن في بعض الأحيان قوافي الحروف وبعض الإيقاعات، وعادة ما تكون مجرد إعلانات عن رئيس محارب ميت، أو وسيد روني، ولكن يمكن أن تحتوي أيضًا على تعويذات وسحر، بالإضافة إلى أسماء أشخاص وأسماء الآلهة ورموزها.

الكنز الوطني الدنمركي هو أحجار Jelling (القرن التاسع) حيث يحتوي الحجر الكبير الذي يحمل صورة المسيح والزخارف الوثنية على إعلان ملك الدنمرك والنرويج "هارالد بلوتوث" Harald Blåtand  أنه غزا كل الدنمارك وحول الدنماركيين إلى المسيحية.

اكتسبت الاكتشافات في عامي 1639 و1734 للقرون الذهبية بزخارفها، والنقش الروني على القرن الكبير 400 م أهمية أدبية بعيدة المدى، بما في ذلك قصيدة "آدم أولينشلاغر" Adam Oehlenschläger الرومانسية "الأبواق الذهبية" Guldhornene التي كتبت بعد سرقة القرن الذهبي عام 1802. اكتسبت القصيدة مكانة الميثولوجيا الأدبية والمواد التعليمية العامة لاحقًا.

العصور الوسطى والأدب اللاتيني

كان "أندرس سونسين" Anders Sunesen عالمًا لاهوتيًا كتب قصيدة كبيرة Hexaëmeron  ـ وهو نوع من الأطروحة اللاهوتية التي تصف عمل الله في الأيام الستة للخلق ـ في شعر سداسي القياس باللاتينية. يصف العمل خلق العالم في ستة أيام وهو شعر ما زال قائماً في الدراسات اللاهوتية  المعاصرة. تم العثور عليها فيما يسمى اليوم "مخطوطة روسكيلد" Roskildehåndskrift في نسخة تعود تقريبا إلى 1250-1300 على 134 ورقة من ورق البرشمان موجودة في المكتبة الملكية الدنمركية. على الرغم من مكانتها كواحدة من المساهمات الدنماركية القليلة في اللاهوت السكولاستي نُشر كتاب " أندرس سونسين هيكسايميرون" Anders Sunesen Hexaëmeron  لأول مرة في شكل كتاب عام 1892 وتم ترجمته إلى الدنماركية في أواخر عام 1985.

الأدب اللاتيني في الأديرة

كانت العصور الوسطى هي العصور العظيمة للمخطوطات. كانت الأديرة والكنائس الكاثوليكية حاملة للثقافة الأدبية، والتي كانت بحكم اعتماد اللغة اللاتينية ودراسات الأساقفة المتعلمين في الخارج تُعتبر منبراً للثقافة الدولية.

تحت هذه الرعاية تمت كتابة أول عمل رئيسي في الأدب الدنماركي، "تاريخ ساكسو للدنمارك" Saxos Danmarkshistorie اسم الكتاب "جيستا دانوروم" Gesta Danorum (مآثر الدنماركيين) وهو وصف للأحداث تحت حكم ملوك الدنماركيين من أقدم التواريخ الأسطورية حتى فترة ما بعد عام 1200. يُعد العمل قوة أدبية على المستوى الأوروبي، وقد كتب باللغة اللاتينية المتأخرة من العصر الفضي العتيق.

إنه أقدم وثيقة مكتوبة للهوية الدنماركية، بقدر ما يتعلق الأمر بأقدم المواد، فإن العمل عبارة عن منجم ذهب للأساطير في المعالجة الشعرية. تم نشره في شكل كتاب وبالتالي حفظه مركز حقوق الإنسان للأجيال القادم’ "بيدرسن"  Pederse (باريس 1514) وترجمه لأول مرة إلى الدنماركية عام 1575 بواسطة "أندرس سورنسن فيديل"  Anders Sørensen Vedel. يُعد كتاب ساكسو مصدرًا رئيسيًا للشعر اللاحق.

بجانب العمل النثري لساكسو يوجد عمل لاتيني ضخم آخر لرئيس أساقفة دنمركي اسمه "أندرس سونسينس" Anders Sunesens الذي كتب كتاب "الأيام الستة" De seks dage كتبه إما حوالي عام 1200 أو ربما عام 1223 وهي قصيدة بأحجام سداسية حول الخلق والتفسير اللاهوتي المجازي للمخلوق.

عمل بارع للغاية ويشكل الجوهر الأساسي لوجهة النظر الكاثوليكية للعالم في العصور الوسطى. كان سونسينس خليفة "أبسالون" Absalon كرئيس أساقفة في "لوند" Lund. لم تُطبع  Hexaëmeron حتى عام 1892 وتُرجمت إلى الشعر الدنماركي في عام 1985. وHexaëmeron هو مصطلح يشير إلى نوع الأطروحة اللاهوتية التي تصف عمل الله في الأيام الستة للخلق، أو إلى الأيام الستة للخلق نفسها. غالبًا ما تتخذ هذه الأعمال اللاهوتية شكل تعليقات على سفر التكوين. أما كنوع أدبي فقد كان الأدب السداسي شائعًا في الكنيسة الأولى وفترات العصور الوسطى. تستمد الكلمة اسمها من الجذور اليونانية hexa- والتي تعني "ستة" وhemer- والتي تعني "اليوم".

الأدب العامي

إلى جانب هذا الأدب اللاتيني، هناك أيضًا أدب عام من العصور الوسطى. باعتبارها آثارًا تخص اللغة، يجب التأكيد على قوانين المناظر الطبيعية "قانون جوتلاند (1241)، وقانون نيوزيلندا، وقانون سكانيا" (Jyske Lov (1241), Sjællandske Lov, Skånske Lov) والتي تعد أيضًا مصادر مهمة تاريخية ثقافية. وهي أقدم مخطوطة للقانون الدنماركي لجوتلاند. قبل اعتماد هذه القوانين لم يكن هناك توحيد للقوانين في جميع أنحاء المستوطنات في الدنمارك. أدت الصعوبات في الحكم التي نشأت عن ذلك إلى اعتماد هذه القوانين الإقليمية الثلاثة. لم يوقعها الملك في جوتلاند، بل وقعها في القلعة الملكية في فوردينجبورج Vordingborg في أوائل عام 1241.

الأغاني الشعبية والقصص هي النوع الرئيسي في الأدب العامي في العصور الوسطى. حيث لا يوجد سوى عدد قليل من الأدلة المتناثرة على الأغاني الشعبية، لكنها كانت مكتوبة بالفعل في مخطوطات أغاني السيدات النبيلات في عصر النهضة.

كانت هناك آراء متباينة بشدة حول عمر المخطوطات، ولكن من المفترض أنها مؤرخة  من حوالي منتصف القرن الثالث عشر الميلادي وما فوق حتى بداية القرن الرابع عشر.

غالبًا ما يكون للأغاني الساحرة التي تشبه القصص الخيالية وأغاني الفروسية الشبيهة بالرواية، والتي تشكل الجزء الأكبر من تقليد الأغنية الشعبية، قيمة أدبية كبيرة من خلال التماس مع المآسي الحقيقية، أو الدعابة المنتشرة، أو مع الجوقات التي تلطف المزاج.

في سياق دولي، يُعتبر تقليد الأغنية الشعبية الدنماركية رائعًا بسبب الطابع المتجانس نسبيًا لهذا النوع مع الكتابات المبكرة جدًا، وأخيراً لأن الدنمارك هي الدولة التي تضم أقدم طبعات كتب من الأغاني الشعبية "أندرس سورنسن فيدلز (عرض مئة كتاب1951)، وميتي جويز (مأساوية 1657)، وبيدر سيفز (طبعة 1695).

Anders Sørensen Vedel's Hundredvisebog 1591، Mette Gøyes Tragica 1657 وطبعة Peder Syv 1695

حافظت طبعات الكتب على الأغاني الشعبية في تقليد شفوي، وأدبي لاحقًا، حتى القرن التاسع عشر. عندما أعادت الرومانسية اكتشاف الأغاني الشعبية، كان لها تأثير كبير على اللغة الغنائية حتى القرن التاسع عشر. وألهمت عدداً كبيراً من الشعراء لإعادة تقليد القصائد. منذ ذلك الحين أصبحت الأغاني الشعبية جزءًا حاسمًا من الهوية الأدبية الدنماركية.

عصر النهضة

استمرت فترة أدب المخطوطات (التي تم تداولها في نسخ) باللغتين اللاتينية والدنماركية، خلال القرنين الخامس عشر والسادس عشر الميلاديين. لكن فترة اختراق الأدب المطبوع كانت في عصر النهضة (القرن الخامس عشر مع استمراره حتى القرن السابع عشر).

لقد كان وقت الأعمال المكتسبة (المؤرخ أندرس سورنسن فيديل، والطبيب التأملي الأوروبي الشهير بيتروس سيفرينوس الملقب بيدير سورنسن، والفلكي والكاتب تايكو براهي وآخرين) historikeren Anders Sørensen Vedel, den europæisk berømte spekulative mediciner Petrus Severinus alias Peder Sørensen, astronomen og forfatteren Tycho Brahe mfl

عصر النهضة صادف مع فترة الإصلاح الديني اللوثري، وأدت إلى ظهور البروتستانتية. وكان لها أثر كبير على الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية في أوروبا، وكان ذلك وقت ترجمات الكتاب المقدس والترانيم في المقام الأول.

أُعطيت تراتيل الكنيسة الجديدة طبعة قياسية في كتاب ترنيمة "هانز تومسين" Hans Thomesen في عام 1569. كانت معظم الترانيم عبارة عن تعديلات وترجمات من الألمانية، ولكن في نهاية القرن حصل الإصلاح عند أول شاعر دنماركي  هو "هانز كريستنسن سثين" Hans Christensen Sthen على "كتاب سفر صغير" En liden Vandrebog عام 1590م، عبارة عن كتاب صلاة مع عدد من التراتيل الأصلية.

العديد من ترانيم سثين  بنغمتها البسيطة المتأثرة بالأغاني الشعبية لا زالت موجودة حتى يومنا هذا. توضح قصيدته التعليمية المتدينة "عجلة الحظ" Lyckens Hiul  وجهة النظر الأساسية التي حلت محل النظرة الجامدة للعالم في العصور الوسطى: العالم كمكان لا يمكن التنبؤ به وقابل للتغيير. يجب على المرء أن يهرب منه إلى العالم الميتافيزيقي.

عند مفترق الطرق بين عصر النهضة والباروك صاغ الكاتب والديبلوماسي الدنمركي "ديتليف أهلفيلد" Ditlev Ahlefeldt نموذج الحياة هذا بطريقة مثالية في مقدمة مذكراته حوالي 1680م. وكان أهلفيلد معارضا للاستبداد.

دخلت "ليونورا كريستينا" Leonora Christina ابنة ملك الدنمرك والنرويج "كريستيان الرابع" Christian 4 ، المتزوجة من "كورفيتز أولفيلدت" Corfitz Ulfeldt وسجنت في قلعة  "بلاتورن" Blåtårn لمدة 22 عامًا، في صراع مباشر مع السلطة الملكية المطلقة الجديدة.

إن كتابها "ذاكرة سيئة" Jammers Minde (الذي بدأ في 1673-1774، ولم يتم نشره إلا بعد قرنين من الزمان) هو شهادة إنسانية عظيمة عن ذلك الوقت، وكتاب يعج بتفاصيل الحياة، ممتلئ بالواقعية الجريئة التي ولّدتها النظرة إلى الحياة في ذلك الوقت.

عصر الباروك

ازدهر الأدب في عصر الباروك حوالي 1650-1720. أرادت الأوتوقراطية الجديدة تنظيم المجتمع، وبالتوازي وضع الأدباء قواعد للغة وفن الشعر. حتى القرن السابع عشر ظهر عدد كبير من القواعد النحوية والمقاييس والشاعرية الفردية، وكان من أهمها كتاب "بعض الأفكار حول اللغة الكمبرية" Nogle Betenkninger over det cimbriske Sprog عام 1663م، للشاعر الدنمركي "بيدر سيف" Peder Syv

وهكذا كان عصر الباروك هو العصر الذي استيقظ فيه الأدب كمؤسسة على الوعي بذاته. لقد أرادوا التنافس مع اللغات الأجنبية لإنشاء لغة أدبية يمكنها فعل شيء ما مثل الأطروحات اللاهوتية Hexaëmeron عام 1661م للشاعر والأسقف الدنمركي "أندرس أريبو" Anders Arrebo.

تتميز لغة وأشكال الأدب الباروكي ببراعة وقوة بلاغية كبيرة، وتكشف عن شهية للحياة، وتناسب مع الكلمة الغنائية المباشرة، وقابلية تغير السعادة، ويقين الموت.

كان هناك أدب علماني وديني في تلك الفترة. تضمن الأدب الديني المطبوع قصائد التكريم والجنازة على الطراز الكبير، مثل قصائد "توماس كينغو" Thomas Kingo والقصائد الطبوغرافية، وقصائد الراعي مثل قصائد "أندرس بوردينج" Anders Bording.

ظل معظم الشعر العلماني في ذلك الوقت غير مطبوع وتم توزيعه في نسخ. بلغ الأدب الديني ذروته في كتاب توماس كينجو مع "جوقة سيونج الروحية" Aandelige Siunge-Koor بين عامي 1674و1681م.

تزامن عصر "كينغو" مع شاعرة الترنيمة النرويجية العظيمة "دوروث إنجلبريتسداتر" بنص "أغنية التضحية بالروح" Siælen's Sang-Offer عام 1678م. ومواطنها "بيتر داس" Petter Dass. يمكن العثور على "الباروك العالي" Højbarok التعبيرية في كتب "إلياس نور" Elias Naur  مؤلف الترانيم وقصيدة الشعر "جلجثة على بارناسو أو صنوبر يسوع" Golgatha paa Parnasso عام 1689م.

الانتقال إلى عصر التنوير

خلال ذروة الحكم المطلق، اكتسب الأدب العلماني مع "لودفيج هولبرج" Ludvig Holberg شهرة دولية. مع عودته إلى الوطن من أسفاره في أوروبا، جلب هولبرج المدرسة الكلاسيكية في الأدب، التي طورت الأشكال البسيطة والنقية، وأفكار التنوير التي وضعت الإنسان والعقل البشري في المركز. بصفته مؤلفًا لأعمال التفكير القانونية والجغرافية والتاريخية والعامة، أراد هولبيرج "فحص الآراء المُفترضة" ونشر ضوء العقل.

بصفته مؤلفًا للكوميديا عن "المسرح الدنماركي" الأول "مسرح الشارع الأخضر الصغير" Lille Grønnegadeteatret  فقد أسس تقليد المسرح الدنماركي في 1722-28.

تشهد ملحمته البطولية الكوميدية "بيدير بارس" Peder Paars، أن هولبرج قيّم نطاق العقل على أنه محدود بشكل ملحوظ أكثر من الفترة اللاحقة من التنوير الفعلي. كانت نظرته الأساسية لا تزال تتميز بالنظرة المضطربة لعصر النهضة والباروك، مما يجعل أفلامه الكوميدية صورًا للحياة الواقعية العظيمة.

وضعت قصائد "مزمور التقوى" pietistiske salmedigtning لـ "هانس أدولف برورسون" Hans Adolph Brorson  الإنسان في المركز كنقطة مقابلة في مواجهة عقيدة القرن الماضي.

بدأ برورسون من العصر الباروكي وشارك إلى حد كبير وجهة نظره حول العالم المضطرب كما يمكن رؤيته من قصيدة  "سقوط لشبونة البائس"  Lissabons ynkelige Undergangعام 1756م.

كما أنه سعى نحو التجربة الصوفية لمواجهة تقلبات العالم. في ترنيمة "كنز الإيمان النادر" Troens rare Klenodie عام 1739م. وسرعان ما طور الأسلوب البسيط والصادق، وصوّر الرمزية المعقدة لولادة الروح من جديد من قبل يسوع.

يميز صوت "الروكوكو" rokokoklange الأنيق بشكل مذهل أغنية "سونغ سونغ" Svanesang التي نُشرت بعد وفاته، وهي شعر ديني مخصص للإخلاص الحميم.

كان العالم كرحلة (غير موثوقة) أيضًا موضوعًا بارزًا لـ "أمبروسيوس ستوب"  Ambrosius Stub الذي انبثقت من حياته الشعرية المتجولة مشاهد الترانيم التقوية، وأغاني الشرب، وأسلوب الروكوكو الذي بدأ في فرنسا في ثلاثينيات القرن الثامن عشر كرد فعل ضد أسلوب لويس الرابع عشر الأكثر رسمية وهندسية.

***

د. حسن العاصي

باحث وكاتب فلسطيني مقيم في الدنمرك

على مدى السنوات القليلة الماضية، تحدث نقاد الأدب في الولايات المتحدة الأمريكية بشكل متزايد عن الأدب الروسي الأمريكي "الناشئ"، ومن بين ممثلي هذا الأدب الأكثر إثارة للإهتمام الكاتبة الروائية  أولغا غروشينا، التي نجحت في  لفت الأنظار إليها منذ نشر باكورة أعمالها الروائية " حلم حياة سوخانوف "(2006) التي أشادت بها كبريات المجلات الأدبية الأمريكية والبريطانية، وتم إدراجها ضمن "أبرز مئة كتاب لعام 2006" (وفقًا لصحيفة نيويورك تايمز). في عام 2007  أدرجت المجلة الأدبية البريطانية المرموقة "غرانتا"  أولغا غروشينا في قائمتها المحدثة لأول مرة منذ 10 سنوات، أفضل الروائيين الشباب في الولايات المتحدة.

تحدثت غروشينا عن سيرتها الذاتية على موقعها الألكتروني، وفي العديد من المقابلات الصحفية، وهي تؤكد باستمرار على تفرد المسار الذي قادها إلى أمريكا. روايات غروشينا وسعت الفجوة الواضحة بينها وبين بقية الكتاب الروس الأمريكيين من جيلها، فهي على عكس معظم هؤلاء، الذين تدور رواياتهم حول سيرهم أو تجاربهم الذاتية المتخيلة، اتبعت غروشينا مسارًا جديداً، وهي الكتابة عن وطنها الأم دون الخوض في تفاصيل حياتها الشخصية، وخلقت في رواياتها أبطالاً لا يشبهونها. وهي تكتب  ببطء ولكن بعناية، رواية كل خمس سنوات باللغة الإنجليزية. صدرت لها لاحقاً ثلاث روايات أخرى: " الطابور" ( 2010) التي نشرت في المملكة المتحدة تحت عنوان " تذكرة لحفل موسيقي" وهي تحمل نفس عنوان رواية فلاديمير سوروكين ولكنها كتبت بأسلور مختلف تماماً، و"أربعون غرفة" ( 2016"، و " الزوجة الساحرة" ( 2021). ترجمت أعمالها إلى خمس عشرة لغة بضمنها الروسية.

ولدت أولغا غروشينا في موسكو عام 1971لعائلة بوريس غروشين، عالم الاجتماع السوفيتي البارز، وأمضت معظم سنوات طفولتها في براغ، تشيكوسلوفاكيا. درست الضحافة في جامعة موسكو الحكومية قبل حصولها على منحة دراسية في جامعة إيموري في عام 1989. تخرجت بامتياز مع مرتبة الشرف في إيموري عام 1993. حصلت على الجنسية الأمريكية في عام 2002، لكنها تحتفظ بالجنسية الروسية. عملت غروشينا في مهن عديدة (مترجمة فورية لجيمي كارتر، ونادلة كوكتيل في حانة لموسيقى الجاز، ومترجمة في البنك الدولي، ومحللة أبحاث في مكتب محاماة في واشنطن العاصمة، ومحررة في مكتبة ومجموعة دومبارتون أوكس للأبحاث بجامعة هارفارد.وفي الوقت نفسه نشرت قصصا قصيرة في بعض المجلات الأميركية قبل نشر روايتها الأولى.

"حلم حياة سوخانوف "

كان أناتولي بافلوفيتش سوخانوف ذات يوم فنانًا سريالياً واعداّ، يستمع بشغف إلى موسيقى الجاز، ويتابع نتاج الفن الغربي بإعجاب، ويدرك حقًا قوة الفن، التي وصفها بهذه الكلمات: "صمت طويل رنان يملأ سمعك، يقف العالم ساكنًا، كما لو كان تحت تأثير تعويذة سحرية، و تتدفق الأفكار والمشاعر بحرية من خلال كيانك. تجد نفسك قد تغيرت، تغيرت بشكل لا رجعة فيه، ومنذ ذلك الحين، سواء كنت تريد ذلك أم لا، تمضي حياتك في اتجاه مختلف".

نشأ سوخانوف إِبَّانَ  سنوات الرعب الستالينية، حيث يمكن للرجال من ذوي "الظهر الجلدي العريض والأحذية السوداء المصقولة" أن يأتوا بسهولة إلى بابك في الليل. عندما كان سوخانوف طفلاً، رأى والده يقفز الى حتفه من النافذة، وشاهد آخرين وهم يساقون من قبل السلطات الى المنافى أو معسكرات الإعتقال أو يتم زجهم في المصحات العقلية.

يرتبط الصراع بين الإخلاص للفن وبين الأمن الشخصي والنجاخ المهني بالاهتمام المركزي في رواية غروشينا : العلاقة الإشكالية بين ماضينا وحاضرنا، وكيف أن حياتنا لا تتطابق دائمًا مع مُثُلنا العليا. تضخم هذا المأزق في وعي سوخانوف، عندما واجه الحقائق المرعبة عن إضطهاد الفنانين الأحرار، فقد كان النظام السوفيتي قوة كارثية يالنسبة إلى أي مبدع حقيقي، يضطر تحت وطأتها إلى الاختيار بين حرية الإبداع والحياة الآمنة. لم يجد سوخانوف حلاً لمخاوفه المدمرة، سوى أن يدير ظهره لموهبته، ويتخلى عن أحلامه في الإبداع الفني، ويتخذ قراراً سيئاً بحق نفسه، بالإنضمام إلى الحزب الحاكم والعمل حسب توجيهاته. 

في عام 1963، عندما كان في الرابعة والثلاثين من عمره، تحول إلى ناقد فني وحظي بمباركة القائمين على الشؤون الثقافية، بعد أن إنتقد في مقالاته الإتجاه السريالي في الفن التشكيلي، ووصفه بأنه جنون و" خيانة للشعب"، لأنه بزرع اللامبالاة المنحطة في النفوس، ويتناقض مع مبادىْ الواقعية الإشتراكية والتربية الفكرية والجمالية للشغيلة. أرتقى سوخانوف مهنياً، وتولى رئاسة تحريرالمجلة الفنية الأولى في الإتحاد السوفيتي " عالم الفن" بدعم والد زوجته الفنان بيوتر مالينين، صاحب النفوذ الكبير في عالم الفن السوفيتي. كانت المجلة تلتزم بالأوامر الحزبية، وتتجاهل كل فنون العالم تقريبا، وتهاجم الفنانين التجريديين والسرياليين - الذين ألهموه ذات يوم - لصالح لوحات لفتيات فلاحات ينقلن البطاطس بفخر. سوخانوف يقضي وقته في مراجعة ونعديل المقالات المعدة للنشر، وحذف أي إشارة إلى الانجيل أو أي ديانة أخرى،أو أسماء الفنانين المدرجين في القائمة السوداء، وإضافة اقتباسات من ماركس ولينين، وانتقاد اللوحات الفنية لعصر النهضة (الدينية) والانطباعيين (البرجوازيين). يمكنه أيضا أن يشرح بسهولة "الفرق بين دالي، الفاحش بحكم ولادته الأجنبية... وشاغال، الذي اختار مغادرة روسيا وتحول إلى شخص يثير السخط".

