قراءات نقدية

قراءات نقدية

للكاتب النرويجي روي ياكوبسون

التقصي الأسلوبي في أغوار العوامل الشخوصية

توطئة: إن أساليب السرد الروائي في كل التجارب المحلية والعالمية التي لا حصر لها، هي قبل كل شيء حالات تنوعية في (الشكل ـ النية ـ الحكاية ـ الخطاب ـ الأسلوب ـ التقانة) ناهيك عن ذلك التوزع في اختيارات القابلية على خلق مادة الموضوعة الروائية التي تبدو غالبا متباينة أو متوارية في موصولات مراحلها التكوينية والفنية ذات الأشكال التحليلية المتحكمة في طرح نماذجها المتماثلة ما بين (التقصي ـ علاقة عوامل ـ أنساق سيميائية) . ومع أن فن الرواية عبارة عن علاقة أدوات ودلالات مفترضة في تداعيات الواقع المحتمل، لذا وجدنا أغلب محمولات المتصور الوصفي ذي مستويات خاصة من (تحول ـ صياغة عوامل ـ شروط الأسباب للمستوى التوزيعي) وهذه الجملة الإجرائية التي هي في الأسباب إجمالا، بدت لنا كوحدات تراتيبية ذات مظاهر تشمل (الدليل: الزمني ـ المكاني / الحكاية: العلاقات ـ المحاور) وهكذا انطلاقا سوف نختبر تحصيلات المجال الحكائي والخطابي في مستويات العلامات الأكثر إيصالا بين (السارد المشارك ـ وظيفة المخاطبة ـ لعبة الضمائر الحوارية) وتبعا لهذا تناولنا الرواية من الأدب النرويجي للكاتب الشهير (روي ياكوبسون) عبر روايته موضع بحثنا (صيف بارد جدا) وقد قام بترجمتها إلى العربية الأستاذ عمرو السيد مشكورا .

ـ الوظائف السردية بين عاملية الخطاب وحكي المتتاليات:

بما أن كل جملة نسقية هي بالخلاصة (جامعية وحدات) لها أقسامها المعروفة من (منظور ـ توزيع ـ أداة) فيجب علينا التعامل أولا مع مستوى السرد، كأفعال وعوامل تحددها الوظائف المبثوثة في أجزاء الخطاب الروائي. فلو عاينا من جهة خاصة طبيعة الوحدات السردية، لوجدنا مادة سيكولوجية ـ اجتماعية، تتكفلها قيم خاصة من العادات التربوية والأخلاقية التي لا تتجاوز مضمون واقعية شريحة مجتمعية محققة بدوافع التحليل أو الإسقاط الوظيفي في الاجتراح للطبيعة الموضوعة في الرواية.

1ـ الحوار المونولوجي أو استطرادات السارد الشخوصية:

مما يثير الانتباه في سياق رواية (صيف بارد جدا) هو تلك العلاقة المحكومة بمستويين سرديين.الأول، أن أفعال ومحكيات السارد بدت أحيانا عبر منظور خارجي لا يكون أحيانا إلا في شكل اقتطاعات متعاطفة مع نقل الحوادث الشخوصية (المركزية ـ الثانوية) أما المستوى الآخر، فيكون أقرب ما يكون عليه الحال في خطاب السارد العليم في علاقته مع المتلقي بعدا معتبرا في عملية التواصل الممكنة بين الشخصية الساردة ومواقع وجهات نظرها المنقولة والناقلة من حيز السرد إلى محطة مرسلات المتلقي، لذا وجدنا الشخصية المشاركة ـ فين ـ يشكل في ذاته الصلة المباشرة في الإيحاء إلى القارىء بما تجود به طبيعة بعض متعلقات الأفعال السردية من حرية إبداء المناقشة والمداولة مع موقع القارىء .وهذا الأمر بدوره ما يسمى (الميتافكشن) على حد ما جاء في كتاب الناقدة الأمريكية (باتريشيا ووه) ولا يتوقف الأمر غالبا على خصائص الوظيفية النمطية في حقيقة طرح الأسباب والخيارات والدوافع الخارجية من (الشخصية ـ الحكاية ـ الزمكانية ـ مكامن التبئير) بل أن العلاقة التأليفية قد تجاوزت حدود صناعة الشخوص وأفعالها وحوادثها، بل أن الأمر راح يتطلب من الروائي ياكوبسون، السياحة الذهنية والصفاتية والسيكولوجية والنفسية في زمن حكايته الروائية، التي لا تتطلب في مدار موضوعاتها سوى حبكة تستدع مؤشرات حكاية اجتماعية بسيطة.قلنا إن عملية الوظائف السردية في مسار الحكي، كلن لها ذلك الطابع الوظائفي من (الحوار المونولوج) وبعض من الصلاحيات اللاستطرادية التي كان يديم عليها السارد المشارك كحالة أوصاف أو أخبار أو تحول ما من مقتضايات السرد الأفعالي أو الوصفي: (كانت البداية حين اضطررت أنا وأمي ببعض أعمال التزيين.قمت أنا بطلاء الجزء السفلي من الحائط، لأنني قصير القامة.أخذت أناضل كي أتمم مهمتي، بينما هي وقفت على مرسي المطبخ وركزت على الجزء الصغير الذي يلي السقف./ص7 الرواية) أن خلفيات السارد المشارك تبدأ من الوصف في شكل استطراد تراتيبي راح يتخذ لذاته مستوى (المحكي) المتمثل في بث أطراف الوحدات السردية من خلال كيان تشاركي كأنه بذلك الأداة الداعمة إلى إظهار مطامح الطبيعة الحكائية في صوت (السارد المتمثل) .وتتجلى وحدات الموضوعة من حوارية الأشياء التي يتم تتابعها من خلال المتعلقات في الوظائف الاجتماعية، باعتبار أن مادة الرواية إحدى الموضوعات التي تغطي حياة أسرة متعففة تتقاسم جملة أفرادها المتكونة من (الأم ـ الأبن فين) وسائل العيش في السرد ذاته: (لاحظت النظرة الرائعة في عيني أمي، والحماس المبدئي الذي قد يستمر ثلاث ثواني أو أربعة، قبل أن يظهر عليها التردد المعتاد بدوره بتعبير واقعي وعقلي./ص9 الرواية).

2 ـ إطارية مشخصات الأحوال وأبعادها المتقصية:

ونحن نقرأ شيئا وأشياء ملموسة في تجليات الوحدات السردية، لاحظنا بأن هناك إمكانية زاهدة في تقويم الأداة الفعلية في المنظور الشخوصي، كحالة متقصية إلى أدق معاينات الذات العاملية، وإلى درجة وصول الأمر إلى أن حالات الفعل الشخوصي تبقى تحت مؤشر المعايشة الجادة في مواطن الدور الوظيفي، ما أتاح لها كونها تمارس شكلا مزدوجا في أسلوب تمييزها الاختباري، لا أن تقدم الحركة للشخصية بدوافع تجعلها كظاهرة الدمية أو العرائس من فوق السطور: (تساءلت أمي قائلة: ـ أليس هذا مكلفا إلى حد ما؟ ـ وهي كلمة تستخدمها عندما تكون مع الآخرين فقط، أما حين نكون وحدنا تستخدم كلمة ـ عزيزي ـ وكنا نعنيها.ردت السيدة ـ سيغرسن ـ وهي قارئة للمجاملات السويدية الخاصة بالمرأة، على عكس أمي المتابعة للمجلات النرويجية./ص9 الرواية) بأختصار: إذا كان السرد خطابا يسعى إلى إفراغ قصة ما، بمعنى ، نموذجا محدودا من المحتوى.فلا أظن بدوري أن الروائي ياكوبسون، كان يغامر لأجل تقديم حكاية عن الفوارق الطبقية في رقعة المجتمع النرويجي وحسب.نلاحظ من جهتنا أن مؤشر الخطاب في المرسلات السردية، حاول تكوين وضعية تواصلية تتقصى دقائق الذات العاملة أو العاملية من جهات شتى، أولا، بما يمنحنا ذلك الاحساس من كونها تقع في أدنى دركات الفقر، أو لكونها حسب ما أرادها الروائي أن تقدم واقعها الإشكالي كحالة ذات صلة بالمجالات التوصيفية في الإقناع السردي المسوغ في البناء الروائي.

ـ الحبكة الروائية وتكوينها المغاير:

إن تعامل الروائي ياكوبسون مع وظيفة التحبيك أو عناصر الحبكة، جاءت بطريقة تدعو قارئها إلى متابعة الدؤوبة، دون المرور بأية عملية من شأنها أن تحدث ذلك الاضطراب أو التفكر الممسوس في حلها بطريقة ما. إن السبيل المراد في فهم تجربة رواية (صيف بارد جدا) لا تتطلب من قارئها معاينة مستوى الموضوعة ذاتها، بقدر ما تقتضي من القارىء الانبساط الذهني مع عناصر الحبكة ذاتها، كما قلنا سابقا ان الشخصية فين هو ذلك الفتى الذي يعيش مع أمه الأرملة داخل منزل يسعيان فيه إلى خلق نوعا من المساواة مع حياة العوائل النرويجية المآخمة لهما كعائلة الجارة الشخصية سيغرسن وزوجته والبنت آن بيريت وأختيها.ومن الغريب أن نعلم أن للسيدة سيغرسن ثمة عادات انعزالية لها مدلولها الأبعادي الخاص، عندما تظل محوطة ذاتها داخل وجهات نظر انتقادية للمجتمع والحياة كورود هذه الوحدات مثالا: (سيغرسن ـ تعتبر البقاء في المنزل حيث سريرها وطعامها أكثر متعة من الخروج إلى الشارع./ص8 الرواية) نظرا لأن الحياة في مفهومها عبارة عن فقاقيع من زخرف البناء وبلاطات الأسطح الملقى من بين المباني السكنية، ومن الأدهى أن تصل تصورات هذه السيدة إلى كون عمليات هذه البناءات السكنية لأصحاب الأموال، هي من تقود إلى الحروب بين العظماء والمقهورين: (على جدران غرفة المعيشة الخاصة بعائلة سيغرسن، رأينا للمرة الأولى ورق الحائط ذا الورود الكبيرة الذي حول بيوت الطبقة النرويجية الكادحة في الستينيات إلى ما يشبه غابات استوائية صغيرة./ ص8 ص9 الرواية) من الواضح أن الأسلوب للروائي في مسار تحقيقه النصي، كان يلوح إلى فترات زمنية خارج سياق زمن حبكة الرواية، لذا فهو عندما يشرع بالمقارنة بين حياة أسرة السيد والسيدة سيغرسن والكم الهائل من التوتر العصابي عندما تراجع والدته المدفوع والمتأخر من الإيصالات المصرفية: (الحياة بدون أبي ليست سيئة جدا؟./ص10 الرواية) كان ذلك ما يقوله فين لنفسه عندما يشاهد السيد سيغرسن برائحته الغريبة وهو يصدر من رأسه تلك القهقهات التي تدل على استخفافه بمدى مصروفات العائلة من قبل تلك الأرقام المتواجدة في الإيصالات التي تقوم بإرسالها عادة تلك المتاجر بدماء باردة.في حين نعاين بأن (لفت نظري أن أمي لم تقدر على أبعاد الإيصالات عنها بعباراتها المعتادة:لم يكن ورق الحائط مكلفا؟ . /ص10) من لافت للإنتباه إن وحدة (ورق الجدران؟) تكررت بصورة ملحة في أكثر من موضع من الفصول الأولى من الرواية، عندما نتعقب مدلولية هذه العبارة، نجدها تؤشر لذاتها علامة حبكوية ودلالية مثيرة، تتلخص في كونها سمة تدعم في ذاتها ذلك الدليل المعادل في كون حياة الأسرة النرويجية وخصوصا منها البائسة، كانت تسعى إلى استبدال جدران أكوانها المشروخة والمثقبة بفعل تقلبات المناخ، ونظرا لعدم وجود إمكانية استبدالها، ذلك لكلفتها من أدوات البناء، راحت تلوذ وتغطي قبح منظر تلك الجدران بورق سميك ذا ألوان توحي بالغابات الاستوائية.وعندما نبحث عن جهة خاصة عن ذلك الأب للأسرة نعثر عليه سكيرا في حياته الزوجية ولا يمتلك من المهن الرفيعة، سوى ممارسة سياقة الجرافات، وقد اقترن بزوجة أخرى وأنجب منها بنتا تدعى ـ ليندا ـ .ولهذه الطفلة حكاية شيقة داخل عناصر الحكي في الرواية، لا يمكننا الحديث عنها كونها قيمة جمالية تحتمل دلالات خاصة ومخصوصة .

ـ تعليق القراءة:

من النادر ما يقرأ القارىء عملا روائيا بسيطا في فكرته، ولكونه رغم ذلك يحتل لنفسه في الذائقة المقروءة، ذلك المستوى المثير من المؤولات والتأويل: أقول أبدا لم تكن مؤشرات رواية (صيف بارد جدا) سوى السيرورة الإيحائية في عكس أسمى معادلات الصناعة الروائية الأخاذة في شكلها وبنيتها ومضمونها الاختلافي .من المهم جدا قراءة هذه الرواية والأضطلاع على جزيئات وكليات مواطنها الدلالية التي امتازت بحيوية أن يكون الروائي داخل قلب كل شخصية من شخصيات نصه ، ليقدم لنا أجدى الأوصاف والمثالات والسحن والدالات الشخوصية عبر أوجهها الإشارية والدينامية والسياقية المتضافرة ـ نوعا مغايرا ـ لعفوية واعتباطية وعابرية ما يقوم بتوظيفة الروائيون للشخوص في رواياتهم، وكأنها دمى خشبية تتراقص مع جمودها ووهنها الذي لا يقل انحدارا من مستوى البناء والتشكيل في رواياتهم. ولا يعنينا من مشروع الروائي النرويجي (روي ياكوبسون) الذي لاقت رواياته وقصصه القصيرة في النرويج حضورا لامعا ومؤثرا.فهذا المنجز الذي بين يدينا، لايمكن قراءته بطريقة الهواة أو بطريقة القراءة الاسقاطية، بل يمكننا قراءته والمعاينة في دوافع الخلق الشخوصي الروائي (الظاهر ـ المضمر) وما يتعلق بأبعاد الوسائل السيكلوجية لدى الروائي على توليف كل شخصية ضمن هويتها الدقيقة وطابعها التمثيلي للأدوار والعاملية النوعية في التقصي الأسلوبي للروائي القدير في منتوج أعماق الأدلة الكيفية في صناعة الخواص الشخوصية في موضوعة روائية ذات فعالية مرمزة عبر حوادثها ومعادلاتها الدلالية المؤشرة على حيوية شكلها وحذاقة ثمثيلاتها المتعالقة ـ دالا ودليلا ـ في المسار الإجرائي الروائي المتفرد.

***

حيدر عبد الرضا 

 

 

كَما جَالَ قَلَمه، جَالَت قَدَمه..

إنّه أحمد المقّري [1](-1041 هـ) متصدّر النخبة في القرن 11 هـ، وصاحب أوسع تأليف – على عهده – في الأندلسيات المعروضة في عشرة أجزاء والتي وسمها – كما هو معروف- بـِ: " نفح الطيب من غصن الأندلس الرّطيب وذكر وزيرها لسان الدّين بن الخطيب".

وَكَوْنْ هذا التَّأليف مؤسَّس في الأصل على تقصِّي سيرة الوزير لسان الدّين؛ لم يمنع كاتب السّيرة من الخوض في ملفّات متنوعة، فجمع وعرضَ، وأطنب وأسهم، ووصف واستحضر، وعلّق وعقّب، واستحسن واسْتساء، واغترف من معين المنثور والمنظوم على السّواء، واهتم بالحدث، فتقصّاه، وبالموقف فناوشه، فإذا بالنّفح يعّج بالحركة ويَصْدَحُ بضجيج الاستطراد وكثافة الاستدراك، يُنْطِقُ الأموات بتوظيف أشعارهم وأنثارهم، ثمّ الترّحم عليهم، ويلج باب الأحياء، فينقل حركتهم ويدوِّن وجودهم في حياته. يقول عن المُسْتقبلين له عند دخوله دمشق:".. وقابَلوني، أسماهم الله بالإحتفال والاحتفاء، وعرّفني بديعُ بِرِّهِمْ فنَّ الاكتفاء:

غَمَرَتْني المَكَارِم الغُرُّ مِنْهم

وَتَوَالَــــت عَلَـــــيَّ مِنْهَا فُنـــُونُ

*

شَرْطُ إحْسَانِهِمْ تَحَقَّقَ عِنْدي

لَيْتَ شِعْري الجَزَاءُ كَيْفَ يَكونُ؟

وقابلوني بالقَبول مُغْضين عن جهلي:

وَمَازَالَ بِي إِحْسَانُهُمْ وَجَمِيلُهُمْ

وَبـِرُّهُم حَتَّى حَسِبْتُهُمْ أَهْلِي [2]

و يذكر المقّري من كان في طليعة المستقبلين أحمد بن شاهين، شاعر الشام الكبير (-1053 هـ) فيقول في بعض ما يقول عنه: " صَدرُ الأَكابر، الأعاظم، الحائِز قَصَبَ السّبق في ميدان الإجادة بشهادة كل ناثر وناظم، الصَّديق الذي بوُدِّه أغتبِطُ، والصَّدوُقُ الذي بأسباب عهده أَرْتَبِطُ (..) الأجلُّ المولى أحمد أفندي بن شاهين، لازالتِ العزَّة مقيمة بِ.واديهِ، ولا بَرِحَتْ حضرته جامعة لبواطن الفخر وبواديه (..) فكم له – أسماه الله – ولغيره من أعيان دمشق لديَّ من أيادٍ، يعجزُ عنِ الإبانةِ عنها لو أرادَ وَصْفَها قُسُّ إيَّاد (..) فليتَ شِعْري.. بأي أسلوبٍ أُؤَدّي بَعْضَ حقِّهم المطلوب؟ أَمْ بِأيِّ لِسان، أُثْني على مزاياهم الحِسان؟ (..) فهُم الذِين نوَّهوا بقدري الخامل، وظنُّوا مع نَقصي أنَّ بحْرَ معْرفَتي وافر كامل، حسبما اقتضاهُ طبعُهُم العالي:

فَلَوْ شَرَيْتُ بِعُمْرِي سَاعَةً ذهَبَتْ

مِنْ عِيشَتِي مَعَهُمْ مَا كَانَ بِالغَالِي

فَمُتَعَيَّنُ حَقِّهِم لا يُتْرَك، وحُبُّهُم لا يُخالَطُ بِغَيْرِهِ ولاَ يُشرَك، وَإِن أطَلْتُ الوَصْفَ فالغاية في ذلك لاَ تُدْرَك.."[3]

وَ المُتأمل في هذا المقتطف، يستشعِرُ ثنائية الجمْع بينَ عرضِ الحدَث واستدعاء الصورة الجمالية لِتَغْليفِ – إن جاز القول- هذا الحدث الذي يُسْبِغُ عليه الكاتب حلّة من الإحتفاليـة والترحيب بِضَيْفِ دمشق –بلبل تلمسان- وإذا بالصورة المنتقاة لترجمة الحبور تَرْفلُ في فنيات البديع والبلاغة، وتُبْحِرُ في غَوْر التَّشْكيل الجمالي وكأنِي بصاحبها يَأْبى إِلاَّ أن يقتسم هذه الحفاوة ، مع الكلمة الرقيقة، والعبارة البهيجة، فيستدعيها لتشهد - بدورها – كرم المضيف، وشهامة المُعْتَنِي بالغريب وطقوس إجلال هذا الوافد على بلاد الشام، وإذا بالصُّورة تَنْساب في تَمَظْهُرٍ خَطِّي بَديعِ التَوْزيع، قَمِين بالمُدَارَسة والتَّدبُّر....

بداعة التوزيع:

ماَ مِنْ شكِّ أن القارئ ليس أمام نَثْرٍ عادِي، ولا أمام أداءٍ أُسْلُوبي هشّ.. كما أنه ليس أمام نُثُوءٍ فنِّي في تاريخ الصِّياغة العربية القديمة.. فطالما امْتَلَكَ مُماَرِسُوهَا صَهْوَة الأداءِ، وكانوا فُرسان البلاغة وعُمَدَاء فنون القوْل بِمُخْتلف أَنْسِجَته.. وفي محاولة لمقاربة هذا المقتطف، يقف القارئ على شكل مُوَزِّعٍ ما بين طول في الفواصل تارة، وقصَرٍ فيها تارة أخرى، ويَخْتَزن طولهما وقِصَرُهُما على السواء، شحنة تصويرية يحرِّكُها نَسيجٌ سرديٌّ فَضْفاضٌ قائم على:

أ- البِنْية الإجلالية:

اكْتَسَحَتْ هذه البِنية سِعة المقتطف، واتخذت شكلاً حلزونيا يبدأ بتوظيف التّبجيل وينْتَهي بِأَحَقِّيةِ التَّمجيد..

يقول المقّري مُبَجِلاً أحمد بن شاهين: " صدر الأكابر الأعاظم، الحائز قَصَب السّبقِ في ميدان الإجادة بشهادة كل ناثر وناظم.."

حَوَتِ الفاصلتان إِكْبَاراً وتَعظيماً، تلاهُماَ تَصْنيفٌ لِنوعية النُبوغ، ثمَّ تحديد لنوعية العلاقة الجامعة بين الرّجلين: "الصّديق الذي بِوُدِّهِ أَغْتَبِطْ، والصَّدُوق الذي بأسباب عهده أرْتَبِطْ.." وكاَنِّي بالمقّري يَفْتَتِحُ تصعيدا حِكائِياًّ لما هو كائن ولما سيكون بين الَّرجُلين من تواصلٍ أوجبته وحدةُ النبوغ؛ فكلاهما أديب.. وأوجبه اجتماع الرَّأي حول عظمة أحد أعلام القرن الثامن الهجري: الوزير " لسان الدين بن الخطيب" فابن شاهين اقترح وطلب ثمَّ ألحَّ على ضرورة إعادة إحياء سيرة لسان الدين، والمقرِّي تباطأ بدايةً [4]، لكنه لم يَلْبَثْ أَنْ جدَّ وانطلق[5] فجاء النفح "باقة" تُزَيِّنُ صدر القرن الحادي عشر للهجرة، وتَسْري نفحاته إلى يومنا هذا.. إنه أريج الخزانة العربية عامّة والخزانة الجزائرية خاصّة..

ويَسْتَرْسِلُ الكاتب مُوَظِّفاً بِنْيةَ الإجلال التي تقتضي الدُّعاءَ للممدوح: " لا زالتِ العزَّةُ مُقيمة بِوَاديه، ولا بَرِحَتْ حَضْرته جامعة لبواطن الفخر وبَوَاديه". ويكتمل الشِّقُّ الأوّل من بنية الإجلال – والذي كان محوره أحمد بن شاهين- بِشِقٍّ ثانٍ: أعيان دمشق الذين ساهموا وشاركوا في الاحتفالية بِبُلْلِ تلمسان، فأكرموه وأجلُّوه حتّى وجد نفسه عاجِزا عن سُبُلِ شُكرهِم: "ولِغيرهِ من أعيانِ دمشق لديَّ من أيادٍ، يَعجِزُ عن الإبانةِ عنها لو أراد وصفَهَا قسّ إياد (..) فليتَ شِعري بِأَيِّ أسلوبٍ، أُؤَدّي بعض حقِّهم المطلوب؟ أم بأيّ لسان، أُثْنيِ على مزاياهم الحسان؟.."

وهكذا طفِق المقّري في تشخيص فِعلِ الاستقبال الحسن، فتسلّل الوصف إلى السّرد لِيُكوّنا معًا وَحْدَة حكائية مُؤَسَّسة على الصِّياغة المُميَّزة، ومُدعَّمة بفلتات شعرية، جادت بها قريحة المقّري وهو في قمة الانفعال تُجاه من أَكرموا وِفادَتهُ:

فَلَوْ شَرَيْتُ بِعُمْرِي سَاعَةً ذهَبَتْ

مِنْ عِيشَتِي مَعَهُمْ مَا كَانَ بِالغَالِي

إنَّه تصاعدٌ يُحمِّل البِنية الإجلالية دلالة فوق دلالَتها، ويتشعّب بها – ربَّما- إلى أمرٍ يَحُزُّ في نفسية هذا الكاتب، خاصّة عندما زار المغرب الأقصى، ولم يرُقْه المقام فقال: " إنَّهُ لمَّا قضى المَلِكُ الذي ليس لعبيده في أحكامه تعقُّب أوْ رَدٌ، ولا محيدَ عمَّا شاءهُ سواءٌ كرهَ ذلكَ المرءُ أَوْ رَدَّ؛ بِرِحلتي من بلادي، ونُقلَتي عن محلِّ طارفي وتلادي، بقُطر المغرب الأقصى، الذي تمَّت محاسنه لولا أنَّ سماسِرة الفِتَن سَامَتْ بَضاَئع أمنِهِ نقصاً، وَطَماَ به بحرُ الأهوال، فاستَعْمَلَت شعراء العَيث[6] في كامِل روْنَقه من الزخارف إضماراً وقطعاً ووقصا[7] (..) وذلك أواخر رمضان من عام سبعة وعشرين بعد الألف، تاركاً المَنْصبَ والأهل، والوطن والإلف.."[8]

كما يبدو فالإسْتياءُ واضحٌ من وضع غامض، امتعض منه الكاتب، عكس ما وجده في دمشق التي أحبها وأحب أهلها حبا صافيا " وحبهم لا يخالط بغيره ولا يُشْرَك، وإن أطَلْتُ الوصف فالغاية في ذلك لا تدرك"[9] ويسترسل المقَّري في حكائيته، فيأبى إلا أن يفتح نافذة المفاضلة بين المغرب والمشرق بالبديهة، ودون أية خلفية مسبقة، وكأنه يعزف فقط على وَتَرِ "لا كرامة لنبي في قومه " فيقول: فهم الذين نوَّهوا بقدري الخامل، وظنوا مع نقصي أن بحر معرفتي وافر كامل حسبما اقتضاه طبعهم العالي" [10]

يتسلل سؤال مشروع: هل لم يُنْصَفِ الرجل في بلده؟ هل لم يعرف المغاربة قدرَهُ؟ وكأنِّي بالمقَّري – رغم نبوغه- يرمز ضمنيا إلى أنه لا يداني حلبة الفطاحل من المشارقة، وأنه لولا شهادتهم فيه لظل خامل الذكر مغمورا.. وتلك – لَعَمْرِي- قِمَّة التواضع عند صاحب النفح.. ألم يقُل في موضع آخر من النفح:

وَلَكِنْ قُدْرَة مِثْلِي غَيْرُ خَاِفَية

وَالنَّمْلُ يُعْذَرُ فِي القَدْر الذِي حَمَلاَ

ب- البنية الوصفية:

كما اعتنى المقري بأهل الشام وأعيانها، التفت إلى طبيعة دمشق، واستعذب جمالها وأطلق العنان لقلمه واصفا: ".. دمشق الشام، ذات الحسن والبهاء والحياء والاحتشام، والأدواح المتنوعة، والأرواح المتضوعة (..) والأضلال الوريفة، والأفنان الوريقة، والزهر الذي تخاله مَبْسَمًا والندى ريقه، والقضبان المُلْدُ[11] التي تشوق رائيها بجنة الخلد (..) ورأينا من محاسنها ما لا يستوفيه مَن تأنَّق في الخطاب، وأطال في الوصف وأطاب، وإن ملأ من البلاغة والوطاب[12].." [13]

وكأن الوصف نثرا، لم يكفه، فحاول أن يلخِّص محاسن دمشق مرتجلا لعدة أشعار أجتزئ منها بالآتي:

قَالَ لِي: مَا تَقُولُ فِي الشَامِ حَبْرٌ

كُلَمَا لاَحَ بَارِقُ الحُسْنِ شَامَه

*

قُلْتُ مَاذَا أَقُولُ فِي وَصْفِ قُطْرٍ

هُوَ فِي وَجْنَةِ المَحَاسِنِ شَامَه [14]

و ينزع المقري في محكياته الشامية إن صح القول – إلى سرد بعض من نشاطاته أثناء إقامته بتلك الربوع، فيقول:" وكنا في خلال الإقامة بدمشق المحوطة ، وأثناء التأمل في محاسن الجامع والمنازل والقصور والغوطة، كثيرا ما نَنْظِمُ في سلك المذاكرة دُرَرَ الأخبار الملقوطة، ونتفيأ من ضلال التبيان مع أولئك الأعيان في مجالس مغبوطة، نتجاذب فيها أهداب الآداب، ونشرب من سلسال الاسترسال، ونتهادى لباب الألباب، (..) ونستدعي أعلام الأعلام، فينجر بنا الكلام والحديث شجون، وبالتفنن يبلغ المستفيدون ما يرجون، على ذكر البلاد الاندلسية، ووصف رياضها السندسية (..) فصرت أورد من بدائع بلغائها ما يجري على لساني، من الفيض الرحماني.."[15]"

يُسْتخلص من هذا المقتطف جنوح المقري إلى المتعة الذهنية القائمة على المشاركة العلمية في مجالس دمشق المُعْرِبة عن كفاءة الرجل في تنشيط مثل هذه المجالس، خاصة حينما خاض في أخبار الأندلس وأشعار الاندلسيين وعرج على لطائف لسان الدين شعرا ونثرا، فبهر به الجلساء، وكان هذا كافٍ لُيجِلُّوهُ ويُنَوِّهُوا بذكره من ناحية، وليطلب منه شاعر الشام "ابن شاهين" تدوين سيرة الوزير لسان الدين، كما سبقت الإشارة إلى ذلك. يقول المقري: ".. وأسرُدُ من كلام وزيرها لسان الدين بن الخطيب السلماني، صب الله عليه شآبيب رحماه وبلَّغه من رضوانه الأماني! ما تثيره المناسبة وتقتضيه، وتميل إليه الطِّباع السليمة وترتضيه، من النظم والجزل، في الجد والهزل والإنشاء، الذي يدهش به ذاكره الألباب إن شاء، وتصرفه في فنون البلاغة حالَيْ الوِلاية والعزل (..) فلما تكرر ذلك غير مرة على أسماءهم، لهِجوا به دون غيره (..) وعلِق بقلوبهم، وأضحى منتهى مطلوبهم (..) فطلب مني المولى أحمد الشاهيني (..) أن أتصدى للتعريف بلسان الدين.." [16] "

بهذا التكليف، وبهذه المجالس يسطع نجم المقَّري في الأفق، ويحسب له ألف حساب وحساب.. ومع ذلك نتساءل: هل كان الرجل سعيدا بكل هذا؟ وهل صفيت مشاربه، فاطمأنّ إلى الناس وإلى الحياة اطمئنان الحالم المتنعم؟!

لا أظن.. فالنَّغص موجود، والنكد يخترق نطاق الكتمان.. يقول المقَّري متفجعا: " وأنى يطيق، سلوك هذا المضيق، من اكتحلت جفونه بالسهاد، ونبتْ جنوبُه عن المِهادِ، وسدَّد نحوه الأسف سهمه، وشغل باله ووَهْمَهُ، وبثَّ في قلبه تبريحا، وعناء لم يجد منه إلا أن يلْطُفَ الله تسريحا، فما شام بارِقةَ أملٍ إلا في النادر، ولا ورد منهل صفاء إِلا وكدَّره مكر غادر، وقد كثر الجفاء، وبرِح بلا شك الخفاء (..) والصديق الصدوق في هذا الزمن قليل (..) وداء الحسد أعيا الأول والآخر، وقد عظُم الأمر في هذا الأوان وكثُر المزدري والساخر (..) وليت شعري علام يُحْسَدُ من أبدل الاغتراب شارته (هيئته) وأضعف الاظطراب إشارته، وأنهل بالدموع أنواءه، وقلل أضواءه، (..) وشتان ما بين الاقتراب والاغتراب (..) فذاك تسهل غالبا فيه الأغراض والمآرب، وهذا تتعفر فيه المقاصد وتتكدر المشارب.."[17] "

يَا رَبْ نَفِّسْ هُمُومِي

وَاكْشِفْ كُرُوبِي جَمِيعًا

*

فَقَدْ رَجَوْتُ كَرِيمًـا

وَقَدْ دَعَوْتُ سَمِيعًــا "[18] "

لعل "الفجيعة" في هذا المقتطف بادية جلية، فجيعة النفس الإنسانية حين يستفحل أساها، حين تدقها مطارق الغدر والمكر، وتهشمها على مرايا الزمن، ودون سابق إشعار: فالمقَّري مهموم مكلوم، شاك على القرطاس بعضا من منغصات عيشهِ، وإن سكت من منغصات عيشه، وإن سكت عن تعيين سببها في البداية، واكتفى بتصوير الحال: (السهاد، الأسف، الانشغال، التبريج، الكدر، الجفاء) إلا أنه لا يلبث أن يُشخْصِن هذه المنغصات:

افتقاد الصديق الحق

استفحال الحسد

شيوع السخرية والازدراء

وكلها – لعمري- ما اجتمعت على إنسان إلا وأقضت مضجعه، ودقت عظمه، إلا من رحم ربك.. إنها ضريبة الإمتياز يؤديها المرء على هذا النحو.. فإما يصمد ويواجه الإعصار، وإما ينهار ويفلت منه القرار، فيصبح صيدا لشماتة الأعداء ونكتة في أفواه السفهاء...

جـ- بنية الوداع:

لم يكن وداع دمشق والدِّمَشْقيين بالأمر الهين، فقد أشجى قلب بلبل تلمسان، وهو الإلف المألوف في تلك الربوع.. فراح يسكب على القرطاس أثر الحدث على نفسه، ويتمثل بالغزير من أشعار غيره في مثل هذا الموقف: " ثم حضر بعد تلك الليلة موقف الوداع والكل ما بين واجم وباك وداع، فتمثلتُ بقول مَن قلبه لفراق الأحباب في انصداع:

وَدَعَتْهُمْ وَدُمُوعِي

عَلَى الخُدُودِ غِزَارْ

وحُقَّ لي أن أتمثل في ذلك يقول العزازي[19]

لاَ تَسَلْنِي عَمَا جَنَاهُ الفِـــرَاقُ

حَمَّلتْنِي يَدَاهُ مَالا يُطَــاقُ

*

أَيْنَ صَبرِي أَمْ كَيْفَ أَمْلِكُ دَمْعِي؟

وَالمَطَايَا بِالظَاعِنِينَ تُسَاقُ [20]

وضاقت بي الرحاب، عند مفارقة أعيان الأحباب والصحاب، وكاثرت دموعي من بينهم السحاب، وزَنْدُ التذكُّر يقدح الأسف فيهيِّج الانتحاب (..) وتخيلنا أن إقامتنا بدمشق، وقاها الله كل صرف، ما كانت إلا خطرة طيف ملم، أو لمحة طرف (..) وطالما عللت النفس بالعود إليها ثم إلى بقاعي (..) ثم أكثرت الالتفات عن اليمين وعن الشمال (..) وتنسمت من نواحي تلك الأرجاء أريج الشمال (..) ثم استجد بي السير إلى مصر واستمر.." [21]

وفعلا غادر المقري "دمشق" وقصد مصر حيث سيشرع في تدوين سيرة لسان الدين.. وظلت الذكريات الشامية عالقة بذهنه، متوهجة في قلبه، وكثيرا ما لهِجَ لسانه – كما حكى ذلك – بقول القائل:

وَمَا تَفْضُلُ الأَوْقَاتُ أُخْرَى لِذَاتِهَا

وَلَكِنْ أَوْقَاتُ الحِسَانُ حِسَانُ[22] !!

وتبقى محكيات المقري غزيرة، غنية، متنوعة ترقى بالمتن إلى أصول التقعيد لموسوعة أدبية عربية، أبدعها واحد من أبناء هذه الأرض الطيبة.. وقامت هذه الموسوعة على إفراز وضعيات، ورصد مواقف أسهمت كلها في اتساع دائرة الحكي، رغم أن هذا العرض المتواضع لم يتجاوز حدثا رئيسا ألا وهو تواجد المقري في دمشق وما كشف عنه من علاقات وشيجة مع أهل الشام حيث طاب المقام، وجرى القلم بمجريات الأحكام..

***

الأستاذة غربي شميسة

سيدي بلعباس/الجزائر

..................

الإحالات:

[1] - هو الفقيه الشيخ أبو العباس أحمد بن محمد الشهير بالمقري، والملقب بشهاب الدين أصله من مقرة بفتح الميم وتشديد القاف المفتوحة وراء مفتوحة وهي قرية بتلمسان.

اختلف في تاريخ ميلاده، والأشهر أنه ولد عام 992هـ. وهو التاريخ الذي حدده الزركلي. المقري مالكي المذهب ارتحل إلى المغرب وإلى المشرق واشتهر بغزارة علمه وسيولة يراعتِهِ.

من مخلفاته: نفح الطيب، إتحاف أهل السيادة بضوابط حروف الزيادة، إتحاف المغرى في تكميل شرح الصغرى، أزهار الرياض في أخبار القاضي عياض، أزهار الكمامة في أخبار عمامة، روضة الآس العاطرة الأنفاس، وغير هذا كثير في الخزانة العربية.. توفي المقري عام 1041هـ

[2] - أحمد المقري، نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب وذكر وزيرها لسان الدين بن الخطيب، 1/69، شرح وضبط وتعليق وتقديم، مريم قاسم طويل/ يوسف علي طويل، دار الكتب العلمية، بيروت/لبنان،1995، ط1.

[3] - نفسه، ص70-71.

[4] - يقول المقري:" فطلب مني المولى أحمد الشاهيني إذ ذاك (..) أن أتصدى للتعريف بلسان الدين في مصنف يعرب عن بعض أحواله وأنبائه، وبدائعه وصنائعه ووقائعه مع ملوك عصره وعلمائه وأدبائه (..) وبعض ماله من النثار والنظام، والمؤلفات الكبار العظام، الرائقة للأبصار (..) فأجبته أسمى الله قدره الكبير، وأدام عرف فضائله المزري بالعنبر والعبير، بأن هذا الغرض غير سهل، ولست علم الله له بأهل، من جهات عديدة، أولها قصوري عن تحمل تلك الأعباء الشديدة، إذ لا يوفى بهذا الغرض إلا الماهر بطرق المعارف السديدة، وثانيها عدم تيسر الكتب المستعان بها على هذا المرام لأني خلفتها بالمغرب (..) وثالثها شغل الخاطر بأشجان الغربة، الجالبة للفكر غاية الكربة، وتقسم البال.."، النفح،1/76.

[5] - يقول المقري:" ثم إني لما تكرر علي في هذا الغرض الإلحاح، ولم تقبل أعذاري التي زندها شحاح، عزمت على الإجابة لما للمذكور علي من الحقوق، وكيف أقابل بره حفظه الله بالعقوق؟.. فوعدته بالشروع في المطلب عند الوصول إلى القاهرة المعزية (يشير إلى المعز أبي تميم)"، النفح، 1/85.

[6] - العيث: الفساد أو الإفساد.

[7] - مصطلحات عروضية.

[8] - المقري، النفح، 1/18.

[9] - نفسه، 1/71.

[10] - نفسه، 1/71.

[11] - الملد: الناعمة.

[12] - الوطاب: وطب وهو سقاء اللبن.

[13] - المقري، النفح، 1/64.

[14] - نفسه 1/66 والحبر المذكور في البيت هو الصالح من العلماء، و: شامه بمعنى تطلع نحوه ببصره (شيم).

[15] - نفسه، 1/75.

[16] - نفسه، 1/75 -76.

[17] - نفسه، 1/76-77-78-79.

[18] - نفسه، 1/80.

[19] - شاعر مصري، توفي بالقاهرة سنة 710هـ

[20] - المقري، النفح، 1/88، ويسترسل الكاتب في التمثل بأشعار العديد من الشعراء، إلى أن يصل قرابة المائة بيت، ينظر النفح، الجزء الأول من ص88 إلى ص99.

وقد لا يتمثل وإنما يضمن، يقول مثلا: "وقلت أنا مضمنا بديهة:

لا كان يوم فراق   ساق الشجون إلينا

فكم أذل نفوسـا     يا من يعز علينـا

وكما هو واضح فقد ضمن في هذا الشعر قول أبي الطيب المتنبي:

يا من يعز علينا أن نفارقهم وجداننا كل شيء بعدكم عدم

ينظر: النفح، 1/95.

[21] - نفسه، 1/96-97-98-100.

[22] - نفسه، 1/102.

 

في المجموعة القصصية سنوات العمر الهاربة

الأدب عراب للمجتمع.. فعندما نتمعن بتلك المفردات نجد انفسنا ملزمين بقنوانين أدبية خاصة ونحن نعيش وسط مجتمع يمتلك موروثا من العادات والتقاليد الى جانب الثيمة الأسلامية بشكلها العام التي تضمن للاخلاق والامانة سلوكياتها بان تكون حارس لما يكتب او ينقل من حالات وظواهر سلبية كانت ام إيجابية واقع حال ام خيال.. فلكل نص أدبي يحمل على اكتاف كاتبه موروثات قد تكون شاهدها او سمعها او عاصرها او خالطها في مسيرة حياته بكل تقلبتاها بحلوها ومرها بحزنها وفرحها.. حتى تكاد تصبح خزينا و موروثا في ذاكرة ونفس الاديب، الأديب الذي يمتلك ملكة وموهبة صياغة كل الاحداث في مجتمعه التي عاصرها او تداخلت دون إرادته بشكل يكاد يكون زفير لرئة متخمة بالضيق، فخرجت على شكل سرد روائي او مجاميع قصصية او روايه او شعر.. وحين تعرضت الى قراءة المجموعة القصصية للاديب عبد الرزاق الغالبي سنوات العمر الهاربة وقفت طويلا امام العنوان، و وقفت اطول في تخوفي من الكتابة عنها

اولا: لاني لست ناقدا بارعالكني قارء جيد في الغوص الى عمق النصوص الادبية وكشف الوجه او الوجوه التي ترتديها تلك التي طمسها احيانا او غمرها الكاتب بوجه مستعار او ثيمة معينة او ألبسها ثوب الاستهزاء او السخرية او جعلها محاكاة نفسية لكثير من الشخوص التي تلبسته وكانت مؤثرة في حياته التي مر بها منذ أن لبس المجتمع عبارة يختبيء بداخلها احداث لا يمكنه ان يغيرها حتى و إن استطاع إلا حين يسمح له و بحدود فكانت قصص عبد الرزاق الغالبي مثخنة بالأنسة والرمزية و التهكم والسخرية، فجاءت تحمل جمال و إنعكاس الموروث الثقافي و المعرفي لدى الغالبي.. فلو دخلنا الى البؤرة العامة: نصوص مجموعة سنوات العمر الهاربة التي تحتوي على ثيمة ثابتة تخص ملفيات احداث حياة الاديب إنطلاقا عما شاهده وسمعه وركب عناوينه فكانت عناوين قصصه بوابات لمدلولات كثيرة و متعددة في سرد معاناة الإنسان في ظل نظام نثر القيود بشكل وهم يتحرك بين العامة على انه حقيقة.

البؤرة الخاصة: كتب الغالبي معاناة و صور حياته الشخصية من خلال التماس و المواجهة في نقد سلبيات المجتمع سواء بسخرية ام بشكل مباشر منقدا حقيقة الانسان في مجتمع متناقض الظروف فحتى عناوينه القصصية بحد ذاتها قصة متكاملة فلو اخذنا كمثال نزيف الالوان او الجحيم الارضي او جروح لن تندمل نجدها صرخة في وجه الظلم و الاستبداد كأنها انعكاس عن معاناة ليس كاتب او شخص واحد بل هي اصوات عديدة فمن من اهل بيئته لم يحمل معاناة و وجع المعاناة او الجراح او الجحيم.. أن موروتات البيئة والمجتمع الذي عاش فيه الكاتب جسده معارضا إياه من خلال قصصه القصيرة سواء من ويلا حروب او حصار او أو مرض.

الخلفية الاخلاقية:

جميع النصوص الادبية الرصينة عليها ان تتحلى بالاخلاق، على ان تتخذها خط مستقيم لا ميول فيه لأنها تعكس اخلاق بيئة او مجتمع.. و لأن الاديب او القاص صورة ناقلة بشكل رفيع المستوى فكان لزاما ان يتخذ من الخط الاخلاقي خلفية لسرد ما يواجهه من آراء مجتمع تختلف اذواقه الى جانب رأي النقاد، كما ان الالتزام الاخلاقي يخضع لقوانين و مقومات، لأنها في رأيي هي المكيال في كفتي الميزان لمعنى الرقيب الحقيقي لما يكتبه القاص او الروائي او الشاعر وهذا ما سار عليه الغالبي في مجموعته سنوات العمر الهاربة..

المستوى البصري: إن موضوع إخراج نصوص أدبية تحت مسمى او عنوان يكون اصعب في بعض الاحيان من طرح العنوان على غلاف كتاب.. لأن العنوان هو المحاكاة الخارجية الداخلية للرواية او المجموعة او حتى القصيدة الشعرية.. فعنوان مجموعة الاديب الغالبي اجدها اشبة بمذكرات يومية او مشاهدات أو مشاركات عاصرها الكاتب وبقيت هاربة في مكنون خزين ذاكرته إلى ان أحاطها بوهج ينم عن اكتمال نضوجه الفكري والثقافي والادبي فسردها بشكل ينم عن جمالية الحروف التي صاغها والصور التي طبعها في ذهن القاريء اشبعها اي الصور ألما و وجع ضرب على اوتار حساسة كان هو اول من سمع آهاتها و نقدها ورفضا لواقع الحياة في مجتمع تخبطته الدكتاتورية او العنف السادي وجعل من ثيمة المجتمع الخوف من المجهول

العنوان:

سنوات العمر الهاربة.. هو دلالة واضحة على ما يشعر به الاديب سواء من ندم او حسرة او عدم قدرة على تغيير واقع مرير لم يكن لديه الحق في ابداء الرأي برموزه او عناوين السلطة او النظام الحاكم؟؟؟ فكانت كل سنوات حياته هاربة إما خوفا او تفاديا لشي يتربص بوجه عين او آذان مندسة تلتقط ما لا يعنيه ليكون سود لجلاد او نهاية تلك السنوات التي قضت ان تكون شاهد عيان هارب..

الغلاف:

كعتبة نصية كان مدروسا بعناية حين استخدم الرسم الإيحائي للغلاف على شكل شخص يسير نحو المجهول هاربا الى حيث لا يعلك و تلك الاشجار باللون الاسود التي عكست الحزن و الضياع الغير مثمر الى جانب خيال من يمكن ان تكون الهجيع الانثوي الذي يرغب ان يسكن إليه لكن سنواته الهاربة لا تمكنه بأن يستقر في كتابعة حياته بالشكل اطبيعي إن العنوان اخذ خطه الشكل المتوازي مع جميع النصوص التي كتبها الاديب الغالبي و سارا معا دون ان يتضاربان رغم أن كل منهما يفضح واقعا كان يعيشه بهستيريا الخوف و الرعب، تكاد ما إن كادت بالفعل تحمل ثييمة واحدة رغم ان تعدد الثيمات يعني تعدد النصوص و قد يكون النص يحمل اكثر من ثيمة واحدة لكن يبدو الغالبي له رأي آخر في مجموعته التي كانت سردا لا يمله القاريء، لأنها إنعكاس لمعناة مجتمع و أفراد خاضوا تلك السنوات الهاربة من أعمارهم عنوة دون إرادتهم فكان الغالبي بمجموعته ناقلا وشاهد عيان حقيقي لمعاناة بلد وشعب بأكمله، فجاءت مجموعة سنوات العمر الهاربة بإيحاء مدلول ذرائعي في حقبة زمنية واقعها حقيقي ومر.

الدلالة الذرائعية عند الغالبي..

كل الدلالات التي عكسها الغالبي في مجموعته كانت تعبيرا ذاتيا عن رفضه للواقع الذي يعيش بداخله وتجسده سلطة ونظام حاكم مستبد.. فجل رموز شخصياته هي من الشريحة التي تعرضت للإضطها من قبل السلطة حتى المثقفة منها فكانت عناوين قصصه المدخل الذرائعي في نقده ظاهرة ما او حالة سلبية كما ذكرت مسبقا بسخرية او على لسان اشياء قام بأنسنتها وقالها عن لسانها ألبسها ثوب الرافض لواقع إنساني بشكل يخدم المراد من الدلالت التي أراد ان يوصلها الى المتلقي سواء كان لأن الدلالة توصلك الى المدلوك بإعتبارها الوعاء الذي ينقل المعلومة من العالم الخارجي الى العالم الداخلي او العكس كي يوصل المعنى، لقد امتاز الغالبي في رأيي بحرفة تفكيك المفردة ثم اعاد تركيبها بشكل يتوائم مع ما يريده مما اعطى جمالية للنص يتفرد عن النص الذي قبله او بعده وهنا لا اريد ان استشهد بجزء من نصوصه لأنها و هذه حقيقة تفردت بها سنوات العمر الهاربة أنها نصوص جرت على مجتمع في وطن بأكمله، إن التعرض لقراءة مجموعة سنوات العمر الهاربة يكشف حقيقة ما عاناه المؤلف الذي سرد سنواته بالعناوين قبل ان يروي مشاهداته او ممارساته الحياتة سواء حين دخل سلك التعليم او حين أدى الخدمة الالزامية او كل ما كان يشاهده ويسمعه يلتقطه بكاميرا ذاكرته التي لا تنضب في فتح صنبور رفضه للواقع رغم أنها كتبت بإرهاصات مؤلمة.

الجانب اللساني:

الواقع ولكثر ما زخرت به ثقافة الكاتب انعكست على الجمل التي صاغها في مجموعته، فحين يكتب يتجرد من شخصية الغالبي الحقيقية ويكتب لسان حال الشخصية التي يريد لها ان تعبر و تثور على الواقع مع العلم انهما وجهان لعملة واحدة لكن الهروب الى الحاكي او السارد هو انفلات من الوعي الى اللاوعي بإرادته.. خوفا من محاسبة السلطة ودرءا للعقاب.. فمن يجرؤ على نقد السلطة او الكتابة عن سلبياتها     

الجنس الادبي:

اعتقد انه ينضوي تحت عنوان الميتا سرد (وقد عرَّفهُ ويليام غاس بأنه «القص الذي يجذب الانتباه إلى نفسه، كونه صنعة ليطرح أسئلة عن العلاقة بين القص والواقع» وهذا فعلا ما تجسده قصص الغالبي منذ القصة الاولى حتى النهاية.

الجمال:

إمتازت سنوات العمر الهاربة في جمالة الوصف من خلال انتقاء المفردات المدروسة حتى وإن كان بعضها كتب باللهجةالدارجة العراقية تمسلا وتعبيرا مدى تعلق الاديب في بيئته التي يعيش فيها بمفهوم حب الوطن و الانتماء لجذوره كما انه يستخدم عنصر المفاجأة في وضع حد لنهاية القصة التي يكتبها في بعضها جعل النهاية مفتوحة و قد أجاد في ذلك فالمعاناة والهروب من الواقع ديدن لا ينتهي ما دام هناك سلطة جائرة وحقوق مسلوبة و زنازين وافواه ملجمة عن الجهر و قول الحقيقة، إن من روعة الادب الواقعي ان المتلقي يتلمس حقيقة الاحاسيس والمشاعر و مصداقيته في نقل معاناة بلد و مجتمع كامل بمختلف اطيافه سواء الذين يقطنون بيوت الصفيح او الذي ظنوا انهم تدعوا جسر الاضطهاد من خلال انهم مثقفون فلا حصن من يد الجلاد.. ان قصة جروح لا تندمل خير دليل على انها تركت الاثر الكبير على معاناة شعب كامل ويلات الحروب القتلى النعوش الجثامين... كلها واقع شاهده الكاتب ولامسه عن قرب من بيئته رغم رفضه لكل السلبيات لكنه مجبر ان يسايرها و يزامنها..

السخرية:

لجأ الغالبي لأسلوب السخرية من الواقع بعرض المبكي الى مفرح هربا من شدة الضرب المبرح لواقع يعيشه.. اعتبر ذلك مبادرة الهروب الى الداخل فكل انسان لديه عالم يهرب إليه سواء بالوحدة او الحزن السخرية فحينما لا نستطيع تغيير الواقع نسخر منه إشباع لنفس عاجزة ان تغير واقها وهذا الاسلوب مزجه الغالبي في العديد من قصصه في هذه المجموعة والتي اعتبره عنوان آخر يضيفه مادة لنقد ورفض المؤثرات التي انهرصت في قولبة شخصيته التي هو عليها اي الرافضة للإضطهاد المعلنة انه يرفض واقع اي جريمة تقوم بها السلطة ضد اي انسان.. كما سخريته من الواقع قادته الى التهكم بشكل اضاف الى النص جمالية الإيحاء وبينت ذكاء الاديب ايضا في توزيع المدلولات بشكل يمكن للمتلقى ان يلامسها مثل واقع عاشه هو..

إن سنوات العمر الهاربة لا يمكن وضعها في زمكانية محددة حيث انها تمثل واقعا في اي بلد او مكان سواء اوربي او غربي او عربي.. فالسلطة الجائرة توزع ادوار تعاملاتها القمعية بإسلوب متشابه فيما بينها و الاختلاف آلية التطبيق والاسلوب المبتكر في طريقة صنع فزاعة ينام عليها الفرد وهو مرتعد الفرائص إضافة الى جلادين تابعين لتلك السلطة.. نجح الغلبي في عدم تحديد الزمكانية رغم انالحقبة التي طرح مشروعه القصصي عنها زالت لكن الاسلوب الذي استخدمه لا زالت يتطور مع كل حقبة زانية او مكانية ما دام هناك سلطة جائرة سواء في الحاضر او المستقبل.

الرمزية:

استخدم الاديب الغالبي في كتابة اغلب قصصه على الرمزية بشكل واع استفرد به حيث جعلها ماتعة سهلة القبول عند المتلقي و بسخرية رغم ألمها و شدة و جعها، و ذلك تعبيرا عن حالة شاهدها او سمع عنها او عايشها البعض منها اظهر التعاطف معها لانه تعني بيئته التي نهل منها كل موروثاته الفكرية والثقافية.. انطلت بالنتيجة على سلوكياته في تشفير بعض المفردات او الجمل لانه لا يزال يشعر انه في سنوات عمره الهاربة شمل ذلك انواع الرموز الشائعة بالمجاز والاستعارة بالاضافة الى الرمز التقني حيث وظف السرد بإتجاه الظلم الذي شاع في حقبة سنوات عمره الهابة منه بإرادته و رغما عنه أيضا..

المعاناة عن عبد الرزاق الغالبي:

ظهرت جلية في اغلب قصصه التي كتبها بعناوين كما ذكرت هي بحد ذاته قصة اوجز من خلالها معاناة افراد مجتمع خالطه عن قرب ومورس عليه الطرق بمطرقة دون سندان فالغرض كان وضع عناوين خوف ترعب من تسول نفسه ان ينتقد السلطة او الواقع الذي يعيش فتجسدت معاناته بشكل مسلسل الجمسع يتابعه و غن لم يتابعه ذهب كي يشعد احداثه عن السارد بنفسه بواقعية الالم والجروح التي لم تندمل

تمرس الغالبي و هذا رأيي من خلال ما قرأئته أنه استحصل على براءة اختراع في مناجاة النفس البشرية من خلال طرح معاناته النفسية و الشخصية انعكاس لتجربة مجتمع شملته نفس المعاناة بتركيباتها التي يرفضونه لكنهم مجبرين على تقبله لأن عكس ذلك يعني الموت و الرقص على الجراح أفضل من الرقص على الموت.. استطاع الغالبي ان يجسد حقبة عاشها بنفسه مرآة حقيقية لافراد مجتمع بمختلف شرائحة و طبقيته واضعا الضمير الذي يكتب من خلاله وازع حقيقي لواقعية الحدث الذي جسده في قصصه الاربع والثلاثين.. و برأيي ايضا اجاد فتحة مجموعته بقصة الوهم ليعبد طريقه هربا من الواقع بذلك لاعنوان بعد ان اعتبر كل ما عاناه وهم عله يستفيق ليجده كذلك ليعود و يستقر بعد تلك السنوات من الهروب,,

ان الغالبي استطاع عصرنة السرد حيث جعله يسير متوازيا مع التقدم التكنلوجي و الانساني حيث استخدم علميته النقدية في ممارسة اسلوب كتابة تفرد فيه وهذا ما يجعلني اطرح سؤال هل يمكن ان يكون الاديب و الكاتب ناقدا؟ ام هل يكون الناقد أديبا اي قاص وروائي؟ أظن ذلك يمكن إذا ما طرح الاديب بالات نفسه الى القدرة على الالمام بالنقد العلمي باسلوب الذرائعي واعتقد بذلك يتخطى عتبة النقد الانشائي الذي استحلبناه من الغرب.. إننا الان على ابواب جديدة متغيرة بتغير اللغة التكنلوجية تحاكي المستقبل بواقع من الماضي الى الحاضر فكل ما نقراه بصيغة الماض هو مستقبل حاصل في زمن النشأة الاولى و الخلق الاول..

المستوى النفسي:   

حين يقرأ المتلقي هذه القصص القصيرة يجد ان سيكلوجية القص تسير وفق مستوى نفسي مدرك لما يكتبه غير مبتعد عن طرح رأيه بسخرية العلم بالحدث تاركا بصمته برفضه السلوكيات والممارسات التي تجسدها السلطة، ذلك الرفض هو ما عكسه بسرده بشكل لاذع و آخر بإستهزاء وسخرية كسلوك نفسي لشخصية متكررة لصورة في بيئة او مجتمع محيطه لا يتغير كونه احاطها اي نفسه باسوار شائكة، لكنه اخترق الخوف النفسي و الارهاب و طرح رايه و مشاهداته عناوين و قصص اجاد تلوينها رغم ان الالوان قد نزفت نتيجة ما عاصرته من تحديات.. فباتت كل عناوين قصصة محفزات لرفض واقع جسدته الشخوص التي كتب شخصياتها بأبعادها السلوكية والنفسية.

الخلاصة:

إن مجموعة سنوات العمر الهاربة هي مجموعة قصصية واكب احداثها كل م قرأها فلابد و اكاد أجزم على ذلك ان هناك من شاهدا وعاشها كما صاغها الغالبي بقلمه.. اعتبر هذه المجموعة سيرة ذاتية مر كاتبها على ابواب سنين عمره الذي طرق ابوابه بمراحل عمرية مختلفة سواء الطفولة او الصبا او الشباب حتى بعد ان ركب جواد تمكن من الامساك بلجام ادواته المعرفية والثقافية وراح يضرب بمهماز قلمه تلك المشاهدات التي فرك انفسها بإرادته و رغما عنه كي يجعلها تعطس نفحة جديدة للحياة.. إنها موروث لحقبة صعبة و مرة على الكثير موثقة دون زمكانية وإن تلمس القارئ عناوين تلك الفترة او الحقبة بمعايشته لاحداث مشابهة لها..لا يمكنني وضعها في مكان القص وحده او الحكايا او السرد.. فسنوات العمر الهاربة كلها تشترك في تلك العناوين بشكل او بلآخر.. حملت رسائل موثقة بشاهد عيان اطلق لنفسه الهروب ليعيش سناوته هاربا الى الداخل و لا انسى ان قصصه تميزت بالتكثيف والاختزال كما انها تبين مهارة الكاتب في تلخيص تلك السنوات.

***

القاص والكاتب/ عبد الجبار الحمدي

 

في المجموعة القصصية (كابوس في لوحة) للكاتب ضياء الخالدي

بعد الاحتلال طفحت على سطح الواقع طفيليات هجينة، وخلقت أزمة اجتماعية وسيكولوجية، أثرت بشكل سلبي على بنية المجتمع، وأدت الى تغيير وجه الحياة والواقع اليومي، عمقت الشرخ الاجتماعي في اوجه الاشكال السريالية الغرائبية، في الانفلات الأمني والسلاح المنتشر بيد الجماعات والعصابات المسلحة من أجل الاستحواذ على النفوذ والمال.

المجموعة القصصية (كابوس في لوحة) تؤرخ لاصعب فترة زمنية عصيبة وحرجة مر بها العراق أيام الرعب الارهاب الدموي، في المعاناة المتشظية التي تطايرت نيرانها، واحرقت الاخضر واليابس، وأصبح مصير الانسان في مهب الريح. فقد تميزت أحداث السرد القصصي، في الإيغال بالعمق في الصراعات الداخلية والخارجية في الأزمات اليومية في هذه الفترة الخطيرة في عمر العراق السياسي والاجتماعي، وفي رصد الظواهر الجديدة في الحياة اليومية، في لغة سردية متمكنة في التناول والطرح في الاتجاه الواقعية الجديدة، وفي لغة مرهفة تشد القارئ الى المتابعة الحالة الدراماتيكية في الواقع اليومي، من خلال عشر قصص التي احتوتها المجموعة القصصية، وهي بمثابة عشر لوحات كابوسية في مجريات الأحداث اليومية، عبر أحداث متفرقة، وجدت صداها وانعكاساتها في سياق الأحداث الفعلية، التي تجرع علقمها الإنسان العراقي بشكل يومي، من خلال الارهاب الدموي وانتشار عصابات الجريمة واللصوصية دون رادع أو رقيب، هذه المتغيرات احدثت شرخاً عميقاً في بنية المجتمع، مما جعلت المواطن يعاني الإحباط والهزيمة، وهذا يدل على غياب دور الدولة والقانون والنظام. لنأخذ بعض العينات من اللوحات الكابوسية في المجموعة القصصية.

1- قصة: رسائل الليل

معضلة أزمة السكن تفاحلت وتضخمت في العهد الجديد، في انتشار البيوت العشوائية في أراضي الدولة المهجورة، بما فيها المقابر القديمة والمعسكرات المهجورة، أصبحت مأوى سكني للشرائح الفقيرة والمعدومة، في السكن في البيوت المتهالكة والمتداعية للسقوط ، يلعب بها الريح وخاصة في الليل، تدخل من شقوق النوافذ والجدران والابواب، وتصدر اصوات مزعجة في ضجيجها، اضافة الى نباح الكلاب، مما يثقل الحياة بالمعاناة والحزن على رب العائلة، يتصور بأن الضجيج والصخب يرن في أذنيه وحده، لا يسمعه الآخرين، هذه هي الحالة الواقعية للاحياء العشوائية. اضافة انها تستقبل زائرين غير مرغوب ومرحب بهم، من المجنون و الشحاذ والمتسول والعجوز المسنة والشيخ المسن، ومن هب ودب حتى زيارة الاشباح، مما يشكل مصدر إزعاج، كأنهم في زيارة للقبور، ويحذرون الساكنين بأن هذه البيوت مسكونة بالأشباح تتجول بحرية داخلها. لذلك عليهم هجرها قبل وقوع المحذور.

2 - قصة: عالم مقلوب

من الواقع السريالي القائم فعلاً، يناقض العقل والمنطق. هل يعقل رجل أمن يخاف من اللصوص ويهرب منهم هو في حالة خوف ورعب، ويركض هنا وهناك، يفتش عن مخبئ ينقذه منهم، ووجد ضالته في باب مفتوح ودلف الى حديقة الدار واختبئ فيها، ولكن ضبطته طفلة من البيت، تلعثم بوجودها، وهو يحاول ان يضبط اعصابه واتزانه امامها وقال لها (- اللصوص يبحثون عني، كانوا في الزقاق قبل قليل) ص24، وعرف بهويته بأنه شرطي ورجل أمن، هذه الغرابة بدلاً من رجل الشرطة أو الامن المفروض هو الذي يقوم بدور مطاردة اللصوص، لا العكس تماماً. فقالت الطفلة في براءتها (- هل أنت جبان؟) و (لماذا لا تمسكهم أذن؟ لا تملك مسدساً، صحيح؟) ص26. وحين ابتعدوا اللصوص عن المكان تنفس الصعداء وخرج من حديقة البيت، والطفلة تراقبه وتحدق في مؤخرته الملطخة بوحل ساقية الحديقة.