يتمتع سوخانوف لقاء خدماته للحزب بالعديد من الامتيازات: يعيش هو وزوجته الجميلة نينا مع طفليهما في شقة كبيرة في أحد أرقى أحياء موسكو، إلى جانب منزل صيفي في الريف. ويستخدم سيارة حكومية فارهة لتنقلاته، مع سائق شخصي يرتدي قفازات من الشامواه، في حين يعيش ملايين المواطنين الروس العاديين في شقق مشتركة مكتظة. نلتقي بأفراد عائلة سوخانوف  لأول مرة، وهم في طريقهم إلى الافتتاح الكبير لمعرض لوحات بيوتر مالينين المرسومة وفق معايير الغن الواقعي الإشتراكي. تحرص الكاتبة على الإشارة إلى أنه لم يكن هناك فتور في المشهد الثقافي في موسكو في هذا الوقت، ولكن الفن كان مقيدا للغاية ومتزمتا وبلا معنى. هنا يكمن جذر أزمة سوخانوف، الذي يتجلى أولا في شكل أحلام وذكريات لا إرادية

في عام 1985، تتعمق أزمة سوخانوف الشخصية بسبب التحولات السياسية والتاريخية والثقافية التي تحيط به في فترة البريسترويكا.لم يشعر سوخانوف بهذه التحولات بشكل مباشر في البداية، حيث عزل نفسه عما يجري خشية الكشف عن ماضيه الإشكالي وهذا العزل الذاتي  حجب عنه الحقائق المستجدة في بلاده. وبدت له الأحداث الجارية غير منطقية - لكن القارئ يرى أنه تآكل حتمي ومتأخر لأوهامه. لم يكن أحد يعرف إلى متى سيستمر هذا التحول، وما إذا كان يمكن الوثوق به. يتغير مسار الحياة الطبيعية لسوخانوف، عندما يعجز عن إدراك مغزى التحولات الجارية في البلاد، ولا يستطيع أن يفهم أسباب ما يحدث له. في غضون فترة قصيرة، يتحول حياته المرفهة والمريحة إلى أنقاض: يكتشف أن ابنته هي عشيقة رجل متزوج، وابنه دبلوماسي إنتهازي، وزوجته، التي عاش معها بسعادة لمدة عشرين عاما، تنتقل للعيش في القرية، لأنها في حاجة إلى قضاء وقت بمفردها، علاوة على ذلك، يفقد منصبه كرئيس تحرير مجلة مرموقة، بعد أن أصبخ عائقا أمام العهد الجديد.عهد الشفافية والحرية. كل هذه المتاعب تقوده إلى الانهيار العصبي. وإذا كان سوخانوف نفسه مرعوبا من كل هذه التغييرات والتناقضات، فإن الجميع يعتبرونها أمراً مفروغا منه

تغوص الرواية في سيرة سوخانوف منذ نشأته الأولى، مروراً بحياته المرفهة، حتى إنهياره، وتفكك علاقاته الأسرية.السرد الذي يبدو عاديا في البداية، سرعان ما يأخذنا إلى سلسلة من صور الأحلام الغريبة..يتم وصف حياة بطل الرواية على مستويين زمنيين – أحداث الحاضر وذكريات الماضي - اللذان يتداخلان في كثير من الأحيان بشكل غريب، حبث بتشكل مستوى ثالث مبطن، يذكرنا بأعمال غوغول وبولجاكوف.كما يتغير الراوي من وقت لآخر من الشخص الثالث إلى الأول، لكن هذا التغيير سلس ومترابط، ولا يحوّل الرواية إلى نصوص من أجزاء غير متماسكة، كما هو الحال غالبًا في النثر الفني الحديث.

رواية روسية خالصة

قد يبدو أن الرواية المكتوبة في أمريكا باللغة الإنجليزية، لا علاقة لها يالأدب الروسي، وإن كان بطل الرواية يحمل لقباً روسياً.والحقيقة هي أن رواية " حلم حياة سوخانوف"، أكثر صلة بالأدب الروسي من الروايات المكتوبة باللغة الروسية من قبل مشاهير الكتاب الروس المهاجرين، مثل ميخائيل شيشكين المقيم في سويسرا أو دينا روبينا المقيمة في إسرائيل. هذه رواية روسية خالصة مشبعة بالأدب والثقافة الروسيين وتتناول الواقع السوفيتي. لا يسع المرء إلا أن يتساءل لماذا نالت هذه الرواية اعجاب الأمريكيين؟. ربما لأن حبكتها شائقة، ولغتها العميقة البارعة ليست الإنجليزية، بل الروسية.: بالنسبة للغة الإنجليزية، تبدو الرواية غريبة إلى حد ما، ولكنها لا تبدو كذلك بالنسبة إلى اللغة الروسية. تقول الكاتبة في إحدى مقابلاتها الصحفية :" للحفاظ على هوية النص الروسية كنت استخدم بعض العبارات الروسية، في إطار قواعد اللغة الانجليزية، إلى جانب تبني طريقة التفكير المحلية للجيل الروسي، ورجال المخابرات السوفيتية في الستينات بصورة خاصة، حيث يتكرر في حياتهم اليومية، وفي مختلف المواضيع، استخدام كلمات مثل الروح والجمال والحقيقة.

أثارت الرواية العديد من المقارنات مع أعمال فلاديمير نابوكوف، ليس فقط لأن المؤلفة مهاجرة روسية تعيش في أمريكا، ولكن بسبب أوجه التشابه في استخدامهما للغة الإنجليزية. كلاهما يكتب بأسلوب يختلف تماماً عن أساليب الكتاب الأمريكيين المعاصرين. هنا تواصل غروشينا تجربة نابوكوف، الذي كتب بلغة إنجليزية جميلة، ولكنها غريبة نوعا ما بالنسبة إلى الناطقين بهذه اللغة، حيث برى بعض النقاد الأمريكيين أن نابوكوف كاتب عظيم على وجه التحديد بسبب الابتكار اللغوي، وليس بسبب محتوى رواياته. ويكتبون عن لغة نابوكوفية خاصة. غروشينا ليست نابوكوف،.بصرف النظر عن أوجه التشابه على مستوى اللغة   فهي أكثر تقليدية منه  في اسلوبها الفني، وأكثر إنسانية تجاه شخصياتها، ولا تعاملهم أبدا، كما تعلمل نابوكوف مع شخصيات رواياته، بصفتهم"عبيد مطبخ الكتابة". ومن المثير للإهتمام تعاطف الكاتبة مع سوخانوف على الرغم من عيوبه الأخلاقية العديدة. ولا تنسى الكاتبة التطرق إلى الطرائف، التي كانت شائعة في زمن البريسترويكا. يسخر رجل عجوز قائلا:" لا جدوى من قراءة الصحف في الوقت الحاضر. "أتذكر... عندما كنت أستيقظ كل يوم لأقرأ عن بطل جديد في العمل الاشتراكي أو مزرعة جماعية ذات أداء فائق. كان قلب الانسان دائمًا مليئًا بالبهجة والفخر ببلده..." آه. أين اليوم رواد العمل في المزارع الجماعية؟.

إذا تعمقنا في لغة رواية غروشينا ، نكتشف انها لغة النثر الفني الروسي الكلاسيكي. لغة رفيعة،ولكنها تقليدية قريبة من لغة الكاتب والشاعر الروسي إيفان بونين (1870- 1953) الذي كان أول كاتب روسي بفوز بجائزة نوبل في الأدب عام 1933..

فعلى سبيل المثال يدل هذا المقطع من " حلم حياة سوختنوف" على مدى تأثر غروشينا بالنثر الفني الجميل لسلفها العظيم، خاصة في وصف الطبيعة:" "ثم قادته إلى الحديقة. تجولا معًا على طول المسارات المتعرجة بين أحواض الزهور وأحواض الخضار وشجيرات عنب الثعلب. أرته أزهار القطيفة متوهجة صفراء وبرتقالية، وأكوام من الأغصان في الحفرة خلف الحظيرة حيث رأت قنفذًا عجوزًا قبل يومين، والأوراق الملساء المصقولة من وردة شاي نادرة، مرصعة بالبراعم الجاهزة للتفتح. تخلف خطوة، أومأ برأسه عندما ذكرت نباتات غير مألوفة له، وبدا له أن مشاعره كانت منسجمة مع أكثر التغييرات غير المحسوسة، التي كانت تحدث في الكون. مع برودة تستحوذ على الأعشاب تدريجيًا، مع أول بادرة لرطوبة المساء تتسلل إلى الهواء، مع التدفق المحسوب للوقت واللون، حيث أفسح الذهب الأخضر لأوراق الشجر المتمايلة في فترة ما بعد الظهيرة العاصفة، الطريق للون الفضي الأرجواني الشفاف، مع حلقات رقيقة من الدخان تتصاعد من السقف المجاور، التي تفوح  برائحة الأوراق المحترقة،القابضة للنفس".

***

د. جودت هوشيار

بطلة الرواية حنان تسردُ أحداثَها بضمير الأنا، لغتُها جميلة وجمالها عفويّ ينبع من خلق جوّ يشكّل عامودًا فقريًّا للأحداث بتصوير مقنع يفوق بمشاهِدِه فيلمًا رائقًا يَدمِج بين الواقعيّ والمتخيَّل، فوصفَت الناس الذاهبين إلى أعمالهم ومصالحهم " شعرتُ بنبضِهم ووقعِ خُطاهم على الطريق" ص12.

لغة الرواية لم تختبئ وراء الاستعارات ولم "تحرّر نفسها بالاستعارات"، بل كانت استعاراتُها وكناياتُها تلقائيّة طبيعيّة منسابة. أمّا فصل "نثار الذكريات" فإنّه يلفّ الرواية بشعاع يُغري القارئ بشعور وكأنه يقوم بكتابة الرواية بنفسه.

أرض الرواية ومكانها مدينة القدس وضواحيها، وهذا ليس مؤشِّرًا على الإطلاق بأنّ الرواية سيرة ذاتيّة، بل هو مشهَدٌ صادِقٌ مُبهِر وجريء كتَبَتْهُ من وُلِدَتْ في القدْس وأرادَتْ دفْعَ هذه الأجواء المقدسيّة إلى نصٍّ روائيّ ونشرَها وتَعْليةَ شأنِها. بحثتُ عن سيرة الكاتبة بشير وعَلِمْتُ أنّها عمِلَتْ في الصحافة العالميّة في بريطانيا ودول الخليج وعاشَتْ وتعيش حُرّة طليقة تمارس حُرّيَّتَها بوعْيٍ ونُضْج يليقان بامرأة مثقّفة تعبِّرُ عن فكرِها الحُرّ بجُرأةٍ لافتة.

تركّز الكاتبة على التقاليد الاجتماعيّة بذكاء فائق حين ذكرت المثل الشعبي: "البنت الحرّة مثل الذهب في الصرّة" ص19، وبعدها ذكرَتْ القيود الاجتماعيّة والفروض القاسية المُلقاة على كاهل البنت منذ ولادتِها والتي تمنعُها منَ التفكير، وجعلَت القارئ يستنتج بنفسه ويتساءَل: أين الحريّة؟

أبرزت الرواية أيقونةَ الأمّ في شرقِنا والتي تُستخدمُ أداةً لاضطهاد وإسكات البنت، ص22-23 " كانت أمّي تحتضِنُني في حبس أمومي يسعدني"، "وارتسمَتْ على وجه أمّي علامات القائد الذي لا بدَّ أن يُطاع".

شخصيّة غادة، الأخت المتسلّطة الحسودة، تقرّب السردَ الروائيَّ من الواقع وتُحيلُ مسألة الأخوّة وقرابة الدم إلى أيقونة صدئة. وشخصيّة غادة، أيضًا تمثّل النتائج النفسيّة الكارثيّة على البنت بسبب القيود والفروض المجتمعيّة التي تجعلها جارية يُحسب لها مظهرُها فقط ويعتبرُ الأهل والمجتمَع عامّةً جمال البنت بمظهرِها ويُقيِّمونَها طبقًا لذلك، مع تغييبٍ تام لجمال الروح والنفْس وهذا يمنعُ البنات والشباب من التفكير الحرّ وتَسودُ ثقافةُ القطيع! لم تكن حنان ضحيّة غادة فَحَسْبْ، بل كانت غادة، هي أيضًا، ضحيَّة وهذا أضفى على قضيّة اضطهاد المرأة بُعْدًا مضاعَفًا مثيرًا للتفكير!3344 صباح بشير

تسمية المضطَهٍدين بالغُرَباء كانت تلميحًا ودلالةً أنَّ النصَّ أدبيٌّ وليس سياسيًّا. مشاهد الحقد والعنف والظلم الذي يمارسُهُ "الغرباء"، من ناحية، رسّخَتْ حبَّ الأرض في نفوس الناس ومن الناحية الأخرى لم تتركْ مجالًا ولا حيّزًا لحُرّيّة التفكير الجماعي والفردي على السّواء. إن التداخُلَ بين المشاهد الاجتماعيّة والسياسيّة تِباعًا وأحيانًا في نفس الفصل، زاد الطين بلّة وجعل التقاليد والفروض أقسى وحجّرها في مكانها، فاتّخذت العقليّة الأبويّة وجودَ "الغُرَباء" كذريعة لإبقاء الوضع الظالم للمرأة كما هو. من سُلِبتْ منه الأرض والسيادة عليها تشبَّثَ بالتقاليد والمسَلَّماتِ البالية، بديلًا! 

ص42-43 برزت صورة الأمّ المسيطرة على أولادِها وعلى زوجِها البسيط الهادئ وقليل الحركة، فأعادت إلى ذهني قضيّة "العقليّة المضطهَدة" التي بحثها عالِم التربية باولو فريري وملخَّصُها أنَّ المضطَهَد يمارسُ مع الآخَر، باللاوعي، نفسَ الاضطهاد الذي وَقَعَ عليْهِ ...

بعد انصراف أهل عمر عندما زاروهم لخطبتها، قالت حنان ص44 "نعم انصرفوا، ولكنَّ وجوههم بقيت تلوح أمامي، بثرثرتهم وأفواههم التي أراها تتحرّك، ولكن دونما صوت يُسمع، رأيتُهُم في سقف الغرفة وأنا مستلقية على السرير أحاول يائسةً أن أغمض عينيّ وأخلد للنوم، فأدورُ يمينًا ويسارًا لأجدهم على جدران غرفتي، وجوهًا ثرثارة تلتفّ حولي". هذا المشهد الفائق دراميٌّ "أليچوري" ينبع من عُمْقِ ذات حنان وينفع نصبًا تذكاريًّا للحرّيّة الميّتة.

حنان تكتشف التناقضات الداخليّة عندها، ولكن بعد فوات الأوان وهذا شأن من ينقصه/ا الوعي الذاتي وحرّيّة واستقلاليّة القرار والقدرة على التفكير في كلّ نواحي حياته/ا. والجريمة السياسيّة الأقسى هي إضافة طبقة اسمنتيّة على سطح التقاليد، وتمَّ قبولُها لأنّ الجرائم السياسيّة نفّذها الغُرَباء.

ص51 تحاول الجارة أم إبراهيم التغلّب على عُسْف وعُنْف الجمود العقائدي الاجتماعي ولكنَّها لم تَفْلَح!

لغةُ الرواية حيّة، جمادها ينطق بأبعد من معانيها: "الأماكن أيضًا كالبشر لها أحضانُها التي تهبُنا الكثيرَ من الحميميّة والدفء والحنين، إنّها لغةٌ خاصّة لا يفهمُها إلا القليل". ص58، وبالتضمين، نفهَمُ أنَّ عمر وأمثالَه من الرجال لا يفهمونَ الحميميّة التي تهبُها الأماكن! اقتباس آخَر ص63، "صديقتي ماري تحمل فكرًا واعيًا وعقلًا مستنيرًا" والإيحاء، في الحالتَيْن، واضح! بعيدًا عنِ الحَشْو واحترامًا لذكاءِ القارئ!

إنّ الفروضَ الاجتماعيّة العقائديّة التي تربّتْ عليها حنان ولم تستطِع أن ترفضَها أو تقاومَها تغذّت من اضطهاد الغرباء كحجّة، ولم تستطِع أن ترفضَها! وتقوى أمام طُوفانِها. وهذا الوضعُ جعلَ زوْجَها الجاهل، بدعمِ كلّ مَرافِق بيئتِهِ العائليّة والعقائديّة، يهزمُها وينالُها وينالُ منها، دون ذرّةِ حبٍّ أو عطف تجاهَها. لم يقفْ سلاحُ المعرفة والثقافة أمامَ بُنيان التقاليد والفروض التي بَنَتْها قرون من عدم التفكير! وهذا البُنيان مبني على جبلٍ يدحرجُ حجارتَه ويطلقُ ينابيعَه في كلِّ اتجاه لكي يضربَ المرأة ويجرفَها ولا يبالي بوجودِها، في حين أنّها بحاجة ماسّة لعائلتِها ومجتمعِها! فكيف لنا أن نلومَ الضحيّة التي غَرِقَتْ بهذه الينابيع وفقدَتِ القدرةَ على التنفُّس أمام التقاليد والعادات والفروض والعقائد التي تتربّعُ على عرشِ مجتمعِها!!

تسير الرواية في أربعة مسالك متوازية: حياة المرأة الفرد - حياة العائلة – حياة المجتمع وفروضُهُ – والوضع السياسي الظالِم في البلد. وحياة حنان أيضًا، تحيطها أربع دوائر متفاعلة في هذه المسالك. هذه المسالك الأربعة تشكّل دربًا تسير فيه الرواية ويسير مَعَها القارئ متعرِّفًا على كلِّ محيط هذا الدّرْب!

الموجات الديناميكيّة في الرواية تجعل منها مأساة وملهاة في حركة دائمة دائريّة وخطّيّة متزامنة. هذه اللولبيّة في دوائر انتماء حنان تتدفّق إلى الأمام في المسالك الأربعة المتوازية. والكاتبة صباح بشير نجحت ببثّ ضوء كاشف على داخليّة ذات المرأة الفلسطينيّة رغم الظروف المركّبة التي تعيشها، الذاتيّة والعائليّة والتقاليد والبلد والظلم والاضطهاد الواقع عليه. كلّ هذه المسارات تفاعلَتْ بطبيعيّة انسيابيّة مذهلة. وكانت هذه التفاعلات تتقاطع وتتوازى برقصة غجريّة على الحبْل وتنثرُ سحرَها على اللغة والمشاعر والحميميّة التي تتجلّى في أعماق النفس، والكاتبة جعلَتْ تجلّيَها ظاهرًا ساطعًا كالشمس، دون رتوشٍ ودونَ تقبيحٍ أو تجميل، فكانت نهاية تراجيديّة دراميّة صاخبة التجلّيات، نهاية لا تشبهُ النهاياتِ السعيدةَ ولا تشبهُ النهاياتِ التعيسة وتدعو القارئ/ة إلى غَزْلِ نهايةٍ أخرى ودراما أخرى تغلقُ الدائرة، وحياة أخرى يكمن جمالُها في معاناتِها ويسطعُ "شروقُها" من موتِها!

مباركة لنا ولك يا صباح بشير هذه الرواية وهذه التجلّيات التي تليق بالنفس البشريّة الحرّة.

***

سلمى جبران – كاتبة وناقدة فلسطينية

الماهوية الاجناسية ونواة المشخص السردي في اللارواية.. الفصل الأول ـ المبحث (3)

توطئة: ان مبعث دقة مشروعية آليات رواية (انقطاعات الموت) لساراماغو، همت إلى نقل قارئها إلى مراحل تشاطرية بالتصديق الواهم الذي جعل من عموم علاقات غياب الموت وحضوره، كأداة سيمانطيقية خاصة بنوعية محاور ربطية شبه مفتعلة إلى كونها ارتبطت بآليات السارد العليم كفرضية كيانية محتملة في أوج زيفها وزورها الواهم.إن ضروب الاختلاف التفصيلي في أدوات الرواية جعل من مادة موضوعاتها حكرا على مصداقية السارد العليم وحده لها، لذا بدت في أوج مراحلها الأخيرة وكأنها تعالج جملة تمثيلات ارتبطت بعلاقات أكثر إيغالا بالافتعال واستثنائية كون ممارستها الدلالية لا تخلو من محددات معينة في اللازمن واللامكان واللا العاملية الشخوصية، أي إنها فضلت ـ أي الرواية ـ أن تكون بذلك المستوى الاخباري الحاشد بصوت الزهد ومثاقفة المتصلى بمركزية ثنائية (المؤلف = السارد) شرحا ووصفا وتواصلا بالبنية الحكائية نحو تدابير متشعبة من الملفوظ ومنعطفاته الاسقصائية بوسائل الاقتضاء والربط بجملة ووحدة ومستوى من تحولات أوجه السرد الملزم بالمتوليات الخارجية من الخطاب الخارجي. وعبر هكذا جملة متواليات سردية، تبين لنا أن سلسلة صياغات المحكي ترتبط بوحدات إجرائية مؤولة ومركبة، كثيرا منها ما تعدى وظائف الرواية ومفترض الشكل والأداة الروائية، لتدخلنا في مستوى بعيدا عن ساقية (الزمانية ـ المكانية ـ الاحوالية) وقبل الخوض في شواهد من الانماذج النصية في بعض من المراحل الأخيرة من (رواية اللارواية) يمكننا الاشارة بالقول بأن أسلوب (جوزيه ساراماغو) في حدود تجربة (انقطاعات الموت) لا يعد من الخواص في صناعة الشروط الروائية الاجناسية الكامنة والمتكاملة، بقدر ما كان يسعى الروائي إلى تقديم تجربته في هذا النص السردي ضمن شرائط نتاج (اللارواية) أو لربما هي تجربة خارج نمطية الرواية التقليدية الموزعة بين (بداية ـ حبكة ـ عقدة ـ شخصيات ـ نهاية) لذا أقول ان من الواضح أن أدوات ساراماغوا مفتوحة على مستوى من الميتاروائي الذي راح يتكفل بزمامه صوت السارد وحده، دون إظهار إلا نخبة هامشية من الأدوار الظلية من الشخصيات: (بما إنك لم تخرج قط من هذه القاعة، فإنك تجهل ما الذي يستخدم في هذه الأيام. / ص208 الرواية) وبما إن ضروب التحاور بدت أكثر إحالة في القيمة التعليلية، لذا بدت معها كل الانماذج الشخوصية متحاورة في مجرى وقائع أكثر خارجية بأداة التأويل الضمني.وعلى هذا النحو تتحدد لدينا أفعال الأصوات المتحاورة كهيئات متداخلة ومتفارقة في الإحالة والسياق والنوع الخطابي، خروجا على درجات قيود الشكل والترتيب البنائي والمحصلة المضمونية الدالة.

ـ الموت والااستراتيجية الجديدة في نزع الحياة

وحتى تتميز خاصية وسائل الموت بأعتباره النموذج الأخص الذي لا تحصى مقاديره في استدعاء كل من يوجد ضمن نطاق استجابته، لذا صار من الضمنية والسرية والتقانة الممكنة أن يستدعي الموت كل من قد حان أجله إلى مراسلته في حدود مسلك أقرب ما يكون إلى موظف ساعي البريد: (لحسن الحظ أنني رأيتك يا سيد فلان، فأنا أحمل رسالة لك، وعلى الفور يظهر بين يديه مغلف بنفسجي ربما لا يستثير اهتماما خاصا في البدء، إذ يمكن أن يكون سفاهة أخرى من سادة الدعاية المباشرة، لو لا الحظ الغريب الذي كتب به أسمه، الشبيه بخط الفاكس الشهير الذي نشر في الجريدة ./ص140 الرواية) تتميز مخيلة ساراماغو بطاقة تأليفية تعتمد تقديم كل المقتضيات التحاورية في بنية شرائط المحكي.وبشكل واضح فهذا الاسلوب من النوع الأكثر دمجية في أنساق الحتمية في مفهوم السرد.لذا فإن علاقة المرسل برسائل الموت غالبا ما تتسبب بحالة من المرسل إليه أو بما يشابه عملية القبض على الروح وإخراجها من البدن.وبمجرد شروع ذلك المرسل إليه بفتح ذلك المظروف البنفسجي الكئيب الذي يحتوي بداخله ورقة مخطوطة بخط ركيك وغريب: (الرجل يقف هناك ثابتا، وسط الرصيف، بصحته الرائعة، ورأسه المتين وفجأة لم يعد العالم ينتمي إليه أو هو لم يعد ينتمي إلى العالم./ص141 الرواية) هذا الأمر الذي تعرض له أغلب الشخوص ممن تسلموا تلك الرسالة البنفسجية.

ـ إشارات الهامش الشخوصي ومقتضيات زمن الراوي .

لعل أن فعل القراءة للمتلقي لأهم مراحل (متن ـ مبنى) لرواية ساراماغو، يعاين ذلك الراوٍ المستفحل على مناصات ومقتبسات وإحالات العلاقات الوظائفية في البنية الدلالية في النص، ولدرجة وصول التوتر إلى أعلى مستوى من الوحدات السردية المكنونة في الشكل التجريبي ومقاصده الروائية .يمكننا القول هنا بأن نص الرواية (انقطاعات الموت) من النصوص التجريبية التي أحدثتها الحساسية الجديدة في النوع الروائي، وذلك لأن أغلب وظائف النص لا تتحلى بأقل تقدير إلى سلامة النوع في الرواية النمطية، لذا ظل حدوث أنساقها في علامات (أصوات مروية) عن مخيلة (السارد العليم ـ المؤلف) اللذان اختارا موضوعة الموت (حضورا ـ غيابا) كعلامة تجريبية في تثوير منظور فضاء اللاملامسة المباشرة له مع إدراك الذوات اللافعلية ومسارها المسرود في الحيز اللاروائي.

1 ـ الرواية وصناعة النوع التفاعلي في النسيج اللاروائي:

لعل أهم الأنواع السردية تحديدا هي الرواية، وذلك لكون هذا النوع أكثر شمولية وانفتاحا في شكله وعلاقاته ومكوناته بدءا من الحكاية إلى المتن وحتى مبنى الخطاب. تقودنا الأبعاد الاسلوبية والبنائية في عالم الرواية (جوزيه ساراماغو) إلى التعرف على تجربة مطروحة بكافة منطلقاتها في الرؤية والشكل والمضمون ـ تغايرا وتحولا ـ فالنوع الشكلي الذي اعتمده ساراماغو عبر روايته (انقطاعات الموت) مكفولا بتضافر الوحدة المسرودة على موقعية (الراوي ـ الاخبار ـ إجمالية السرد) وهذا التضافر في نوعه أخلى النص الروائي من أهلية مقوماته الروائية كـ (الزمن ـ المكان ـ الشخصية) ما راح يتجلى أمامنا ذلك الاطراد بمحتوى صوت السارد العليم وهو يتبنى جل عرض تجليات المحتوى في المكاشفة والتمثيل، وليس في محض علاقات متكونة من الأدوار الشخوصية وما تتبعها من مؤهلات تقليدية في فن الرواية.

ـ تعليق القراءة:

أقول في ختام دراسة مباحثنا لرواية (انقطاعات الموت) من أن النهايات العقدية للقرن العشرين برزت لنا أسلوبا جديدا في التجربة الروائية (الانجلو ـ امريكية) وقد ارتبط هذا الاستحداث الروائي بمفهوم الحداثة التي منحتنا هويات نوعية للشكل الروائي، وقد تعارف هذا الاتجاه لدى نقاد الرواية بما يسمى (ما بعد الحداثة) وهذا الوضع التحولاتي وضعنا إزاء مهارات جمة في الكشف عن بنيات روائية ذات أبعاد نوعية اهتمت بإضفاء (الميتانص) داخل مستويات وآليات أصعدة البنية الروائية، وبهذا يصبح (الميتاروائي) محددا داخل أوجه بنيات صغرى وكبرى في المتن الروائي ذاته، كما الحال عليه في مستوى تجربة وحدات ودلالات نص (انقطاعات الموت) ففي هذه الرواية ـ اللارواية ـ تبرز جوانب خاصة من مجرى المحكي المعدول بمتفصلات وقائع صوت (المؤلف ـ الراوي) إي أننا نجد أقوال الشخوص وأفعالها منظومة داخل الصوت السردي (الخارجي ـ الداخلي) اقترانا بموقع السارد الذي لا ينفك عن تقديم المادة المحكية عبر صورة البعد الذاتي للراوي والمؤلف من خلفه.ولأجل توسيع أفق المقاربة أقول بأن أغلب روايات ساراماغو يمكننا قراءتها على أساس من كونها وحدات نصية مسكونة بسلطة السارد العليم حيث تحكمها طرائق (ميتاروائية) منظورة ضمن مشروع فرض المغاير كرؤية انسجامية ـ تفاعلية، مع تحولات الآفاق النصية الموغلة بالعلامات والاشارات التعاقبية واللازمنية الواقعة بين حقيقة مرجعية النص ومقاصده التمفصلية الجديدة المتأرجحة بين صوت النص ومحموله المضمر خارج اللأطر النمطية من مصفاة المشخص في نسيج نصوص اللارواية.

***

حيدر عبد الرضا

ربما البيان السياسي لم يؤطر الحالة العامة للأوضاع الاجتماعية الطافحة على المسرح السياسي وواقع الحال السائدة، التي تأخذ بخناق الواقع والإنسان بشكل كامل بالوصف والتصوير، لكن نجد الصياغة الشعرية لهذه القصيدة (ما قالته حذام) بكل تقنياتها الشعرية الحديثة، نطقت بلسان مجريات الواقع بالمكاشفة الصريحة في بيانها الشعري، تعمقت وتوغلت بهواجس الاحساس الوطني والإنساني لمديات الواقع الفعلي، وتركزت في صياغتها، على منصات الاستلهام والتناص في مديات التراث والاسطورة والتاريخ، في توظيف شعري مبدع غزير بالرؤى الفكرية الهادفة والرصينة، لكي تسلط الضوء الكاشف على واقعنا المرير، الذي شذ عن العقل والمنطق، تدلل القصيدة على إشارات وعلامات سيميائية الواقع ودلالته التعبيرية والرمزية، بما يعاني الواقع بأزمة العيش والحياة، وتسعى القصيدة الى لملمت الواقع المتبعثر في اعادة ترميمه بما تهشم وتهدم منه، ولكن هل تستطيع (حذام) برؤيتها البصرية وحدسها الواقعي، بأنها وضعت اليد على الجرح كما يقال. أن تقرع جرس الإنذار الرنان بصوت عالٍ، حتى يسمعه (الاطرش)، في سبيل أن ينتشل هذا الواقع من البئر العميق الذي وقع فيه، هي محاولة في إحياء الضمير من سباته وغفوته وموته البطيء، حتى لا يفترس اليأس حقول الأمل، ويجعلها اشواكاً جافة تذر في القلب الهجير. حتى لا تموت الأمنيات على سخام الخطيئة والسحت الحرام.

تترمّل الأمنيات

على زفير خيباته

تتناسل...

أخاديد الموت

في زواياه الحادة

تنذرف الحَيرة

باكية

في قلب الهجير

تُلملمُ...

شتات تشرذمها

ترتدي...

حر القيظ

في مدن العطش

وسخام الخطيئة

حتى لا يكون انتظار (غودو) عبثاً ويأساً دون جدوى في قارعة الانتظار، تكبر فيه شجرة الخيبة والإحباط، في زمن تموت فيه الامنيات انهزاماً وخنقاً وحسرة.

منتظرة عودة (غودو)

أجهدتها

مطارق الانتظار

ممدّدة على

سرير الندم

في عرصات

اليُتم

تنفثُ..

آهاتِ الحسرة

مشدوهةً

بنزف المأساة

مثخنة

بلوعة المحنة

في فسطاط الأسر

وسربال الحرمان

وتموت أنغام قيثارة (أورفيوس) في زمن الجفاف، وقد حلت فصول القيظ والمعاناة، حتى زوجته (يوريديس) فضلت العالم السفلي على معاناة الواقع وجحيم العالم العلوي، بأن يكون فوق طاقة التحمل والصبر كصبر ايوب، فقد ضاع الواقع في زمن السحت الحرام والتزوير والخداع، حتى أصبح لا يتحرك أي شيء حتى الريح، دون هوية مزورة.

ماتت تلاحين

الناي

لم يُسمع عزف (أورفيوس)

غادرت البلابل

أعشاشها

فلا تغريد

على شرفات البوح

سوى نعيق الغراب

(يوريديس) عادت مستاءةً

لعالمها السفلي

تلعن تجمهر الرذيلة

تحت ظِلال

الضَلالات

والنُصب الدمى

في أوكار الغباء

وأصقاع السحت

أصبحت دروب العراق وعرة تسكنها الثعابين السامة، فقد جرفته أعاصير همجية العتمة، من قطاع طرق ومزورين ومرتزقة المال السحت الحرام، يعرضون كل شيء للبيع وبرخص زهيد : الإنسان. الوطن. الشرف. الدين. الضمير، يباع كل شيء والكل نياماً، لا يوقظهم الصباح وحتى الشمس الحارقة، فهل من يستمع الى نداء (حذام) انه نداء للوطن.

***

جمعة عبد الله – كاتب وناقد

....................

ما قالته حُذام

بقلم: شلال عنوز

زمن يباس

يفترس

خضرة الفصول

يأكل

ترانيم الصحو

ينهش بأنيابه

خاصرة الربيع

يمحق

ضوء البشارات

بأفواه

المداخن

في أرض

جُرُز

تترمّل الأمنيات

على زفير خيباته

تتناسل...

أخاديد الموت

في زواياه الحادة

تنذرف الحَيرة

باكية

في قلب الهجير

تُلملمُ...

شتات تشرذمها

ترتدي...

حر القيظ

في مدن العطش

وسخام الخطيئة

منتظرة عودة (غودو)

أجهدتها

مطارق الانتظار

ممدّدة على

سرير الندم

في عرصات

اليُتم

تنفثُ..

آهاتِ الحسرة

مشدوهةً

بنزف المأساة

مثخنة

بلوعة المحنة

في فسطاط الأسر

وسربال الحرمان

(هدهد سليمان) لم يأت

ما هنالك من خبر

(سبأ) غارقة

في أتون

مواسير القحط

الصوتُ مبتلعٌ

في لُجج

الضياع

والآمال مبعثرة

على مُجسّرات

وحل التيه

لم يُنكَّر

عرش (بلقيس) بعد

(آصف)...

يرتدّ طرفه

ضائعا

في شساعة المدى

أتعبه الجري

في جزر الفقد

ولهفة الغياب

حيث لا غائب يعود

من رحلة قسرية

شاء الوقت

أن تكون

بلا وداع

**

في زمن يباس

جفَّ شجر الغناء

احترق نسغ القصيد

ماتت تلاحين

الناي

لم يُسمع عزف (أورفيوس)

غادرت البلابل

أعشاشها

فلا تغريد

على شرفات البوح

سوى نعيق الغراب

(يوريديس) عادت مستاءةً

لعالمها السفلي

تلعن تجمهر الرذيلة

تحت ظِلال

الضَلالات

والنُصب الدمى

في أوكار الغباء

وأصقاع السحت

لم تطق

يباس هذا العالم

لم تكترث

بموسيقا الاغريق

والطبل الجنائزي

في ميادين

البغال النافقة

هذا ما روته (حُذام)

ولقولها بقيّة...

حيث يتمدّد السواد

في أصقاع الرحيل

ينمو الأرق

على أجفان الحقب

تتمدّد المتاهات

مرعبة

تحرث وجه الحقيقة

ليس هنالك

من أثر يقول:

مرّ الضوء من هنا

الدروب

جرفتها

أعاصيرهمجية

العَتمة

ضاع على مساربها

هديل اليمام

اختفت من سماواتها

غمامات الهطول

فتفاقم صخب الجدب

متلذّذاً بلوعة الظمأ

سرق بوصلتها

قُطّاع الطرق

وانتهك حرمتها

لصوص متمرّسون

في السكك الموبوءة

تقف كسيرا

شاحبا

يقضمك الذهول

تحذر كل شيء

تتلمّس نفسك

بين الحين والآخر

لتطمئنّ

أنك مازلت حيّا

فتشكر السماء

حالما

بمعجزة تولد

ناسياً أنك

في زمن

عقيم

**

في ليلة غجرية

الهوَس

عارية الحكايا

تنوء بها

سرادق الضجيج

تحوصلت جيوبها

بتذاكر العابرين

هويات مزوّرة

أختام للبيع

جوازات سفر وهمية

بشرٌ للبيع

وتآمر بشع

مخالب ذئاب

تنخر في

رئة الوطن

المجلس الموقر

سوق تباع

فيه الضمائر

و(ابن زياد) منهمك

باغتيال الصباح

ولا صباح

الكل نيام

ولا من فارس

يقبّل جيد الشمس

قبل الغروب

***

النجف: 24 – آب - 2022

الفضاء المتصل وكينونة العوامل الروائية

توطئة: تستدعي آليات الفواعل السردية القائمة بين زمني (الحكاية ــ الخطاب) تلك الجملة التمثيلية من العلاقات المتتابعة عبر مواقع الأوضاع الأحوالية الناتجة من أوجه تبادلات أوجه عناصر (الحكي ــ الصوت السردي ــ حدود الموقع الزمني) ومن هذا المنطلق تتوالى مستويات وتمظهرات العملية التراتيبية في محاور رواية (الشهر الثالث عشر) لأحمد سعداوي، إيذانا ببروز السارد (المتماثل حكائيا) عبر حدود مواقع الذات التي تحكي، انطلاقا من مواقف سياقية موغلة باعتبارات الإقامة في مرجعية نمو الوقائع والأحداث القائمة بموجب فضاءات زمنية معدولة في مؤشراتها التحيينية في التعيين ودلالة المحدد الزماني والمكاني المستعار والمقرر كوصفة ملامسة في التوزيع الأفعالي وليس في المؤطر المفترض من مستثمرات النص في مرحلة السير ذاتية الزمانية والمكانية والصفاتية.

ــ الصوت السردي وفضاء التمثيل في مواقع الحكي.

إن ما يبدو لنا في واقع الوهلة الأولى من زمن نواة رواية (الشهر الثالث عشر) ليس ذلك التعدد في الأصوات السردية، بمقدار ما كان ذلك التعدد في (الصوت السردي: السارد ــ الشخصية) وذلك بالإضفاء على إعادة تمثيل فاعلية المسرود عبر أوضاع مخصوصة في تقديم (التعدد الصوتي = فاعلية السارد) فيمكننا معاينة ذات السارد عبر وجهات متضامنة تقوم فيها الشخصيات وهي متبلورة داخل مساحة حضورها الفردي، غير إنها من جهة أخرى تبدو سرديا منظمة في زاوية تركيز (صوت السارد ــ منظور مساحة الآخر) أي إن العلاقة القائمة متضامنة في الظاهر، إلا إنها مختلفة في وجهات الفعل وسياق الإقامة في الأدوار والوظيفة.

1ــ الصياغة المعادلة بأدوات المبثوث العلاماتي:

إن طبيعة وظائف الأشياء في الواقع المعاش قد لا توحي لنا إلا بخطوط إجمالية موغلة في مسارها الدلالي الكمي في حاصلية المادة والوجود المادي، إلا إنها أي تلك الدلالات المكونة من عناصر الطبيعة عندما تتحول إلى داخل مساحة طاقة متخيلة، سرعان ما تكتسب حالات إضافية في ذاتها المادية، لتتحول إلى جملة لغات بلاغية قوامها (الاستعارة ــ المجاز ــ الرمز ــ المرمز ــ العلامة) وهذه الأنواع كفيلة في ضم مقصودية هذه المرسلات من حيث حساسية المتخيل، ما يحيلها إلى سلطة في المكان والزمان والفعل داخل حسابات حالة نوعية من الفعل السردي.في الواقع تباشرنا في انطباعات القيمة الاستهلالية في رواية (الشهر الثالث عشر) ثمة أفعال خاصة لها وظيفة الطابع الواقعي المباشر في مرجحات السرد الدال، وتتخذ لذاتها معايير خاصة من (الرمز ــ الإحالة ــ المتشكل بالوسائط) وبوسعنا تأشير وحدات هذه الجمل قاب قوسين مثالا: (حين مر طائر هدهد غريب، لا عهد لأحد هنا برؤيته سابقا، يتهادى بطيرانه ما بين جذوع النخيل وأغصان أشجار الحمضيات./ص5 الرواية) بوسعنا ها هنا فهم بأن قراءة هذه الوحدات، ما لم تكن من ضمن مفهوم النمط السردي الخارج عن علامات ومكانة (الاشارة العابرة) بل يمكننا عدها معا متتالية من الفعل المفرط في العلامة والإحالة في المنظور وإمكانية بلوغ الثيمة كصورة فرضية لها مداليلها السياقية والدلالية في حكاية وخطاب الزمن السردي. وعندما نتابع من جهة أخرى في تشكيلات الواقع النصي، نعاين أن تحول حضور الطائر في المكان الخاص من حيز قرية ــ الأمجعبزة ــ لا يغير من سمات عودة الشخصية عايد عبر مساحة صورته السردية المتماثلة إلى النمط الماقبلي في الملامح والسحنة والهوية والهيئة، خصوصا وهو ذو النسب والمقام، فهو الأبن البكر لأحد أثرياء ووجهاء قرية ـ الأمجعبزة ــ فالشيخ ظهد صاحب أكبر الأفدان الزراعية في هذه القرية النائية ذات الأسم الغير مألوف على حافظة ذاكرتنا.

2ــ التخييل الروائي ونسيج الواقع المتخيل:

إن القراءة التحليلية إلى وحدات فصول رواية (الشهر الثالث عشر) تكشف لنا مسلمات واقعية على نحو جلي من صبغة الأحداث والوقائع الأكثر محلية في صيغتها الأسلوبية والشكلية والدلالية، فهي لا تتعدى كونها قابلية خاصة من بلاغة الوصف وتوزيع الأدوار الشخوصية على محاور وعناصر يسودها الحس القروي والحجاج التي تمتاز فيها دراما البادية وبعض مستوى من الدراما العراقية الخاصة بوصف الأوضاع الشخوصية وأسرارها الفطرية في طبيعة حياة الأرياف في جنوب البلاد وبعض من المناطق الغربية.غير أننا نتعرف على أن عايد كان طالبا في جامعة تقع في عاصمة البلاد، كما كان مشتركا مع أقرانه في مسيرات تظاهرية ضد الحكومة السياسية في ظل عوامل زمنية غير محددة ومعرفة في أولى الفصول للرواية.ولكن نفهم من خلال مسار الأحداث بأن السلطة هناك، قامت بمجموعة اعتقالات لأهم أصدقاء الشخصية عايد، فما كان له من خيار سوى الفرار إلى قريته النائية حاملا حقيبته: (تشمم عايد روائح جديدة، غير التي كانت تأتيه من الأعشاب ورطوبة الأنهار وتخمرات الطحالب ـــ ظل ينود بحقيبته شبه الفارغة على الطرقات الترابية بخطوات مرهقة ومتكاسلة، متسائلا مع نفسه إن كان ـــ الشهر الثالث عشر من السنة ــــ قد أنتهى عنده بسرعة./ص6 الرواية) في الحقيقة أن مستوى مؤشرات رواية سعداوي موضع بحثنا، من الروايات التي تختص بما يسمى (رواية الأطروحة) فهي إلى جانب كونها رواية أجادت في معايشة دواخل شخوصها وتأثيث مساحاتها بذلك الاطراد السردي الثري الجوانب.إلا إنها في الآن نفسه بدت في مكونات موضوعتها محمولة ومحملة بذلك التأشير الزمني إلى ثيمة مدلولية حاسمة، حيث شغل فضاؤها السردي ذلك التلفظ الذي يناسب الدليل المرمز هدفا مرجحا: (الهدهد ـــ الروح ــــ الشهر الثالث عشر) ولا ينبغي لنا أن نمنح القارىء منذ أول مباحثنا للرواية موضع بحثنا، الصورة المدلولية للنص وقيمته الاحتوائية، خصوصا وأننا نود متابعة نمو الأحداث بصورة تدريجية، وإلا ما كان لنا في مقاربتنا هذه سوى عبق القراءة الصحفية الواهنة.أقول ينبغي أن نشتغل بادىء ذي بدء بمستوى الوسائط المتنوعة التي أغنت النص الروائي بمداليل تقانية مكثفة بأعتبارها المعايير الدلائلية والتداولية في صيانة تماسك الحضور النصي عبر المتن والمبنى، لذا فإن عودة الشخصية عايد من العاصمة إلى قريته تكشف لنا حافات المكون السردي في الاستعمال والوظيفة والمتغيرات في نزعة إطلاقيات السرد.

3ــ أحراش الاستعادة وجزالة حقوقية السلطة:

من الأكيد أن لكل روائي حسابات خاصة في مجال وظائف موضوعة سرده وروايته معا، فهناك اتجاهات كمية ونوعية في بواعث النصوص، تفصلها غائية من يتمكن على الإجادة في سرد حكاية روايته، بوسائل ذوقية وفنية. وذكية ففي جل الروايات المقروءة العراقية والعربية ما تصادفنا فيها موضوعية يومية مجتزأة من صورة حياة الكاتب، ولكن يبقى الفارق الوحيد في مهارة الكاتب على جعل هذه التفاصيل محض حدوتة منحدرة من موروث (جدتي!؟) أو أنها رواية ذا شأن في تشكيل فواعلها بطرائق أخاذة وفاعلة ومذهلة، أو أنها تظل مجرد أصدار فوق رفوف منجز ذلك الكاتب المعتد بذاته في المرآة والهوية والذي غدا لا يختلف كثيرا عن نجوم الغناء والرقص في مدينته الشعبية .طبعا نحن لا نود القول بأن سعداوي دفعتنا تجاربه الروائية في مجملها إلى تناولها تباعا، لا فقط نحن أحببنا التعرف على تجربته والتعريف بها كونها مستوى إصداري يميل إلى عدم تكرار موضوعته وأدواته في كل رواية جديدة من تجاربه.ولقد ارتكزت روايته موضع بحثنا حول مستوى معين من استعادات الشخصية عايد، خاصة بعد عودته إلى قريته إلى استعادة ملامح خاصة من طفولته التي تعكس ذلك الإيحاء المرسل، بأن الشخصية له كمالات كونه سليل ذلك الأب الوافر الثراء: (حين كان مجرد صبي صغير يتلفت من أيدي الخادمات ليهرب مع أبنائهن الصغار إلى المراعي، وينتف صوف الأغنام أثناء ما تأكل أو تشرب، كنوع من العبث ـــ أو يقطعون القصب ويصنعون منها خيلا افتراضية، أو سيوفا يتعاركون بها.كانت معارك آمنة ومواجهات بريئة./ص6 الرواية) من هنا نلاحظ ورود تقنية الاستباق وقد تعني في ما تعنيه الوحدات من أوجه تماثل عكسية بين (الماقبل ـــ المابعد = الإيحاء بالاحداث اللاحقة) وقد يكون الاقتران بموصوف ذلك (إنه طائر هدهد ـــ روح الانسان اللائبة) ومن شأن هكذا اقتران استباقي، أخذ يلوح إلى حدوث محقق قد لا تأتي به محاور دراستنا الآن، خاصة وإن إرهاصات الفعل الإجرائي العلائقي في بنية مباحثنا ما زالت في طور الممارسة الأولى والإضاءة الأولية إلى خيوط التكوين النواتي في بداية (حكاية = خطاب) إلا أننا لا نعفي أنفسنا من مواصلة الحديث حول زمن حكاية السرد وفي حدود إطارها الوقائعي المحفوف بالحديث عن حياة عايد ومحاولات اتصالاته الهاتفية بزميلته نسرين المشاركة في صفوف التظاهرات: (أراد عايد الاتصال برقم نسرين حال وصوله إلى بيت الميزر، ولكنه كان خجولا من فراراه الذي يسميه ـــ فرارا عميقا ـــ فهو لم يتراجع إلى الشوارع الخلفية للتظاهرات، ليحاول بعدها الاجتماع ببقية أفراد مجموعته ـــ وإنما غادر بغداد بأسرع ما لديه من طاقة وعاد إلى ناحية ريفية بعيدة./ص27 الرواية) يهتم سعداوي كثيرا بذكر أدق التفاصيل، وهذا الأمر ما يحسب دائما لصالحه كروائي يتحرى المهمول من تفاصيل حياة شخوصه الروائية، كما ونجد هناك حالات أخرى من الوصف في الرواية، كذلك الوصف المتأمل تعليقا حول دواخل شخصياته: (ماذا سيقول لها لو ظهرت له على الهاتف؟سيعتذر منها بالتأكيد.سينشر على مسامعها كل عبارات الاعتذار.. ولن يحاول تبرير ما فعل..لن يخبرها بالحقيقة، أنه يحب الحياة، ولا يريد أن يكون شهيدا./ص27 الرواية) أن طبيعة الوظائف المتمحورة للسارد بالشخصية وصفا أو تعليقا أو تساؤلا، هي بمجموعها من المقابلات التي يطلع من خلالها السارد أسلوبا متلفظا، يجس به ويقدم السارد أشد تداخلات الحالة الشعورية التي يحيا من خلالها الشخصية في عين اللحظة الأشد إلتباسا ومأزومية في كوامنه النفسية الواقعة.

ـ تعليق القراءة:

مع أن بنية موضوعة النص جاءتنا ضمن نوازع أداة السارد المهيمن، لذا وجدنا أغلب الوحدات محكومة ضمن دائرة منظور السارد ذاته، فيما ظلت أفعال وأحوال في علاقة يغلب على طابعها التحريك من قبل السارد سعداوي: ( في الليلة اللاحقة انتظر عايد سماع ضربات رقاص الساعة ــ ظل ينتظر حتى جاء صوتها جليلا ذا صدى متماوج./ص28 الرواية) وتكمن جماليات خطاب الفصول الأولى من الرواية إلى خاصية مميزة في البناء والاسلوب الروائي.إذ أن النص يتوفر على مناطق حوارية تتخللها مشاهد مستعادة وممسرحة من الذوات الشخوصية، وعلى هذا النحو تبرز مشخصات علاقات تصاعدية بالافعال والأحداث والأحوال، كثيرا ما تذكرنا بشريط الملصق الصوري، حيث تتداخل الأفعال والذوات في قلب الاتصال الاسترجاعي: (كان يحتاج لاسترجاع الحوارية كلها مرة بعد أخرى حتى يفهم ما جرى فيها بشكل جيد.. استذكر مسكة يده ليد نسرين في قلب التظاهرة، كان يشعر حينها وكأنها استغرقت دهرا طويلا./ص33 الرواية) لعل القارىء للفصول الأولى من زمن الرواية، يعاين طبيعة الفضاء الحاصل بموجب محاور الحكي، ورغم بروز وظائف الاسترجاع الزمنية ودوافعها النفسية والموقفية في دواخل الشخصية، إلا إنها بدت متصلة ضمن حركة فضائية موحدة في الكينونة ومسلمات مواقع الوظائف في الرواية الأكثر توغلا في حسية الإيحاء وفاعلية السرد الواصل وصراع الصور الذهنية في الخارج والداخل الروائي.