3 - قصة: كابوس في لوحة

وهي تحمل عنوان المجموعة القصصية. دلف الى داخل كوخ صغير مهجور. وجال نظره في الداخل، وجد كل الأشياء من حاجيات البيت مرمية مبعثرة ومتناثرة، ولكنه فوجئ بصوت اقدام تضرب الأرض في إيقاع مرتب ومنتظم، ليقف أمام رجل عجوز طاعن في السن وفي شعره ولحيته البيضاء. حاول زرع قسمات ابتسامة على ملامح وجهه، رأى الرجل الطاعن في السن، يرتدي ثوباً قصيراً بالكاد يغطي عورته، وبالوان فاقعة غير متناسقة، ظنه مجنوناً في هيئته الغريبة، كأنه عائد من القرون الوسطى، ورأى الناس يدورون في حلقات منتظمة على أصوات الإيقاع ورنينها المرتب. فقال الرجل المسن (- سترسم المكان، ألست رساماً؟

- نعم، كلا، رسمت كثيراً !

- خذ قطعة القماش وجسد ملامحنا بدقة، واياك ان تنسى تقطيبة حزن واحدة) ص42. وناله لونين فقط ليرسم بهما، وهما اللون الاسود، الذي يدل على حالة الحزن والدموع والبكاء، واللون الأحمر، وهو يدل على سفك الدماء نتيجة الارهاب الدموي والطائفي،والرجل المسن ذوب الثوب القصير، العائد من القرون الوسطى، هي حالة العراقي بكل تفاصيلها بالكمال والتمام.

4 - قصة: حبيبتي أماني

اصبحت التفجيرات الارهابية التي تطال الناس الابرياء في الأماكن المزدحمة. في الأسواق والمحلات العامة والمقاهي وتجمعات الناس في الارصفة المكتظة بالمارة، حالة مألوفة من الظواهر الجديدة. شاهد سيارة زرقاء اللون واقفة بين السوبر ماركت و المقهى المزدحم بالناس، ماهي إلا ثواني حتى دوى الانفجار في المكان وتطايرت أشلاء الضحايا الى مسافات بعيدة، كأننا امام محرقة الشواء البشري من الانفجار الدموي. هذه حالة بغداد المأساوية، وهو يتجول في شوارع بغداد ومعالمها البارزة، وجدها تلبس ثوب الحداد والشحوب والفوضى، في الانفلات الأمني، وانتشار المسلحين الذين توزعوا على شوارع بغداد ومناطقها.

5 - قصة: الوصول الى شارع أبي نؤاس.

أصبحت لعبة السلاح، اللعبة المفضلة حتى لصبيان بعمر العاشرة والرابعة عشرة، يخرجون من ثكناتهم العسكرية، بضجيجهم وهم يحملون المسدسات، بدلاً من ان يخرجون من المدارس محملين بالكتب المدرسية. وظيفتهم القتل والسلب والنهب ورعب الناس. يستغلون غياب دور الدولة والقانون والنظام. يقتنصون صيدا تهم البشرية بعد منتصف الليل، وغامر وخرج من فندقه في شارع ابي نؤاس، ليتجول في شوارع بغداد ليلاً، التي كانت تعج بالحركة حتى الصباح، ووقع في مصيدة الصبيان المسلحين.

(- تريد الموت؟

- لا.

- تريد العيش؟

- اكيد، من أنتم؟

- مسلحون؟) ص102.

تيقن بأن الموت بات يلوح فوقه حتماً، بهذه المجازفة الرعناء، الخروج من غرفة الفندق بعد منتصف الليل، كأنه يتذكر ماضي شارع ابي نؤاس الذي كان حدائقه تعج بالمارة حتى الصباح، يتسامرون على السمك المسكوف والنيران تتراقص أمامه، وتتطاير الأحلام مع كؤوس الويسكي والعرق المحلي. لكن بغداد خلعت الماضي الجميل ولبست ثوب الانفلات الامني وانتشار الجماعات المسلحة، حتى الصبيان والأطفال جندوهم على تدريب السلاح. تنفس الصعداء حينما اطلقوا الصبية سراحه ونجى من الموت المجاني، لكن المصيبة الثانية المعوقة كيف الوصول الى غرفة الفندق في شارع أبي نؤاس؟!

***

جمعة عبد الله – كاتب وناقد

 

لم توفر لي الصدف فرصة اللقاء المباشر بالشاعرة والقاصة نرمين طاهر بابا رغم فيض كتاباتها واسهاماتها ودورها في إثراء المشهد الادبي والثقافي التي تضج باسماء لامعة للنخبة النسوية المبدعة في كركوك  كآيدان النقيب ورمزية مياس وامنة محمود وغيرهن كثير، ومع ذلك ازعم اني بتُ اعرفها جيدا بعد قراءة متأنية لنتاجاتها الادبية التي وردتني مؤخرا (قصص وقصائد) و(أدباء من مدينتي) و(إمرأة من لهب) .. دواخلها.. هواجسها.. الشجن الشفيف الذي يغزو روحها.. كبرياؤها الذي يطغي على مفرداتها والذي لا ينحني امام العواصف وعاديات الزمن، فوجدت من العسير تخطي تجربتها الشعرية التي استقطبت قبلي اهتمام ادباء وكتاب معروفين في الوسط الابداعي كالراحل وحيدالدين بهاءالدين والدكتور صباح عبدالله كركوكلي وعبدالجبار درويش رضا ونزار السلامي وغيرهم خاصة اني وجدت في نصوص مجموعتها الشعرية (إمرأة من لهب) دفقا موحيا وعاطفة شجية قد تكون انعكاسا لجزء كبيرمن سيرتها الحياتية الذاتية المفعمة بالمشاعرالمتضاربة والاعتداد بالنفس :

خلقت من وريقات الاقحوان المرنخة بالعسل،

أحترق كي أشبع نهم النار.

في عروقي أوعية للذكر..

تهديني الى النجدين..

كلاهما يقوداني الى الهلاك !

أنحني خجلا لزخات المطر،

وهزيم الرعد والحليم اذا غضب

لكني لا اقضم خبز الذل

في أفول الشمس، وغياب القمر.

وتستعين نرمين بتقنية الرمز في تعضيد بنية نصوصها الشعرية لذا فهي توظف بمهارة احداث ووقائع من الارث الفكري الديني في العديد من تلك النصوص لتستلهم منه قيما سامية ربطتها بسلاسة مع قضيتها التي تتبوأ اهتماماتها الشعرية الا وهي الوطن وكركوك، ولأنها تدرك الظلمة التي تغلف يومها فإنها تنادي بالصبر والتضامن من اجل غدها الأفضل، لذا فإنها وبحرفية مشهودة استلهمت واقعة (رحمة بنت ميشا) زوجة النبي أيوب الصابرة والَمخلصة التي وقفت الى جواره في محنته حين نزل به البلاء، واشتد عليه المرض الذي امتد لسنين عدة، ولم تظهر مللا أو ضجرا، بل كانت متماسكة طائعة وبادرت في اسمى صور الوفاء الى بيع ضفائر شعرها لتأمين قوت يومهما والايمان بما يمكن ان يؤدي الصبر الي الانفراج والرخاء :

يا أيوب حَسْبْكَ صبراً

فامرأتك وهبت ضفائرها

على رنين الحاجة في سوق عُكاظ

الدواءُ ليسَ في سُمّ الأفعى

ولا في مناقير السنونو

ولا في عظام الهُدهد الذي مات

قبلَ الطُوفان بستةٍ أعوام

الدواءُ أن ننهض الآن

ونُشبكَ أيدينا

على مدارج (القلعة)

والماء يفيضُ من حجارات (خاصة صو). 

وبذات السياق الرمزي تتناول نرمين قصة قتل قابيل لأخيه هابيل الذي سُرعانَ ما شعرَ بالنّدم على فِعلته، وعليها تبني الشاعرة بنية النص من خلال خلق علاقة تفاعلية بين الحدث المدوي المتمثل بأول جريمة في تاريخ البشرية وبين استحضار رمزية الذئب والتغافل عن الدلالات التقليدية له المبنية على القيم التي تمثلها هذا الكائن الذي رسمت الذاكرة الموروثة صورته النمطية في الحياة وهي دلالات تقترن دائماً بالغدر والخيانة، والافتراس، والاقتناص الشرير والخبث إلا أنها كالكثيرمن الشعراء المعاصرين قلبت تلك الدلالة فأصبح الرمز مبعث إثارة لكوامن الضمير وربما مجابهة المصير المحتوم:

ينتفضُ كطيرٍ ذبيح...

بين أقدام الغلمان وحور العين ...

والشمس على صهوة الغروب

وقابيل يمسك بغصن التوت

يكادُ يشفُ منه دم العروق

من صحوة الضمير ...

يتشبث بالوصل الى قمةٍ الشجرة

والذئبُ يلبس الثيابٌ البيضَ

يحوط نفْسَهُ بالتعاويذ

تمنع عنه الحسدً والعينَ

ينتظره عند جذع الشجرة.!

لا شك أن الحزن الآسر الذي غلف نصوص نرمين مردها وقائع حياتية موجعة ، عصفت بها ، وخلقت فيها جوا حادا من التوتر والوجل الناتجين عن الإحساس بعدم التوازن النفسي بين الذات والعالم الخارجي , ورغم ان الدافع الذاتي كان له أبلغ الأثر في جلً المجموعة ألا أنها تخطت مأساتها الشخصية الى آفاق واسعة . فتحول الأنين الى نداء صاخب لأنتشال الوطن من محنته وبث روح الرفض والإصرار والتجلد في الإنسان الجديد الذي عليه تولي مسؤولية الركون بقارب النجاة الى شاطئ الأمان:

تشربث عينايٌ بالدموع وقلت:

ملعونة هذه الايام من عمر الزمن

فمزقتَ هُويتي وأعطيث الطابع للسجان

واحتفظت ببطاقة التموين والسكن

فصرخت يا حمدانُ يا حمدانُ يا حمدان

إن جفتٌ البحور وغابث الشطآن

فخذ مني لقاربك الوريد والشريان. !!

من دفتر الحب

وكما في حضرة الوطن والمدينة المعشوقة تنهل نرمين من دفتر الحب صورا شعرية مبهرة وأخاذة ، بها تعصر المفردة بل وتقشر الكلمة لتسفر عن مكنونها السحري الفريد فترسم بجمال فائق لحظة لمس الحبيب لخصلة من جديلتها ليثور في داخلها بركان عصي عن الاخماد:

يختنق الكلام في حنجرته

عند السؤال عني ..

أعلم أنك تعيد الى أوردتي مرونتها.

اذا ما لمستْ أطراف أصابعك،

خصلة من جدائلي،

يثور دخان الحريق،

من جمرة كامنة في أعماقي،

وينبثق وهج الروح في اوصالي

ويستطيب ايلامي .

وتستعين الشاعرة بالومضة الشعرية في تحشيد مدلولات والرمز والاستعارة اللغوية فتوظف بمهارة واضحة الإيحاء لبلورة وإضاءة الفكرة من داخل النص عبر البنية الداخلية، فتثير المتلقي من زاوية التأزم بقصد الإدهاش، والمفارقة:

الموت والحب سيّان ..

اما ان تذوبي بين حبات التراب

واما ان تفنى

في اخاديد الشغاف !

***

مسكين هذا القمر

يَهَبُ كل يوم قطعةٌ من جسده

حتى يكتمل الشهر ‎!

قد أكون اوفيت المجموعة حقها في استجلاء الهواجس والمعطيات النفسية والمعنوية والدواقع التي رسمت الخط البياني لما ابدعه يراع نرمين طاهر بابا من نصوص رصينة وموحية . لكن يبقى الفيصل كامنا حتما في تفسيرها هي لذاتها وشخصيتها ونظرتها للحياة والحب ..

أنا امرأة من لهب،

عندما يجتاحني قرص الشتاء

لا أرتعدُ برداً أو جزعاً ..

كإرتعاد شراع في عرض البحر،

تصارعة أمواج المنايا متلاطمات..

في ليالٍ حالكات

وعين السفان تُرْقبُه

تخجل تارة.، تشفق تارة ، تحنو

ثم تصمت صمت قبورٍ هائمات.

يقول الكاتب الامريكي جون شتاينبيك (أعتقد أن المرأة المُحِبة لا يمكن هزيمتها) وارى أن شاعرتنا المبدعة نرمين طاهر بابا إستطاعت عبر نصوصها المتخمة بارادة الحب في مخاصمة واقع اليأس والحزن وإعادة أبتكاره وفق رؤية نافذة وقوية والتطلع الى الامام مستلهمة من حرفها توق الحياة.

***

محمد حسين الداغستاني

 

للاديب الروائي والناقد د. خليل حسونة، الصادرة عن مركز الحضارة للاعلام والنشر - القاهرة

في عصرنا المتلاطمة ايامه بسرعة اتى الينا الكورونا بكلّ قوته المريعة، يذكرنا أن الحياة رحلة شاقة مليئة بالمصاعب والتحديات. حقائق ظنناها حقيقة قد تتلاشى في لحظة من لحظات الفرح والأسى. وبينما ينتشر الفيروس على الأرض، تأتي الاجراءات الاحترازية لتفرض العزلة، فنجد أنفسنا منفصلين، وحيدين نحاول فهم طبيعة الحياة والتعلم منها. عزلة جعلتنا نُحلّق بأفكارنا في العمق، متسائلين عن فهم الوجود وطبيعة الكون الذي نعيش فيه. كلّ من أصابته كورونا أصبح كالفيلسوف يبحث عن معنى للحياة في عزلته ووحدته، يفكر بعمق بعيدا عن الصخب والضجيج اليومي. سجن صنعناه وقبعنا بداخله فانعزلنا من العالم الخارجي، وأدركنا أن هناك أشياء أكثر أهمية وجلاء، العائلة والأصدقاء والأحباب والتأمل في الذات والوصول إلى العمق الروحاني. فاستمعنا الى أنفسنا واكتشفنا جوانب جديدة من شخصيتنا وتعلمنا كيف نتعامل مع الأزمات والتحديات بشكل افضل. ربما يكون هذا درس حقيقي تركه فيروس كورونا في حياتنا. لا يمكن الإنكار أن الأزمة الصحية الحالية أثرت على جميع جوانب الحياة، بما في ذلك النشاط الثقافي والأدبي. منذ بداية الجائحة، ظهرت العديد من الكتب والروايات التي تتناول هذا الموضوع وتستكشف تأثيره على الناس والمجتمعات. إن كتابة الروايات والكتب عن الجائحة وتداعياتها ليست مجرد وسيلة للتعبير عن الواقع، بل هي أيضًا وسيلة لتغييره. ففي كتاباتهم، ناقشوا الانسانية في زمن كورونا، والتحديات التي يواجهها الأفراد والمجتمعات، والعلاقة بين الوباء والموت، والعلم والقيم والدين جميعها طرحت ونوقشت في الكتب والفضائيات. ومن بين الروايات التي تناولت موضوع الجائحة هي رواية "كورونا" للناقد والأديب الفلسطيني الدكتور خليل حسونة. تعد هذه الرواية عملاً أدبيًا مهمًا تناول فيه الكاتب ظاهرة الوباء وتأثيره على حياة الناس في جميع أنحاء العالم. فروايته أثارت محاورًا أساسية عن الحياة الزوجية والأسرية والمجتمعية، وعن تأثير الجائحة العالمية على النشاط الاقتصادي والاجتماعي والثقافي.

تتضمن الرواية عنصراً من الخيال والأسطورة عبر الإشارة إلى شخصيات تاريخية مثل جنكيزخان وكاثرين الثانية، كما تناقش حالات مرضية معدية مثل السل والتيفود والإيبولا والفيروسات والصراصير والفئران. تبدأ الرواية بشخص يحاول الهروب من الواقع والعيش في عالم الذكريات والأحداث السابقة. وعن مفهوم الصداقة والحرية وتغيرات الحياة المستمرة. فالنص يمثل تحليلاً للنفسية البشرية والعواطف والأحاسيس التي تؤثر في سلوك الإنسان وتوجهاته. يتساءل الراوي عن الأمور الدائرة حوله ويسعى إلى التعبير عن مشاعره وأفكاره الشخصية. يمكن اعتبار هذا السرد بمثابة مذكرة شخصية تعبر عن دوافع الكاتب الداخلية بأسلوب سلس ومتأنق. فالقارئ أمام عمل ابداعي وصورا وأحداثا ملونة ومفصلة تجعل القارئ يشعر وكأنه يعيش الأحداث. لما تحتويه من تفاصيل وتأملات داخلية للراوي ويبدو النص واقعياً ومؤثراً. من الناحية النقدية، يعتبر هذا النص قوياً في توصيل رسالة الكاتب في غوصه للنفسية البشرية والتحديات التي يواجهها الإنسان في حياته. نشاهد الراوي يتأمل في حياته، يتساءل عن الأمور المحيطة به في حوار داخلي وآخر خارجي. فالراوي جسر بين العالم الخيالي والواقعي للرواية، مما يضيف عمقًا إلى شخصيته ويجعلنا نتواصل مع مشاعره وأفكاره الشخصية. تعمق الكاتب في الشخصيات والأحداث بطريقة فنية، مما يعزز قوة الرواية ويجعلنا نشعر وكأننا نشهد أحداثها بأنفسنا. بشكل عام، يمكن القول أن هذا النص يتميز بأسلوب نقدي أدبي يجمع بين العمق والجمالية. تعمق الكاتب في الشخصيات والأحداث بطريقة فنية يجعلنا نشعر وكأننا نشهد أحداثها بأنفسنا. عموماً، يمكن القول ان هذا النص يتميز بأسلوبه النقدي الأدبي الذي يجمع بين العمق والجمالية، ويتحدث بشكل مؤثر عن الموضوعات الرئيسية التي تعكس النفسية البشرية وتأثيرها على حياة الإنسان. ولكي يبرز الكاتب اضاءته في هذا المجال اشار الى مواضيع وأفكار ومشاعر متعددة تتعلق بالحيرة والقلق والشك والحب والانتماء، واستخدم رموزًا مثل "الكلاب" و"الأمهات" و"الحياة" و"النساء" لإيصال هذه الأفكار. كما اشار الى تأثير جائحة كوفيد-19 على الحياة اليومية والعلاقات الإنسانية، واستخدم شخصيات خيالية كوفيد و"محبوبته" للتعبير عن هذه الأزمة.

- لقد رُدت الى نفسي، لذلك أعدك بأن أصلح كل أخطائي!

- أمتأكد أنت من ذلك؟!

- أجل ... فلقد بتّ أفهمك الآن أكثر، لذا سأراجع نفسي، حتى لا أذهب في الاتجاه الخاطئ، مرة أخرى ...

هنا يشير الكاتب على أهمية التصدي للصعوبات والعراقيل التي تواجه الفرد، وأن الحوار يتحدث عن مفهوم النضج والتطور الشخصي، والعمل على مواجهة الحقائق بشجاعة وصدق. ويظهر الحوار أيضاً تفاصيل وصفية دقيقة للشخصية الأنثوية، حيث يتم التركيز على جاذبيتها وأناقتها، وهو ما يعكس الاهتمام بالجمال والمظهر الخارجي. ويتضمن النص أيضاً تحذيراً من بعض الأشخاص الذين يتظاهرون بالصداقة ويتصرفون بشكل سلبي، مما يعكس الواقعية والحذر الذي ينبغي أن يكون موجوداً في العلاقات الإنسانية.

الاهتمام بالعناصر الإيقاعية والدلالية، والتحليل الشامل للنص

يتضمن النص عدة عناصر إيقاعية ودلالية مهمة، الفقرات القصيرة التي تساعد في خلق إيقاع سريع ومتناسق وتجعل القارئ يتابع النص بسهولة ويسر. وإبراز المعنى والتأكيد عليه، مثل الألفاظ المتكررة، والتناوب بين الجمل الطويلة والقصيرة، وتكرار بعض الكلمات والعبارات، جميعها عناصر تساعد في تحسين الإيقاع والتأثير على القارئ. من الناحية الدلالية، حديثه عن العلاقات المزيفة. أخذنا الكاتب إلى عالم يسوده القلق والترقب، يحاول فيه استكشاف مفهوم السلطة والتحكم والتضليل في الحياة السياسية والاجتماعية، من خلال حوار بين شخصين يمثلان رؤى مختلفة للعالم. يتحدث كوفيد، الذي يمثل السلطة والتحكم، بتصريحات غامضة ومتأكدة حيث يعتبر نفسه الأقوى والحاكم في كل صروف الحياة. يبرر سيطرته على كل شي، يريد أن يثبت أنه الأفضل والأقوى. ولكن، يتحدث صديق "أبو الليث"، المواطن العادي الذي يعاني من التحكم والتضليل، عن استغرابه وحيرته حيال ما يحدث في العالم، ويعبر عن علاقة الدين بالحياة السياسية والاقتصادية، معارضا تصريحات كوفيد بشأن التحكم والتضليل. استخدم الكاتب هذا الحوار الدرامي بشكل ماهر لإبراز خلافات ومفاهيم متعارضة بين شخصين يمثلان وجهتين مختلفة للعالم. تتيح للقارئ التفكير في مفهوم السلطة والتحكم والتضليل، وكيف يؤثر ذلك على حياتنا اليومية. كما ألقي الضوء على دور الدين في تحديد المواقف الاجتماعية والسياسية، وكيف يمكن للإيمان والمعتقدات الدينية أن تساعد على مواجهة التحكم والتضليل.

الرقص مع الذكريات: رحلة هروب إلى الزمن البسيط في وجه التحديات العالمية

يتضح من النص أن الكاتب يصور حالة نفسية معينة، عبر عن شوقه لزمن بسيط مضى حيث كانت الحياة تبدو أكثر هدوءًا وسلامًا. ومع ذلك، عرض ـأيضا صورة للأزمات العالمية والكوارث الطبيعية التي تحدث في العالم، وأظهر بوضوح أن هذه الأزمات والتحديات سببت القلق والتوتر والاضطراب النفسي لدى الإنسان. استخدم أسلوب الهروب من الضغوط اليومية، من خلال الرقص والضحك، واسترجاع الذكريات. الهروب كنوع من آليات الدفاع الذاتي ، لكنه لا يحل المشكلة بشكل فعال. وضرورة المحاولة لتجاوز هذه الأزمات والتحديات بطرق مختلفة. علاوة على ذلك، عرض في النص رغبته في الهروب من الواقع، وهذا يعكس الحالة النفسية الحرجة التي يمر بها العديد من الناس في زمن الكوفيد 19.

يُعَدُّ المسار الفني للكاتب فريدًا بتميزه بالتزامه الثابت بالمجتمع وثقافته، حيث يعكس واقعًا عاشه بنفسه ويتشكل في سياقات جدلية مثيرة للاهتمام. فقد غمرنا بعالمه المتميز من خلال رواياته وقصصه القصيرة وقصائده الشعرية التي تمتاز بوصفها لفضاءات وأماكن جميلة، في زوايا مختلفة، وتمتد في مساحات لا حدود لها من الأماكن والاحتمالات. لا يمكن إنكار أن هذا الكاتب يتقن فن الوصف بطريقة مذهلة، فهو يستطيع وصف الأماكن والمشاهد بأسلوبه الخاص الذي يأسر القارئ. ويتمتع بمهارة كبيرة في التعبير عن المشاعر والأفكار بطريقة مثيرة للاهتمام، مما يجعل من رواياته ممتعة ومثيرة. فعند قراءة أي من روايات هذا الكاتب، سوف تجد نفسك تسافر في عوالم جميلة ورائعة، وتختبر أحداثًا شيقة ومشاعر عميقة، وتعيش في تجربة فريدة ومثيرة للاهتمام. فهو ينقل لنا بأسلوبه الخاص أبعادًا مختلفة من الحياة، ويظهر لنا جوانب جديدة من البشرية، مما يجعلنا نستمتع بالقراءة ونفهم أكثر عن العالم الذي نعيش فيه.

..............

زكية خيرهم

قراءة في قصيدة الشاعر الأديب أحمد القيسي: "روحي سنبلة"

هناك كثيرون يُسحقون رحى الأسى في حشاهم يطحنون سنابل العمر يكتوون، لكن لا يحسنون رسم أوجاعهم عن مداها يكتبون. فعوالم الشعر لمسة الفن يجهلون. الفكرة لديهم تعانق البحر والكلمة تشكو الألم الذي يحملون. في الشعر تجد الأحاسيس تغني، الأفكار ترقص على أوتار الليل. الشاعر كالسفينة عرض البحر . يحمل مشاعره، أفكاره ماخرا عباب الجمال. يسكن في داخله العشقُ وحرارة الوجدان. فلا يكتب الشعر بل الشعر هو من يكتبه. الفكرة تعيش في ثناياه كالنجم تتللألأ. تحتدم تغلي براكين ثورة ألق تشتاق فضاءات الروعة، الحرية والشموس. فليس كل قريحة تكتب الشعر ولكن، كل شاعر حقيقي وحده يحمل جرح الشعر ، يملك ناصية الحرف، يستطيع بها أن يرسم أخيلة مجازات أبعادا أحاسيس وأوجاع تشكو الحال والشجون. إ ذ أنه يتنفس برئة الزمن الإنسانية. فالشاعر وحده من يداعب الكلمات، يدوزنها أوتارا تلامس القلوب. ينزف دموع الألم ويفتح قلبه ليتغنّى. في الشعر تحّلق أفكاره كالطير في السماء، وتنطلق بألوان الجمال في لحن الحياة تغنى.

رغم حزن الشاعر وألمه العميق جراء فراق الحبيب، يصف حالته النفسية بشكل مؤثر ومتألم. يستخدم في رثائه عناصر شعرية متعددة، من وصف وتشبيه ورمز وتعبير شاعري، ما يزيد من عمق وجمال القصيدة ويجعلها تعبر عن الأحاسيس العميقة والمشاعر المؤلمة التي يعيشها. شاعر يعيش بداخله جرح عميق، ينزف دموعا من عينيه لحظة الفراق، يأكل جسده ويخترق حواسه وترتعش شرايينه. يحنّ إلى حبيبته بحزن شديد، يحن للماساتها لكفيها حتى لخفّيها لوقتهما المميز لذلك الحب العظيم. يتوق لشم عطر ثيابها يُقبل ما تركته من بصمات على الستائر والوسائد والزوايا. يتوق عناقها فهي تريحه من حمم الشقاء، تنتشله من زحام الدنيا، تشفيه من نزف الجراح. يا له من فقد ويالها حياة تعاظم فيها الألم وازداد الحزن وأنشب مخالبه الضياع. ورغم الرغم يغتلي عمقه ثمة هاجس نراه مستحيلا لكنه يعتاش عليه رمق ضوء تكتحل به عيون القصيدة. فهو ما يزال يرقب عودتها. أن تلم ضياعات عمره، تنفض عنه غبار الوحشة. نعم، بقي يحمل في كيس أوجاعه أمل عودتها لتعيد له الحياة .. يال الإحساس ويال الشعر والموت وحلم الحياة .. فهو هنا رغم الألم يتحدى بلغة الأمل كي يعبر ضفة الظلام نحو ضفاف الشمس في الجانب الاخر المشرق بالعذوبة والحياة. ومع ليلاه يحمل عشقه الآخر المرسوم أضلاعه بلمسة فريدة يعبر عنها أنه من طينها وهي التي منحته جبلّة الحياة. ذلك الضوء الخافت في الجانب الاخر حيث النخيل والنوارس . الأرض الأم التي هي عشق العراق وطنه الحبيب. حيث يتجلى صوت الشاعر وبكل لهفة وحنين وحماس وشغف. نعم، يحلم بوطنه الذي يملأه، حبه الأول والأخير، ظلال نخلة يعتبرها خيمة حداد لمراثي العمر الجميل. أحاسيس تشبه حمم الشقاء، وثورة بركان ترتدي قلبه الغض المرهف الشاعري.

هو شاعر اعتراه الألم، ينثره سطورا فهل يخفي آلامه ويداريها أم يرسل أصداء الأسى الى كل الأبعاد والآذان عواءات ألم وصراخات شجن. قصيدة غنية بالشجن تفيض بالوصف والتشبيه والرمز، لغة بديعة، معبرة تدعو الى التّأمل والغوص في أغواره والتفكير في المعاني المتعددة التي تحملها، عن طريق استخدام الصور والتشبيهات، ومحاكاة الزمن، مما يعطي القصيدة مزيدا من الرمز الذي تجلى فيها حيث وقفات التاريخ والأسطورة والاستعارات الرمزية ذات الرومانسية السحرية والجاذبية. حين ينثر قصيدته المتلألأة فضاءات الإبداع، حيث العذوبة المصبوغة بلون الشجن تنسابُ من قلبِهِ بسلاسةٍ وإحساسٍ عميقٍ، تُعبِّرُ عن مشاعرِهِ بكلِّ صدقٍ وجرأةٍ، تتموسق ألحانا تعشقها ِروحِ الشرق الغاصة بسحب الدخان وضبابيات الأشجان سايكولوجية زمن يزحف على الأعصاب بأرجل من مسامير . ويترنّح المعنى ترتجفُ مع أوتارِ الحبِّ، تحملُ في طيَّاتِها أسرارَ الحياةِ وأحاسيسَ جماليات تدهش الذوق وتحبس الأنفاسِ، تطوفُ في الفضاءِ بشغفٍ وحماسٍ، تأخذُنا إلى عالمِ الخيالِ والجمالِ. قصيدة جسّد فيها أحاسيسه العميقة ومشاعره المؤلمة، بلغة الشعر الجميلة والمؤثرة. فأطلق كلماته كالرياح الهادرة تحمل في طياتها أسرار النفس وجمال الحياة، تتسرّب الى أعماق القلوب، تحرِّكُ المشاعرَ ، تهزُّ الأحاسيسَ، كأنَّها تلامسُ النبضَ الحيويَّ للحياةِ وتصفُّ لنا الوجعَ والألمَ بصدقٍ وصراحةٍ، تكشفُ عن جوهرِ الروحِ والإنسانِ، بأسلوبٍ معبرٍ وشاعريٍّ، فنجدُ في كلِّ كلمةٍ روحَ الشاعرِ الملهمةِ وقلبَهُ المتيّمِ بالإبداعِ والجمالِ، فترتفعُ روحُ الشعرِ بينَ السماءِ والأرضِ، تعبِّرُ عن مدى عمقِ الإحساسِ، مقدارِ الألمِ الذي يختزنهُ قلبُهُ، وكأنَّ الشاعر يتحدَّثُ إلينا من قلبٍ حزينٍ مؤلمٍ، ينثرُ بينَ أحرفِهِ ما يكتنف الروحِ من أسرارٍ ومشاعرٍ، وتشكلُ القصيدة خارطةً لمشاعرِهِ، تشرحُ لنا الجراحَ وتصوِّرُ لنا الألمَ، بأسلوبٍ شاعريٍ راقٍ ورائع. حيث الحنين والشوق الشديد، يتلفّت الى الماضي المزهر. يناديها بصوت محمّل بالوجد، يريد منها أن تحتضنه بحنان ليصبو بقلبه الأمان ويرتشف منها الراحة والشفاء ويملأ قلبه المحبّة والوفاء. في قصيدته يخبرها بأنه كتم حبه واشتياقه في ألم، ونثر أشعارا تترجمه تقول كلمات عنه، عن حبّه للعراق، وشاطئ دجلته، هو الشاعر الذي يبحث عن وطن، عن ضفاف صدر حان وسكون أمان. هو الذي يعاني من الكتمان والخوف والغربة والاشباح والمجهول. الالم يطفو في عينيه، يذكي في حناياه الشقاء يشبهه بثورة البركان في الليل. تراكيب حسية تجمع بين الإيحاءات والصور الشاعرية، ما يجعلها تحمل معانٍ عميقة ومتعددة. كما تعبر القصيدة عن حياته وتجاربه الشخصية والعاطفية ومشاعره الداخلية التي يعاني. ذلك من خلال استخدام الكلمات الرقيقة والجميلة التي تنتج عنها صور شعرية معبرة. كما يمكن القول إن القصيدة تميزت بإيقاعٍ موسيقي راقٍ وتوزيعٍ متساوٍ للأبيات، ما جعلها تدعو للاستمتاع بمعانيها وإيقاعها. تحتوي القصيدة على عدة عناصر شعرية، استخدام الوزن الخفيف والمتناغم، الذي جعل الايقاع الموسيقي يتألق رونقا. يساعد الوزن في توصيل الفكرة بشكل أفضل للقارئ، حيث استخدم الشاعر في قصيدته التشبيهات والاستعارات الشعرية لإبراز المعاني التي تندمج مع القصيدة وجعلها أكثر وضوحاً وجاذبية. من خلال تشبيه المجتمع بالنهر الجاري، تعكس حركة الأفراد والجماعات نحو هدف مشترك، ما يدعم فكرة الوحدة والتضامن. يمكن القول أن الأديب اللامع احمد القيسي نجح في استخدام هذا الابداع اللغوي بمهارة لترسيخ مفهوم الوحدة والتضامن في أذهان القراء. كما تجدر الإشارة إلى أن القصيدة تحوي صورا شعرية وتعابير واستعارات رمزية تعزز من الأثر الروحي الفكري والبعد السايكولوجي لقصيدة الحنين والاغتراب، مثل "قلق الحواس وراعف الشريان" الذي يعبر عن فقدان الحبيب وتأثيره على حواس الشاعر وشرايينه. كما يصف الشاعر حالة الوحشة في تعبيره "برد الوسائد بالحنين وكيف بالدموع يبلّها"، ويستخدم صورة "صدري كموج البحر يجهش صاخباً" لوصف حالة الاضطراب التي يعانيها وصاخب الغليان. وتعكس كلمات "يا سفر الدماء ونورساً" مشاعر قوية وشديدة، فيما يتسم المشهد النهائي بحالة انفجار عاطفي "روحي اشتعــالا تغتلي بأزيزهـا... حمم الشقاء وثورة البركان.

***

بقلم زكية خيرهم

المبحث الثاني: تحليل زمكانية العمل الروائي

المطلب الأول: زمكانية الأمكنة المغلقة

أولًا: زمكانية الخيمة

تعد الخيمة من الأمكنة التي احتلت موقع الصدارة في رواية "بلدة في علبة"، فهي المكان الذي يحتضن الحكايات جميعها، حيث يأتي وصف الخيمة على لسان سلام: "انتهى الحوش إلى طارمة مسقفة بحصر القصب وجذوع النخيل، مسيّجة بسياج خشبي بطول المسافة بين قدم الرجل البالغ وركبته، مفروشة ببسط جنوبية كثيرة الألوان، بثت عليها وسائد لها سمات البسط، ركنت إلى الجدار لتكون متكأ في ديوان جدي أو خيمته.. عبرنا إلى الطارمة الواسعة. تركنا شير علي واتجه إلى الموقد العامر بالدلات.."(1).

لم تكن هذه الخيمة كأي خيمة، يصفها السارد: "حولت رأسي إلى صندوق أخبئ فيه الحكايات العجيبة الغريبة الساحرة التي كانت تتناسل في خيمة جدي المنصوبة تحت سقف الليالي، فباركتها السماء وألقت على كتفيها بردة من الأمن والأمان والنية الصافية، وانحنت كي تفيض عليها بضوء مصابيحها الدانية.."، ويكمل "لم تكن مثل تلك الخيام التي ينصبها البدو فوق مرايا الرمال، هي كما أرها في الصورة الآن، طارمة في بيت جدي، صباحًا تكون لنا نحن أحفاده ملعبًا، وفي الليل يقصدها السامرون.. تتخلق الحكايات في رحمها، فتصير الخيمة سكنًا. وفي الليل أيضًا تفوح منها رائحة القهوة، التبغ، الهيل، والنعناع.. صيفًا تفتح الخيمة زيقها لنسيم الشمال، وتخلع عن جيدها شالها لتغري القمر، فيضع طاقيته إذ يراها، ويلقي برأسه في حجرها.. شتاءً تلوذ الحكايات بموقدها، تتلفع عباءة دفء تحال بنار أغصان الغضا.."(2).

ويتحدث أيضًا عن مواقيت افتتاح الخيمة وانتهائها: "فللحكايات مواقيتها التي لم تنل منها خيول الزمان. ميعاد أولاها بعد صلاة العشاء، وميعاد أخراها حين يرفع قطار الليل عقيرة صافرته.."(3).

لكن زمانها يختلف في رمضان: "لكن مبتدأها في رمضان يكون بعد الفطور بساعة، ومنتهاها بساعة قبل السحور"(4).

ويصف جده في الخيمة فيقول: "شتاء كعادته يعد له شير علي متكأ قبالة الموقد كي يدفئ ذاكرته، وكعادته ايضًا يؤجج نار الموقد بملقط من حديد، ثم يدور على السامرين بالدلة والفناجين ليسقيهم القهوة المهيلة التي كانت تقلص وجهي، وتجبرني على إغماض عينيّ كلما تجرعت فنجانًا مقلدًا الرجال".

أما صيفًا فيتغير الحال: "صيفًا يترك شير علي جدي على راحته، يخليه يجلس قدام باب خيمته المشرعة، لعل نسيم الشمال يرطب ذاكرته، وقدامه يتبختر القمم بمعطفه الأسود بين الدلات النحاسية التي تنث عطر الهيل، فيمطر في صدور الرجال.. ثم تبدأ طقوس الحكايات، لفائف التبغ تطلق أفعوانها والفناجين ترقص بين أصابع شير علي، وأكف السامرين تلاعبها قبل أن يحستوها, وما أن تطفأ ذبالة إحدى اللفائف، حتى يدور على السامرين كيس التبغ ثانية، فيلف كل رجل لفافته، ليشارك في نسيج غلالة الدخان الشفيفة المحلقة فوق الرؤوس، بيضاء مثل غيمة في الربيع، لتكتسي الحكاية بحلة هيبتها، بعدها ينبري مَن يملك صوتًا رخيمًا ليطلب من السامعين الصلاة على النبي.. عندها يتنحنح جدي، يفتل شاربه المستباح بخيل المشيب، يجس لحيته التي تشي بتراكم السنين، يتلبث مثل صياد يخشى نفور الطريدة، تمد العيون العديدة، أسباب ضوء إلى فمه، ويلقي إليه الرجال بأسماعهم، فيرفع زير الحكايات رأسه، وينهمر غيث الحكي.."(5).

ثانيًا: زمكانية المدرسة

المدرسة هي ميدان التربية والتعليم، وكثيرًا ما تسهم في فتح آفاق رحبة وجديدة بالنسبة للمتعلم، حيث انتقل سلام من مدرسته في الشامية إلى مدرسة المنصور الابتدائية في مدينة السماوة، وكان حينها في الصف الرابع الابتدائي، يصف لنا سلام كيفية استعداده للذهاب إلى المدرسة، حيث يقول: "... وكان ذلك اليوم آخر يوم استمتع فيه بالنوم إلى الضحى، فقد أيقظتني أمي في الصباح الباكر، وبعد أن انتهت من ترتيب أختي زينب، أجلستني في الطشت، غسلت رأسي بصابونة الرقي، دعكت جسدي بالليفة، أرمستني بالماء الدافئ، مشطت شعري، وقصت أظفاري، ثم البستني القميص الأبيض الجديد، وحشرت ساقيّ في البنطال الرصاصي، وزنّرت خصري بالحزام، وخنقت قدميّ بقيطان الحذاء (أبو جزة)، ثم أوقفتني أمام المرآة..."(6).

ثم يصف سلام لقاءه بمدير المدرسة الذي لا يختلف عن مدير مدرسته السابقة في طريقة التعامل، وتعرفه بعد ذلك على صباح وعادل، ثم يتذكر سلام أصدقاءه في مدرسة الشامية، لكنه سرعان ما ينسجم مع باقي التلاميذ في المدرسة، حيث استعاد سلام ثقته في زمكانية المدرسة بعد تعرفه على صباح وعادل، وقد وصف سلام المدرسة التي تقع ملاصقة بمقبرة الخاتونة(7)، يقول: "لعبنا في ساحة المدرسة المتربة، التي تتوسطها سارية العلم العراقي المنتصبة في ساحة كرة السلة المفروشة بالاسمنت. واصطدنا بعض الجراد من الحديقة المزنرة بزنار من شجيرات الياس، المزدانة بالورد الجوري، والتي تفصل بين الساحة والصفوف المشطورة إلى قسمين بالممر المكشوف المؤدي إلى رواق الإدارة والمخزن وغرفة المعلمين.. القسم الذي يقع إلى يمين الممر يتكون من الصفوف الأول والثاني والثالث، والقسم الذي يقع إلى شماله يتكون من الصفوف الرابع والخامس والسادس. وكل فصل مشطور إلى شعبتين ألف وباء، وكل شعبة لها شباكين يطلان على مربع مفروش بسجادة من (الثيل) الذي تتوسطه شجرة سدر عملاقة.. في صفنا كان الزعيم عبد الكريم قاسم يتبسم لنا ويحينا في صورته المعلقة على ارتفاع نصف ذراع من هامة السبورة، التي علقت خارطة العراق إلى يسارها، وصورة الهيكل العظمي للإنسان إلى يمينها.."(8).

ويصف لنا سلام المدرسة في الشتاء، يقول: "كنا في أصباح الشتاء الباردة نصطف في ساحة المدرسة لتأدية طقوس رفع العلم التي تستهل بدعك الأكف والطبطبة على الأفخاذ لجلب الدفء إلى أجسادنا المقرورة"(9).

ثالثًا: زمكانية السينما

تعد السينما من الأمكنة التي لديها دلالة نفسية واجتماعية وسياسية، وقد جاء الحديث عن السينما في طفولة سلام في الشامية، حيث كان مولعًا بالأفلام السينمائية وخاصة الأفلام الصامتة لشارلي شابلن، يقول: "حدث ذلك يوم كنا بمدينة الشامية حين جاءت سيارة السينما المجانية المعروفة باسم (سينما بلاش)، التي كانت تأتي من بغداد على مكث، تحت سماء المدينة المضاءة بثريا النجوم.. هناك توقفت السيارة المتبوعة بمظاهرة من الأولاد والفتيان.. ترجل منها بضعة أشخاص، أنزلوا جهازًا أسودًا مكوننًا من بكرتين تشبهان عجلتي الدراجة الهوائية الصغيرة، ثبتوه على حامل خاص.. تطوع ولد أكبر مني سنًا فأخبرني أن ذلك الجهاز يسمى العارضة، ثم تطوع مرة أخرى ليخبرني أن قطعة القماش البيضاء التي نشرها أصحاب السينما تسمى الشاشة، وعلى تلك الشاشة شاهدت لأول مرة في حياتي رجلًا قصيرًا لفت انتباهي بقبعته، شاربه، عصاه، حذائه.. كان الرجل يتحرك بشكل على قطعة القماش البيضاء، يقوم بحركات مضحكة، يقفز، أو يرقص،..."(10).

لقد استعادت ذاكرة سلام زمان الطفولة والبراءة في الشامية، وزمكانية السعادة التي تبعثها سيارة السينما المتنقلة والتي تعرض أفلامًا دون أي مقابل.

ثم يذكر لنا سلام سينما بلدة السماوة (سينما الشعب)، وكانت تسمى سابقًا بـ (سينما الأمير عبد الإله)(11)، والتي تختلف عن (سينما بلاش)، حيث الدخول فقط مقابل مبلغ من المال، وتقسيم كراسي السينما حسب الأوضاع الاجتماعية للأشخاص، يقول: "كانت تلك السينما التي ما تزال صورتها الخارجة من العلبة توًا ساخنة في يدي قد بنيت على مساحة كبيرة في طرف المدينة المفتوح على الصحراء، لتكوّن هي وسكة القطار وثكنة الشرطة الخيالة، الحد الفاصل بين نهاية العمران والبر الشاسع، وقد شطرت بنايتها الكبيرة التي تبدو لعين الرائي من بعيد كظهر حوت خرافي إلى قسمين يلتقيان بمدخل واحد، ويفصل بينهما ممر واحد.. النصف الصيفي المطل على سكة القطار مكشوف لأعين سماء الصيف الزاهية بحيث يمكن للقمر والنجوم مشاهدة ممتعة للفلم، ولكنه أحيط بجدران عالية لا يمكن أن تتسلقها أعين الفضوليين الراغبين بمشاهدة مجانية، وقد شطر هو الآخر إلى نصفين، النصف الأعلى المبلط بالأسمنت، والمؤثث بكراسي جيدة نسبيًا، يرتفع بمقدار يمكن أنظار الجالسين فيه من اجتياز رؤوس الجالسين في النصف الأسفل، الذي خصصت مقدمته كصالونات للنساء اللاتي غالبًا ما يكُنَّ من نساء العصمليين، والموظفين الكبار، والعائلات المترفة,.. بينما خصصت مؤخرته للمشاهدين من الرجال، وقد أصطلح على تسميته بـ (لوج أو السبعين)، لزيادة تذكرته ثلاثين فلسًا على تذكرة النصف الأسفل المعروف بـ (أبو أربعين)، وهو النصف الذي رصت على أرضه الترابية قدام الشاشة الجبسية المبنية على الحائط الجنوبي باتجاه البصرة تخوت حازت على لقب المخضرمة، لأنها عصرت العهدين الملكي والجمهوري،.. يئن خشبها لعتيق تحت عجيزات المشاهدين"(12).

أما السينما في الشتاء: "قاعة كبيرة مسقفة بالصفيح المحدب، والمبطن بالخشب والقماش، وهذه القاعة مقسمة أيضًا إلى قسمين، القسم الأعلى أو (اللوج)، الذي خصصت مقدمته للعائلات والنساء ومؤخرته للرجال، القسم الأسفل الذي تنقل إليه تخوت القسم الصيفي بعد أن يضب الصيف خيمته ويرحل لترصف قدام شاشته القماشية المثبتة على الحائط الشمالي باتجاه بغداد.."(13).

لقد ارتبطت السينما بزمكانية الطفولة الجميلة عند سلام، والتي يتذكرها بالمكان والزمان، والأحداث، ففي مساء كل يوم يختفي قرابة نصف المدينة للذهاب إلى السينما والتي تعرض الفيلم مرتين، وكان الواقفون يمثلون سياجًا بشريًا يحيط بالجالسين، يقول: "يبدأ العرض عادة بصورة للزعيم عبد الكريم قاسم، حين تختفي صورة الزعيم من الشاشة، تبدأ الفقرة الإعلانية التي تستهل عادة بدعاية لدهن الطبخ المعروف باسم زبيدة... ثم تظهر سلسة من مقدمات الأفلام التي ستعرض قريبًا، تعقبها استراحة قصيرة، ثم يبدأ عرض الفلم، فتتسمر العيون على المستطيل الأبيض..."(14).

ثم يتحدث لنا سلام عن أفلام الكاوبوي (رعاة البقر)، وأفلام طرزان التي كانوا يقلدونها هم وأصدقائهم، وتتعالى أصواتهم كما يفعل طرزان.

لقد حملت السينما علامات زمكانية الفرح والسعادة والحب الذي انتشر عبر جنباتها، والتي انكشف على أساسها مدى تعلق سلام بحضور فيلم قبلة سبارتاكوس، والذي يمثل أول حب طفولي له من ابنة جيرانه أمل(15).

المطلب الثاني:

زمكانية الأمكنة المفتوحة

أولًا: زمكانية المدينة

المدينة هي الزمكان الجامع لأعداد كبيرة من البشر، وهي القابلة للتغير والتطور، حتى إننا لا نجد سجلًا بصريًا بالغ الدقة يضاهيها فهو سجل متحرك يقبل الجديد دائمًاـ فكل حلقة جديدة تزيد من التداخل الزمني في المدينة، وتثري فيها التفاصيل الدقيقة إلى درجة أنها تمثل السجل الاجتماعي.

وبناءً على تلك الأهمية الكبيرة للمدينة في الحياة الاجتماعية، والتاريخية، والسياسية، والاقتصادية وغيرها، فإنها تؤدي في الرواية دورًا شديد الأهمية، حتى أصبح يمكن القول بأنَّ الرواية هي ابنة المدينة، حيث يشكل تصويرها، والكتابة عنها، محورًا أساسيًا في تصوير الزمكان المعيشي الواقعي الذي تتواجد داخله جميع أصناف المجتمع، الرجل والمرأة، الفقير والغني، الجاهل والمثقف،... إلخ، وهذه الرواية الأم للرواية، وغالبًا ما يكون للمدينة أثر عميق في وعي الروائي، إذ يتفاعل معها معايشة، وتذكرًا، وتخيلًا.

أكد باختين أنَّ العلاقات الزمانية – المكانية مخترقة بالواقع المعيش والحياتي للأفراد، وعلى هذا الأساس فهي تدخل في نسيج وعيهم ولا وعيهم، لذا يبقى الإنسان تحت تأثير وفائه للمكان الذي ألفه. وفي رواية "بلدة في علبة" اهتم سلام بأدق خصوصية من تفاصيل الحياة اليومية التي تتميز بها مدينته، حتى صوَّر لنا إحدى الليالي الرمضانية وصواني الزلابية والبقلاوة، والباعة المتجولون، يقول: "ليالي رمضان السماوية ليالٍ جميلة، تزداد فيها نوافل الصلاة، الخشوع، القنوت، الدعاء،.. موائد الإفطار التي تبدأ بالتمر واللبن، وتبادل الأطعمة والعصائر والحلويات بين العوائل المتجاورة.."(16). والتي على الرغم من مرور الأزمنة عليها، بقيت محافظة على ترسيخ هذه العادات باعتبارها قيمًا اجتماعية جميلة تعبّر عن أصالة الأسرة السماوية.

ويكمل متحدثًا عن المسحراتي: "... ولا يتوقف إلا عندما يحين وقت المسحراتي، أو (أبو طبيلة) كما يسميه السماويون، وهو مصطلح يطلق على مجموعة من الشباب، يجوبون شوارع السماوة وأزقتها بعد منتصف الليل بساعة أو ساعتين، يقرعون الطبول، الصنوج، الصفائح الفارغة، كي يوقظوا النائمين للسحور"(17).

ثم يتحدث بشكل مفصل عن ليلتي القدر والعيد، ويصف لنا المعاناة في الحصول على مكان للاستحمام في الحمامات العامة، فيقول: "أصعب ما كنا نعانيه في ليلة العيد، هو الحصول على مكان في حمام السوق، رغم وجود ثلاث حمامات كبيرة في السماوة، هي حمام عفريت، حمام الفرات، الحمام الحسيني، والتي تخصص فترة الصباح للرجال، وفترة العصر للنساء، لكنها في ليلة العيد تستمر باستقبال الرجال حتى الصباح، ولأنَّ أبناء القشلة تعودوا على الاغتسال في حمام عفريت، فقد كنا في ليلة العيد ننتظر إلى ما بعد منتصف الليل، كي يخفف الزحام قليلًا ثم ندخل الحمام للاغتسال، بعد أن نكون قد اشترينا كيلو برتقال من ابن ورواش البقال لنأكله في الحمام،... وبعد أن أجهزنا على كيلو البرتقال، ونشفنا أجسادنا بشكل جيد خوفًا من البرد، وشربنا الدارسين، خرجنا من الحمام، وعبرنا الجسر باتجاه أهلنا في القشلة"(18).

ويستحضر لنا سلام الزمان الذي ينزلن فيه الفتيات القشلاويات إلى النهر لإشعال الشموع فيقول: "وقبيل الغروب حين تميل الشمس من التطلع بمرآة النهر، وتخبئ وجهها خلف جدائل النخيل وعباءات الصفصاف، تنزل البنات القشلاويات إلى شاطئ القشلة، يشعلن شموع الغائب، ويتركنها تنزلق على أمواج النهر على قطع صغيرة من الخشب، وما أن تذوي ذوبالاتها حتى يحلق قمر سماوي ينضوي عباءته ويلقي بها على كتفي الفرات، فيأخذه النهر بأحضانه ويشتبكان في عناق طويل قدام أعين النجوم، تحمر وجنتا القمر حين يسامره شباب السماوة وهم يفترشون رمال القشلة.."(19).

فهي مدينة لا تشبه باقي المدن، يصفها فيقول: "وبعد تلك الزيارة، عرفت أنَّ السماوة هي سليلة الوركاء التي خلعت الآلهة عليها الخُلع، فخرجت على قومها بزينتها الموشاة بالبردي والقصب، باركها إله الماء الذي تسوق إليه الرواسي نذور الشتاء، تعمم رؤوسها بعمائم الثلج، ولا تكشفها إلا لشمس الربيع، عندها يتحرر الماء من قيود الصقيع، فيهبط نازلًا من أعالي الجبال، فرحًا بحرية تختال على صهوات الربيع، لتردفه خلفها وتنطلق به إلى مرابع الدفء التي في الجنوب، فيغمر الفيض نهر الفرات..."(20).

ثم يكمل الوصف قائلًا: "والآن يتركها تستغشي ثوب الزمان، ليحكي عن سليلتها يوم استوت ما بين ماء وصحراء. أعدَّ العراق لها في بلاد السواد متكأ، وباركها مَن كانت سفينته تطفو على الماء، فتلفعت بعباءة خضراء. حملت على هودج النخل، زُفت إلى النهر، فاحتفى النهر بعروس البادية، التي لآبارها هفت قلوب أهل المدر، ولنهرها هفت قلوب أهل الحضر، وعلى صدرها ألقى الفرات برأسه المتعب، فطوقته بذراعين موشومين بالسدر، والتوت والرمان والعنب.. ثم استراحت على مطرح الخصب بين الرمل والماء، وغفت في خيمة الله المطرز سقفها بالنجوم.. قمر فضي يضعن في ليلها، وشمس ذهبية تحلق فوقها في النهار، وهي الفارعة الممشوقة المحلولة الشعر، الرافلة بثياب الواحات على طريق القوافل الساربة في الصحراء.."(21)، ويقول: "الوركاء غرة في جبين سومر. والسماوة غرة في جبين الجنوب"(22).

ثم يصف لنا زمان التحول على مرّ السنين الذي حصل للسماوة، فيقول: "تعاقب على الأخذ بزمام المدينة رؤساء العشائر، وتناسل في باديتها اللصوص وقطاع الطرق، وصارت نهبًا للغزاة، الذين يعبرون رمال النفوذ الفاصلة بين بادية السماوة وبادية الحجاز، وبقيت السماوة هي ناقة الصحراء الجلدة الصابرة.. أعوام مرت، ومرت أعوام، والبلد في مدٍ وجزر بين العافية والاعتلال، لحس لسان المال أذرع المحتاجين، فانتفخت بطون، وضمرت بطون..."(23). وما لبث إن تغير حال البلدة: "حتى تذكرها الرحمن، فامتدت يده الرحيمة لتنتشل السماوة من جب النسيان، تمسح جراحها وتمنحها البركة، الخير، العافية، الأمان .. أمنت البلدة بشرًا، أرضًا، دورًا وبساتين،... أورقت الأشجار، تفتحت الشقائق، رقصت السنابل، شمخ النخيل... ارتاح الفرات من عنائه، نصب أرجوحته بين شطري المدينة، وبسط ذراعين موشومين بأشجار الغَرَب، الصفصاف، السدر، اليوكالبتوس... وكلما ضج ليل السماوة بأصوات الوحوش في الأدغال، والأجمات، ضج نهارها بأصوات الباعة النخاسين المغنين، الخطباء، الشعراء..."(24).

ويذكر في موضع آخر من الرواية زمكانية المدينة التي تحولت عبر قرون حتى أصبحت ما عليه الآن، حين غيّر النهر مجراه (25).

وقد بقي سكانها أوفياء لهذه العادات التي لها ارتباط وثيق بتقاليد وعادات هذه المدينة العريقة في الزمان والمكان،" مثل مواكب عاشوراء، بعد أنْ ينتهي عيد الأضحى: "والذي ما أن تمر أيام على انتهائه حتى تتشح المدينة بالسواد استعدادًا لاستقبال شهر محرم الحرام، حيث تحيي المدينة ذكرى استشهاد الإمام الحسين بن علي بن أبي طالب –رضي الله عنه-... حيث يقيم السماويون مواكب عزاء عاشوراء ابتداءً من اليوم الأول من محرم حتى العاشر منه، ومن المواكب الكبيرة في السماوة موكب الحاج مجللي في منطقة القشلة..."(26).

وما أكّده سلام من خلال الإشارة إلى الثقافة التي ينتمي إليها والتي تشكّل في الوقت نفسه، جزءًا من تجربة الحياة اليومية التي تركتها الأجيال السابقة إرثًا يعبّر على نوعية العلاقة التي تجمع الفرد بالمجتمع الذي ينتمي إليه من جهة، ومن جهة أخرى علاقته بالبنية الثقافية والحضارية التي لها دور في إعطاء زمكانية الرواية خصوصية تكشف عن أهمية التاريخ بالنسبة لشخصيّاتها.

وفي إطار هذه الدلالة يمكن اكتشاف حركة الزمان الماضي الذي يستدعيه سلام ممّا يحتفظ به في ذاكرته، والذي يتمّ استحضاره في شكل صور متلاحقة لإسعاف اللحظات الراهنة وهو يمسك بصورة أحد معالمها التي اشتهرت بها في علبة الصور وهو الجسر العتيق، "هذا هو الجسر العتيق، قلادة جيد السماوة، وهذا النهر المسافر نحو الجنوب، الشمس تسبح فيه بالنهار، وفي الليل يسبح فيه القمر، السماء تسكب فوق أمواجه زرقة، والنخيل يلقي على كتفيه عباءة من الخوص، وهو يسير الهوينا، يلحس رمل الشاطئ، يمسح طين الجوالي الفرات المقدس الذي كان لآلهة الماء عرشًا، ولكهنة المعابد مغتسلًا وشراب، السفن القادمة من الهند تمخر فيه، الأعلام تخفق في قمم الصواري، الأشرعة نوارس خرافية.. الصيادون يسحبون الشباك المليئة بالأسماك، يفرشونها على سجاجيد الشاطئ.."(27).

ويصف حركة الجسر وكيفية عمله في إطار حديثه عن البواخر الكبيرة، فيقول: "كانت السفن الآتية من القرى المنتشرة على ضفاف الفرات محملة بأبناء العشائر ونسائهم وأطفالهم وحيواناتهم ودجاجهم، توقظ الجسر في الصباح بصخب محركاتها، جالدة الشاطئ بسياط الموج، وهي ترسو على ضفة النهر اليمنى في القسم الشرقي من المدينة، كما تقطع قيلولته حين تعود بهم ظهرًا إلى قراهم وهم محملون ببضاعتهم التي كانوا يبتاعونها من سوق السماوة الكبير. حين ينفصل رأس الجسر العتيق عن صدره مثلما ينفصل خصره عن ساقيه.. كان (الجسّار) وهو الرجل المكلف بعملية قطع الجسر يمسك بعتلة البكرة الكبيرة ويبدأ بإرخاء السلسلة التي تربط الجزء المتحرك من الجسر فتتحرك (الدوّب) الوسطية لتنفصل مفسحة المجال للسفن بالمرور، ثم يعيد الجسار شد السلسلة ولفها ليضم الجسر الجزء الذي انفصل ويعود إلى هيئته الأولى، ليعبر عليه الناس والسيارات التي كانت تنتظر انتهاء مرور السفن"(28).

بنى السارد هذا الملفوظ على أساس الجمع بين ثنائية: الفرد/ الذاكرة بوصفها "علامة فارقة تدفع بالشخصية إلى أنْ تتعامل مع واقعها على نحو متميّز وفريد"(29).

فالواقع الذي يعيشه سلام حافل بأسرار الزمان الماضي لمدينته التي كانت طرفًا في حبه للسماوة... "ليل السماوة بلون ثياب الثكلى، وقمر السماوة بلون خدود العذراوات، وسماء السماوة تغيير ألوانها في عيون المتضرعين للدعاء"(30).

أخذ وصف السماوة منعطفًا آخر، حين يقول الشيخ النوري: "شوف .. السماوة كما أتخيلها على شكل بجعة، أو نعجة ماء كما تسموها أنتم أهل الجسر هو الرقبة، والجناحان هما الغربي والشرقي، وذيل البجعة هو الأرض المفتوحة ناحية الصحراء.."(31).

الملفوظ مفعم بعلامات المكان: الجسر، الصحراء، الغربي والشرقي.

إنَّ مدينة السماوة كانت لسلام بمكانة زمكانية مدينة هي الذاكرة المثقلة بالآمال والأوجاع والآهات، وهي صندوق الطفولة الجميل الحافل، ومنه يستحضر صورة القشلة التي كان يسكنها ونهر الفرات، يقول: "ولي في صندوق الطفولة صورة أخرى، عندما يقصر ثوب الفرات في الصيف، تسبح الأسماك الصغيرة التي نسميها (الحرش) في المياه الضحلة، نشد أنا وصباح ومجيد وعادل دشاديشنا ونجعلها كالشِباك لنصطادها ونحملها إلى أمهاتنا كي تصنع منها خبز الحرش.."(32).

ثانيًا: زمكانية الصحراء

اعتنى حامد فاضل برسم عالم تخييلي مرتبط بعادات ومعتقدات أهلها، وتقديسهم لهذا المكان متعلق بكينونتهم وإيمانهم به، فقد أنتجت الصحراء العربية أساطيرها وخرافاتها الخاصة بها مثلما فعلت ذلك مناطق جغرافية أخرى من العالم، هذا ما جعل الصحراء مكانًا متميزًا عن الأمكنة الأخرى.

ومن بين العناصر الدالة على تميز هذا المكان، نقله لوصف الصحراء كما ذكرها والده، يقول: "كنا نتمدد على مطرح الرمل بلا وسائد، نغرس مرفقينا في خاصرة خرجينا، وقريب منا راحلتينا تجتران، وأنت تعلم أن الليل الصحراوي برغم وحشته جميل، فوقنا سماء حلّت في واحتها قوافل النجوم، وقمر منير اعتلى منبره وراح يلقي خطبة الضوء على كائنات الرمال.. نسيم الليل البارد..."(33).

ويتحدث عن قلعة الهيس في صحراء السماوة في حوار الشيخ النوري مع سلام: "أتدري مَن أول من بنى هذه القلعة الجاثمة على عشرة دونمات من الرمال المسفوحة من منطقة دياحيم؟

ولأني لا أدري فقد بادرني بالجواب:

الجن يا صاحبي هم أول من شيد القلعة بأمر من الملك سليمان. انظر قدامك ما تبقى من سورها الشاهق العظيم، ثم انظر جدران أبراجها العالية، ألا ترى أنها ما تزال تشق ثوب الرمال وترتفع بأربعة أمتار كي تظل برؤوسها لتتمرأى بمرايا الصحراء، وحين تحل بفنائها الشمس، تنشر عباءات ظلالها على ما حولها من رمال، ثم أرجع البصر إلى الأفق، مصدر القوافل والضيوف والغزاة وعابري السبيل.. ها هي قبالتك أبراج القلعة المتينة بعرض ثمانية أمتار تتوسطها حجرات مشيدة بالطابوق المشوي. كانت تستخدم لإيواء الحراس والمحظيات والرعاة والعبيد، وفيها مخازن الطعام والسلاح.."(34).

ويكمل حديثه عن كيفية جلب الماء للقلعة، يقول: "نعم سر القلعة، وهو قناة تحت الأرض، هي الحبل السري الذي يربط بين بركة القلعة وبين نهر الفرات، وهي التي يستسقي منها أهل القصر في حالة حرب أو حصار..."(35).

ثالثًا: زمكانية السوق

إن قارئ الرواية يرى، بوضوح تام، كثافة وصف الفضاء الروائي، على اختلاف مركباته، بحيث نكاد نلمس بعض معالمه، فالروائي يعمل على التأثيث المكاني ليحمل دلالات عدة تبوح بدور هذا المكان وموقعه الاجتماعيّ، ودوره في إبراز مَن عليه من بشر. وقد حظي السوق بحيّز واسع منه، إنّه سوق عامر أشبه بالأسواق التي قرأنا عنها في "ألف ليلة وليلة"، وفي حكاياتنا الشعبية"، يصف سلام حركة بيع القرويين في المدينة في سوق الوقفة، يقول بعد نزول القرويين من السيارات: "فتقف لتفرغ حمولتها من البشر، الحيوانات، الطيور، الحبوب، السمن.. وما أن يترجل منها القرويون، حتى يهرع إليهم المشترين البائعين، ويحدث الهرج والمرج في المكان المسمى بالوقفة بعد أن تزدحم بكائنات سفينة نوح من الرجال والنساء، الغنم والمعزى، الثيران، والأبقار الصغيرة، البط والإوز والدجاج، الحنطة والشعير والرز والذرة، والسمن الحيواني"(36).