***

حيدر عبد الرضا – كاتب وناقد عراقي

"أحمل غربتي.. يتبعني ظلي" للشاعرة جميلة جيهان بالعربي

فسحة مع القصائد في شجنها المعتق ترتجي ألق الأشياء كي تنبت الوردة في رحم الخواء والخراب والغربة..

الذهاب شعرا في العوالم كي تبرأ الذات الشاعرة  وهي تعد خساراتها الجميلة والأنيقة أناقة الكلمات والمعاني.

الشعر هذا الآخذ بناصية الأشياء والعناصر والكائنات حيث الذات في سفرها المفتوح على الآه بهجة وشجنا وتشوفا تجاه القادم نظرا بعين القلب بكثير من ألق الدواخل وصفاء الكينونة  ونحتا للملامح الناهضة على قلقها وسؤالها الدفين في أكوان يواجهها الحلم لوحده متأبطا رؤاه.. رؤى الشاعر المثقل بالأماني وهو الحمال لمجمل معاني الحياة.. الشعر هذا المأخوذ بفجيعة الكائنات في حلها وترحالها.. بغنائها الخافت وهي تستذكر شيئا من ألق العناصر تبح في الكلمات عن وجوهها الضائعة.. عن اقاماتها الأخرى حيث الوردة بمواجهة السكين.. القصائد وهكذا هي هذا الترجمان البليغ تجاه ما يحدث..

ومن هنا وفي سياقات هذه الأحوال نمضي مع سفر مفتوح على عوالم شتى من ضروب الغربة المحفوفة بظلال المحبة والحلم والذكرى حيث الشاعرة هنا تأخذنا الى مسألة مهمة عناها الشعر العربي والكوني في تنوع من التعاطي ونعني الغربة وحكاياتها الي يحيلنا اليها الديوان الشعري الذي نحن بصدده وعنوانه " أحمل غربتي.. يتبعني ظلي " للشاعرة جميلة جيهان بالعربي الصادر مؤخرا عن الدار الثقافية للطباعة والنشر والتوزيع  بالمنستير وهو من الحجم المتوسط وفي 92 صفحة.

تقول الشاعرة جميلة جيهان بالعربي في قصيدة " أحمل غربتي.. "

يمضي قطار حياتي /و أنا أبحث عني لأودعني / سوف تجيئ المواسم /بخوائها القديم / أحمل غربتي / وعلى شفاهي بوح ورحيل / تمنحني الشمس ألوانها / فألوذ بالصمت / أهب الطيور همساتي / أزرع في الفصول نجوما وأمنيات / أحضن ربيعا يشبهني وأقول / مرحى للكلمات.. ".

لقد حضرت معاني الغربة بتلويناتها المختلفة في مسارات شعرنا العربي بل الشعر العالمي حيث نجم المفهوم عن صلات وعلاقات الشاعر بالحياة والمجتمع والانسان عامة.. فاذا كان هذا الارتباط بينا في علاقاته بالأمكنة وأحوالها فان مظاهره كانت كذلك في الغربة الوجدانية والنفسية التي تعبر عن شجن المعاني التي يولدها الشاعر وهو المقيم بين أهله والناس.

فالغربة وبحسب المعاجم مصدر غَرُبَ، ويقال طَالَتْ غُرْبَتُهُ أي طَالَ بُعْدُهُ عَنْ وَطَنِهِ وَأَهْلِهِ، وأيضًا، وَجَدْتُهُ فِي غربة أي فِي وَحْشَةٍ، ومنها: فقْدُ الأحبّة غربة بمعنى من فقد أحبّتَه صار كالغريب بين الناس، وإن لم يفارق وطنَه وهناك نوعان من  الغربة: غربة مادّيّة تتجلّى في البعد عن الأهل والوطن، وغربة معنويّة تتجلّى في الخروج على مبادئ الناس، وتقاليدهم، وأعرافهم.

و في هذه المجموعة أخذتنا الشاعرة الى عالمه الشعري الطافح بالشجن والحزن والانكسار والوحشة ولكن أيضا - وهذا مهم - بالأمل والحلم حيث القصيدة مجال كون شعري فيه تداعيات شتى لأحوال ذات أنهكها النظر المثقل بالأسى للانسان وهو يسقط في نكباته وانتكاساته وفق غيب لما هو قيمي وجوهري في العلاقات والأحداث ويربط بين الناس في اقامتهم على الأرض وهو ما فاقم من الوجائع والحسرة ليبرز ذلك في أشعار الديوان حيث تبقي الشاعرة الباب مشرعا على الأمل لأجل واقع أجمل.

تقول الشاعرة في الصفحة (6) نص تقديمي للديوان ما يلي ".. هذا شيء من رغباتي في الكلمات.. في الحلم.. و في الأمكنة.. هذه قصائدي لونتها بما يسكنني من وجع وهيام وأمنيات.. فجاءت في هذا الديوان الأول من تجربتي مفعمة بالبراءة الكامنة في اللغة.. و في المعاني.أكتب قصائدي هذه وأنا أرى عبر نافذة الأيام كيف تتحرك الفصول والكائنات ليعلي الانسان بداخلي من شأن الذكرى.. و الحس والحلم.. هذه قصائدي بشجنها المعتق.. ترتجي شيئا من جمال الشعر وجوهره كفعل ابداعي جمالي.. و كثيرا من ذاتي المتعبة.. و الحالمة.. ".

انها لعبة الشعر حيث يبتكر الشاعر عالمه المحلوم به عبر استدعاء عالم الغربة بتمثلاته العديدة وفق السرد والتفاصيل وما هو دلالي في عبارات تقوم عى عناصر منها الرغبات والحلم والبراءة والفصول والذكرى والجمال.. كل ذلك في شواسع ذات هي ذات الشاعرة التي تقول عنها " متعبة و.. حالمة.. ".

من قصائد هذه المعاني وفي المجموعة تقول الشاعرة جميلة جيهان بالعربي "جئت كالفجر.. تلون خريفا لبهجة العمر.. ". و" أجمع المواعيد في جيبي / وفي قبضتي / أدس الرحيل.. "و كذلك ".. القلب حبل غسيل / لتجفيف ما علق / بالذاكرة " و" في مساء كهذا / أحتاج ظلك / يقودني الي.. ".

تحتشد في ذات الشاعرة تفاصيل شتى تغذي الاحساس بالغربة وفق نظرة عميقة تجاه الكائن وأحواله وتبدلات شؤونه وشجونه غير أن القصائد تفصح عن متعة تعاطيعا في المعاني لتشير الى استمتاع الشاعرة بمعيشها صانع غربتها وهي متعة لا تضاهى يصير معها الواقع ومشتقاته تعلات لقول الجميل صانع الحلم ونعني الشعر.. اذن هي غربة مولدة تاخذنا اليها الشاعرة في شجن مشوب بالأمل وبسواد التفاصيل والأحوال المحيل الى ما هو مشرق من القادم وبه وفيه..

و من هذا وعلى سبيل التماهي مع الوطن تقول الشاعرة بالصفحة (78)

".. بقلبي.. وطن / وحب نازف / وطائر ينبض / يحلم بالانعتاق...

وأغنية للحياة / تصافح الأقمار.. وترسمني / وشما / في الضلوع.. ".

نص شعري خفيف البناء ثقيل المعاني يبدأ بالوطن وينتهي بالرسم حيث الشاعرة في كونها المراوح بين الحب الدفين والكينونة وما بها من وله بين الحلم والغناء للتعافي من واقع الحال والأحوال وصولا الى الوشم وما يعنيه من علامات دالة وموحية حيث الضلوع التي يرتسم عليها.. انها حساسية الشاعرة عالية الفكرة وعميقة التناول في تمشيها الشعري الساكن في أعماق ما هو دال على الغربة.. الغربة الشاعرة.

في المجموعة الشعرية هذه " احمل غربتي.. يتبعني ظلي " مجال قول به رومانسية ملونة بالشجن والأمل حيث الذكرى تحفر عميقا في كيان الشاعرة بالعربي.. فالقصائد مراوحة بين القصر والتوسط في الطول وكأننا بالشاعرة تبنكر نصوصها غير عابئة بالشكل وما يعنيها فقط هو الجوهر.. كنه الأشياء التي تحيل الى حالها الضاجة بالغربة.. انها قصائد القلب في نظر مخصوص نابع من القلب وكأنها تير الى فراغ الأمكنة من جواهرها الدالة على روحها لتحيلنا بالتالي على رؤية الشاعر المصري عبد المعطي حجازي في ديوانه الشهير "مدينة بلا قلب..".

تقول في الصفحتين  (26) و(24) ".. ينبت نورك بالأحداق.. / فيسكنني طيفك / مثل مدن / هاجرت اليها / طيوري ".. و " كفاك عبثا.. / فعطرك / سافر من زمان.. / مع الريح.. ".

لقد قام الشعر منذ قديم عصوره على مفاهيم وثيمات شتى ومنها الغربة والاغتراب وقد باحت عديد التجارب بأشهى الأقوال الشعرية والقصائد ومن ذلك شكوى قيس بن الملوح وما حف بها من الأسى والمرارة وفق الشوق الى الأحبة وما يعنيه ذلك في التجربة الشعرية وفي الحياة حيث يقول "أَمُرُّ عَلى الدِيارِ دِيارِ لَيلى أُقَبِّلَ ذا الجِدارَ وَذا الجِدارا".. و تنوعت أشكال العبارة حيث الشاعر في أيامنا هذه يذهب عميقا في مسألة موضوع الغربة وخلفه ارث من الشعر الكوني ومنه الشعر الأندلسي والشعر الحديث وغيره..

في قصيدة بعنوان " كالضياع.. " بالصفحة (66) تقول الشاعر جميلةجيهان بالعربي ".. باردة أعراسكم / كالضياع..  / ها هو الخراب يعزف لحنه / ينسف بيوتا من كلمات.. /  وألوان للفراشات / يا لغربتك..  في ازدحام الأفاعي.. /.../ تكسرين بمحراب الوقت / بحكمة النقاء / تصد الشتيمة.. ".

هي مجموعة شعرية تتقصد ألق الأشياء في كون مفعم بالتداعيات والسقوط لتبقي الشاعرة في القصائد على الأمل وهي المراوحة بين الأسى والبهجة وبين الشجن والفرح في سياق شعري تتخفف فيه القصائد من كل ما من شأنه أن يثقل زينتها وجمال معانيها في ضرب من التكثيف والخفة وهو مشغل شعري حديث يأخذ الشعر الى أطوار أخرى من كنه القول وبلاغته  وتعبيريته الباذخة..

في صفحة (54) في قصيدة "هو الحلم يبتسم " نقرأ ما يلي ".. أعلن الضوء.. صمتا وجفاء.. / أهمس بوجه الرغبات / أركض كحلم مبتسم / ألقي الياسمين في تشابك الأجساد.. / وبين الرغبة والعناق.. / أرقص على ايقاع العشق / ها هو حلمي يبتسم / في تغاريد الشفاه.. ".

وعليه فان ديوان الشاعرة جميلة جيهان بالعربي الممهور ب"أحمل غربتي.. يتبعني ظلي "

يهدينا فسحة مع الشعر بقصائد في شجنها المعتق ترتجي ألق الأشياء كي تنبت الوردة في رحم الخواء والخراب والغربة حيث لا مجال لغير الشعر تبرأ به العناصر الكامنة في الذات الشاعرة  وهي تعد خساراتها الجميلة والأنيقة أناقة الكلمات والمعاني.

***

شمس الدين العوني

يتابع الأديب باسم خندقجي مسيرته الأدبيّة، منتصرا لذاته عبر الكتابة، ملاحقا شغفه بثقة سرديّة ولغة بيّنة، مستلهما غزارة معلوماته وقراءاته المستفيضة للنتاجات الأدبيّة، والصّور المحفوظة في ذاكرته ووجدانه.

في هذه المقالة أناقش الجزء الأول من عمله الرّوائيّ "ثلاثيّة المرايا" الصّادر عن دار الآداب في بيروت (2023)، وهذا الجزء بعنوان "قناع بلون السّماء"، وهو يتألّف من سبعة فصول ومن (230) صفحة.

تجري أحداث هذا الجزء بين رام الله والقدس ومستوطنة مشمار هعيمق، ويتولّى روايتها راوٍ عليم كليّ المعرفة والإدارك، يتنقّل بحريّة بين الأزمنة والأمكنة؛ ليدخل عقول شخوصه ويكشف أسرارها وخباياها، ويغوص في أعماقها وعالمها الدّاخليّ.

تمكّن الخندقجي من تطويع مادته اللّغوية لرسم المأساة الفلسطينيّة، تناول تجليّات المكان الرّوائيّ وذلك من خلال تقسيمه إلى ثنائية الحاضر والغائب، وبما تحمله تلك الثنائيّة من دلالات ورموز.

وقد تضافرت رؤية السّرد الموضوعيّ الخارجيّ الحياديّ، مع السّرد الذّاتيّ الدّاخليّ، ليغدو النّصّ متكاملا ثنائيّ الرّؤى.

الأحداث:

تدور الأحداث حول شخصيّة الشّاب الثّلاثينيّ نور ابن المخيّم، وهو شاب أشقر اللّون بعينين زرقاوين، يتحدّث العبريّة والإنجليزيّة بطلاقة، يعتقل والده قبل ولادته، وتتوفّى أمّه بعد ذلك، فيعاني الفقد وصمت الأب ووجع اللّجوء في المخيّم.

هو باحث مختصّ في التّاريخ والآثار، يعمل مرشدا سياحيّا في أحد المواقع الأثريّة في القدس، يمسّه شغف الأرض وبوحها السرّي، فيتّخذ منها شاهدا عليه وعلى قلمه، وإيمانا منه بأهمّية إثبات التّاريخ وإبراز دوره في الحفاظ على الهوية، ودحض التّضليل في رّواية الآخر، يقرّر الشّروع في كتابة بحث تاريخيّ، يتناول فيه سيرة مريم المجدليّة، التي اصطفاها السيد المسيح بحسب المصادر التّاريخيّة، ومنحها ثقته وتعاليمه السّريّة.

يحاول استعادة سيرتها وكشف عناصر العظمة فيها، وإثبات تاريخها من مصادر مختلفة، وذلك لإبراز دورها وروايتها المهمّشة في التّاريخ المدوّن، ونتيجة لغياب السّجلات والوثائق المرتبطة بالأحداث التّاريخيّة التي مرّت بها المجدليّة، يواجه العراقيل والتّحدّيات التي تؤخّره عن إتمام بحثه، مما يشكّل عقبة حقيقيّة في طريقه، وبعد سنوات من الجهد والبحث، يتأمّل بعمق ما تيسّر له من معلومات وبيانات، فيجد بأنّها غير كافية، وأنّ فيها قصورا يستدعي استكماله، لذا يحسم أمره على إحالة تلك المادّة إلى نصّ روائيّ شيّق، وذلك بعد اطّلاعه المكثّف على مجموعة من الرّوايات والدّراسات النّقديّة. ولإتمام مشروعه الرّوائيّ البحثيّ، كان عليه الحصول على بعض المعلومات التّاريخيّة الخاصّة بالقرن الأول الميلاديّ، لذا قرّر التّقدّم للتّطوع في مؤسّسة أميركيّة تعمل على تنقيب الآثار.

بعد ذلك بفترة وبالصّدفة البحتة، يعثر على بطاقة هوية زرقاء بمعطَف جلديّ، اشتراه من سوق الملابس المستعملة في يافا، حين كان يمشي متأمّلا بعض التّحف القديمة واللّوحات الفنيّة المعروضة، يقع اختياره على معطف جلديّ أنيق، يهرع نحوه ويشتريه، وينطلق مغادرا مرتديا إيّاه بفرح، وما أن وضع يده في جيبه الدّاخليّ، حتى تعثّر ببطاقة هوية، غفل عنها صاحبها إثر بيعه للمعطف، يفتحها مطّلعا على بيانات صاحبها وصورته، فإذا بصورة شاب وسيم يحمل اسم "أور شابيرا".

هاله الاسم العبريّ "أور" بمعناه نور، فعَلَت وجهه ابتسامة، أعاد البطاقة إلى جيب المعطف، وقَفَلَ عائدا أدراجه إلى المخيّم.

يقرّر انتحال شخصيّة أور للاستفادة من بطاقة الهويّة، وتسهيل وصوله إلى المستوطنة للانضمام إلى المؤسّسة الأمريكيّة، والتّطوّع فيها مع بعثة تنقيب الآثار، وذلك لمتابعة تقصّي سيرة المجدليّة وإنجاز بحث تاريخيّ روائيّ مميّز، يضمّه إلى لغة مرهفة متينة، بطلها "نسيم شاكر" الجامعيّ الفلسطينيّ الذي صمد في أرضه وقت النّكبة، مقرّبا منه شخصيّة أنثويّة محوريّة؛ ليخوضا معا سلسلة من المغامرات والأحداث، وخلال المسار التّاريخيّ لروايته، يخطّط أن تكون المجدليّة بطلة عمله الرئيسيّة وإلى جانبها عدد من التّلاميذ والرّسل، أهمّهم بطرس ويوحنا، أما الزّمن التاّريخيّ فيكون بعد صلب يسوع وظهوره الأول في رؤيا المجدليّة. وعلى امتداد الرّواية يوثق أفكاره ومصادر معلوماته عبر بطاقة صوتيّة، يسجّلها لنفسه ولصديقه مراد، القابع في غياهب المعتقل، فتدور بينهما نّقاشات وحوارات متخيّلة عن هموم الحياة والكتابة والبحث الرّوائيّ.

سعى نور إلى التّحرّر واستعادة ذاته، فهو لا يريد الموت على مراحل كأبيه، الذي بات في الرّمق الأخير على وشك الاختفاء، يحتضر صمتا منذ وفاة زوجته وغربته في سجنه وخذلانه، لذا فهو لم يفوّت فرصة الدّعوة التي جاءت من معهد "أول برايت"، والتي اعتبرها رحلة إلى مهد الرّواية، فانطلق من شوارع المخيّم وأزقّته، من رحم خفيّة لا يدركها سوى المنكوب حيث ولد. سار غُدوَةً إلى مدينة القدس بشموخها ونورها الذي لا ينطفئ، وحبّها الذي يجري فيه مجرى الدّم في العروق.

ينقلنا الكاتب لمشاهد تمثيليّة تصويريّة، فيروي لنا واقعا معيشا في القدس بطريقته الخاصّة، تلك التي وصل إليها نور فوجدها تشتعل، يتصاعد التّوتر فيها بعد الإعلان عن إخلاء العائلات المقدسيّة من بيوتها في حيّ الشيخ جرّاح، وهناك في شوارعها وطرقاتها وحجارتها العتيقة، تتعربش أحلامه وآماله على المجهول القادم، فيطلق القلب فراشات في عالم يختلط فيه كلّ شيء، الرّهبة والشّوق والحزن والجمال والابتهال والصلاة، وكلّ التّناقضات التي تشكّل قلب المدينة النّابض.

ثمّة علاقة عشق جمعته بالقدس، فقد كان يتنسّمها لتنحلّ عنه مشاعر الاغتراب والاستلاب، فيحلّق في فضائها مزهوا بها. كانت وحدها من تعطف عليه وتحميه في بيوتها العتيقة في أحلكِ الظّروف.

وفي ملاحقة جادّة للفكرة، واستمرارية دؤوبة لكتابة رّواية المجدليّة، اعتبر فرصة الذّهاب إلى مستوطنة مجدّو إشارة مجدليّة مباركة، تعزّز من توجّهه الرّوائيّ، فقام بتحضير سيرة ذاتيّة مقنعة، تؤهّله لتقمّص الدّور، معتمدا على خبرته كدليل سياحيّ في المواقع الأثريّة في القدس، والانضمام إلى حملة التّنقيب والبحث عن آثار الفيلق الرّومانيّ، هذا الفيلق الواقع بالقرب من قرية مجدل، مسقط رأس المجدليّة.3331 بلسن هتجقحي

العنوان:

تطالعنا وجهة نظر المؤلّف ورؤيته الإبداعيّة في تحقيق هذا الانسجام النّصيّ، بداية من العتبات النّصيّة، ثم التّقنيات السّرديّة المتعلّقة بالوصف واللّغة الجماليّة.

العتبة الأولى هي العنوان، وقد جعل منه الكاتب، بنيّة سياقيّة مشحونة بالدّلالة، تمثّل فكرة النّصّ وتخطُّ ملامحه الأولى التي تحلّله وتأوّله.

يشير العنوان إلى القناع الذي تبدّل على امتداد النّصّ، وإلى تحديّات ذلك التّبديل حين وجد نور نفسه مجبرا على ارتدائه وتقمّص شخصيّة أور لحماية نفسه، وبعد أن اجتمعت أبعاد الصّورة وملامحها في وجدانه، كان لا بدّ من استخدام القناع ومواصلة البحث والغوص في أعماق الحدث.

هو عنوان يدفعنا إلى التّفكير مليّا، إذ كيف يمكن لقناع أن يصوّر مأساة التّاريخ ومهازلِ الحاضر، ذلك القناع المؤقّت، الذي أخفى واقعنا الهشّ، من خلاله تمكّن بطل الرّوايّة من النّفاذ إلى ما يختبئ خلف الأقنعة ورؤية الحقيقة وتّناقضاتها العديدة.

كيف لا؟ وقد كان وسيلة للتّخفي ودخول مناطق التّماسّ المحظورة، تلك التي يجتهد الآخر في طمس معالمها وتغييرها؛ لتغدو أكثر تضليلا وتمويها.

بين الماضي والحاضر:

لا يفتأ الكاتب يذكر النّكبة، لا يكاد يغفل عنها أو ينساها، يقول (ص120): "من العار أن نحتفل كلّ عام بذكرى النّكبة على أنّها مجرّد حدث تاريخيّ مضى، فالنّكبة لم تنته بعد، رحمها ما زال خصبا وقادرا على الإنجاب في كلِّ لحظة، إنجاب التّشريد والإبعاد والتّهجير والإقصاء، والتّصنيف والسّلام المزيّف".

يستمر نور في البحث عن أسرار المجدليّة، وخلال عملية البحث يحكي عن مسار تاريخي هام لقرية "اللجّون" المهجّرة وقرية مجدّو الكنعانيّة، التي يعود تاريخها إلى الألف الثالثة قبل الميلاد، فيتجلَّى التّاريخ واضحا تحت التّراب بكلّ ما يحويه من أصالة وعراقة، وما يملكه من ماض وحاضر.

اعتمد الكاتب على وصفه لقرية "اللجّون" بالصورة المتخيّلة الباقيّة في الأذهان، تلك التي حفظتها الذّاكرة، فبدت فيها أكثر قوة وحضورا وبقاء، وليتمكّن نور من الوصول إليها كان عليه الإحاطة بكلّ خيوط الرّؤى لتكتمل الصّورة.

إذن.. فهذا العمل يعود بنا إلى الماضي البعيد بإِخفاقه ونكساته؛ ليُسقط الواقع المعاصر على أحداثه القديمة، تلك التي تلقي بظلالها وجوانبها الانهزاميّة علينا حتى الآن.

وعبرَ مشاهد تصويريّة، تأخذنا الصّفحات إلى أعماق البطل ومخيّلته، وتنقلنا اللّغة بسلاستها وبلاغتها إلى إيقاع يموج فيها، فتوقظ دواخلنا من سبات عميق، وتشعل فينا الإحساس بالخيبة، لنستفيق على واقع وشرخ مؤلم.

ثمّة حزن يتدفّق من بين السّطور، نستشعره ونحن نقرأ، لا يمكننا الفكاك منه، يغمرنا بإحساس مثقل بالعجز، فلا وطن دون تاريخ، ودون ذلك الماضي الذي يتشكّل من عمق تفاصيله، فأن نفقد التّاريخ يعني أن لا وطن ولا رواية، لا أرض ولا تراب، وكأنّما التّاريخ بأمكنته ورموزه جزء من مفارقات الحاضر وتنبؤات المستقبل، وواقعنا المنذور بالتّشظّي.