إنَّ الإشارة إلى ذكر السوق جاءت في سياق ذهاب سلام لبيع عصير البرتقال يقول: "كنت واحدًا من المستفيدين من أيام الجمع والعطلتين الربيعية والصيفية من أمة سفينة نوح، حيث كانت أمي تملأ لي سطلًا من الماء الممزوج بالصبغ الأصفر الفاقع والسكر، يحمله شير علي ويسير قدامي إلى الوقفة، فأتبعه حاملًا بضع كأسات وصحيفة فارغة أجلس عليها في انتظار سفينة نوح، حتى إذا اصطدمت السفينة بجذع النخلة، واستوت على أرض الوقفة، ارتفع صوتي بالنداء: عصير برتقال بخمسة فلوس. فإذا انفضت الوقفة بعد ساعة زمان، يمم القرويون شطر دكان أبي حُمَيد أقدم عطار في السوق الفوقاني والذي يجدون عنده كل ما يفكرون بابتياعه حتى لو فكروا بلبن العصفور، بينما أعود بسطل فارغ وجيب مملوء، فتسمح لي بلعب الكعاب أو الدعبل مع مجيد وعادل وصباح حتى يحين الزوال وهو موعد عودة القرويين إلى ديارهم حيث يتكدسون في السيارة مع ما ابتاعوه من التبغ، ودفاتر لفائف السكاير، والقماش والحبال، والسلاسل، والفؤوس والمناجل والدواء وصفائح النفط وكل ما يحتاجونه من المدينة، فأعود إليهم مرة أخرى لأبيعهم أقراص النعناع، وهي الحلوى المفضلة عند أولادهم.."(37).

وقد حفل السرد بنقل كل تفاصيل البيع والشراء، وإبداء رأي سلام حول جريان الزمان في هذا المكان. فالمكان لم يخل من زمان ينتشر عبر زواياه، ويتعلق الأمر بزمان التدفق السريع للقرويين على المدينة التي تلبي حاجيات مرتاديها من القرويين.

وترد إشارة أخرى إلى السوق في وصف سلام للسوق المسقوف في مدينة السماوة، يقول: "وقد دخلت ها أنذا كما أراني أمر بدائرة البريد، ودائرة الاستهلاك، وكتاب العرايض، ومعرض سنجر لمكائن الخياطة، ودكان مليح الاسكافي، وبائع التبغ الحاج محمد عنون، لأصل إلى التقاطع الأول للسوق الذي تستهل جهته اليمنى بدكان عبد ولَّو بائع شربت الزبيب، الذي تقابله مقهى محمد، ثم أدخل إلى مطعم الكباب الكبير لصاحبه محمد (الكبابجي)، وإن اجتزته فسأكون قدام مقهى صيادي السمك، المعروفة باسم مقهى عفريت.. أما الجانب الأيسر من التقاطع فيستهل بمطعم كباب عزوز الكائن في بداية سوق القصابين.. كم أحببت الرجل بائع عصير النومي بصرة الذي أراه في الصورة الآن وهو واقف وسط السوق، وقد بانت ذوائبه البلق من تحت طاقيته وهو ينادي بصوت لا يقلد: برِّد كلبك... سلسبيل!

وعلى بعد خطوات منه تقف عربة أبي الحلاوة الدبسية وقد تحول ذراعه إلى بندول وهو يطرد الذباب عن صواني الحلاوة بواسطة عصا قصيرة ثبت في رأسها مجموعة من الشرائط الورقية..."(38).

يُخيل لنا وكأننا نرى ونسمع ما يحدث في وسط السوق، وحركة الباعة، بالزمان والمكان، فهو يصف لنا زمكانية السوق بكل براعة.

ثالثًا: زمكانية المقهى

يعد المقهى أحد الأمكنة المفتوحة التي تعكس الواقع الاجتماعي، فهي أكثر الأمكنة المقصودة لجميع الفئات الاجتماعية كمكان يستقطب الجميع للقاءات العامة، كما يمثل المقهى بؤرة اجتماعية لها دلالاتها الخاصة في الرواية العربية، التي وجدت في هذا المكان علامة دالة على الانفتاح الاجتماعي الثقافي، وأنموذجً مصغرًا لعاملنا، فهو بيت الألفة العام الذي "يستوعب الجميع، ويحتوي الجميع دون شروط مسبقة، ودون مواعيد مسبقة"(39).

اقترنت تيمة المقهى بذلك المكان الذي يعجّ بالأشخاص الذين يفضّلون ارتشاف فنجان قهوة يتجاذبون فيه أطراف الحديث في شتى المسائل، بل لم تعد مقترنة بالمساء الذي يرتبط بوقت جلوس مرتاديه، وإنّما تحوّل إلى رمز يحمل الكثير من الدلالات التاريخية التي ساعدت على قراءة علامات الزمان المتفاعلة مع المكان.

وقد تفنن حامد فاضل في وصف مقهى عبود أو مقهى النقائض: "سور، جدر، أجذاع، قصب، حصر.. كوخ شيد بمثابة مقهى، بين الشط وبين البستان، حيث الجسر الحديدي المعلق فوق مطرح النهر المزنر بالنخل، العنب، التين، النبق، التوت، الرمان. يسمح للعابرين بسلق رواد المقهى بالنظرات، والمقهى الذي واحد من مقاهي الصوب الصغير بلا لافتة، أو عنوان.. كان أبي يسميه مقهى النقائض. وكنت أسميه مقهى عبود، نسبة إلى اسم مالكه عبود، الرجل العجوز القادم من الحلة هو وزوجته الخبازة زهرة الحلاوية"(40).

ثم يصف لنا أحوال المقهى في الصباح والمساء، يقول: "أعترف أني أدركت موائد مساءات سكارى المقهى، العامرة بالعرق والبيرة والمزات، وأدركت تخوت صباحاتها المكتظة بعمال المسطر، الذين يحتسون الشاي وهم يتناولون إفطارهم من الخبز الحار والقيمر الذي تبيعه الدبيات، وحين يُعد الضحى للشمس متكأ، أرى المسنين، المتقاعدين، المحاربين القدماء، يحملون هموم أمة العرب على أكتافهم ويلقونها في مقهى النقائض"(41).

هذا المقهى الشهير تسمع فيه جميع الأخبار، "يخنقهم السعال وهم يدخنون اللفائف، ويمسحون بيشاميغهم ما يسيل على ذقونهم من لعاب، يروحون بمهفات الخوص وهم يخوضون في تحليل أخبار راديو لندن التي استمعوا لها في أثناء الليل.. يعيدون عبارات جمال عبد الناصر، يلعنون أمريكا ويمتدحون الاتحاد السوفيتي، ثم يطلقون آهات نكسة حزيران"(42).

وفي وقت الضحى يأتي الحلاق شنان، "وهو يحمل في يمناه حقيبة تحتوي على عدة الحلاقة وفي يسراه (التنكة) التي يجلس عليها من يرغب بحلاقة رأسه أو ذقنه..."(43).

وفي الظهيرة يأخذ صاحب المقهى قيلولة وعندها: "تتحول المقهى إلى حانة رخيصة، بعد أن يغادرها إلى البيت عبود، حيث يأوي إليها الثلاثي المدمن عطا الله، عباس راشد، هاشم سعيد، يشاركهم صناع المقهى بالشرب والرقص... ثم تتحول إلى ورشة للوشم بعد مجيء الواشم حسين كسكين،... عصرًا أرى وأنا أمر بالمقهى جلاسًا من المثقفين السياسيين من أدعياء الثقافة السياسة..."(44).

وفي الليل تتحول إلى نادٍ ليلي، يقول: "انتشرت الموائد والكراسي في عتمة البستان، وتغيرت المقهى عنوانًا وجلاسًا لتمسي ناديًا ليليًا على مرأى من القمر السماوي الخجول"(45).

فمقهى عبود هي مقهى الفقراء والكادحين الحالمين بغد  أفضل وعالم أجمل، وهو يختلف عن بقية مقاهي القشلة، كمقهى الشيخ هادي المختصة بالفلاحين ومربي الجاموس، أو مقهى كاظم المترفة المختصة بأقارب المقيمين في الكويت، أو مقهى كامل المختصة بالشقوات والفارين من الجيش، أو مقهى جميل المختصة بأغاني الهجع(46)..

وهنا إشارة واضحة إلى طبيعة التركيب الطبقي لسكان المدينة، مالكي  الثروة  والجاه،  في جانب مالكي  قواهم  العضلية والفكرية  في الجانب الآخر.

لقد اقترنت ثيمة المقهى بذلك المكان الذي يعج بالتناقض، يحمل الكثير من علامات الزمكانية. يعد المقهى في الرواية إحدى العلامات المكانية البارزة، فهو المكان الذي يستقطب كل الناس على اختلاف مستوياتهم، وانتماءاتهم.

خاتمة:

لقد بنى الروائي حامد فاضل روايته بصورة محكمة، إذ قام بتشكيل فضاء مدينة السماوة الغنيّ بحضارته وثقافته، وأشبعه وصفًا، بحيث جعل القارئ يحسّ بمكانة هذه المدينة وأهميّة دورها التاريخي والحضاري.

فكرة العنوان (بلدة في علبة) فكرة جميلة من قبل الروائي، حيث جعل منا وكأننا نقرأ رواية ونرى فيلمًا في آنٍ واحد .

تتجلى قدرة الروائي وفرادته في رسم عوالم متكاملة أشبه بلوحة فنية قابلة للتشظي، كلما نظرت إليها اكتشفت بعدًا جديدًا فيها، فتحوّلت السماوة، من مجرد مدينة، إلى رمز للمكان الأوسع والأشمل، وهو العراق بأكمله.

نلاحظ حضور دور الأديب الشاعر الفصيح والشعبي والقاص.

تؤرخ الرواية لأحداث مفصلية شهدتها مدينة السماوة.

تطرح الزمكانية في رواية (بلدة في علبة علاقة الروائي بالتأريخي، بحيث تتوارى الرواية كنص إبداعي معاصر مع المكان التأريخي الذي يقتحم العوالم الروائية متلبسًا ببعده الزماني.

تكشف الرواية عن جملة من علاقات الصراع المكاني التي تعيشها الشخصيات الروائية، لعل أهمها: صراع الأنا والآخر، وصراع الحضارات، والقهر والاستبداد.

***

د. سحر ماهر أحمد

.......................

(1) بلدة في علبة، ص48-49.

(2) بلدة في علبة، ص50.

(3) السابق، ص50.

(4) السابق، ص181.

(5) بلدة في علبة، ص51-52.

(6) بلدة في علبة، ص63-64.

(7) انظر: بلدة في علبة، ص64.

(8) بلدة في علبة، ص65-66.

(9) السابق، ص70.

(10) بلدة في علبة، ص203.

(11) بلدة في علبة، ص212.

(12) بلدة في علبة، ص204-205.

(13) بلدة في علبة، ص205.

(14) السابق، ص206-207.

(15) انظر: بلدة في علبة، ص213-214.

(16) بلدة في علبة، ص182.

(17) السابق، ص182.

(18) السابق، ص183.

(19) بلدة في علبة، ص166.

(20) بلدة في علبة، ص30.

(21) السابق، ص30.

(22) السابق، ص33.

(23) السابق، ص41.

(24) بلدة في علبة، ص42.

(25) انظر، السابق، ص226.

(26) السابق، ص184-185.

(27) بلدة في علبة، ص165-166.

(28) بلدة في علبة، ص171.

(29) إيمان عبد دخيل، عدنان حسين العوادي، الزمكان في رواية جبرا إبراهيم جبرا، مجلة جامعة بابل للعلوم الإنسانية، المجلد 18، العدد4، ص941.

(30) بلدة في علبة، ص18.

(31) بلدة في علبة، ص154.

(32) السابق، ص166.

(33) بلدة في علبة، ص106-107.

(34) السابق، ص107.

(35) السابق، ص108.

(36) بلدة في علبة، ص145.

(37) بلدة في علبة، ص145-146.

(38) بلدة في علبة، ص156.

(39) شاكر النابلسي. جماليات المكان في الرواية العربية، (د.ن)، (د.ط)، 1994م، ص199.

(40) بلدة في علبة، ص217.

(41) بلدة في علبة، ص218.

(42) بلدة في علبة، ص218.

(43) بلدة في علبة، ص218.

(44) بلدة في علبة، ص218.

(45) بلدة في علبة، ص219.

(46) بلدة في علبة، ص220.

 

قراءة في رواية شاي مع ماريو فيتالي للروائي البحريني احمد جمعة

ان قراءة الروايات رغم انها ممتعة لا تخلو من مشقة والروائي الناجح يستطيع من خلال أدوات السرد جعل القارئ يتألم ويفرح ويبتهج ويحزن حسب الاحداث ودقة التصوير ورواية (شاي مع ماريو فيتالي) للكاتب البحريني احمد جمعة هي رواية غنية ومكتنزة ولكنها غير معقدة ولغتها واضحة ورفيقة بالقارئ، وهي كغيرها من الروايات المتميزة زاخرة بأحداث الحب والخيانات والسفر والغزل والجنس والموت والولادة وتفاصيل أخرى كثيرة لها علاقة بالحياة العامة للناس ولا ادري ان كان الكاتب هو بطل القصة ام انه متقمص ومجرد مبدع للقصة، فالبطل هو كاتب خليجي قريب السبعين عنده زوجة وابنتان.

فيتالي الإيطالي دوره في الرواية ليس رئيسيا رغم انه عنوان الرواية وهل يكفي حدث عابر عبارة عن مجرد تناول شاي مع فيتالي ان يكون عنوان لرواية طويلة؟ انها قناعة السارد وربما يكون اختيار الاسم بسبب الموسيقى الخاصة الموجودة في اسم ماريو فيتالي وبالإضافة الى فيتالي كما اسلفت هناك احداث وهناك ام واب وزوجة واخوة كل منهم له مواقف وقصص واهات ومرض وموت ورحيل ونجاح واخفاق، اذن فالرواية ليست حكاية أحادية فحسب والكاتب له نفس طويل وتركيز واضح وقلم سيال والصفحات تناهز الستمائة صفحة.

الكتاب كان رفيقي في الحدائق العامة والمقاهي وكان معي في الباص والقطار وحتى في المطارات في اسفاري المتكررة.

يتفرد الكاتب في أسلوبه في رسم مواجهات المظلوم مع الظالم والجلاد والضحية (ص 571) ويذكر الصفات العجيبة لضباط التحقيق في الشرق، انهم قساة هدفهم كشف الجريمة بالإيقاع بالمتهم ونزع الاعتراف منه باي وسيلة.

من هو ماريو فيتالي الذي يتصدر اسمه غلاف رواية بهذه الفخامة؟ وماذا فعل؟ أيكفي انه عشيق صوفيا وصديق القرمزي وموقفه الشهم من جلاده: اعرف انك غاضب مني فانا مسرور لأني حققت عدالة الأرض قبل عدالة السماء لان الحساب هناك اصعب (ص584) وهو لا يبرئ نفسه ويقول في ص 627: لست فخورا ان قلت بانني ارتكبت جرائم ربما ادفع ثمنها في حياة أخرى.3015 رواية احمد جمعة

ولا أنكر بان الكاتب قد يتعرض الى مساءلة في بعض أجزاء الرواية منها كيف كانت مرام وندى يتفاهمان مع ماريو فيتالي وباي لغة؟ ومنها استخدامه بعضا من غرائب التعبير ولا أدرى هل هي أخطاء ام أمور يقصدها الكاتب مثل: شعر بوخز في صدره الايسر ص182، ورغم وعورة المناخ ص377، والابحار في صحراء محيطات مائية ص 396، وتأبط فتى نحيف كتف فتاة ص 486، وهي تمسك بيدها غصن شجرة عنب ص 496، وفاق اعجابه بآلهة من الهة عصور الخالقون ص 542، وتوغل في الغبار تلون بالشمس الليلية وكنس الشارع بخطواته التي تنشر أوراق الأشجار السوداء ص549.

انا لا أرى ان مهمتي تنحصر في تلخيص الرواية لان في ذلك افساد لمتعة القارئ وجهده ولكن الاحداث تتسارع بعد صفحة 500 لعالم كله في خطر، خطر الحروب والاوبئة والأسلحة الوبائية والجرثومية ويعبر عنها كلها بالغبار الارجواني.

المرأة كانت حاضرة في الرواية والجنس كان حاضرا أيضا ولكن بحذر مع ان البعض يتصور بان ادراج المشاهد الصريحة هي من مقومات نجاح الاعمال الروائية.

مايا سعود رغم انها امرأة ثرية وارستقراطية وراقية ولكنها قد يخفق قلبها لإنسان عادي مهنته الكتابة وتصارحه برغبتها رغم انها محاطة برجال كثيرين.

ان معاناة اللاجئين لا يعرفها الا لاجئ ولكن الكاتب بثقافته الواسعة العابرة للحدود وخبرته في الكتابة استطاع ان يجسد ادق التفاصيل عن أحوال المهاجرين واللاجئين.

القرمزي كان في رحلة غامضة لا مفر منها وما أكثر رحلاتنا وتصرفاتنا التي لا مفر منها والعالم غارق في حالة طوارئ وقد يعود الى نقطة الصفر مع بدء خليقة جديدة ص11.

***

حسين أبو سعود

ميتافزيقيا الشيفرات الواصلة وإظهارية دال الموت اللامتوقعة

الفصل الأول ـ المبحث (2)

توطئة: لا شك أن بعض النصوص الروائية تدخل موضوعتها في عمليات (حضور اللامحدد / مسوغات الشيفرة في زمن اللارتباط / ميتافزيقيا الآفاق الاحتمالية) بلوغا إلى مستويات خاصة من كفاءة العلاقات في إطار المحتوى الشكلي الموصول بشتى حسابات الدخولات في أفضية من الشيفرات النصية المصاغة في هيئات تستأثر لذاتها مجموعة من الوحدات المترابطة أو اللامترابطة في ضروريات المؤشر الدلائلي الراسخ والمرسخ في موضوعة النص الروائي.

- الروابط السردية شكلية متتابعة من ترويض الموضوعة.

ما تزال متواليات الأجزاء الروائية في محكي رواية (انقطاعات الموت) تعاود تعقب مواقعها السردية ذات الإمكانية الاسترسالية على جزئية (الأدلة الكونية) بالمقابل من تمويه الأسباب التكوينية في سياق حبكة (غياب الموت) كما وما يزال العمل الحكومي جاريا على قدم وساق، في نشر القوات الحدودية، حفظا لأي حالة من حالات الخرق الأمني الذي بادرة فيه تلك الجهات الدولية الثلاثة المجاورة، بصيغة الرد العسكري أو الغزو ربما، لو تكررت ظاهرة اختراقات من النوع ذاته التي حصلت في الفترات السابقة من زمن غياب الموت.

1 - آليات الموت المعلق ووسائط المافيا في خرق المواثيق:

من الواضح أن (جوزيه ساراماغو) في خطوط شواهد ومظاهر حبكة روايته، كان يلوح إلى بث مؤشرات سياسية أكثر غموضا من موضوعة غياب الموت ذاتها عبر مواطن البلاد، فهو يقدم بالتفاصيل المفرطة بالإشارات والحوادث الأخبارية، ما كان يحدث من ملامح تلخص حقيقة متصلة بجملة إجراءات السلطة الحكومية ذات المظهر الراصد إلى كيفية معالجة هذا الحدث الكوني الخطير: (حكومات البلدان الثلاثة المجاورة التي ثارت حفيظتها لاستمرار اجتياح أراضيها من قبل فرق دفن ـ مافوية ـ منظمة أو عفوية، قادمة من تلك الأراضي الشاذة التي لا يموت فيها أحد ـ بعد احتجاجات دبلوماسية غير قليلة لم تفد في شيء..قررت الحكومات الثلاثة في عمل منسق، أن تدفع قواتها وحامياتها الحدودية إلى التقدم، مع أوامر واضحة بإطلاق النار بعد التحرير الثالث./ص68 الرواية) وعلى هذا النحو صار من المألوف رفع كلفة رجال المافيا ممن كانوا عرضة لعمليات تصويب النار نحوهم قتلى، ولأنهم خارج حدود البلاد فكان أمر موتهم يسيرا.أقول أن معضلات السرد في رواية ساراماغو، تتحمل الأعباء الشديدة، كونها مشحونة بالتفاصيل الأكثر بلوغا من المعتاد في توصيف الأحداث وفق طبيعتها الاستدلالية.وهذا الأمر ما راح ينسحب على جهات مركزة من اشارات (موقع الراوي العليم) الذي لا ينفك بالسرد تقدما نحو رصد المزيد من المظاهر والحالات الموقفية في المشاهد الخارجية من النص.

2 ـ الوظائف الشخوصية والمواقف وهيمنة الراوي:

لو تأملنا البنية الروائية في منظور مستوى وظائف الشخوص ونمو المواقف، لوجدناها محققة من لدن ملفوظ ومرسلات السارد العليم، بل إن حتى شروع مظاهر الزمن وتحولات المكان، حلت في حدود تراتيبية موصوفة من قبل الراوي نفسه، فهل لنا أن نسأل في هذا الصدد: هل إن المراد الموضوعي في حبكة النص أن يبقى العمل الروائي لساراماغو مقاربة تستدعي علاقة قائمة بين السارد والنص تحديدا؟أم أن المستويات الأخبارية في محاور السرد تتطلب أن يكون ساردا متماثلا بالحكي الكلي والجزئي؟غير أننا ونحن نواجه وظائف السارد الرئيس والمؤلف الضمني في الرواية لاحظنا ضمور المواقع الأخرى من وظائف وتقانات السرد والوصف والزمن والحوار المونولوج والاسترجاع والاستباق، لتشكل ذواتها في محددات السارد الكولوجية والتثاقفية، فهل من الممكن أن يكون مراد جوزيه ساراماغو هو الخلوص بوظائف متعددة في وظيفة أسرار السارد المتعدد؟ .من هنا يمكننا فهم الإقرار النقدي منا، بأن باقي مكونات النص الروائي، بدت أكثر تضامنا مع استشرافية السارد الرئيس، حيث إن السياق الروائي العام في ذات النص غدا يكشف بالمقابل من انعدام الوجود الشخوصي المتعين عبر جهاته العاملية، ذلك التباين والتماثل في الاشارات والعلائق المبثوثة من منطلقات الذات الضمائرية الناظمة كليا.ومن خلال هذا الأمر بالعمل في طرائق السارد المتعددة، غدا التصنيف المشخص في مركب المادة الروائية هو (هيمنة السارد الرئيس؟) دون فقدان العمل الروائي إلى إمكانية وديمومة الأسباب الوظيفية الأخرى ـ التعيينية ـ في النص.ونظرا إلى خيوط الحكي المباشرة من الأصعب إلى الأهم تباشرنا وظيفة السارد العليم بأكثر من وجه وزاوية ومنظور وخلفية سياقية.ولأجل أن لا نتغافل نقول بالإشارة المشخصة إن هناك حضورات شخوصية في مسرح الرواية ، كشخصيات (الوزير ـ الوزير الأول ـ الملك = السارد المهيمن) نظرا إلى كون طبيعة المحكي في موضوعة الرواية، تتطلب فراسة خاصة في الوظيفة الإيصالية في أبسط الأحوال، لذلك فمن غير الممكن تعيين محاور شخوصية لا تفي بدور تحريك الخيوط الحبكوية أو السردية. ومن بين التوصيفات التي يمكننا إسباغها على النمط من انعدام تواجد المحاور الشخوصية البارزة في النص، بأستثناء طبقة الوزراء ورئيس الوزراء وصوت السارد العليم، وذلك لأن أداة التبئير تتركز في طبقة الجهة الحكومية وكيفية فعل تدبرها لأمر كوني خارق للعادة والمألوف..ولو افترضنا بأن هناك فواعل شخوصية ما فما دورها سوى ندب حظوظها أو مقادير شقائها وهي تتحلق حول سرير رجل مسن غير قابل للموت أبدا.من هنا تتضح ضرورة إشارات المؤلف النسبية حول بعض الشخصيات الهامشية في الرواية، لكونها لا تعد بالصلة الأداتية والتبئيرية الكاملة في مصدر توقف الموت ومخلفاته الاقتصادية والسياسية والدينية على الطبقة السياسية الحاكمة.ما نود قوله من وراء استطرادنا هنا وهناك، أن مدلول غياب الموت له علاقة حميمية مركزة بالطبقة السياسية تحديدا.

3 ـ تكاثرية سرد التفاصيل في خيوط الحكي:

قبل الخوض في مجال أطروحة هذا الفرع المبحثي علينا أن نعلم من أن الرواية هي بذاتها المبنى المخصوص بالاستعدادات التفصيلية المتوغلة في أدق شعاب الصلب المادي والمعنوي من آليات وصف الأشياء والأحوال الذواتية والزمكانية، لذا فإن صورة توصيف دلالة ظاهرة تتعلق بحدث كوني محتمل التخييل في حدود معطيات حرجة، لابد وأن تكون للروائي القابلية الخاصة في متابعة تفصيل الأدلة الواردة واللاواردة من قبل هكذا محكي يختص أولا في ما يختص بحجم التراكم الكمي في الموارد البشرية الفائضة، والسبب الآخر في ما يتعلق ومستوى ردود أرباب الكنائس وتكهناتها التلاعبية في شأن المصير العام والخاص للبلاد، ومن ثم ما ينتجه زمن الطبقة الحاكمة وردود فعلها إزاء هذا العطل المقيت في عجلة الزمن الوجودي.من خلال الخطاب الروائي يمكننا لمس مدى الانحرافات السائرة بين الوزراء ورئيس الوزراء ثم أخيرا الملك.ففي زمن الحبكة المتاحة في الأجزاء الروائية، تصادفنا وقائع معتادة من نوعها جاءتنا حول فساد القيم والمبادىء لدى مؤسسة المافيا المكلفة بدفن الموتى النهائيين: (المافيا لم تتمكن من نبش اظفارها المعقوفة في كل قطاعات مجتمع منقسم بين الأمل في الحياة الدائمة والخوف من عدم الموت - كانت الكرامة آنذاك طريقة للسمو والرفعة في متناول جميع الفئات..وبالرغم من كل شيء، وبالرغم من المنتحرين المزيفين وصفقات الحدود القذرة، فقد ظلت الروح ترفرف فوق الماء./ص79 الرواية) من الجدير بالملاحظة القصوى أن الحبكة ـ التبئير، قد أخذت في ذاتها محمول موضوعة الوحدات السردية، مأخذا محاكيا إلى جملة من نظريات فلسفة (مارتن هايدغر) حول مفهوم الوجود وكينونة الأنا المتسامية، التي قد تحولت في بعض وحدات الرواية إلى مستوى من المساءلة الفلسفية: (الروح تنظر إلى السمكة الصغيرة الحمراء الساهية وهي تفتح فمها لأخذ الماء، وتسأل وقد صارت أقل سهوا، منذ كم من الوقت لم يجدد الماء، كانت تعرف جيدا ما أرادت السمكة قوله وهي تصعد لتشق الطبقة الرقيقة التي يختلط فيها الماء والهواء..في هذه اللحظة الكاشفة بالضبط ظهرت لها، صافية وعارية./ص80الرواية) إن الغائية المدلولية ها هنا متعلقة بالجهة الفاصلة بين مساءلة (اللاتحجب؟) في جدلية الموت والحياة، فهناك الروح الحائمة التي تعد بمثابة السمو في البعد (الميتافزيقي) فيما تبقى السمكة في حوضها تشكل بذاتها هوية الكائن المقيد بالمادة، ثم بالتالي هناك تلك الحوارية بين الروح والفيلسوف المتدرب: (الروح التي ترفرف فوق الحوض: فلنتحدث عن الموت؟ليس عن الموت، بل الميتات، وقد سألت عن سبب عدم موت الكائنات البشرية، بينما تموت الحيوانات الأخرى، ولماذا لا يكون سبب عدم موت أحدهم هو السبب في عدم موت الآخر./ص81 الرواية) .

4 - محكومية محايثة الموت بين ديمومة السؤال وفلسفة الروح:

إن جدل القيمة الحوارية الدائرة بين (الروح =الفيلسوف) حول حقيقة وماهية الموت، بدا لنا تشخيصا مفترضا عن ذلك المسند المثار في الفلسفات الإغريقية والكانطية وحتى فلسفة مارتن هايدغر.وهذا المجال بدوره ما بدا دخيلا على وحدات السرد في الرواية أولا وأخيرا، رغم عدم يقينية الفكرة ورجاحتها في الأدلة الوجودية تماما، لكننا نقول بأن ساراماغو أراد من وراء هذه الجدليات في المحاورة، إثبات مركزية الموت على كونه حالة صحية للوجود، وبعدم وجوده، فهناك ما يحدث معبرا عن النقصان في المعادلة الكونية، وبانفتاح حديث الروح عن موت الكائنات دون الجنس البشري، فما هي إلا خطاطة في تداول الكلام بجواز كون موت الحيوانات هو العائق للموت البشري، رغم تجدد الماء في حوض السمكة فهذا لا يمنع من كونها تموت أخيرا.وبهذا النحو توافينا تلك الرسالة المتروكة من دون علم السكرتيرة للمدير العام للتلفزيون، والتي في ظاهرها لا تحمل لأي جهة مرسلا أو توقيع حتى، وعندما يحضر المدير العام إلى مكتبه صباحا كعادته يوميا يتفاجأ بوجود رسالة تحتوي على ورقة مخطوطة بخط يد ضعيف: (: أرجوك يا سيادة رئيس الوزراء ؟: لا بأس بما أنك تلح، تعال، وآمل أن يكون في السر ما يستحق العناء./ص102 الرواية) إن حالات النص الروائي تحقق لذاتها درجة كبيرة من الإتقان والذروة في مخفيات الكشف المبثوث في وظائف الأفعال المحكية والحوارية، لو لا عدم إتقان بعض الجمل الحوارية في النسخة المترجمة للرواية، إذ بدت الجمل الحوارية وكأنها سائبة دون جهة محددة بالحوار.أقول إن طبيعة تلك الرسالة التي وصلت مكتب المدير العام للتلفاز وبعد إطلاع هذا الأخير على محتواها أجفل واقفا وحافظا على سرية المحتوى وقد عزم جازما على أن يكون رئيس الوزراء المطلع الأول والأخير على ما جاءت به تلك الرسالة المجهولة المرسل.

ـ الكوميديا السوداء بين انبعاث الموت وخطاباته المذيلة

من أهم الإشكاليات التي تطرحها الأجزاء المتوسطة من متواليات الفصول الروائية، تلك الخلاصة التي أظهرتها حقيقة محتوى تلك الرسالة والتي جاءت من لدن الموت نفسه.

1- زمن المخطوطة بين الحدوث الفجائعي ومأزومية الانفراج:

هكذا يتضح لنا ولباقي عناصر الرواية الشخوصية، بأن الموت كان في استراحة أو عطلة من نوع ما إن جاز لنا التعبير حول عمله في هذه البلاد، ولأنه عاده فقد أتضحت دلالات صورة الوفيات المعطلة كل تلك الفترات الزمنية، فيما تلقى المسؤولين في الدولة أخبار عودة الموت بصدور مسترخية: ( كانت الشوارع في حالة هائلة من الهرج والمرج..يرى أشخاص متوقفون بذهول، حائرون، لا يعرفون بأي اتجاه يهربون، وآخرون يبكون بتفجع، وآخرون يتعانقون، كما لو أنهم بدؤوا الوداع هناك ./ص115 الرواية) وعلى هذا النحو واجهتنا دلالة (مأزومية الانفراج) وذلك لكون مؤسسات المآتم والدفن وصناعة التوابيت لم تزامن واقع حدوثية رجوع الموت إلى البلاد، بعد انقطاعه الذي دام عدة شهور، لذا تكالبت حالات الوفيات بأعداد ضخمة، مما زاد منفعة العاملين في وسائط الخدمة في مؤسسات الدفن إلى حد الانتعاش الاقتصادي عند حاصل الدخل لأصحاب تلك المؤسسات: (خلال مكالمة هاتفية أخرى علم أن حفاري القبور يطالبون بزيادة كبيرة في أجورهم ودفع ساعات العمل الإضافية ثلاثة أمثال الأجر العادي./ص120 الرواية) تتابعا مع فصول ووحدات سردية أخرى نعاين بأن هناك وسائل رقابية ركزت على التحقيق في مستوى الخط المدون في الرسالة التي قام الموت ابعاثها إلى مدير التلفاز، وبعد الفحوصات المتأنية من قبل ذلك الخبير في الخطوط، أقر في نتيجة فحصه بهذه الجمل: (السيد أختصاصي الخطوط على صواب، هذه كانت كلماته بعد قراءته العرض..إلا إنه من غير المفهوم، إذا كان الموت ميتا./ص129 الرواية) .

ـ تعليق القراءة:

لا شك أن القارىء إلى تجربة رواية (انقطاعات الموت) لربما يجد فيها ضربا من ضروب (الكوميديا السوداء) أو ذلك النمط من الأدب العجائبي، ولكن في حقيقة الأمر لا هذا ولا ذاك.فالرواية تجربة جادة في ندرة موضوعتها وأحوال هويتها الدلالية، ولكنها ذات علاقة انتقادية جازمة حول مهاترات السلطات السياسية، إلى جانب تحول منافع الفرد الشخصية على حساب خسران الأخرون من الفقراء والمساكين من الشعوب، كما ولا نريد طرح كل متعلقات الرواية الجوهرية في مباحث دراستنا لها بطريقة مهلهلة، بل إننا نود مقاربة أجزاءها في حدود من المعاينة التحليلية التي توفر لدراستنا أخيرا ذلك الشكل المختبر من تقويم تجربة الرواية في آفاقها المعلنة واللامعلنة. مرورا إلى أهداف مبحثنا هذا الذي سعى إلى الاحساس الذائقي، في كون بعض من الأجزاء الأولى والمتوسطة للنص، ظلت كركائز موضوعية تتمثل في مسرودها بما يقارب: ميتافزيقيا الشيفرات والإظهارية المحتملة من حسابات ومدروسيات الزمن التأليفي الذي أربكنا بدوافعه المؤسسة على مظاهر الدلالات الضمنية والمضمرة في مجابهة معادلات غياب وحضور حكايا الموت .

***

حيدر عبد الرضا

المدخل: الرواية بين فن التخييل والتذكير والتذكر..

" ان كل فن عليه ان يصير علما وكل علم عليه ان يصير فنا.." (محمد برادة في الخطاب الروائي لباختين.)

صدرت للاستاذ الروائي عبد الكريم جويطي عدة روايات اخرها رواية "ثورة الايام الاربعة" الطبعة الثانية (2022).

اما رواية " المغاربة" فقد صدرت طبعتها الاولى (2016) والطبعة الخامسة (2021).

لم يسبق لي قط ان قرات للجويطي اية رواية من رواياته وكل ما اذكر انني قرات مساهمته في ترجمة كتاب " الموريسكي"من تاليف حسن اوريد وترجمة عبد الكريم جويطي مع مراجعة للترجمة قام بها المؤلف مما يعني ان المؤلف قام باعادة صياغة الكثير من عبارات الترجمة لتتلاءم مع روح النص الاصلي الصادر باللغة الفرنسية (2011).

ان عدم اطلاعي على اعمال جويطي يرجع لسبب بسيط سبق ان اشرت اليه في مناسبة سابقة..حيث ان قراءاتي للاعمال الروائية تقلصت كثيرا نظرا لانصرافي وتركيزي على قراءة الاعمال البحثية الفكرية التي تتمحور حول بعض القضايا التي اهتم بها او اشتغل عليها..

ومن حسن الحط والطالع ان صديقي الاستاذ محمد مزهار الذي يشاركني في حوارات فكرية عميقة يابى الا ان يشركني في بعض قراءاته الروائية الخصبة لتكون موضع مناقشة بيننا حول مضامينها وما يثيره مؤلفها من قضايا واشكالات..وضمن هذا السياق تندرج قراءتي لبعض فصول رواية " المغاربة للاستاذ عبد الكريم جويطي التي نالت جائزة المغرب للكتاب (2017).

ساركز في هذه العجالة على بعض الفصول فقط وابدي بعض الملاحظات حولها.. ولن اتوقف عند الاسلوب الفني او البنية الروائية لانني لست مطلعا على انتاج المؤلف اطلاعا كافيا يسمح لي بابداء راي في المضون..

كما سأتوقف عند الفصلين اللذين استدعى فيهما المؤلف رمزية "طه حسين" الادبية..بغية البحث عن غاية هذا الاستدعاء وسياقاته وعلاقته بموضوع الرواية التي تتناول صورة المغاربة عبر التاريخ وتسعى للكشف عن جوانب من مسلكياتهم وتمظهراتهم ونفسياتهم.. وما تميزوا به من افعال نتيجة الاحداث الجسام التي صهرت شخصيتهم و شكلت امزجتهم عبر العصور المتطاولة.. (حسب رؤية المؤلف..).

و سنحاول ان نقف عند البنية الروائية لكي نفهم غرض المؤلف من سرديته او محكياته الروائية وضمن اي اطار وسياق جاء استدعاؤه لطه حسين هل لرمزيته الادبية.. اومن منطلق ان الادب يعتبر بمثابة رهان على الحرية والقيم الحافزة على التغيير والتجدد..

لقد اختار المؤلف جنس الرواية ليصوغ من خلاله اسئلته المركبة حول شخصية المغاربة وهويتهم المتعددة التلوينات.. والبوتقة التي انصهرت فيها مختلف المكونات نتيجة تناقضات السلطة وحيفها والصراعات المريرة الدائرة حولها..

هل تمثل الرواية النسيج الادبي القادر على احتواء التعبيرات المختلفة لتوصيل الرسالة والكشف عن مكنونات الشخصية الثاوية في اعماق الذاكرة الجمعية..؟

لا شك ان الرواية تعتبر الفن المعبر عن ايقاع العصر.. وقد اعتبرها "لوكتش" (1885/1971) بانها ملحمة الطبقة الوسطى في بحثها عن المكانة والدور المؤثر..

ان الموضوعات التعبيرية في الاداب الحية دليل على الحيوية وعلى ما يصيب الامم الحية من عوارض ومن نشاط وفتور او محافظة وتجدد..

وان الفن الرفيع لا يقوم الا على الخلق والابداع.. والمعرفة ، اما معرفة منطق تعتمد على العقل او معرفة بداهة وعمادها الخيال..

الخيال باب من ابواب المعرفة وان اختلط فيه الصدق بالوهم او الضلال..

ويمتاز فن الخيال على الخداع لان الفن صناعة او صياغة منفصلة عن الموضوع.. وكلما ارتقينا في تقدير الفن كلما ارتقينا في تقدير الحس والبداهة وفي العلم بوظيفة الخيال..

الخيال وظيفة تنفذ الى اسرار الخلق والابداع..

نخلص مما تقدم ان مفتاح الفن الروائي باشكاله المتعددة يكمن في ملكة الخيال لدى المبدع..فالقصة فن ادبي يوظف الخيال ليعبر عن الحياة كحلم وقيم ومثل..

وانطلاقا من وظيفة الخيال في فن الابداع تبلورت نظرية الرواية وهي نظرية حول دلالة الرواية ومعناها من الوجهة الفلسفية والتاريخية والبنائية..

والجدير بالذكر ان نظرية الرواية تحتل حيزا هاما من كتابات الفلاسفة والنقاد والمحللي الخطاب.. بالرغم من ان تاريخ النصوص الروائية كجنس ادبي يرجع الى القرن السابع عشر الميلادي..

وقد تبوات نظرية الرواية هذه المكانة نتيجة توافق ظهورها مع تبلور جملة من التحولات الاجتماعية والفكرية والعلمية على الصعيد الاوروبي..

وقد ترتب عن هذا الوضع تجدد البحث عن الاشكالية الادبية او الاجناس الادبية التي تتاسس عليها المقولات الجمالية ضمن اطار جدلي "هيجلي"للاستتيقا او الظاهرة الجمالية.. للتفكير في اشكالية الانسان من زواياها المتعددة.. وذلك من منظور فلسفي كمنهج حياة ضمنه يتشكل الابداع الادبي بمختلف صيغه ومضامينه..

اذن في الرواية تتداخل الذكرى الخلاقة القادرة على ادراك الموضوع ذاته وعلى تحويله..وما يجعل من هذه الذاكرة حقيقة واقعية هو قبول السيرورة الحيوية للحياة ذاتها.. ان الوحدة المعيشية تشكل المكون الموضوعي لتحقيق التجانس الذي يتطلبه الشكل الروائي..

ومن هنا الحضور الذاتي الطاغي في السرد.. بحيث يستحضر السارد تفاصيل الذاكرة عبر التخييل من خلال اسئلة تنبع من التحولات التي يشهدها العالم من حول الانسان.. وهذا ما يثير لدى المبدع الاسئلة الملتبسة او المسكوت عنها والتي يستطيع الادب وحده الاقتراب منها ومعالجتها وذلك بالغوص في تلافيف الذاكرة واستحضار ما تكتنزه من اطياف يعيد لها المبدع عنفوان الحياة بنفحة من روح الخيال الفني الخلاق فتعود حية تسعى على مسرح الحياة..

افالتذكر والتذكير هو ربط الماضي بالحاضر بحيث يشكل العتبة الاولى لفهم المحكيات الروائية..

ان ازدهار التفكير النظري في الرواية واتساعه ليشمل بقية الاجناس الادبية الاخرى مما جعل الخطاب الروائي خليطا من اللغات والاصوات والخطابات والنصوص كمرآة لما تمور به المجتمعات الحديثة..

ونتيجة لهذا الوضع الاجتماعي الجديد تحول الروائي عما كان عليه فتبدلت سلوكات الابطال لتكون ملائمة لاجواء الرواية الحديثة.. والتحولات البنيوية التي عرفتها المجتمعات الاوروبية منذ القرن التاسع عشر..

وتمثل هذا المناخ في الكتابة الروائية التي تعددت فيها التعبيرات والمواقف الايديولوجية المتصارعة..

فاللغة هي خطاب محمل بالدلالات والمعاني التي تكشف عن انماط العلائق القائمة بين الا شخاص والاهداف الكامنة وراء الخطاب الروائي..

ومن ثم فان الرواية جزء من ثقافة المجتمع والثقافة مكونة من خطابات تعيها الذاكرة الجماعية وكل فرد في المجتمع يستمد موقعه وموقفه من تلك الخطابات المتعددة الاشكال التعبيرية ضمن جدلية الذات والعالم..

ومن هذا المنظور فان الرواية صيرورة مستمرة لا تتبلور الا بوعي تاريخي..

الخطاب الروائي واثر الطبائع في أنماط الشخصية والهوية..

"يقدس الماضي في حياة البشر.. رغم ا نه امر انقضى ولا سبيل لملامسته الا عبر التذكير.." (ص9).

في رواية "المغاربة" تطرق المؤلف للمكونات التي صهرت شخصية المغاربة عبر التاريخ..واثرت في رؤيتهم وطبعت أنماط سلوكهم وردود افعالهم..

وليس قصدي عرض سردية الرواية او ملابساتها.. وانما اريد الوقوف عند توظيف المؤلف للطبائع الراسخة في أعماق الذاكرة الجماعية وما انتهى اليه من عناصر تشكل الملامح الأساسية للشخصية التاريخية..

لقد تكلم المؤرخون قديما عن طبائع الأمم وعن العلاقة بين طبائعها وآثارها الأدبية والثقافية..، و كثر الكلام في هذه العلاقة بعد ظهور المباحث النفسية.. والنظر في اطوار الجماعات البشرية..

ما يرومه الدارس من دراسة طبائع الأمم هو فهم ادابها وثقافتها..، كما ان فهم الثقافة يتطلب بحث عناصر الاجناس او بحث الامزجة على ضوء العقائد الموروثة.. فهي بواعث محددة آثارها معروفة وليست من اللبس فتختلط فيها الآراء..

ان ظاهرة الطبائع المنبثقة عن الطبائع الموروثة هي التي نسجت حولها الرواية..

كيف عالج المؤلف البواعث المنبثقة عن الاخلاق المتمكنة في طبائع الأجيال المتعاقبة بحيث لا يصعب على المؤرخ ان يسجل تاثيرها في تكوين المجتمعات وحوادث التاريخ..باعتبارها محور الصراعات الكبرى في معضلات النفس البشرية.. قد تتمثل في قصة او مذهبا فلسفيا او رايا من اراء السلوك والأخلاق..

مضن أي سياق صاغ المؤلف ملامح الشخصية التاريخية "للمغاربة"..

هذا ما سنعرض له في محاولة للبحث عن عقدة الرواية وسداها وما يتخللها من شعور وأفكار، توحي بالتخييل والتفكير..فيصبح تصوير الموقف يغني عن العناية بالشخوص او الحوادث..

" المغاربة" قراءة لانماط الشخصية والطبائع الراسخة عبر التاريخ..

" بلد ببحرين وانهار جارية واراض خصبة وغابات..حكمته الصحراء منحته قادة وزعماء اشداء..ولكنهم بلاخيال ولا طموح.." (ص123).

في فصل"موت الجد" يتحدث السارد عن الجد والجدة والأرض التي كان يزرعها الجد وهذه العناصر كلها ترمز الى الشخصية المتجذرة رغم ما حدث من تغييرات في اطوار المجتمع ومظاهره وتقاليده..

مات الجد حزنا على ارضه التي اخذتها الدولة لتقيم عليها تجزئة سكنية..

كانت الارض هي حياته لهذا كان حزنه كبيرا وجليلا.. (ص29).

انتهت كل الملاحم التي شهدها المكان قرونا من الزمن تطوع فيها الأرض وتغرس الأشجار وتزهر الازهار ويربو العشب.. ولان الفلاح يحرس ارثا مقدسا فان الجد كان يقوم بطواف على ظهر حماره حول الأرض التي كان يزرعها.. فتعرض لضربة شمس قاتلة لانه لم يعد يعرف كيف يروض الفراغ المحيط به.. ولما رحل ترك فراغا مهولا اثر على حفيده الذي ودع طفولته ونظرته للعالم والاشياء..

ان الاشياء والأماكن والأشخاص رغم ما يربطنا بها من أواصر ووشائج عميقة وراسخة فانها الى زوال.. (ص30).

في فصل عودة الباشا يتحدث السارد عن البا شا الذي يرمز الى السلطة والقوة التي يتناوب على حملها رجال غلاظ أ شداد.. يحظون بالهيبة والمكانة الرفيعة.. يجلهم الناس ويخشونهم..

السلطة دائما محاطة بالنزوات ( المال والنساء)..ولا احد يستطيع ان يعترضها او يرشدها.. (ص65).

الزمن وحده هو القادر ان يفعل فعله في الجاه والسلطة..فلا شيئ يبقى لان كل شيئ عابر.. (ص69).

الناس لا يحكمون بالسلاح فقط بل يحكمون أيضا بالخبر فالاخبار عدة الحكم شريطة معرفة قراءتها.. (ص81).

كان باشا مراكش العتيد داهية يتقن اللعب على الحبلين.. و يرجع سلوكه المزدوج الى المنطق القبلي الذي يتسم بالتناقض في اكثر من موقف.. ( بين الحب والبغض والقسوة و العطف.. فالازدواجية تتيح له الانتقال بين اطراف الأشياء المتنافرة بدون ادنى حرج.. (ص103).

في فصل مقامات الغريب حديث عن الولاية والاولياء والكزامات والصوفية..التي ترمز الى زمن الولاية والكرامة والمعجزات..والغربة بمعناها الصوفي مقام زهد وصفاء طوية وترفع عن مشاغل الناس الدنيوية..واشد غربة هي غربة الدار والوطن.. وقد ضاع الشيخ الغريب المرابط الدلائي وطمس قبره لان المغاربة لا يحرسون الذكرى الا اذا كانت تحرسها سلطة قائمة.. (109).

كان الشيخ اخر الصلحاء صلى الفجر واسلم الروح.. وقد حضر جنازته جميع الاولياء والزهاد ببلاد المغرب..لم يعرف احد كيف وصلهم الخبر وهل طويت لهم الأرض ام طاروا باجنحة.. (116ص).

في فصل هذيان المغاربة ينقل شذرات واقتبسات عن المغرب و يصورفيها شخصية المغاربة بأسلوب هجائي قدحي وتبخيسي وعدمي و سلبي.. وقد جاء هذا الهذيان الذي اطلقه المؤلف ( في باب المغاربة/1) وفي (باب السلاطين/2).

وسنعرض بعص الصور في سردية المؤلف عن طبائع ومسلكيات الشخصية المغربية المتجذرة كما رسمها المؤلف في روايته " المغاربة"..

يقول السارد" صد البحر المغاربة الأوائل فاداروا له ظهورهم..

حضارة بنيت بين جواجز ثلاثة، بحر وجبل وصحراء.. ولان المغرب كان بعيدا جدا من الامبراطوريات حيث تخف قبضة الدولة و الدين والتاريخ.. فقد كان دوما ملكا للمدعين والحالمين بالسلطة والكاذبين الكبار..

شعب بلا خيال لم يحلم بمجتمع اخر الا من خلال متنبئين فاشلين ومدعين بئيسين للمهدوية..، شعب وزع كل آلامه على القبور.. وقعد على قارعة التاريخ ينتظر الكرامات..

كم ازدهرت في هذا البلد الشروح والحواشي والمختصرات وطمرت المصادر.. وحفرت خنادق عميقة بين العقل واصول المعارف.. في تلك الأوساط التعليمية المتحجرة التي صاغت عقلية المغاربة لقرون..

كان كل شيئ قد قيل والمعارف استنفدت ولم تعد هناك حاجة الى الابداع والابتكار..يكفي الحفظ والقدرة على الاستظهار.. (ص122).

" بلد هرب فيه الناس من مدع الى مدع اخر اخبث وادهى..

بلد ببحرين وانهار جارية وارض خصبة وغابات..، حكمته الصحراء ومنحته قادة وزعماء ومنظرين اشداء..لكنهم بلا خيال..

لا تثق في تقوى معظم المغاربة..

شعب خرج من افدح ما في اتراجيديا اليونانية ( انقياد لحب التسلط والتملك واقتراف لا فظع الجرائم..لا احد يتحمل المسؤولية..الذين اضاعوا اجيالا او الذين عذبوا وقتلوا وشردوا لا احد يعترف او يعتذر..). (ص123).

" المغاربة تمرسوا منذ امد بعيد في موقف الدفاع ضد الغزاة والمخزن والجوائح والصحراء...من هنا تاتي مهادنتهم لذواتهم..

لم يعرف هذا البلد حتى عند ابرز اوليائه وفقهائه وعلمائه وكتابه ومفكريه عملا عميقا على الذات وحفرا بداخلها.. (ص125).

عقلية المغاربة عقلية تجارية وكل من في البلد يطلب من الوطن مقابلا:المقاوم والمناضل والسياسي والمثقف والرياضي والفنان ورجل الدين.. (ص127).

لا يريد هذا البلد ان ينفض يديه من شيئ انتهى وينصرف لبناء شيئ جديد.. (ص129).

" المغاربة مالكيون لان المذهب أرضى الجميع ، لان الامام مالك يرى ان السلطان الجائر خير من امة سائبة.. وافق المذهب النخب الحضرية لانه اعلى من شان الحضر (والبورجوازية التجارية التي أمن لها سوقا تجاريا..).واحبوا في المذهب اقراره للمصالح المرسلة لا ستعابها ما يستجد في الواقع.. (ص134).

في فصل الكتاب الذي يأتي بعد فصل الهذيان يعلق السارد على ما اطلقه من شذرات قادحة في الصفحات االسابقة بقوله:" اكتب شذرات هذيان رجل لا يعرف ماذا يفعل بوقته ، رجل يعيش بين اكتب فقط ولم تعد له صلة حقيقية بالعالم... اكتب عن نفسي عن الصحراء عن السلاطين والاولياء والصالحين..وقد اكتفي بنسخ نصوص تاريخية.. (اكتب عن المغاربة..) (ص145).

في باب السلاطين تحدث السارد عن الرابطة التي اسسست دولة المرابطين وكل الدول التي تعاقبت على حكم المغرب.. فلا تقوم سلطة الا على انقاض أخرى.. (ص242).

في باب الاولياء والصالحين يذكر شذرات ومرويات وعجائب عن رجال التشف والتصوف والصلحاء والفقهاء.. الذين كان لهم دور واسهام في ثقافة المغرب الفقهية والصوفية والعلمية والسياسية..

ختم السارد الرواية بنبرة تشاؤمية تحيل على شكسبير في نظرته للمأساة الإنسانية.. فقال السارد على لسان بطل شكسبير "هملت" (انه زمن الجنون الكبير والعمى الهائل..). (ص339).

ملحوظة..

ان الشذرات القادحة في شخصية "المغاربة" ورموزهم التاريخية تندرج ضمن النظرة التشائمية والتبخيسية والسخرية الهجائية « Satire في الجنس الادبي التي تنزع الى التعسف في الاحكام والتكلف في التاويل والشطط في الاستنتاج..وتختزل الموضوعي في الذاتي..

وعلى الباحث المدقق ان يراجع هذه الاحكام والتاويلات..بالاستناد الى المصادر الموثوقة لتصحيح الرؤية السفسطائية ..بتقديم شروحا للافكار..، تعتمد على قراءة استقصائية عميقة تحيط بواقع المجتمع وتكشف عن إشكاليات تجربته التاريخية..

فالتاويلات المغرضة والاحكام المتعسفة التي وردت في النص تعود الى خطأ منهجي وقع فيه المؤلف عندما اسقط النظر بعين الحاضر على الخطاب السردي الذي يعبر عن التجربةا لتخيلية.. وتعكس رؤية الكاتب او سارد و مواقفه واحكامه من الشخصيات والوقائع والاحداث التي تناولها موضوع الرواية..

ان وضع الادب داخل التاريخ في شكل ادبي نتاج الخيال حيث تعاد صياغة الواقع فتتداخل الخرافة بالواقع والحقيقة بالخيال.. ولم نعد نزعم انه يرتقي الى مرتبة القول الملزم او الراي المقبول..

ان غاية الادب الرقي بذوق المتلقي ووجدانه.. وغاية التاريخ تجديد الظروف الذهنية الجماعية والفردية..

ان الشخصية التاريخية الصادقة هي التي تتوافق عناصرها وتجتمع ملامحها وتتلاقى اجزاؤها كما تتلاقى أجزاء الهيكل المتفرقة..

اما الشخصية الروائية ففيها الخيال والابداع وقد تمثل الإنسانية اجود تمثيل ومع ذلك فهي مجرد وهم وخيال..

طه حسين في رواية "المغاربة"

"والرجل الماهر الأثر ذو القلب الذكي والبصيرة النافذة هو الذي يحفل بما وراء اللوحات الناصعة التي يكتب فيها التاريخ." (طه حسين: جنة الشوك/ص32).

1- استخلاص العبرة من كتاب الأيام:

جاء ذكر طه حسين في فصلين من رواية "المغاربة"..في فصل ( طه حسين والشيخ./ص45).وفي فصل ليالي الباشا (2- البكاء بين يدي طه حسين /ص263).

والسؤال الذي يطرح نفسه على القارئ ،لماذا هذا الاستدعاء وضمن أي سياق يجدر فهمه..

يتحدث السارد عن طه حسين باعتباره نموذجا يقتدى به، فهو الضرير الذي قهرظروف حياته وبيئته واستطاع ان يصبح عميدا للادب العربي ومديرا للجامعة المصرية ووزيرا للتعليم وهو قبل هذا كله صاحب كتاب " في الشعر الجاهلي " /1926).الذي احدث ثورة فكرية في الادب.. وذلك بالدعوة الى الاخذ بمنهج نقدي تقويمي للثقافة العربية..على أسس عقلانية تاريخية.. استجابة لضرورات النهوض والتقدم..

يشير السارد الى كتاب "الأيام" الذي سجل فيه طه حسين اطوارا من سيرته وذكر فيه اصابته في صباه بآفة العمى وكيف تحدى ظلام البصر بنور البصيرة..و شدة الإصرار ومضاء العزيمة..

ويستخلص السارد من تجربة طه حسين في كتاب الأيام درسا في التحدي:" ليس من السهل ان تكون ا عمى عليك ان تشق بالاظافر الأحجار الصلدة لتشق طريقك الخاص.. وتتحدى العجز وتنتزع الاعتراف من الاخرين وذلك بالتحفز للدفاع عن النفس..

" على الاعمى ان يكون حالما كبيرا.. فالعميان لديهم القدرة على انقاذ العالم.. لانهم يعيشون حاضرا بلا اطلال ولا معالم دارسة.. (ص46).

" يقول السارد بان كتاب الأيام تركيب تجريدي لجزئيات حياة تكللت بانتصار او وهم انتصار.. انها استعراض انشائي لشخصية صارت مرموقة وافراغ لحياة الاعمى من حسها التراجيدي.. كل صفحات الكتاب لا تتسع للحظة واحدة من حياة اعمى قلق ضائع ومرتبك..

كتب طه حسين أيامه بعنفوان واقدام وبراءة من تنقصه الخبرة بالزمن والناس..، ما كان ليكتبها في شيخوخته وهو يسمع الطعون توجه الى رسالته التحديثية ومواقفه السياسية الليبرالية..

"ليس هناك اكثر فجاجة من حياة تقدم على انها ناجحة وممتلئة.." (ص47).

انشغل السارد بسيرة طه حسين قرأ اعماله وما كتب عنه.. (الكتابة عبارة عن تصوير واسترجاع وتذكر احاسيس..).هل كان طه حسين يطلب الشهرة ويسعى الى تقلد المناصب..؟ ام كان صاحب مشروع للاصلاح ودعوة للبناء..؟

ما سر الكآبة التي كانت بادية على محياه في أيامه الأخيرة..؟ وما سر قلقه وتدخينه المفرط..؟ وما معنى العبارة التي اطلقها قبل وفاته:" ايةحماقة؟ هل يمكن ان نجعل من الاعمى قائد سفينة..؟ ومن هم العميان الذين يقودون السفينة..؟ اهم أجهزة الدعاية الضخمة ، وأجهزة الامن الرهيبة و القادة الملهمون الخالدون..؟

فتح طه حسين ابوابا وحرك موجا راكدا..وتجاوز ماهو متاح لرجل في مقامه.. (ص 48).

دعى الى التجديد والإصلاح والحرية والكرامة والانخراط في الحضارة الإنسانية..

2- البكاء بين يدي طه حسين:

في هذا الفصل يستطرد السارد في الحديث عن طه حسين و اعماله الأدبية ورسالته الفكرية التي تنير الافهام وتهذب القلوب.. ويطرح السارد السؤال عن أهمية طه حسين..؟

اليس هو من قهر الظلام وحاول ان يقرب الشرق من الغرب.. (زعيم التنوير العربي..).ص265

أهمية طه حسين انه خلص الى دور لافكار في احداث التغيير الاجتماعي والسياسي والثقافي.. ( هاجم ودافع وخاض معارك ضارية من اجل تعميم التعليم وحرية الجامعة..).

كتب عن مستقبل الثقافة وضرورة تجديد مناهج التعليم ليكون ملائما لتحديات العصر.. (ص266).

ثم يسأل السارد " ضمن أي سياق يمكن ان ندرج كتابات طه حسين الإسلامية (الوعد الحق ومرآة الإسلام وعلى هامش السيرة والفتنة الكبرى..). هل تعتبر تراجعا عن نزعته التغريبية والعلمانية..؟

ان طه حسين ابن هذا الشرق بمآسيه وتناقضاته الذي ظهر فيه الأنبياء والفلاسفة والمتصوفة والدجالون والجلادون والسماسرة وتجار السلاح..وفيه زرعت إسرائيل.. (ككيان وظيفي لخدمة الهيمنة الغربية..).

الشرق الحزين الذي يلبس اكثر من قناع ويعتنق اكثر من مذهب..

لوظهر طه حسين في بلد اخر غير مصر لكان له اثر بالغ..؟ (ص268).

الخلاصة..

كان طه حسين ذكي القلب عضب اللسان عصيا لا يقبل ولا يطيق الإذعان وحازما لا يحب التردد.. ولعل هذه الخصال هي التي صهرته وجعلت منه الاديب (ذو المراس العنيد.) الذي جمع الى عقله الناقد إحساسا مرهفا وشعورا حادا وذوقا دقيقا لا يفوته شيئ..

يلح بأسلوب واضح يتسم بشيئ من الغموض والاغماض يقصده قصدا.. ولعل سحر الاداء يصرف القارئ عن الفكرة الى الأسلوب الذي يعرض الفكرة..

ان الفكرة التي راودته وشكلت صلب مشروعه الفكري تدور حول" التجديد والتقليد." فدعوته الى التجديد الادبي والفني هي أساسا دعوة الى التجديد الحضاري والاندماج في اثار الحضارة المادية والعقلية.. بحيث تتيح لنا ان ننتج ادبا جديدا يعبر عن تطلعنا الى الاسهام في الحضارة الإنسانية..

ويرى انه لا سبيل الى ان يتجدد ادبنا الا بالاستزادة من التعليم ومن الثقافة بالقديم والجديد في وقت واحد.. (كتاب تقليد وتجديد ص141).

فالاديب لا يستطيع ان ينتج ادبا جديدا الا اذا استكمل أدوات الإنتاج المتمثلة في القافة الواسعة العميقة..

فالآداب الحية هي العابرة للعصور والبيئات والاجيال لانها تلهم الناس وتوحي اليهم بما انتجه العقل الإنساني من العلم والمعرفة.. والوان الفن والجمال والادب الرفيع..ليكون الغذاء الذي يصقل العقول ويشحذ الهمم وزادا يحي النفوس وتراثا إنسانيا خصبا ومثمرا يجدد الحياة عبر العصور والزمن الممتد..

فالغاية العليا من الادب والفن ان يبلغ الانسان اقصى الدرجات من الثقافة والمعرفة..في طلب الكمال..

والكمال الادبي يستلزم ان تكون اللغة ملائمة للحياة.. وان يكون الادب مرآة للبيئة متصل بالحياة مصور لوقائعها ناقل لخصائصها من جيل الى جيل لتصبح موضوعا لدرس التاريخ..

الادب قيمة إنسانية والاديب صاحب رسالة في عالم العقل والروح والضمير..

ويمتاز الادب بالصراع المتصل العنيف المتغلغل في كل شيئ ، المتنا ول لكل شيئ بين العقل الرزين والمزاج الدقيق والشعور الرقيق والذوق المهذب..

الاديب صاحب تعمق للاشياء التي تتصل بالفن من جهة وبالعقل الناقد من جهة لخرى.. بحيث يكتب في العقل والنفس والرسم والموسيقى والتصوير والنحت.. وفي نقد الادباء ويقرب الى القراء اطاريح كبار المفكرين..

ويقوم بتحليل العقل الانساني وهو يفكر ويلاحظ ويتأمل ويحاور الفلاسفة ليخلص الى إقامة مذهبه الفلسفي..

(انظر كتاب الوان لطه حسين /ص61).

مجمل القول ان استدعاء رمزية طه حسين الاديب في المتن الروائي انما يحيل على حضور الشرق فكرا وفنا وقيما روحية ونظم اجتماع.. كتعبير يعكس عمق الروابط والاواصر الحضارية بين المغرب والمشرق..