العبثيّة والأسئلة الوجوديّة:

يتأثّر هذا العمل بالوجوديّة كمبحث فلسفيّ، يسلط الضّوء على فكرة طبيعة النّفس البشريّة، وفي صورة بانوراميّة مغايرة، نجد التّعبير عن هذه الفكرة، حيث يسعى البطل لإدراك المعنى الخفيّ من الوجود، وذلك بالتّركيز على المأزق الوجوديّ له، ومحاولة الفهم والوصول إلى الحقيقة، خاصّة بعد أن رأى والده قد خرج من السّجن وهو محمّل بالهمّ والعبء الوجوديّ الذي يجثم على صدره، ويشعره بالضّياع والفزع من عالم عبثيّ بلا معنى.

وبأسلوب يرسم الدّهشة، تتجسّد فكرة العبثيّة في الأدب الوجوديّ الكافكاوي، وتتمثل نظريّة "ألبير كامو" وهي: "أنّ العالم مجهول والحياة عبثيّة بلا معنى".

وأمام الأسئلة الوجوديّة والكونيّة والمصيريّة وأسئلة الهويّة الشّخصيّة والجماعيّة، تلك التي عبّرت عن كلّ ما اختلج في ذات السّارد وتأمّلاته، ورسمت لوحة مأساويّة عبثيّة مؤطَّرة باللّاجدوى من الحياة.

من أنا؟ أين هويّتي؟ أين ظلّي؟ إلى أين أمضي؟ أين مرآتي؟ ماذا أفعل هنا؟ إلى أين نحن ماضون؟ ما هو النّور، وكيف نولد منه؟

تحثُّنا تلك الأسئلة على التّفكر والتّأمّل، فهي تعجّ بالفلسفة العبثيّة والإشكاليّات الوجوديّة التي تفرض على الإنسان، وقد ظهرت في النّصّ من خلال الثنائيّات المختلفة، كالموت والحياة، الظّلم والعدل، الحزن والفرح، السرّاء والضرّاء، الحريّة والعبوديّة، وغيرها.

كما تؤدي تلك الأسئلة دورها في التّرابط والتّكامل للمشاهد المتداخلة، التي يتورط فيها البطل راجيا بإمكاناته المحدودة تجاوز الخوف والتّحدي ومشاعر الاغتراب، وبحثا عن عصب الوجود ينبش الماضي منقّبا في ثنايا التّاريخ مستشرفا المستقبل، متأصّلا بجذوره في الحاضر ليزدهر، مفكّرا متأمّلا بأسئلة الموت والفناء والبقاء، طارحا هواجسه، مُقيِّما علاقاته مع الطّبيعة والسّماء والأرض والبشر.

الحوار:

تتعدّد المشاهد المكثّفة وتتنوّع، من السّرد إلى التّداعي والوصف والمزج بين الرّوايتين، رواية نور وروايّة المجدليّة، والحوارات الدّاخليّة والخارجيّة، هناك لقطات ومشاهد في المخيّم وفي القدس والمستوطنة، تلتقي كلُّها في ذات الفكرة وفي نصّ محكم من اللّغة والإمعان في دقائق الأمور.

تمكّن الخندقجي من نقل صورة الشّخصيّة الرّئيسيّة وطريقة تفكيرها كتمهيد يشي بتطوّر الحدث، نسج تفاصيل روايته متجوّلا بين أروقة الماضي والحاضر؛ ليغدو التّمازج، بين الحكاية والوقائع رشيقا أنيقا متواصلا، وتبدو الأحداث منطقيّة واقعيّة مترابطة، وذلك بتصوير المشاعر والأحاسيس التي اعترت البطل؛ فيتجلّى الحوار بلغة منطقيّة، وتتصاعد المجريات حتى لحظة اكتشاف الآثار التي عانقتها الأرض، وفي غمرة ذلك كلّه يبدأ الصّراع بين وجه نور وأور شابيرا المنتحل، وفي حوار ذاتيّ مشاكس يمارس أور الاستعلاء الواضح على نور، ويمنّنه على مساعدته في التّخفّي، يقول لنور بعد حوار عقيم دار بينهما:

"أنت أصبحت إنسانا بفضلي، بفضل هويتي" فيطلب منه نور ألا يتكبّر عليه ويعامله معاملة إنسانيّة، فيردّ أور:

"أخشى من اختفائي أنا، إذا أصبحت أنت إنسانا"! (ص234)

بصياغة فلسفيّة نقرأ هذا الحوار العميق؛ لنجد أنّ أور يجرّد نور من صّفتهِ الإنسانيّة وينكرها عليه، يُنكِرُ القسوة والتّهميش والمعاناة، ونزع الحقّ الذي يصاحب ذلك التّجريد.

يدفع بنا هذا الحوار إلى التّفكير مليّا في العلاقة بين نزع الصّفةِ الإنسانيّة عن الإنسان والعنصريّة ضده، ذلك التّجريد من الإنسانيّة الذي يؤدي إلى العنف والكراهية بين البشر، ويسهّل جرائم القتل ويبرّرها.

اجتهاد نور:

يواصل نور بحثه دون كلل، محاولا التّعمّق في تفاصيل تلك الحقبة الزّمنيّة؛ ليخرج في النّهاية بوعيّ تلك المرحلة، عرّف المجدليّة بأنّها الحضور المتناقض في الحياة، الحضور الثّنائيّ للخير والشرّ، للتّوبة والخطيئة، للملاك والشّيطان.

وعبرَ أحداث تشوّق القارئ، وتدفع به إلى استحضار الذّاكرة الجمعيّة التي تقضّ مضاجع الحنين، يتوصل نور إلى الدّراسة التّحليليّة الأهمّ بالنّسبة له، تلك التي تلخّصت بطبيعة العلاقة بين بطرس والمجدليّة، وهو نص غنوصيّ، نقله وترجمه المؤرّخ "فراس السّواح" في كتابه "ألغاز الإنجيل" وبحسب النّصّ، يتذمّر بطرس من حوار مريم مع يسوع في تجاهل واضح له، طالبا إسكاتها، لكنّ يسوع يوبّخه، فتقول مريم ليسوع بأنّها لا تستطيع التّحدّث مع بطرس بحريّة لأنّه يكره النّساء، فيجيب يسوع: إنّ من يلهم الرّوح هو المخوّل بالكلام، رجلا كان أم امرأة.

كان لهذا النّصّ دلالاته التي كشفت لنور طبيعة العلاقة بين المجدليّة وبطرس، الأمر الذي مكّنه من تحديد مرجعيّة أساسيّة لحبكة روايته.

شعور بالقهر:

لم يكن لنور أن يصل إلى غايته لو لم يكن مشتعلا بالقهر الذي دفعه إلى النّظر الى الأمور بعيون جديدة، ذلك الشّعور بالقهر جاء على لسانه كإشارة واضحة حين قال (ص229):

"أنا لا أرتدي قناعا، أنا أرتدي المسخ الذي ولدَ من رحم النّكبة، والأزقّة والحيرة والغربة والصّمت، صمت أبي وموت أمّي، ومطاردتي في أزقّة المخيّم، ولدت من رحم التّهميش والتّصنيف! أنا المسخ فهل من رحم تلدني مرّة أخرى إنسانا؟ هل من سماء أتجلّى بها نورا ونارا؟"

إشارة محزنة يلقيها نور المسكون بالألم والتّاريخ والقهر، فتأتي رمزيّة القناع ضروريّة في تلك الأحداث والإرهاصات التي يمسك بعضها بتلابيب بعض، فبعد أن اجتمعت أبعاد صورة المجدليّة وملامحها في فكره ووجدانه، كان لا بدّ له من التصرّف والتحرّك؛ ليتعالى على جرحه النّازف في فعل يتصاعد كما الجبال لا في فعل يتهاوى إلى منحدراتها.

ويواصل إصراره على الكتابة قائلا: "بعد كلّ هذا الاستنزاف والإرهاق والانفصال عن الواقع، سأحاول فعل الرّواية، سأرتكبها بكلّ ما أوتيت من مرّة أولى وتخيّل، سأردّ على الخيال بمثله وأكثر، فما التّاريخ في النّهاية سوى تخيّل معقلن".

النهايّة:

يحلم نور بأنه قد وصل إلى البئر في قرية اللجّون، وعثر على بقايا مقام إسلاميّ فيها، فتجلّت قدسيّة الأرضِ أمامه، واستشعر هشاشة رواية الآخر، وهناك في قعر البئر وسراديبه تراءت له مريم المجدليّة، ولوهلة خيّلّ إليه بأنّها شبيهة لزميلته الحيفاويّة "سماء إسماعيل".

يختلف هذا المشهد بأجوائه ووصفه التّصويريّ الخاصّ عن المشاهد السّابقة، إذ ارتدى ثوب السّكينة الرّوحيّة التي مثّلتها رواية المجدليّة.

مزج هذا المشهد بين صورة المجدليّة وصورة سماء وشفافية نور، وأخذ شكل التّاريخ المدفون في الأرض وأسراره السّاكنة وروايته الحقيقيّة، الأكثر إمعانا، في الغياب والحضور.

يقوم نور بعد ذلك بإدراج بطاقة صوتيّة جديدة، لصديقه مراد قائلا(ص188): "أظلمت آفاق روايتي المجدليّة، وحلّت مكانها تجلّيات سماء، واصفا إياها بشجرة كرمليّة وارفة، بعبق حيفاويّ، وقمر معطّر باللّيلك، أمّا وجهها فسدرة الْمنتهى، لا بل صباح العيد".

كذلك ينحاز إلى هويته أمام سماء، التي كان يستمدّ منها الحضور والجرأة والأمل والثّبات، خاصّة بعد ثباتها في مقارعة زميلته "أيالا شرعابي" حول أقدس المسلّمات والثّنائيّات الضدّيّة، كالوجود والعدم، الحقيقيّ والمزوّر، فيتأثّر ويتخلّص من قناعه المزيّف أخيرا.

تنتهي الرّواية بمغادرته بعد إلغاء عملية التّنقيب، بسبب الأحداث التي وقعت في مدينة القدس، يلتقي بسماء خارج المستوطنة فتقلّه بسيارتها إلى رام الله.

هذه الرواية:

جمع هذا العمل بين براعة التّصوير الشّعوريّ والحركيّ، والمهارة الفنيّة في الصّياغة والأسلوب والفكرة، واللّغة المؤثّرة التي تحاكي عزف قيثارة شجيّ، تناول التّاريخ وربطه بالسّرد والمكان والإنسان والأحداث المستقاة من نبض الحياة اليوميّة، تلك التي قدّمها الكاتب في قالب روائيّ خياليّ عبر معالجة حيّة خلّاقة، حقّقت الوظائف الجماليّة بوقائع متخيّلة مستمّدة من ترابط العناصر الرّوائيّة وتماسكها وقابليتها للفهم والتّأويل.

أجمل باقات الشّكر والاحترام نقدّمها للأديب باسم خندقجي، له التّحيّة والتّقدير وأطيب أمنيات الخير والسّلام.

***

صباح بشير

استراتيجية التفكيك، ليست منهجا نقديا كما يصرح بذلك جاك دريدا بنفسه، بل هي استراتيجية لتعقب المعنى الخفيّ والمضمر والهامشيّ في ثنايا النصوص الأدبية، هذا المعنى الذي يصبح ركاما بمجرد تجليه ووضوحه، لتبدأ العملية من جديد، هدم وبناء يعقبهما هدم وبناء آخر، الأمر الذي يقودنا إلى عالم غير متناه من الدلالات التي تتناسل باستمرار. وفي هذا السياق النقدي الذي يطغى عليه الغموض، اخترنا المجموعة القصصية "عازار" للكاتب الحبيب اعزيزي الصادرة سنة 2023، وتكفلت دار بصمة بالتصفيف والتصميم، بينما طبعت في ورّاقة بلال ش.م.م. هي محاولة لفهم عوالم الجنون العجائبي القصصي بالجنون النقدي، عسى أن تتاح لنا إمكانية تأويل منطقية، تراعي خصائص النص القصصي من جهة، وتجربة الكاتب الإبداعية التي تمتد إلى أكثر من عشرين عاما من جهة ثانية.

استهل الكاتب مجموعته القصصية بقصة "الرجل الذي يحمل زوجته في القفص الأحمر"، حيث الزوجة/الأنثى تقبع في القفص، القفص بحمولته المقززة، والسالب للحرية، وفي هذا الملحق supplément بلغة دريدا، تتشكل عوالم النص القصصي الموازي/الهامشي، الذي يرفض التمركز الدلالي حول الخطاب المحوري، غير أن هذه العتبة (العنوان)، تعكس مفارقات وثنائيات ضدية تحتاج إلى الحفر بلغة مشيل فوكو، فالسجان هو الرجل/الزوج، إن الأمر أشبه بعالم أبيسي تئن فيه الأنثى من وطء الرجل/الذكر.

"زوجتي ماتت على الساعة الخامسة تماما" ص: 3، بهذه العبارة الصادمة تبدأ القصة، لتجعل القارئ يعيش في عالمين مختلفين، عالم الغياب/الموت، وعالم الحضور/الذكرى، ثنائية تتواسج في ثنايا القصة لتشكل ملامح قصة تفند تأويل العنوان، فالرجل بهذا المعنى أسير زوجته في قفصه الأحمر، الأنثى/الزوجة التي غيبها الموت، الرجل سجين ذكرياته، لكن ما يحدث للسارد في علاقته بالأنثى لا يمكن تأويله بهذه السذاجة عندما نسترسل في فعل القراءة، لا سيما عندما نعرف أنه كان يتأمل نسوة في ملصق إشهاري على عمارة أفيسين قبل أن تظهر له إحداهن ليحاورها كما يحاور الناس،  يقول السارد: "وظهرت فتاة الإشهار، قلت في نفسي، اللعنة. ما هذا الذي يحدث في هذا الشارع؟ كانت تضع المنديل الأحمر والصابو الطبي الأبيض. تحمل جهاز الكشف في يدها... مالت فتاة الإشهار نحو طاولتي بالذات ثم جلست أمامي. كانت تحمل نفس البسمة الجميلة التي في الصورة" ص 5-6

بين أنثى الغياب/الزوجة، والحضور/الملصق الإشهاري، هي أنثى واحدة، تعيش في القفص الأحمر، حيث الأسر والعذاب ورائحة القذارة، وكل الدلالات الراسخة في الذاكرة الجمعية للقارئ عن القفص، إنها أنثى المجتمع الرأسمالي، حيث أصبحت شيئا يعرض في واجهات المحلات التجارية، سلعة كغيرها من السلع المعروضة للبيع والشراء، هو رفض مطلق للمدنية القاتلة للإنسان، يقول السارد: "لم نكن سعداء أنا وزوجتي رانيا في هذا البيت الواسع، المكون من ثلاث غرف ومطبخ صغير وصالون كبير وبهو مفتوح على الشارع، حيث تنبت المقاهي مثل الجرب" ص 3.

لقد أصبحنا نعيش عصر ما بعد الإنسان، فليس للمبدع إلا أن يرفض كل أسباب استهلاكه، وما يؤيد هذا الطرح في التأويل، تجربة الكاتب اليسارية، حيث قضى زمنا غير يسير في النضال من أجل كرامة الإنسان وحريته، كما أن الأنثى هنا قد تكون الكاتب نفسه، الذي تكبله أغلال الواقع الأحمر المضرج بالانتكاسات... وهكذا تتيح استراتيجية التفكيك إمكانات هائلة للتأويل، وهو الأمر نفسه الذي جعل جاك دريدا ينبه قراءه من تحويلها إلى منهج نقدي.

تكاد تتساوق قصة "الرجل الذي يحمل زوجته في القفص الأحمر" مع قصة "سوزي.. أنثى المانيكان"، حيث تتحول أنثى المانيكان إلى إنسان يجالس ويختلط ويسكر، يقول السارد: "لم يصدق الثلاثة هذا الحادث الغريب: فتيات المانيكان الموضوعة في باب دكان الملابس في الحي... ثلاث فتيات من البلاستيك يجلسن على الكنبات.. حول الطاولة.. هنا أمام الأعين.. يتحركن..يبتسمن. وينظرن عينا في عين. مدت سوزي أصابعها، قبضت بخفة على أذن عاشور:

- حبيبي لا تخف، قل مرحبا للضيفات

همس بارتياب شديد

- مرحبا يا فتيات

مرت دقائق عصيبة من الشك والرعب، ثم تغير جو الحفلة" ص: 39

إنه التعبير القصصي المجازي لرصد الواقع في عصر ما بعد الإنسان، حيث يتحول إلى سلعة في سوق النخاسة، بينما تتحول الأنثى إلى مانكان، كل ما عليها فعله أن تعرض في واجهة المحلات التجارية، وتلبي رغبات الزبائن، وتحرص على سعادة الآخرين.

هما قصتان ذَوَي طابع عجائبي مغاير، في قالب سردي فريد، لكن برسالة واضحة ترفض أن تجعل من الأنثى سلعة في المجتمعات البرجوازية. وإذا كانت النزعة الإيديولجية هي المحرك الأساس لقصص الحبيب اعزيزي، فلا يجب إغفال الجانب الفني، لا سيما اختيار الشخصيات بدقة تناسب أدوارها في بناء الحدث، أو اختياره للسرد المتداخل الذي يتناسب مع الزمن الهلامي المنفلت أحيانا من منطق التتابع، وهذا راجع إلى العجائبية الطاغية الحضور في بناء العوالم السردية.

الأنثى أولا وأخيرا، الأنثى/الإنسان، الأنثى/الكاتب، مهما كانت تأويلات الأنثى، فهي نفسها الأنثى المضطهدة في قصة "أرسموك..شبح تالمست"، غير أنه اضطهاد الأنثى للأنثى هذه المرة، في مجتمع بدوي بعيد عن عالم الرأسمالية المقيت، الهامش المضمر، الشابة الساذجة سريعة النسيان التي تنتظر عودة حبيبها الميت منذ خمس سنوات، يقول السارد: "مرت خمس سنوات على باهيا وهي تكسر جماجم الجوز. تستخرج الأمخاخ الجافة. ترمي بها بلطف واضح في الصحن الأبيض. وحين يمتلِئ الأخير، تخطفه إحدى النساء بخفة البرق، فتفرغه في الكيس الذي يفتح فمه بين أقدام النساء" ص: 13

استغلال المجتمع البدوي والنسوة لباهيا، تكشف عن بطلة قصة تمثل آلاف النساء في البوادي وضواحي المدن، في قالب عجائبي يصبح فيه السارد ميتا، لكنه يحكي قصة وفاته بدقة متناهية، وأحداثا رافقت تلك الليلة التي غيّب فيها عن هذه الحياة، يقول السارد/الميت: "وجلست على عتبة الدار. أتفرج على مأتمي الذي انقلب بسرعة إلى حفلة تنكرية. مرت لحظات، ثم اشتعل الصياح من كل زاوية.

- باهيا. باهيا.باهيا

- ما بها

- لقد رمت بنفسها من سطح الدار" ص: 15

حول السارد قصة باهيا إلى تراجيديا الحياة في قالب عجائبي يعود فيه الغائب/الميت أرسموك، ويختفي الحضور/باهيا، لكشف حجم المأساة، كل ذلك في ثنائية ضدية تؤلف دلالات متناقضة في علاقة حب موؤود بين الحي والميت، الخير والشر، إنها مفارقات الواقع اليومي، وهنا تظهر الإيديولوجيا مرة أخرى، حيث الأنثى/الإنسان هي الأنثى، سواء في المجتمع البرجوازي أو المجتمع البدوي. إنه موقف ثابت بين ثنايا القصص، لا يتغير بتغير الظروف والسياقات، وهو الأمر الذي جعلني في حيرة، حيرة المابين إيديولوجي والفني-جمالي.

وإذا كانت استراتيجية التفكيك تبحث عن المهمل والمهمش في ثنايا النص الأدبي، فإن شخصية أرسموك، باعتبارها ثانوية مقارنة بباهيا، تستحق اهتمام القارئ أيضا، حيث الغياب/الموت الذي جعله يكتفي بالمراقبة والسرد، حد حريته وقدرته على إسعاد باهيا، أليس بؤسا مضاعفا أقل من معاناة باهيا؟

ويمكن لمتتبع هذه المجموعة القصصية أن يرصد خطين متوازيين ينتظمان في جل قصص "عازار"، خط اليأس وخط الأمل، وإذا كانت القصص السابقة تندرج ضمن الخط الأول، فإن قصة "الهارمونيكا" تندرج ضمن الخط الثاني، حيث يظهر الإقبال على الحياة والاستمتاع بالموسيقى والنجاح، النجاح الذي رافق قصة المعلم سيفاو وكفاحه من أجل تلاميذه المصابين بمتلازمة داون، يقول السارد: "بعدها شعر كما لو أن تيارا كهربائيا يسري في هذه الآلة الصغيرة، لكنه لم يهتم، بل ابتسم وبدأ في النفخ، فكر أنه لم يسبق أن وضع هارمونيكا في فمه طوال حياته. لكن الغريب هو هذا اللحن السحري المنسجم، والذي يكاد يرفع القسم كاملا إلى عالم خيالي" ص: 29

لا شك أن التأرجح بين قصص خط اليأس وخط الأمل، يرجع إلى الحالات النفسية للمبدع، وتأثره بواقعه الذي يحول أحداثه، بمهارته الإبداعية في خلق عوالم القصة، إلى عالم من الخلق العجائبي المتدفق كشلال هادر، تجعل القارئ ينسل من بيئته ليعيش في عوالم الجنون هذه.

وإذا كان الملمح الأساس لهذه القصة هو الأمل، فإن اليأس حاضر أيضا، فالمعلم سيفاو تعرض للمضايقات من طرف المدير والمفتش بسبب نتائج التلاميذ الضعيفة، يأس استبد به لإقامته في قرية تعيش ظروفا صعبة، لكنه استطاع بجده أن يجعل من التلاميذ المرضى بمتلازمة داون أن يجعل منهم متفوقين دراسيا.

إنها ثنائيات ضدية تؤثث مجمل نصوص المجموعة القصصية، وهي نفسها التي تجعلها عصية على قراءة عميقة تنفذ إلى الأماكن الأكثر عتمة، عتمات نجدها في قصة "عازار العائد لانتزاع ظلال الأحياء"، حيث المنطقة الوسطى بين الحياة والموت، و"ليلة القبض على حمار الليل" و"الأموات لا يتبولون في هذه الحانة" و"الأشباح لا تعود إلى باماكو"  و"كماريا"...  هي قصص تتأرجح بين اليأس والأمل، وثنائيات ضدية أخرى تخلق عالما مغرقا في العجائبية، هذه السمة المميزة للكاتب الحبيب اعزيزي.

الحبيب اعزيزي ليس كاتبا عاديا إطلاقا، ولربما ظلمه الهامش الذي ينتمي إليه، الهامش الذي ظل يدافع عنه، إبداعا ونضالا ميدانيا، لكن يجب علينا، نحن، عشاق الأدب ونقاده، أن ننتصر لأنفسنا بقراءة هذه الروائع، والتي تضاهي، في اعتقادي، كبار كتاب القصة في العالم، أمثال خورخي بورخيس وباولو كويلو...

***

عبيد لبروزيين

ديستوبيا العيش في وطن يسير نحو حتفه

عندما نفجع بالفقد تُثقب أرواحُنا ونغدو ذوي قابلية خرافية على أن نواصل الدّهشة بسذاجة متناهية، ونعيد اجترار ذات السؤال.. كيف يمكن للحياة أن تكون قاسية هكذا؟ أحداث تدمي القلوب ترويها الروائية المتمكّنة ذات النّفس السّردي الطويل " زكيّة علاّل" ضمن روايتها " عائد إلى قبري "، رواية الوطن المفقود والألم المسرود، ترويها بنَفَس واحد، وبنبض نصّ متّصل لا يتوقّف عن السريان حتّى النّهاية.حكاية بمثابة رسالة في ثوب ملحمة تراجيدية ذات شجون، توجّهها لكل عربي بل لكلّ إنسان، متّخذة من بلاغة اللّغة بطولة، وأسلوب الإمتاع والهدهدة ملاذا، لترتدي ثوب الرّواية وتعيش الأدوار مناصفة مع أبطال قصّتها ليكتشف القارىء في الأخير أنّها روائية بخلفية علمية ذات بعد نفسي إنساني.

من هي الكاتبة الرّوائية "زكيّة علاّل"؟

أيقونة ميلة الأولى التي يتدلّل الحرف بيدها، فيبدع القلم بصدق بوحها، كاتبة من الطراز الرفيع، مذيعة ومحاورة تخاطب بأسلوب بديع، بدأت الكتابة في منتصف الثمانينات، ونشرت في عدّة صحف وطنية منها النصر، الشروق، المساء، صوت الأحرار.. وفي مجلاّت عربية منها مجلة المنتدى بإمارة دبي. فازت بعدة جوائز وشهادات تقديرية أهمّها الجائزة الثانية للقصة عن مديرية الثقافة لولاية بومرداس سنة 2000، وجائزة القصة لوزارة المجاهدين سنة 2003 وجائزة كتامة للقصة سنة 2005، ونشير إلى أهمّ إصداراتها المدوّنة ما يلي:

وأحرقت سفينة العودة: مجوعة قصصية.. لعنة المنفى (مجموعة قصصية).. رسائل تتحدى النار والحصار، وأهمها وأمتعها الرواية قيد الدراسة " عائد إلى قبري ".