***

احمد بابانا العلوي

الغربة تضرب في وترها الحساس في البعد والفراق والاشتياق للوطن، بوجع مؤلم. تتجلى نيرانها في قصائد الديوان الشعري، في تأثيرها المؤثر في داخل جوانح الشاعر، ينقلها بصدق مشاعره الى القارئ والمتلقي،ويدلل على وحشة الغربة والاغتراب مرتبطة بالعلاقة مع الوطن، بفيضها الموجع بما يجري في ربوع الوطن اليوم، نلمسها بوضوح في تجدد تبعيات الصراع الازلي المحتدم بين قطبين متصارعين الى حد كسر العظم بين القاتل والمقتول، أو الجلاد والضحية، أو الحاكم والمحكوم، في هذا الصراع غير المتكافئ، يجعل الوطن مشطوراً الى قسمين، طالما شريعة الجور والحرمان والحيف، هي السائدة والمسيطرة على خناق البلاد. مما تؤجج نيران الأحزان بالمعاناة الظروف القاسية، كأن الوطن أصبح غابة تحكمها الوحوش الضارية والكاسرة. تحكمها غربان الشؤم، مما تخلق شرخاً عميقاً في بنية المجتمع. هذه المعاناة الموجعة، تثقل هموم وقلق الشاعر، حين يصبح مصير الانسان في مهب الريح، مما يؤدي الى مضاعفة الحنين والشوق والاشتياق، ويأمل بكل جوانحه الصادقة. أن تخرج البلاد من الدهاليز المظلمة ويقف على قدميه منتصب القامة، لا أن يكون ملعباً يلعب به غربان الشؤم وخفافيش الليل، التي لبست بردة الدين زوراً ونفاقاً. ان وجع الوطن والغربة تمتزج وتتجلى بوضوح في القصائد الشعرية للديوان. فقد أصبح البلد الرافدين، يباع بالجملة في المزاد الأجنبي الطامع بجشع وعدوانية أن يجعل العراق في جيبه، أو في راحة يديه، بكل عنفوان النفوذ والوصاية والانتداب. يقتفي آثار الصراع الناشب في الغدر والخيانة، في أول جريمة في التاريخ الإنساني، حرب الاخوة الاعداء، كأن زمن (هابيل وقابيل) يتجدد اليوم في ابشع صوره السلبية، من أجل صولجان العرش والنفوذ، في نزاع طائفي وحتى الخصام ولعلعة الرصاص بين أبناء جلد المذهب الواحد، الأخ يقتل شقيقه أوشريكه في الدين، أو شريكه في الخلق، كما يقول الامام علي (ع) (إما أخ لك في الدين، أو نظيرك لك في الخلق)، لقد طفحت العدوانية والغدر والخيانة على المشهد السياسي، وأصبح اسيراً لشريعتها، مما يزعزع القلق الوجودي بشكل سيء على الحاضر والمستقبل. كأن جريمة انتصار (قابيل) على سفك دماء شقيقه أو دماء الآخرين. هي الاقوى

قابيلَنا.....

فينا خليففتُكَ الذي

وَرَثَ الخديعةَ كي ينالَ المُبتغى

في نسغِهِ تجري دماؤكَ

إذْ نَحَرتَ أخاكَ

كالصيدِ الحلالِ.... وما طغى

لو كانَ ذئبُّ

قيلَ وحشٌ كاسرُ

لكنَّ إنسانا على شكلٍ الالهِ

هوَ اللئيمُ الغادرُ 

من قصيدة: قابيل.

الإحساس بالغربة هي السوط الذي يجرح اعماق القلب. ويزيد من النيران التي تلتهب في مشاعر الذات، حينما يتحول الوطن الى بقرة حلوب للأجنبي ويحرم من حليبها أبناء الوطن. هكذا ما تفتقت قريحة اللقطاء، وكل رجل دين داخل عمامته شيطان بعفونة كريهة، أن يتحول الوطن الى سلعة رخيصة تباع في المزاد الرخيص، او يتحول كالمرأة تدور على كل نذل وسافل يبارك ذلها لترمي في حضنه ثمرها، وتمنح حليب ضرعها بالمجان للجيران وتحرم أبناءها من نعمته بالحرمان والحيف المتعسف.

وطَني كإمرأةٍ تَدورُ بضَرعِها

تَسقي بهِ نَذلاً يُبارك ذلَّها

كالنَخلةِ العَيطاءِ والعُوجاءِ

تَرمي ثَمرَها

في صَحنِ جيرانٍ

وتَحرِمُ أهلها

وطني يرى اللُقَطاءَ من خُلَصائهِ

والمُخلصينَ أذَمَّ من أعدائهِ

هل لي فّخارٌ أنَّ في بَلدي

تّحدّثّ منذُ آلافِ السنينِ نَبي

فمُجدَ ذكرُهُ

وامتَدتِ الأديانُ في أرجائهِ.

لا أفهمُ التاريخَ إلا حاضِراً.

من قصيدة: لولا ثراك.

وصل حال البلاد الى الاسوأ بالتراجيديا السريالية (المضحك / المبكي)، ان تجف الأنهار والروافد. وكان العراق منذ نشؤ التاريخ والحضارة، يتباهى بتسمية بلاد الرافدين والسواد، لكثرة المزارع والحقول والنخيل. لكن اليوم يستجدي ويذرف الدموع كالشحاذ البائس، فتات قليلة من المياه، لقد نشف الحقل والزرع والنخيل، وراحت تبكي على مصيرها الاسود بالجفاف، يحولها الى صحارى، والانهار الى طين. والآن يستحق تسمية بلاد القهرين.

تَظمأُ فيكَ الشُطآنْ

يا نَهراً يستجدي الماءْ

يَعجزُ في خصرِكَ دَلوٌ

لا يَغرفُ غيرَ الطينِ وأقذاءِ الأدرانْ

هَجَرَتكَ عُيونُ التوتِ وأقراط ُ الكَرْم

نَفضَ الصَفصافُ عليكْ

آهاتٍ حَملتْها ذبلى الأوراقْ

وانسَدَلَ السعفُ على الجذعْ

وتهاوتْ فَوقكَ عطشى الأعذاقْ

والطلعْ....

يأبى أن يمنحَ خصباً ليتامى النخلْ

كي لا يذوي فيها التمرْ. 

من قصيدة: ا نهراً يستجدي الماء.

الحب الإنساني لا ينظر الى مفاتن جسد بغريزة شهوانية مبتذلة، كأنه ينظر الى المرأة كبضاعة جنسية تباع وتشترى. بل الحب والعشق، ينطلق من عواطف ومشاعر انسانية صافية، ينظر الى المرأة كشريك انساني في الوجود، بل تستحق ان يضعها في مرحلة التقديس في العشق وغزيرته العاطفية.

قالَ صَحبي

جئتَ بالحب رسولا

تُجهِرُ الدعوةّ تأبى المُستَحيلا

قلتُ إني مُؤمنُّ....

هلْ في الهوى

شرعةٌ قبلي

تجنت فيه قبلا

**

جَسدُ المرأة قد أنزلتْهُ

منزلَ التقديسِ أذ يسمو

جَميلا

فيهِ عشقي،

أن يراهُ العاشقُ الأشقى

سبيلا.

 من قصيدة: اجعليني آيةً.

ولكن هناك شوائب في الحب، حين يبحر عكس التيار، فيكون طريقه وعراً مليء بالمطبات والعيوب والعثرات. كأنه يمشي في حقل الالغام، أو ان يتحول الى ساحة حرب، بدلاً من ساحة عشق وهيام. عندها يكون هذا الحب عارياً، كالشجرة العارية من اغصانها، واوراقها الخضراء تذبل وتموت، فيذبل عنفوانه ورونقه وجماله، ويصبح لعبة يمارسها المهرج في فنون السحر. أو يعزف على الاوهام.

أتقَنتُ بحبكِ كل فنونِ السِحرْ

لا لأرقصَ أفعى شبقي

وأزينَ سوءاتي بوشاحِ الطهرْ

لا أخفي عنكِ بذاءات الفردوس

بل أحتال على نارٍ

أصلاها في لَثمِ الثغرْ

**

حُبكِ مثلَ حُقولِ الألغامْ

أخطو نَحوكِ في حَذرِ يخنقهُ اليأس

يَعميني القصدْ

أتحصنُّ بالمجهولِ وأسترضي الأوهام

خوفي كشِراعٍ مثقوب

فأغامرُ فيكِ سَليبَ الأقدامْ.

 من قصيدة: كرُّ الشوق

***

جمعة عبد الله – كاتب وناقد

ان كلمة شعر shaer تعبير قديم معروف متوارث منذ عهود السومريين والأكاديين ومن بعدهم في بلاد ما بين النهرين وبلاد الشام، وان أقدم نصوص شعرية وجدت منقوشة على رقم يرجع تاريخ كتابتها الى الألف الثالث قبل الميلاد (على أقل تقدير) وكان أهمها على الأطلاق ملحمة كلكامش، وغيرها من القصائد والتراتيل الموجهة الى آلهتهم، هذا يعني ان الأنسان كتب الشعر وغناه قبل ان تولد أوزان الخليل واوزان الشعر السرياني وما شابه ذلك في البلدان الأخرى، وإن كانت اوزان الخليل أو أوزان برديصان قد أكتسحت الساحة في الفترة التي تلتهما ولكن هذا لا يعني زوال الأغاني الشعبية التي كانت أمهاتنا وآبائنا يمارسونها أمام مهود أطفالهن أو أثناء ممارسة أعمالهم وأفراحهم وأحزانهم ... وهذا ما لفت أنتباهي حين دراستى للأوزان الشعرية السريانية والعربية ومقارنتها بالشعر السومري ومن ثم الموشحات والشعر المحكي اللبناني . ما أريد أن أقوله أن الأنسان كان يستخدم ذوقه اللحني أي كان يعتمد على الحركة والتي هي أصل الصوت وهذا ما يؤكده كل من خليل بن أحمد الفراهيدي (القرن الثامن) حين قال:

(.. في اجابته على السؤال هل للعروض أصل؟

فاجاب الخليل: نعم! مررت بالمدينة حاجا فرأيت شيخا يعلم غلاما ويقول له قل:

نعم لا، نعم لالا، نعم لا، نعم لالا

قلت ما هذا الذي تقوله للصبي؟ فقال: هو علم يتوارثونه عن سلفهم يسمونه التنعيم، لقولهم فيه نعم... قال الخليل: فرجعت بعد الحج فاحكمتها) بمعنى بنى على أساسها البحر الطويل (فعولن مفاعيلن) وهذا الوزن ينسب في السريانية الى مار أفرام (القرن الرابع للميلاد) والمسمى بالبحر المزدوج (3+4) .

وكذلك ما يؤكده العلامة السرياني انطون التكريتي (القرن التاسع) في كتابه علم الفصاحة حين يصف الوزن المستخدم لدى الشاعر السرياني وفا الارامي (قبل الميلاد) حيث قال:

(وهذا وزن مركب ومنظم على هيئة أغاني محببة اِعتاد على اِستعمالها الملحنون للحروب، ومنظموا الأغاني الاِجتماعية ... ولما كان هذا هدفهم، فأنهم يحددون اللحن وليس بالصور والتهجئة والمقاطع كما نفعل نحن فانهم يفسدون سواء بالإضافة او النقصان..) ويزيد التكريتي قائلاً: ان الأولون بنوا أوزانهم على الألحان التي كانت اِنعكاسا لأصوات الطيور كصوت اليمامة والديك البري ....)

إذن الوزن هو مجموعة مقاطع صوتية متشابهة أي تردد ظاهرة صوتية على مسافات زمنية محددة .

ولكن لو أجرينا مقارنة بسيطة بين هذه الأوزان لنجد ان الأوزان الشعرية المستخدمة في التراث السرياني والعربي والعبري والفارسي والتركي والكوردي.. ما هي إلا تطور في الأوزان القديمة.

لذا علينا إعادة النظر فيما يقال بأن الموشحات والزجل والشعر المحكي اللبناني جاءت كنتيجة مزاوجة بين أوزان الخليل والاغاني الشعبية الاسبانية (الفلامنكو) والبروفنسانية اللاتينية لأن هذا الفن موجود في الشعر السرياني قبل أن يولد الخليل وجماعة الفلامنكو وما شابه ذلك .كي لا أطيل سيقتصر بحثي عن الموشحات:

ذكر المؤرخون والباحثون تعاريف عديدة للموشح، جميعهم أجمعوا على إن الموشح لا يخرج عن كونه نوعاً من النظم وان فنهِ (حسب قولهم) هو من فنون الشعر العربي . و كلمة الموشح في العربية مشتق من كلمة وشح أي زين، وسميت بالموشحات لما فيها من تزيين وتنميق . يقابلها في السريانية ܐܲܫܲܚ - أشح بمعنى ذوب، أوقع، أسال

منشأه: كثرت آراء القدامى والمحدثين حول تاريخ ومكان نشأت الموشحات فمنهم من يحدد تاريخها إلى أواخر القرن التاسع واخرون في نهاية القرن العاشر واخرون في أوائل القرن الحادي عشر . أما منشأه فهناك عدة نظريات نوجزها بما يلي:

أولا- إن اغلب الباحثين من المستشرقين (مينيندز بيلينو، ريبيرا، جب، بروكلمان، بنكل، وغيرهم) والعرب (يوسف اسعد، بطرس البستاني، د. عبد العزيز ألاهواني وحنا الفاخوري وغيرهم ...) بأن فن التوشح إنتقل الى الادب العربي من خلال الأغاني الشعبية الاسبانية (الفلامنكو) والبروفنسانية اللاتينية التي كانت تعرف بالرومانسية من خلال جماعة الرواة والمغنين المعروفين في فرنسا بالتروبادور وجنكلر إشتهروا في غالية واسبانيا اذ كانوا يطوفون البلاد متنقلين من قصر الى قصر يقصدون الامراء في المواسم والاعياد، يتغنون باناشيدهم الغرامية وقصص الفروسية في مقاطع غير محكمة الوزن ولا تلتزم فيها القوافي التزاما . اما الاساس الذي يستندون اليه في نظريتهم هو:

1-لان قصائدهم (أسوة بالموشحات) كانت مغناة

2- مواضيعها تدور في الغرام والفروسية

3-غير محكمة الوزن ومختلفة القافية

4- وجود جوانب مشتركة بين الموشحات والمنظومات التروبادورية حيث نجد في مقطوعة من المقطوعات التروبادورية جزء يقابل الغصن في الموشحة وجزء يقابل القفل .. ومن نقاط الاِلتقاء أيضا ان ما يقابل الغصن مع ما يقابل القفل يسمى عند جماعة التروبادور بيتا كما هو الحال عند جماعة الموشحات .

إلا ان هذا الرأي خلق عند البعض رأي معاكس أي دفع بالبعض أمثال المستشرق (ليفي بروفنسال وبنكل وكراتشوفسكي) ومقداد رحيم ومجدي شمس الدين و... لا يستبعدوا ان يكون شعراء التروبادور هم الذين تاثروا بالموشحات، ويدعمون نظريتهم بما يلي:

إن أول شاعر تروبادوري هو جيوم التاسع أمير بانييه الذي كتب أشعاره بين سنة 1100-1127م أي بعد اقدم الموشحات بأكثر من 200 سنة فضلا عن ما ذهبنا إليه من التقارب بين الموشحات واغاني التروبادور كتقابل الأغصان والأقفال .

ثانيا- البعض الآخر أمثال اِبن بسام، ابن خلدون، أحمد حسن الزيات، طه حسين، مارون عبود، ابراهيم أنيس ...وغيرهم يعتقدون ان فن التوشح هو مشرقي المنشأ اي عربي وينسبونه الى مقدم بن معافر الفريري من شعراء الامير عبد الله بن محمد المرواني في اوائل القرن الحادي عشر الميلادي واخذ عنه ابو عبد الله احمد بن عبد ربة صاحب كتاب العقد الفريد ويوسف بن هارون وعبادة بن ماء السماء، .. ومنهم من يعتقد ان الشاعر العراقي ابن المعتز المتوفي سنة (296هـ – 876م) هو اول من أنشا هذا الفن بقوله:

أيها الساقي إليك المشتكي   قد دعوناك وإن لم تسمع

ونديم همت في غرته

وشربت الراح من راحته

كلما استيقظ من سكرته

ثالثا- البعض منهم وخاصة د. عبد العزيز الاهواني يعتقد بان الموشحات أعجمية لوجود ألفاظ أعجمية وهذا ما سينقلنا إلى عدة احتمالات هل هي أندلسية أم فارسية أم سريانية .. وهذا ما سنجده لدى كثير من الوشاحين (وحتى غير الوشاحين أمثال ابونواس) يخرجون قصائدهم بأبيات او ألفاظ دخيلة الا أنها قد تكون مألوفة لديهم . حيث روى ابو فرج الأصفهاني (تولد 356هـ - 936م) مقطعة من أربعة أبيات لابراهيم الموصلي يصف بها خمارا ختمها بالبيت الاتي:

فقال (إزل بشينا) حين ودعني       وقد لعمرك زلنا عنه بالشين

نجد ان الشاعر استخدم مفردات سريانية كعبارة (ازل بشينا) بمعنى اذهب بسلامة وكذلك (زِلنا) بمعنى ذهبنا و(بشينا ـ بالشين) بمعنى بالسلامة .

رابعا- واخرون يعتقدون أمثال الأستاذ مقداد رحيم إن الموشحات التي نسمعها اليوم مغناة بشكل جماعي ليست أندلسية في طريقة الغناء والألحان بل هي مشرقية . فهي مزيج من ألحان مشرقية وألحان أندلسية كنسية . ويعتقد الأستاذ مقداد إن الموشحات كانت في السابق يغنيها شخص واحد مع جوقة تردد بدلا من جوقتين ... كما يعتقد ان الموشحات مرت بثلاث ادوار وما وصلنا منها كانت بالدور الثالث اي متكاملة .

خامسا- هناك من يذهب أمثال المستشرق فيليكروسا بان الموشحات العربية قد تأثرت بالموشحات العبرية

سادسا- أما الأستاذ سلمان علي التكريتي يقول:

ولا نغالي إذا قلنا ان الموسيقى السريانية بواسطة الكنيسة الشرقية قد تمكنت من فرض فنية ترانيمها الشرقية على عموم أوربا عن طريق مدرسة الرها ونصيبين، وإن الموسيقى الأندلسية والموشحات الأندلسية هي موسيقى الكنيسة الشرقية . ويعتقد الأستاذ سلمان علي بان الموشحات الأندلسية في المشرق العربي (سوريا، عراق، لبنان، اردن، مصر) قد تأثرت تأثيرا واضحا بايقاعات الغناء الشعبي من ناحية وتأثيرات الموسيقى التركية من ناحية ثانية فإفتقدت الموشحات الأندلسية في المشرق العربي ميزتها التراثية الأصلية لكننا نجد العكس في المغرب العربي (تونس، مغرب، جزائر) . والدليل على هذه الأصالة والنقاء هو قربها ومشابهتها لأداء الغناء الكنسي المشرقي الذي ما زال يؤدي على شاكلته على مر القرون ومنذ ظهوره وخلال تطوره باِسلوب مار افرام .

سابعا: أنا اتفق مع الأستاذ سلمان علي التكريتي على إن الموشحات هــــي مشرقيـــة الأصل ذات جذور كنسية سريانية، فهذا الفن وجد في الأدب السرياني قبل أن يوجد عند جماعة التروبادور والجنكر بقرون ويرجع السبب في ظهوره في الاندلس بدلا من العراق وبلاد الشام:

1- كون بغداد والشام هي مركز الخلافة الإسلامية وكان تمسك الخلفاء بتراثهم وإنشغالهم في الفتوحات أدت إلى عدم تشجيعهم لأي قصيدة تخرج من إطارها التقليدي .

2- أما الأندلس فلبعدها عن المركز وانفتاحهم على مجتمع شاع فيه الترف واللهو والغناء شيوعا عظيما جذبتهم الطبيعة الأندلسية وأوزانها التقليدية الأمر الذي أدى بالأمراء في الأندلس إلى تشجيع هذا اللون من الشعر. فبدأت حركـــة التحرر في القـرن الحادي عشـــر على يد الشاعر ابن زيدون وابن عمار والمعتمد بن عباد وغيرهم .

أما كيف انتقل هذا الفن من المدراش السرياني الى الموشح العربي فيكون:

1- من خلال المدارس والجامعات السريانية في الكنائس والاديرة التي كان يتلقى فيها الكثير من الادباء والمفكرين العرب علومهم فيها ومن بينها المداريش والسوغيتات، فتشبعت الأذن العربية بهـــذه التراتيل التي كانت ترتل باِستمرار في الكنائس والأديرة بألحان شتى .. فليس مستبعدا ان تكون هناك عشرات الموشحات تغنى سرا او علنا في العراق او الشام او لبنان واِختفت لعدم تشجيعها من قبل الخلفاء .

2- عندما دخلت الجيوش العربية الاِسلامية بلاد الاندلس واِستقرت هناك كان من بينهم او من بين الذين توافدوا اِليها لاحقا الكثير من الأدباء الذين تلقوا علومهم في المدارس السريانية في العراق او بلاد الشام فنقلوا معهم أشعارهم وأفكارهم التجددية في الشعر، فعندما سنحت لهم الفرصة أظهروها هناك .

3- كانت العلاقات وثيقة بين طرفي العالم العربي، فكان الكثير من الرحالة يذهبون الى الشرق للتزود بالعلوم في المدارس السريانية. وكان البعض الآخر من المشرق يذهبون الى الأندلس لسبب ما، فوفد زرياب (تلميذ اِسحق الموصلي)الى الاندلس عام 822 م وكان له أثر بليغ في فن الغناء والموسيقى كما جلبت المغنيات من الشرق فحملن معهن الى الأندلس فنها وأدبها ومن أشهر هؤلاء المغنيات القيان قمر البغدادية.

3- ومن المحتمل ان يكون هذا الفن قد اِنتقل اِليهم من خلال اليهود القاطنين في بلاد الأندلس (كما يقول المستشرق فيليكروسا) حيث اِستمدوا (اليهود) الكثير من آدابهم وعلومهم من السريان كما يقول بذلك الباحث اسرائيل اِبراهام .

ومن الاسباب التى دعتني الى القول كون فن الموشح مشرقي سرياني:

1- كانت باِستطاعة الأذن العربية ان تتقبل اللغة السريانية وآدابها وألحانها بصورة أسهل بكثير من تقبلها للغة أعجمية بعيدة كل البعد عن لغتها وتراثها .

2- ان ما يجمع من صفات مشتركة بين المدراش السرياني (القرن الثالث الميلادي) والموشحات العربية (القرن الحادي عشر) يجعلنا أن نؤكد جازمين أن الموشح مشرقي الأصل سرياني المولد . فالمدراش الذي هو عبارة عن منظوم جدلي في قالب شعري يمثل النوع الغنائي من الوزن يمتاز والموشحات بـ:

1- ان ابياتها لاتكون على نمط واحد اي تتساوى عدد مقاطعه حينا وتختلف حينا اخر.

2- ان ابياتها تكون قائمة بذاتها ولا صلة لها بالبيت السابق (اي كل بيت في المدراش قائم بذاته) وتفصل هذه الأبيات (ويسمى في الموشحات الدور حيث يشتمل على أجزاء تسمى أغصانا تتعدد بتعدد الاغراض) ردة (قفل بالعربية الذي هو عبارة عن بيت واحد او عدة ابيات من الشعر تبتدئ بها الموشحات وتتكرر ويشترط فيها إلتزام القافية والوزن والأجزاء وعدد الأبيات الشعرية وذات موسيقى واحدة) ترتلها الجوقة بعد كل بيت او أكثر يقوم فرد بترتيله، اي ان:

* الجوقة الاولى (الشماس في الغالب) ترتل الابيات الطويلة

* الجوقة الثانية ترتل الابيات القصيرة التي تؤلف الردة (التي هي عبارة عن حمدلة او صلاة ما) . ومن شروط هذه الأبيات (باِستثناء الردة /القفل) ان تكون متشابهة وزنا ونظاما وعدد أجزاء، وباِستطاعة الراوي تنويعها .

3- للمداريش أنغام شتى وكانت الألحان تتغير بموجب أنواع المداريش فالمونسنيور لامي اكد وجود 75 ضربا من الألحان في الاناشيد الصحيحة او المنحولة لمار افرام . وتأتي على الأغلب على شكل حوار وكان ذلك سببا دفع البعض بتسمية المداريش بالموشحات، وأول من صنفها هو برديصان (+154م) واسونا (القرن الرابع الميلادي) ومار افرام (+306) ومار اسحق وبالاي و.. . وقد دخلت عليها وعلى الموشحات بعض الفنون في كتابتها. وتفرع من المدراش السوغيت، حيث يستعمل في صياغة المآسي الدينية ويكون على شكل حوار بين منشدين او جماعتين . فبعد مقدمة مؤلفة من 5-10 أبيات ذات أربعة أشعار من الوزن السباعي (الغالب) تبدا المحاورة بين شخصين او جوقتين كما في اِنشودة الميلاد (محاورة بين العذراء والمجوس) وانشودة البشارة (محاورة بين الملاك جبرائيل والعذراء) وهي من قصائد نرساي (399 -503 م) .

اما الموشحات فهي تتالف من أسماط (أقفال ـ يقابلها الردة) ومن أبيات تتفرع الى أغصان (اجزاء ـ يقابلها دعامات)   .

وقد قسم ابن سناء الملك الموشحات الى قسمين:

ا- ما جاء على أوزان العرب وهي تشبه المدراش السرياني ذو الوزن المتساوي .

ب - الخالية من العروض وأكثرها مبني على تأليف الأرغن ...) وهي نفسها في المداريش السريانية الموزنة على الوزن المركب .

4- الوزن: من حيث الوزن نجد ان الموشحات تستخدم نفس أسلوب الوزن السرياني وهذا الوزن يختلف عن أوزان الشعر العربي الخليلي ذات التفعيلة الواحدة، كما ان الشعر العربي لا يحتوي على دعامات متساوية كما سنجدها في الموشحات، وذلك لتدوير الايقاع بين التفعيلات في اوزان الخليل وهذا لا يجوز في الشعر السرياني وما لا نجده في الموشحات الاصلية . فعلى سبيل المثال نجد ان قصيدة صفي الدين الحلي(750هـ) والتي مطلعها:

شق جيب الليل عن فجر الصباح     ايها السامون

وزنها (فاعلاتن فاعلاتن فاعلان   فاعلن فاعلن) هذا الوزن سوف لن تجده في اوزان الخليل الصافية، كونها موزونة على اساس الايقاع الموسيقي كما الحال في المدراش وهي على الشكل الاتي:

6حركات + 5 حركات         5 حركات

اي الشطر 11 حركة والعجز 5 حركات

وهكذا في القصيدة الغنائية (سكن الليل) لجبران خليل جبران التي يقول فيها:

سكن الليل وفي ثوب السكون   تختبي الاحلام

وسعى البدر وللبدر عيون       ترصد الايام

نجدها موزونة على وزن (فعلاتن فعلاتن فاعلان     فاعلن فعلان) هذا الوزن ايضا لا تجده في الاوزان الصحيحة عند الخليل بل تجدها موزنة وبشكل صحيح كما في المدراش فوزنها(5 حركات +6 حركات في الشطر و5 حركات في العجز) . وهكذا الحال في قصيدة ابن بقي (المولود سنة 1145م) والتي مطلعها:

انما يحيى سليل الكرام       واجد الدنيا ومعنى الانام

نجده يستخدم الدعامة الخماسية اي 5+5+5+5 وعلى مدار القصيدة .

وهي تشبه قصيدة لانطون التكريتي (المتوفي سنة 840م) يقول فيها:

ܚܣܡܐ ܠܒܪܢܫܐ / حساما لبرناشا

ܐܝܟ ܫܘܚܬܐ ܠܒܪܙܠܐ / أخ شوحتا لبرزلا

ܐܘ ܫܘܒܐ ܠܫܒܠܐ /أو شوبا لشبلا

ܐܝܟ ܣܐܡܐ ܠܡܝܢܐ / ايك سيما لمينا

وهناك قصيدة تنسب لسلم الخاسر (180هـ) تتكون من مجموعة دعامات (سلم موسيقي) على وزن مستفعلن، يتكون البيت الواحد من اربع دعامات وكل دعامة من اربع حركات كما في قوله:

موسى المطر. غيث بكر. ثم انهمر.الوى المرر

كم اعتسر. ثم ابتسر. وكم قدر . ثم غفر

وهذا اللون لا نجده الا في الموروث السرياني الذي اشتهر فيه كل من نرساي (+399م) ويعقوب السروجي (+451م) .وكما في المدراش الذي نيشه (ܒܝܠܕܗ ܕܡܪܢ ـ ميلاد المسيح) كقول نرساي (399م):

ܪܫ ܚܟܡܬܐ       ܚܟܡܬ ܠܩܘܫܬܐ  ܕܚܝܠ ܒܪܘܝܐ

رِش حَخِمتا   حِكمَت لقوشتا     دحيل بارويا

نجد ان البيت الشعري يتكون من ثلاث دعامات (بدلا من اربع) وكل دعامة تتكون من اربع حركات . وكما لدى بالاي (توفي سنة 432م):

ܡܚܕܐ ܕܢܫܩܗ / ܫܢܝܬ ܢܘܫܗ / ܦܩܕܠܐ ܡܪܝܐ /ܦܩܕܠܐ ܠܨܦܪܐ

مَحدا دنَشقي / شِنيَت نَوشى / فقَدلا مَريا / فقَدلا لصَفرا

نجد ان البيت الشعري وكما عند سلم الخاسر يتكون من عدة دعامات وكل دعامة تحوي اربع حركات.

5- القافيـــة: نجدها في الموشـح اســوة بالمدراش تختلف من مقطع لآخر وأحيانا تستعمل قافيــــة موحـــدة فـــي الدعامات الداخلية كما في موشحة ابي عبــد اللـــه محمـــد بن عبـــادة المعروف بابن قزاز:

بدرتم . شمس ضحا     غصن نقا . مسك شم

ما أتم . ما أوضحا       ما أورقا . ما أتم

لا جرم . من لمحا       قد عشقا .قد حرم

نجد ان المقطع يتكون من دعامتين ذات ثلاث واربع حركات اي بمجموع سبع حركات وعلى وتيرة واحدة خالية من التدوير ذات قافية مقطعية . ومثل هذا الاسلوب لا نجده الا في الموروث السرياني . كما في قصيدة يعقوب السروجي (تولد 521م). يقول فيها:

ܩܠܗ ܕܚܠܝܢ / ܚܙܘ̈ܐ ܬܡܝܗܝܢ / ܪܥܡ̈ܐ ܪܗܝܒܝܢ / ܛܩܣܐ ܣܕܝܪܝܢ ܬܓܡ̈ܐ ܫܘܝܼܚܝܢ

قالى دَحلين / حِزوى تميهين / رَعمى رهيوين / طَقسى سديرين / تِغمى شويحين

***

نزار حنا الديراني

.................

المصادر:

1- د رضا محسن القريشي /الموشحات العراقية منذ نشاتها وحتى القرن التاسع عشر

2- الموشحات / د مجدي شمس الدين ـ مجلة الافاق العربية 3-4/اذار 1999

3- سلمان علي التكريتي / مجالي تطور الموسيقى العربية / مجلة افاق عربية عدد 12/اب/1983

4- مقداد رحيم / الموشحات الاندلسية وعلاقتها بالغناء / افاق عربية عدد 9/مايس/1984

5- نزار حنا / الايقاع في الشعر ـ دراسة مقارنة بين العربية والسريانية

هناك متوالية تجمع بين السرد والحياة، عَبر عنها الفيلسوف الفرنسي بول ريكور بمصطلح (الفهم السردي) الذي ينبع من وجود خطاب من الدرجة الاولى هو (الخيال) وتتبعه السردية الحياتية كخطاب من الدرجة الثانية.. في مجموعة (هان شر زمان) الصادرة سنة 2021 سعى القاص ابراهيم اسماعيل عبد الى تحقيق هذه المتوالية، بحرفية السارد المتمكن من ادواته، المُحمل بخبرتين ادبية وحياتية واسعتين، مكنتاه من خلق نوع من الموائمة السردية بين الخيال كمحرك رئيسي لقصصه وبين الواقع الذي ترتكز عليه، دون ان يجعل من احدهما يهيمن على الاَخر، فمجموعته تمثل رحلة الواقع والخيال، التي كتب فيها نصوص تميزت بالواقعية المشحونة بالخيال.. والتي تحتاج الى تأويل واستنباط من قبل القارئ، كونها حملت ابعاد فلسفية وصوفية، استخدم الرمز كدلالة على قصديتها، وجعل من الخيال عنصرا مهما في صناعة نصه السردي، الذي عبر عنه الروائي نجيب محفوظ بقوله (الفرق بين الحكاية والقصة هو الخيال) لذا سعى ابراهيم اسماعيل الى تطبيق مفاهيم واسس القصة الحديثة، والتي تمثل انعكاس لتخيل الواقع وليس الواقع نفسه، فقد غابت ملامح ابطال قصصه وهوياتهم واسمائهم وانتماءاتهم.. وتحولوا الى مجموعة من الادوات البسيطة التي تتحرك بدقة وفق رؤية غارقة في التعقيد، وهي بحاجة الى تأويل لمعرفة سببيتها، فسعى القاص الى جعل القارئ جزءا من مشروعه السردي، واشراكه عبر التأويل والتحليل للوصول الى فهم شخصي لنصوص مجموعته.

اهم عناصر المجموعة:

اولا- اللغة: يمكن تعريف اللغة اصطلاحا على انها مجموعة من الإشارات والرموز، وهي أهم وسائل التفاهم والاحتكاك بين أفراد المجتمع في جميع ميادين الحياة. وبدون اللغة يتعذر نشاط الناس المعرفي، حيث ترتبط اللغة بالتفكير ارتباطًا وثيقًا، فأفكار الإنسان تصاغ دومًا في قالب لغوي.. اما في السرد فتلعب اللغة دورا اكثر تعقيدا حيث تشكل وسيلة تواصل غير مباشرة بين الكاتب والمتلقي، وهي بحاجة الى اسلوب متفرد لوضعها في قالب سردي.. كونها لغة الكتابة الدالة على الفعل والحدث المقترن بالزمن او بدون زمن. ويُستخدَم هذا النوع من الكتابة في العديد من القوالب الادبية وفنون السرد المعروفة مثل القصة والرواية.. تميزت لغة هان شر زمان بكونها لغة سهلة خالية من التعقيد او ما يعبر عنه (لغة الغرف المعقمة) غاب عنها الحوار تماماً، تميل الى الشعرية في بعض محطاتها، وهي ميزة في الفن القصصي، كما عبر عن ذلك الناقد حمدي مخلف بقوله (يجب ان تكون لغة القص مجموعة جمل شعرية تخاطب القارئ بإحساس مرهف).. كما في قصة (اثر) التي اجتزئ منها هذا النص (كان المدى واسعا لتنطلق.. لا احد يتعقبها، تناثر شعرها في الهواء الذي يحركه جسمها، قفزات اخرى متسارعات كانت تخال المدى نقطة ما تضعها وسط عينيها).. وقد اتخذت بعض النصوص شكل القصيدة كما في قصة (تكسر):

كسرت انفي، كسرت خاطرها

كسرت ظهري، كسرت فيئها

كسرت لهفتي، كسرت قلبها

ثانيا – قص الهذيان: يمكن تبويب جزء مهم من المجموعة ضمن قص الهذيان كون (هان شر زمان) ليست مجموعة قصصية سردية بقدر ماهي مجموعة من الحراك الذهني، الخالي من الافعال الحقيقية، كان حراك بعض ابطال نصوصها بدوافع غرائزية مصحوبة بالخيال، افقدت النصوص واقعيتها، حتى بدت وكأنها صور ذهنية.. كما في قصة (كفاها ام ضفتاه) والتي تبتدئ بهذا النص للسارد العليم (ما كانت قدماه تجرؤا على تجاوز الضفة الاخرى لولا رؤيته ايها ترفع بكفيها حفنة ماء الغبار هو الاخر قد انزاح الى الوراء كثيرا.. كان القدر بطل لحظته عندما اخرج لقيته الملونة، لا يدري ان كانت لقية حصى ام حجارة تدوين....).

ثالثا – النزعة الصوفية: القص الصوفي مذهب فكري يطرح في بناه التعبيرية والموضوعية مفاهيم دينية او فكرية تمثل فلسفة الوصول الى الحقيقة والسعادة والكمال. في مجموعة (هان شر زمان) شكلت وحدة الوجود احدى الركائز الفلسفية لنصوص المجموعة، فقد طغت النزعة الصوفية على بعض النصوص، بشكل جعل منها حلقة ذكر صوفية هام مريدوها بالطبيعة وذاب وجودهم ووجدانهم فيها، فلم تستثني قصص هان شر زمان اي كائن حي (بشر، حيوانات، حشرات، نباتات) الجميع دخلوا في دوامة البحث عن الوجود واثاروا تساؤلات فلسفية ووجودية ازلية، من خلال حراكهم ومسعاهم وتصوراتهم.. فاغلب نصوص المجموعة توحدت نهايات ابطالها على اختلاف اجناسهم ومشاربهم، بانهم ذابوا وتلاشوا في الوجود.. وسأختار قصة (الصغير) انموذجاً لهذا المنحى القصصي (انساب نحو الجنوب المهيب، لقد ذاب الطين بالماء، وذابت كفا الصغير بالطين، وذابت الرحلة في المجهول ما لا يمكن العودة منه. الصغير كثيرا ما كان يرغب بالذوبان في راشح المياه).

رابعا – الزمان: كانت ازمنة النصوص ذات سياقات مختلفة:

أ‌- زمن عائم، لا يعبر سوى عن جو النص، والظرف اللحظي الذي جرى فيه الحدث المركزي، كما في قصة ثوب (هو والليل والقمر اسياد اللحظة ها هو يراقبها بعدوانية وشراسة).

ب- زمن غائب، فكانت اغلب نصوص المجموعة بلا زمن، يتحرك ابطالها وفق سياق الحدث، بلا ازمنة تعطي دلالة ظرفية لصيرورته.

ج – زمن محدد، احتوت بعض نصوص المجموعة تواريخ دقيقة لأحداث، ربما كانت جزءاً من ذاكرة القاص، وشكلت منعطفات مهمة في حياته، او حياة ناس كان على صلة بهم.. ان عملية زج التواريخ في الفن القصصي تحمل شيء من المجازفة التي قد تؤدي الى اثقال براءة النص وتشظيه، لكن ابراهيم اسماعيل عَمد على استخدام هذا الاسلوب السردي ليجعل القارئ يتوقف بصورة قسرية عند تلك الاحداث، ويحاول ايجاد تصورات لها، من خلال ذاكرته الشخصية التي تمثل جزءا من الذاكرة الجمعية للمجتمع العراقي، كما في قصة (فوز) التي اهداها القاص الى الشاعرة الفقيدة وجدان النقيب (لقد سطا عليها في 22 اب وكاد يقضمها بلين ودعابة.. التفاحة التي سقطت من الغصن لن تعود اليه..).

خامسا- المكان: تشظى عنصر المكان الى ابعاد عدة باختلاف نصوص هان شر زمان وطبيعة وجنس ابطالها.. لقد اعتنى القاص بعنصر المكان، كونه البيئة المعبرة عن هوية النص والدالة عليه، فكانت الطبيعة بمعناها الاكبر والاشمل هي الحيز الذي تحرك فيه ابطال معظم قصص المجموعة.. فضاءات مفتوحة وحدائق وانهار وحقول، ارتبط معها ابطال النصوص بروابط وجدانية وغرائزية ونفعية، شكلت نوع من (التعالق الباختيني) الذي يحيل تأويلياً مكان الحدث الى اماكن اكبر واوسع.. وهذا ما يطلق عليه اصطلاحا (التشيؤ) والذي عبرت عنه الكاتبة الفرنسية ناتالي ساروت بقولها (القصة الشيئية هي ردود افعال حسية ونفسية بين الانسان والاشياء عبر التكيف الشيئي للمكان والتكيف الانفعالي لردة الفعل اتجاه الاشياء) وسأختار قصة (عناق) انموذجا لهذا المنحى السردي (كانت تنتقل بين الحدائق وكلما رأت ازهاراً توقفت عندها، محاولة التمتع بها والتماس معها حتى لونها كاد يتشبه بلون وردة جهنمية).

***

احمد عواد الخزاعي

من العسير التنقيب عن يحيى السماوي في شعره، فهو يتوزّع على أكثر من اثنين وعشرين مجموعة شعرية، بيد أنه قد يبدو من اللامجدي الخوض في هذا النمط الخارجي من التنقيب، فليس أمهر من الشاعر بما يملك من أدوات وخبرات أسلوبية على إجادة لعبة ثنائيته الضدية (التواري و الظهور) أو (الغياب والحضور) داخل لغته بحسب ما تمليه عليه القصيدة، وليس بحسب ما يُمليه هو عليها، لأن سطوة الأدوات داخل القصيدة على الشاعر أمضّ من سطوة الشاعر داخل القصيدة على أدواته. وهذا الفصل ليس مجرّد تخريج نظري، بل هو فصل ما بين التاريخ (أي الخارج) وما بين الفن (أي الداخل)، فالقصيدة هي التي تكتب نفسها من داخلها، ولا تُكتب من خارجها، وأن أية محاولة من الشاعر للجم اندفاع القصيدة والتضييق على جنوحها الطفولي ورغبتها في التحرر والانعتاق في مقابل فرض مخططه الفني عليها بكامل تفاصيله وأبعاده الهندسية الدقيقة المعدة مسبقاً، أن أية محاولة من هذا القبيل ستُنتج قصيدة أو نصاً معقلناً يمثل الشاعر أكثر مما يُمثل الشعر، أما دور الشاعر في تحقق رغبات القصيدة فهو أن يتلقي إيعازاتها ويُحسن تنفيذها. وفي خضم هذه العمليات الداخلية فإن الأدوات المعبرة أو المُجسّدة لذلك الداخل أشبه بطاقيات الإخفاء التي تختزن الطاقة السحرية الهائلة الكفيلة بتغييب الشاعر داخل نصّه أو قصيدته، كما أنها الكفيلة بإظهاره. وما أكثر طاقيات الإخفاء التي يستعين بها الشعراء للتخفّي أو للظهور. فلكل قصيدة طاقيّتها، بل ولكلّ حركة إيقاعية داخل القصيدة الواحدة طاقيّتها.

وما الثنائيات التلازمية أو التوافقية أو التكاملية أو الثنائيات الضدية إلا مظاهر لطاقيات الإخفاء التي يستعين بها يحيى السماوي ليس للتخفّي أو للتجلي فحسب، بل كنسق مضمر يستعين بإمكانياته التدليلية اللامحدودة للتمويه على حركة القصيدة الداخلية من أجل إطلاقها بالاتجاه الذي يحقق أهدافه الفنية من جهة، ويبلّغ رسالته الإنسانية من جهة أخرى في مظهر من التوازن المسؤول لا يرجّح أو يرتهن أحد الطرفين للآخر، لاسيما أنّ مسيرة حياة الشاعر باتجاه اليسار والتي بدأها مع أولى خطواته مع الشعر لن تمكنه من الحياد عن متطلبات تلك الرسالة.

هذه القراءة ليست في قصائد الشاعر المطبوعة في مجاميعه، بل هي لبعض قصائده المنشورة على موقع التواصل الإجتماعي facebook، وسواء كانت القصائد من هذا المنشأ أو من ذاك فإن العالم المرجعي لكلا المجموعتين واحد، والصوت المعبر عن ذلك العالم واحد، والسُنن التي تتحرى عنها هذه القراءة هي بالتأكيد بصمة الشاعر الملازمة له، لا تُزيّف، أو تُشوّه أو تُنحل أينما توزعت قصائده. وبالرغم من أن هذه القراءة غير معنية بالوقوف على الأصول التاريخية لمصطلح الثنائيات الضدية ومراحل تطوره وأشكال تحولاته، إلا أن ذلك لا يمنع من الوقوف على الواجهات الخارجية لبعض تلك المراحل مع الإشارة إلى أن مفهوم المصطلح بصيغته المتداولة، أو بكل وحدة من طرفيه سواء ما يتعلق بالثنائيات أو بمفهوم الضد أو التضاد هي ليست مفاهيم مستحدثين، فقد عرفها النقاد العرب الأوائل، إلا أنهم لم يتفقوا لها على تسمية موحدة، فقد توزعت التسميات ما بين الطباق أو التطبيق أو المطابقة أو التطابق، مع التنويه إلى أن التطابق في البلاغة هو غيره في النحو، إذ أنه في النحو يعني (العلاقة التي تربط طرفي الإسناد في الجملة وهما المبتدأ والخبر) (1). أما بالنسبة إلى مفهوم الثنائيات الضدية ففي المنظور النقدي القديم لم ترد (مصطلحاً قائماً بذاته، بل وجدت في مفهوم التضاد مفهوماً متداخلاً مع المصطلحات البلاغية الأخرى ولعل أهمها: الخلاف والطباق والتكافؤ والمقابلة والتناقض) (2)

ومع اختلاف النقاد العرب في تعريف المصطلح أو في تسميته إلا أنهم اتفقوا جميعاً في كونه الجمع بين النقيضين، فقد عرّفه أسامة بن منقذ في (باب طبقات التطبيق) بصيغة (أن تكون الكلمة ضد الأخرى) (3) والضد هو العكس مع خلاف ابن منقذ في كون الأول يحدث في لفظ ومعنى الكلمة، بينما العكس تختص به الجمل. فقد جاء في باب العكس (هو أن تأتي الجملتان إحداهما عكس الأخرى كما قال الله تعالى "يُخرج الحيّ من الميّت ويُخرج الميت من الحي") (4)

لا تُسلم الثنائيات الضدية مفاتيحها في أغلب قصائد يحيى السماوي للقراءة الأولى، وقد يؤجل البحث عنها، أو في خفاياها أحياناً إلى مرحلة الفحص ولم الشعث، فهي عادة ما تتوارى تحت طبقة من الموجهات المضللة (بكسر اللام الأولى)، أو المموّهة بتداعيات وتفرّعات الصورة الشعرية التي تبدو في ظاهرها مركبة أو متفرّعة، لكنها في حقيقتها صورة واحدة تتفرّع من داخلها إلى صورتين ضديتين، فمن قصيدة (أنا آخر العشاق):

(وبعثت نهري من رميم جفافه

فاخضرّ شاطئه...)

إلى هنا تبدو الصورة التي تتمخّض عنها ثنائية (الجفاف / الإخضرار) واحدة، ولكنها سرعان ما تتفرّع إلى ثنائية أخرى من خلال الصفة الملحقة بالفاعل (الشاطيء)، فهو في صورته الأولى شاطيءٌ (مُقرّح) ولكنه في الشق الثاني من الثنائية (استعاد روافده)، وبذلك يكون قد برأ من تقرّحه. لكن هناك حالة من التقابل ما بين وحدتين دلاليتين من مجالين مختلفين، كالتقابل ما بين (العين والرحلة) حيث جُمعا معاً في بنية صورية واحدة من خلال عنصرين نحويين هما: أداة العطف (الواو) والصفة (زائدة)، وكلا الوحدتين تنتميان إلى المتكلم (عيناي ورحلتي)، وفي حين ربطت الصفة ما بين الوحدتين الدلاليتين بتوسط الغائب / الغائبة، ربطت أداة العطف ما بين الجملتين الشعريتين اللتين تشكل كل وحدة دلالية من الثنتين بؤرتها، وحسب التركيبة التالية:

ألجملة الأولى:

ألوحدة الدلالية الأولى = عيناي

ألصفة = زائدتان

ألتوسط = عليكِ

أداة العطف: (ألواو)

ألجملة الثانية:

ألوحدة الدلالية الثانية = رحلتي

ألصفة = زائدة

ألتوسط = يا مقدسة البداية والنهاية

والملاحظ أنّ البنيتين الصوريتين اللتين تدوران معاً في فلك (المخاطب / المخاطبة) قد أضفتا على حالة التقابل ما بين الوحدتين الدلاليتين (عيناي ورحلتي) مظهراً ضدياً، وإن كانت دلالتا الوحدتين المتباعدتين نسبياً لا تكشف بجلاء عنه، ولكنه تجلى فيه من خلال انعكاس الصيغتين الضديتين للمقدسة / المخاطبة، أي (البداية / النهاية) اللتين جاءتا من الناحية النحوية خبراً ل (تكوني) ولكنهما من الناحية المعنوية صفتان في الوقت ذاته للمقدسة:

(عيناي زائدتان إن لم تُطبقا جفناً عليكِ

ورحلتي إن لم تكوني - يا مقدسةُ - البدايةَ والنهاية

زائدة)

فهاتان الصفتان ليستا مجرد ملفوظين لملء الفراغ الإيقاعي، بل هما موجهان دلاليان للمعنى المتفرّع عن الوحدتين الدلاليتين (ألعينان) و (رحلتي) إذ أنّ توسط المقدسة في المعنى المتفرع عن كل من هاتين الوحدتين يساهم بدوره في توسط لازمتيها أيضاً (البداية والنهاية) بين تينك الوحدتين.

وتنفتح أحياناً الثنائيات المتناغمة على الثنائيات الضدية لتشكلا معاً نظاماً ثنائياً غيرياً، كما في قصيدة (ضجيج أخرس) والتي أول ما تواجهنا فيها العنونة بثنائيتها الصوتية ما بين الصفة والموصوف المتضادين والتي لا نجد إيضاحاً صريحاً، أو حتى تلميحاً في القصيدة يغطي ما تثيره من تساؤلات عن دلالة الضجيج، لاسيما أنها قصيدة الصوت الواحد، صوت المتكلم، مع حضور المخاطب كضمير، وليس كفعل، ولذلك ظل موقعه داخل القصيدة متوارياً خلف نداءات المتكلم الكابحة المحذرة، من دون أن تصدر عن ذلك الأول أية إشارة، أو ردة فعل، تكشف أولاً عن موقعه أو هويته، وأن تسوّغ ثانياً دواعي الإنفعال والتوتر في التوجيهات الكابحة للمتكلم.

تستهل القصيدة بحشد من التوصيفات المتناغمة والمتعارضة في الوقت عينة موجهة من الصوت الوحيد / صوت القصيدة أو صوت الشاعر إلى المخاطب الذي يمكن أن يكون هو ذاته الشاعر لتكون القصيدة بهذا المعنى صدى ارتداد صوت الشاعر إلى ذاته، وما هذه الآلية في الحوار الذاتي إلا وسيلة للتمويه على الذات، ومنحها مظهر الآخر، وهي وسيلة لجأ إليها الشاعر في أكثر من قصيدة للتحرر من هيمنة الغنائية الصرفة، والحد من سطوة الذات. فإن كنا قد اتفقنا بدءاً مع هذا التأويل، فسنقرأ القصيدة كرسالة انعكاسية من الشاعر إلى ذاته في مظهر أقرب إلى جردة حساب مثقلة بتعداد الخسائر من أجل إقناع الآخر بوقف اندفاعه. وفي هذه الجردة يتخذ الشاعر عدة إجرائية بعضها متوافق وصفياً كما يتجلى ذلك في الإستهلال، من قبيل توصيف الطفل بالفتى، وبعضها الآخر متضاد، ويتجلى تضاده بثلاثة مظاهر:

ألمظهر الأول:

حيث تثبّت الثنائية ضمن قالب زمني ضدي، يتجلى فيها المخاطب بصيغتين، فهو من جهة متناغم عمرياً إلى حد ما، كما في (ألطفل / الفتى) وقد أشرنا لذلك فيما سبق، لكن هذا المظهر المتناغم والمتكامل يتراصّ كطرف أول في ثنائية ضدية طرفها الثاني (الكهل)، أي:

- ألطرف الأول المزدوج = (ألطفل – الفتى)

- ألطرف الثاني = الكهل

ألمظهر الثاني:

ويتسم بكونه مظهر سلوكي يرتسم ضمنه المخاطب (الطفل) بسلوكين متضادين هما (القتيل / القاتل) ولعل هذا النمط من التضاد المتطرف ما بين طرفيه من جهة، ووقوعه وصفاً ما بين أطراف ثنائيات متناغمة تتضاد مع الطرف السالب فيها هو الذي يخفف من غلواء التوصيف، ويمنح الطرف السالب (القاتل) تزكية سلوكية تسمح بقبوله طرفاً إيجابياً في فضاء الهيمنة المجازية للتوصيفات.

ألمظهر الثالث:

وتهيمن عليه الصفة العاطفية من خلال الثنائية الضدية (ألنشوة / ألحزن) بالرغم من الفارق السطحي ما بين العاطفتين. ومع هذا المظهر سنعود إلى بداية هذه القراءة، وإلى هذه الإشارة التي يدخلها الشاعر في قصيدته، والتي تكشف عن حالة من التماهي ما بين شخصيتي المتكلم والمخاطب بما يحول القصيدة إلى مونولوج داخلي للأنا المتشظية، أو الذات الباحثة في أعماقها عن آخر َ تحاوره، وتفرض هيمنتها عليه. إذ أن الطرف الثاني من هذه الثنائية يحيل إلى الهوية المكانية للشاعر معبراً عنها ب (الحزن الفراتي)، وهي هوية راسخة في قصائد الشاعر أو في مداخلاته ونصوصه الموازية. وفي حين جاء الإستهلال بأداة نداء مخصوصة لمنادى بعيد (أيها) أدنت بقية القصيدة المنادى بضع خطوات ليكون أقرب إلى صوت القصيدة من خلال ضمير المخاطب القريب (أنتَ). هذه المسافة مكّنت الشاعر وهو يستعرض جردة حسابه من تقديم ثنائيات قد تبدو في ظاهرها من أصول بعيدة عن الترابط من حيث المعنى السطحي، لكنها في عمقها الدلالي تُنشيء أضداداً كفيلة ببناء ثنائيات ذات مغزى عميق كما في:

- (ألصحراء / ألزورق) في (أنت لا يمكن أن تجتاز صحراء بزورق) وهذا السطر الشعري يتناص مع بيت في الزهد لأبي العتاهية (5) نُسب خطاً لأبي نواس (6):

ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها   إنّ السفينة لا تجري على اليبس

- (ألبحر / ألعكّاز) في (وتجوز البحر بالعكّاز) حيث تحيل أداة العطف (ألواو) التي تتقدم الفعل إلى عبارة (أنتَ لا يمكن أن...) في السطر السابق.

- (ثقيل الصخر / طوق نجاة) في (فاتخذ غير ثقيل الصخر طوقاً لنجاة)

- (ألصخر / ألموج) في (كلّ صخر يتحدى الموجَ يغرق) وهذه الثنائية يمكن أن تتفرّع منها ثنائية أخرى، ففي مقابل الفعل (يغرق) يمكن أن يكون فعل الضد المفترض (يطفو) قريناً نوعياً ملازماً ل (ألصخر) لتكون الثنائية الأخرى المقابلة ثنائية فعلية طرفيها هما فعلي (يطفو / يغرق).

تلك النماذج محاولات لفتح الحدود النمطية للدلالات أو بالأحرى لتهشيمها من أجل تقبّل معاني أعمق وأشمل من الصيغ الموروثة بما يمكنها من التداخل مع بعضها في ثنائيات مبتكرة تُفارق الثنائيات القاعدية المتواترة عرفياً تقوم على علاقات تلازمية افتراضية تبنيها الأنساق النصية الداخلية من خلال إعادة تركيب العناصر المرجعية الخارجية. وبنفس الآلية التهشيمية للثنائيات القاعدية لا نعدم أن نجد ثنائيات متناغمة أو مصاحبات أو متلازمات لفظية هي بدورها تتموضع خارج محددات الدلالات القاموسية مثل (ماء سراب / قطرة في دورق) في:

(كلّ ما في الكون من ماء سراب

لن يساوي قطرة في قعر دورق)

ولو اطّرحنا الضدية المجتزأة بالمفهوم الذي وقفنا على صور منه من خلال تفكيك النص إلى وحداته الصغرى، والتفتنا إلى القصيدة ككتلة متحققة في منظومة خطابية متراصة واحدة، لتمكنا عندئذ من تشخيص نمط من التضاد ما بين اتجاهين حركيين لشخصيتي المتكلم والمخاطب، على افتراض أنهما شخصيتين منفصلتين ضمن منظومة حوارية ناقصة (من طرف واحد)، فالإتجاه الأول يمضي باتجاه الأمام يمثله المخاطب، بينما يمثل المتكلم الإتجاه الضد بحركة إلى الوراء، أو في تقدير آخر الوقوف في المكان. ويمكن تفكيك هاتين الحركتين المتضادتين:

- فالطرف الأول يمثله الفعل (يجتاز) وهو افتراض ضمني أملاه تأويل نهيه أو إيقافه من قبل الطرف الثاني عن محاولة الإجتياز بقطع عدم الإمكانية (لا يمكن أن تجتاز) في (أنت لا يمكن أن تجتاز صحراءَ بزورق)

- والطرف الأول تمثله جملة (يجوز البحر)، وهو كسابقه افتراض ضمني أملاه تأويل نهيه من قبل الطرف الثاني مضمناً معنى المنع أو الإيقاف أو النهي عبر أداة العطف (الواو) التي تحيل إلى ما سبق من عدم الإمكانية، وقد سبقت الإشارة إلى ذلك في (... وتجوز البحرَ بالعُكّاز).

- والطرف الثاني يقدم للأول حلاً لاختيار غير دمع الندم، وهذا يعني ضمناً أن الطرف الأول قد وضع في حسبانه سلوك الخيار الضد، أي اختيار دمع الندم (فاخترْ غيرَ دمع الندم المُرّ على ثوب تمزّق).

- والطرف الثاني يبسط أمام الأول تبعات تحدي الموج، مما يعني ضمناً أن الطرف الأول كان قد اختار سلوك هذا الخيار إن لم يسلكه بالفعل (كلّ صخر يتحدى الموج يغرق).

وهكذا يمكن الاسترسال في تقصي واستخلاص الثنائيات الضدية من نص يحاول إخفاءها.

وكما في القصيدة السابقة لا تقتصر المعاني الضدية في قصيدة (كلنا تشرين) على الثنائيات النمطية مثل (النور / الظلمة) أو (اليقظة / السبات) بل يجتمع الطرفان النمطيان ومن ثمّ ينفتحان على ظلال معانيهما من خلال ما يرسمانه من الصور الشعرية كما في:

(وشاهروا النور على الظلمة

والورد على الرصاصة العمياء والسكين)

إذ أن المعنى المرتبط بمفردة الورد يمكن أن يتجاوز دلالته المعجمية إلى دلالته الرمزية في ضوء اقترانه بالرصاصة العمياء والسكين، كما أن هذا الإقتران يؤهله من جهة أخرى لكي يتموضع بموضع الضد مع كل واحدة منهما أي: (ألورد / الرصاصة العمياء) و (ألورد / ألسكين). وكما للطرف الأول فإن للطرفين الثانيين من كلا الثنائيتين معنى يتجاوز المعنى القاموسي إلى دلالتيهما الرمزيتين، وهما دلالتان واسعتان تُغطيان أفقاً واسعاً من معاني القسوة والسلب.

من جهة أخرى تنفتح الثنائيتان من طرفيهما لتستوعب أفق القصيدة بكامله، فالدلالات المفتوحة للنور تستوعب الإفتتاحية الخماسية للمفردات المتناغمة مع بعضها (ألنهر / النخيل / الصخر / الندى / ألطين) والتي قد توهم باستقلال بنيتها التركيبية وتكاملها الإيقاعي عن الثنائية الضدية، بالرغم من أداة العطف (ألواو). ولكن هذا الإيهام لا يصمد أمام هيمنة الطرف الأول من الثنائية، أي (النور) الذي استوعب تلك الإفتتاحية، وأدخلها ضمن المعنى الخفي لمعجمه المفتوح، بينما يتسع الطرف الثاني المزدوج من الثنائية الضدية، أي (الرصاصة العمياء والسكين) ليستوعب دلالات ما سيتلوه، أي (موقظو الأمان). وقد تشهد القراءة بعض الإنقطاعات المخادعة لامتدادات هذه الثنائية، لكنها انقطاعات تمهّد للبحث عن وسائل اتصال صورية تمدّ أواصر مع الخطوط المقطوعة للثنائية الضدية. وهذا الإتصال قد يأتي من مجال دلالي آخر ليست له علاقة مباشرة بطرفي الثنائية، بيد أن له ثمة آصرة إيحائية معهما، إذ سيتراصف الظبي والغزال مع الطرف الأول، في حين يتراصف الذئب والتنين مع الطرف الثاني، ولسنا بحاجة لتفصيل الفارق ما بين المجموعتين الحيوانيتين، وما يعكسه ذلك الفارق من دلالات.

وتقف عبارة (جميعنا تشرين) المكررة كعارضة مفصلية تتوقف عندها احتمالات التوسع الدلالي للطرف الأول من الثنائية، بينما تخصص المسافة التي ستعقبها بالكامل لاستيعاب توسعات الطرف الثاني السلبي ممثلاً بالنفايات والمحاصصين، وتلكما الصفتان المباشرتان والتقريريتان بكل محمولاتها النثرية هما صفتان لمجموعة واحدة تعاني الفصام ما بين الوعد والفعل:

(جميعهم عرقوبُ في الوعد

وفي أفعالهم إبرهة اللعين)

والشاعر في هذا الفصم الحدّي لجأ إلى نمطين من الثنائيات:

ألنمط الأول:

يمكن وصفه بالثنائية المتناغمة، ويمثل طرفيها كل من الشخصيتين التاريخيتين الرمزيتين عرقوب وإبرهة، فالشخصيتان متناغمتان ومتشابهتان في سلبيتيهما بالرغم من اختلافهما في طبيعته، فسلبية الطرف الأول في إخلافه الوعو، بينما سلبية الثاني في عدوانيته، وبغض النظر عن ذلك فالطرفان يتكاملان مع بعضهما في السوء والسلبية.

ألنمط الثاني:

تمثله الثنائية الضدية ما بين (الوعد / الفعل) أو بمعنى آخر (الوعد / إخلاف الوعد) وقد جاء المقبوس السابق لتوضيح هذه الثنائية.

هذا، وقد تكررت عبارة (جميعنا تشرين) ثلاث مرات، وفي كل مرة كانت تمهّد لدفع الثنائيات في اتجاه تتوخى من ورائه تحقيق هدف محدد يتباين مع كل تكرار عن التكرارين الآخرين:

- ففي االتكرار الأول مهدت العبارة لطرح ثنائية (النور / الظلمة) وما تنطوي عليه من مدلولات مفتوحة ومفارقة.

- وفي التكرار الثاني اختصت العبارة بالطرف الثاني السلبي من الثنائية الضدية، وقد فصلنا فيما سبق في تمظهرات هذين التكرارين.

- أما التكرار الثالث والأخير الذي مهد للختام، فقد عادت العبارة لتشكل الثنائية الضدية، ولكن بصيغة إيحائية خصت بها البلد الأمين (أي الطرف الأول من الثنائية) بينما ألمحت من خلال الإرادة:

(نريد أن يعود وادي الرافدين

البلد الأمين)

أقول ألمحت من خلال الإرادة باستعادته كونه ما زال بعرف القصيدة مسلوباً، ومن الطبيعي أن هذا التلميح بالاستلاب يطرح السؤال الضمني عن الجهة التي تستلبه، وهنا تحيلنا العبارة من خلال هذا الإيحاء إلى الطرف الضمني السلبي الثاني من الثنائية الضدية. مع ملاحظة أن الشاعر عمد إلى الإشارة لوطنه بصيغتين، ألأولى (بعدية) وقد أشار إليها بملفوظها الجغرافي (وادي الرافدين)، وهي الصيغة التي صار إليها الوطن بعد تحكّم من وصفهم ب (ألنفايات والمحاصصين) في مقدراته، حيث جُرّد الوطن من خزين إرثه الروحي، ولم يعد سوى وادياً لرافدين على الخارطة الجغرافيه. أما الصيغة الثانية، فهي (قبلية) وقد أشار إليها الشاعر بتسميتها التاريخية (البلد الأمين) وقرنها بإرادة العودة كما سبقت الإشارة، وهي إرادة استعادة الحضارة والوطن والتاريخ معاً.

في قصيدة (قلق) يموّه الشاعر أحد طرفي الثنائية في الآخر ليُمكن المتلقي من المشاركة معه في البحث عنه، بما يحرر مسؤولية التلقي والتأويل من الحكر عليه. فمنذ السطر الأول يضخ الشاعر حزمة متشابكة من الثنائيات الضدية، بعضها مكشوفة الطرفين، وبعضها توكل مهمة الكشف عن الطرف الخفي إلى الآخر المكشوف من خلال التأويل الضمني:

(منذ دهر وأنا أركض وحدي

في سباق الفوز بالجنة والنصر على بئس المصير)

فالجار والمجرور (منذ دهر) المنعقدان على زمنية ماضية وبعيدة يطرحان سؤال الماضي والحاضر، فأداة الجر (منذ) قد حددت زمن البداية بوضوح من خلال مفردة (الدهر)، وبذلك يكون الطرف الأول من الثنائية الضدية قد اتّضح، ووضوحه ضمن إمكانية تحديد الطرف الثاني، فليس من المنطقي أن أن يبقى المتكلم محتجزاً في الماضي، بينما صوت أناه (منذ دهر وأنا...) ينطلق من قاعدة في زمن الحاضر. لكن هذه الثنائية الضمنية بما تتطلبه من تخمين أحد طرفيها تبدو أوضح مدخلاً من الثنائية المركبة التي تعقبها، أي (في سباق الفوز بالجنة والفوز على بئس المصير)، إلا أن الأمر لا يستقيم بهذا التصوّر، لأن العبارة الثانية من المقبوس تشكل بحد ذاتها ثنائية ضدية (ألنصر / بئس المصير)، وهذه الثنائية يمكن تفكيكها والاستحواذ على طرفها الثاني، أي (بئس المصير) ليكون الطرف الثاني السلبي من ثنائية ضدية طرفها الأول عبارة (ألفوز بالجنة)، هذا من جهة، ومن جهة أخرى يمكن في مرحلة التفكيك والتركيب هذه اعتبار المفردتين المتناغمتين (الفوز والنصر) طرفين في ثنائية متناغمة أو تكاملية. هذه الثنائية الضدية المركبة تعقبها ثنائيتان ضديتان، الأولى ذات حمولة زمنية تُحيلنا إلى ثنائية الإستهلال (الليل / الصبح) في (مرّة يسبقني الليلُ وأخرى أسبق الصبح). والثانية هي ثنائية ضدية تعاقبية (الأول / الأخير) في:

(ليتني أعرفُ: هل كنتُ بها الأول

أم كنتُ الأخير ؟)

وهاتان الثنائيتان الجليتان مرتبطتان معاً بثنائية أخرى لكنها ثنائية ضمنية في أحد طرفيها يمكن تحريها في (وحدي أركض الأشواطَ مجهولَ المصير) إذ أن إقرار الشاعر بمجهولية المصير هو استنتاج نهائي جاء بعد جهد أولي من المنطقي أن يكون قد بُذل من أجل بلوغ مصير معلوم. وبذلك فهذه الثنائية الضمنية الطرف (معلوم المصير / مجهول المصير) هي الحلقة الرابطة للثنائيتين الضديتين السابقتين، والتي بدونها، أو بدون توقع طرفها الضمني يتبدد معنى الضدية.

***

ليث الصندوق

............

(1) ألجملة الإسمية – د. علي أبو المكارم – مؤسسة المختار للنشر والتوزيع – ألقاهرة – ألطبعة الأولى – 2007 – ص / 49

(2) بنية الثنائيات الضدية وصيغها في نصوص تعليم اللغة العربية للناطقين بغيرها – دراسة لسانية تحليلية – د. بدر بن علي العبد القادر – مجلة كلية التربية – جامعة عين شمس – العدد السادس والعشرون (الجزء الرابع – 2020 – ص / 67

(3) ألبديع في البديع في نقد الشعر – أسامة بن مرشد بن علي بن منقذ حققه وقدم له عبد آ. علي مهنا – دار الكتب العلمية – بيروت – 1987 – ص / 63

(4) نفسه – ص / 78

(5) ديوان أبي العتاهية – دار بيروت للطباعة والنشر – 1986 – ص / 230

(6) ديوان أبي نواس – وضعه ورتبه وشرح ألفاظه محمود كامل فريد – المكتبة التجارية – القاهرة 1945 – ص / 231

....................

- ألمرفق –

نماذج من شعر يحيى السماوي

أنا آخـر الـعـشـاق

أنا آخـرُ العـشّـاقِ من أحـفـادِ " أنـكـيـدو "..

وأنـتِ بـقـيّـةُ الوحشيةِ الأشـواقِ " سيدوري ".. (*)

هَـبَـطـتِ إلـيَّ مـن فـردوسِـكِ الـعـلـويِّ..

أنْـسَـنْـتِ الـضّـواري في كـهـوفِ الغابةِ الحجريةِ الأشجارِ..

صـرنـا فـي هـوانـا خـارجَ الـتـاريـخِ

والـكـتُـبِ الـقـديـمـةِ والـجـديـدة ِ

والـلـغـاتِ الـسّـائـدةْ

**

عـلّـمْـتِـنـي كـيـف اصـطـيـادُ غـزالـةِ المـعـنـى

وكـيـف أسـوقُ نـحـو الـبـيـدِ والـواحـاتِ

قـافـلـة َ الـغـيـوم ِ الـشّـاردة ْ

**

وأعَـدْتِ لـلأشـجـار ِ خـضـرَتَـهـا..

ولـلأنـهـارِ مـوجَـتـهـا..

ولـلـعِـذق ِ الـيـبـيـسِ نـضـائـدَهْ

**

وأعـدْتِ لـيْ مـا كـنـتُ قـد أهـرقـتُ مـن مـاءِ الـسـنـيـنِ

عـلـى رمـال الأمـسِ فـي

وطـنـي الـمُــخَـرَّز ِ بالـمـقـابـر والـمـشـانِـقِ..

والـمُـسَـيَّـجِ بـالـخـنـادق ِ..

والـمُـطـرَّز ِ بـالـتـصـاويـر ِ الـقـمـيـئـةِ..

والـمُـحـاصـر ِ بـالـجـيـوش ِ الـوافـدةْ

**

وأقـمْـتِ لـيْ كـوخـًا عـلـى سَـعَـة ِ الـهـوى..

الـنـهـرُ فـيـهِ الـكأسُ..

والـخـمـرُ الـمَـسَـرَّة ُ..

والـحـقـولُ الـمـائـدةْ

**

وأعَـدْتِ رسـمَ مَـلامـحـي..

هـذّبْـتِ قـافـيـتـي..

قـتـلـتِ الـمـارقَ الـشـيـطـانَ فـي جـسـدي..

هَـدَمْـتِ جـمـيـعَ حـانـاتي الـقـديـمـة ِ..

والـكـهـوفَ الـفـاسـدة ْ

**

آمـنـتُ بـعـد ضـلالـتـي:

فالـلـهُ واحـدُ..

والهدى في العشقِ واحدُ..

والعراقُ العاشقُ المعشوقُ واحدُ..

والسماوةُ واحدةْ..

**

وأنـا ـ الـفـقـيـرَ إلـى هـواكِ ـ اثـنـان ِ:

جـذرٌ ضـاربٌ فـي عُـمْـقِ طـيـنِ الأمـس ِ..

جـذرٌ لا رفـيـفَ لـهُ..

وغـصـنٌ دون ظِـلٍّ تسْـتـبـيـهِ الـرِّيـحُ..

أنـتِ جـمَعْـتِـنـي

فـأعَـدتِ جـذري لـلـغـصـونِ..

ولـلـنـخـيـلِ قـلائـدَهْ

**

وبـعـثـتِ نـهـري مـن رمـيـم ِ جَـفـافِـهِ

فـاخْـضَــرَّ شـاطـئــهُ الـمُـقـرَّحُ

واسْـتـعـادَ روافـدَهْ

**

طـوبـى لـنـهـري فـي تـلاشـيـهِ الـمُـبـاركِ فـي حـقـولِـكِ..

لانـبـعـاثـي فـيـكِ طِـفـلا ً شـاعـرًا

يـلـهـو فـيـنـسـجُ مـن خـيوطِ الـمـاءِ قـرطـاسـًا

لـيـكـتـبَ بـالـضـيـاءِ قـصـائِـدَهْ

**

عـيـنـايَ زائـدتـانِ إنْ لـم تُـطـبِـقـا جـفـنـًا عـلـيـكِ..

ورحـلـتـي إنْ لـم تـكـونـي ـ يـا مُـقـدَّسـةُ ـ الـبـدايـةَ والـنـهـايـةَ:

زائـدةْ

..........

(*) سيدوري: صاحبة الحانة في ملحمة جلجامش.

**

ضجيج أخرس

أيـهـا الـطـفـلُ الـفـتـى الـكـهـلُ

الـقـتـيـلُ الـقـاتـلُ الـنـشـوةُ

والـحـزنُ الـفـراتـيُّ الـمُـعَــتَّـقْ

أنـتَ لا يُـمـكـنُ أنْ تـجـتـازَ صـحـراءً بـزورقْ

وتـجـوزَ الـبـحـرَ بـالـعُـكَّـازِ..

فـاخْـتـرْ غـيـرَ دمـعِ الـنـدَمِ الـمُـرِّ عـلـى ثـوبٍ تـمَـزَّقْ

كـلُّ صـخـرٍ يـتـحـدّى الـمـوجَ: يَـغـرَقْ

فـاتـخـذْ غـيـرَ ثـقـيـلِ الـصَّـخـرِ طـوقـاً لـنـجـاةٍ

وسِـوى الأشـواكِ فـي مـعـركـةِ الـنـيـرانِ بَــيْـدَقْ

كـلُّ مـا فـي الـكـونِ مـن مـاءِ سَــرابٍ

لـنْ يُـسـاوي قطرةً فـي قـعـرِ دورَقْ

لم تعدْ في دورقِ القلبِ سوى رشفةِ نبضٍ

فـاحْـفـرِ الأرضَ بـأضـلاعِـكِ إنْ كـنـتَ ظـمـيـئـاً

وتـوضَّـأْ بـيـقـيـنٍ قـبـلَ أنْ تـدخـلَ مـحـرابـاً وتَـعْــشَــقْ

مـا تـبـقّـى مـن حـريـرِ الـغـدِ

يُـكـفـيـكَ لأنْ تـنـسـجَ ثـوبـاً مـن مـيـاهٍ لـيـسَ يُـحْـرَقْ

**

جميعنا تشرين

جـمـيـعـنـا تـشـريـنْ

الـنـهـرُ والـنـخـيـلُ

والـصـخـرُ الـنـدى والـطـيـنْ

وشـاهـرو الـنـورِ عـلـى الـظـلـمـةِ

والـوردِ عـلـى الـرصـاصـةِ الـعـمـيـاءِ والـسِّـكِّـيـنْ

ومـوقِـظـو الأمـانِ مـن سُـبـاتِـهِ فـي الـوطـنِ الـمـمـتدِّ

مـن خـاصـرةِ الـنـخيـلِ حـتـى قَـدَمَـيْ حِـمـريـنْ

نـريـدُ لـلـعـراقِ أن يـكـونَ حِـصَّـةَ الـعـراقـيـيـنْ

أنْ يـحـرسَ الأنـعـامَ فـيـهِ الـظـبـيُ والـغـزالُ

لا الـذئـبُ ولا الـتـنِّــيـنْ

أنْ نُـرجِـعَ الـسـنـبـلَ للـحـقـولِ

والـدخـانَ لـلـتـنُّـورِ

والـعـبـيـرَ لـلـنـسـريـنْ

ولـلـمـحـاريـبِ بـيـاضَ الـدِّيـنْ

جـمـيـعـنـا تـشـريـنْ

نـرفـضُ تـدويـرَ الـنـفـايـاتِ

ونـأبـى أنْ نـظـلَّ سـلـعـةً خـرسـاءَ

فـي سـوقِ " الـمـحـاصـصـيـنْ "

جـمـيـعُـهـمْ " عـرقـوبُ " فـي الـوعـدِ

وفـي أفـعـالـهـم " أبـرهـةُ " اللـعـيـنْ

عِـقـدانِ مَـرّا

لـم يـزُرنـا مـرَّةً واحـدةً عـيـدٌ

فـيُـجـلـي بـالـمـسـرّاتِ هـمـومَ الـوطـن الـحـزيـنْ

جـمـيـعـنـا تـشـريـنْ

نـريـدُ أن يـعـودَ وادي الـرافـديـنِ

الـبـلـدَ الأمـيـنْ

**

قـلـق

مـنـذ دهـرٍ وأنـا: أركـضُ وحـدي

فـي سـبـاقِ الـفـوزِ بـالـجـنَّـةِ والنصرِ على بـئـس الـمـصـيـرْ

مـرةً يـسـبـقـنـي الـلـيـلُ وأخـرى أسْــبـقُ الـصـبـحَ

وفـي الـحـالـيـنِ

وحـدي أركـضُ الأشـواطَ مـجـهـولَ الـمـصـيـرْ

لـيـتـنـي أعـرفُ: هـل كـنـتُ بـهـا الأوَّلَ ؟

أمْ كـنـتُ الأخـيـرْ ؟

 ***

كاميرا هاني جوهرية كالأرض حين يعانقها المطر بعد جفاف.. تحبل بآلاف البذرات لتولد أول الربيع.. وهاني كان المطر الذي يعانق كاميرته حين تحملها يداه..تحبل بآلاف من الصور ربيعها الآتي هو الثورة.

ولأن للناقد كاميرا تصطاد بها الجمال أينما حلّ، فقد وجه سليم النجار هذه المرة عين كاميرته نحو القدس هناك حيث ولد هاني جوهرية فكانت إشراقاته خيوط حيكت من شمسها الساطعة. فرصد النجار هاني بأجمل الكلمات وأعمقها وحاور أحلامه .كيف لا وفلسطين هي المكان والقدس عروسه وزهرته. كيف لا وقد نذر المصور الشاب كاميرته للثورة الفلسطينية فرافقها أينما رحلت وخط ملامحها ببراعة شديدة ورسم تفاصيلها من خلال صوره الناطقة.

يوثق كتاب الكاميرا تشرق من القدس السيرة والمسيرة الإبداعية والنضالية للمصور العالمي الفلسطيني هاني جوهرية حيث رصد سليم النجار ثلاث مراحل من حياة جوهرية في أبعادها الفكرية والحياتية فمن مصر وتحديدا القاهرة حيث درس في معهدها العالي للسينما عام 1964 إلى لندن لدراسة التصوير. وثالث المراحل حين عمل في وزارة الإعلام الأردنية.

وفي "ما قبل المقدمة" كما أطلق عليها النجار يوثق السيرة الذاتية لهاني جوهرية تلك السيرة التي تكمل فهمنا لجوانب إبداعه الفني وسيرته النضالية،سيرة تتبع جذور أسرته ودور والده وعائلته في توجهاته.وقد قدم النجار فيها صورة لهاني إنسانا وفنانا ومناضلا حيث وثق تاريخ ومكان ولادته وشيئا من مسيرته الفنية كمصور وكمناضل يقاتل بكاميرته. فهاني عند النجار الكاميرا المقاتلة.

وفي تقديمه للكتاب يقول محمد محمود البشتاوي ص7"ربما أول ما استوقفني في هذا الكتاب عنوانه ،إذ أعادني إلى القدس وهي التقاطة من المؤلف والناقد سليم النجار،لم تأت عبثا أو مصادفة....إلى مدينة عريقة في فن التصوير". ثم يتناول البشتاوي التصوير وبدايته في فلسطين ويذكر الأسباب التي جعلت التصوير يبدأ مبكرا فيها كما ويؤكد على أهمية الصورة من حيث أنها الأكثر تأثيرا في الرأي العام وكيف استغلتها ماكينة الدعاية الصهيونية.

وحسب الفيلسوف الفرنسي رولان بارت فالصورة"آمرة أكثر من الكتابة".

فمنذ مجيء المصورين الأوروبيين وخصوصاً في مرحلة ما قبل 1867 يلاحظ في الصور التي تم التقاطها من قبلهم صعوبة العثور على صور لبشر وبخاصة المواقع الإنجيلية والتاريخية حيث تولد هذه الصور شعورا بأن فلسطين مكان خال من السكان وغير مأهول وهذا أمر مقصود الهدف منه تغييب عن فكر ووعي الأوروبيين والأمريكيين ،وقد مهدوا بذلك لإبراز الشعار الصهيوني "أرض بلا شعب".

وتحت عنوان هاني جوهرية ..عين الثورة السينمائية قراءة تحاول أن تضع هاني جوهرية في مكانه ومكانته يقول البشتاوي ص11" كان ثمة ما هو أقوى من السلاح،إنها كاميرا هاني جوهرية".

وقد ضمن سليم النجار كتابه العديد من الشهادات لفنانين ونقاد وروائيين ومخرجين وغيرهم يتحدثون عن حياة هاني الشخصية وتجربته الإنسانية والفنية والنضالية، أبرزها شهادة أخيه رياض جوهرية حيث يتحدث عن بداياته مع التصوير ص103"اشـترى هــاني مــن المعــرض كــاميرا صــغيرة،مــن جنــاح الاتحــاد السوفييتي آنذاك.وهي المرة الأولى التي يخرج فيها هاني من القدس تعلم هاني كل فنون تحميض الصور في البيت".

وعلى لسان د.عز الدين مناصرة"شاعر وناقد أدبي" ص67 ويتحدث عن الجانب الإنساني لهاني" هو شخص دمث جدا،محبوب،غير صدامي". وعن نضاله ص70" هاني جوهرية كان يتعرض للخطر يوميا،لأنه دائم التصوير ،تصوير المعارك التي تخوضها الثورة الفلسطينية،جميع المعارك صورها هاني".

وفي تعريف لسيرة هاني جوهرية كما وردت في كتاب الكاميرا تشرق من القدس فقد ولد في مدينة القدس عام 1939.وفي عام 1967 كان أحد ثلاثة قاموا بتأسيس وحدة السينما والتصوير في حركة فتح والتي صارت فيما بعد مؤسسة السينما الفلسطينية.

رافق الثورة في عمليات داخل الأرض المحتلة ،صور عدد من الأفلام منها الخروج67 والأرض المحروقة وفيلم لا للحل السلمي وغيره من الأفلام.

ودع الدنيا بتاريخ 11/نيسان/1976 في تلال عينطورة في لبنان أثناء تصوير نضال القوى الوطنية والتقدمية اللبنانية والثورة الفلسطينية.

قتلت تلك القنبلة الصهيونية عين الكاميرا فنبتت آلاف الأعين مكانها لكن عين هاني جوهرية تبقى الأصل والأساس.

صدر الكتاب عن دار هبة ناشرون وموزعون

***

قراءة بديعة النعيمي

 

 

كان عنوان هذا الموضوع مقترحًا بحثيَّا فصليًّا تقدمتُ به إلى (الأستاذ الدكتور نذير العظمة، رحمة الله عليه)، خلال دراستي في مرحلة الدكتوراه، الفصل الجامعي الثاني لعام 1409هـ= 1989م، وأُنجِز يوم الأحد، غُرَّة ذي القعدة 1409هـ= 4 يونية 1989م. جاء ذلك المقترح عن مَيلٍ في نفسي، آل إلى رغبةٍ أكيدة، دَعَمَتْها تجربةٌ سابقةٌ في تناول مثل هذا الموضوع في رسالتي للماجستير عن "شِعر ابن مُقْبِل"(1)، التي نوقشتْ يوم الأربعاء 22 من ذي القعدة 1408هـ= 6 يولية 1988م، بـ(كليَّة الآداب(2)، جامعة الملِك سعود، بالرِّياض)، لولا أنِّي، بعد حِينٍ من البحث، جفلتُ من سَعة الموضوع عن بحثٍ فصليِّ وتشعُّبه؛ فكان الرأي أن تقتصر الدراسة على ثلاثة أنواع: (الذئب، والكلب، والثور الوحشي).

وهكذا اكتشفتُ حقلًا بحثيًّا خصبًا في الأدب العَرَبي، لم أقف على دراسة اهتمَّت به من وجهته الجَماليَّة. وبين صورة (الذِّئب) و(الكلب) صلةٌ وثيقة، كما أنَّ بين صورة الكلب و(الثور الوحشي) صلةً أوثق؛ لتتكوَّن من هذه الصور الثلاث وَحْدَة تتمحور بصفةٍ رئيسةٍ حول فكرة الصِّراع، وفي ذلك ما أعطى الدراسة اتجاهها والمنهاجَ تشكُّله.

وقد اقتضَى المنحَى الجَمالي الذي سلكته الدراسة تقديم نُبذة عن عِلم الجَمال، من حيث التاريخ والأسس العامَّة. وهو، وإنْ سُمِي عِلمًا، لا يحتكم على نظريَّةٍ عِلمِيَّةٍ صارمة، تقسر الدارس على الأخذ بها، وإنَّما يرسم مسارات عامَّة للتذوق، حتى عند أكثر الجَماليِّين عِلميَّة، من التجريبيِّين أو التحليليِّين؛ ذلك لأنَّ مادَّة هذا العِلم- وهي الجَمال- لا تخضع لمقاييس محسوسة أو تصاميم معيَّنة، ولا يُمكنها بحالٍ أن ترضخ لمبدإٍ ذوقيٍّ عام. ولذا فإنَّ هذه الدراسة في اتِّجاهها الجَماليِّ إنَّما تستند في المقام الأوَّل على التذوُّق الفنِّي الحُـر، مستوحيةً من بعض المبادئ الجَماليَّة ما يعنيها في ذلك.

وقد تتبَّعنا في القِسم الأوَّل من الدراسة صورة (الذِّئب) المادِّيَّة والمعنويَّة في عددٍ من النماذج: الجاهليَّة، والأُمويَّة، والعبَّاسيَّة، دارِسِين ومقارِنِين. وأتممناها بمقاربةٍ عَرَبيَّةٍ فرنسيَّة، من خلال قصيدة لـ(ألفريد دي فيني Alfred de Vigny، -1863)، أوقفَتنا على عناصر من الاتِّفاق والافتراق بين صورة الذِّئب العَرَبيَّة وصورته الفرنسيَّة. ومن ذلك كلِّه حاولنا استخلاص بعض المقاييس الجَماليَّة المشتركة لصورة الذِّئب.

أمَّا القِسم الآخَر من الخطَّة، فكان لدراسة (الكلب) و(الثور الوحشي). عن الأوَّل اخترنا نماذج من أراجيز (أبي نُواس) في وصفه. ثمَّ عرَّجْنا على قصيدةٍ لـ(ابن الرومي) في الهجاء، وازنَ فيها بين الكلب والإنسان. وتلك هي النماذج المتكاملة في تصوير الكلب؛ إذ لم نجد في العصر الجاهليِّ أو الأُمويِّ نماذج أوفَى منها في تصويره. على أنه كان يقترن بالثور الوحشيِّ في العصر الجاهلي، حيث يمثِّل والثور ثنائيًّا في بعض صورهما النمطيَّة. وعن الثور الوحشيِّ درسنا نماذج جاهليَّة وأخرى لبعض مُخَضْرَمِي الجاهليَّة والإسلام، مهتمِّين بتحليل بعض العلاقات الميثولوجيَّة الرمزيَّة لصورته، وما انعكس عنها من مقاييس جَماليَّة. وكذا ناقشنا صِلة البُعد الرمزيِّ والفنِّيِّ بظاهرة الاستغراق الفنِّيِّ في مشهد صراع الثور الوحشي.

وتوطئةً، سوف نأخذ القارئ في مقال الأسبوع المقبل إلى نبذةٍ في عِلم الجَمال.

***

أ. د. عبدالله بن أحمد الفَيفي

الأستاذ بجامعة المَلِك سعود

........................

(1) نُوقِشتْ يوم الأربعاء 22 من ذي القعدة 1408هـ= 6 يولية 1988م. ونُشِرت في كتابٍ من مجلَّدين، ضمن إصدارات (النادي الأدبي بجازان، 1999)، تحت عنوان: "شِعر ابن مُقْبِل (قلق الخَضرمة بين الجاهليِّ والإسلاميِّ: دراسة تحليليَّة نقديَّة)". ويمكن الاطِّلاع على نسخةٍ منه بصيغة "بي دي إف" عَبر موقع "إرشيف الإنترنت": http://www.archive.org/details/IbnMogbelPoetry

(2) هذه الكُليَّة التاريخ، التي تُعَدُّ أُمُّ الكُليَّات بـ(جامعة الملك سعود)، وفي (المملكة العَرَبيَّة السُّعوديَّة). أُلغي اسمها فجأة، 1444هـ= 2022م، بعد ما يربو على نصف قرنٍ من تاريخها، منذ أُنشئت 1377هـ= 1957م؛ لمجرد خاطرةٍ خطرت لأحدهم أن يشطب اسمها العَرَبيَّ العريق، والمستعمل في كثيرٍ من الدول العَرَبيَّة، في (مِصْر، والشام، والعراق، والخليج العَرَبي)، وغيرها، ليجعله اسمًا طويلًا مستنسخًا بلا معنى، هو (كُليَّة العلوم الإنسانيَّة والاجتماعيَّة)! وكأنَّ الكُليَّات الأخرى غير إنسانيَّة! بل كأن "العلوم الاجتماعيَّة" غير "العلوم الإنسانيَّة"! والذين وفدوا إلى الكُليَّة من خارجها، أو الذين يفتقرون إلى الحِسِّ اللُّغويِّ والتاريخي، هَشُّوا- طبعًا- وبَشُّوا وصفَّقوا للاسم المبتدع البارد الجديد! والعَرَب غالبًا لا يحترمون لغتهم، ولا تاريخهم، ويكفي أن تعنَّ لأحدهم "تصنيفة"، ليشطب التاريخ، شريطة أن يملك سُلطة الشَّطب. وهذا ما لا يحدث في الأُمم التي تحترم هُويَّتها وتاريخها، لا في شرق الكُرة الأرضيَّة ولا في غربها. أمَّا في ديار العَرَب، فكُلَّما جاءت أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها، وأنشأتْ تبني من قاع الصِّفر!

تعمل رواية "رائحة الوقت" لهاشم مطر على جبهتين.

الأولى حرب العراق مع إيران.

والثانية الغليان السياسي وتصفية المعارضة في بلد عربي غير محدد.

مما يعني أن نصف أوراق الرواية مفتوحة ونصفها الآخر سري أو مكتوم.

يدير الأزمة العلنية شخصية مريم. وهي ابنة لعائلة رحلها النظام إلى إيران قسرا. ويمثل المحور الثاني شخصيات كثيرة ومتشابهة تشترك بثقافة عالية وبتجارب أوروبية (مثل الدراسة في أوروبا وغالبا يتخللها الحب المحرم وغير العفيف)، بالإضافة إلى مشاكل مع الأمن. وأشهر هؤلاء أمير مسلم وهو أستاذ جامعي معارض يهرب بهوية مزورة لينجو من الموت.

ومن الواضح أن الرواية تعنى أساسا بالهم السياسي. حتى أنها تستهل المشاهد المبكرة بصور للمقاومة المسلحة التي تأخذ شكل مبادرة فردية. وهذا لا يدل على فهم لآلية المقاومة بقدر ما يعبر عن عاطفة مضادة ومناوئة للنظام. ويمكن أن تفسر ذلك إذا نظرت لحالة سامر - يقتل في مواجهة بطولية مع كتيبة للجيش قرب الحدود. فهو أقرب ما يكون لنموذج ثائر مولود قبل الأوان (كما يقول فائق المحمد عن "فهد" حيدر حيدر). والتشابه والتحويل تفرضه ظروف العمل. فبطل حيدر ينتفض ضد رجال النظام في المرتفعات، بينما ينتفض سامر ضدهم في منطقة منخفضة (ما يسمى باللغة الاستراتيجية الثغور - بؤر الاحتكاك مع العدو ص62). ويترافق ذلك مع اهتمام فيزيائي بالمرأة (التي تعبر غالبا عن تضاريس وجغرافيا وطنية). هذا عدا المواقف الارتجالية التي يحرضها سلوك تدميري وانتحاري. وتذكرني هذه العنتريات بصورة الفدائي التي أدمن عليها الشارع العربي بعد نكبة 1948 وحتى نكسة 1967. ثم خمودها ليحتل الصورة القائد المخلص. ولكن أكثر ما يلفت النظر هو عدم ارتهان الرواية لأي أسلوب معروف. حتى أنها تبنت شخصية "مركزية" هي مريم وغلفتها بحبكة "لامركزية". وقد سبقه لذلك سعد محمد رحيم في واحدة من أفضل أعماله وهي "فسحة للجنون". غير أنه آزر بطله المركزي بأداتين. 1- تعطيل الوعي أو إدراك الأشياء بطريقة من فوق الواقع (من خلال الجنون). 2- استبدال الكائنات الاجتماعية بكائنات طبيعية. فقد عاش في أحضان الطبيعة مثل روبنسون كروزو آخر. بمعنى أنه قتل المفهوم القديم للمجتمع وأحل محله مفهوما بديلا للطبيعة. ويمكن أن نقول إنه اكتشف موت النظام - الاجتماعي وبنفس الوقت ولادة الإنسان المطبوع. - إنسان تنتجه الطبيعة وليس المعرفة. إو إنسان يدرك نفسه بالخبرة.

وليس هذا هو اتجاه هاشم مطر. فقد فضل أن يضع ماضيه وحاضره في سلة واحدة. وبضوء ذلك كانت شخصياته غير عضوية ومشرذمة. ولم تخرج من وعي تلقائي بنفسها. وقد شاركت الظروف في صياغة وعيها المتحول. وإذا كان بطل رحيم بأبعاد ملحمية حقيقية مثل بطل دانييل ديفو فإن شخصيات مطر (ومن ضمنها مريم) ذات مواصفات تراجيدية. فقد استوعب بطل رحيم الطبيعة الحاضنة له مع أنها غابوية، ورفضها أبطال مطر - وبالإجماع. وهذا ينطبق على المرتفعات - رمز صخرة سيزيف، والمجتمع الافتراسي رمز العائلة الأوديبية المنافسة. وفي الحالتين أصبحوا مثل شخصيات أدب "الطريق"، لا يمكنهم الركون لمكان ثابت، كما لو أن الهرب عقيدة اختيارية فرضتها الظروف، فقد سكنت مريم في فندق -محطة مؤقتة، وفي بلد دون اسم - مكان مجهول.

وأثرت هذه الرؤية على بنية الرواية. فقد كان القفز بين المشاهد واضحا، وإذا افترضنا (باستعمال القرائن) أن نقطة بداية الأحداث ببن 1979 -1980 فهذا يعني أن المشاهد التالية كانت تجري بعد 1996 (والدليل على ذلك اقتناء مريم وأمير ووليد للموبايل وتبادل الرسائل القصيرة بينهم ص46- واستعمال المقدم طارق للحاسوب ص105). وهو ما يترك فجوة تبلغ أكثر من 15 عاما بين مشاهد الرواية. وإن كان لا بد من إضفاء معنى زمان تاريخي على مفهوم الوقت الذي ورد في العنوان يجب أن يكون بمعنى حالة أو معايشة روحية لذات الكاتب في شخصياته (ما يسميه باختين كل البطل الزماني). بلغة أوضح لم تقدم الرواية لنا نفسها موضوعيا كما فعل فؤاد التكرلي في "الرجع البعيد" على سبيل المثال وإنما خلطت أوراق الكاتب مع أوراق شخصياته - انظر مثلا ما ذكره عن رواية "والفجر هادئ هنا" لبوريس فاسيليف، مع أنها رواية عسكرية وبعيدة كل البعد عن أوجاع ودرب آلام مريم. ثم ماذكره عن "الأمير الصغير" لسانت دو أكزبري وهي رواية كونية عن حدود الإدراك لمشكلة الوجود اللامتناهي. ص 76.

وإن تفكير مريم بفاسيليف وأكزوبري بوقت واحد دليل على أن شخصيتها مجزأة وأن وعيها تأملي وغير إجرائي. وهو ما يضفي على كل أفعالها إدراكا جماليا. ويمكن لأي قارئ أن يلاحظ التواطؤ غير المتعمد بين جغرافيا المكان وخطاب الرواية. في الثاني فراغات وفي الأول خسوف وانهيارات. ثم يضيف الراوي وربما انقطاعات ص 76. وكأنه يؤكد أن طبيعة الذاكرة مرايا مهشمة، وترى بها الشيء الواحد من عدة زوايا ووجهات نظر.

ويمكن أن نعمم ذلك على شخصية سمية الضعيفة والطامعة بالمجد. لكن الصراع بين الأخلاق وأحلام المستقبل يأخذ طابعا ميلودراميا بشر به قبل نصف قرن إحسان عبد القدوس في الرواية ونزار قباني في الشعر في مجموعة أعمال ركزت على مشكلتين.

الأولى الطبيعة الذكورية للسلطة في المجتمع العربي، والنظر للمرأة وكأنها سلعة معروضة في السوق. وعوضا عن أن تتطور الرواية باتجاه وطني يكشف اللعبة السياسية والخطر الوجودي الذي تواجهه شعوب المنطقة، وبالتحديد شعوب المثلث الشرقي: روسيا والصين والشرق الأوسط، تتحول لهجاء الأنظمة المستبدة (ولدي اعتقاد شبه مؤكد أنها تقصد بلاد الشام). وبالتدريج تدخل الرواية في مسائل شديدة الحساسية كعلاقات القرابة (الدم والنسب) والروابط العرقية (ويعزف على هذا الوتر عدة مرات و في أمكنة متقابلة ومتعاكسة: أمام الضابط في المكتب الأمني، وأمام مريم وصديقتها في جلسة مخملية ص144).

وهو ما يرجح كفة ما يسميه جورج طرابيشي بالفيتامينات الشرقية التي تحول الصراع على السلطة من المؤسسة إلى غرف النوم. وتستعيض عن الكرسي والمكتب بالسرير وفرج المرأة. أو بلغة أوضح تجعل الخلاف خارج المؤسسة وضمن مربع الغرائز، وتخفض رتبة العاطفة من الرغبة المحرمة إلى الاغتصاب.

ويترافق ذلك مع حبكة تحاول جهدها تقليم أظافر الأب. فوالد مريم يسقط في الهوة أثناء الترحيل، ومعه تسقط وجوه كل الآباء. لكن تلتقي بهم مريم لاحقا في عدة مواضع بأسماء وصفات اجتماعية متعددة. وتذكر الرواية في إحدى المناسبات أن هؤلاء الآباء الصغار والوسيمين ينظرون إليها كطيف لرؤيا أو حلم يقظة. ص 190. وهو ما يرشح كل الواقع ليكون كليا، تنمحي فيه الحدود بين المادة والطاقة، أو لإلغاء الواقع الفعلي واستبداله بواقع احتمالي. أو كما تقول بلسانها: إحساس يعصى على التصنيف. ص 190. والعصيان هنا يدل على التمنع وليس التمرد، والتمني وليس المبادرة.

ولذلك يغلب علي الجميع صفة الانتحال وسلوك الاستعراض والتحرش. ليتحول في مىحلة تالية لدى الأم الضعيفة إلى طقس اقتصادي يحركه دافع واحد وهو الخوف.

ولذلك تختار الرواية للأم عدة رموز أو استعارات.

الأولى هي الأرض. وتسميها الرواية الوطن الأم (ويدل على مسقط رأسها) والبلد الأم أو الثاني (مكان إقامتها المؤقت).

الثانية هي الخيمة. وهي وطن بديل ضعيف، ولا يقدم أي وعد بحل نهائي. وربما تشبه مغارة الساحرة العجوز التي تحتجز الصغار المشردين لحين وقت التضحية بهم.

الاستعارة الثالثة والأخيرة تعتمد على أسلوب التحويل ويمثلها كامل الزوج الشرعي الذي تختاره أمها. وسرعان ما يتخلى عنها ويعود لنسائه الدانمركيات.

ولا شك أن الرواية تضع على الطاولة ورقتين. أبيض وأسود. أو شرق وغرب. الشرق بفرض على سكانه التغريب (من الترحال تحت مظلة وهمية ومزيفة تحاول أن تعيد تركيب العقل الغربي بأدوات محلية وهو ما يؤدي لتشكيل نوية صلبة تذكرنا بكل بؤر التوتر في التاريخ ابتداء من الكونتونات وانتهاء بالغيتو) . والغرب الذي يستعمل عدة أقنعة وألسن ولكنها تعبر عن مفهوم واحد لمعنى الغواية أو الإكراه (مبدأ السعادة المستحيلة أو إشباع اللذة الفرويدي - نفس المبدأ الذي خرجت من معطفه الرواية العربية - ومثلما كان العربي المذكر الموهوم بعضلاته وأمجاد ماضيه الميت والآفل يتهالك على الملذات في "نهم" لشكيب الجابري حتى يكتشف عجزه بمرآته الذاتية والخاصة، يكرر كامل في "رائحة الوقت" نفس السيناريو ويدخل في لعبة صد وجفاء لا تليق إلا بالغواني حتى يرى نفسه بمرآة الآخر ويسقط على شكل إله عاجز ومقصر و أناني وفاسد - ونائب للأم الضعيفة والمستهترة). وبالنهاية تقترح الرواية أن الأب هو الملاذ الوحيد لبناته. وهو الحامي الأخير لهن من الواقع الفاسد ومن الأم التي لعبت دور العذول وعرضت بناتها لأهوال التشرد (تسميه الرواية الوحدة والترحال والسفر إلى المجهول) ص195.

***

د. صالح الرزوق

...................

* صدرت الرواية في مطلع عام 2023 عن دار العالي في بغداد. 436ص.

 

 

(إيلا ليا) مؤلفة موسيقية وعازفة بيانو ومغنية أذرية -أميركية، ذات موهبة موسيقية أصيلة.ولدت في باكو عاصمة أذربيجان.ودرست الموسيقى، وتميزت بعزفها المدهش لأعمالها وأعمال بيتهوفن وموتسارت وتشايكوفسكي ورحمانينوف .هاجرت مع إبنها الصغير الوحيد سيرغي إلى الولايات المتحدة الأميركية في عام 1990. وواصلت نشاطها الفني في المهجر حيث أصدرت العديد من الألبومات الغنائية.وقدمت مع فرقتها (أوركسترا الجاز) حفلات موسيقية وغنائية في أنحاء الولايات المتحدة الأميركية وأوروبا، وظهرت أغانيها في عدد من أفلام هوليود، وهي معروفة في الوسط الفني الأميركي. مؤلفاتها الموسيقية مزيج فريد وسحري، كوكتيل رائع من ألحان روحها الأذرية، والموسيقى الكلاسيكية الأوروبية وموسيقى الجاز الأميركي.. أصبحت مبعوثة فعالة ومؤثرة للثقافة الأذرية في الولايات المتحدة، وقد دعتها السيدة الأولى ميشيل أوباما إلى حفل عيد النوروز الذي أقيم في البيت الأبيض في عام 2015 بصفتها فنانة بارزة أسهمت بنشاطها الفني المتواصل في إثراء التراث الثقافي لوطنها الأم ووطنها الثاني.

بعد بضع سنوات من وصولها إلى أميركا فجعت إيلا بوفاة إبنها البالغ من العمر تسع سنوات بعد صراع مؤلم وخاسر مع مرض اللوكيميا. وأصيبت بصدمة نفسية عميقة، فحاولت دفن حزنها في الموسيقى. وتقول في مقابلة صحفية:" وانغمست في الموسيقى التي كانت تعني لي البقاء، ولكنني شعرت أن الموسيقى على وشك النفاد. بعد ستة شهور من فقدان ابني قابلت ملكة جمال أميركا، بيس مايرسون، التي قالت لي – عليكِ أن تجلسي وتكتبي وتسكبي على الورق كل شيء عن ماضيكِ. كتبت بطريقة ما مذكراتي، ووضعتها في درج طاولة الكتابة.وبعد فترة راجعت النص وأعدت صياغته عدة مرات على شكل رواية يمتزج فيها الواقع بالخيال.أعدت كتابة كل كلمة قبل المضي قدماً. واستغرق العمل ثلاث سنوات ونصف، واطلقت عليها " برج العذراء "، وهذا البرج أحد المعالم التاريخية لمدينة باكو. غير أن ناشري إقترح تغيير عنوان الرواية إلى " السماء اليتيمة" وفعلا صدرت الرواية تحت هذا العنوان عام 2015 ".

"السماء اليتيمة " رواية جميلة ومؤثرة عن اضطهاد الفنانين في ظل النظام السوفيتي، وعن قدرة الروح البشرية التي لا تحدها حدود على الإبداع الفني والموسيقي بحرية رغم كل الصعاب، كما تصور فترة متوترة من تاريخ بلد امتزجت فيه الثقافات التركية والفارسية والروسية، والفساد الشيوعي ببقايا الشريعة الإسلامية. وكان حظر الممارسات الدينية متجذراً بعمق في الأنشطة اليومية وأثّر في أسلوب حياة الناس.

تقول الراوية وبطلة الرواية ليلى :" بحلول الوقت الذي بلغت فيه سن الخامسة عشرة، كانت الشيوعية قد أصبحت ديني ". أقيمت معابد الشيوعية ذات الأعلام الحمراء على رماد المساجد والكنائس المحترقة. حلت المطارق والمناجل محل الصلبان. كانت العقيدة الفلسفية للحزب الشيوعي المصدر الوحيد للحقيقة. وكان لينين إلهنا ".

ماذا كان يعني العيش في إحدى الجمهوريات السوفيتية، ممزقا بين الدعاية الرسمية والمعتقدات التقليدية؟ أي حياة هذه لشابة موهوبة لا تستطيع الوصول إلى العالم الخارجي؟ أين الحرية - داخل أم خارج النفس البشرية؟. تحاول إيلا ليا العثورعلى إجابات لهذه الأسئلة والعديد من الأسئلة الصعبة الأخرى في روايتها الأولى حول الحب والخسارة والألم.

تجري معظم الأحداث في باكو عاصمة أذربيجان في أواخر السبعينات وأوائل الثمانينات. تجسّد عازفة البيانو ليلى، المراهقة السوفييتية المثالية. فهي عضو منظمة الشبيبة الشيوعية (الكومسومول)، وتحلم بتمثيل أذربيجان في المنافسات الدولية كعازفة بيانو بارعة. والدها مسؤول رفيع المستوى في الحزب الشيوعي وفي إدارة النفط، ووالدتها طبيبة معروفة. تعيش ليلى مع والديها حياة مرفهة باذخة ككل أسر النومينكلاتورا (الطبقة الحاكمة السوفيتية)، مثل الإقامة في شقة فاخرة، والحصول على السلع الأجنبية في متاجر مخصصة لكبار المسؤولين في الحزب والدولة، وتلقي دروس الموسيقى واللغة الإنجليزية على أيدي أساتذة خصوصيين، ومزايا أخرى كثيرة كانت تتمتع بها طبقة النومينكلاتورا.

يكلفها الرفيق فرهاد - الشاب الوسيم الجذاب، والعضو البارز في لجنة الكومسومول المحلية بالتجسس على الفنان الناشئ طاهر، الذي يدير متجرًاً للتسجيلات الموسيقية، ويشتبه في أنه يصيب الشباب بتأثيرات غربية منحطة. تقبل ليلى المهمة لأنها حريصة على إثبات قيمتها لدى فرهاد والكومسومول. كانت الشائعات تقول إن مالك المتجر تاجر مخدرات أو ساحر أو جاسوس أميركي. ولكن ما أن تدخل ليلى إلى المتجر وتلتقي صاحبه الفنان البوهيمي المنشق طاهر حتى تتغير حياتها. وتجد إن طاهر – على خلاف الشائعات ومزاعم فرهاد – شاب عميق الثقافة،وفنان مبدع يعشق موسيقى الجاز، والفن التجريدي والأدب، وآراؤه عن الإتحاد السوفيتي تفضح نفاق وأكاذيب " مملكة المرايا المُشوِهة" التي تعيش فيها. ويكشف طاهر النقاب عن الفقر في المجتمع الأذري الذي يُزعم أنه لا طبقي وعن تاريخ عائلته المضطهدة حيث زج بوالدته في معسكر للاعتقال في سيبيريا. آراء طاهر صدمت آذان شابة كومسومولية ملتزمة. وبدأت في التشكيك في القيم السائدة في محيطها الإجتماعي، لتقوم باكتشافات مريبة عن عائلتها.وتقع في حب طاهر ويصبح متجر الموسيقى ملاذاً لها. ولكن مشاعرها المتضاربة تجعلها ممزقة بين حبها لصاحب المتجر، وثقتها المهتزة في النظام الشيوعي. وفي الوقت نفسه تواجه ضغوطاً من عائلتها للزواج من فرهاد. أصبحت حياة ليلى مروعة بسبب الخداع والفساد وسيطرة الحزب الشيوعي على شيء. وأخذت ليلى تدرك شيئاً فشيئاً أن كل ما قيل عن مجد الاتحاد السوفيتي مجرد بروباغاندا. وتكتشف أن النظام السوفيتي يقمع حرية الفكر بقسوة وأن الملايين من الأبرياء أصبحوا ضحايا للظلم والفساد، وتم زجهم في معسكرات الاعتقال الرهيبة.

إن أقوى ثنائية في الرواية هي الحقيقة والأكذوبة أوالمظهر والواقع. وتقول سونا خانم وهي تتحدث إلى إبنتها ليلى عن النظام السوفيتي في أذربيجان، وعن عائلتها :" لا شيء يبدو في حياتنا على حقيقته". تنتقل سونا خانم إلى سؤال آخر من الأسئلة الأساسية التي طرحت في الرواية :" كيف تعيش؟، وكيف تتكيف مع الواقع، خاصة بالنسبة للنساء؟. أن هذه المرآة المشوِهة هي الحقيقة الوحيدة التي لدينا في حياتنا. وعلينا أن نعمل كل ما هو ممكن".

سونا خانوم تفعل كل ما في وسعها بطريقتها الخاصة، أخت ليلى في الرضاعة وصديقتها المقربة ألماس بطريقة أخرى تمامًا.وينتهي الأمر برفض ليلى وجهة نظر والدتها واختيار طريقها الخاص في الحياة. خيار محفوف بالمخاطر في أذربيجان السوفيتية في أواخر السبعينات. إن عملية تحولها من كومسمولية مخلصة إلى فنانة حرة الروح ترافقها سلسلة من الأحداث المأساوية، ما يجبر ليلى على إتخاذ القرار الذي لا يعرض حياتها للخطر فحسب، بل أيضاً حياة عائلتها والأشحاص المقربين منها : قرار الهجرة إلى خارج مملكة المرايا المشوِهة:

"جاء الخريف. أولاً بداخلي، ثم في كل مكان. سارعت الأشجار لنفض أوراقها مثل موضة العام الماضي ووقفت نصف عارية، خاضعة لتقدم الرياح الشمالية. تخلى بحر قزوين عن حسن تصرفه وأطلق شياطينه التي تنفث رشقات من الرغوة البيضاء".

الشخصيات في " السماء اليتيمة " حية،رسمت بمهارة وتبقى في الذاكرة لمدة طويلة - ليلى، الرفيق فرهاد، الفنان طاهر، والدا ليلى، وصديقتها ألماس، ومدرس البيانو المتناقض سياسياً سلطان زاده.

برج العذراء

على الرغم من أن الحبكة الرئيسية للرواية شبه واقعية، إلا أنها تتشابك بطريقة سحرية مع القصص الخيالية وأساطير أذربيجان القديمة. ما يجعل الرواية أكثرعمقاً وثراءً ومتعددة الأبعاد. وتصبح الشخصيات ومشاعرهم وعواطفهم أكثر وضوحاً..

تصف الكاتبة موطنها أذربيجان بأنها :"أرض الشمس والنارعلى مفترق طرق أوروبا وآسيا، والشرق والغرب، محاطة بجبال القوقاز الرائعة. مكان تغسله مياه بحر قزوين الدافئة- ملاك طفولتي".

" السماء اليتيمة" كنز ثقافي فهي مليئة بالأمثال الأذربيجانية والاقتباسات من التراث الشعبي الأذري، وقصائد الشاعر الملحمي الرومانسي نظامي ما يضفي على الرواية نكهة شرقية فريدة:

" صغاراً وأبرياءً، تذوقوا النبيذ المعطر برائحة البنفسج للحب الأول وأصبحوا، في حالة سكر عميق... أوه، نبيذ الحب الأول، كيف يمكن لأي قلب أن يقاوم طعمك الحلو والمر".

وعبر القرون، هناك رابط لا ينفصم بين السماء اليتيمة وأسطورة برج العذراء الشهير في أذربيحان – قصة أميرة تختار الحرية بإلقاء نفسها من أسوار برج العذراء. لكن السماء والبحر تبادلا الأماكن فولد طائر النار الجميل.

" ذات مرة عندما سادت روح الظلام الشريرة على أرض أذربيجان،

مخبأة الشمس داخل كهوفها تحت الأرض،

عندما أطلت السماء اليتيمة على جبال القوقاز من قبة الحزن السوداء،

عندما ذرف المطر دموع الجليد على الأرض القاحلة".

رواية موسيقية

كتبت إيلا هذه الرواية باللغة الإنجليزية على غرار بعض الكتّاب المهاجرين إلى الولايات المتحدة الأميركية الذين تدور مؤلفاتهم حول الحياة في بلدانهم الأصلية ومنهم خالد حسيني الأفغاني، والكسندر هيمون الصربي، وجومبا لاهيري البنغالية) حيث يقدمون خبراتهم الفريدة ولمحات ثاقبة قيمة عن أوطانهم إلى القرّاء في الغرب. وهذا إنجاز بحد ذاته.

أظهرت الكاتبة في روايتها معرفتها العميقة والثرية بالتراث الموسيقي العالمي حيث يتدفق الحضور الفني المضىئ للموسيقى، بأشكال عديدة، عبر صفحات الرواية، فيجلب اللون والنبض إلى الحركة والأماكن والشخصيات.

إيلا أيضًا جعلت ليلى تفكر وتعبر عن نفسها بمصطلحات موسيقية، ما يخلق استعارات رائعة :" الرفيق فرهاد "قصف المنصة مثل أوركسترا سيئة التدريب في دار الأوبرا في باكو". و" كل نفس من أنفاس ليلى يرن مثل آلة التشيللو التي تنطلق بعيدًا عن قوس قفز من دقات قلبها".

أن الموسيقى المتأصلة بعمق في روح المؤلفة الإبداعية لعبت دورا أساسيا في كتابة "السماء اليتيمة".

تقول إيلا في مقابلة صحفية إن "الكلمات هي نتاجاتي الموسيقية، التي تشكلت من خلال اللحن. أتابع إيقاعها، وتزامنها، وتناغمها، وتنافرها، وذروتها حتى أصل إلى ذلك المكان المقدس للحرية الإبداعية حيث يمكنني سكب قلبي على الورق".

***

جودت هوشيار

إن وطناً مثل العراق الذي يعتبر شعرائه بعدد نخيله الباسقات، وللمرأة العراقية مساحة واسعة من الشعر، تحتلها بين كل الاجيال الشعرية التي رسمت على خارطته، شعراً ونثراً، ولأني أجد من نافلة القول، ومن الواجب الاشارة اليه في هذا المجال، الى نخبة من الشاعرات العراقيات: كالشاعرة نازك الملائكة ورباب الكاظمي وعاتكة الخزرجي ولميعة عباس عمارة وآمال الزهاوي، وغيرهن الكثير من الاجيال اللاحقة، هذا اذا ما قلنا، هن الجيل الذي حمل رسالة الشعر العربي الحديث، وكان لهن الفعل الكبير في الوسط الثقافي بين قمم الشعراء الذين كانوا من جيلهم من الرجال ايضاً .

فضلاً عن، ما لحق من اجيال شعرية متعاقبة بعد مرحلة الخمسينات والستينات و السبعينات وما تركن اولئك الكوكبة الابداعية من تأثير في المرحلة التي عاشوها، وما كتبن عن الظروف التي أحاطت بهن سياسياً وثقافياً واجتماعياً.

اذا اردنا ان نحدد مرحلة الاجيال الشعرية، فهذا موضوع نتركه في وقت آخر، ولكن ما نسعى به اليوم هو الغوص في القيمة الابداعية للشاعرة الكبيرة نازك الملائكة والتي نقدم قراءتنا لقصيدتها، (أنا). والحقيقة إن الشاعرة نازك الملائكة واحدة من الجيل الذي واكب رواد التجديد من بدر شاكر السياب ولميعة عباس عمارة وعبد الوهاب البياتي وبلند الحيدري في العراق وأمل دنقل وصلاح عبد الصبور في مصر.

إلا إنها تبقى للشاعرة الملائكة خصوصيتها في منجزها الشعري وما جددته في الشعر الحديث، فضلاً عن مساهماتها الاكاديمية التي دافعت عن القصيدة الحديثة بمقالاتها وأبحاثها الاكاديمية وخاصة عند صدور كتابها (قضايا الشعر المعاصر) الذي كان لصدوره صدى واسعاً ليس في العراق فحسب وإنما في عالمنا العربي.

إن المنظور الشعري القائم في منجزها الابداعي، يستند على ثقافة الشاعرة، بما في ذلك الصور الشعرية واللغة الابداعية التي ترسمها في نصها الابداعي الراقي، فالمخيلة لدى الشاعرة تتمتع بذخيرة عالية من المفردات التي تمنحها الدفق السحري في بناء نصها الابداعي، ذلك من خلال رسم الخط البياني إن صح التعبير الذي يرتقي بالجملة الشعرية عندها، نحو صوراً جمالية لها تأثيرها لدى المتلقي، والشاعرة نازك الملائكة غنية عن التعريف بأرثها الشعري وعمقها الدلالي في كتابة الجملة الشعرية المتميزة فضلاً عن القصائد الاخرى التي أحتوتها دوواينها الشعرية منذ بداية حياتها الادبية والابداعية في الاربعينات من القرن الماضي.

لقد أصدرت الملائكة العديد من الدواوين وكانت لها صداها في العراق وفي الادب العربي وحتى العالمي، حتى وفاتها في مصر ودفنت فيها، وكنا أقمنا حفلاً تأبينياً بالذكرى السنوية الاولى لوفاتها بالقاهرة، وقد أخترت نموذجاً من قصائدها وهي قصيدة (أنا) التي شكلت أنعطافة في بلاغة الرؤية الفلسفية وعمق الدلالة والرمز والموروث، وكيفية توظيف الأسطورة في نصها الابداعي.

عندما نقرأ هذا المقطع الأول من قصيدة (أنا) الذي تقول فيه:

(الليل يسأل من أنا

أنا سرهُ القلق العميق الأسود

أنا صمته المتمرد

قنعت كنهي بالسكون

ولفقت قلبي بالظنون

وبقيت ساهمةً هنا

أرنو وتسألني القرون

أنا من اكون)؟

ان الشاعرة تسعى في إعادة تشكيل عناصر النص بلغة درامية، ولملمة الكلمات التي تتقبل التفاعل بين الحسي والمرئي، فالاشياء موجودة حولها وكلها قابلة أن تُنقل على هيئة حدث شعري، ولكن ليس كل الشعراء لهم تلك الامكانية الشعرية في نقل الاحداث الشعرية التي يصوغها داخل ثيمة النص، فالشاعرة تعطي لنا صورة بين المحسوسات الشعورية، ثم تنقلها الى صيغة جمالية تسكن البيت الشعري او الجملة الشعرية.

فالانسان الذي يعيش في أحداث تفاصيل حياته اليومية، غير ما هو يعيش في شخصية الشاعر، في حين نجد ان الحدث الشعري عندها، يختمر وله كينونته في المخيلة، فالبعد التخيلي عند الشاعرة نازك الملائكة انها استخدمت اللغة استخداماً خاصاً من خلال رؤيتها الفنية، وتقنياتها الذاتية، وثقافتها المعرفية، وطاقتها التجديدية، وأعلى درجة الاحساس داخل جملتها الشعرية التي تمنحها أعلى درجات الطاقة والوقود العاطفي.

ثم تقول في المقطع الذي يليه:

(أنا روحها الحيران أنكرني الزمان

أنا مثلُها في لا مكان

نبقى نسيرُ ولا آنتهاء

نبقى نمرُ ولا بقاء

فإذا بلغنا المنحنى

خلناهُ خاتمةَ الشقاءْ)

أن عنصر الدهشة والغرائبية والصدمة الشعرية التي تتوزع بين سحرية المفردة الشعرية لدى الشاعرة نازك الملائكة، هو تحرير الذات والنص، ليشكل بعدها عمق المنظور ليمنح المتلقي احساس يتناغم ويتفاعل مع أجزاء جسد النص اذا ما قلت معظمها.

فالشاعرة تعرف كيف تدخل الى الحواس الانسانية، مستخدمةً أدوات شعرية في ذهنيتها وتجربتها الشعرية، وهي ليست أبنت الحياة فقط، وإنما جالت نظرتها في زوايا الحياة الغامضة، لتقدم لنا تجربة ذات نكهة خاصة، لا يتحلى بها الآخر، مهما أعتلت أدوات الشعر لدى الغير.

فالشاعرة الملائكة، تستعمل ألفاظاً ابداعية، تعتمد على مراوغة اللغة من خلال إعطاء هذه الالفاظ دلالات جديدة عن طريق تجاوزها وتوزيعها داخل النص.

ثم يلي المقطع التالي من القصيدة ؛

(وأعود أدفنه أنا

لأصوغ لي أمساً جديد

غده جليد

والذات تسأل من أنا

أنا مثلها حيرى أحدق في ظلام

لا شيء يمنحني السلام)

هي تعمل بتنسيق مكوناتها للقصيدة، فمن خلال العنونة (كما أطلق عليها الفرنسيون) حيث يعد العنوان بوصفه التاج الاعلى، والذي نضعه عادة في قمة القصيدة كي يملك المفتاح للدخول من الباب الشرعي للقصيدة، لتذهب للتفاوض بين الحس المرئي المادي للحياة والحس اللامرئي لذات الشاعرة وهي تقتنص اللحظة الابداعية لصياغة جملتها، فيكون الانتصار للبيت الشعري.

نحن امام شاعرة تمتلك من ادواتها الفنية واللغوية وتوظيف اللغة على المستويات الزمنية والمكانية والدرامية، فهي تعرف كيف تصيغ وتتجاوز داخل بنية النص.

لاشك، إن ما نسعى اليه في هذه القراءة لشاعرة تحمل هم الانسان والوجود، وتتفاعل مع مكوناته بكل تفاصيل الحياة، وتعطي للابداع شكله الآخر، الذي يفجر فينا أحساساً للتضامن مع قضية الانسان وصراعاته الوجودية حيثما نكون او يكون، فهذا يعني أنها أمتلكت بزمام القصيدة وجسدها وهيكلتها، وعرفت كيف توظف السحر البياني واللغة والخيال والموروث والدلالة والرمزية، ليكون نتاجها شعراً غزير المعاني والقوافي وهي جزء من هذا الوجود الانساني الذي تكابده في كل لحظة، فضلاً عن العمق الفلسفي الذي يذكرنا بقصيدة إيليا أبو ماضي (نسي الطينُ ساعةً إنه طين) ذات العمق الفلسفي عن خلق الوجود، وما يقترب من قصيدة (أنا) لشاعرتنا الملائكة.

وهنا تسترسل في المقطع الأخير من قصيدتها ؛

(أبقى أسائلُ والجواب

سيظل يحجبهُ سراب

وأظلُ أحسبهً دنا

فإذا وصلتُ إليه ذاب

وخبا وغاب)

لقد استطاعت نازك الملائكة أن تمتلك من ناصية نصها أو جسد قصيدتها الكامل والاحساس الداخلي في الجملة الشعرية، ذلك انها تمتلك من ضبط تقنية البناء في وحدة القصيدة، فهي توازن وتعرف كيف ان تمسك بقبان الميزان حتى توازن بين الصوت القديم والصوت الحديث والمعاصر للحياة في شكل القصيدة الحديثة.

وإذا أردنا ان نبحر في عالم قصائدها الاخرى، فلكل منها وحدة بناء خاص وعالم يتمحور بين عالم الاشياء المادي وبين فلسفة الحياة وروح العصر، فهي تشكل القاسم المشترك لقصيدة الحداثة المعاصرة.

***

د. عصام البرام - القاهرة

"رحلة إلى ذات امرأة" هي التجربة الروائيّة الأولى للكاتبة صباح بشير، ممّا يدعونا إلى تناول هذا العمل الأدبيّ، بشيء من القلق والتوجّس والترقّب. فهذه التجربة الأولى، إمّا أن تبشّر بولادة روائيّ جديد يتلمّس طريقه إلى عالم الرواية في النور متسلّحًا بالأدوات الصحيحة، وإمّا أن تكون مجرّد إصدار جديد يُضاف إلى زحمة الإصدارات التي نشهدها على الساحة الأدبيّة.

"قلب عجوز باك"، "أحداث دراميّة"، "جرح"، "مخزون هائل من الذكريات"... بهذه الكلمات والتعابير التي تنثرها الكاتبة في الصفحات الأولى، تُدخلنا إلى أجواء رحلة بطلة روايتها وتشوّقنا لمعرفة تفاصيلها. هي رحلة موت وغربة ووحدة وإحباط، وفشل ونجاح وسقوط ونهوض. "رحلة إلى ذات امرأة" عنوان يختزل مضمون الرواية ويُشكّل خاتمتها.

إنّ قضيّة المرأة العربيّة، بصفة عامّة، والفلسطينيّة بصفة خاصّة، وما يلحقها من اضطهاد من قبل الرجل، ومن قبل المجتمع الذكوريّ برجاله ونسائه، هو ما يشغل اهتمام الكاتبة في هذه الرواية. إذ تنطلق فيها بأيديولوجيّة تؤمن بها، وتتحدّد في اقتناعها بأنّ وراء عذاب كلّ أنثى يقف ذكر أو المجتمع الذكوريّ كلّه. وعليه، فإنّ الرواية تقف على هذه الثنائيّة غير المتكافئة بين الأنثى والذكر. الأنثى المهزومة التي تندب حظّها العاثر والرجل المنتصر.

بناء على هذا، تنطلق الكاتبة من موقف واضح تعتبر فيه المرأة هي الضحيّة، والمجتمع الذكوريّ هو الظالم. وقد رسمت المسار الذي قطعته "حنان" بطلة روايتها لتكون الضحيّة المظلومة، ولتبرز مدى عمق الجرح وقسوة التجربة التي مرّت بها، إلى حدّ عدم قدرتها على نسيانها أو محوها من الذاكرة لشدّة ما حفرته من ندوب وشروخ في قلبها وروحها. فصوت الأمس ما يزال يتحرّش بذاكرتها رغمًا عنها، ويدفعها إلى رواية قصّتها واسترجاع رحلة المعاناة. فتعود بنا إلى أيّام الطفولة التي تصفها بالهانئة والسعيدة والهادئة، لتنقلب هذه السعادة، بعد مرور سنوات، إلى شقاء، وينقلب الهدوء إلى ضجيج لا ينفكّ يقرع رأسها. كانت نقطة التحوّل في حياة البطلة حين سُلِب منها حلمها في متابعة دراستها الجامعيّة بسبب اندلاع الانتفاضة وإغلاق الجامعات. وقد أبرزت الكاتبة هنا إسقاطات الوضع السياسيّ الخاصّ الذي يعيشه الشعب الفلسطينيّ، على الاجتماعيّ وعلى حياة الناس وأحلامهم ومصائرهم، وكيف تكون هذه الإسقاطات مدمّرة وقاتلة. فزواج حنان من عمر جاء تزامنًا مع هذه الأوضاع التي سرّعت حدوثه، وبدأت معه رحلة معاناتها ودمارها النفسيّ والاجتماعيّ. رضيت حنان بالزواج من عمر الذي لا تعرفه ولا تربطها به أيّة عاطفة، وهي التي كانت تحلم، كأيّ فتاة، بقصّة حبّ مشبعة بالشوق واللهفة. تقول: "حافظتُ على هدوئي إذعانًا لأمّي. وأمام شدّة الضغوط رضخت مستسلمة للزواج من عمر. هكذا في صمت وتردّد، بين الحياء والجهل، تُركت أواجه قدري". كانت حنان مدركة تمامًا لخطورة الخطوة المصيريّة التي تُقدم عليها، إلّا أنّها كانت أضعف من أن ترفض. تقول: "إحساس غامض كان يلفّني، شعرت أنّني أخطئ بحقّ نفسي. فهل حقًّا تسرّعت؟ ولم كلّ هذا الضعف والاستسلام؟"، "لماذا أشعر بكلّ هذا الجبن والخجل؟"، "هكذا يربّون الإناث على الحياء والخضوع"، "جبنت واستحييت، ولم أقوَ على المواجهة قطّ". فبكت وتضرّعت وشعرت أنّها تريد أن تصرخ وأن تشتم، ولكن لا شيء.