مسحة على غلاف الكتاب:

لا تُخْتَزَلُ الصورة ـــ كما النص في سميائيات ما بعد الحداثة وفي منطق الميتابنيوية ــــ في تفسير أحادي القطب بل تتجاوز إلى أبعد ما نتصوّر وفقا للحرّية التكفكية سواء تعلّق الأمر ببنية النّص أو رمزية الصورة والمشهد، لتقنعنا بأن ملكيتها تعود إلى الجميع، إلينا نحن وإليك أنت، فليس هناك من واسطة بينها وبينك.

الروائي المتمكّن من فنون الكتابة يلزمه قارىء متمكّن من فنون القراءة والتأويل، لذا بات من واجب القارىء أن لا يهمل قراءة الشّكل والغلاف قبل ولوج مضمون النّص، فالصّورة والإطار والمنظر تشكّل مقاربة تفسيرية للعلاقة الوطيدة بين المفاهيم العامة المؤطرة لحقل المرسلة البصرية، فلا بدّ أن يكون ناظرا ثاقبا، لا مبصرا عابرا، يعمل الفكر بعد البصر ممتطيا سرج السميائية الانثروبولوجية السيكولوجية لتحليل الصور المرافقة، فيدرك جزءا كبيرا من دلالات العنوان والنص على حدّ سواء. ذلك أن صورة الغلاف مركبة من لقطة تم اختيارها وتوليفه بلمسة فنية وبعين احترافية عملت بكل براعة تقنية ومهْنية على المشهد والألوان المتشابكة الممتزجة، فعلى يسار الغلاف وضمن كامل الصّفحة كُتِب تعريفا وافيا بالروائية وأعمالها ليختم في أسفلها بصورة صغيرة لدار النشر والناشر. أماّ على يمين الغلاف ـــ وهو اللاّفت عادة ــــ يتوسط إطار مساحة متدرجة اللون الأخضر الذي يسم الغلاف عامة، تشوبها لطخات دم حمراء، المعروف أن اللون الأخضر بكل درجاته رمز للخصب والجنان، ودليل الطاقة والقوة والحيوية، وفي هذا تجهيز وذخيرة لتنفيذ التنبيه الذي انذر به العنوان وأوجزه محتوى الإطار وهنا تكمن حساسية التوصيف اللوني، ومن جهة ثانية أُعْلَن ضمنيا بالتجاور مع الألوان الأخرى أن خصوبته ستكون ملاذا ومنتهى لأرواح مرهقة تتوق للفوز بتلك الجنان أمّا تركيز محتوى النّص فيكمن في الإطار الذي يحتوي شخصين بائسين يحتضنان بعضيهما وسمهما اللون البني والأصفر الشاحب الحاضر بكامل دلالته ليتواصل بذلك مع دلالة الخواء والتوقف عن الحياة التي قدّمها تشابك اللّونين البني والاصفر ذاتي سيميائية تدلّ على وطن غارق في تخمة الأحزان والخذلان.

المقاربة الاستراتيجية للعنوان:

بات العنوان خطوة مهمة في نجاح أي عمل ما باعتباره العتبة الأولى التي يرتبط بها المتلقي ويعبر من خلالها إلى المتن، وقد برعت وتفرّدت الكاتبة في انتقاء عنوان أكثر عمقا ودلالة على مضمون النص، يفضي بها إلى القول على لسان بطل الرواية مجازا:

عائد إلى قبري.. ما بين صدري وقبري، علاقة اسم ومعنى.. دفن ومحنة، الفرق هو أنّ القبر يدفن ميتا، وأنا دفنت أشياء بالصّدر حيّة. أراني سأبتدئ أيامي من آخرها فإني لا أقصّها عليكم، وهي تولد بل وهي تموت بعد أن تركتني كالنّجمة الآفلة، فرغ النور من حشوها وترغب في أن تشعّ لكن هيهات أن تفعل، أَلَا ويحك أيها القبر ألا تأتي إلا في الآخِر؟ أم أنك الحاضر الغادر؟ ولا تضع حدود معانيك بين الأحياء بعضهم من بعض، حتى يقوم بين الضّعف والقوة حدُّ المساواة. تحضر في ظلمتك حينا بعد حين إلى ميّتك الذي لم يمت! بل هرب من شيء تركه وراءه،وقدر الميت قبر، وحتمية الموتى قبورهم بل الأحياء الأموات، فلا يهربُ أحد منك إلا وجدك أمامه، أنت أبدا تنتظر غير متململ، هل القادم إليك فعلا شفي من مرض الحياة؟.. أم وقف التراب المتكلم يعقل عن التراب الصامت، ويعرف منه أن العمر على ما يمتدُّ محدودٌ بلحظة، وأن القوة على ما تبلغ محدودة بخمود، وأن الغايات على ما تتسع محدودة بانقطاع، وحتى القارَّات الخمس محدودة بقبر. إن هؤلاء الأحياء يحملون في ذواتهم معانيهم الميتة وأنت أبدا متقدّم إليهم غير متراجع، لا أحبّ أن يشطرني أي شيء في أي شيء إلى نصفي شيء، لكنّني وجدت نفسي نصفين، من حيث لم أتوقع ولم أسع يوما، لا أحبّ الأنصاف، ولست مع أي أحد يؤمن بنظرية الأنصاف، أنصاف الحلول وأنصاف العشّق وأنصاف الموت وأنصاف الحلم، لكنّني لم أحلّ إلاّ نصف المشاكل، ولم أصل إلاّ إلى أنصاف الحلول، ولم أحلم إلاّ نصف حلم(حلم على متن الطائرة بين حكمة الرشيد وسيف الحجاج )، كما لم أحبّ إلأّ نصف حبّ، ولم أمت إلاّ نصف موت، أنا نصف قادم من النار ونصف قادم من الجنة، في برزخ الوهم أقبع، ومن رحم النّكبات أولد كل يوم. ترى أيّهما هو الصّدق في حقيقته، ما نفرحُ به أو ما نحزنُ له؟ أما إن في الحياة مُرّا وإن في الحياة حلوا وكلاهما نقيض، فليس منهما شيء إلا هو ردّ للآخَر أو اعتراض فيه أو خلاف عليه، وتجدهما اثنين ولعلّ سبب الموت أنّك لا تجد إنسانا يعيش في حقيقته الإنسانية وضمن أوهام الحياة ونحو يقين اللاّحياة، يحيا بنصف مشاعر ونصف أحاسيس ونصف أحزان، نصف ضعف ونصف قوة ونصف نسيان ونصف ذاكرة، لا لشيء سوى أنّ الأنصاف للجبناء والمهزومين، لمنّ يكره اليدّ التي تصفعه ثم يقبّلها، ولأنني نصفٌ من حيث لا أريد ولا حيلة لي فيه، صفعني وطني وعدت إليه أقبّل يديه، أنا نصف حي ونصف رجل عائد إلى وطني لاتخذه قبري، وموتي فيه هو صحوي، ودونه رحيل طويل مفعم بالغياب فإمّا النهوض.. أو الخراب.

ديستوبيا العيش ضمن وهم الأمة العربية:

هي رواية من 288 صفحة صدرت عن "دار الاوطان " الجزائرية للنشر والطباعة، ظهرت في طبعتها الأولى سنة 2015، تروي الحب والتاريخ والمأساة، تنطوي على نقد عميق لأوضاع الأمّة العربية في قالب تراجيدي مفجع، وما شهدته من أحداث دامية وأحزان خلال فترة أواخر التسعينات، وهو نقد ينطبق على المنطقة العربية برمتها في مرحلة يطبعها العنف والانتقام،. يتولد هذا النقد من خلال الفضاء الروائي الذي يعدّ أحد المكونات السردية ذات الدينامية الخاصة في هذه الرواية، فبقدر ما تتجذر الشخصيات في الأرض، تتميّز مساراتها الوجودية وتأخذ أبعادا أكثر فرادة. في الفضاء الروائي تلتقي الشخصيات، وتتبلور العلائق التاريخية والجغرافية بين شعوب الامة العربية،التي تتقاسم الألم وتتنوع من حيث الأسباب، وتتقاطع التجارب والمصائر الفردية والجماعية. وتعود بالكاتبة إلى مأساة العشرية السوداء في الجزائر، حيث تصل خيبات الجزائر وجراحها بنكبة العراق بعد سقوط بغداد.. تتجسّد المأساة على يد صحفي جزائري عايش ألم الحرب والدّمار بين بغداد والجزائر. "يوسف" العائد إلى وطنه الذي يراه قبره بعد ما خلّف جزءا منه في بغداد إثر التحاقه بالعراق من أجل تغطية إعلامية، لإسقاط نظام صدّام حسين.. " نجوم سمائي تهاوت على قدم مبتورة خلّفتها ورائي ترقد في أرض بيني وبينها مسافة وجع.. أرض عاشرت فيها النار والخوف. وأحلاما رأيتها مشروعة.. لكنني رجعت منها مهزوما".

فيقدم هذا الصحفي على نبش قبر أبيه، للكشف عن سرّ طالما بحث عنه. وقد غادر القبر وترك فيه رأس أبيه المغدور دون جثّة، ينتقل هذا الشاب الصحفي من قريته التي خلّف فيها أمه الأرمة وأخته الوحيدة بعد أن فجعوا في مقتل والده مع جهل الأسباب، جمع يوسف كل ما في عينيه من الدموع وما فى قلبه من الأسى.ورحل نحو العاصمة لاستكمال الدراسة الجامعية، وهناك حصل على وظيفة في جريدة مرموقة كصحفي محترف، وقع في حب " سعاد" التي يرى فيها ضعفه الإنساني الذي أخرجه من سجن العقل وعاد به إلى رحابة الفطرة الأولى بكل عفويتها وصفائها ونقائها، سعاد التي يرى فيها تاريخه الحاضر وحبه الغائر، ليذهب بعدها في مهمة صحفية لتغطية الأحداث في العراق وهناك يقف شاهدا على سقوط بغداد، فيشهد معه حبا جديدا أخلط أوراقه وهو على محك الموت. " إنعام" المرأة المصرية الطاغية في الجمال الآتية من مدينة طاعنة في التاريخ، يعيش صراعا فهو رهين امرأتين إحداهما مدين لها بالحب والأخرى يرى فيها معنى الانتماء، حب هنا، وانتساب هناك، ألم هنا، ورعب هناك أيضا، فيقف مشدوها عصي الراحة ليتساءل: هل يمكن للرجل أن يجمع في صدره بين صورتين لامرأتين برائحتي حب مختلفتين دون أن تختلط رائحة الأولى بالثانية؟ هل يمكن أن يلتقي وجهان مشرقان في كف رجل واحد دون أن يخمش أحدهما الآخر.. ؟ لكن، لا هذا الحب ولا ذاك شفع له أمام قدره.. لينتهي به الأمر رفقة زملائه إلى ما كان يحسّه ولا يراه، فقد استشهد عمار الفلسطيني الذي كان يحمل بذور الشهادة في دمه، ورجعت انعام بعين واحدة لتضيف فجيعة أخرى إلى جملة فجائعها، أما يوسف بطلنا فيفقد رجله ليعود إلى وطن وهو نصف رجل، يجر رصيدا إضافيا إلى بنك أوجاعه فلا يرى في وطنه سوى قبرا ينتظره.. "مبتور حلمك، أيها العائد من حرب قذرة.. موؤود نهارك أيها الآتي من أزمنة الموت المعلب، والحب الذي بات يمشي بيننا على استحيا، مسكون صدرك بكل الانكسارات التي أوجدتك داخل خرائط مفتوحة على تضاريس لا تشبهك.. ".

وقفة تأمّلية:

تحيلنا الكاتبة "زكية علال" إلى التساؤل والحيرة في كلّ وقفة مع الأحداث، هذا التاريخ الذي توارثناه والجغرافية التي ترسم حدوده،كيف أسميناه وطنا؟! هذا الذي في كل قبر له جريمة، وفي كل خبر لنا فيه فجيعة؟ وطن؟ أي وطن هذا الذي كنا نحلم أن نموت من أجله.. وإذا بنا نموت على يديه، فعندما يستباح الوطن تصبح الدنيا سوق كبير للنخاسة وتصبح حياة الانسان فيها أرخص من التراب فلا أجد أبلغ مما قال فاروق جويدة: " الآن يا وطني أعود إليك، توصد في عيوني كل باب.. لم ضقـت يا وطني بنا؟ قد كان حلمي أن يزول الهم عني‏ عند بابك، قد كان حلمي أن أرى قبري على أعتابك، الملح كفّنني وكان الموج أرحم من عذابك، ورجعت كي أرتاح يوما في رحابك، وبخلت يا وطني بقبر يحتويني في ترابك، فبخلت يوما بالسكن، والآن تبخل بالكفن، ماذا أصابك يا وطـن..؟

***

بقلم الكاتبة: ليلى تبّاني من الجزائر

جيل دولوز وفيليكس غوتاري

ترجمة: صالح الرزوق

***

لا يمكننا ملاحظة التركيب (أو التجميع) في شيفرة ساكنة ونقد للمساحة الوطنية، ولكن في فك تجميع الشيفرة، وفي إزالة المساحة، وفي التسريع الروائي لكل من فك الشفرة وإلغاء المساحة (كما كان الحال في اللغة الألمانية -  أن تذهب دائما لما هو أبعد بهذه الحركة التي تسيطر على كل الحقل الاجتماعي). وهذه الطريقة أكثر كثافة من أي نقد. كاف يكلم نفسه. هدف المرء أن يحول ما كان طريقة ('proce'de) في الحقل الاجتماعي إلى سيرورة، بشكل حركة افتراضية لامتناهية وتفرض في حدودها القصوى التركيب الآلي للمحاكمة (proce's) لتبدو أنها واقع قيد التحقق، وهو فعليا هناك (4). وكل هذه العملية تدعى سيرورة، وهي على وجه الدقة دون نهاية. وتشير مارتا روبير إلى الرابط بين المحاكمة والسيرورة، وهذا بالتأكيد ليس سيرورة (أو عملية) عقلية ولا نفسية ولا جوانية.

وعليه هنا تجد الصفات الجديدة للتركيب الآلي الروائياتي ويكون متعارضا مع الدلائل والآلات التجريدية. ولا تفرض هذه الصفات تفسيرا معينا أو تصويرا اجتماعيا لكافكا، ولكن تقدم بحثا تجريبيا بصفة اجتماع سياسية. وبما أن التركيب يعمل فعلا في الحقيقي، يصبح السؤال: كيف يعمل؟. ما هي الوظيفة التي يقوم بها؟. (لاحقا سنسأل مم يتركب، وما هي مكوناته، وارتباطاته). بناء عليه علينا اتباع حركة عدة مستويات، واضعين بعين الاعتبار اللايقين الموضوعي حول آخر فصل مفترض وحول اليقين الذي تجده في ثاني وحتى آخر فصل. تقريبا كان فصل "في الكاتدرائية" سيء الحظ ولم يضعه ماكس برود بموضعه. وحسب أول انطباع، كان كل شيء خاطئا في "المحاكمة": حتى القانون، بالمقارنة مع القانون الكانطي، يضع الكذبة في مكان قاعدة كونية. فالمحامون هم محامون مزيفون، والقضاة هم قضاة مزيفون. "محققون حمقى"،"حراس فاسدون"، أو على الأقل وضيعون ويخفون المشاكل الحقيقية و"مجريات العدالة بعيدة المنال" والتي لم تعد تسمح بتقديم نفسها. مع ذلك إن لم يكن هذا المدخل مؤكدا، فهذا فقط بسبب سلطة مزيفة، ومن السيء أن تقيس العدالة بمعايير الخطأ والصواب.

أما الانطباع الثاني فهو أكثر أهمية: حيث يعتقد المرء أن القانون موجود، هناك في الحقيقة رغبة ورغبة فقط. العدالة رغبة وليست قانونا. كل إنسان في الحقيقة هو من فعل العدالة - ليس المشاهدين فقط، ولا الكاهن والرسام، ولكن أيضا المرأة الشابة الغامضة، والبنات الصغيرات المنحلات وتأخذن مجالا واسعا في "المحاكمة". وكتاب كاف في الكاتدرائية ليس كتاب صلوات، ولكنه ألبوم للمدينة. ويتضمن كتاب القاضي الصور الفاضحة حصرا. وهكذا يدون القانون في كتاب للعراة. وهنا لا تكون المشكلة مجرد إشارة لزيف العدالة في النهاية، ولكنها إشارة إلى الرغبة: فالمدانون أساسا أكثر الشخصيات وسامة لما لهم من جمال غريب. والقضاة يتصرفون ويفكرون "مثل أطفال". وتصادف أن طرفة بسيطة يمكن أن تهزم الكبت. العدالة ليست ضرورة، بالعكس تماما، حظ. ويرسمها تيتوريلي مجازيا بشكل حظ أعمى، رغبة مجنحة. وهي ليست إرادة ثابتة، ولكن رغبة متحركة. يقول كاف: من المستغرب كيف أنه لا يجب على العدالة أن تتحرك، كي لا يميل ميزانها. ويقول الكاهن في وقت آخر: “لا تريد المحكمة منك شيئا. وهي تستقبلك حينما تأتي وتصرفك حينما تذهب". والنساء الشابات لسن غامضات، لأنهن يخفين طبيعتهن وهي من ملحقات العدالة. بالعكس تظهرن أنفسهن كأنهن ملحقات لأنهن بنفس الوقت تجلبن المتعة للقضاة والمحامين والمدانين، من رغبة وحيدة وعجيبة ومتعددة الأصوات. وكل "المحاكمة" تتسلط عليها تعددية صوت الرغبة التي تمنحها قوة إيروتيكية. والكبت لا ينتمي للعدالة ما لم يرغب بنفسه - الرغبة في الواحد الذي يتعرض للكبت أيضا مثل الواحد الذي يكبت. وسلطات العدالة هي ليست تلك التي تبحث عن اعتداء، ولكنها تلك التي "تنجذب وتندفع بالاعتداء". تتحرى في المكان، وتبحث في الأرجاء، وتنبش في كل مكان. وهي عمياء ولا تقبل أي دليل، وتضع في حسبانها أحداثا عابرة، همسات قاعة المحكمة، أسرار القاعة، الضجيج الذي يسمع وراء الأبواب، دمدمات من وراء المشهد، كل تلك الأحداث الصغيرة التي تعبر عن الرغبة وعن حظوظها العشوائية.

إن لم تسمح العدالة لنفسها بالتمثيل، فهذا لأنها رغبة. ولا يمكن للرغبة أن تظهر على المسرح حيث أحيانا تظهر مثل حزب يعارض حزبا آخر (الرغبة ضد القانون)، وأحيانا مثل حضور طرفين تحت تأثير قانون أعلى يحكم توزيعهما وتكاتفهما. فكر بالتمثيل التراجيدي كما صوره هيغل: يتقدم على المسرح أنتيغون وكريون كأنهما حزبان اثنان. وبهذه الطريقة يتابع كاف التفكير بالعدالة في أول تحقيق معه. سيكون هناك طرفان. فريقان، أحدهما مفضل أكثر قليلا  للرغبة، والآخر للقانون، وتوزيعه سيحيل إلى قانون أعلى. ولكن كاف يلاحظ أن الأمر ليس فعلا هكذا: والمهم ليس ما يحصل في الاستئناف، أو في حركة الفريقين معا، ولكن في الهياج الجزيئي الذي يضع الممرات والأجنحة والأبواب الخلفية والغرف الجانبية في حركة. والمسرح في "أمريكا" ليس أكثر من جناح رحب، ممر واسع، ألغى كل النظارات وكل التمثيل. ويجري نفس الشيء في المجال السياسي (كاف نفسه يقارن مشهد الاستئناف باجتماع سياسي، وعلى نحو أدق، باجتماع ثلة اشتراكيين). وهناك الأمر المهم ليس فيما يحصل في الاستئناف حيث يناقش الحضور مشاكل إيديولوجية.

حقا القانون هو أحد هذه الإشكالات التي تخضع للنقاش. في كل مكان من كافكا - في "المحاكمة"، في "سور الصين العظيم"- يتم فحص القانون بضوء ترابطاته مع الجماعة التي ينتمي لها المتكلمون. ولكن سياسيا المهم يحصل في مكان آخر، في ممرات الصالة، وراء مشاهد الاجتماعات، حيث يواجه الناس الحقيقي، مشاكل الرغبة والسلطة الملحة - المشكلة الحقيقية للعدالة. من هذه النقطة وما بعد، من المهم إدانة فكرة تعالي القانون. لو أن الحالات الأخيرة غير متاحة ولا يمكن تمثيلها، فهذا لا يظهر كأنه من فعل التراتبية اللانهائية المنتمية للاهوت السلبي، ولكن نتيجة لتلامس الرغبة التي تتسبب بحدوث ما حدث ودائما في المكتب المجاور. وتلامس المكاتب، وتجزئة السلطة، تحل محل تراتبية الحالات  وحتمية السيطرة (وفعليا كشفت "القلعة" عن نفسها لتبدو مجزأة وتجميعات صاخبة ومتماسة على نمط بيروقراطية هابسبورغ أو موزاييك الأمم في الإمبراطورية النمساوية).

ولو أن كل شيء، كل شخص، جزء من العدالة، ولو أن كل شخص تابع للعدالة، من الكاهن إلى البنات الصغيرات، فهذا ليس بسبب تعالي القانون، ولكن بسبب حتمية الرغبة. وهذا هو الاكتشاف الذي كانت تحقيقات كافكا وخبراته تحجز نفسها فيه بسرعة.

فيما كان العم يحضه على الاهتمام بالمحاكمة بجدية، على سبيل المثال، وأن يستشير المحامي، وأن يمر بكل مراحل التسامي، يدرك كاف أنه عليه أن لا يسمح لنفسه بأي تمثيل، فهو بدون حاجة للتمثيل - وأنه يجب أن لا يقف أحد بينه وبين رغبته. وسوف يجد أن الرغبة فقط بالحركة، وبالانتقال من حجرة إلى حجرة، واتباع رغبته. سيتحكم بآلة التعبير: سيتحكم بالتحقيق، وسيكتب دون توقف، وسيطالب بإجازة من الغياب، كي يتمكن من تخصيص نفسه لهذا العمل "اللانهائي في خاتمة المطاف". وبهذا المعنى "المحاكمة" رواية لا تنتهي. حقل غير محدود من الحتمية عوضا عن التعالي اللامتناهي. وكان تعالي القانون خيالا، صورة لأعلى الأماكن، ولكن العدالة أقرب لصوت (العبارة) ولا يتوقف أبدا عن التحليق والابتعاد. وتعالي القانون آلة تجريدية، ولكن يوجد القانون فقط في تحقق التجميع الآلي للعدالة.