رسمت الكاتبة في روايتها صورة قاتمة لبيت الزوجيّة. هذا البيت الذي طالما حلمت به الفتاة الشرقيّة وتاقت إلى دخوله وتهافتت عليه، ولكن، سرعان ما ترى فيه الجحيم بعينه ما أن تدخله. فتبدأ العمل على محاربته والتمرّد عليه بطرق مختلفة. وكم يكون وضع المرأة أصعب إذا زُوّجت كحنان بطلة الرواية من الرجل الذي لا تعرف ولم تُحبّ وإنّما فُرض عليها. فحنان زُوّجت من رجل لا يرى في الزوجة إلّا أداة تعمل ما يريد ويفرض عليها. وحين حاولت التململ وإسماع اعتراضها ورفع صوتها وإعلان رفضها وتمرّدها، وجدت كلّ من يحيط بها من رجال ونساء يذكّرها بقواعد الدين والعادات والتقاليد والمفاهيم الاجتماعيّة التي تفرض على المرأة أن تكون تابعة لزوجها، تخدمه وتُسعده. والكاتبة، بتصويرها لمؤسّسة الزواج بهذه الصورة السلبيّة، لا تقف ضدّ هذه المؤسّسة، ولا ضدّ تعاليم الدين الإسلاميّ. إذ لا بدّ من التأكيد في هذا السّياق، على أنّ الإسلام رغّب في الزواج وحثّ عليه في القرآن الكريم وفي أحاديث الرسول، لما وراءه من أهداف، وما يُحقّقه من مقاصد في الحياة الإنسانيّة. وإنّما هي تقف ضدّ الرجل الشرقيّ الذي يعتبر الزواج أداة ذكوريّة ووسيلة بطريركيّة يُظهر بواسطتها استعلاءه على المرأة ويؤكّد ملكيّته لها. فهي تؤمن، كما بطلتها، أنّ مؤسّسة الزواج يجب أن تقوم على الودّ والحبّ والتفاهم والاحترام والثقة. وتجربة الزواج الفاشلة التي خاضتها حنان، لم تضعضع إيمانها هذا ولا أملها في وجود رجل يحترم هذه الأسس ويدرك أهميّتها، والدليل أنّها كرّرت التجربة من رجل أحبّها وأحبّته، واختبرت معه كلّ المشاعر الجميلة التي طالما رسمتها في مخيّلتها. تقول: "فما ذلك السرّ الغامض الذي يشعرنا بالبهجة والانجذاب لشخص ما دون غيره؟ وما ذلك الانشراح الذي يعلو على القلب حين تتلاقى الأرواح مستأنسة؟ فتتآلف متناغمة في طباعها وتكوينها النفسيّ. تلتقي لتمسح ألم خيبات كثيرة عاشتها وتجرّعت مرارتها. تجتمع متشابهة لتفرّ إلى عالم السكينة، هاربة من كلّ شيء وإلى كلّ شيء". ص 220

اهتمّت الكاتبة عبر صفحات الرواية أن تبرز الظلم الواقع على المرأة من قِبل الرجل والمجتمع الذكوريّ، هذا الظلم الذي يصل حدّ القتل والحرق. فالأب الذي يحرق ابنته في ساحة الحيّ ليرضي قِيَم مجتمعه، كما فعل والد أسماء بحجّة شرف العائلة، يجعل المرأة لا تجد اختلافًا بين ظلم الرجل وظلم المحتلّ الغريب. بل ترى بأنّ اضطهادها من قبل الرجل أكثر ثقلًا من قمع الغريب. وعليه، تُعرض الشخصيّات في الرواية وتتحدّد علاقاتها وتتمحور حول القضيّة الأساسيّة بالنسبة لها وهي: قضيّة كون المرأة ضحيّة وكون الرجل جلّادها وظالمها ويمارس في حقّها كلّ الأساليب التي توفّر له الانتصار عليها واستحواذها. فنراها تعرض لقضيّة التمييز بين الذكر والأنثى وازدواجيّة المعيار الأخلاقيّ. كما تأتي بنماذج نسائيّة مختلفة. فأمّ حنان مثلًا هي نموذج للمرأة النمطيّة أو التقليديّة المتمسّكة بالموروث الاجتماعيّ أكثر من الأب نفسه. "فالخروج من البيت مسموح للضرورة فقط، واللعب في ساحة الحيّ ممنوع"، "فشرف البنت مثل عود الثقاب"، "وسمعة الأب النظيفة تحافظ عليها ابنته الشريفة". و"أسماء" هي نموذج للمرأة العربيّة المطلّقة التي تلاحقها الأعين المراقِبة والمحاسِبة والظالِمة. فالطلاق في المجتمعات العربيّة هو ذنب المرأة دائمًا وهي المسؤولة الوحيدة عن حدوثه. فهي الآثمة وهي الخائنة وهي التي تستحقّ القتل حفاظًا على شرف العائلة. وإذا ظنّت المرأة أنّها بطلاقها تحرّرت من زوجها ومن كلّ الضرر والأذى الذي سبّبه لها، فهي مخطئة، لأنّ الرجل العربيّ، في كثير من الأحيان، لا يترك طليقته في حالها ولا ينفكّ يلاحقها ويشوّه سمعتها باختلاق الأكاذيب وتلفيق التّهم، تمامًا كما فعل عمر- زوج حنان الذي نجح في الإساءة إلى سمعتها ممّا أدّى إلى طردها من العمل.

صورة المرأة العانس حاضرة كذلك في الرواية وتتلخّص نظرة المجتمع إليها في قول سميّة: "نحن الفتيات نعاني عقدة العمر. لا نحبّ أن نُسأل عنه لما يترتّب على ذلك السؤال من تحليل وثرثرة. فالفتاة "عانس" في نظر الناس إن لم تتزوّج. يصبح عدم زواجها قضيّة رأي عام تثرثر بها الأفواه". وقد نبّهت الكاتبة من خلال شخصيّة "غادة" أخت حنان، إلى أنّ هذا الوضع الاجتماعيّ حين يقع على من هنّ ضعيفات النفوس وضيّقات الفكر، قد يقودهن إلى الشعور بالحقد والنقمة على الناس والحياة وعلى أقرب الناس إليهن. فقد ذهبت غادة في حقدها وغيرتها إلى حدّ التحالف مع عمر وتشويه سمعة أختها. تقول حنان: "كنت دائمًا أفترض أن تكون الأخت حافظة الأسرار وموضع الثقة ورفيقة الدرب"، "أما غادة فقد أعمتها الغيرة فنسيت أنّ تلك التي تمارس عليها الظلم هي أختها".

هكذا، وُضعت المرأة في حالات كثيرة في قفص الاتّهام وموضع الشكّ وتحت المراقبة الذكوريّة، لتجد نفسها مقهورة وغريبة، لا علاقة لها بكلّ ما يحيط بها.

كلّ هذا عبّرت عنه الكاتبة بضمير المتكلّم الذي سلّطت من خلاله الضوء على الراوية "حنان" وكشفت عن همومها وعذابها وأوجاعها ودواخل ذاتها، إلى الحدّ الذي جعلنا نشعر أنّنا أمام سيرة ذاتيّة تقوم على البوح والاستذكار والاعتراف. ونظرًا إلى أنّ الرواية ليست سيرة ذاتيّة، إلّا أنّنا ننطلق من إيماننا بقول ميشال بوتور إنّ "الروائي يبني شخوصه، شاء أم أبى، علم ذلك أم جهل، انطلاقًا من عناصر مأخوذة من حياته الخاصّة، وأنّ أبطاله ما هم إلّا أقنعة يروي من ورائها قصّته، ويحلم من خلالها بنفسه". ويؤكّد حنّا مينة هذا الرأي بقوله: "إنّ أيّة شخصيّة روائيّة هي المؤلّف وغيره، هي الشخص وغيره، وهي موجودة وغير موجودة في آن". وعليه، فقد شكّل توظيف ضمير المتكلّم في الرواية وسيلة لنشر آراء الكاتبة ومواقفها بشكل يتماثل فيه وعي الشخصيّة الأدبيّة- حنان وثقافتها، مع وعي الكاتبة وثقافتها. ومَن يقرأ الرواية يلاحظ هذا التفاعل الواعي أثناء كتابتها يرافقه وجع داخليّ. فصباح بشير حاضرة، في مواضع كثيرة في الرواية، بانفعالاتها وبمواقفها اللائمة والمستاءة والمعترِضة والمحتجّة على أحكام المجتمع: فتقول مثلًا-على لسان حنان:

"تبًّا لمجتمعات لا تحافظ على كرامة أبنائها. أشعر أنّ كلّ شيء حولي فقد بريقه. أمارس الصلابة والقوّة بينما ينهش العجز ما تبقّى من الأمل في قلبي. ولأنّني امرأة، مطلوب منّي أن أبرّر أيّ محاولة لممارسة الحياة". "البعض يظنّ أنّ الكفاح والمقاومة يكمن فقط في حمل السلاح. كم هو ساذج هذا التفكير! فكثيرون وكثيرات حملوا سلاحا من نوع آخر، سلاح مقاومة الفقر والاستغلال لكسب لقمة العيش بشرف وأمانة". "كيف يمكن إثبات جريمة الاغتصاب الزوجيّ كغيرها من الجرائم؟ كيف يمكن ذلك وهي تُرتكب في غرف النوم المغلقة واللحظات الخاصّة؟". "فهل تجعلنا المسافات البعيدة أجمل في عيون البعض؟ وهل الغياب يرقّق القلوب ويطهّر النفوس من الحقد؟ أم أنّ القرب هو الذي يظهر فينا كلّ ما يمكن أن يخفيه الغياب؟ لا أدري". "هل تحبّني يا عمر؟ نعم.. أحبّك. فقلت في نفسي: "حبّك برص"".

أسلوب آخر بارز في الرواية هو الوصف. جاء في معظمه متداخلًا مع السرد وساهم في رصد صُور الظلم والاضطهاد والخوف الذي يقع على المرأة- حنان التي عمدت الكاتبة إلى وصف أدقّ التفاصيل في مسيرتها الحياتيّة، لتُظهر امتداد خطّ المعاناة من بداية الرحلة إلى نهايتها. بالمقابل، نشهد في مواضع كثيرة، وصفًا تنعكس فيه حركة الحياة ونبضها واستمرارها: "حركة في كلّ مكان، أناس يروحون ويجيئون، ذاهبون إلى أعمالهم ومصالحهم بهمّة ونشاط، شعرت بنبضهم ووقع خطاهم على الطريق". وقوّة الشعب الفلسطينيّ الذي لا يستسلم بعد مشهد استشهاد خالد: "في المساء كانت الأضواء الصغيرة تلوح خلف شبابيك الحيّ وبيوته متحدّية كلّ الحواجز التي أقامها الغرباء". ووصفها الجميل لأبناء القدس: "فأبناء القدس مزهوّون بعزّة النفس والانتماء. يرسمون سياستهم الخاصة بهم عبر صمودهم وتلاحمهم وحبّهم لمدينتهم، يبرعون في صناعة الحياة، يشكّلونها بصياغة جديدة مدهشة مبهرة في الجوهر والعمق، يحيكون منها نسيجًا جميلًا من الأمل والصبر".

أمّا اللّغة فقد كان لها الدور الهامّ في تقريب القارئ إلى الرواية. فهي واضحة، منسابة، جميلة وفي بعض المواضع ساحرة، خاصّة في الوصف.

وبعد،

نجحت الكاتبة في رسم نموذج نسويّ هو ضحيّة شروط ومفاهيم أسريّة واجتماعيّة وسياسيّة جائرة، حين أخذتنا في رحلة إلى ذات البطلة وسبرت أغوارها وكشفت عن أوجاعها الداخليّة. هذه المرأة مرّت بسلسلة من الإحباطات والخيبات، ولكنّها في كلّ مرّة كانت تنهض من جديد وتتابع حياتها مُستمِدَّة القوّة من ابنتها التي لا تريد لها حياة كحياتها.

حرصت الكاتبة على تصوير البطلة ضمن المشهد الواقعيّ الذي يتقبّله ذهن القارئ ويجعله يستحضره بسهولة وسلاسة. فلم تبالغ في وصف تمرّدها بشكل يُخرجها من دائرة الواقعيّة، بل جَعَلَتْنا شاهدين على السيرورة نحو التمرّد ونحو التغيير، وكيف تحوّلت من امرأة جبانة وخائفة إلى امرأة جريئة وقويّة، ولكن بعد أن دفعت الثمن وانطفأت روحها وغابت مظاهر البهجة والفرح عن حياتها مرّات كثيرة. حنان هي امرأة متمرّدة متردّدة، وليست متمرّدة مهاجِمة وثائرة، فما زالت تحسب حسابًا للأهل والمجتمع وفي هذا واقعيّة كبيرة وصدق كبير. إذ لزمها سنوات حتى تتمرّد بحدّة وترفض وتخرج على التقاليد والعادات والمفاهيم الاجتماعيّة والدينيّة، وتذهب في رفضها إلى ترك البيت والبلد والوطن واختيار السكن في بلد أوروبيّ متحرّر لتُعيد هناك إنتاج ذاتها الإنسانيّة.

ما يُحسب للرواية أنّ الكاتبة طرحت وضعًا نسويًّا تعاملت معه تعاملًا يرقى إلى مستوى الهمّ، إذ لم تكتف بنقل معاناة المرأة بتفاصيلها الدقيقة، بل اهتمّت بالكشف عن العوامل المختلفة التي آلت بها إلى هذا الوضع ومعالجة مشكلاتها من الجذور، والعمل على إيجاد حلول لها. وعليه، لم ينحصر دورها ككاتبة في كونها ناقلة لواقع المرأة الأليم فحسب، وإنّما ساعية إلى تغييره.

وأخيرًا،

نجحت صباح بشير في كتابة رواية مُستوفِية لشروط نجاحها وخصائص قدرتها على إحداث التفاعل بين القارئ والنصّ. ولا ندّعي هنا بأنّها رواية كاملة متكاملة، فقد كنت أحبّذ مثلًا لو حذفت الكاتبة سطورًا من بعض الحوارات التي دارت بين الشخصيّات، ولو التفتت أكثر إلى الجانب الفنيّ الجماليّ. إلّا أنّنا نرى في الوقت ذاته، أنّ هذه الرواية تُشكّل أساسًا قويًّا لتجارب روائيّة مستقبليّة نشهد فيها تطوّرًا طبيعيًّا وصقلًا للقدرة الإبداعيّة الكامنة لدى الكاتبة. فقد أبدعت صباح بشير في كتابة رواية مشدودة في حبكتها وفي رابطتها العضويّة القويّة التي جعلت منها بناء متماسكًا عبر أسلوبها السرديّ القادر، ضمن مبناه ومعناه، على إثارة الحافز وعلى خلق هذا الترابط العاطفيّ القويّ بين القارئ والشخصيّة الروائيّة.

الرواية ناجحة بوضوحها وسلاستها وبرسمها للواقع الذي تعيشه المرأة الفلسطينيّة، والأهمّ بصدقها. فالمبدع الحقيقيّ هو الذي يستطيع أن يعبّر بصدق عن التجربة الإنسانيّة وعن الهمّ الإنسانيّ. وصباح بشير، بتورّطها في الرواية، أقنعت القارئ أنّ روايتها هذه هي شعور قبل أن تكون رغبة في الكتابة. فأصبح فعل الكتابة مُلحًّا وضروريًّا.

تنتهي الرواية من حيث بدأت، من على شرفة منزل بطلة الرواية في القدس، وهو مشهد هامّ. إذ لم نجد هناك امرأة جريحة، منهزمة، منكسرة وذليلة. بل قويّة، متّزنة، متفائلة ومستمرّة في الحياة. وفي هذا تكمن قوّة هذه المرأة وتميّزها. لم تستسلم للحزن وللظلم، ولم يضعفها الجرح، وإنّما بقي إيمانها قويًّا بأنّ الحياة مستمرّة، وأنّها ربّما تخبّئ لها شيئًا جميلًا سيُسعد قلبها ويُبهج روحها.

***

د. رباب سرحان

.....................

* (نصّ المداخلة التي أُلقيت في حيفا، في أمسية إشهار الرواية في نادي حيفا الثقافيّ، بتاريخ 16.3.2023)

نمهّد بالقول ان الرواية العراقيّة لم تعرف عملا روائيّا انشغل بالقتلة والعاهرات والمثلييّن والغلمان واللواطييّن ومتعاطي المخدّرات ومربي طيور المهارشة.. كما هو الحال في رواية (الحُلْو الهارب إلى مصيره، للروائي وحيد غانم، الصادرة عن منشورات دار الجمل - 2016). بمعنى انها صادمة في موضوعها وليس فتحا روائيا، فهناك الكثير من الروايات الاجتماعيّة، المختلفة ادبيا، قد خاضت في الكل العراقيّ ولم يكن فيها العالم الجواني لهذه الشريحة المنبوذة سوى عارضا يستدعيه المشهد. خصلة الرواية هذه قد تعطي الانطباع بأنها "فضائحية" تميل إلى الشهرة وتسرد حكايات بعيدة عن الواقع وصراعاته الاجتماعيّة، ولكن مع تقدم السرد نحو عالم المهمشين والشاذين نجد أنفسنا امام رواية متماسكة، سلسة وخالية من الاغواء، تزامن موضوعها مع غروب شبح الديكتاتوريّة ودخول الاحتلال الأمريكي وانهيار الدولة العراقيّة وهروب الاف السجناء من القتلة والشواذ الذين اجتاحوا المدن وأطلقوا العنان لرغباتهم المكبوتة، اشارت فيها ممارساتهم البشعة إلى ان خلافهم مع المجتمع وليس مع السلطة الحاكمة.

احداث الرواية تجري في أمكنة كئيبة؛ سجنٌ للمجرمين وبيتٌ للدعارة وسوقٌ لبيع الطيور احالت ممارسات زبائنه القبيحة إلى مَعانٍ اضعفت مرجعيته التجاريّة وصوّرته مكانا مكروها. المؤلف يصف المكان لكنه يركز على العالم الداخلي لشخوصه وهم يتجولون بملابسهم الرثة في سوق الجمعة ويتابعون حفلات مهارشة الديوك ويتنافسون على صبيان حلوين. شخوص لهم مواض صاخبة ساهمت في رسم ملامحهم لاحقا ووضعتهم خارج الدائرة "الأخلاقيّة" للمجتمع، بقيت فيها سكاكينهم قرب أيديهم تنزلق بخفة ودربة للفتك بمن يعترض سبيلهم لأتفه الأسباب. اشارت التلقائيّة واللغة المتدفقة في بناء المشاهد الروائيّة إلى جرأة المؤلف ومعرفته العميقة بأمزجة شخوصه وبمتعهم المنفلتة وبمتعهم المقيدة شكليّا وبتلك المتع المنحطة والمركونة في جارور الذاكّرة الاجتماعيّة. وهي كلها، المتع، منتجات محليّة لمجتمع محافظ ومنافق يستعين على مصائبه بالكتمان لم يعمل الكاتب سوى على ابرازها والانشغال بها. وغني عن القول ان الرواية التي تعبر بصدق عن واقع معاش وتتناول بدراية موضوعاته الشاذة والمنحرفة هي ليست بالضرورة رواية منحطة، فالانحطاط جذوره في المجتمع وليس عند الفرد او عند الكاتب الذي التقط الشخصيات والظواهر الاجتماعيّة. والقارئ يستطيع رؤية ان المؤلف في تناوله لهذه الثيمات لم يدنس بها معلما او مقدسا، وتوقف طويلا عند الممارسات اللاأخلاقية لوجوه المجتمع الدينيّة والأمنيّة باعتبارها جزء فاعلا في الخراب المجتمعيّ؛ توقف عند استغلال العقيد (عبود زماطة) لموقعه الأمنيّ، وعند الدور التخريبي لرجل الدين (سيد علي) وعند الانفلات المجتمعيّ في غياب مؤسّسات الدولة بعد الاحتلال..

تميزت رواية (الحُلْو الهارب إلى مصيره) بتنوّع شخوص الهامش وتناقضهم وازدواجيتهم، كما هو شأن العالم السفلي. فيها السرد تنقّل بين زمنين؛ الماضي عبر تقنية الاسترجاع وتذكّر البدايات الصعبة للشخوص، والحاضر الذي يكشف عن استمرار مأزقهم في بلد مضطرب ومحتل، وفي الزمنين نجد العنف القسوة والفظاظة هم الذين يحركون الاحداث. الشخوص هم العنصر الأهم في الرواية، الشخصية المحورية "عباس الأعور" قاتل منحط ينتمي لفترة صعود الديكتاتوريّة بالعراق، يتسم بملامح باردة وبهياج داخلي مفرط، لم يبتسم أو تسقط دمعة حزن على خده طوال صفحات الرواية، فغياب العواطف مسألة جوهرية في رسم صورة شخص مهووس بالقتل والاغتصاب. "عباس الأعور" بعد ان غادر بيت امه الممرضة في سن السادسة عشرة بات السجن والاسواق وأحياء الفقر هي أمكنته المفضّلة، وبعد سقوط النظام السلطوي وخسارته وظيفته كقاتل محترف في الاجهزة الأمنيّة، بات يمارس العنف في أي مكان وضد أي شخص؛ سياسي، فنان، غجرية، عابر سبيل، تاجر في السوق، عجوز عمياء. شخصية "عباس الأعور" العنيفة تجعل كل الذين من حوله موضوعا للشك او البطش أو الجنس، وضرباته السريعة والجروح الصغيرة القاتلة التي يتركها على أجساد ضحاياه تشير إلى طبيعته الغادرة وإلى قدرته على قتل حتى مَن يمارس الجنس معهم. الجنس بطبيعته حالة إنسانيّة، حيوانيّة، فيها الكثير من الحب والقسوة والقلق، ولكنه في رواية "الحُلْو الهارب إلى مصيره" نجده أكثر غموضا من ممارسات بهيمية اخرى. وكان كلما حوصر "عباس الاعور" وشعر بالخطر تهوش شياطين شبقه الجنسي، ثم يهيم على نواصي الشوارع لإفراغ توتره السادي في اول جسد يصادفه دون إحساس بالجمال والانوثة؛ يفرغ توتره في زوجته المهملة " حنّون" أو في سجين كان معه في الزنزانة أو في العاهرة المترهلة التي احتمت به او يفكر بإفراغه في ابنتها المراهقة أو في أبن جارتها الصغير السن. وهو "عباس الأعور" مع كل تجربة منحطة يعود بقوة مضاعفة وبشبق مستطير لممارسة الجنس والانتقال من فراش إلى آخر ومن دبر إلى فرج. غالبا ما تصاحب هذا الشبق شهوة القتل بعد ان ينتهي من افراغ حاجته، دون إحساس بالذنب او شعور بمن يفرغ فيهم حاجته، كما فعلها مع أم صديقه "ستار ماما" (لم يفكر طويلا، لثم عنقها بتروٍ ناهلا لذته من حرارتها وخوفها، ثم سحب مسدسه الكاتم ونسف دماغها.. اهتز جسمها بعنف تحته وشعر بتقلص لحمها وانقباضه على عضوه وكأن روحها هي التي تشبثت به، ارتجفت تحته ثم خمدت أنفاسها صــ 32). إن الحاجة المنفلتة للإفراغ الجنسي عند "عباس الأعور" مرتبطة بالعنف أكثر منها بالجنس، فلقد ساهمت تجربته القديمة، كقاتل محترف في أجهزة الأمن السْريّة، في ان يعيش اسير نزواته الآنية والسيطرة على ضحاياه عبر ممارسات مرعبة وصادمة لا يمكن فيها معرفة المسافة الفاصلة بين الواقع والخيال. ومع افتراض توهج وتشاؤم مخيّلة المؤلف في رصد الاحداث فإن الرواية لا تخلو من ظل ممارسات حدثت في الواقع، في مدن غير البصرة وبغداد، وبالتالي فإن وضع "عباس الأعور" في خانة البهيمية وإطلاق الاحكام الجاهزة عليه ليست إجابة مقنعة عن أسئلة ما برحت تشغل عقل القارئ: هل "عباس الأعور" نموذج انتقالي من مرحلة الديكتاتوريّة السياسيّة إلى مرحلة الفوضى السياسيّة التي وهنت فيها الأفكار والقيم؟ أم هو اختلال في شخصيته ضارب في عمق المجتمع العراقيّ؟ أم أن التغييب المجتمعي لهذه الشريحة هو الذي أفلت جنونها وأمدّها بسلوكيات قبيحة؟

الرواية، ومنذ صفحتها الأولى ودخول "مهنّا يسر" الحمّام للعناية بجسده الخنثوي، تمهّد لسياق جنسي سيجتاح الرواية حتى صفحاتها الأخيرة، وسيرتبط ذلك على الدوام بالخوف والإكراه والفظاظة. يتصاعد فيه السرد أحيانا إلى مصاف التحليل النفسي في وصف عمليات القتل والاغتصاب والاختطاف، إذ لا يمكن تناول هذا النوع من الموضوعات دون دراسة الخلفيّات النفسيّة والاجتماعيّة للشخوص. "مهنّا يسر" الواقع في ورطة جسده المائع، حيث تنتشر انوثته على جسده ومشيته وعطره، هو نتاج عائلة بصرية هانئة، تعرض مبكرا لعملية اغتصاب أدت إلى انجرافه نحو ميول منحرفة رافقته طيلة حياته. مخيّلته الرخوة صارت تهرب بعيدا عن واقعه المزري، فهو لا يريد الاقتناع بان زمنه قد ولى بعد عبوره سن الاربعين وتراجع عدد الفحول الذين كانوا يتزاحمون من حوله. وكان كلما ذهب للحمّام وزاد من كمية المساحيق وفترات التدليك، زاد حزنه وتلفته لماضي جسده الناعم. وعنوان الرواية (الحُلْو الهارب إلى مصيره) يلمّح إلى ذلك. رغم غرابة شخوص الرواية إلاّ ان سياق الاحداث استمر يسير مع الشخوص، حافظت فيه اللغة على طراوتها وعنفها، والاحداث على انسيابها الصادم من دون القفز على الواقع أو اغراء القارئ بتغيير مستقبليّ أفضل لشخوص الرواية المنبوذين، كما عودتنا الروايات الاجتماعيّة. نلمسه في خلو السجناء تماما من الأمل بحياة محترمة بعد هروبهم من السجن، وفي استمرار "عباس الأعور" على ممارسة العنف حتى السطر الأخير من الرواية، وفي تأثر البنت الصغيرة بسلوك أمها العاهرة، وفي تحوّل المثليّ "مهنّا يسر" إلى مهنة الدعارة وتعاطي المخدرات والاحتماء بالشقاوات، بعد عبوره سن الأربعين واصفرار اسنانه.

رواية (الحُلْو الهارب إلى مصيره) التي رويت بالضمير الثالث هي رواية الواقع وضده، رواية الصراع على النفوذ والمال والجنس، الأمر الذي استدعى زيادة جرعة العنف للتعبير عن طبيعة الحراك الداخلي للعالم السفلي؛ عنف في اللغة والافعال والاسماء (جبار طلقة، قاسم الشرير، واثق كبسلة، عباس الأعور). صفحاتها الــ (375) تشي بفحولة طاغية، فيها الكثير من الممارسات الجنسيّة الخالية من الحب والعواطف، إلى جانب عمليات اغتصاب في السجن لا يمكن هضمها، إلاّ انّنا لا يمكننا القول انها رواية قضيبية، فالمؤلف دأب على الاشارة إلى رموز حسيّة وشهوانيّة، وضحلة أحيانا، من دون الذهاب بعيدا في الوصف أو في تسمية الأعضاء بأسمائها. ففي السجن يتذكر "عباس الأعور" كيف أحبّ (نيّل الفتية الوسخين واخافتهم بسلاحه وشاربيه وتحشيش النارگيله، تمتع بجلودهم الرطبة ورائحة النتانة التي حرم منها صــ 34) وفي رسمه صورة "مهنّا يسر" المثليّ في عزلته يقول (في عزلته كان يعشق ملاسة بشرته فلا يرى سوى شعيرات شقر في ابطيه وعانته، وهي الشعيرات التي أحبها عشاقه.. كان يملّس ذراعيه وصدره، بمتعة قطة تلعق نفسها صــ68) في الحقيقة صفحات الرواية مليئة بمشاهد عاصفة رويت بلغة ليست مفخمة لكنها صريحة في نقل الواقع المر للشارع العراقيّ، لغة راوحت بين اللهجة الشعبية واللغة الوسطى، بين الشعر والنثر، واتسمت بشذرات فلسفية تلمع احيانا بين السطور (أحيانا لا يتعرف الموت على أحد حتى تنبعث إشارات خاطئة منه صــ11) لكن المؤلف لا يفتعل العمق الفلسفيّ، فشخوصه تمتعوا بوعي انسجم مع عالمهم السفلي (عباس الأعور يرى ان المرأة يجب اذلالها من أول يوم في حين الصبي الحلو يحتاج وقتا أطول لترويضه صــ104)

ينبغي الإشارة هنا إلى تمييز سلوكي بين شخوص العالم السفلي؛ بين مَنْ يلهون بإيذاء الآخرين وبين مَنْ يقنعون بمصيرهم المأساوي. فالعاهرة والمغنية العجوز و "مهنا" المخنث والسجين صغير السن.. هم جزء من هذا العالم الجواني لكنهم غير ميالين للعنف، ولذلك نجدهم أكثر واقعية، يستظلون بحماية الاقوياء ويستمدون حضورهم من لحظات ضعفهم الحميمة. لقد نجح المؤلف في توزيع القلق على شخوص الرواية بحياد حسب موقعهم وقوتهم، كل منهم أخذنا إلى نوع مختلف من الكبت والقسوة، إلاّ ان النجاح الفني الأكثر وضوحا في الرواية يبقى هو التأمل العميق في التفاصيل الصغيرة لحياة شريحة تعاني فقدان الحب والأمل بحياة أفضل. غاب فيها المثقف نهائيا عن صفحات الرواية، وحضر السياسيّ بصورة متقطعة نلمحها فقط في شخصية "صبري العياش" الخياط الوسيم واليساري صاحب المكتبة الصغيرة والأفكار "المجرمة" والذي سيختفي في ظروف غامضة وإلى الأبد. ومع غياب المثقف والسياسي تحتشد الرواية بكائنات فرعية هي جزء من المنظومة الاجتماعيّة، في اسفلها "ستار ماما" الذي عمل في أجهزة الامن السْريّة والذي ينقلب صوته الغليظ إلى حشرجة نابحه لحظة تنفيذه عمليات الاغتيال. "سيد علي" الذي يدير حفلة مهارشة الديوك بكوفية حالت زرقتها تحوّل بعد الاحتلال إلى قائدٍ سياسيّ ودينيّ تحت أمرته العشرات من المسلّحين والعاطلين. العقيد "عبود زماطه" الذي تتيح خفارات الليل له العبث مع النساء الموقوفات وابتزاز أي شخص تطأ قدمه المكتب. وهناك "جبار طلقة، قاسم الشرير، واثق كبسلة.. وغيرهم ممن تضيق في عالمهم المضطرب مساحات الحب والنعومة والجاذبية لصالح العهر والاغواء، وتساوقا مع ذلك غابت عن الرواية مفردات الحب والجمال والتمتع بوجه المرأة وتضاريسها لتحل محلها مفردات الاغتصاب والقتل (كأنما الشهوة والموت متلازمان دوما في عاصمة الليالي القديمةصــ142)

نختم مقالنا بختم الرواية الذي لم يكن متوقعا، فطوال السرد لم يكن "عباس الأعور" اعورا، لا أحد يعرف كيف وأين اكتسب اللقب، ربما اكتسبه من ديكه الهراتي الذي فقد عينه في مهارشة، ولكن الغجرية العمياء التي غرزت اصابعها بعينه واطفأتها، في نهاية الرواية، هي التي أعطت اللقب حضوره المادي. كانت الغجرية قد شمّت رائحته في واحدة من جولات تسكعه (ورأته بعينها العتيقة المليئة بالحزن والغضب والثأر، هو، هو نفسه، صاحب السيف الثقيل قاتل بنتها ورفيقاتها الغجريّات.. ربما احست بلحظة فرح تعادل عمرها عندما امسكت بالسياف القديم وخدشت وجهه بأظافرها، فقأت عينه، تحت انظار جمهور متعطش للحياة والموت والانتقام واللذة صــ375).

***

نصير عواد

الأيقونة الشعرية تؤول في تشكيلات حسية الحلم والظل

توطئة: تمثل الأجزاء الأولى من إيحاءات ورؤى وانطباعات مشروعية القصيدة في ديوان (مساقط الظل) للشاعر الصديق نصير الشيخ، ضمن متواليات منظورة ومتناظرة في عمق تشعبات وتمفصلات (خطاب القصيدة الظلية) أو ما يسمى بقصيدة التوقيعات ذات النزعة الخاصة من الحيوية البلاغية والحافزية الدلالية الموظفة باعتبارات محتملات استيهامية تتولدها أوجه مراوية من لعبة الدلالة المزدوجة في آليات ومكونات الخطاب الشعري المكثف في أفضية تجربة نصوص هذه المختارات الشعرية المؤتلفة.

ـ قصيدة التشكل المقطعي والبنية الفاصلة:

ما يمنح شعرية ديوان (مساقط الظل) ذلك التوجه الاستعاري في تمظهرات أوجه من المحتمل الدلالي، هو ذلك الوازع التأثيري المصاحب بين الملفوظ النصي وحدود شكله المقطعي المرقم أعلاه. وربما إن طبيعة فضاء (قصيدة الظل) كحركة أكثر صدورا بالعلاقة البنائية الفاصلة بين بنية وأخرى، هي ما جعل من خيوط الشد الخطابي أكثر جاذبية ومحورية للعملية الأسلوبية الواردة في محصلات المساحة الشعرية الفاعلة في حراك دوال القصيدة. نتابع مثالا ما جاءت به قصيدة (لذائذ الورد) من وحدات متتابعة، إذ لا تفصلها سوى الأحياز الرقمية الإعدادية وصفة زمنية البياض الفضائي:

ــ 1 ــ

أيتها اللذة

أسحبي بساطكِ

من عروقي. /ص7

ونحن نعاين صفة المخاطب بدءا في تصديرات الجملة الشعرية الأولى من النص، إذ تساورنا من خلالها تصويرية الغواية التركيبية في جملة (أيتها اللذة) وإذا عاينا الجملة ذاتها في مساحة خطابها، لوجدناها قابلية تختزل لذاتها جملة انطباعات آنية من ذات العنونة المركزية (لذائذ الورد)، ذلك لأجل اختزال مستوى محدد من التمثيل في إطار جهة المخاطبة (أيتها اللذة: سكونية الملفوظ ـ أثرا على وظيفة مكونة) فإذا تابعنا ما يوافيها لاحقا من جملة (اسحبي بساطك) لوجدنا أن حالة الجملة جاءت على حدود علاقة غائية، ولو بصورة جزئية ومفصولة عن مسار حدوثها المحتمل من المعنى. ولكن المشهد الشعري بأحواله النواتية بدا لنا مسارا معلوما، ليس بكيفية اكتمال الجمل والأسطر، بل بما يتعلق بالبنى والروابط الماثلة في مستوى اللغة كوظائف إشارية ووصفية وإرسالية (مرسل ـ مرسل إليه / مشار ـ مشار إليه) ومن هنا أي من حدود جملة (من عروقي) نستدرك غائية الاعتبار المسند إلى جهة (الذات ـ كقصدية جهاتية) وتحولاتها في الشطر القادم من المشهد:

ـ 2 ـ

أيتها الحكمة..

امنحينا خيمةً

وسطَ صحراءِ السؤال.. ؟. /ص7

نحن هنا أيضا إزاء بنية خاصة في التشكيل الخطابي الذي تشتغل مؤدياته عبر سياق خاصية الجملة الاستفهامية أخيرا (أيتها الحكمة: موقع تعقلي / أمنحينا خيمة: وضع سيميائي قيد الإيحاء / وسط صحراء السؤال: الإحالة الاستعارية في علاقة معادلة) وهكذا بدت الصور الشعرية كمحكى قصدي ينسج في ملفوظه مساحات متعاقبة من الاستطراد والملامح العلائقية الواقعة بين أفعال وظواهر الدليل المضمر في مشخصات المعنى.

ـ رؤى بزوايا التشكيل ووظائف ملاذات الحلم والمرايا:

وضمن الدائرة الحوارية المنسابة شعرا تنكتب أشكال ومضامين من خيارات الذات الواصفة، ومن خلال لغة تتقصد لذاتها مرادات (القيمة التشكيلية شكلا) خلوصا مقرونا بالأبعاد التلفظية وأنفاسها المعلقة في أحوال ومداليل (الظل ـ المرايا) بحثا في نتائج تراكمات الصور والأحوال الذاتية، وهي تتلمس طريقها بالحضور المتخيل في سياقات الدوال الشعرية. نقرأ ما حلت به وظائف قصيدة (مساقط الظل) من زمن غيابات ونهايات المدن العابرة في أوجه خاصة من الاغتراب والاغترابي:

لافجاجاتِ الحلمِ

ولا نهاياتِ المدنِ

عابرةً لممركَ السري..

لافضاءاتِ الغربةِ،

وهي تستكينُ من طرادها المستديمِ.. /ص11

إن الحديث عن مؤولات الصورة الشعرية، ليس بالأمر اليسير، خاصة عندما تلحقها مصاحبات قادمة من مداخل جمالية نابعة من المعارف التشكيلية أو المحصلة الإطارية من متاهة الدوال الحلمية في فضاء القصيدة. لذا فإننا عندما نقرأ (لا فجاجات الحلم.. ولا نهايات المدن.. عابرة لممرك السري) إذ تباغتنا بصورة فورية ما يكنه المعنى العلامي والمرتبط، عبر قيمة محمولة من ملازمات خلفيات عالم اللوحة التشكيلية، حيث حياة المحاور الصفاتية والوصفية والموصوفة تبدو وكأنها منظورات قادمة من فضاء تشابك الخطوط والجهات والتعرجات الجمالية في مكامن المفهوم التكويني الموظف في أيقونة الصورة الشعرية. وتبعا لهذا نجد إن مجمل أسانيد الدوال في مراحل البوح المتخيل، تحمل في طياتها قواسم وكيفيات وتعابير أثار تقترب من (حلم ــ رؤية ــ تأويل) وعندما نقوم بتلفظ المزيد من الجمل كحال (فجاجات الحلم ــ نهايات المدن ــ ممرك السري) ترانا نستحضر العلاقة الحاصلة بين (اللغة ــ الصورة ــ الحلم) كما أن أمر الكشف عنها كفاعلية في مرحلة التماثل مع الأنواع الأخرى من خطابات الفنون، لا تعفنا من التعامل وإياها كمحمولات شعرية في مكونات قصيدة لذا يلزم علينا تحديد أوليات الأصل في وظيفة النص كمستويات علاقة لغة وصورة وتساؤلات وتوالد حلمي مع جملة خيالات مراوية في عوالم قصيدة المرايا.

1ــ وحدات الدال ومجال فعله:

من البين إن قناة اشتغالية الدال في مسار الملفوظ عبر بنية النص، ذا مهام غير متجلية أحوالية من جهة ما، والأمر الآخر يتعلق بفعالية مجاله الموضوعي في النص، كحالة أو حالات تنتمي إلى صلب رؤية الشاعر الضمنية في إقرارها الدلالي. أقول إن قصيدة الشاعر محفوفة بتشكلاتها اللغوية، وهذا الأمر ما جعلها تبدو في وظيفة الدال كحالة مرسلة إلى جهة إمكانية متشكلة كقول النص في هذه الأسطر: (لا كفضاءات الغربة، وهي تستكين من طرادها المستديم) طبعا إن ظروف قدوم هذه الجمل تتابعا من خلفية (ولا نهايات المدن، عابرة لممرك السري) فعبر هذا وذاك يلاحظ القارىء أن ما يقع بين هذه الجمل، ما لا يشكل معرفا بدوره بالموضوع الذي تنحدر منه بدايات النص ولا من جهة توافر واصلات دلالية بطريقة ما، ما جعل الأجزاء العلوية من النص وكأنها لا تنتمي إلى الأسطر المعروضة قاب قوسين. هذا بدوره ما يعكس حقيقة أن أوجه واصلات الملفوظ لا تبرز في دائرة التمثيلات المباشرة من القول، بقدر ما يجعلها كإضافات محمومة بالاطراد والتوزع دون توافر حلقة الإيصال الفعلي بما يحيط المرسل الشعري من دلالات رابطة، ولو بمقدار جهد الاحصاء. أما لو تعاملنا من ناحية كون لغة الشاعر متكاثرة في محاورها ومستفيضة في بواعثها، فذلك دليلا راجحا على أن أسلوب التعاقب ما بين المفردات كان له مجالية خاصة من مؤشرات الأفعال والرسم بالحروف وبالامتداد الضمني المستكين. وفي مثل هذا الحال يمكننا الجزم بأن آليات السياق لها طاقتها ومحفوفيتها في رؤية الشاعر المتعددة، كما جاءت به هذه الجمل من مظاهر ضمنية من الكشف والمحسوس اللاظاهري:

أفول ٌ

أقمارك السبعة على ورقٍ لا يجفُ،

وبياضٌ هذيانكَ

كخيوطِ دخانٍ في علبةِ صمتْ... !! / ص12

لا شك في أن عاملية المشار إليه (الآخر) هو ما تسمح به الأبنية الاستعارية، وإقامة التوارد والتشكل معه توصيفا، لذا يمكننا تأشير مستوى الغياب بالارتباط مع جملة السابق (تؤبن فيك الهبوط) وعلى هذا النحو حلت لفظة (أفول) تدليلا إلى أقيسة العلاقات الغيابية في (أقمارك السبعة على ورق لا يجف) وجملة (وبياض هذيانك) وغيرها كجملة اللاحق بوصفها الوحدة المستعارة نحو مسارية تعجبية في التوزع والمفترض والنتيجة.

ــ جهات القرائن وإحالات السياق التشكيلي:

أظهرت تجربة ديوان (مساقط الظل) مدى علاقة التوافق بين دلالات القرائن وسياق وشكل الوظيفة الإحالية التي من شأنها تحفيز علامات الاتصال في حركة وشواغل دال المركز (الغياب: ودائع ــ تركات: توليد انقطاعي) وهذا المنحى هو الأكثر إحداثا في سيرورة (القرائن = إحالة = دليل) وقد تضمنت دلالات وعوامل قصيدة (ودائع) ذلك المعنى الموزع بين مؤشرات مكانية وبؤرة زمنية تداركها الخذلان والأفول والاحباط المعنوي في ملامح ووجوه الجنود العائدون من الحرب:

شرفاتٌ معلقةٌ بلا وردٍ

طرقاتٌ مغبرةٌ وإنكساراتُ ظمأْ

صبرٌ موزعٌ على الأسيجةِ،

بلا دفوفٍ أو أكاليلِ رمادٍ... عادوا. / ص18

تتحدد علاقة الجنود القادمون في حركة مساحات جدبة و متوترة، تعكسها أفياء القرائن التفاعلية: (بلا ورد.. طرقات مغبرة.. انكسارات.. ظمأ.. بلا دفوف) إن المراد من وراء هذه المؤشرات الدلالية، هو ذلك الوضع الاخفاقي السائر على ملامح عودة الجنود وأسرار خيبتهم المتصلة ومجال دلالة (أكاليل رماد) وتتعاقب وحدات القرائن الاستعارية في شحوبها المتمحور على هيولة أوليات الأشياء والحالات والمواقف المتصاعدة في خطوط مأساوية ـ ميلودرامية (عادوا.. يخبهم قيظ مرير) أو جملة (يختفي بجيوبهم صنوبر الظلمة) لقد تأسست المقاطع الشعرية في حدود من أوجه القرائن الأحوالية العاكسة لحيوات مرايا الموضوعة الشعرية إذ تبدو القصيدة وكأنها مرثية حول ذلك العرس الدموي المتعاضد بين ذوات الجنود ومظاهر حالات الإيحاء في وجوه المدينة:

ترابُ السرُفاتِ يملأ حنجرةَ المدى،

النهرُ أضيقُ من وساوسهم،. /ص18

هكذا تتسع أشداق بانوراما التوليد الشعري لدى الشاعر، لتلتقط أحوالها السرية عبر معوقات خاصة، ظاهرها آفات الحرب، وباطنها عبرات مكتومة تنم عن ويلات وتراشح مشاعر الهلاك في صدور الجنود، هذه القصيدة على حد تقديري كقارىء، تحمل أوجاعا خاصة ومخصوصة لا يشعر بها سوى ـ جنديا شاعرا ـ أو رساما يمتلك أقصى دقائق الحسية الصورية في أبعاد شعرية هذه المشاهد المؤلمة.

ـ شعرية رؤى القصيدة وآليات تشكيل الشعر:

كما قلنا سابقا في أحدى فروع قراءتنا المبحثية هذه، بأن المبدع نصير الشيخ من أبرز الشعراء الذين يتعاملون مع أدوات الذائقة الشعرية بموجب معالجات متصلة وفاعلية وإمكانية خطاب اللوحة وجمالياتها الذوقية والتوصيفية، لذا فنحن مع نصوص تتشكل بمحاور وتعابير فضاءات القيمة التشكيلية في الفن الخطابي الشعري، وذلك عبر ماهية أفكار الصورة المجعولة والملتزمة في غمار اشتغالاتها بالمستويات الأكثر تصورا وتصويرا وتشكلا وكفاءة. نطالع ما جاءت به قصيدة (أضيئي يا سنوات العتمة):

بلا زادٍ وموسيقى،،

أعمى الكمانِ،

يلوذُ بالوردِ بلا أشواقهِ المتشابكة

يزحفُ كالعشبِ كليلِ العاصفة

يتقشفُ الليلكُ من أسرارهِ. /ص21

وينطوي هذا المدى من الرؤية في مغامرة الشكل الأكثر توغلا في معالم (الصورة ـ مكامن الرؤية ـ كفاءة الفاعل الدال) وبمعنى ما نقول أن الشاعر يود أن يقدم نموذجه الشعري عبر مساحة محفوفة بالتوقد والعنفوان التصويري، ذلك تبعا للعنونة المركزية النواتية (أضيئي يا سنوات العتمة) حيث يتعامد الدال الشعري في وضعية الفقدان (بلا زاد وموسيقى) تحديدا كيفيا عبر جملة اللاحق (أعمى الكمان) الذي راح يستعين بمجلى مسار التوليد عبر جملة (يلوذ بالورد بلا أشواقه المتشابكة) فهنا إذا حالة مفقودة في كينونة الدال الذي راح يستأنف كشوفاته عبر جملة (يزحف كالعشب ــ كليل العاصفة) وما يديم خيبة التوقع هو ذلك الحد من الاستدلال في كونه (يتقشف الليلك من أسراره ) وعلى هذا النحو يحق لنا التساؤل حول أساس هذا البعد من القول الشعري: فهل من يحدد تجليات الكتابة لدى الشاعر النص أم اللوحة؟ إذا افترضنا بأن النص هو الأول والأخير في مشاغل هوية الرؤية الشعرية للملفوظ، فلا أتصور من جهتي أن القصيدة حمالة لكل هذه الأوجه من الرسم والصورية، دون الاستعانة بوسائل بلاغية أكثر اقتدارا؟ ولكن من الواضح أن الشاعر كان منقادا من أفق الصورة وحجم زمنها الأيقوني المبثوث على فكرة اللوحة، وليس من تمفصلات مقادير التصوير المشهدي في النص، ذلك لأن اللغة في المتن النصي، بدت وكأنها تلك الأبعاد الثبوتية في مساحة بوح اللوحة وليس اقتصارا على حركية أفعال الرؤية الشعرية. ولكننا مع ذلك نرحب بهذه التقانة الجميلة من لدن الشاعر الذي هو أيضا له الباع الطويل في منطقة التذوق الفني، ما جعله شاعرا حاذقا في رسم عوالم اللوحة الشعرية في مجمل أبعادها المؤثرة:

بلا زادٍ وموسيقى

خفياً يستردُ غناءهُ

ويحبسُ بالراحاتِ أوردةَ الطبيعةِ،

يقطرُ الرمانُ من أحزانهِ،

... واقفٌ يلكأُ أغصان التوجسِ،

من ساقِ سنبلةٍ بقرني الفجيعةِ،. /ص25

ــ تعليق القراءة:

هكذا وجدنا مجمل الأجزاء الأحوالية في دلالات قصائد ديوان (مساقط الظل) كمعادلات بوحية ذات مؤثرات معالجة مبعثها فضاء اللوحة التشكيلية التي استأثرها الشاعر بخطوط المشهد الذاتي وتفاصيل وخلفيات أخرى من حضور الموضوعة الشعرية المعاينة لأشد مؤشرات بؤرة المسكوت عنه الذي غدا تشعيرا في الانموذج الشعري ذاته وعبر حالاته التي لا تغادر أفياء شجرة الشعر وخطابه المحفوف بأسمى الاشارات والعلامات المكتنزة والمتمكنة في حالات ذائقة المقروء الشعري.

***

حيدر عبد الرضا

يهتم الأدب الواقعي بالتعبير عن هموم المجتمع وقضاياه المتنوعة. وتكمن مهمة الواقعية بمحاكاة الحياة اليومية ورصد مظاهرها الإجتماعية.وتعتبر القصة القصيرة أكثر الفنون الأدبية مرونة وتجريبا للتعبير عن تجارب الواقع. ويجب أن تكون القصة الواقعية ذات بناء محكم ومترابطة الشكل كما يجب أن تكون مكثفة ومركزة. أما بالنسبة للحدث والموقف فمنتزع من العالم الإنساني.والشخصية يجب أن تكون مستوحاة من أشخاص واقعيين.وإذا تحدثنا عن الحوار فيجب أن يكون نشيطا ومؤثرا في نفس المتلقي.

وقد سعت هند خضر بقدر طاقتها الإبداعية أن تنظر إلى المجتمع بشمولية تامة في مجموعتها (مسافة أمان). حيث تناولت قضايا طبقاته وأظهرت رأيها في ما يعترض المجتمع من ظواهر ومشكلات مثل ظاهرة الحب، الثراء، الفقر، قضايا المرأة، الحياة، الموت، الفساد والطفولة وغيرها.ومن هنا نستطيع القول بأن مسافة أمان تنتمي إلى الواقعية الشمولية.

ففي القصة الموسومة ب روح الحياة نجد واقعية الحدث تتمحور حول حادثة واحدة وهي الطفل مجد الذي افترش الرصيف وهمَّ بتناول قطعة من البسكويت ذات وقت مسائي وموقف البطل منه، وقد جاء في مشهد واحد صورته لنا هند خضر. وفي عنصر الشخصية ركزت الكاتبة على البطل فوصفته بعدة أوصاف في ثنايا القصة (إنها عين ذاك الملاك البريء الذي ألقت به الأيام على رصيف منسي) (ولكن انفصال والديه عن بعضهما أوصله إلى ما هو عليه الآن) (بشرته سمراء لفحتها حرارة الشمس دون رحمة) (على يديه تبدو آثار بقع سوداء نتيجة عمله في مكان لتصليح الدراجات النارية).وقد أسهمت هذه الأوصاف في تقديم البطل والتعريف به، وبيان علامات القهر الاجتماعي البارزة عليه في واقع مأساوي سببه انفصال أبويه وانتماءه إلى طبقة مسحوقة .كما تضمنت القصة على إيحاءات بطبيعة الوضعية النفسية لمجد المحروم من الدراسة مثل بقية أقرانه (يفترض أن يكون مثل غيره أبناء جيله يحمل حقيبة ويذهب إلى مدرسته ليتعلم القراءة والكتابة). وهنا تكمن المفارقة السردية التي تصنع ذلك التوتر المكاني التاتج عن صراع وتقابل ثنائي بين عالمين المدرسة والشارع، جسدته الكاتبة في قالب قصصي جمالي يعكس مجموعة من الأبعاد الإنسانية التي تتجلى في هذا الأفق التخييلي.

كما كان للشخصية الهامشية حضورا تمثل في رب العمل وأم مجد (مجد: أنتظر ربّ العمل ريثما يأتي ليأخذني إلى منزلي حيث أسكن مع أمي).

وفي القصة الموسومة بمقهى العشاق استخدمت الكاتبة لغة الحوار كعنصر مهم من عناصر بنائيتها وقد تبنت لغة حالمة عارية من الزوائد كي لا تصرف المتلقي عن هدفها الذي أرادت إيصاله من خلال طرحها لقضية متداولة وشائكة تخص معاناة المرأة، ذلك المخلوق الضعيف الخاضع للسلطة الأبوية التي تحرمها من حريتها. ويتضح هذا خلال ما جاء على لسان البطلة سهى لحبيبها ماجد (لقد تقدم لخطبتي ابن عمي، أعطاه والدي الموافقة وأرغمني على الأمر تحت ذريعة الأعراف والتقاليد من دون أن يأبه لمشاعري). فهذه العبارة على لسان سهى تعكس ما تتلقاه المرأة من تهميش وتقييد لحريتها بإجبارها على الزواج. ونجد هنا بأن الكاتبة سعت من خلال الحوار منح المتلقي متعة الاقتراب من نفس الشخصيات وكشف منطقها فبرزت تجليات الاتجاه الواقعي.

وفي القصة الموسومة ب ولادة جديدة تطرح هند خضر وضعية المرأة وواقعها المؤلم الذي تعيشه في ظل سلطة الرجل وقوانينه التي تخضع للتعنيف والترهيب من خلال البطلة رهف التي تتعرض لأبشع أنواع العنف الجسدي والنفسي من قبل زوجها، لكن الكاتبة والتي يتضح بأنها تقف إلى جانب المرأة الضعيفة تنتصر لبطلتها بشكل خاص وللمرأة بشكل عام من خلال رفض رهف أن تظل ضحية لرجل متخلف بقرارها الانفصال عنه وانتزاع حريتها (أمسكت طفلتها بيدها مغادرة بيت أشبه بالسجن بعد أن تركت له ورقة كتبت عليها: أنا لن أعود إليك). ويتجلى الواقعي في حدث هذه القصة بأن المتلقي يجده يقترب من منابع الحياة في اضطرابها وجريانها بسبب انهيار صرح التعايش الأسري.

وكما كان للمرأة نصيب في قصص هند خضر كان للرجل نصيب آخر، ذلك الرجل المحب في القصة الموسومة ب لذعات الغرام الذي ينتمي إلى طبقة الفقراء ويبتلى بحب غادة ابنة الأسرة الغنية. ها هو يفتدي حبيبته التي تصاب بالفشل الكلوي حتى بعد رفض الأهل خطبته من ابنتهم بحياته.

ومن هنا يتضح لنا أن الكاتبة استقت موضوعاتها من حياة الناس على اختلاف طبقاتهم الإجتماعية فاهتمت بالطبقات الفقيرة المسحوقة وطرحت في أكثر من قصة حياة البؤس والحرمان وأظهرت المفارقات بينها وبين الطبقة الثرية المتخمة. فكانت المجموعة بمثابة مرآة عاكسة للواقع الذي تعيش فيه الكاتبة وقد نجحت في تصويره ونقله كما هو.بقي أن نقول بأن أسلوب هند خضر تميز بالنزوع إلى البساطة والميل إلى الإيجاز والتركيز والاقتصاد في الوصف فجاءت القصة سهلة ومعبرة عن جوها الذي وقعت به وخصوصا تلك التي حملت قضايا. لكننا نجدها في قصص أخرى قد اعتمدت على الرمز والإيحاء وتيار الوعي لذلك جاءت تجربتها عميقة وذات رؤية مكثفة أرادت التعبير عنها بحيث لا تسلم نفسها للمتلقي منذ القراءة الأولى، فتبدو له مكتنزة بالكثير من المعاني والإيحاءات.

***

قراءة: بديعة النعيمي

إن الليل بوصفه زمنا نسبيا للمحو، أو لتعطيل البصري، وكمقابل لذلك، تقديس المسموع، أو النبر الذي تمليه طبيعة التعاقب والتحول، فضلا عن كونه، أي الليل، محتوى يتيح لنا إفراغ كبتنا وعجزنا البشري فيه، مثلما أنه مقبرة للأسرار، نلفيه يُنْقَع في شتى قوالب الاستعارات وسياقات البلاغة، بمعية الشاعرة التونسية العامرية سعد الله، من خلال مجموعة "امرأة في وادي الفراشات" في طبعته الأولى عام 2020، منشورات دار زينب للنشر والتوزيع، تونس.

يأتي هذا الديوان بعد الباكورة" نقر على أوتار الحرف" سنة 2015، الذي كتب عنه الأديب ماجد الربيعي، فديوان" حنين إلى مرافئ الحلم" سنة 2017.

تشبّعت تجربة الشاعرة العامرية سعد الله، بتمذهبات مدارس مختلفة وتشرّبت عصارة شعريات متنوعة، فتأثرت بكل من الشابي شاعر الخضراء، ودرويش والسياب وسركون بولص و أنسي الحاج وغيرهم.. فانعكس ذلك على عموم منجزها، ولقد كتب عنها وتناول شعريتها كثيرون، فعلاوة عن الدكتور منصف الوهابي الذي قال عنها: هذه "فانة" الشعر التي لا تغلق أبدا.. الوجه الابداعي لتطاوين.. شاعرتان متميزتان: هدى الدغاري والعامرية سعد الله).

قارب الشاعر والناقد التونسي الهادي العثماني تجربتها من خلال دراسة عنونها: "نصوص البدايات الواعدة بين الذاتي والموضوعي" و الكاتب والد أنور غنيمي من خلال قراءة بعنوان" أساليب نقل القارئ على عوالم النص"، ومناولتين أبحرتا في عوالم ذات الديوان الذي بين أيدينا، وقّعهما كل من الكاتب علاء حمد تحت عنوان" تكسير المتناهي في شعر العامرية سعد الله" والأديب احميدة الصولي" من مظاهر الانحراف الأسلوبي في دوان امرأة في وادي الفراشات".

هي كتابة المحو، عبر تقمُّص العديد من دلالات التّمحور على الهش والقابل للكسر، على نحو يفيده ويغذيه الأنثوي، مع حمل هذا المكون أو العنصر الفيزيائي على روح المُطلق، بما يمكِّنُ لصوت المرأة، محاولا منحها السلطة على سائر ما يُشكّل لها فروعا وامتدادات، باعتبارها الأصل والمركز على الدوام، تبعا لعوالم متوازية أو متقاطعة.

تتحلى الشاعرة بحضور إبداعي أفقي، يُغدق على النص من عتبات ومضامين النَّرجسي، ما يخوّل لها البصمة الخاصة، ويميّزها بين أسماء وازنة لها ضلوعها في الشعرية العربية الحديثة سواء داخل تونس أو خارجها.

أحيانا تتمّ قراءة المنجز الأدبي من عنوانه، لكن بين صفحات هذه المجموعة المائزة، يختلف الأمر تماما، وإن أحالت عتبته على جملة من التأويلات التي قد تترجمها أسلوبية التَّشْفِير، وتبْسط خرائطيتها لعبة الأقنعة، بيد أننا إزاء هذا العمل على انسيابتيه وبساطة معماريته وعمق ثيماته، نتذوّق إبداع المزج بين طوباوية النص وواقعية المناولة، ضمن إيقاعات الأنثوي المتشبّع بفلكلورية مشوِّقة تنصاع لها إشراقات وتجليات توليفة من الدوال، وكيف أنها توقّع فسيفساء بهذه الخلطة التي تتناغم داخل حدودها معطيات الجندرية والانتماء على حدّ سواء.

تقول:

{فارغٌ

من كلِّ بريقٍ

يُطفئُ فجرَه

ويلبسُ رداء ليله ...

ويمتصُّ بريقَ شهوةٍ

غافيةٍ في طينهِ،

يسْطو على رداءٍ متروكٍ

في بئْرٍ، لا تَرِدهُ دلاءٌ...

يقطعُ عراجينَ أملٍ

تلك المتسرِّبة منْ بين أنامِلهِ

دماءً...}[1].

ربط المقدّس النهار بالبصر، فيما الليل بالمحو، فأثنى على ناشئة الليل.

من هنا ندرك قيمة هذا المكون الفيزيائي، وقيمة الإبداع المنجذب إلى طقوسياته وعوالمه.

كتابة شاعرتنا كتابة محو، من الملفت ما تفجّرُ من صور انتهاكها للجسد مرورا بفخاخ غواياته وطوباويته، إلى واقع الدم، كيف لا؟ وهي ابنة أولى الثورات في عالمنا العربي المخزي بهزائمه وجبروت زعمائه وانتكاساته وتكالب الأعادي على مصالحه وثرواته.

نطالع للشاعرة أيضا، قولها:

{خلف النافذةِ العاريةِ

تمّحي التفاصيلُ

لا شاطئ للفراشات

الفراشات ... التي

نسيتُ ألوانها

على حافة

البروق الضوئية.

لا شاطئ للفراشات

غير خرائطِ الموت

تتفتّح زهورها}[2].

إنها مقاربة أخرى، متمردة على أنساق الكلاسيكي والمُتجاوز، تعرّي صفحات الموت في منعطف تاريخي حاد، كأنما يد مجهولة تحاول إعادة ترتيب مثل هذه الفوضى التي راحت تأكل الخارطة العربية .

كتابة المحو هذه، والموغلة في فصول الأنثوي، وعدل ما هي مسكونة بروح الانتماء، تقلّب هذه الصفحات بروية، وتغضّب خفيض، مشدودة إلى دهشة السؤال، ودوخة الكتابة، وأزمة الهوية، واستفحال الظاهرة.

تقول كذلك:

{لا ملجأ ... لا مخرجَ

لا نجمة ... تفكّ أسر الليل

لا جناحيْن لي

فاعِرني مئزَرك...

الجليدُ دثاري،

أعرني عينيك... أصلِ

صلاة القيامة

أعرني سفينك...

أزفَ الطوفانُ... ولا مرافئَ

لوجهي،

كل المدن تشظّتْ..

مدنٌ صامتةٌ

مدنٌ ميتةٌ

مدنٌ بلا عنوان...}[3].

هي نغمة تكابد اختناقها، تسري على غير هدى، وعلى نحو من التخبّط والعشوائية، مع تيارات اتهام عالم اغتال كباره عناوين الهشاشة والنضارة والنبل والجمال، لصالح أنانيات الساسة، والسقم الأيديولوجي المولّد لمزيد من الاضطهاد والسادية والقمع والتعصّب والإقصاء.

مثلما نقرأ لها:

{كان لا بد أن تخلع الغبار عن وجهك، وتبدو ناصع الخوف حتّى لا تنهشك الأفكار المتربّعة على عرش القصيدة...

عليك أن تقشّرها واحدة ... واحدة، وترميها في فوّهة البركان وتصطاد صورة تليق بوجهك الجديد، تعلّقها على صدر غيمةٍ حالمةٍ.}[4].

تلكم كتابة المحو، تبصمها الأنامل الحالمة، بما يجلو الغبار، ويؤجج خجل الأجيال أمام مرايا شوهها عالم جشع الاقتصاد، بخبث زعمائه، فكان أن عمّ الخراب وتنوعت الحروب وانبجست شلالات الدماء.

كتابة بحث عن ملامح البراءة، بنبر الأنثوي الذي لا يُساوَم في هشاشته وقابليته للكسر، بقدر ما يرفل في رداء صعلكته النبيلة، وخفيض ثوراته، ترعاه صور إبداع الليل، وهو يقول: نعم لكتابة المحو التي تزرع مدّ خيبات الكائن، ألوانا للحياة، وإنصافا للنوراني والمعطّل والمنوَّم فيه.

ختاما نورد بعض ما جاء في غلاف هذه المجموعة الجميلة والمتبّلة بمحطات تشاكل الهوياتي والجندري، كما أسلفنا، من كلمة للدكتور منصف الوهابي:

لعل أظهر ما يغلب على " امرأة في وادي الفراشات " للعامرية سعد الله الإحساس بسيولة الزمان والمكان: الزمان من حيث هو مكان سائل، والزمان من حيث هو زمان متجمّد، بعبارة ابن عربي.وفي هذا النوع من شعرية النثر أو " قصيدة النثر " يخترق الماضي الحاضر...

***

أحمد الشيخاوي - شاعر وناقد مغربي

.......................

هامش:

[1] مقتطف من نص" على ضفًّة رداءٍ متروك"، صفحة 14.

[2] نص "من حكايات الفراشات الضوئية "، صفحة45.

[3] نص "قيامة على قارعة الطريق"، صفحة60.

[4] مقتطف من نص" معالم خاوية لامرأة من وادي الفراشات "، صفحة118.

 

هلوسات من زمن الكوفيد للكاتبة خديجة أميتي

زيارة عابرة، هلوسات من زمن الكوفيد، مجموعة من النصوص أو أضمومة، تتوزع على (...) نص يجمع بين الرصد والتخييل، تحاول من خلالها الكاتبة رصد واقع حال الأزمة الصحية الكارتية التي أصابت العالم و شلت حركته.

أول ما أثارني وأنا أطالع نصوص هذه المجموعة من النصوص عن الكوفيد وتجلياته، أننا إزاء كاتبة تميل في كتابتها إلى السرد على شكل الحكاية، نصوصها تتسلسل فيها الأحداث مُشوّقة بأسلوب بلاغي والفاظ معبرة ذات شحنة عاطفية و في نفس الوقت حاملة لرسالة.

كل نصّ من زيارة عابرة يسرد لنا حكاية من زمن الكورونا بطريقة مختزلة ومكثفة.

تبدأ الحكاية عن المنبع الأول لهذا الوباء في "الصين" وتسرد الكاتبة بشكل دقيق أثر الحجر المشوب بالانتظار والاحساس بالخوف، تجربة قاسية سببت شللا عارما لكل أشكال الحياة. أسلوب يتخلله التشويق، نستمتع من خلاله بالاسترسال في قلب صفحات الكتاب بشغف لجمال الأسلوب ورُقيه.

في أول نص، تضعنا الكاتبة في الإطار العام لحالة الوباء الذي شل العالم، راسمة لوحة تجسد من خلالها ما آل إليه الوضع، واصفة بدقة وحرفية عالية واقع الكوفيد وآثاره النفسية والاجتماعية حين انقطعت الصلة الفيزيقية بين الناس وعوضتها وسائل التواصل الاجتماعي، تقول " مشهد فرضه الكوفيد وجعل الفضاء الأزرق نقطة ضوء نُطلّ منها على العالم الذي تجمّد فجأة وبدون سابق انذار، حيث أصبح التماس محظورا والعزلة قانونا. لحظتَها استسلمت الى الوحدة داخل صمت العالم"، وتسترسل في اسلوب شيق عن معاناة الإنسان في زمن الكوفيد، عن الرعب الذي ينذر بمستقبل مجهول، لتنهي النص بالأمل المفتوح على "غد يندثر فيه الوباء".

بعده تبدأ المشاهد في التواتر وملامح اللوحات النصية تؤثث فضاء الأضمومة.

في المشهد الثاني، وتحت عنوان "حزن إيطالي"، تأخذك الكاتبة في خشوع و في مشهد سريالي، لتجوب بك في دروب المدينة المائية، فنيسيا، المدينة الأكثر جاذبية للعشاق و السياح من كل أقطار العالم، والتي تحولت فجأة الى مدينة أشباح، لم يبق فيها الا سكانها المضطرون للالتزام بحظر التجوال. وفي تمازج بين ماض قريب وحاضر بئيس، تقدم الكاتبة صورة مقارٍنة بين حال المدينة قبل الجائحة: "أطفال يلتفون حول آبائهم بشغب وطمأنينة. مسنون يأتون لإحياء ذكرياتهم الجميلة حاضنين بعضهم بحب لا يتقادم مع الزمن". ملونة الصورة بألوان تاريخ المدينة العريق وحضارات توالت عليها و"غزوات تعرضت لها جزرها وقصورها المرصودة التي "تصارع عليها الأمراء لامتلاكها، وحفلاتها التنكرية وزمن متعة فائضة بحب طافح". استطاعت الأديبة خديجة أميتي أن تجسد المعاناة والحزن الذي عمّ بإيطاليا بطريقة مكثفة وبأسلوب شعري وغزارة في الأحداث. صورة ابداعية لمدينة تحتضر، تتساقط فيها الأرواح وتكثر فيها الوفيات، ورغم ذلك ظلت ايطاليا مستبسلة أمام الموت. وكأنني أمام لوحة من تلك اللوحات العالمية التي تثير فيك الدهشة، كلوحة دافيد "موت سقراط" تفاعلُ بين عناصر تاريخية وشخصية وسياسية وجمالية قُدمت ببراعةِ وبإتقان. فرغم بشاعة الموت نرى أيضا جمالية الفن والابداع.

من فنيسيا تطير بك الى برج ايفيل والشانزيليزي وشاطو فرساي بأسلوب أخاذ مُشوق وممتع، يتابع القارئ من خلاله بترّقب واستنفار، ثم الإغلاق في مدينة الأنوار. تقول الكاتبة " فراغها يزيد الحب إليها قوة والحنين بضجيجها حدّة". ثم تسترسل في الوصف بشكل يجعلك جزءا من المكان وشاهدا عليه، تسافر فيه معها الى عمق حضارة المدينة وأنوارها التي انطفأت وإلى المشاكل الاجتماعية التي طفت وإلى العنف داخل البيوت المغلقة واقتحام اللوحات الالكترونية الى عالم الأطفال وما سيخلّفه من سلبيات، لتنهي الكاتبة سردها بهذا الختم الجميل قائلة: "رغم أجواءِ الخوف والشّك، امتدت حبال التضامن عن بعد، لتنقِذَ أرواحا وتساعدَ من يصرخون من ألم الجوع والمرض والعزلة والنسيان. زمن أصبح الحب فيه لا يقاس بالقبلات بل بما تُقدّمه الإنسانية من دعم.

وفي نص "وحدي أحكم العالم"، رغم قصره، فإنه يحمل من العمق والمعنى عما يحصل في عالم البشرية... ويعبر عن خفايا الكوفيد وما وراء التخوم من الشرور والآلم الإنسانية، وتنهي الكاتبة هذا النص القصير جدا، الغني والمكثف، بأن هذا الفيروس الذي يحكم العالم ترعبه عيون العلماء التي تحمر عيونَهم من البحث دون لغط ودون كلل في إشارة إلى ما ينتجه الفراغ من توالد للإشاعات وتصورات نابعة عن الجهل.

من فينسيا وباريس تطير المبدعة خديجة أميتي بالقارئ الى المغرب، الوطن الجميل كما وصفته، وتضامن الشباب والشيوخ والاغنياء والفقراء والجيران. حتى من كان ينفر من الآخر تقرب اليه. الكل تلاحم وتظافرَ، وقفوا وقفة واحدة ضد جبروت هذا الفيروس. وتنهي كعادتها الكاتبة بقول مأثور:" سلام عليك يا وطني من بلاد غربة اخترناها مجبرين. فحبّك لا توقفه طائرات مجمدة على الأرض ولا بواخر راسية على الموانئ. لم تترك الكاتبة قضية في زمن الكوفيد إلا وطرحتها: نداء الأطباء للناس ان يمكثوا في بيوتهم رحمة لهم ورأفة بأطباءِ يعملون ليل نهار من غير كلل. كما تطرقت لمعاناة المسنين وحرمانهم من لقاء أحفادهم كما تعودوا، عادة هي خيط أملهم في سعادة نادرة. المجموعة ضمت كذلك مشاهد كثيرة عن مواقفَ انسانية جليلة واخرى غيرت من رتابة المرء وروتينيته الى حياة مليئة بالحيوية رغم قهر الكوفيد.

من خلال هذه المشاهد، وفي حركة ذهاب وإياب، ترجع الكاتبة بالقارئ إلى حيث تقطن، الى باريس وإلى حيها: ممر الكميليا، تصف المكان بدقة واتقان تجعلك حاضرا معها في الزمان والمكان. وتُعرفك عن تاريخ المنطقة وعن شوارعها وحدائقها: "صندوق تحرص ساكنة الحي على تطعیمه بما لذ وطاب من عالم الثقافة والفكر والروایة". مضيفة "ما أثارني وجذبني لھذا الصندوق العجیب ھو كم ونوعیة الكتب التي أعثر علیھا. الواقع أن في كل فضاءات الأحیاء الباریسیة تقف صناديق للكتب، ممشوقة القامة، متحررة من أیة جدران"، هكذا رسمت خديجة اميتي اللوحة بدقة وبراعة فنان متمرس.

نقاط كثيرة في هذا الكتاب طرحتها الاديبة من ضمنها اولئك المهاجرين الافارقة والاسويين والمغاربيين من الفقراء الذين لفظتهم بلدانهم ودفعت بهم الى الاقصاء. والعنف الاسري تحت ظل هذه الجائحة، وهي المختصة في علم الاجتماع والشاهدة على هذه النماذج التي تراها حسب قولها "شهابا من لهيب جهنم"، العنف التي تتوارى وراءه الستائر المُسدلة تكتوي بها نساء أدمنّ الصمت. كما تحدثت عن الشعور بالوحدة بالتأمل والترقب والامل والمشاكل الاجتماعية في المدارس في فرنسا ومعاناة رجال ونساء التعليم وعلاقات التلميذات والتلاميذ باساتذتهم، والاختلاف الثقافي والديني. وعن النوافذ في تلك المدينة التي تُفتح بشكل متزامن، لتنطلق التصفيقات بأكف واحدة مضيفين الى جمال اللحظة ترانيم موسيقية تبعث بالأمل لغد أفضل. ولم تستثن الكاتبة معاناة السياح الذين وجدوا أنفسهم "عالقين" في بلاد المهجر، وحملة التضامن معهم ...

أما اللقاح و ما راج عنه من شائعات فقد أفردت له فقرات عدة بأسلوب ساخر ينم عن روح المرح لدى الكاتبة، حيث قامت بنقل حوارات افتراضية تنم عن جهل الناس وأنانية بعضهم وعدم اكتراثهم بجدية الفيروس.

و الأجمل في الأضمومة أن الكاتبة خديجة أمتي جعلتنا نطل على الحياة في البداية من نافذة الحزن الإيطالي و مأسي الكوفيد، لتغلقها في النهاية و تفتح باب الأمل عبر "رقصة الحياة",

مواضيع كثيرة طرحت بأسلوب متميز ينم عن إلمام الكاتبة بميكانيزمات الكتابة و جماليتها.

بإيجاز شديد، هذا الكتاب بنصوصه المختلفة لما تحتويه من مواضيع أصابت الجسم الاجتماعي في العالم، يعلمنا كيف نتسائل ونجعل الأشياء والحياة والمعتقدات والوقائع والانفعالات موضوعا للتأمل والمساءلة والنقد والتحليل.

***

بقلم زكية خيرهم

لقد احتلت الثنائية حيزا بارزا في تفكير الإنسان منذ القدم وحتى يومنا هذا.وهي مهمة لتكوين ثقافة معينة لدينا. فالحياة فيها توازن وتقابل وهذا الاختلاف يقود إلى توجيه مسيرة الحياة نحو الأفضل. وقد جاءت الثنائية الضدية في قصص محمد حسين لتسلط الضوء على ثيمة أساسية وهي الصراعات الاجتماعية والنفسية. حيث كان للقضية الفلسطينية أثرا واضحا في قصص الكاتب. فالمخيم كبيئة له فرضت نمطا معيشيا دفعه للإحساس بالشئ ونقيضه في الآن نفسه. فكانت مدرات امرأة قد تهيأت لتكون مناخا خصبا لشيوع الثنائيات الضدية وهي وسيلة أسلوبية ناجحة لتصوير الواقع. ومن الثنائيات الضدية التي سجلت حضورا لافتا في المجموعة لا على سبيل الحصر، ثنائيتا الحلم/الواقع الليل/النهار الفرد/المجتمع الحياة/الموت الساكن/المتحرك. وقد تم الجمع بين قطبي الثنائية لتوظيفهما في فاعلية الإقحام ودوره في تشكيل الفجوة:مسافة التوتر التي كانت منبعا لشعرية مدارات امرأة.

وأفكار كتلك التي تبنتها المجموعة بحاجة إلى عنصر يدعمها في التأثير على القارئ وإقناعه وهنا يأتي دور الثنائيات الضدية.حيث أن من وسائل الإقناع الحجة العقلية القائمة على الاستدلال والمقارنة بين المتناقضين لتبيين المفارقة الشاسعة بينهما.فالنفس تسعى إلى الإتصاف بالإيجابي الحسن وتنفر من السلبي القبيح، والجدل والحجاج والرهان كلها تحتاج إلى التضاد وإلى الربط والمقارنة بين المتناقضين وهذا النوع من الربط يثير العواطف الأخلاقية والمعاني الفكرية في المتلقي وهذه الإثارة تؤدي إلى نتيجة هي التأثير والإقناع وتحقيق الغاية المرجوة وهذا ما سعى إليه محمد حسين في مجموعته. كما سعى محمد إلى تحقيق هدف نبيل وهو تعرية الحقائق وكشفها في مجتمع مستبد مجتمع الطرابيش وهو إشارة إلى الطبقة الفاسدة التي تتغول على قوت الطبقة المعدمة والمساس بأعراضها واستغلالها في أغراض غير شريفة كما جاء في قصة الوجه الآخر وغيرها من القصص.والشئ يعرف بضده فطبقة الطرابيش المتخمة يقابلها طبقة المعدمين الخاوية.

وتظهر آلية الحجاج التي تؤديها الثنائيات الضدية في (البوصلة) حيث يقول البطل (تمدحون الصدق وتكذبون، وتصفقون للحب وتكرهون، تتغنون بالعدل وتظلمون....افحصوا بوصلة قلوبكم كل يوم تعرفون). يتضح لنا بأن الكاتب هنا استعمل الثنائية الضدية للتدليل على رأيه وتدعيم فكرته.وهذا يعكس البعد الحجاجي لهذه الثنائيات والدور الذي تقوم عليه بغرض إقناع المتلقي.

واتسمت المجموعة بالشعرية التي أتت من الثنائيات الضدية الطاغية فيها، والتضاد عنصر هام في تحقيق فاعلية وشعرية اي نص أدبي فالعلاقة بين المتناقضين علاقة مقلقة وهو أمر يؤثر في المتلقي فينفعل ويشحذ ذهنه من أجل الوصول إلى دلالته المتداخلة. وقد قيل قديما (بضدها تتميز الأشياء). ومن هنا فإن الثنائيات الضدية كان لها الدور الأنجح في تحسين المعنى وتقريبه للأذهان وإثارة المتلقي واستفزازه وهذا ما كان في مجموعة محمد حسين فتفجرت المعاني والجمال من بين ثناياها.

وفي (خطوتان) تتعب البطلة رهام من الحياة فتخاطب سعيد( لقد تعبت يا سعيد في كنف الثنائيات..موت بطيء..موت سريع..حياة بدون حياة..أمل بدون أمل) فيحاول سعيد إقناعها بأهمية الثنائيات في الحياة (لكن لا تنسي أن الولادة من الخاصرة نازفة جدا ومؤلمة ، لكنها بداية حياة مثل اجتياز الخطوتين).

في (وثيقة سفر) نجد ياسر يشعر بالقوة بسبب انتماءه إلى وطنه فلسطين لكنه بنفس الوقت يعاني من الضعف بسبب حالة الاغتراب التي يعيشها في وطن ليس وطنه. ويظهر هذا على لسان ياسر( نظر خلفه مودعا، أطلق زفرة طويلة، لقد أعطيت هذه البلاد الكثير من الجهد والعرق والخبرة لكنها رفضتني). فرفض تلك البلاد له بعدما قدم لها الكثير جعله يشعر بالاغتراب وحسمْ أمره بالعودة إلى وطنه . وفي المطار تبرز ثنائية الحركة /السكون عندما يصر على البقاء على أرض المطار أو السماح له بالدخول إلى وطنه فيخبره شرطي المطار أن هناك قرارا بعدم دخول البلد لحاملي وثائق السفر لأن وطنه يرزح تحت الاحتلال. عندها يرفض ياسر المغادرة(سأموت هنا أو أذهب إلى وطني). فتمر الشهور وهو في حالة سكون تتمثل ببقاءه على أرض المطار وتظهر من خلال حالة السكون قوة الرفض بالترحيل واحتجاج على القرار.

وفي (لست تلك) نجد المكان مغتصبا للأماني في صدر بتول حيث تعقد مقارنة بين السماء التي تشعرها بالحرية حيث هوائها غير ممزوجة بالأتربة التي ترمز إلى التقييد والاختناق وضدها الأرض التي تغص بالجثث والجثث عادة ساكنة وترمز للموت، تقيد الحركة فتولد الصراع بين ثنائيات الأرض/السماء. لذلك نجد بتول تواجه طرفين متناقضين في ذاتها وفي المكان الذي أرغمت على العيش فيه.وفي (انكسار المرايا) نجد البطلة ترفض الجريدة وتخاطب بائع الجرائد (لا أريدها، الغِ اشتراكي بها لم أعد أحتمل ترهات الواقع المستبد..سأمضي إلى حلمي وأعلن انتصاري على فوضى الحواس).وهنا نستطيع القول بأن البطلة تولد لديها شعور بالضيق فتصارعت الثنائيات الواقع/ الحلم وتصادمت البطلة مع المجتمع وهذا الصدام سببه من وجهة نظرها المجتمع المستبد الذي لا يريد أن يفهمها.

وفي دائرة (الموت البطيء) ظهرت صورة الفرد في مواجهة العائلة والعادات فواقع البطل يتصارع فيه مع العادات التي يحكمه فيها من الزواج بابنة العم. حيث انتهى الحال بمعاناة وسام بسبب تلك القيود التي كبلت رغبته في الحصول على حبيبته سلوى فعاش اغترابا مع ابنة عمه لأنها كانت حائلا بينه وبين رغبته الحقيقية. وهذا ما ولد صراعا بين الثنائية الضدية الحب/الكره في نفس البطل دافعه به إلى عدم الإستقرار النفسي.فعلى لسان وسام عندما سأله منيب عن سبب عدم زواجه بسلوى (آه يا منيب، لقد أجبرني والدي على الزواج بابنة عمي وأنا وهي مختلفان في كل شئ).

وفي (الوجه الآخر) تعيش البطلة أماني زوجة العتال سعيد حالة صراع بين واقع ترفضه وهو واقع تنتشر به الطرابيش الفاسدة المسيطرة في واقع مستبد وتتحكم فيه بلقمة الفقير كما ذكرنا سابقا، وبين رغبة في العيش بهذا الواقع.فبعد انفصال أماني مجبرة عن زوجها وزواج عرفي مع الحاج فريد الذي لم يزر الديار المقدسة ثم استغلالها في علاقات محرمة لعقد صفقات تجارية تتحول الرغبة لديها إلى نقمة.فقبولها بالعلاقات المحرمة كان تنفيسا عن ضيق اجتماعي ويظهر هنا صراع الثنائيات من خلال ثنائية الفرد/المجتمع. فالمجتمع متمثلا بأصحاب الطرابيش الحمراء أجبر أماني على الوضع الذي زجت إليه دون رغبة منها وفقط من أجل إبعاد شبح الجوع عن عائلتها.

قصص محمد حسين جمعت بين الخيال والواقع ورحلة الإنسان مع الحياة بما فيها من تناقضات وما تضمنته من مشاعر إنسانية تضج بالحب والجمال عبر ابطال أظهروا تلك المشاعر وترجمتها بصدق ليتجلى الجمال في مواجهة أشكال القبح التي تصبغ الواقع.

كما اتخذت المجموعة من الإيحاء والرمز أسلوبا للبوح.

بقي القول بأن مدرات امرأة اتصفت بطابع الحزن لكن محمد حسين سمح لخيط من الفرح والسعادة انطبع بطابع القلق الوجودي والنفسي الذي سيطر على الأبطال بسبب واقعهم بالتسرب إلى دواخلهم.وكما قال سعيد لياسمين:

(لا يزال في الدرب أبواب مقفلة تخفي خلفها وهج الشمس مجبولة بالأمل)........

***

قراءة بديعة النعيمي

مقدمة لابد منها: اسطورة المسخ (فرانكشتاين) التي دشنتها الكاتبة (ماري شيلي) في الأدب الخيال العلمي (ما وراء الطبيعة) الصادرة عام 1818. ادهشت الكثير من الكتاب، وراحوا ينسجون سردهم الروائي على منوال أسطورة (فرانكشتاين) مستلهمين الفكرة الأم، فتوالت روايات (فرانكشتاين)، وهنا نحصي بعض الروايات الخيال العلمي الفرانكشتانية:

× رواية اسطور فرانكشتاين للأديب الدكتور أحمد خالد توفيق، الذي برع بحق في الأدب الروائي في الخيال العلمي (أكثر من 60 رواية) وروايته (أسطورة فرانكشتاين) هي إحياء جثة الميت بالشحنات الكهربائية في مختبر علمي وطبي.

× رواية آدم الجديد للأديب قصي الشيخ عسكر. الصادرة عام 2010، تعتمد على جمع الخلايا الدماغية (المخ) من الموتى في حوادث عالمية متفرقة. مثل حوادث الحروب (الحروب العربية / الاسرائيلية. حروب أمريكا في فيتنام) وحوادث الاحتجاجات الشعبية المتفرقة في العالم قمعت بالحديد والنار والقمع المفرط بسفك الدماء، مثل ما حدث في (الصين. الأرجنتين) تأخذ جثث الموتى وتجري عليها اختبارات علمية وطبية تحت اشراف عالم في الطب، البروفيسور ج، جونسون (امريكي من اصل بريطاني) يجري على الجثث تبديل الأعضاء الجسدية المعطوبة في تعويضها بأعضاء جديدة حية، لتمارس نشاطها بشكل مختلف عن السابق. وكذلك تبدل الخلايا الدماغية الميتة (المخ) واحيائها في خلايا مخية جديدة تعود لها الحياة، لتواصل مهامها وفق منطق ونظرية ومفاهيم العولمة الجديدة.

× رواية فرانكشتاين في بغداد للأديب أحمد سعداوي. صادرة عام 2013. يقوم هادي العتاك في جمع اشلاء ضحايا التفجيرات الارهابية الدموية، ويقوم بتخيط أعضاء الموتى لكي يخلق المسخ (شسمه)، ليقوم بمهام القصاص لضحايا التفجيرات الدموية. ولكن لابد من الاشارة البالغة الأهمية، أن فكرة هذه الرواية مطابقة بالتمام والكمال من فكرة رواية (آدم الجديد) للأديب قصي الشيخ عسكر. من حيث تجميع الأعضاء الموتى، وقيامهم بمهام جديدة، ولكن الاختلاف، أن كل روايات (فرانكشتاين) يجري تبديل الأعضاء الجسدية في مختبرات علمية وطبية بإشراف عالم طب، وليس عامل بسيط (هادي العتاك) يخيط ويبدل الأعضاء الجسدية الميتة، باعضاء جديدة حية. يعني تدخل في مفهوم السريالية الغرائبية.

×× رواية (آدم الجديد):

تشير بأنها نتاج ثمرة العولمة الجديدة، في التطور والتقنية العلم الحديث، ليصب في مآرب وأهداف خبيثة مدمرة، في مخلوق العولمة، في إعادة إحياء الخلايا الدماغية الميتة واعطائها اكسير الحياة مجدداً لتدخل في خدمة أهداف العولمة، يعني تكوين آدم الجديد على نقيض آدم القديم، في ماهيته وشخصيته وأسلوب تفكيره وشطب ماضيه، ليكون شخصية جامعة وشمولية في سلالة البشر، استنساخ انسان جديد في بوتقة العولمة، ولادة مسخ جديد تحت اشراف البروفيسور ج. جونسون (امريكي من اصل بريطاني) في دبلجة جديدة تذوب وتنصهر في هذا المسخ الجديد (الحضارة. الدين. الأصل. الهوية. اللغة. المسميات) في طريقة وأسلوب تفكيره، وان يلغي القيم والمبادئ والأخلاق الانسانية والدينية وتبديلها باشكال جديدة تخدم العولمة الجديدة، لذلك يشعر بالفرح والسعادة البروفيسور ج. جونسون في هذا الاختبار العظيم في الولادة، بقوله (أنا سعيد جداً، ربما لست اكثر منك، وافهم حزنك وسعادتك، سعيد لاني جمعت أنسانً يعد وريث بكل الحضارات والأفكار والأديان. الاسلام. المسيحية. اليهودية. ديانة الشرق القديم، الاسطورة الفلسفية، الأجناس، الاصفر والابيض والاحمر، الموروث العالمي عندك،وانا فخوراً بك) ص68.

هذه الدبلجة العالمية في العولمة في خلق وتكوين البشر في شخصية آدم الجديد، أو مخلوق الحضارة الامريكية والغربية، ان تنصهر كل الهويات في هوية واحدة (أنت، أنا، هو أنا، مسلم مسيحي بوذي) ص44. وكذلك تذوب كل المسميات في مسمى واحد، او يحمل كل عناوين الاسماء في عنوان واحد (شوان، خالد، موشي، بل، أنا هؤلاء.. هو، هم، انا) ص11. وكذلك الحال مع اللغات تنصهر في لغة واحدة في آدم الجديد، انها ما يشبه الكابوس لهذا المخلوق المسخ لذلك يتساءل (لكن كيف تمكنت ان اكتب بالعربية وانا اتحدث الصينية فقط ؟ لغتي الاولى العبرية والدنماركية، ثم تعلمت الانكليزية وبعض العربية، لمْ أمرُ بمثل هذا ؟ قد يكون حلماً أشبه بالكابوس) ص23. يعني باختصار العبارة حصر الصراع الحضاري الشرق والغرب بالحضارة الامريكية حصراً، هي القائد والمنفذ، وهي المسيطرة على العالم تحت وصايتها،بحيث آدم الجديد لا يعرف نفسه، ولا يعرف أين يتجه ويسير، انه دمية بصناعة امريكية تحركه وتدفعه، وحتى بطريقة التفكير، فقد اختلطت عليه الامور (أنا أم نحن ؟) (هو أم هم ؟)، وصعب عليه معرفة ذلك (- اريد ان اعرف من أنا وأين، وفي أي سنة ؟ أنا أم نحن) ص15.

هذا نتيجة تبديل الخلايا الدماغية (المخ) باعتباره مركز التفكير وطريقة سلوكه وتصرفه العقلي. لايحتاج من أجل استمراريته في الحياة سوى بتبديل أعضاء جسده المعطلة بآخرى، أو التي يصيبها العطل، في تبديل أعضاء جديدة ليمارس حياته في طوال سنوات عمره، ان يكون الجميع في شخص واحد. آدم الجديد. حيث يقول البروفيسور الأمريكي ج. جونسون (يمكن ان اجعل هؤلاء مجتمعين في واحد يعيشون سنوات طويلة، لا نضطر خلالها إلا الى تبديل الجسد) ص58. وهذا ما تفتقت عليه العقلية الأمريكية وتسعى الى نجاح تجربتها العالمية وتسعى الى قطف ثمارها (كل ما ارجوه أن تفهم أنك آدم الجديد، الذي يمكن نحفظ به البشرية مجتمعة، بكل تاريخها وحضارتها، وأظنك تتفق معي في هذا) ص59. هذا الاختراع العلمي الأمريكي في عالم اليوم، يشكل جريمة انسانية كبرى للطبيعة والانسانية تسعى الى تدمير العالم وتشكيله من جديد، وهذا ما نشهده اليوم، العالم بقيادة العولمة الامريكية المدمرة، بأن تكون رب البشر الجديد في مخلوق آدم الجديد.

***

جمعة عبد الله – كاتب وناقد عراقي

مجموعة" انثيالات عشق"نموذجا

إن فنّ الكتابة الشذرية ليملي على مبدعه الدرجات العالية من التركيز، وتكثيف المشاهد في أقل عدد ممكن من المفردات، وهو نزوع إنما يقود بالضرورة إلى اختزال التجربة إلى أقصى الحدود.

لذا نلفي هذا التوجه يمثل ديدن من يريدون الابتكار في المعنى واختصار الحيوات، فهم يقدّمون للمتلقي على نحو من الدقة والعمق، في الغالب، عصارة تقاطعات عوالم تنجذب ضمن فضاءاتها الذوات الطافحة بالمكابدات، إلى مثل هذا التعبير الوامض.

ثمة من هم على دربة ومراس في هذا المضمار، مثلما هنالك من يشكل هذا الخطاب الشذري في تجاربهم الباكورة أو الخطى الأولى، للإقناع والإمتاع.

فالتجربة التي بين أيدينا، تدل على ما فذلكنا له، إلى حدّ ما، والتي يقف صاحبها عند جملة من أغراض الخطاب الشذري، المبدع المغربي الشاب ياسين اليعكوبي، عبر منجزه" انثيالات عشق" مع إصراره الشديد على تشكيل حضوره الإبداعي الفني الذي تترجمه الومضة أو الشذرة.

قد يبدو من العتبة التي انتقاها لأول كتبه: انثيالات عشق، أن التيمة محمولة على روح الرومنسي، أو أن الذات حالمة، مترفّعة على واقعها، غير أن العكس هو الصحيح، فالفهم الصحيح للواقع لا يتم إلاّ داخل دهاليز تلكم الحلمية أو الهذناية القادرة على صناعة الجمال واستفزاز القارئ به، حدّ الإدهاش والصدمة.4945 انثيالات عشق

إن مثل هذا التقشف في اللغة والذي يسعف العبارة الخاطفة في سريانها، بحيث تعكسه صور الزهد في التفاصيل، لا يخلو من ملمح جمالي وإستطيقي يرعى الشعرية الحديثة، وينحت مضامينها، وفق القواعد المختمرة المنقوعة في اللاوعي، والتي تشد وتبهر، بل تصدم أثناء العملية التواصلية.

يقول الكاتب في إحدى المناسبات:

حتّى وإنْ كنتُ وسطَ حشدٍ مِن الناسِ، فإنَّني مِن دونِكِ وحيدٌ.

ويقول:

لا أستبعدُ إطلاقًا فكرةَ ذوبانِكِ في كوبِ قهوةٍ ساخن!

ويقول أيضا:

ولو أنَّ سيبويهِ رأى جمالَكِ، لوجدناه ينصبُ الفاعلَ ويرفعُ المفعولَ به، فما بالكِ بهذا العبدِ الضّعيفِ!

كما يقول:

عجِبتُ لأمرِ الصُّورِ الشعرية؛ كيف تصيرُ في حضرتِكِ حقيقةً!

ويقول:

حينما أخبرتُهم بأنَّني ظمآن، لم أكنْ –حينها - في حاجةٍ إلى الماءِ، بل كنتُ في حاجةٍ إليكِ!

يقول كذلك:

لا قبيلة بني هاشم، ولا قبيلة بني عبّاس، ولا حتى ليلى أحقُّ بالخلافةِ، وحدكِ الأحقُّ بذلك.

ختام القول أنه ومن خلال هذه المقتطفات، نستشف كيف أن الذات المبدعة في جنوحها للحظة الهاربة من جهة، وتباهيها بواقعية المشهد من جهة ثانية، تفتي بضرورة رفع المحبوبة فوق لائحة من المعطيات والمكونات والذوات العاقلة وغير العاقلة، ففي محطة يتم وضعها، أي المعشوقة، فوق التواجد الرمزي للمها، كما يتم السمو بها إلى الذروة في محطات أخرى، أي وضعها فوق حياة الشاعر وقصائده، ومن هنا، تتحقق الغائية من الفوضى البانية، وكيف أنها هنا في حالة ياسين اليعكوبي، تحاول تبرير أو بالأحرى تفسير لوذ هذا الكاتب بعوالم الشذرة واحتمائه بأقنعتها.

فحتّى سلطان النحاة سيبويه، لو رأى هذه المعشوقة المثلى إذا شئنا، لارتبك وهرطق في الكلام واختلّت قواعد اللغة عنده، دون هذا الحضور الاستطيقي القاهر، من قبل هذه التي يقول عنها اليعقوبي أنها ليست بامرأة، اقلّه في إدراكنا النمطي والمعتاد، كي يرعى بالنهاية قدسية الشذرة، ويحاول تكريس ثقافة هيمنتها عليه هو أولا، قبل إقناع وإمتاع المتلقي بها، ليس إغراقا في الضباية أو استغراقا للملتبس، إنما ذوبانا في تعشّق مكامن الجمال والذود عن رحابه.

يقول:

ما أكتبُهُ ليس غزلًا، ولم يكُنْ يومًا كذلك؛ لأنَّ الغزلَ -كما هو معروف - يُكتَبُ في حقِّ المرأةِ، أما أنا فأكتبُهُ في حقِّ حجرة!

***

أحمد الشيخاوي - شاعر وناقد من المغرب

حين يراقص الشاعر قلمه يمارس كل طقوس البوح، فتتحول الكلمات إلى ترانيم في معبد مقدس يقف عشاق الحرف امام آلهة الشعر يرتلونها ترتيلا، لا فرق بين الشاعر وبين المنشد الروحي (المرنم) وهو في معبده يستسلم لموسيقى روحية تحني لها ملائكة الشعر، عيونهم معلقة نحو المعبود، ذلك ما لمسناه في قصائد الشاعر العراقي مزهر حسن الكعبي العروبيُّ صاحب القلم الذهبي، فقد جمع الشاعر مزهر حسن الكعبي بين الإدارة والإبداع، وكلاهما تؤديان دورا جليا في النهوض بالأمم، فالتسيير إبداع وفن وثقافة أيضا، ولعل من لم يقرأ شعره يجهله خاصة من خارج العراق، فهو إلى جانب منصبه المهني كمدير لمركز الدّراسات للكليَّة التّربويّة المفتوحة ثم وزارة التربية، فهو ناشط جمعوي في العراق وفي الوطني العربي، حامل شهادة ماجستير لغة عربية، وحاليا يحضر لشهادة الدكتوراه في المجال نفسه، ولم تلهيه دراساته العليا عن المشاركة في الهيئات التي لها علاقة بالإبداع، حيث تم اختياره لترأس لجنة التحكيم لمسابقة " أبابيل" الدّولية للشّعر العمودي وكان في عضوية اللجنة شعراء عرب من مصر ولبنان.

استطاع الشاعر العراقي مزهر حسن الكعبي أن يجلس على عرش الإبداع في قلاع تقيّم الحرف والمبدع مهما كانت جنسيته، لأنها تعبر عن روح طاهرة تحلق في سماوات هذا الكون، ما مكنه من أن يكوّن له رصيدا أدبيا كلها دواوين مثل: (ديوان صلوات لعينيها، ديوان حين يستنطقون الصَّمت، ديوان براعم من صهيل الشمس، ديوان أزاهير الزّغاريد، ثم ديوان تنهدات ثُريا الفلق، ديوان حبل على رقبة المطر)، كما كانت له مشاركات في أعمال أدبية جماعية مثل ديوان النخلة لا تنحني للريح، وديوان في رحاب كربلاء السلسلة الأدبيّة وقصائد بصرية من الأدب البصري الحديث وبحوث منشورة في مجلات عربية مُحَكَّمَة، والمُطَّلِعِ على كتابات مزهر حسن الكعبي يقف على أن الرجل ليس شاعرا فحسب، بل هو لغوي مُجَدِّدٌ، حيث دأب على البحث في الظّواهر اللغويّة في استعمال الفعل الأصَم والسلم الصوتي العربي قديما وحديثا كما نقرأ في (حَبَّ.. حُب َّ.. وأحَب َّ) في الاستعمال اللغوي وله دراسات في الأفعال المُضَعَّفَة في القرآن الكريم.

وقد حظيت مؤلفاته إعجاب القارئ العربي من المحيط إلى الخليج، فكان أكثر اهتماما بما يبدع، ومن خلال ما كتبه النقاد عنه نجد أن مزهر حسن الكعبي ليس من الذين ينزوون على أنفسهم، رغم أنه قليل الكلام ويغلب عليه طابع التأمل، فهو أكثر انفتاحا على الآخر وعلى العالم، لا يجد صعوبة في ان يفصح عن ذاته كما قال عنه الأديب ناظم المناصير، فقد عمل على صقل قلمه وفق ما يقتضيه الذوق والجمال، فالشاعر الذي لا يجعل من شعره موسيقى فهو يفتقر الى الذوق، فالجمال والروح الإبداعية نلمسها في شعره، مما قرأناه من أعمال مزهر حسن الكعبي يلاحظ أن ما يكتبه يشبه " الهايكو" فمثلا يقول في إحدى أعماله سمّاها ناقوسيّات من النّثر الفنّي

حين َ يداهمُني الظّمأ ْ لابد ّ أن ْ أعبرَ إلى ضفَة ٍ أنت ِ فيها.. فهاتي يدَيك

حين َ يَلُف ُّ بُردتي الظّلام ْ لابد ّ أن أفترش َ الحَصَى بنور ِ شمسِك

حين َ تَستَغلِق ُ روحي بالحنين، لابدّ أن أنقل َ فيضَها، إلى أكُف ِ الملائكة ِ وأتوسّد زَغَب َ جناحيك

حين َ تدور ُ الأرض ُ خارج َ المسار ْ لابد ّ أن ْ أبحث َ في وجهك الوضئ عن ملاذي َ اللذيذ ْ

حين َ تغادر ُ العصافير ُ أعشاشها، أمد ّ يدي إلى صغارها بالدّفء، فيلثُم ُ الزّغَب ُ المبتل ّ بالحنان ِ أناملي

حين تغتلي الأرض ُ بالطّوفان.. لابدّ من الفرار إلى زورقك ِ والضّفة العاشقة

حين تغادر ُ عيناك ِ قبو َ فكري أشعر ُ بظلام ٍ مخيف

كوني معي كي لا تحتطب َ الدهشة ُ أصابع يديك ِ وقودا ً لدفء ِ حياتي

لا مكان للموت سعيدا ً إلّا بين يديك وناقوس ِ قلبك

خُذي حَذَرا ً مِن البرق ِ ولا تحترسي مني، فأنت ِ.. في قلبي متى أشاء

لابد ّ أن أضع قدمي َّ على مواضع ِ قدميك ِ تَبرّكا ً.. وموافاة

.. لا أُحس ّ بالجوع ِ في الزّمن الصدئ " فليس َ بالخبز وحده يحيا الإنسان

غريب ٌ ألّا تعبري معي وكلانا ينشد ُ البحث َ عن فضاء يعج ّ، بالضّباب ِ والمطر ْ وشمس ٍ لاتغيب

لماذا تُتْرَك ُ العصافير ُ تغادر ُ أعشاشها وتموت..؟

في ليلة ٍ.. تَوَحّد َ وجهك ِ ونور السّماء، فصلّيت ُ لله ِ ركعتين

لأنّنا لا نولَد ُ مرّتين ِ ولا نموت ُ ميتَتين ِ.. ودِدت ُ أن ْ نظل ّ معا ً.. متلاصقَين

في إبريق محبتك ْ أستنشق ُ عطر َ حياتي، وفي نجوم السّماء ِ أرى عينيك ِ توقظاني

بالأمس ِ.. أغرَقَني الحنين ْ، فالتفَفت ُ بعطر صوتك ِ، وَفَيْضِ حَناني ونمْت ُ احْلُمُ بكَفّك ِ توقِظُني للرّحيل

في لَيالي الشتاءْ أَتَعَرَى اِلّا مِنْ حُبكِ الَّذِي يَكُونُ مَلاذِي َ الوَحيد

أَن َّ الماء َ بلا لون ٍ، ولا طعم ٍ، ولا رائحه، أُحب ّ السّباحة َ فيه ِ، مُعْتَنِقا ً صفاءك ِ وجَسَدا ً بلا ألوان

لا يستَوْطِنُ جَوْفَ الليلِ اِلّا حُبُّك ِ، وجنوني

غادرت ُ مُعتَمرا ً، وعدت ُ مُعتَمِرا ً وبين َ جوانحي.. حبّك ِ في الرّحلَتَين ِ أنيسي

و نحن نبحر مع هذه الكلمات ينتابنا شعور وكأننا طيور النورس تراقص الأمواج وهي تردد نشيد البحر، فنحن نلمس في كلمات مزهر حسن الكعبي الجمال والرقة والعذوبة كما نلمس فيه شغفه، فالشاعر يجب ان يكون إنسانا قبل كل شيئ، عاشقا لكل شيئ، يرى الحياة بلون وردي، لا يوجد فيها سواد، يعانق الطبيعة، يرقص كعصفور يغني على فنن شجرة في يوم ربيعي، هكذا هم الشعراء لا يتكلمون لكن حين يكتبون تقرأ في قصائدهم كلاما كبيرا، يكبرنا، لأن لغتهم تختلف عن لغة الناس العاديين، فقد نجده يتناجي بين فلكه ودائرته وهو يعيد رحيق الماضي، هو ما لمسناه في هذه "الناقوسيات"، فعلا كانت كلمات تشبه إلى حد ما ناقوسا يدق في عالم النسيان، وهو بذلك يستحق تكريما خاصا ومميزا، للإشارة أن الشاعر مزهر حسن الكعبي تم تكريمه بجائزة "أديب النخيل" التي تقيمها رابطة شط للثقافة والإعلام في طبعتها الأولى بالتعاون مع إنجاز بمحافظة البصرة وذلك بعد فوزه بالمركز الأول لعام 2022، كما حصل على عدة شهادات منها شهادة خاصة من طرف منظمة السلام والثقافة الدولية، وينتظر الشاعر العراقي مزهر حسن الكعبي صدور دواوينه الجديدة وبحوث لغوية وكتب، لتكون إضافة إلى المكتبة العراقية وتكون في خدمة القارئ والباحث العربي، ما يمكن اقتراحه هو أن تترجم أعمال هذا الشاعر إلى لغات أجنبية حتى يقف الشعراء الأجانب على الشعر العراقي (البابلي) في أبعاده الحضارية.

يذكر أن مزهر حسن الكعبي فاز بالمركز الأول لجائزة "أديب النخيل" لعام 2022 في نسختها الأولى

***

ورقة قدمتها علجية عيش من الجزائر

 

"فضاء ضيق" الصادرة عن دار الفؤاد للنشر والتوزيع/2019،  رواية الأحلام الموءودة في حضرة الحكايات التي لم تكتمل في بيوت بلا حنين أسفل عتباتها لأرواح تحتضر على تقاطعات اليأس والموت. 

تُعد هذه الرواية عملا فنيا بأبعاد تاريخية سياسية واجتماعية. حيث قدمت لنا صورة حقيقية للواقع في العراق.وما لفتني فيها قلة الأحداث وتعدد الأفكار وسط واقع سوداوي. وهذا أمر طبيعي، إذا أن ما حدث في العراق الذي احتضن على مدار عقود أحداثا ساخنة من حروب وغيرها أدى بأفراده إلى الشعور بالتهميش والطبقية وتضيق الأفق بالإضافة إلى اهتزاز بعض الثوابت. ولأن الأديب جزء من المجتمع فقد جاءت فضاء ضيق للكاتب علي لفته لتمثل عالما يضيق فيه فضاء التنفس، فالهواء آسن خانق.إنه عالم الفوضى حيث البقاء فيه للأقوى أما الضعيف فإنه منغمس في رذائله للحصول على ما يقوّم به الجسد. ولا قواعد تضبط غرائز ساكنيه، تختلف طرق السرقة وتتعدد، السياسة، الدين، السلطة.

التقى في هذا الفضاء الضيق أصدقاء بأفكار متضاربة.فمحسن يحمل نظرة نيتشة وعلاء يحمل فكرا شوبنهاريا وحليم يتمسك بالدين أما مجتبى فيرفض السلطة الأبوية ويركل العمامة. لكنهم يعيشون معا التهميش الطبقي، يرون السلطة التي تمارسها الدولة بأجهزتها القمعية المسؤول عن تفشي كل ما هو غير أخلاقي.

وما بين المقدس والمدنس والمقدنس وكآبة الواقع وبؤسه تدور الأحداث في قتامة مفرطة في فضاء ضيق. ففي ص8 على لسان السارد (ماذا ستنفعنا الإنتخابات والوجوه ذات الوجوه والحرب ذات الحرب والأرامل يزداد عددهن والأيتام بلا مأوى؟ وربما هو جلد الذات كما تسميها، لكنها الحقيقة التي تبحث عن معادلها في تحقيق العدالة، والسؤال الذي لا يحقق المصالحة مع الذات، وكأن البلاد لا تستيقظ إلا على المتناقض المتسرب من بوابات تحكّم العقول والمهيمنة على مخارج الأفكار).

إن النزعة السوداوية التي أطرت فضاء ضيق جاءت نتيجة واقع مأزوم أصبحت فيه الشخصية تعاني من مختلف الجهات، سواء على المستوى النفسي أو الإقتصادي أو الإجتماعي لدرجة أن مفهوم الوطن تغير في ذهنها.ويتضح هذا فيما جاء على لسان السارد عن مجتبى الذي حرم الورثة بسبب رفضه ارتداء العمامة ص37( لا يشعر بضرورة النسب أة الانتماء إلى المدينة فهذه الأشياء بحسب رأيه لا تعطيه الحرية ولا تمنحه العدالة في اختيارته).

وأبطال فضاء ضيق ضحايا الواقع،  وأكثر الضحايا كانت المرأة التي ضاق عليها هذا الفضاء بسبب الحروب وترملها في سن صغيرة تلجأ إلى الجمعيات تجر خلفها أيتامها تبحث عن كفيل يؤمن لقمة شحيحة لهم، ففي ص53 (الأرملة التي تغطي حاجتها بالصمت تبحث عمن يمد يده ليمنح عدالته لتعيش بعد أن يئست من إيجاد من يمنحها العيش تحت سقف غرفة دون ذلة). وإن تعسر عليها ذلك وقعت ضحية شهوة الذكور لتتحول إلى بغي ساقطة.ويتضح هذا ص 96(فثمة ما هو يستغل العوز للحصول على أنوثة صارخة إذا ما تمكن من صيدها). ومن خلال ذلك يفضح علي لفته تلك التشكلات الأيديولوجية التي كونها العقل الذكوري عن المرأة وأنها مجرد جسد يفرغ فيه نزواته وشهواته بطريقة حيوانية. فنجد الكاتب يغوص بنا على طريقة نيتشة فيزعزع ما هو مقدس ويفكك ما هو أخلاقي عن طريق شخصية محسن التائه ما بين القبور والأرامل والأيتام، تضمد جراحه كلمات تملأها الأحلام،  تمنحه لقاء مع سلوى التي خانت زوجها جريح الحرب التي قطعت ذكورته بقصف أمريكي. سلوى السراب الذي تلاشى كما تلاشى الوطن وذهب دون رجعة.

محسن الذي يظل طيلة صفحات العمل يبحث عن سلوى ويتقصى أخبارها.محسن الجنوبي الذي لم يبقى أحد له سوى طيف أمه ففي ص84 (كنت تنظر إلى النجوم، إلى شئ أبيض يقترب منك قادما من عمق السماء، يقترب منك يمسد على رأسك..). محسن المغترب داخل وطنه الملئ بالخوف والاضطراب، يعيش مأزق الذات الذي لم يجد سبيلا للخروج منه إلا حينما التقى بسلوى ووقع في حبها، فصنع له هذا الحب عالما ساعده على طرح الأسئلة، هذه الأسئلة المطروحة تثير الكثير من الإشكالات المتعلقة بالهوية ورحلة البحث عن الذات الضائعة، تتحرك داخل فضاء تتصارع فيه مجموعة من القيم تعكر حياة الشخصية وتجعلها تشعر بالعجز وعدم القدرة على فهم ما يجري.ويتضح هذا على لسان السارد وهو يخاطب محسن ص19-20 (منذ أن غادرتها هاربا وأنت بلا سبيل أو هدف... لأنك تعيش روحانيات متناقضة، وأدرك عدم قدرتك على أن تكون باتجاه واحد). إنه الضياع الذي يؤدي بالذات إلى التشتت والفتك بالهوية. 

وحمدية التي يتقصى محسن أخبار سلوى منها، حمدية التي تعرضت في طفولتها إلى قمع بطريقة سادية عند تعرضها للتحرش الجسدي، ص175 (تقول لك تعودت على سماع كلام الجنس منذ كان عمرها خمس سنين..وتعودت قرص أصابع من تتسول منهم في ذراعيها وفخذيها وبخاصرتيها ووصلت مؤخرتها وأسفل بطنها حيث ما تصل الأصابع.. ولم يكن أمامها إلا الرضوخ، فالتفكير منصب على كم ستحصل). فأي سوداوية أكثر من ذلك؟ ما الذي دفعحمدية لتمارس البغاء والسقوط في الرذيلة مع من يدفع أكثر في سن كهذه غير الجوع؟ ما الذي دفعها لممارسة الجنس مع متسول قذر في حفرة داخل مقبرة ثم يتناوب بقية أصدقاؤه عليها؟ من المسؤول؟.

بلد تقتل مفكريها ومثقفيها بهدف القضاء على الفكرة، وإلا لم كانت ثلاث عشرة رصاصة التي أنهت حياة علاء صديق محسن والذي أنهى الكاتب روايته بها مع حكاية لم تكتمل باختفاء سلوى..فمن هي سلوى بالنسبة للكاتب؟ وماذا تمثل؟ 

فضاء ضيق للكاتب علي لفته جمعت حكاية شعب عاش البؤس والفقر والموت والضياع .شعب يبحث عن وطن عصفت به الأزمات ونهشته العصابات التي تقاتل باسم الدين. ولقد أبدعت شخصات الكاتب في تمثيل الشعب العراقي الذي أنهكته الحروب المتتالية. وعلينا أن نعترف كقراء بأن هذه الرواية تحمل شهادة صادقة عن زمن الخراب وتشوه المكان وتهميش الإنسان وطمس الهوية والسبب بشاعة الواقع.

***

قراءة بديعة النعيمي

يقف القارئ في قِصَّة "صادق أو القَدَر Zadig Ou La Destinnée "، للفيلسوف الفرنسي (فولتير Voltaire، -1787)، على بعض الملامح والأساليب التي تُذكِّر بحكايات "ألف ليلة وليلة"، وذلك من خلال ما يلي:

1-البناء النَّصِّي العام، الذي يبدو شبيهًا ببناء السَّرد في "ألف ليلة وليلة"، في قصصٍ قصيرةٍ متسلسلةٍ، تحت إطارٍ عام. وهذه القصص تعتمد على المغامرة والرِّحلة ومفاجآت الأحداث، وكأنَّ كلَّ فصلٍ في "صادق" ليلةٌ من ليالي (شهرزاد). ونتيجة لهذا فإنَّ البناء الدرامي المتماسك قد يَضعُف بين أجزاء الرواية الجامعة لتلك الأقاصيص؛ وذلك بسبب هذه السِّلسلة من الحكايات المتعاقبة والأحداث الفرعيَّة، التي يأتي فيها الاستطراد غالبًا، حتى تكاد تستقلُّ كلُّ واحدةٍ منها ببنائها الدراميِّ الخاص، لتُعطي معنًى أو حكمةً معيَّنةً داخل إطار الموضوع الذي هو القَدَر وصروفه. وإضافة إلى هذا فإنَّ نهايات رواية "صادق" هي نمط من أنماط النهايات في "ألف ليلة وليلة"؛ حيث تأتي لتُلخِّص الماضي بأسراره وأحداثه، على لسان إحدى الشخصيَّات أو أحد الأبطال، مثلما فعلت الحسناء (أستارتيه) في سرد ما حدث بعد أن غادر (صادقٌ) (بابلَ)، وكذلك فَعَلَ صادقٌ، فقصَّ لمحبوبته هذه ما قابل من صروف الشَّقاء والنأي.(1)

2- لغة السَّرد ونسيجه الأسلوبي يبدوان متشابهين بين قِصَّة (فولتير) وقصص (شهرزاد). ومن ملامح هذا- التي يمكن، حتى للقارئ العام، أن يلحظها- أنَّه كما كان (فولتير) يستعمل عبارات مثل "فوقع مغشيًّا عليه"، أو "فخرَّت مغشيًّا عليها"- ممَّا يُذكِّرنا بعبارات "ألف ليلة وليلة" المألوفة- كان يستخدم تعبيرًا، يكاد لا يغيب عن قِصَّةٍ من قصص (شهرزاد)، كأنْ يقول: "فلمَّا مَثُلَ (صادق) بين يدَي المَلِك والمَلِكَة قبَّل الأرض بين أيديهما". ونحو هذا من أساليب التعبير اللغويَّة والثقافيَّة.

3- بصرف النظر عن أسماء الأماكن أو الأشخاص، التي قد تكون مأخوذة عن قِصَّة (صادق) البابليَّة الأصليَّة، في معظمها على الأقل، فإنَّ هناك تشابهًا بين قِصَّة (فولتير) و"ألف ليلة وليلة" في تصوير بعض الشعوب، وفي النظرة إلى بعض الدِّيانات. من مثل صورة العَرَبيِّ، باهتماماته وأهوائه، وبخاصَّة صورة الأعرابي، الجشع الذي يقطع الطريق ويتاجر في الإماء والرقيق؛ لينال لذَّته من المأكل والمشرب والجسد. تلك الصورة التي نجدها في صورة قاطع الطريق (أربوجاد). فهذه الصورة الشوهاء عن الأعراب- أو من يُسمَّون بلُصوص العَرَب، أو قُطَّاع الطُّرق، أو الصعاليك- نجدها في "ألف ليلة وليلة"، في الأجزاء الأُولى منها. وهي قد تَشِي بأصل هذه (اللَّيالي) القصصيَّة، وأنها ممَّا نُقِل عن (الهند) أو (الفُرس)، أو غيرهم من غير العَرَب؛ من حيث تبدو غير بريئةٍ من المضامين الشُّعوبيَّة.

4- لم تكن صورة اليهوديِّ في "ألف ليلة وليلة" سيِّئة غالبًا إلى الحدِّ الذي بدت عليه في قِصَّة "صادق"(2)، وإنْ كانت بعض الليالي تصوِّر اليهوديَّ على ذلك النحو من السوء. في حين يصوِّر (فولتير) اليهوديَّ جشعًا، يُحِبُّ المال حُبًّا جَمًّا، ويماطل في قضاء الدَّين الذي كان عليه للتاجر العَرَبي. ولعلَّ العداوة التقليديَّة بين المسلم واليهودي- المعزوَّة إلى الصورة النمطيَّة التقليديَّة عن الأخير المتَّسمة بالغدر واللؤم- قد حُوِّلت في قِصَّة "صادق" إلى عداوةٍ عِرقيَّةٍ بين العَرَبيِّ واليهودي. ومن وجهٍ آخر، يمكن أن نرى أنَّ العداوة المصوَّرة بين النصرانيِّ والمسلم في "ألف ليلة وليلة"(3) قد جُعِلَت لدَى (فولتير) بين اليهوديِّ والعَرَبيِّ.(4)

5- تصوير بعض الشخصيَّات السرديَّة، مثل (القزم الأخرس)، الذي قام بدَوْر المساعد للحبيبَين (صادق وأستارتيه)، وكان المنقذ لهما من بطش المَلِك. فمِثل هذه الشخصيَّة يكثر ظهورها في "ألف ليلة وليلة"، وتقوم هناك بأدوار مشابهة. وكذا القولُ عن الحُدْب المذكورين في مملكة (سرنديب)، الذين قاموا بدَوْرٍ مناقض، هو الكيد لصادق والسعي لهلاكه.

6- تسجيل أسماء الأبطال في سجلِّ الكرماء، كما حدث لأولئك النُّـبَلاء الذين قاموا بأعمال إنسانيَّة كريمة في مملكة (بابل).(5) وهذا يُشبِه في الليالي العَرَبيَّة ما كان يأمر به المَلِك من تسجيل قِصَّة البطل، أو عمله النبيل الإنساني، بماء الذهب، ليُحفَظ ذلك في خزينته، فيكون عِبرة لمن يَعتبر.

بهذا يتَّضِح أنَّ اطِّلاع (فولتير) على حكايات "ألف ليلة وليلة"، المترجمة إلى الفرنسيَّة، قد أثمر عن هذه الآثار التي بدت ملامحها في قِصَّته "صادق أو القَدَر". ما يؤكِّد أنَّ علاقته بالليالي العَرَبيَّة كانت، في حميميَّتها، تتجاوز ما قيل حول علاقته الثقافيَّة العامَّة بالشَّرق.

***

أ. د. عبدالله بن أحمد الفَيفي

..................

(1) يُنظَر: فولتير، (1979)، القَدَر، قِصَّة نقلها إلى العَرَبيَّة: طه حسين، (بيروت: دار العِلم الملايين)، 105.

(2) بل صورة النصرانيِّ في اللَّيالي هي السلبيَّة. (تُنظَر، مثلًا: (اللَّيلة 345)، "حكاية (علي شار) مع (زمرد الجارية)": (1981)، ألف ليلة وليلة، (بيروت: دار التوفيق)، 4: 644.

(3) ويُنظَر: القلماوي، سهير، (1959)، ألف ليلة وليلة، (القاهرة: دار المعارف)، 164، 169.

(4) وهذا البُعد العِرقي لم يكن له ظهورٌ يُذكَر في الثقافة الشَّرقيَّة قبل الجريمة الغربيَّة في القرن العشرين باصطناع العداء، ذي الصبغة التاريخيَّة الدِّينيَّة، بين العَرَب واليهود؛ بسبب اختراع دولة احتلالٍ صهيونيَّةٍ في (فلسطين)، تكفيرًا عن جرائم الغرب ضِدِّ اليهود من جهة، واستزراعًا لوكيلٍ بديلٍ للاستعمار في (الشرق الأوسط) من جهة أخرى، ومن ثَمَّ ضرب العصفورَين اليهوديِّ والعَرَبيِّ بحجرٍ عنصريٍّ غربيٍّ واحد!

(5) يُنظَر: فولتير، 38.

 

عرضت يوم الجمعة ٣/ ٣/ ٢٠٢٣ مسرحية (محطات) للمؤلف جبار القريشي في تمام الساعة الحادية عشر صباحا، وقد اختار المخرج د. كريم خنجر بفطنة ودراية يوم الجمعة في شارع المتنبي /ساحة المركز الثقافي، ليجد الجمهور الحاضر تلقائيا بكثافة ودون دعوة ولا موعد مسبق، انه جمهور شارع المكتبات والتحف والملتقيات الثقافية، ويعد جمهورا مثاليا - بدرجة كبيرة -لأنه شامل لشرائح اجتماعية عديدة وذي توجهات متنوعة، وذلك استنادا إلى قاعدة مسرح الشارع الاساسية: المسرح يذهب إلى فضاء المتلقي بدلا أن يأتي الجمهور إلى فضاء المسرح.4925 مسرحية

للمخرج د. كريم خنجر بصمة مهمة وبارزة في أسلوب مسرح الشارع، فقد أسس لمهرجان مسرح الشارع في بغداد لدورتين، وقدم تجارب اخراجية عديدة، كان آخرها عرض مسرحية (كوكايين) التي عرضت احدى وعشرين مرة في أماكن مختلفة من العراق، وتجدر الإشارة إلى أن هذا العدد من العروض وتنوع الاماكن دلالة واضحة على أهمية ونجاح العرض.

في عرض مسرحية (كوكايين) تصدى المخرج لآفة المخدرات واليوم يحتج في عرض مسرحية (محطات) على الفساد والسرقات وتضييع أحلام الشباب، وهذا هو نهج مسرح الشارع: (تناول قضايا يعيشها المجتمع وتشكل ظاهرة يعاني من انعكاساتها) من هنا جاء البحث عن فضاء مغاير متوافق مع البحث عن أسلوب جديد للتواصل مع الجمهور بحسب ما يمليه الموضوع والحدث والفكرة والشخصيات وكان خير فضاء لهذا العرض هو أي فضاء يتواجد فيه الناس الذين يعنيهم موضوع العرض.

تحصل المؤلف جبار القريشي على فكرة العرض من خلال الغوص في عمق المجتمع وتأمل الواقع وصاغها دراميا ثم قدمها إلى المخرج كريم خنجر كمادة خام ليستخرج مكنوناتها والعديد من المشتقات اليسيرة التقبل والفهم، كتب المؤلف بعض المقاطع شعرا وبعضها جمل مسجوعة لينقل إلى المتلقي (حالات إنسانية) ذات مضامين عميقة أكثر مما هي (أحداث درامية)4926 مسرحية

اشتغل عرض مسرحية (محطات) على وفق خصائص مسرح الشارع، ومنها:

اولا: عروض مسرح الشارع تذهب إلى الجمهور، بخلاف عروض المسرح التقليدي (الجمهور يذهب إلى بناية المسرح ليشاهد عرضًا مسرحيا)

ثانيا: توجيه الخطاب المباشر للمتلقي خاصية بارزة في عروض مسرح الشارع، بقصد إثارة تفاعل الجمهور والتحاور معه.

ثالثا: عروض مسرح الشارع غالبا ما تتجه إلى كسر البنية التقليدية الهرمية للحكاية وتأخذ الخط المستقيم لعرض حالة متأزمة اصلا يوصلها المؤلف/ المخرج للذروة الصادمة للمتلقي وينتهي بلا حلول حاسمة، إذ يترك أمر الحسم ووضع الحلول لتفكير المتلقي، وفي هذا مقاربات من نظرية المسرح الملحمي إذ تكون المشاهد عبارة عن حالة أو مجموعة حالات ترتبط بفكرة واحدة، والابتعاد -غالبا- عن البنية المسرحية التقليدية / بداية - وسط -نهاية، وجعل النهاية مفتوحة ورهينة وعي الجمهور.

بدأ عرض مسرحية (محطات) بصور شعرية تخاطب الجمهور مباشرة، وهي ذاتها ثيمة العرض الأساسية، وما أراد المخرج قوله تجلى في جملة واحدة تكررت على لسان جميع الممثلين بصورة منفردة وجماعية، الجملة هي (إصحى يا نايم) بمعنى آخر طلب العرض من الجمهور أن يستيقظ ويفكر بما يجري حوله في الواقع، وان لا يكون مغيب الوعي، واستمرت مجموعة المؤدين باستفزاز الجمهور بحوارات وافعال تؤكد ان هؤلاء الشباب (المؤدين) الذين خرجوا من بين الجمهور المحيط بمساحة العرض ليسوا سوى شريحة من مجتمع الجمهور نفسه، يرتدي المؤدين ملابس يبدو أنها قديمة أو ممزقة.4927 مسرحية

عمد المخرج إلى جعل السيادة في العرض للحركة الدائرية الانتقالية والموضعية للمؤدين بصورة فردية وجماعية لغرض تقني وهو توزيع الحوار على الجمهور الذي شكل دائرة حول مجموعة المؤدين، ولغرض فكري وهو إيضاح حالة التيه والضياع التي تعاني منها الشخصيات.

استخدمت عبوات الدخان مرتين وتسمى بالمصطلح الشعبي (بالدخانيات) بمقاربة واضحة لعبوات الغاز المسيل للدموع الذي يستخدم لتفريق حشود المتظاهرين، تفاعل احد الحاضرين والقى بضع جمل رغم ان صوته لم يعينه لتصل الكلمات لمسامع جميع الحاضرين الملتفين حول الممثلين فضلا عن الممثلين أنفسهم لم يتمتعوا بالإصغاء إليه وبالنتيجة فاتهم التفاعل معه / ربما لم يسمعوه لأنه رجل أخذت السنين منه قوة صوته الشيء الكثير، تفاعل عموم الجمهور بالهمهمة والكلمات غير الواضحة التي أعطت زخما للعرض.