"المحاكمة" هي تفكيك كل المبررات المتعالية. لا يوجد هناك شيء لتحكم به على الرغبة. والقاضي ذاته تشكله الرغبة. والعدالة لا تعدو أن تكون السيرورة الحتمية للرغبة. وهذه السيرورة متدرجة، ولكن التدرج نتيجة للتلامسات. والمتلامس لا يعارض المستمر. بالعكس هو نسخة موضعية من المستمر وقابلة للتطويل بلا نهاية. وعليه هي أيضا تفكيك للمستمر. فهو دائما مكتب مجاور، دائما في غرفة لصيقة. وبارناباس "مرحب به في غرف خاصة، ولكنها جزء من كل، وهناك حواجز لا يوجد بعدها مزيد من الغرف. وهو ليس عمليا ممنوع من عبور الحواجز... ويجب أن لا تتخيل أن هذه الحواجز هي خط تقسيم محدد.. هناك حواجز يمكنه اجتيازها، وهي تماما مثل التي لم يمر منها على الإطلاق". العدالة هي تدرجات الرغبة، بوجود حدود تحريك تتعرض للإزاحة باستمرار.  هذه السيرورة، وهذا التدرج، وهذا الحقل الحتمي هو الذي ينظر له الرسام تيتوريلي على أنه تأجيل غير محدود. وجزء مركزي من "المحاكمة" يجعل من تيتوريلي شخصية خاصة في الرواية. ويميز بين ثلاث إمكانيات نظرية: الإنكار القطعي، الممكن أو الإنكار السطحي، والتأجيل غير المحدود. أول حالة لا توجد أبدا، لأنها تتضمن الموت أو إلغاء الرغبة التي يمكن أن تصل إلى نتيجة. من جهة أخرى الحالة الثانية تقابل آلة القانون التجريدية. وفي الواقع تعرف بمعارضة التيارات، وتبديل الأقطاب، وتوالي الفترات - تيار القانون المعاكس الذي يجيب على تيار الرغبة، وقطب الهرب الذي يجيب على قطب الكبت، وفترة الأزمة من أجل أزمة المصالحة. ويمكننا القول إن القانون الرسمي أحيانا يتراجع إلى التسامي وذلك بمغادرة حقل هو إيجابيا مفتوح على الرغبة، أو أحيانا يجعل المتسامي بنية تحتية واقعية وهرمية محتمة وقادرة على وقف وكبت الرغبة (في الواقع توجد عدة قراءات أفلاطونية جديدة لكافكا). وبطريقتين مختلفتين هذه الحالة، أو بالأحرى دورة هذا الإنكار السطحي، تقابل وضع كافكا في الرسائل أو في قصص الحيوانات أو الصيرورة الحيوانية. و"المحاكمة" في الفندق هي ضربة معاكسة للقانون الذي يرد على ضربة الرسائل، محاكمة لمصاص الدماء الذي يعلم جيدا أن أي إنكار لا يكون إلا سطحيا. وتعقب القطب الموجب لخط الهروب، ومحاكمة صيرورة الحيوان هو القطب السالب للقانون المتعالي الذي يسد طريق الخروج، وهذا يطرح فرضية عائلية للإيقاع مجددا بالفريق المذنب في الفخ - أودبة غريغور مجددا، التفاحة الأفلاطونية التي ألقاها أبوه إليه.  وهذه التفاحة هي بالضبط نفس التفاحة التي أكل منها كاف في مطلع "المحاكمة"، كأنها جزء من سلسلة مكسورة تجد رابطها في "المسخ". "لأن كل قصة كاف تدور حول الطريقة التي يدخل بها لمسافة أعمق في تأجيل غير محدود، متجاهلا كل صيغ الإنكار السطحي. وعليه هو يغادر آلة القانون التجريدية المعارض لقانون الرغبة، كما يعارض الجسم الروح، وكما يعارض الشكل المادة، وذلك ليدخل في مركب العدالة الآلي - وهذا يعني في الحتمية المشتركة للقانون غير المشفر والرغبة غير المحلية (التي فقدت أرضها).

ولكن ماذا يعني مصطلح التأجيل واللامحدود؟.

إذا رفض كاف الإنكار السطحي، فهذا ليس بسبب الرغبة بالإنكار الحقيقي، ولدرجة أقل ليس بسبب اليأس العاطفي الذي ينبع من ذنب ينهي تغذية نفسه. الذنب هو تماما من طرف الإنكار السطحي.  ويمكن القول إن الإنكار السطحي هو بنفس الوقت لانهائي، ومحدود، وغير مستمر. وهو لا نهائي لأنه دائري ويتبع عن مقربة "دورة المكاتب" على طول مسار دائرة كبيرة.  ولكنه محدود وغير مستمر لأن هدف الإدانة يقترب وينحسر بالنسبة لهذه الدورة. "يتمايل إلى الخلف والأمام بنوسان أضيق أو أوسع، بتأخير أطول أو أقصر: "والتيارات المعاكسة، والأقطاب المتعارضة، والفترات المتعارضة للبراءة والذنب والحرية والاعتقال الجديد. وبما أن الإنكار الحقيقي لا يقبل الشك، تقع مشكلة البراءة "أو" الذنب تماما في مجال الإنكار السطحي الذي يحدد الفترتين غير المتواصلتين وردة الواحد إلى الآخر. أضف لذلك البراءة افتراض شديد الغرابة بالمقارنة مع افتراض الذنب.

بريء أو مذنب، هذه هي مشكلة اللانهائي. وهي بالتأكيد ليست من نوع المشكلة التي يثيرها كافكا.

بالمقارنة التأجيل منته، ولا محدود، ومستمر. وهو منته لأن هذه ليست متعالية، لأنها تعمل على أجزاء. ولا يجب على المتهم أن يخضع إلى "ضغط وإثارة" أو أن يخاف من ردة حادة (لا شك الدورة تبقى، لكن "فقط في الدائرة الصغيرة التي تم حصرها بها وبطريقة صنعية"، وهذه الدورة الضيقة هي "محتملة" فقط، من رواسب الإنكار الظاهر).

وأيضا التأخير غير محدود ومستمر لأنه لا يتوقف عن إضافة جزء لآخر، بالاتصال مع الآخر، وبالتلامس مع الآخر، ليعمل قطعة بعد قطعة كي يدفع دائما الحدود إلى الوراء.

وهذه الأزمة مستمرة لأنها دائما من طرف ما يحصل. "الاتصال" بالعدالة، التلامس،  حل محل هرمية القانون. والتأخير إيجابي تماما ونشط - ويتابع على طول إلغاء فعل الآلة، ومع تركيب التجميع، ودائما قطعة بعد قطعة. وهذه هي السيرورة ذاتها، تتابع أثر حقل المحتوم (5). وحتى أنه أوضح في "القلعة" حيث أن كاف لا شيء سوى الرغبة: مشكلة منفردة، أن ينجز أو يحافظ على "الاتصال" مع القلعة، أن ينجز أو يحافظ على "التعاون".

***

........................

هوامش

4- كافكا. المحاكمة. 40:"ربما تعترض أنها ليست محاكمة على الإطلاق. وأنت محق تماما، لأنها محكمة فقط إذا نظرت إليها بهذا المنظار.

5- يبدو لنا أننا مخطئون تماما في تحديد التأجيل غير المحدود وكأنه حالة "إشكالية"، "لا قرار"، و"ضمير مذنب".

ان تكون شاعراً فعليك ان تمسك الكون بكلتا يديك، وان تعطي لمخيلتك حرية الغوص فيه، فالشعر كما يقول الرسام الهولندي فان كوخ (يحيط بنا في كل مكان، لكن للأسف وضعه على الورق ليس بسهولة النظر اليه) لهذا فمن العسير جدا ان تجد شاعرا يحلق بك في فضاءاته دون ارادتك، وان يجذبك لعالمه وأنت منقاد اليه.

ولأن الشعر هو (فن جمع المتعة بالحقيقة) بحسب رأي الشاعر والفنان صموئيل جونسون (١٧٠٩-١٧٤٨) فالقارئ يجد متعته ولذة القراءة في الشعر الذي يحرك الساكن فيه من مشاعر وأحاسيس وعمق في التفكير ويجعله مشاركاً فيما يقرأ، وهذا ما يرد بشكل واضح وانت تقرأ قصائد الشاعرة العراقية الهام الحسني، والتي تشير الى ما يشبه الهمس الى احلام الانثى الشرقية في زمن الحروب والمتاهات اللامتناهية:

(كنت سعيدة ، لا اعرف الحرب وما القتل

الطائرات..

البنادق..

المدافع..

الغربة..

التشرد..

وكل هذا الهراء.

كنت أعتقد اني لن أكبر أبداً

وأن الغد لن يأتي اطلاقا

لأن عقارب ساعتي اليدوية التي رسمتها بأسناني

كانت صامتة)

وان كان لابد من الصراخ، فهي تنتقي مبرراً لصرخاتها وأوجاعها علها تجد من ينصف أحلامها ويحقق طموحاتها، فالايام تمضي سريعا والرحلة في هذه الحياة قصيرة:

(رحلتنا سريعة وأيامنا جميلة بنا

من الذي يقرر متى نعيش؟

أنت/ أنتِ.. قلبك، عقلك، أم الأوقات .. الظروف.. المواقف أم الناس..

لا نعرف من لكنه هروب من السعادة أو الواقع بصورة أدق.)

ما يميز الحسني هو توغلها في اليومي، تغور في أعماقه، وتنتزع منه ما يمكن أن يكون اشارة للآخر، ومثابة للانطلاق بأحلامها نحو ما يبدد أحزانها من خلال مفارقات الحياة اليومية، انتقت من اليوميات ما يضعه في لبّة المشاعر والأحاسيس بعيداً عن الرتابة والتكرار، وقد كان جل ما يؤلمها هو الحجر الذكوري على الإنثى في مجتمعاتنا..

(فمن سينظر داخل زجاجة ويعرف أنني بها رهينة..

ايماني بكل شيء زائل

وأن الاقدار تتبدل..)

الزجاجة تلك هي مجرد مجموعة التقاليد البالية التي أطرت فيها مجتمعاتنا المرأة وحدّت من أبسط ما تستحقه من حرية وأوهمتها أنها (أي الزجاجة) لم تعد سوى أمان لا مناص منه.

في قصيدتها (متلازمان) تصف وبصوتين متجاورين، الرجل/ المرأة أنه في حياة كليهما ثمة شخص واحد:

(في حياة كل رجل

توجد امرأة واحدة

معها يصل الى حالة التوحد..)

(وفي حياة كل امرأة

يوجد رجل واحد

معه تجد اسمها

ورسمها

جنونها

ضعفها ورقتها)

لم تكتف في تصوير ما يراه الواحد بالآخر حيث لكل قاعدة شواذ، وفي الحياة كثير من هذا، لكنها تحيل كل ذلك الى القدر الذي يجمعهما ويوحدهما:

(ولكن..

ان يعثر كل طرف من هذين

الطرفين على الآخر

فهو قدر ونصيب)

هنا، كل طرف ينتظر الآخر، وهناك (حنين أبدي للنصف الغائب) هذا الحنين يقابله تحذر نجده في قصيدة (حواء) فالشاعرة تحذر من خدعتي الوقت والناس، فالأول (أي الوقت) قد لا يعطيك المساحة الكافية لفهم الآخرين، أما الثاني (ا] الناس) فهم الذين لا همّ لهم الا قطع الصلات وتعكير صفو العلاقات:

(احذري من خدعة الوقت

فهو رغم طوله جد قصير

واحذري من خداع الناس

فما من أحد يبقى لأحد)

أحلام المرأة/ الأنثى واضحة في عدد من نصوص الشاعرة الحسني منها نصوص (بركان ثائر ووقفة وحب حقيقي واعترافات صامتة وتكنولوجيا القلب) فهي وبمفردات غاية في الانتقاء.

في قصيدة قف تقول:

(ان لم تشعر بوخز في صدرك عندما نلتقي..

لا تسألني عن موعد للخروج سوية.

ان لم تختلس النظر الى ظهوري في مواقع التواصل بين الحين والآخر

ولم تكتب لي كثيرا

وتمحو ما اعترفت به..

ان لم تشعر بالارتباك حين أسألك عن حالك

ولم تقرأ محادثاتنا مراراً وتلتقط لها صوراً

لا تحادثني لمجرد تمضية الوقت وحسب..)

الوخز في الصدر، هو إشارة الشوق للقاء، وصدق المشاعر خلاله، وما تريده المرأة/ الأنثى لا يتعدى حدود تلك المشاعر.

وكذا الحال في قصيدة 'اعترافات صامتة' والتي تشير الى ما ذكرته في قصيدة 'قف'

(انصت اليك بقلب كامل..

تنهي الحديث وأنا متشوقة لتبدأه مجدداً.

أحذف رسائلي لتسألني عنها،

وأحاول أن أختصر كل مشاعري بمناداة إسمك)

وتلك الاعترافات لم تنته بهذه الشحنات من المشاعر انما تتعداها الى ما هو أعمق:

(فأنا لو أعطيتك هذا القلب لتقرأ ما فيه،

أهون عليّ من محاولة إخبارك عنه.)

هو الخوض في بحر الصدق وعنفوان الكلمة، وهو الرسم بالكلمات التي تدخل لب القلب دون تردد، فالصدق في المشاعر لا يحتاج الى إذن لكي يلج في صميم النفس:

(لا أعلم كيف كبرت بداخلي بهذه السرعة..

ولا أعلم كم ستظل تكبر،

كل ما أعرفه، أنني أحب ضحكتك،

وأقيس جميع أموري على قدر سعتها

هكذا يفرح قلبي!)

أن معرفة الاحساس، والشعور بالأخر، هو جل ما يثري العلاقات بين جانبين:

(أعرف جيداً هذا الشعور،

إنه أشبه بالنور الذي لا ينطفئ في قلبي).

الشاعرة إلهام الحسني تمسك بتلابيب الحياة قافزة على كل يومي بسيط لتكوّن منه فضاءً يسع أحلامها، وقصائدها التي تحاكي التقنيات الحديثة، واستخدامها بشكل يجعل من البعيد قريباً، والذي نسميه (الواقع الافتراضي) والذي يختلف جذرياً عن الحقيقي الذي نعيشه، طرفان في مكانين مختلفين، يتحدثان دون أن يلتقيا من قبل ليصبحا فيما بعد مدركين الى عمق العلاقة التي تربطهما.. في قصيدة (تكنولوجيا القلب) نجد هذا واضحاً:

(في هذا العالم الافتراضي،

ثمة أشخاص يقلبون الموازين،

يكسرون القواعد.

فأنت لا تحتاج أن تلتقي بأحدهم

وجهاً لوجه لتحبّه.

تشعر فجأة،

أن ملامحه تتناقلها القصائد.

وجوه أبطال الرواية، وصلوات الامهات

من نصوصه وتغريداته

تخلق صوتا دافئاً تطعمه لأذنيك)

هو العالم الجديد إذن، هذا الذي يشغلنا، وينوب عن عالمنا الذي نعيش فيه، ونكابد فيه، فيما العالم الذي صنعته التقنية الحديثة لا يخلو مما نحن فيه باستثناءات بسيطة لم تهتم بها القصائد إلا أنها تشكل على الواقع في معانداته للحياة:

(ثمة أشخاص هنا،

يؤسفني جداً ألاّ يجمعنا طريق ولا عمر،

وهم الأقربون)

إنها مفارقة الحياة، ما بين البعيد الذي تتوق اليه، والقريب الذي تؤسف لقربه!

أخيراً، لا بد من الإشارة الى أن الغوص في قصائد الشاعرة العراقية إلهام الحسني يحتاج الى أكثر من زاوية للقراءة، وهي تستحق أن يثنى على منجزها الإبداعي.

***

عبد الكريم العامري/ البصرة

مهما اختلفت الآراء والتعريفات في "أدب الثورة" الا انها تتفق على انه ذلك النّوع من الأدب الّذي يخلق الوعي في النّفوس ويعمّقه كما انه يفتح عيون الشّعب وبصيرته على الحقيقة ويكشف عورات الحكام الطغاة علاوة على دوره في تحريك النفوس الخاملة المستسلمة لكي تدرك طبيعة الواقع  الذي تعيشه، وهو ما أكدته الأعمال الأدبية ــ بمختلف اجناسها ــ التي تناولت الثورات السياسية والحركات الاجتماعية للشعوب المقهورة وكان للرواية شرف التصدي لهذه المهمة، فهي من بين اكثر الأشكال الأدبية استيعابا للتجارب والتغيرات الحاصلة بالمجتمعات ومنها الثورات والاحتجاجات الشعبية والجماهيرية وذلك لسعة المساحة المتاحة للروائي في حشد كم كبير فيها من الأحداث والشخصيات، والمعروف عن هذا النوع من الأدب انه لا يكتب في أثناء الثّورة ولا بعدها مباشرة، وإنّما يكتب بعد فترة من الزمن حيث يحتاج الأديب إلى المزيد من الوقت في التأمل والتّدقيق للإلمام بموضوع التغيير وافاقه المستقبلية، وقد شرع المبدع العراقي بكسر هذا السياق، فلم تكد انتفاضة تشرين العراقية تبلغ من عمرها سنوات قليلة وتفاعلاتها في الشارع ما تزال قائمة حتى سارع عدد ليس بالقليل من الكتاب العراقيين الى توثيق مآثرها وتدوين ما جرى فيها من انتهاكات انسانية بحق شباب عزّل وذلك من خلال اعمال ابداعية عراقية (رواية، شعر، قصة، مسرحية، مقالة) خرجت من مخاض الانتفاضة لتجسد عمقها وهويتها ايمانا من هؤلاء الكتاب ان الابداع فعل ثوري يجب ان ينتصر لكرامة الانسان وحريته حيث صدرت للأدباء العراقيين عدد من الاعمال الأدبية تناولت بطولات جيل العجائب جيل انتفاضة تشرين الخالدة ومن بينها رواية (جمجمة تشرين) للروائي العراقي عبد الكريم العبيدي والصادرة عام 2022 عن الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق.

وعلى الرغم من محاولة المؤلف النأي بروايته عن ملحمة تشرين وذلك من خلال التنويه الذي تصدر الرواية وأشار فيه انها رواية (من نسج الخيال وان شابهت حوادثها واشخاصها وامكنتها اشخاصا حقيقيين ص5) الا انه يمكن للقارئ ومنذ الصفحات الاولى للرواية الاستدلال على موضوعها وانحيازها التام لأدبيات انتفاضة تشرين الخالدة، فالمؤلف قام بإهداء العمل الى عائلته التي حالفت الثوار ورسمت لهم علامة النصر في ساحة التحرير الساحة التي شهدت ودارت فيها فصول المنازلة بين الاحرار والعبيد وصارت واحدة من سيمائيات الانتفاضة علاوة على المفردات العديدة التي وردت في الصفحات اللاحقة والتي لم يكن لها حضور بين العراقيين قبل انطلاق الانتفاضة من بينها (نريد وطن، الكمامات، الدخانيات، الجوكرية، الطرف الثالث، التك توك، الكواتم) وكذلك ما جرى من أحداث تناولتها الرواية وكلها تؤكد ان رواية تشرينية (كُتبتْ بأمر الشعب) وانها تنتمي الى أدب الثورات.

يكرس المؤلف الجزء الأول من روايته للكشف عن خلجات شخصياتها وخلفياتهم الاخلاقية والسياسية فيستهل الحوار بين الدخانية التي يرمز لها بـ (M) وسيدها القاتل الذي يطلب منها التهيؤ لنيل حريتها والخروج من الصناديق المغلقة للانطلاق صوب رؤوس الشباب المنتفضين ويبشرها انها (ستكون عروس العرائس ونجمة العواجل الاخبارية ص17) ويأتي رد الدخانية كاشفا عن وحدة النفوس الشريرة في تلك المنازلة (لا عليك.. انت أنا وأنا أنت كلانا في الأمر سيان، انت قاتل متمرس وعبد مأمور وقناص خطير في ميليشيات الطرف الثالث ومهمتك تطهير البلد من دنس الجوكريين ص20) ويتعمق الحوار بين الطرفين ليكشف المزيد من السادية التي كان عليها القتلة وذلك عندما تخاطب الدخانية سيدها (لا توجد متعة أجمل من رؤية جمجمة مثقوبة، يتصاعد الدخان منها، لا شيء يطربك سيدي أكثر من رؤية جوكري يخّر صريعا يتشخط في دمه وينازع الموت ص28) بهذه الطريقة الذكية من الحوار التي يلجأ فيها الروائي الى الأنسنة يقوم بإفراغ شحنات غضبه واحتجاجه غير المباشر على ما يجري للشباب المنتفض ويجعل من الدخانية لسانه الذي يجلد به القاتل ويمعن في اهانته بقولها (انك أميّ معتوه لا يقرأ ولا يكتب، لا تجيد فعل أي شيء سوى القتل، انت وحش بشري متخف، بحوزته قاذف قنابل وكل ما يعنيك هو ان تشبع غرائزك وتحافظ على حياتك وتبقى متسلطا، منغمس في غريزة القطيع وعبادة الرمز الأوحد ص30).

كما يكشف العبيدي في هذا الجزء من الرواية عن هوية تشرين والظروف التي دفعت الشباب للثورة عندما يختار احد ثوارها وهو الشاب " باهر" نموذجا ويقدمه شاب كابد الجوع والحرمان وضنك العيش حيث تخرّج من الجامعة وانضم الى ملايين العاطلين عن العمل وابتلته الظروف بإعالة شقيقاته الثلاث وأمه الأرملة ــ التي تضطرها ظروف الفقر الى العمل في الخدمة المنزلية لدى عائلة طبيب وحين (كبر واشتد عوده لم يجد وطنا مثل باقي الأوطان بل بلدا محتلا منهوبا، كعكعة يتقاسمها اللصوص ص45) فهل يحتاج مثل هذا الشاب الى المزيد من الصبر والانتظار لكي يحظى بالعيش الكريم !! وهل هناك اكثر من هذه الظروف القاسية دافعا ومبررا للثورة، هل يستحق ان تنتهي حياته باستقرار قنبلة دخانية في جمجمته لمجرد انه هتف (نريد وطن)؟ حتى ان القنبلة في نهاية المطاف كانت أكثر رحمة وانصاف من القتلة فقد منحته شهادة حسن السيرة والسلوك بعد ان أجرت مسحا خلال استقرارها في تجاويف جمجمته فتندم على فعلتها وانصياعها للقاتل الذي قذف بها فتقول عن الضحية (يا لشقائي! أهذه جمجمة جوكر جاسوس؟ أم قلب عاشق؟ هذا الجوكر العجيب سيدمرني، سيرته الذاتية مُحيّرة، لم أجد فيها معلومات تثبت ما ذهبت اليه، كل ما وجدته هو انه خريج جامعة، عاطل عن العمل، وشاعر واعد ينشر قصائد شعرية في الصحف والمجلات ص 112 )، وعند هذا الاكتشاف تبدأ نقطة التحول عند الدخانية بالتمرد فقد اصبحت تمتلك الشجاعة لتقول للقاتل (سأكشف خيوط جرائمك واثبات التهم الموجهة اليك، لم أعد " أم 99 إس، قنبلة صربية فتاكة أنا قنبلة نادمة ص94) وتزيد من حنقها وندمها فتكشف سيرة القاتل وتصفه بالمدمن الوضيع العبد مخاطبة ومذكرة اياه بنهايته التعيسة (ستفقد عالمك الكبتاجوني سريعا، وسيتخلى عنك الفيل الأزرق .. ستزول جميع النعم، كل المنافع واللذات، وسرعان ما سيرمي بك نصفك المهزوم الى الهاوية، الى مرتع الفضائح ص114).

لقد استخدم العبيدي لغة الحوار بين القتلة وسيلة لكشف زيفهم وشدة اجرامهم وتجردهم من الانسانية كما أدان افعالهم التي وصلت من الخسة في اقتحام الميليشيات المسلحة المستشفى والاعتداء على الطبيب الذي كان يعالج جرحى التظاهرات، كما اشارت الرواية الى المتغيرات التي أحدثتها انتفاضة تشرين في الوعي العراقي الذي مرّ بصحوة وطنية بعد طول سبات ومن بينها التحول في شخصية " يارا" ابنة الطبيب الذي تم الاعتداء عليه حيث كانت هذه الفتاة الارستقراطية لا تغادر اسوار القصر واذا بها ثائرة متمردة في ساحة التحرير وملهمة لشباب الثورة، وايضا بان التغيير في الوعي من خلال تفاعل الجماهير مع يوميات الانتفاضة حيث شهدت ساحة التحرير يوميا مبادرات انسانية طوعية ممثلة بالدور الشجاع لعربات التك توك والطواقم الطبية وفرق المسعفين والطبخ ووجبات الطعام التي يجلبها المواطنون بسياراتهم الشخصية اضافة الى التبرعات التي يوزعونها على المعتصمين وكذلك رسم اللوحات التي زينت الجدران وحملات التنظيف للساحة .

يكرس الروائي الجزء الثاني من روايته لإظهار الصراع الذي ينشب بين القتلة الذين يتخذون من ثنائية (القمع مقابل البقاء) منهجا في التعامل مع الشباب المنتفض، حيث تتصاعد نبرة التمرد في خطاب الدخانية الموجه الى القتلة كاشفة به عن عريهم وقرب نهايتهم (هكذا ظننتم، انت ورهطك، انكم احكمتم قبضتكم وأذللتم العباد، وغدوتم مستهينين بالأرواح، وبمنأى عن قواعد التجريم والعقاب، لم يدر في خلدك قط ان نهاراتك المزدانة بتهشيم الجماجم ولياليك الحافلة برنين الكريستال وبمعزوفات الفيل الأزرق قد ولت ولن تعود، ولكن كيف لك ان تعرف ان كل تلك الحصون والقلاع وأسيجة الأمن التي شُيدّت لحمايتكم لم تكم آمنة ولا منيعة ص93) .

ويقوم المؤلف بأسدال الستار على هذه الملحمة الوطنية في مشهد درامي مؤثر تجسده " سعودة " حين تأتي الى ساحة التحرير حاملة الدخانية التي فجرت جمجمة ابنها الشهيد " باهر" التي احتفظ بها الطبيب الذي أخرجها من رأسه لتضمها الى معرض مخلفات الـ .. وسط بكاء المتظاهرين لتؤكد ان هذه القنبلة ستبقى في متحف التاريخ شاهدا على اجرام وخسة القتلة .

رواية (جمجمة تشرين) شهادة انصاف وحسن سيرة وسلوك لانتفاضة تعد هزة تغيير مدهشة وتمثل شرارة أمل كاد يختنق في ظلمة اليأس ممثلا بصولة الشباب الذين هبوا من أجل الانتصار لوطن (مذبوح ومباح، بيع في بازار الخراب الأمريكي في عصر الردة والتراجع، وخراب الأزمنة القبيحة، وتقاسم الغنيمة، وتفريخ الأحزاب والعصابات وبيع " بغداد الرشيد " عاصمة الدنيا في سوق النخاسة ص 123) انها رواية الثقة بالنصر ولو بعد حين .

يذكر أن الروائي عبدالكريم العبيدي كان قد أصدر عدداً من الروايات وهي: ضياع في حفر الباطن، الذباب والزمرد، كم أكره القرن العشرين، ثمانية أعوام في باصورا، قصة عرش العراق و«مجموعة قصصية»، إضافة الى مسرحية فوبيا، وروايته «اللحية الأمريكية .. معزوفة سقوط بغداد» التي حازت على جائزة كتارا للرواية العربية عام 2018 .

***

ثامر الحاج امين

جيل دولوز وفيليكس غوتاري

ترجمة: صالح الرزوق

***

اللاهوت السلبي (أو لاهوت الغياب)، وتسامي القانون، وأولوية الذنب، هي الموضوعات السائدة في معظم الدراسات عن كافكا. وتقدم المقاطع المشهورة في "المحاكمة" (وكذلك في "مستعمرة العقوبات" و"سور الصين العظيم") القانون على أنه شكل نقي وفارغ ودون مضمون، له موضوع مجهول دائما:وعليه يمكن التعبير عن القانون من خلال جملة فقط، ويمكن إدراك الجملة فقط من خلال العقاب. ولا أحد يعلم جوانية القانون. لا أحد يعلم ما هو القانون في المستعمرة. وتكتب أذرع الآلة الجملة على جسد المحكوم، الذي لا يعرف القانون، وفي نفس الوقت تفرض هذه الأذرع عذابها عليه. وهكذا "سيتعرف على 'الجملة' وهي على جسده".

في "سور الصين العظيم": "شيء مؤلم جدا أن تكون محكوما بقوانين لا تعرفها... وجوهر الشفرة المجهولة هو في أنه يجب أن تكون دائما لغزا". وقد وضع كانط نظرية عقلانية عن ردة القانون من المفهوم الإغريقي إلى اليهود مسيحي. ولم يعد القانون يعتمد على خير مسبق يمنحه ماديته، ولكنه أصبح شكلا نقيا يرتكز ويعتمد عليه الخير كما هو. والخير هو الذي يعبر عنه القانون حينما يعبر عن نفسه. ويمكن القول إن كافكا وضع نفسه في محل جزء لا يتجزأ من هذه الردة. ولكن الأخلاق التي استثمرها تبين قصدا مختلفا كلية. بالنسبة له المسألة أدنى من أن تكون عن تمثيل هذه الصورة للقانون المتسامي والمجهول، وأقرب لتجزيء ميكانزم آلة من نوع مختلف تماما، غير أنه يحتاج لصورة هذا القانون فقط ليرتب عتاده ويجعلها نشطة مثل كل متكامل يحظى ب "انسجام وتزامن مثالي" (وما أن تختفي هذه الصورة - الفوتوغرافية تختفي أيضا أجزاء الآلة كما هو الحال في "مستعمرة العقوبات"). ويجب النظر إلى "المحاكمة" على أنها اختبارات علمية، وتقرير عن التجارب المجراة على عمل الآلة والتي يتحكم فيها القانون بالخطر الداهم لسيرورة العمل،  مثل دور لولب التعبئة الخارجي. ولذلك يجب العودة للنص في "المحاكمة" بحذر شديد. والمشكلة الأساسية هنا تعاني من سوء تفسير أهمية هذه النصوص النسبية، مع اتخاذ فرضيات غير مثبتة عن موضعها في الرواية، كما هو واضح على نحو خاص في طريقة ترتيب ماكس برود الأشياء لتأكيد أطروحته عن اللاهوت السلبي.

ولدينا فصلان شديدا الأهمية على نحو خاص: الفصل المكثف الأخير، عن إعدام كاف، والفصل السابق "في الكاتدرائية"، وفيه يمثل الكاهن خطاب القانون. لم يخبرنا أحد أن الفصل الأخير مكتوب في نهاية "المحاكمة". وربما كتبه كافكا حينما بدأ التنقيح والمراجعة، وكان لا يزال متأثرا بإنهاء علاقته مع فيليس. وهي نهاية غير ناضجة، ومؤجلة، وجهيضة. ولا أحد يمكنه التلاعب بالمكان الذي اختاره لها كافكا. وربما هو حلم يمكن أن يدخل في أي مكان في سياق الرواية. وبالفعل نشر كافكا مقطوعة أخرى، مستقلة وتحت عنوان "حلم"، وهي بالأساس رؤيا تمهيدية ل"المحاكمة". وعليه كان ماكس برود مصيبا حينما لاحظ كيف  كانت "المحاكمة" رواية دون نهاية، وبالضرورة  دون حدود:"بالنسبة لل "المحاكمة، حسب تصريح الكاتب حرفيا، أنت لن تصل أبدا إلى المحكمة العليا، وبمعنى من المعاني لا يمكن للرواية أن تنتهي - ويسهل أن تقول إنه يمكن تمديدها بشكل لانهائي" (ملاحظة لترجمة ويلا وإدوين موير. نيويورك. ألفريد أ نوبف، 1956. 334). وفكرة الانتهاء بإعدام كاف تتعارض مع اتجاه كل الرواية ومع صفة "التأجيل غير المحدود" الذي يتحكم ب "المحاكمة". وموضع إعدام كافكا في آخر فصل يبدو أن له مرادفا في تاريخ الأدب - موضع الوصف المشهور للطاعون في نهاية كتاب لوكريتوس. في الحالتين هو مشكلة تظهر أنه ليس أمام الأبيقوري في آخر دقيقة إلا أن يستسلم للألم، أو أنه يمكن ليهودي براغ أن يباشر متابعة الذنب الذي يعمل في داخله.

أما بالنسبة للفصل الآخر "في الكاتدرائية"، فإن الشرف الذي منح له، والذي يدل أنه على نحو ما مفتاح للرواية، ومع أنه دليل على المكانة الدينية للكتاب، يتعارض أيضا بشكل ملحوظ مع محتواه. وقصة "حارس بوابة القانون" تبقى غامضة جدا، ويدرك كاف أن الكاهن الذي يروي هذه القصة هو عضو في الجهاز القضائي، وهو دير للسجناء، وهذا عنصر واحد من سلسلة عناصر أخرى، وهو بلا ميزات، لأن السلسلة لا تتوقف عليه. ونحن نوافق على اقتراح أويترسبروت الداعي لنقل هذا الفصل بحيث يصبح قبل الفصل المعنون "المحامي والصناعي والرسام"(1). من وجهة نظر تسامي القانون فرضا، لا بد من وجود ارتباط ضروري معين يربط القانون مع الذنب، مع المجهول غير المعروف، ومع الجملة أو العبارة. والذنب في الحقيقة هو قبلي ويترادف مع التعالي، لكل شخص أو لكل إنسان، سواء هو مذنب أو بريء. ولو أنه بلا موضوع وأنه شكل نقي، لا يمكن للقانون أن يكون مجالا للمعرفة ولكنه تحديدا مجال للضرورة العملية المطلقة: يشرح الكاهن في الكاتدرائية أنه "من غير الضروري أن تقبل كل شيء على أنه صحيح، وعلى الإنسان أن يقبله على أنه ضروري".

وأخيرا لأن القانون دون موضوع للمعرفة، فهو يعمل فقط على أنه بيان وبيان محدد لنشاط العقاب: مقولة محفورة مباشرة على الحقيقي، على الجسد والبدن، وهي عبارة عملية تعاكس أي  نوع من الافتراضات والتأملات. كل هذه الموضوعات تقدم على نحو جيد في "المحاكمة". ولكن على وجه الدقة إن هذه الموضوعات ستتحول إلى موضوع تفكيك (تجزيء)، وحتى إزالة، لخبرات كافكا الطويلة. وأول جانب من هذا التفكيك موجود في "إزالة أي فكرة عن الذنب منذ البداية"، وهذا جزء من التهمة ذاتها: الإقرار ما هو إلا حركة سطحية وفيها يحتجزك القضاة والمحامون كي يمنعوك من الدخول بعلاقة مع الحركة الحقيقية - وهذا يعني العناية بقضاياك الشخصية(2).

ثانيا، سيفهم كاف حتى لو أن القانون يبقى غير معروف، فهذا ليس لأنه مستور بتعاليه، ولكن ببساطة لأنه دائما محروم من أي جوانية: هو دائما في مكتب مجاور، أو وراء الباب، في اللامتناهي (ونحن رأينا هذا فعلا بشكل واضح في أول فصل من "المحاكمة" حيث يجري كل شيء في "غرفة مجاورة").

ختاما، ليس القانون هو الذي يعلن عنه بسبب الطلب على التسامي المختفي. وتقريبا هو العكس تماما: العبارة، النطق، الذي يبني القانون باسم قوة الواحد المتسلطة وهو الذي يعلن عنه- يرتبك القانون بما ينطق به الوصي، والكتابة تسبق القانون، ولا تكون التعبير الضروري والمشتق منه.

وأسوأ ثلاث موضوعات في العديد من القراءات عن كافكا هي عن تسامي القانون وتعاليه، وجوانية الذنب، وذاتية النطق. وهي مرتبطة بكل الحماقات التي كتبت عن المجاز والاستعارة والرموز في أعمال كافكا. أضف إلى ذلك فكرة التراجيدي، والدراما الداخلية، والعلاقة الحميمة.  ودون أي شك يقدم كافكا الطعم. ويقدمه، بوجه خاص، إلى أوديب، ليس بسبب الرضا ولكن لأنه يريد أن يوظف أوديب على نحو خاص ليخدم مشروعه الشيطاني. ولا فائدة ترجى أبدا من البحث عن موضوع حول كاتب ما إن لم يسأل المرء بدقة متناهية ما هو وجه أهميته في ذلك العمل، وكيف يعمل (وليس ما هو "معناه"). وكافكا بحاجة ماسة للقانون والذنب والجوانية - إن تحركت على سطح أعماله. والحركة السطحية لا تعني أنها قناع يختفي تحته شيء آخر. الحركة السطحية تدل على نقاط إبطال الفعل، الفك، وهو ما سيحرك التجريب حتى يبرز حركة الجزيئات والتركيب الآلي والذي تنجم عنه نتيجة كونية هي حركة السطوح. ونود أن نقول إن القانون والذنب والجوانية موجودة في كل مكان. ولكن ما هو ضروري أن تفكر بجزء محدد من آلة الكتابة على سبيل المثال، كالأسلحة الأساسية الثلاثة - الرسائل والقصص والروايات - وكي تؤكد أن هذه الموضوعات ليست حاضرة في أي مكان ولا تعمل أبدا. وكل سلاح / عتاد منها له بالتأكيد نبرة مؤثرة أساسية.

ولكن في الرسائل، أنت على موعد مع الرعب وليس الذنب: الرعب من الفخ الذي تقترب منه، والرعب من عودة التيار، رعب مصاص الدم من أن يكون فجأة أمام ضوء النهار تحت شمس ساطعة، أو بمواجهة الدين، أو الثوم، أو أن الوتد ثقب القلب (وكافكا خائف جدا، في رسائله، من الناس ومما يمكن أن يحصل بسببهم، وهذا يختلف تماما عن الذنب أو الإهانة). وفي قصص التحول إلى حيوان يوجد مهرب ذو نبرة مؤثرة دون أي ترابط مع الذنب. كما أنه مختلف عن الرعب. بالتحول إلى حيوان أنت تعيش حياة الهروب أكثر من حياة الرعب (الحيوان في "الأخدود" لا يخاف حقا، و بنات آوى ليست مرعوبة - وتعيش في حالة "أمل جنوني"، والكلاب الموسيقيون  "التي تجرؤ على تحقيق شيء من هذا النوع لا تحتاج للخوف من مثل هذه الأشياء").

وأخيرا في الروايات من الغريب أن تلاحظ الدرجة التي بلغها كاف في التحرر من الإحساس بالذنب، والتحرر من الإحساس بالرعب، وعدم المباشرة بالفرار. وهو صاخب تماما ويقدم نبرة جديدة غريبة تماما، لها معنى التفكيك والذي هو في نفس الوقت يعني القاضي والمهندس، وهذا إحساس حقيقي، روح Gemut. الرعب، الهرب، التفكيك - يجب أن نفكر بها على أنها ثلاث عواطف، ثلاث كثافات، وترادف الميثاق مع الشيطان، والصيرورة الحيوانية، والمكننة والتركيب التراكمي.

فهل يجب ان ندعم التفسير الواقعي والاجتماعي لكافكا؟.

بالتأكيد، بما أنه أقرب إلى استحالة التفسير بشكل لامتناه. ومن المفيد أكثر أن تتكلم عن مشاكل الأدب الثانوي، عن وضع يهودي براغ، عن أمريكا، وعن البيروقراطية وعن المحاكمات الكبيرة، ولا أن نتكلم عن إله غائب.

يمكن للمرء الاعتراض أن أمريكا كافكا غير حقيقية، وأن إضراب نيويورك غير ملموس، وأن أصعب حالات العمل لا تقلل من كرامته في عمله، وأن انتخاب القاضي يقع في مجال اللغو التجريدي. ويمكن للمرء عن وجه حق أن يلاحظ أنه لم يكن هناك أي نقد لكافكا على الإطلاق. وحتى في "سور الصين العظيم" يمكن لحزب الأقلية أن يؤمن أن القانون هو حقيقة عبثية عن "النبالة": فالحزب لا يعبر عن الغضب، و"إن السبب الحقيقي في أن الأحزاب التي تعتقد أنه لم يعد للقانون وجود قليلة جدا - مع أن أطروحتها هي بأساليب معينة، جذابة جدا،  وتحترم دون جدال النبالة وحقها في أن تستمر بالوجود". في "المحاكمة" لا يهاجم كاف القانون ويضع نفسه طوعا مع الطرف القوي والجلادين: ويطعن فرانز الذي تلقى الجلد، ويرعب الشخص المتهم بإلقاء القبض عليه من ذراعه، وعند المحامي يسخر من بلوك.

في "القلعة" يحب كاف أن يخاطر ويعاقب كلما أمكن. هل يمكننا أن نقول، وهو ليس "ناقدا لعصره"، إن كافكا حول نقده "ليكون ضد نفسه وأن لا يكون لديه منصة غير 'منصة داخلية'؟". وهذا شيء غروتسكي، لأنه يوجه النقد إلى بعد من أبعاد التمثيل. وإن كان التمثيل ليس خارجيا، سيكون حصرا داخليا من الآن وصاعدا.

ولكن هناك حقا شيئ آخر في كافكا: فهو يحاول أن يستخلص من التمثيلات الاجتماعية مركبات لفظية ومركبات آلية.، وأن يفكك هذه المركبات. وفعليا في قصصه عن الحيوان كان كافكا يرسم خطوطا للهرب: ولكنه لم "يهرب من العالم"، ولكن العالم وتمثيلاته هو الذي قام بالهروب، ثم تبع تلك الخطوط.  كما أنه إشكالية عن الرؤية والكلام مثل خنفساء، مثل خنفساء الروث. أضف لذلك، في الروايات، يدفع تفكيك المركبات التمثيل الاجتماعي إلى الهروب بطريقة فعالة أكثر مما يقوم به ناقد، ويقترب من إلغاء الحدود  في عالم سياسي ليس له علاقة بنشاط العاطفة (3).

للكتابة دور مزدوج: ترجمة كل شيء إلى تركيبات وتفكيك التركيبات. والاثنان شيء واحد. ولهذا السبب نحن نميز في أعمال كافكا حالات هي في الواقع متداخلة مع بعضها البعض - أولا الدليل الآلي، ثم الآلات المختزلة والمتجردة،  وأخيرا تركيبات الآلة. دليلات الآلة هي إشارات تدل على تركيب لم يتحقق بعد أو تم تفكيكه، لأن المرء يعرف فقط الأجزاء المعزولة التي يمكن أن تشترك بتكوينه، ولكن ليس كيف تتشارك معا. وعلى الأغلب هذه الأجزاء هي كائنات حية، حيوانات، ولكنها ذات قيمة فقط كأجزاء متحركة أو مشاركات في تركيب تذهب لما هو أبعد من المكونات، ولغزها يستمر لأنها  فقط من يتحكم أو أنها جلاد هذا التركيب. وعليه إن الكلاب الموسيقية هي في الواقع أجزاء التركيب الموسيقي وتنتج ضجيجا "برفع وتنزيل أقدامها، وبتدوير الرأس، وبركضها وخمودها، والوضع الذي 'تأخذه' لترتيب نفسها". ولكن وظيفتها لا تعدو أن تكون دليلا، فهي "لا تتكلم، ولا تغني، وتبقى على وجه العموم صامتة، وتقريبا صامتة بحزم". وهذه الدليلات الآلية (وهي ليست مجازية أو رمزية أبدا) متطورة جدا بشكل خاص فيما يتعلق بالتحول إلى حيوان، وفي قصص الحيوانات. وتشكل "المسخ" مركبا معقدا وله عناصر - الدليل،  وهي غريغور -الحيوان والأخت الموسيقية، وهنا يكون موضوع - الدليل هو الطعام، والصورة، والتفاحة. وفيه تكون تضاريس الدليل هي المثلث العائلي والمثلث البيروقراطي.

الرأس المنكس الذي ينتصب والصخب الذي ينتهي إلى صوت ويخرجه عن مساره يعمل أيضا كدليل لهذا النوع في معظم هذه القصص، ولذلك هناك دليل آلي في كل مرة تقام فيها آلة، وتبدأ بالعمل. ومع ذلك لا يعرف المرء كيف أن الأجزاء المنعزلة التي تكونها وتدفعها للعمل تعمل هي فعليا. ولكن الوضع المعاكس يظهر أيضا في القصص: تظهر الآليات المجردة في الوجود تلقائيا، دون دلائل. ولكن في هذه الحالة لا تعمل، أو أنها لا تواصل عملها. وهذه هي الآلة في "مستعمرة العقوبات" التي تستجيب لقانون الحارس القديم ولا تقاوم تفكيكها. وهكذا هو المخلوق المسمى أودراديك والذي "يغري المرء في أن يؤمن أن المخلوق كان له في وقت ما نوع من الشكل المحسوس ولكنه الآن بقايا محطمة فقط. ولكن لا يبدو أن هذا هو الحال.. ويبدو المظهر العام دون معنى ولكنه بطريقته الخاصة ناجز على نحو مثالي".

وكذلك أيضا كرات بينغ بونغ بلومفيلد. ولكن يبدو أن تمثيل القانون المتعالي، بكل عناصر الذنب والمجاهيل التي يحملها، هي آلة تجريدية من هذا النوع. ولو أن الآلة في "مستعمرة العقوبات"، وهي ممثلة للقانون، تبدو أحفورية وخارج النطاق، وهذا ليس لأنه هناك قانون جديد، كما ادعى الناس مرارا، وهذا القانون أكثر حداثة، ولكن لأن شكل القانون على نحو عام، لا يمكن فصله، ولا يتطور، بطريقة محسوسة. ولهذا السبب تبدو القصص وكأنها تقاطع خطرين تمنعهما من إتمام عملهما، أو تجبرهما على البقاء غير تامين أو تمنعهما من التطور إلى روايات: إما لأنهما ليس أكثر من دلائل آلية تدل على التركيب، مهما كان وضعهما نشيطا في الظاهر، أو لأنهما يضعان قيد العمل آلات تجريدية كلها مجمعة ومركبة، ولكنها ميتة، ولا تفلح في الاتصال ماديا بأي شيء (ويجب أن ننتبه أن كافكا نشر بإرادته نصوصه عن القانون المتعالي في قصص قصيرة قام باقتباسها من عمل شامل).

عليه تبقى هناك تركيبات آلية بشكل موضوعات في الرواية. وفي هذه المرة تمتنع الدلائل الآلية عن أن تكون حيوانات. يجتمعون، ويتناسلون بشكل سلسلة، ويبدأون بالانتشار، ويأخذون أشكالا بشرية من كل الأنواع، أو أجزاء منها.

من جهة أخرى تتبدل الآلة التجريدية وتأخذ شكلا فرديا. وتتوقف عن أن تكون ملموسة ومعزولة. ولا يبقى لها وجود خارج التركيبات المادية والاجتماع سياسية التي تتقمصها.

وتنتشر فيها وتقدر درجة آليتها. وأخيرا تتوقف التركيبات عن العمل بصورة آلة في سياق تركيب وتجميع نفسها، وبطريقة غامضة، أو بصورة آلة تامة التجميع ولكنها لا تعمل، أو أنها متوقفة عن العمل. وتعمل فقط عبر التفكيك الذي تقود إليه الآلة وكذلك تقود إليه التمثيل. ولكنها تعمل، وهي تعمل فقط من خلال وبسبب تفكيك ذاتها. وهي تولد من هذا التفكيك (لم يكن التجميع والتركيب هو ما يهم كافكا على الإطلاق). وهذه الطريقة في التفكيك الإيجابي لا تستفيد من النقد الذي لا يزال جزءا من التمثيل. ولكن تكون متضمنة في استطالة، في تسريع، الحركة ككل والتي تعبر فعليا الحقل الاجتماعي. وتعمل في ظل افتراض حقيقي عمليا دون أن يكون فعليا (فقوى المستقبل الشيطانية المخصصة لهذه اللحظة تلامس فقط الباب).

***

........................

هوامش

1-انظر هيرمان أويترسبروت. هل أنت مستجد على أعمال كافكا؟.

(Antwerp: Vries-Brouwers). 1957.

2- كافكا. المحاكمة. 127: "علاوة على كل شيء، لو أنه عليه تحقيق أي شيء، من الأساسي أن يلغي من ذهنه ونهائيا فكرة الذنب المحتمل. وهذا الفعل القانوني ليس أكثر من صفقة تجارية لمصلحة البنك ، كما بين مرارا. وهي صفقة وفي داخلها، كما يجري غالبا، يتحرك الخطر والذي يجب بكل بساطة تجنبه".

3- حميمية البورجوازية الصغيرة وغياب أي نوع من النقد الاجتماعي هو الموضوع الأساسي للمعارضة الشيوعية المعادية لكافكا.  خذ على سبيل المثال دراسة نشرتها المجلة الأسبوعية "أكشين" عام 1946:" هل ينبغي إحراق كافكا؟". ثم أصبحت الأمور أصعب وأصبح كافكا على نحو متزايد مدانا لأنه ناشط ضد الاشتراكية، ومتورط في الصراع ضد البروليتاريا، بسبب اللوحات التي يرسمها للبيروقراطية. وتدخل سارتر في مؤتمر موسكو للسلام عام 1962 ودعا إلى تحليل أفضل للعلاقة ببن الفن والسياسة وبالأخص عند كافكا. ثم تابع مناسبتين في ليبليتة liblice في شيكوسلوفاكيا (1963و1965) وكلتاهما عن كافكا. ولاحظ المشاركون الإشارات على التبدل العميق، وفي الحقيقة، وردت مشاركات هامة من غولدستاكير وفيشر وكارست. ولكن دون مشاركين من روسيا. وكان للمشاركات وجود محدود في الدوائر الأدبية الاشتراكية. ولم تتكلم غير الصحافة الألمانية الشرقية عنها، ولإدانتها فقط. وقد تعرضت هذه المؤتمرات وتأثير كافكا للهجوم بحجة أنها أحد أسباب ربيع ثورات براغ. وأعلن غولدستاكر "نحن مدانان، أنا وأرنست فيشر، بأننا حاولنا استبعاد فاوست غوتة، وهو رمز الطبقة العاملة، من روح الاشتراكيين، وذلك لنستعيض عنه ببطل كافكا الحزين، غريغور سامسا، وهو رجل تحول إلى حشرة". وتوجب على غولدستاكر أن يهاجر إلى إنكلترا، وكارست إلى أمريكا. عن كل هذه المسائل، وعلى أوضاع الحكومات الشرقية المختلفة، وعن مقالات كارست وغولدستاكر الراهنة، انظر المقال الممتاز لأنتونين ليهام "كافكا بعد عشر سنوات" في الأزمنة الحديثة (تموز 1973).

* ترجمة الفصل الخامس من كتاب: كافكا - نحو أدب ثانوي. ص 43-52.

في المثقف اليوم