ثمة حبل متين يربط الجمهور بأمرأة انضمت إلى مجموعة المؤدين الغاضبة، حبل مخضب بالدماء يأتي من الجمهور تسحبه المرأة باتجاه المجموعة، يساعدوها في سحب الحبل بكل قوة، ولكن لا أحد يستجيب لدعوة الانضمام إليهم، وأن صوتهم الذي ارتفع وقال كلمته بفضح الفساد والانتهاك بات غير مسموع.

يفاجأ المتلقي بحضور امرأة ترتدي اللون الاسود ومعها اثنان من الممرضين يحملون نقالة مرضى فارغة، وبدلا من إسعاف الجرحى الذين تساقطوا على بعضهم، تستخدم المرأة المسدس لتختم العرض بإطلاق النار على الجميع، ولتكون النهاية بصورة بصرية قاتمة جدا، إذ مَوَتَ المؤلف والمخرج جميع الشخصيات المحتجة الغاضبة ولم يدع للمتلقي محطة للتغيير وللنجاة .

سجلت الممثلات الثلاثة حضورا مميزا اكتسب جماليته من كون المرأة المحتجة واحدة بين سبعة ممثلين، ثم المرأة سحبت الحبل من دائرة الجمهور المحيطة بالعرض إلى وسط مساحة العرض،واخيرا المرأة التي أطلقت النار على مجموعة الشباب، لقد منح المخرج المرأة تركيزا في العرض من خلال قيادتها لمجمل تحولات الفعل الدرامي

واخيرا لابد التنويه إلى ضرورة دعم عروض مسرح الشارع، وتشجيع فريق د. كريم خنجر تحديدا لانهم:

- يقدمون أحداثا ساخنة وأفكارا هامة لمجمل المجتمع.

- يحرصون على اعتماد أسلوب مخاطبة الوجدان الجمعي.

- يعتمدون على لغة حوار ومكونات فضاء تتسم بالروح المحلية مما يجعل المتلقي يجد أواصر تربطه بالعرض.

اشد على ايادي فريق العرض بقيادة المخرج كريم خنجر، متمنيا عليهم التواصل والمثابرة على نهج مسرح الشارع.

***

حبيب ظاهر حبيب

هذه الرواية هي واحدة من اشهر الروايات في القرن العشرين، كتبت في عام 1998، جلبت الشهرة لكاتبها فلاديمير ماكانين (1937 – 2017)، بطل هذه الرواية هو بتروفيتش – وهو يمتلك موهبة أدبية، ولكن بسبب مبادئه التي يؤمن بها، يرفض نشر أعماله الادبية ويتلفها. لا يريد ان يكتب أي شيء آخر حتى بعد انهيار الاتحاد السوفيتي والغاء الرقابة. بدأ العديد من الكتاب في نشر أعمالهم التي جلبت لهم الشهرة، ولكن بتروفيتش يختلف عن الاخرين، فهو يريد ان يصبح مستقلاً عن المجتمع، حتى انه فقد وظيفته، الكثير نصح بتروفيتش بالذهاب الى بودموسكوفيا، حيث يبحثون عن موظف في مخزن. لقد عاش بتروفيتش في ظروف رهيبة، ولكنه تعود تدريجياً على الوضع الحرج. وفيما بعد حصل بتروفيتش على وظيفة حارس أمن في "سكن جماعي". يجد نفسه في عالم المهمشين، مهتماً حصرياً بالاحتياجات المادية، وغياب الجانب الروحي. يراقب بتروفيتش الناس وهم يسارعون إلى العمل، الناس في هذا السكن يهتمون فقط بالطعام ومشاهدة التلفاز بعد العمل، وبالتالي هو يشفق عليهم جداً. ينتقد بتروفيتش الديموقراطيين الذين ينقادون ويستسلمون الى فكرة معينة ، مثل النظام السابق. ارتبط بتروفيتش بعلاقة حب مع الشاعرة فيرونيكا، وفيما بعد اصبحت هذه الشاعرة موظفة، وانتهت علاقتهم الرومانسية. وتم طرده من " السكن الجماعي ". انتهى به المطاف في مستشفى للأمراض العقلية، ولكنه تمكن من الفرار من هذا المكان. يعود بتروفيتش إلى " السكن الجماعي "، ولكن أثناء غيابه أصبحت جميع الغرف ملكية خاصة لشخص ما، وتقريباً هذه اهم الاحداث التي تجري في الرواية .

تحدث الناقد ك. أ . ستبينيان عن اهمية هذه الرواية، قائلاً: " هي انموذج كلاسيكي للأدب الروسي ما بعد الحداثة "، استخدم الكاتب فلاديمير ماكانين في روايته هذه الكثير من الاقتباسات التي تعود الى الادب الروسي الكلاسيكي، حتى ان جزء من عنوان الرواية مأخوذ من رواية ليرمنتوف "بطل من زماننا". وقد تميزت فترة الثمانينات والتسعينات في القرن العشرين بتقليد النص الكلاسيكي، والدخول في جدل مع هذا النص او اعادة فهمه وتعتبر هذه المرحلة انتقالية في تطور الادب الروسي.

لا تزال هذه الرواية من اهم اعمال الكاتب ماكانين، صنع ماكانين من بيتروفيتش بطلاً للرواية وترك له الحرية داخل النص. بيتروفيتش ليس فقط هو الشخصية الرئيسة، بل هو النقطة المحورية في الرواية، واقع الرواية يعتمد كلياً على نظرة ووعي البطل الرئيس، تتميز الرواية بنظام معقد جداً من الصور الشبيه بالشخصيات المشهورة في الادب الروسي الكلاسيكي، ويحمل النص طابع تعقيدي وشاعري، وكذلك فيه تلميحات وذكريات التي ميزت فيه ادب ما بعد الحداثة.

هذه الرواية هي امتداد لرواية "مذكرات قبو" والتي بطلها انساناً كسولاً وخائفاً، ولكن في ذات الوقت هو مسلح بالوعي والذكاء، يفكر كثيرا، لا يجد الحب والاحترام من قبل الاخرين لانه لا يعرف كيف يتعامل مع الناس، اما بطل ماكانين موهوب جدا في مجال الادب، ينتقد ويرفض المجتمع، يفكرا كثيرا بالمجتمع الذي يحيط به. العامل المشترك بين هؤلاء الابطال هو الذكاء والوعي، وهما يفكران كثيراً، ولكنهما لا يلتقون في مسالة ما وهي ان بطل ماكانين يتقن التعامل مع الناس، اما بطل دوستويفسكي لا يتقن فن التعامل مع الناس. ومن الرسائل المهمة  ايضاً التي ارسلها الكاتب ماكانين في هذه الرواية هي ظهور طبقة رجال الاعمال وامتلاكهم للمجتمع الروسي بعد انهيار الاتحاد السوفيتي.

واخيرا، هذا العمل يعد نقطة تحول في تاريخ الادب الروسي الحديث، لانه سلط الضوء على مرحلة حرجة في تاريخ روسيا المعاصر، وجعل من بتروفيتش بطلا لهذا الزمان وانعكاس لروسيا المغمورة في التحولات الأيديولوجية.

***

حسين علي خضير

الإستشراف مصطلح يحمل دلالة التوقع المضمرة ويصل نفسه بالمستقبل من كل شئ. ويقول فيه عبد الرحمن العكيمي في كتابه الإستشراف في النص" فالإستشراف قفزة فوق المسلمات السائدة، قفزة تكشفها رؤيا الأديب الفنان وترصدها قبل وقوعها لتسكب ضوءا فوق جسد الأحداث والتحولات". فالكاتب يستشرف القادم متجاوزا الزمن محاولا بلوغ المستقبل. والرواية هي أكثر أبواب الأدب قربا من الزمن بل نستطيع القول أنها هي الزمن ذاته لأنها الأقرب إلى حياتنا. لذلك كانت موضوعا للروائيين لاستشراف المستقبل. ويشكل الزمن في الرواية رؤيا وموقف من العالم وهو ليس مجرد وسيلة يبث الكاتب عبرها الحدث وهذا ما يميز الرواية عن غيرها. والزمن فيها منفتح على المستقبل كما يرى باختين وهو الإنفتاح المستقبلي الذي سيقوم الروائي برصده في نصه.

ولأن الشخصية هي التي تحمل الرؤية المستقبلية فقد تميزت بمكانة خاصة حيث نجدها في رواية د. موسى، الصادرة عن منشورات لوتس للنشر الحر/2022، تسعى إلى الفوز بعالم بديل يقوم على ما تريده متمثلة بشخصية الدكتور يوسف التي حملت قيمة جوهرية تسعى إلى تحقيقها وهي شخصية مميزة عن غيرها برؤيتها التي تتعدى المستوى الخاص الفردي إلى المستوى العام الجمعي. كما وتتميز شخصية الدكتور يوسف بأنها ذات باع معرفي والأهم مد استشرافي. وقد كان المتكأ الذي بنى عليه د. موسى مشروعه المستقبلي هو متكأ متفائل مضمونه التحام الأمة وتحرير فلسطين بعد تجاوز جميع العقبات.

وقد كان للصراع العربي_الصهيوني ضمن الرواية السواد الأعظم للأحداث فكانت أقرب لهذا التصنيف وقد أولى هذا الصنف أهمية كبرى لبناء الشخصيات حيث كانت محورا بارزا في النص. فشخصية الدكتور يوسف الوفي لوطنه مصر ولفلسطين وللإنسانية جمعاء تُعد رمزا للعربي المسلم الذي يخدم الأمة والقضية ويتضح هذا عندما طلب من العميد نشأت سفرا آمنا إلى غزة تلبية لطلب صديقه هشام النحال ص53 على لسان العميد( فقد صدرت الأوامر أن لا تدخل غزة باسمك وشكلك حفاظا على أمنك) ويترجم هذا الطلب بفعل ص56 عند ذهابه إلى غزة(ترجلنا وعبرنا البوابة الحديدية وهناك وجدته، هشام واقفا فاتحا ذراعيه عن آخرهما). كما وترجمت أقواله عندما شارك بأفكاره وعلمه كطبيب وعالم عندما اكتشف مضادا للفيروس الذي حُقن به القائد محمد الجعبري وستم نشره في غزة من قبل دولة الإحتلال.

وإذا قارنا شخصية الدكتور يوسف وما قاله وفعله وفكر به بشخصية الصهيوني الباحث إيهود هس الذي طلب الانضمام إلى فريق الدكتور يوسف في ماساتشوسيتش وفي نيته خدمة دولته الصهيونية وقد ترجم هذا الطلب بعد الموافقة على انضمامه إلى أفعال ففي ص189 على لسان الدكتور يوسف لستيفن عن إيهود( أؤمن بذلك وكل ما أتوقعه منه أن يكون ولاءه للعلم والبلد الذي يحيا به). وبالفعل فقد ترجم إيهود أفكاره لخدمة دولته عن طريق مراقبة الدكتور يوسف ففي ص197 على لسان السارد (غادر ستيفن المختبر وقد تأكد أن دكتور يوسف قد أصبح تحت رقابة منظمة أو مؤسسة تتبع الجيتو الكبير وما إيهود هس إلا عينهم في ماساتشوسيتش وقد يكون يدهم أيضا). وقد تأكد هذا عندما أخبر الدكتور يوسف ستيفن بأن هناك من حاول فتح الحاسب الخاص به والتفتيش في ملفاته ص240.

ومن هذه المقارنة أمكن التمييز بين رؤيتين مستقبليتين الأولى تخص الدكتور العربي المسلم يوسف قوامها الحفاظ على المقاومة في غزة من حرب بيولوجية بشتى الطرق الأخلاقية والإنسانية والرؤية الثانية تخص إيهود هس قوامها الحفاظ على دولة الإحتلال بشتى الطرق اللاأخلاقية.

وقد صور الكاتب التطلعات العربية ملحقة بالدكتور يوسف أما التطلعات الفلسطينية فقد طرحها لنا من خلال نموذج المرأة الفلسطينية المقاومة وتتمثل بالدكتورة سلوان زوجة الدكتور يوسف وهي فلسطينية أمريكية أستاذة في هندسة الطيران والفضاء الجوي في جامعة هارفارد وقد اتضح دورها عند الحديث عن تطوير صواريخ من قبل علماء وفلسطينيون ومسلمون وغير مسلمون ما جاء على لسان القائد نوفل للقائد أبي هيثم ص 187عن سلوان (ما أريد أن تعلمه بصفة سرية أن إحداهما زوجته دكتورة سلوان وهي من طورت طلاء الصواريخ والطائرات). وهنا يبرز دورها النضالي ومساهمتها في صناعة الأحداث وقد اتخذت من سلم المواقف موضعا طليعيا يكفل لها مكانة تاريخية مرموقة والمستقبل الذي أرادته واستشرفته صنعها قبل أن تصنعه.

أما تطلعات العودة فقد تمثلت بزينب والدة الدكتور هشام النحال. فقد مثلت كل نازح يحلم بالعودة إلى مسقط رأسه وقد عبرت عن ذلك من خلال حديثها الذي وجهته للدكتور يوسف حينما زارهم في غزة ص62 على لسان يوسف( جلست الخالة زينب بجواري وأمسكت بيدي وهمست، هذا أكل العباسية علمتني أمي طبخه حتى بعدما غادرناها وما زلنا نأمل في العودة لها). فزينب امتدادا لمن سبقها باقية على دينهم في العودة وطلب الأرض. أما بالنسبة للجيل الصاعد المناضل فقد وظف الكاتب الأطفال في نصه توظيفا رمزيا، هدف منه الكاتب إلى تصوير المستقبل واستشرافه انطلاقا من حاضر تشكل من أقوال وأفكار وأفعال هذا الطفل، فحداثة سنه تجعل منه رمزا للجيل القادم فكان أحمد وفاطمة قد أدوا دورا رمزيا، إلا أن أكثرها إحالة إلى المستقبل كان من خلال موقفها المناهض للإحتلال هو الطفل داوود من مخيم جنين حيث انخرط في العمل المقاوم فكان الحجر سلاحه بوعي مستقبلي يهدف إلى طرد المحتل واسترداد الأرض ونجد هذا ص214 ما جاء على لسان السارد عن داوود(نظر حوله يبحث عن حجر لا يعرف لماذا رفع رأسه، جاءت عينيه في عيني الجندي يصوب البندقية باتجاهه، كان الجندي يبتسم له، كان يحاول أن يحكم قبضته حول الحجر الكبير حتى لا ينفلت منه. سقط داوود وعلى وجهه نصف ابتسامة). مشهد يلخص موقف الجيل الصاعد تجاه الاحتلال وتمسكه بالدفاع عن أرضه حتى لو كان السلاح حجرا أهدته له أرضه. ويتضح لنا الموقف المتبنى من هذا الجيل قد جاء بعد قراءة متفحصة للواقع ووعي أحاط بجوانب القضية الفلسطينية ماضيا وحاضرا. وردود الفعل الصهيوني القاتلة للمقاومة في القطاعات غير المستسلمة قائمة مثل زيتونة ضاربة جذورها عميقا في بطن أمها الأرض لم تسقط يوما هذا وغيره جعل التوجه إلى المستقبل تحقيقا للممكن حقا مشروعا ينتصر في النهاية.

أما تطلعات المحتل فقد جاءت بتحصين دولتهم المزمعة بجميع الوسائل بهدف قتل وتدمير المقاومة وجاءت في رواية د. عصام موسى عن طريق تصنيع الفيروسات القاتلة ونشرها في أماكن المقاومة واستخدام طيور بريئة مثل النوارس كوسيلة لنشر الفيروس ويتضح هذا ممن خلال ما جاء ص186(لم نجد إلا عدة مئات من طائر النورس وللعلم هذه الكمية كافية لتدمر غزة وشرق مصر على أقل تقدير). ومن هنا نجد أن كل ما فعلته الشخصية الصهيونية في الرواية كان محكوما بفكرة مستقبلية هي تثبيت الدولة والمحافظة عليها من الانهيار والزوال وضمان عمر هذا الكيان. ما استوجب عليهم الإقدام على صناعة مستقبلية وأن الحفاظ على مكاسبها بأية طريقة كانت هدفا لا تراجع عنه.

وأخيرا نستطيع القول بأن الإستشراف في رواية فلسطين 2032 تجلى على شكل نبوءة تتمثل في تحرير فلسطين ودحر اليهود، رواية تنظر للمستقبل لرفض الواقع واقع العرب وتطبيع أغلبهم مع دولة المحتل لقد بحث د. عصام عن واقع أفضل وأكثر كرامة كما مهد لعصر جديد تنتفي فيه القطبية الواحدة التي تتربع على عرشها الولايات المتحدة فبعد جائحة كورونا تعددت القطبيات حين ظهرت دول أخرى تنافسها مثل الصين وإيران وتركيا وروسيا وهذا سينعكس على وجود دولة الاحتلال فهي لم تعد دولة الجيش الذي لا يقهر.

كما أن د. عصام يميل في الرواية إلى نظريات المؤامرة وعمليات تصنيع الفيروسات كبداية لحرب بيولوجية. رواية مثل هذه التي بين أيدينا لعل من أهدافها وصف المستقبل لشد انتباهنا للحاضر كما أننا نستطيع التقاط تنبؤات تحذيرية مثل تلك الفيروسات المصنعة التي سيكون مصدرها دولة الإحتلال.

***

قراءة: بديعة النعيمي

الحبكة السردية في صياغتها الفنية وتكوين نسيج رسالتها الفكرية الدالة، تمتلك حضوراً واقعياً بقوة على امتداد الزمن. الذي صبغ بلون الإرهاب السياسي والفكري. واقع مجحف في ابسط حقوق الانسان في شرعيته في حق الحياة، واقع مصادرة حرية الرأي والتعبير، واغتياله بالقوى الباطشة، هذه هي سلطة البعث، وتعتبر الحرية من الجرائم الكبرى تؤدي بصاحبها الى الموت في زنازين التعذيب الوحشي. رسالة السرد تغطي نهج ممارسات سلطة البعث في البطش والتنكيل بشكل واسع،بوضع المواطن في دائرة الضوء الضيقة، حتى تحسب خفقان نبضاته، ومراقب من كل الزوايا بمراقبة أمنية صارمة من الاجهزة القمعية الباطشة، وببساطة جداً أن تضيع حياة الانسان في دهاليز مراكز الأمن، دون سؤال وجواب، هكذا كانت سلطة البعث في تسلطها على العراق، جثم على صدور الناس بالمعاناة والتسلط الطاغي بطغيانه، وانتهج طريق شن الحروب الخارجية، الحرب ضد ايران، وشن الحروب الداخلية ضد الرأي المعارض لسياسته الوحشية، مثلما تدفع الانسان إلى الموت في جبهات الحرب، هي ايضاً تدفع الى الموت في سجونه الامنية، بمحاكمات صورية سريعة، حتى لا تعطي مجالاً ان يفتح المتهم فمه حتى لو ينطق بحرف واحد. لذلك الحدث السردي لهذه الأحداث، يلعب بها خميرة مخزون الذاكرة، او نتاج استرجاع الذاكرة، التي فاضت بهذا بهذا الكيل الطافح بالظروف المتشددة في قسوتها في ترهيب ورعب المواطن، هي محاولة في الإيغال بتلك الأحداث المنصرمة، بأحساس وجداني صادق على تلك المرحلة البغيضة، ليضع القارئ أو المتلقي في مشاهد حية مروعة من الممارسات الهجينة، في درامايتها وفعلها المتحرك بالوصف والتصوير والحوار، في حضور مؤثر في المعاني والدلالات البليغة. والتي تدل على فداحة كارثة الهوس المجنون بالتمسك بكرسي العرش. هذا في الجانب السياسي، ولكنه هناك شقاً في الجانب السياسي ايضاً، وهو جانب الرفض والتمرد على البطش والتنكيل وعدم الاستسلام ورفع الراية البيضاء، حتى في حمل السلاح في وجه سلطة البعث، أي المقاومة الانصارية المسلحة في جبال كردستان. شباب حمل حب العراق وهو يحمل الأمل الوطني حتى بالتضحية ومد يد العون والمساعدة للقرى التي تحيط ربايا الأنصار، حتى نالوا الثقة واحترام القرويين، في السلوك الانساني النزيه، والحاضر في كل شدة وعسر، وكذلك تناولت المجموعة القصصية (حزن في نافذة الفجر) التي تضم 26 قصة قصيرة جوانب متفرقة من الحياة والواقع. منها الواقع الاجتماعي للطبقة الفقيرة، المعدمة والمسحوقة التي تقع في سهولة براثن الاستغلال وخاصة المرأة الفقيرة التي تكافح من أجل توفير رغيف الخبز لعائلتها، لكنها في بعض الأحيان تقع في حبائل المكر والخداع، الذي ينتهي الامر بها بالاغتصاب وفقدان العذرية، عندها تدفع الثمن الباهظ من جانب عائلتها حفاظاً على الشرف، بغسل العار، تذبح من الوريد الى الوريد. وكذلك تطرقت المجموعة الى مشاكل الغربة والاغتراب والضائقة المالية والاقتصادية، تجعل المغترب لا يستطع تقديم المساعد الى منْ هو بأمس الحاجة القصوى إليها، يجد نفسه مشلولاً للمعاناة الشاقة، وكذلك مواضيع متفرقة آخرى.

- عينات من القصص القصيرة:4915 كفاح الزهاوي

1 - قصة (حزن في نافذة الفجر):

وهي تحمل عنوان المجموعة القصصية، يشير حدثها السردي الى امعان سلطة البعث في نهج الإرهاب والبطش في المعارضة السياسية من أجل ابادتها وشطبها من الخريطة السياسية في العراق. فقد اطلق نظام البعث العنان الى اجهزته الامنية والقمعية، أن تجر أي مواطن الى السجون والمعتقلات على أي شبهة بعدم الانصياع للحزب والسلطة، أو يرفض الايديولوجية الفاشية، فيضع حياته في خطر السجن والتعذيب الوحشي ضده، وتنزع منه انسانيته لجعله آلة جامدة صماء، وأن يكون دمية ببغاوية تعظيم وتمجيد قائد الضرورة. وأما ان يرسل الى القبر، مثل حادثة (حاذق) لم يسلم الى أمه إلا جثة هامدة مع التحذير الشديد بعدم اقامة مراسيم العزاء والبكاء، والام في حالة الصدمة المروعة امام جثة فلذة كبدها، تلك اساليب الأيديولوجية الفاشية (دخلت الى حجرة خانقة ذات ألوان متنافرة تفوح تفوح منها روائح كريهة، واذا بها أمام جثة هامدة صامتة، لقد جرى اعدام حاذق شنقاً بعد أن صدرت به حكم الإعدام في محكمة صورية سرية، سميت محكمة الثورة سيئة الصيت) ص9.

2 - قصة (على أطراف نهر بردى):

مغترب عراقي في سوريا يتسكع في الطرقات يبحث عن فرصة عمل، وهو يمر في أزمة اقتصادية صعبة، يعاني ضنك الحياة الشاقة، ويشعر بالضياع بعد اضطر للظروف الصعبة للوطن أن يأخذ طريق الهجرة، وخلال تجواله صادف امرأة في مقتبل العمر، تسأل عن الحافلات التي تصل الى دمشق، لكي تصل الى العنوان المكتوب في الورقة، عن رجل (ابو راوية) لكي يساهم في انجاز معاملة التقاعد زوجها الطيار، الذي توفي في تحطم طائرته التدريبية اثناء التدريب، وترك لها طفل دون معين، واوصلها الى مكان عنوان الرجل، ولكن عندما سألت عنه، كان الجواب لا يعرفه احداً ولم يسمعوا باسمه، وقعت في ورطة، بأنها لاتعرف احداً لتبيت ليلتها وتواصل البحث عن الرجل المذكور صباحاً (- أنت كنت رائعاً معي طول الوقت، كان لدي شعور جميل أنك انسان طيب وتحب الخير، وهذا الموقف خير مثال على ذلك، لدي سؤال قد يكون صعب عليَّ كأمرأة طرحه، هل يمكنني قضاء الليلة معك في منزلك ؟ قالت الجملة الاخيرة بصوت خفيض.

ثم أردفت قائلة لتفادي سوء الفهم.

-عفوا، لحين يوم غد، لا عرف احداً في دمشق سوى ابا راوية.

أجاب عادل بلهجة عبرت عن آسف.

- شكراً على اطرائك وانتِ ايضاً كنتِ رائعة جداً، ولكن مع الأسف أنا اعيش مع أربعة آخرين في الدار) ص27. وذهب كل منهما الى حال سبيله، في الاتجاه المعاكس.

3 - قصة (أنصار يرتقون):

تسرد أحداث حياة الجبل الصعبة والشاقة للشباب الذين تطوعوا في حمل السلاح ضد السلطة البعثية الطاغية، ضمن فرق حركة الانصار. وهم يخاطرون بحياتهم من سياسية التدمير والتجويع، وتجنيد المرتزقة (الجحوش) في المطاردة والقتال والتصيد الأنصار اينما كانوا، رغم هذه الظروف الشاقة، فأنهم يمتلكون روح المعنويات العالية ومواصلة التحدي والصمود والمقاومة، ويقدمون بامكانياتهم البسيطة كل الدعم والمساعدة والنجدة في حالات طارئة الى القرويين في محيطهم، وجعلوهم سوراً يحميهم من الجحوش، بأخلاقهم العالية.

4 - قصة (شارع 52):

 يدل الحدث السردي بأن حياة المواطن في خطر، في نهج الإرهاب والبطش، الذي أصبح عقيدة ومذهب وايديولوجية لسلطة البعث الحاكم آنذاك. فيتم الاعتقال وحتى إطلاق الرصاص في الشوارع من قبل اجهزة النظام الامنية. و(حكمت) خرج في الليل لحاجة احتاجتها عائلته. ولكن طال الانتظار ولم يعد الى بيته، ولم يتعود على التأخير ابداً، بدأ القلق ينهش هواجس زوجته طوال الليل حتى شروق شمس الصباح، ولم تعد تسمع بكاء طفلها في الليل ولم تذق طعم النوم مطلقاً، وبدأ الأمل يفقد بعد السؤال والتفتيش في دوائر الصحية وحتى مراكز الشرطة، والطب العدلي تفتش بين الجثث، لانها كما تواردت لها الاخبار، بسماع في الليل أو ليلة غياب (حكمت) اطلاق نار في شارع 52 في بغداد. وظلت سنوات طويلة خمسة وعشرين سنة تنتظر عودته، وبعد هذا التاريخ اصبح طفلها بعمر خمسة عشرين عاماً. في احد الايام وهي تتطلع الى سماع اخبار التلفاز عن اكتشاف مقبرة جماعية في احدى ضواحي بغداد في شارع 52، عن كشف مقبرة جماعية والتعرف على هوية المغدورين ومنهم الشاب المغدور (حكمت نوري الراوي) وعمره 25 عاماً، تجمد الدم في شرايينها، أنه زوجها المغدور.

5 - قصة (وريث الجن):

 الحياة كفاح صعب وشاق وخاصة للشرائح الفقيرة المعدومة والمسحوقة، التي هي منسية من السماء والأرض، بالحرمان والظلم. لكن دون خنوع واستسلام كما في حالة الشاب (صارم) انهى دراسته الاعدادية بالمعاناة لكن بروح التحدي والصمود يمتلئ عقله، رغم أنه شاب موهوب في الرسم وهو مصدر رزقه يعتاش عليه في قوته اليومي، ولم يتهاون في البحث عن عمل، ويسكن بيت مهجور، ووحيداً ليس له سنداً ومعيناً، وبعد البحث وجد فرصة العمل والسكن، وبدأ وضعه المالي يتحسن تدريجياً وبعد مرور أكثر من عام، اشتاق الى قريته وبيته المهجور. وحين وصل الى البيت المهجور، وجد تزاحم الناس حول جثة فتاة ملطخة بالدماء. سأل عن سبب جريمة القتل، وتبين له من حديث الناس، بأن الجثة المذبوحة تعود لفتاة فقيرة تبيع الخضار. ووقعت ضحية الخداع والمكر من احد المشترين، خدعها بدفع المال، وطلب منها أن تحمل الخضروات الى الباخرة، وتطوعت بسذاجة وطيبة، ولكن كانت نية الرجل دنيئة وسافلة، اخذها الى طريق مهجور وهناك ارتكب جريمة الاغتصاب وفقدان العذرية (- كانت ضحية الفقر والجهل.. كانت تعمل في الميناء وتبيع ما تنتجه العائلة من زراعة كالبطاطا والجزر وبعض الخضار، وفي أحد الأيام عندما وصلت الباخرة الى الميناء نزل رجل وهو من أفراد الطاقم وتوجه الى المكان، الذي اعتادت ان تقف فيه، وطلب منها شراء جميع المواد، ودفع لها ايضاً مبلغاً مغرياً.

وصاحبه يتألم بصمت وهو يصغي السمع الى كلماته واردف قائلاً.

رددت الفتاة الشابة:

- لكن هذا المبلغ كبير

 أجابها الرجل:

- لا عليك فأنتِ ستساعدني في حملها داخل الباخرة، وسيتم أخذ المبلغ في الاعتبار مقابل عملكِ) ص91. وهناك ارتكب جريمة الاغتصاب الدنيئة، ونقلت الى المستشفى، وادعى الرجل السافل بأنها جاءت برغبتها وبالمال المدفوع، مقابل عمله الفاحش واطلق سراحه. وكان نصيب الفتاة المسكينة الذبح من قبل اهلها، بذريعة غسلاً للعار.

× الكتاب: مجموعة قصصية / حزن في نافذة الفجر

× الكاتب: كفاح الزهاوي

× تاريخ الطبعة الأولى: عام 2023

× عدد الصفحات: 136 صفحة

***

 جمعة عبدالله

ذكرنا في المقالات السابقة أنَّ قِصَّة "السندباد البحري" قد وُجِدت مُستقِلَّة أوَّل الأمر عن قصص "ألف ليلة وليلة".  وربما كانت هي أوَّل ما قرأه الفرنسيُّون من قصص الليالي.  وإذا كان (فولتير Voltaire، -1787) قد قرأ الليالي، فمن باب أُولَى أنَّه قد أَلَمَّ بتلك القِصَّة، ونالت منه اهتمامًا، قد يكون أكبر من اهتمامه بالقصص الأخرى.

وستَجِد آثارًا من ذلك الاهتمام، أو الاطِّلاع على الأقل، في قِصَّة (فولتير): "صادق أو القَدَر Zadig Ou La Destinnée ".(1)  إذ يبدو (صادق)، الفتَى البابليُّ، شبيهًا إلى حدٍّ ما بـ"السندباد البحري"، الفتى البَصْري؛ فكلاهما يولد غنيًّا مرفَّهًا، يطمع في حياةٍ هانئةٍ سعيدة، ثمَّ تضطرُّه الظروف القَدَريَّة في فترةٍ من الفترات إلى الترحُّل.  وإذا كان (السندباد البحري) قد رحل سبع رحلات في البحر، فقد رحل صادق كذلك سبع رحلات في البرِّ: كانت الأُولى إلى (مِصْر)، والثانية إلى (بلاد العَرَب)، والثالثة إلى (البَصْرة)، والرابعة إلى (سرنديب)، والخامسة إلى (سوريَّة) و(الشام)، والسادسة إلى (بابل)، وفي السابعة خرجَ من (بابل) مغاضبًا، بعد أن زَيَّف السيِّد (إيتوباد) الحقيقة، وكاد يستولي على العرش، وهي الرِّحلة التي التقَى فيها بالناسك فانتقلا في طريق عودتهما إلى بابل من مكان إلى مكان، كما بُيِّن في مقالة سابقة.

ومثلما كان (السندباد البحري) مقدَّمًا عند المَلِك (مهرجان)، وقد نصَّبه مناصب مهمَّة في دولته(2)، فقد حدث كذلك مع (صادق)، في اتصالاته بالملوك.

وقد كان (السندباد البحري) يَصِف عادات البلدان التي ينزلها، كذِكره عادة تلك البلاد التي إذا مات أحد الزوجين دُفِن صاحبه معه، وكذلك ذِكر مَلِك (السُّودان)، إلى غير ذلك من عادات الشعوب وتقاليدها ودِياناتها.  ومثله فعل (صادق)؛ فقد وصفَ عادات بلاد العَرَب، ودِيانتها، وطريقة الحُكم فيها، وكذا في زيارته إلى (سرنديب).

وهناك شَبَهٌ كبيرٌ بين ما يَصِفه (السندباد البحري) من أنَّ أهل (جزيرة حَبِّ الفُلفُل) كانوا إذا مات الزوج أو الزوجة دُفِن الآخَر معه، وبين ما يزعمه (صادق) من أنَّ أهل جزيرة العَرَب كانوا إذا مات الزوج أحرقوا امرأته على أثره.(3)  إلَّا أنَّ الفرق بين النَّصَّين يتبدَّى من أنَّ موقف السندباد كان سلبيًّا جِدًّا حيال هذه العادة، بالرغم من أنَّه قد اكتوى بنارها هو نفسه؛ حيث إنَّه تزوَّج من تلك الجزيرة وماتت امرأته، وكانت هذه العادة المتوارثة تقضي بدفنه معها، مع أنَّه ليس من أهل الجزيرة.  فاكتفى بالعويل والصياح، وظلَّ في القبر حيًّا؛ لأنَّ القبر كان جُبًّا واسعًا يسمح بالحركة والأكل والشُّرب.  والأغرب أنَّه كان كلَّما أنزلوا ميتًا إلى ذاك القبر الجماعي ومعه آخَر حيٌّ، قتلَ الحيَّ وأخذَ زاده وشرابه الذي كان يُزَوَّد به.  وهذا يُضعِف تعاطف القارئ مع البطل، الذي تحوَّل إلى وحشٍ جبان، بلا مشاعِر، حتَّى مع الضحايا أمثاله.  وربما كان يتوقَّع القارئ، مثلًا، أن يتعاون السندباد مع الحيِّ الذي أُنزِل إليه، وبخاصَّة أنَّ أوَّل من أُنزِل إليه امرأةٌ، أُرغِمت على نزول القبر مع زوجها الميت، وهي تبكي وتصيح.  فجاء السندباد وقتلَها ليستولي على ما عندها من الطعام.  وهكذا كان يفعل مع بقيَّة من أُنزِلوا إليه، حتى استطاع أن يَنْقُبَ نَقبًا، أفضى به إلى مكانٍ بعيدٍ عن الأنظار، فهرب.(4)  أمَّا (صادق)، فكان موقفه أمام عادة تحريق النِّساء موقفًا إيجابيًّا نبيلًا، بَدْأً من التقرُّب إلى الأرملة (المُنَى) وإغرائها بالحياة وتنفيرها من هذا الغرور الأحمق، حتى إنها عرضت عليه الزواج بها أخيرًا. وانتهى الأمر إلى أنَّه أقنع التاجر العَرَبيَّ (سيتوك) بترك تلك العادة، بل انتهى الأمر إلى اقتلاع هذه العادة من جذورها في بلاد العَرَب، كما تحكي القِصَّة.  وفي هذا فارقٌ قيميٌّ حضاريٌّ بين الكاتبَين والثقافتَين اللتَين ينتمي إليهما النصَّان؛ فلئن تأثَّر (فولتير) بالليالي العربيَّة، فلقد أضاء فيها هاهنا بعض دياجيها البدائيَّة، ليتحوَّل النصُّ بين يدَيه من نصٍّ لا يرى في الحكاية أكثر من وظيفة الإمتاع والإدهاش إلى نصٍّ يحاول إلى ذلك أن يُضمِّن سرديَّته رسالةً إنسانيَّة، حول الاضطلاع بالمسؤوليَّة في الإصلاح والتغيير والتنوير.

وفي مقال الأسبوع المقبل نفصِّل القول في الملامح المشتركة والأساليب المتقابلة الأخرى بين قِصَّة (فولتير) و"ألف ليلة وليلة".

***

أ. د. عبدالله بن أحمد الفَيفي

......................

(1)  (1979)، القَدَر، قِصَّة نقلها إلى العَرَبيَّة: طه حسين، (بيروت: دار العِلم الملايين).

(2)  يُنظَر(1981)، ألف ليلة وليلة، (بيروت: دار التوفيق)،4: 881.

(3)  وقد تقدَّم القول في مقال سابق: إنَّ هٰذه العادة البراهميَّة الهنديَّة لم تُعرَف في عادات العَرَب، وإنَّما عُرِف أنَّ بعض أجلافهم كانوا يئدون بناتهم خشيةَ الإملاق أو العار.

(4)  يُنظَر: ألف ليلة وليلة، 4: 897- 906. 

 

 

شاعر غزير الإنتاج، له ثمانية وعشرون كتابا في الشعر والسياسة والصحافة والمذكرات والدراسات الأدبية باللغتين العربية والكردية، وكأني اكتشفه للمرة الاولى وأنا أتنقل بين نصوص مجموعته الشعرية (قصائدي) التي هي من إصدارات مكتبة زيان في السليمانية (٢٠٢٢).. مجموعة تعج بالصور والرؤى المتقدة، وتحتشد الرموز بين سطَورها الناضحة بالمفردات الصوفية أوالملتصقة بالارض وكأننا نجوس في عالم مولانا جلال الدين الرومي وشمس التبريزي والرهط الصوفي .. مخيلة حية ونابضة بالعشق الإلهي، وبالبحث عن الذات الانسانية وأسرار الوجود الفاني، إنه الشاعر والصحفي عبدالله عباس:

وإذا تحركتِ تتوجه عينيكِ .. الى عيني

فأن وجودي في روحكِ

فقط أنت تفهمينه: کیف هب؟

كيف تروين عطشه؟

كيف، انت وانا كلينا،

روح واحدة وسماء واحدة وغيم واحد،

ومطر واحد؟

هبة للعشق من الله ....

ورغم إنني أقرأ للشاعر منذ سنوات مديدة إلاّ انني لم اتوقف عند تداعياته الصوفية، ربما لأنه كشف عن نهجه في وقت متأخر، لكن الإقرار بدرايته الفذة بتوظيف الفكرة والمفردة تبرهن على باعه الطويل في هذا المضمار، فالحلم الذي يقود الى الأعلى والإنصهار في أتون العشق، وإنغمار الكون بالنور الإلهي، وقلبه الذي يستحيل الى فراشة لا تكل عن الدوران حول النار المتقدة حد الإحتراق، واليقين الذي لا يتزعزع ويتقد في اعماقه، كلها تشكل لب حواسه لرؤية العالم من حوله، وإكتشاف الاسرار الربانية في الكون في خضم الحياة والموت، والعقل والروح والقلب، وهي بلا شك تجربة مغايرة إلاّ أنها تلهم شعره بدلالات صوفية غنية كالخوف والطمأنينة والصخب والسكون والإنس والحق والجمال، دلالات معجونة بلهفة الوصل مع الحبيبة الأثيرة على الفؤاد:

روحك قنديل مشتعل َ..

عندما تلتقي بحبيبة قلبك

لا تسمح بغير نور الهدوء أن يقترب من إحساسك..

لا تنتظر من أحد أن يحمل هدوء حزنك.

عندما تشتعل روحك تصبح في حالة الذكر،

تنفذ كل حواجز الظلام..

ويقع الكون كله

ويمضي الشاعر في تجليه نحو السماء بعزم لا يلين. انه لا يبالي بتبعات هذا الاختيار في التنصل من إضطراب عالمه المادي، مرتقيا سلم السمو، ومتجرعاَ سطوة الوجع الرهيب لكي يتحول الحلم الى حقيقة مطلقة:

أما كنت انت صاحب الحلم

لبناء مدرج من بيتك باتجاه مصدرالشمس؟

تاتي الايام وتمر

يغطيك ظل حلمك

ويتحول مستقيم الدرج للصعود

إلى مسمار مغروس في قلبك. !!

استلهام آيات القران الكريم

ولا ينفرد عبدالله عباس في إقتباس صياغات من القران الكريم بإعتباره رافداَ مهماَ من روافد الشعر العربي الحديث والمعاصر، فقبله ومعه لا يكاد يخلو خطاب شعري حداثي من استعارة الأيات القرانية أو مضامين دينية مختلفة في مسعى لتوظيف لغة جديدة غير مستهلكة في متن القصيدة، كذلك قدرة هذا الخطاب الفريد على تجسيد المعاناة والاحساس الشفيف وتضمينه معانٍ رفيعة من الوحي الالهي. فمن سورة الكهف يقتبس شاعرنا من الآية الكريمة (ثم أتبع سببا حتى إذا بلغ بين السدين..). منفتحاَ على عالم جديد يتوائَم مع معطيات الطبيعة، وينبض بالعطاء الإنساني والنخوة والبذل النبيل:

واتبع السبب..

باب مفتوح على مدى الكون

ورغبة، عاصفة إلهية

من الروح ... الى الروح

ليختلط بالثلج و المطر ونسمة الريح

ثم أتبع السبب ! ..

وفي المسار ذاته يورد الشاعرالآية الكريمة (وخلق الجان من مارج من نار) مستلهما من الشعلة الساطعة ذات اللهب المشع إبتلاء إنسان بما يحيط به من النفاق الاجتماعي، ويعمق مشاعر الحزن في داخله:

يبكي العشاق، في هذا الزمن الرديء

المختفي في ثوب فضاض ملون كذباً

بالعشق العصري ! ...

وخلفه يتحرك صديق مخلوق

(من مارج من نار)

ولكن مآل هذا الاختبار العسير سيتمخض عن مراجعة الذات واليقين بحتمية التغيير وبالتبشير بجمال الطبيعة والاسى لما ينتظرالمتخلفين عن ركب العشق المقدس:

دون ارادة منا سنعود مرة اخرى

الى ظلال الشجرة المباركة

ونجلس على العشب الاخضر

كيفما يتغير الزمن وباي اتجاه

سيحدث هذا…

اسفا للذين خسروا السماء مبكراً

دون ان يتذوقوا العشق

ولا يكتفِ الشاعر بنبوءة العودة الى ظلال الشجرة المباركة فحسب وإنما يستلهم من عبير استذكار صورة أمه.. وتجلياتها العفوية المضمخة بالتوق الى السمو والرفعة الروحانية، أمه تلك المرأة التي (كانت نسمة جبلية منعشة، وضوءا تنير ليالي قريتها النائية شهربازار وتنوء تحت جَلَد الصبرالمرّ وتتضرع لله ان يهب ابنها أسرار العارفين والدراويش):

وفي صبر جميل ومر …

كانت أخت ايوب !

كانت صوفية قد ملأ قلبها نورالله

وقبل الذهاب إلى الفناء ... كان دعاءها من (المولى)

(أن لاترى موتك .. وتسمع شهرتك)

وترجو ان يهب لك لغة خاصة

كأنها تعلم…

سيأتي يوم تكون أيضاً درويشاَ للهموم

مضيئا بالحب المبارك.

في الرحلة العسيرة والشائكة في عالم الزهد واليقين، تنتشلنا نصوص المجموعة من ادران الارض وإفرازاتها المظلمة الى عالم السماء المشرق حيث فيوض الرجاء والرضا الرباني والأمان والسكينة المفتقدة، متوائمة مع مقولة شاعر داغستان الخالد رسول حمزاتوف التي تزين مقدمتها بأن (الشعراء ليسوا طيورا مهاجرة، والشعر دون التربة الأم شجرة بلا جذور، وطائر بلا عش) وهذا ما سعى اليه شاعرنا الكبير عبدالله عباس .

كلما حدقت بشغف الى وجهك

تتساقط علامات الشيخوخة من وجهي ! ..

وتعود روحي الى حديقة خضراء

العاشق الصادق هو من

(يواجه الله بقلب سليم).

***

محمد حسين الداغستاني

كثيرا ما نسمع بتصنيفات مثل: الأدب النسائي، أدب الطفل، أدب الشباب، الأدب السياسي، الأدب الإسلامي، الأدب الاشتراكي، الأدب الملتزم، أدب السجون، أدب المقاومة، الأدب العمالي، الأدب الصهيوني....

ومنشأ هذه التصنيفات جامعي مرتبط بالبحث الأكاديمي، وهو بالتالي عبارة عن مفاهيم إجرائية، تمليها طبيعة الموضوع وضرورة حصره وتحديده، لضبط دراسته أكاديميا، لكنها تحولت مع الزمن إلى مفاهيم ثابتة معيارية، يقاس بها الأدب، ويخضع في ضوئها للتمييز والتنميط.

وتصبح بعض هذه التصنيفات مضلِّلة، عندما تُغرَق في الإديولوجيا، إذ تبتعد كثيرا عن العلم والموضوعية، مثل الأدب النسائي وهو مفهوم تمييزي، ينطوي على خلفية ذكورية، ويكرس الميز بين نصفي المجتمع، فيمكن الحديث عن النسوية في الأدب سواء أكان رجاليا أو نسائيا، دون التمييز بين أدب للرجال وأدب للنساء، كذلك الشأن بالنسبة لما يسمى بالأدب الإسلامي، أو الأدب الاشتراكي، أو الأدب السياسي أو أدب الالتزام، وأدب الشباب... فهي مفاهيم إديولوجية مسجورة بكثير من الإبهام والالتباس.

أما أدب الطفل فهو الأدب المكتوب للأطفال، نظرا لخصوصية وحساسية مرحلة الطفولة في بناء شخصية الإنسان، وأهمية القراءة في هذا العمر من أجل تحري الدقة في الكتابة لبناء إنسان سوي، والحال أن كثيرا مما يكتب للطفل عندنا قد يكون مدمرا لنفسية الطفل وعائقا أمام نمو شخصيته وذكائه، محبطا مفرملا لجموح فكره وخياله الإبداعي، وفي الآداب الغربية يدمج أدب الطفل بأدب الناشئة في مفهوم واحد Littérature d'enfance et de jeunesse ويقصد به الأدب الموجه للأطفال والناشئة، ولذلك نفضل تسميته بأدب الطفل والناشئة.

فماذا يقصد الكُتاب والنقاد عندنا بأدب الشباب؟ ولماذا يميزونه عن أدب الطفل والناشئة؟ وإلى أي حد يمكن أن نعتبر مفهوم أدب الشباب علميا؟

ندرج مفهوم أدب الشباب ضمن التصنيفات المضلِّة، ولا نعتبره مفهوما علميا، فباستثناء مرحلة الطفولة (بين 0 و 16 سنة)، حيث التحديد العمري متحرك إلى سنوات العشرين في غالب الأحيان، فنسميه أدب الطفل والناشئة، إذ يهم مرحلة بناء الشخصية، فيُفرَدُ لها أدب خاص بها، باستثناء ذلك، لا نرى أن هناك أدب خاص بالشباب أو بالشيوخ أو بالنساء، فالأدب هو الأدب بعيدا عن معيارية التصنيفات، وليس في مفهوم أدب الشباب ما يستدعي استخدامه حتى في الدراسة الأكاديمية، نظرا لعدم دقته، ولانطوائه على ذهنية الحجر والوصاية.

يظهر الالتباس وغياب الدقة في إحالة المفهوم إلى مرحلة عمرية غير محددة تحديدا دقيقا، والأدب الناجح لا يرتبط بعمر معين، كما يشير إلى الجِدة والتجديد وروح الثورة والتمرد على الأفكار والقوانين الإبداعية السائدة، وفي نفس الآن يُلمِح هذا المفهوم إلى بداية دُربة الكتابة الأدبية والخطوات الأولى لتلمس طريق الإبداع، وهنا خلط كبير بين الشباب والناشئة، حيث عمليا يؤدي مفهوم "أدب الشباب" إلى إلحاق أدب هذه الفئة التي تمتد اليوم إلى ما بعد الخامسة والأربعين بدائرة النقص والقصور وعدم الأهلية الإبداعية، ما يعني حاجة الشباب إلى الحجر والوصاية.

 ذهنية الحجر والوصاية تتجلى في الكثير من المسلكيات السائدة في الوسط الأدبي والثقافي، يقف خلفها منظور استعلائي حيال الشباب، مستصغرٌ لقدراتهم الإبداعية، وهو في الحقيقة خوف دفين من الشباب الذي يمثل جيلا جديدا يحمل في أعماقه نزوعات جذرية، لو تبلورت في الأدب لزعزعت الكثير من قناعات ومسلمات المجتمع التقليدي القائم على الولاء لسلطة القبيلة وأعيانها وأطرها التنظيمية الممتدة في الحقل الثقافي في أرقى تمظهراته، حيث ذهنيات الشيخ والأتْباع والنقل ضد العقل وتكريس المقدس في الكتابة الأدبية من حيث هو تصورات وقوانين رثة للأدب، وعدم الاعتراف بالتّمَيُّز والاختلاف وممارسة التهميش والإقصاء، مع ضعف المنظور التنويري في الممارسة الأدبية، وطغيان نرجسية المبدع المنتفع من الوضع القائم ومن آليات إدارة الشأن الأدبي الرسمية والجمعوية، وتزايدِ خوفه من منافسة المتميزين خاصة منهم الشباب.

إننا نحتفظ بمفهوم أدب الطفل والناشئة وهو الأدب المكتوب من طرف المتخصصين من الكبار سنا لهذه الفئة، وهو أيضا ما يبدعه الأطفال والناشئة من نصوص أدبية قد تنبئ بنبوغ مبكر، ولكننا لا نجد مسوغا لقبول مفهوم "أدب الشباب"، بل يمكننا أن نزعم أن هذا المفهوم لا يعدو أن يكون صيغة مضلِّلة وضعها جيل من "شيوخ" الأدب ضد الشباب الصاعد، لوقف جموحهم الإبداعي ومنع تألقهم.

إن الأدب الجيد الناجح يكتب من طرف الشباب والكهول والشيوخ نساء ورجالا، والإبداع العميق المتطلع إلى الخلود هو الباقي وما عداه يُلقى إلى هاوية النسيان والإهمال، مهما كان عمر من كتبه، ولنا خير مثال في نماذج لا تعد ولا تحصى لا يزال أدبها خالدا وقد ولد في ريعان الشباب منهم على سبيل المثال لا الحصر طرفة بن العبد، الشابي، جبران، السياب، أحمد المجاطي، أمل دنقُل... وكم من الشباب المبدع اليوم يتألقون خارج الحدود فيما تُضرب عليهم عندنا أسوار الحجر والوصاية.

***

عبد القهار الحجاري

 

 

حين تحول مصادر الإبداع، الشعر إلى ترانيم مقدسة

1- عتبات النص / مداخل للفهم:

تقع المجموعة الشعرية الرابعة، للشاعرة بسمة المرواني "تعويذة قلب" في مائة صفحة وتحتوي على ثمان وعشرين قصيدة. وقد صدرت عن دار" يسطرون للطباعة والنشر والتوزيع "، مصر، في حجم متوسط، في ديسمبر/ 2022 .

أ‌- الغلاف:

يعد الغلاف أولى العتبات لقراءة الأثر وقد إستوى كتابا إن جاذبيته بصرية بالأساس ومكوناته: صورة مع ذكر جنس الكتابة وذكر إسم المؤلف . تحتل الصورة التي توشح الكتاب أهمية بالغة لاسيما في علاقتها بعنوان المجموعة الشعرية. يحمل غلاف الكتاب صورة لإمرأة يبدو نصف وجهها الأيمن عين نجلاء وشعر يتدلى على كتفها منسابا إنسياب البحور الشعرية، يتدلى من أذنها قرط،أنف لا يظهر إلا جانبه الأيمن وفم تخرج منه زهرة تعتلي أعلى الأذن اليمنى، داخل إطار الصورة كلمة " شعر " للدلالة على جنس الكتابة التي بين دفتي الكتاب، فوق الصورة عنوان المجموعة " تعويذة قلب " وأسفل الصورة إسم صاحبة المجموعة الشعرية. في الجانب الخلفي للكتاب مقطع من قصيد " تعويذة قلب " مع صورة للشاعرة .

ب – عنوان المجموعة:

يعد العنوان عادة مدخلا مهما في قراءة المجموعة لأنه جماع النصوص والخيط الرابط بينها كخيط العقد يجمع جواهره فتنتظم النصوص المكونة للمجموعة إنتظاما يخفي إختيارا واعيا من الشاعرة قد لا يكون إعتباطا. صحيح أن كل قصيد هو نص مستقل بذاته، له هويته وله مسار تحكم به من وجوده بالقوة إلى وجوده بالفعل حتى إستوى نصا إبداعيا محملا بشتى صنوف الدلالة. " تعويذة قلب " هو عنوان لقصيدة وهبت نفسها لكامل المجموعة بأمر من الشاعرة التي رأت أن هذا العنوان جامع للأثر في كليته ويختزل مصادر الكتابة وأغراضها وهي أن تكون القصائد تعاويذ والتعويذة كلام منثور أو مغنى أو مرنم يتلى في صلاة أو يكون دعاءا أو تفكيرا تستدعى به قوى خارقة لبعث تأثير سحري في السامع، أو للتوقي من شر قادم، أن يصبح الشعر تعاويذ بالمعنى المجازي عندئذ يحق لقصيدة " تعويذة قلب " أن تعطي إسمها للأثر كله. لقد نجح الرسام إسكندر تاج في رسم صورة الغلاف مستوحيا مكوناتها من القصيدة فما ينثال من فم الشاعرة نابع من القلب وهو رقية للعين.

ب – عناوين القصائد / نوافذ للمعنى:

تختلف القصائد الثماني والعشرون من حيث الطول والقصر وذلك في علاقة بالنفس الشعري الذي يقتضيه كل نص شعري، كما تختلف لفظا وتراكيب لغوية ما بين تعريف وتنكير وما بين الجمل التامة والمركبات والتراكيب شبه الإسنادية. وردت بعض العناوين في شكل مفردة نكرة مثل " غبطة " (ص 4) و" دهشة " (ص 15) و" ملاك " (ص 45). إن التنوين الذي يلحق الأسماء النكرة يوجه المعنى ويؤثر فيه ويدل في حالات على المستقبل كما أنه في علم الشعر يدل على الترنم. إن القصائد التي عنونت بهذا الضرب من الألفاظ تشي بغلبة الموسيقى على مقاطعها وآنفتاحها على الآتي في تمش قائم على عشق الحياة من خلال الحب تلك هي مناخات قصيد " غبطة " . في قصيد " دهشة " نفس التمشي المنفتح على المستقبل يستثيره الحضور وآمتلاك الصباح مع إتساع الشوق في الأحداق، إيقاع القصيد المتولد من التنكير والمحيل على الترنم قائم على التملك الذي يوشح بداية كل سطر شعري (لي) ثم تستدعي لغة القصيد اللغة في فيض معانيها،متوجة بسوسن البلاغة. (ص16) .في قصيد " ملاك " عنوان يحيل على كائن مختلف، تنكيره لا يغير إنتماءه الجنس الملائكة والتي يتم إستدعاؤها لربطها بالطفولة والبراءة " الطفلة ملاك أمام النار " ملاك إخبار عن الطفلة التي هي بدورها كناية عن الحرية وهي تخفي تشبيها كأننا نقول طفلة كالملاك وهو تشبيه بليغ حذفت منه أداة التشبيه ووجه الشبه. أما الأسماء المعرفة فلنا ثلاثة أصناف، هي عناوين لقصائد: أولا الإسم المعرف بالألف واللام، " المساء " ص 41 و" البركان " ص(55)، يحتل المعرف بالألف واللام المرتبة الخامسة بين أنواع المعارف الستة وهي الضمير،العلم،إسم الإشارة، إسم الموصول والإسم المضاف. ويفيد التعيين والتحديد في إنتقاله من التنكير إلى التعريف وذلك بعد أن كان شائعا. نحن إزاء مساء وبركان معينين نتلمس ملامحهما في القصيدتين، لكأن العنوانين مبتدآن والقصيدتين إخبار – خبر – عن تلكما اللفظتين. إنه مساء مختلف عما نعرفه في تقسيمنا الزمني ترى كيف تمثلته الشاعرة ؟ ذاك ما سيكتشفه القارىء في ثنايا السطور الشعرية للقصيدة. كذلك الشأن بالنسبة إلى " البركان " تكشف القصيدة عن إنتقال من المعنى الذاتي la dénotation المتعارف عليه للكلمة إلى معانيها الحافة la connotation فتوظفها في سياقات مصطبغة بالتاريخ، المعاني الحافة هي تفجير للكلمة حتى يتلاشى المعنى فتضحى الكلمات على صدر خرس اللسان أشلاء (ص 56) ثانيا النوع الثاني من المعارف " العلم " وهو يحتل المرتبة الثانية في مراتب المعارف لذلك له قوته الدلالية، إنه يحمل ثقلا تاريخيا " هيستا " (ص 17) هي الدلالة في حلها وترحالها، فإذا كانت هيستا آلهة موقد النار في جبل الأولمب عند الإغريق وهي ربة عذراء تنازلت عن منصبها، فإن إستدعاءها في سياق حضاري مختلف ليتم توظيف تفاصيل حياتها تدريجيا ليقع في الأخير تقمص شخصيتها حد الذوبان تقول الشاعرة:" وأدركني أني مأخوذة بترف الحب والمعنى أجتاز لغات النار بأنساق المبالاة " (ص 18) من المعارف التي تواترت في عناوين قصائد المجموعة الشعرية المركبات الإضافية وعددها خمسة وهي على التوالي حديث النبض (ص 13)، صاد الصمت (ص 27)، مطلق الممكنات (ص 30)، أناشيد الزمن (ص 32)، يقين الجواب (ص 48). وهي تفيد التعريف والتخصيص، ففي قصيد " حديث النبض " نحن إزاء مجاز يحول إهتزازات الجسد إلى لغة وبهذا الصنف من اللغة تتأسس صنوف من العلاقات مع الأشياء من قبيل الوقت والصمت والجسد. في قصيد " صاد الصمت "،منذ السطر الأول تتحول الصاد إلى وسيلة بفضل حرف الجر " الباء " نلج بها عوالم القصيدة حيث وسائل التعبير صامتة الشعر، الجبين، الحدقتان، الوجه،...إيغال في الصمت وتكثيف للغة الجسد. في قصيد " مطلق الممكنات " يعاد ذكر العنوان في القصيد تقول الشاعرة: " وترحل بي أفكاري سارية على رخام ومطلق الممكنات " (ص 30) بعدها يتواتر حرف الشرط " لولا " يشرع لمطلق الممكنات الذي يفيض عن اللغة، لأن حرف الشرط المتواتر يدل على إمتناع شيء لوجود غيره فمثلا يمتنع كسر كل أبواب الألم وإنهماره لوجود الوهج في نقاء الياسمين لذلك يظل الوهج فتظل الغيمات الواعدة بالمطر ممكنا من الممكنات. في قصيد " أناشيد الزمن " تتواتر الأفعال في جل السطور الشعرية: أخيط، أصنع، أحث، أغشى، أحاول، أشدد، أنتشر والفعل حدث مقترن بزمن فمع كل فعل نشيد يتلى وأغنية يترنم بها. في قصيد " يقين الجواب " بحث لا يني عن اليقين / الصدق تستبد الأسئلة بالشاعرة وهي لا تجد أجوبة لا تشفي الغليل ربما وجدته في المطر " وحده المطر لا يكذب...وحدها العيون لا تكذب " ص(50)، يتأجل يقين الجواب " العبرة دوما في النهايات " (ص 51)النكرة المخصصة هي مرتبة بين التنكير والتعريف منزلة بين المنزلتين وهي بالصفة أو بالإضافة، في هذا الصنف من العناوين لنا أربعة قصائد: " يد من رحيق الصفاء "(ص 12)، ذائبة في أعماق النور " (ص 22)، " تعويذة قلب " (ص 37)، " وجائرة كمنجاتك " (ص 47): في قصيد يد من رحيق الصفاء، تبدو اليد التي مصدرها رحيق الصفاء هي المؤهلة لإخراجنا من المنطقة الرمادية التي تلاعبت بها التناقضات ومن سوء الفهم بحثا عن وجه الشمس الساطع يطهر النفوس من أحقاد ذوي الأرحام. في قصيد ذائبة في أعماق النور تستحيل القصيدة/ اللغة أذكارا نورانية تتلى ينبض بها القلب بحثا عن مدارات النور فبها نطل على عوالم يكاد سنا ضوئها يذهب بالأبصار حد الذوبان والتلاشي، يقول محمود المسعدي في حدث أبو هريرة قال: " في كم تسبيحة تعمى العين " . في قصيد تعويذة قلب مسار من الإنغلاق إلى الإنفتاح، يتوسل بتعويذة يجتاز بها القلب الوجع والجرح والدرب الحزين، ثم تنفتح أنا الشاعرة على ترف الحب والمعنى " ليسري في القلب دم البساتين وتزهر براعم الأمنيات " (ص39).في قصيد وجائرة كمنجاتك تتوسل الشاعرة بالكمنجة لكنها تجور عليها ولا تسعفها بما يروي غليلها ووجعها المنبعث من صوتها فقد ذكر الوجع ثلاث مرات في القصيد، لم يبق لها إلا أن تتماهى مع الحبيب " أنا كأنت هروبا من أنياب الزمن " (ص 47). قصيد واحد ورد في شكل " مركب بالجر " وهو " في بياض الياسمين " (ص 19) في هذا الشكل النحوي يكتسي حرف الجر" في " قيمة كبرى لأنه يضبط المعنى،يجمع المجرور- المضاف والمضاف إليه- بين حاستي البصر " البياض " والشم " الياسمين " والبياض للمخاتلة لكأنه ستار لإخفاء إنعقاد الجمر وعناق مجرى الكلمات وفتح الضلوع وحمل الجراح...تبحث الشاعرة في مسارها هذا عن فصل جديد من فصول السنة هو الفصل الخامس – مستقره القلب تشع منه الحياة وتسعد الروح (ص 21). النوع الأخير من العناوين هي عناوين المركبات الإسنادية وهي نوعان جمل فعلية وجمل إسمية. في قصيد " قالت العرافة " (ص6) مقول القول يظهر في القسم الأخير من القصيدة، جاء ليعلن نذر الشؤم التي تكهنت بها العرافة إنه صراع بين الكهانة والشعر، إنتصار الشعر يتجلى في تركيب الحصر: لن تظل إلا العيون الساهمة للشعراء يكتبون كلماتهم ..في قصيد " لا تهرب من مراياك " (ص 42)، قصيد قائم على النهي يحمل الخطاب على دعوة للثبات أمام المرآة حيث ترى حقيقتك كما هي ترى وجودك مشفوعا بسؤال الهوية " تكون أو لا تكون " والحقيقة الوحيدة هي الموت " لا صوت في الأخير إلا للموت " تزدحم الأسئلة الوجودية عن الكينونة / الذات في المرايا المعلقة على جدران الوقت الذي هو سجل تحفظ فيه أقوالك وأفعالك. في قصيد " وطارت حمامتي " (ص 52)، نحن إزاء جملة فعلية إستئنافية مقتطعة من القصيدة هي إهداء لروح أخت الشاعرة " سنية " مفعمة بالصدق وتنزف ألما على الفقد .هي مرثية تستلهم فراق النبي يوسف لأبيه يعقوب.(ص 54).في الجمل الإسمية إختارت الشاعرة ستا من قصائد مجموعتها لتكون على هذا الشكل النحوي وهو شكل يدل على الثبوت والإستمرارية. في قصيد " لولا خمر الشعر "(ص 2) يكون تركيب – خمر الشعر- كناية عما إستقر في الصدر من تراث شعري توارثته الأجيال والصدر كناية أيضا عن ثقافة شفوية قوامها الشعر بآعتباره ديوان العرب يروي تفاصيل حياتهم .و لكن نلحظ أيضا إنفتاحا على التراث اليهودي – المسيحي تمتح منه الشاعرة ما يخدم القصيد " أسفار داوود وخاتم سليمان " (ص 2).في قصيد " الحديث صلاة الفراغ " (ص 24) قصيد هايكوي قصير فيه تكثيف للمعنى بل للامعنى، للعدمية فما بين الهمس (الصلاة) والصراخ تأتي الكتابة لنسرج عليها نهاياتنا المؤلمة ولنعزف بصمت، وحده الحب يخرجنا من العدمية حيث يكتسي كل شيء معنى. في قصيد " الصمت ذكر يتلى " (ص 33) يتواتر إسم الإستفهام- ماذا- طلبا لماهية الأشياء المستفهم حولها، لتكون الإجابة أن الصمت أصدق إنباءا من الكلام عن حقيقة الأشياء إنه يختزل كل ما يجول بالخاطر.في قصيد " نحن لا نموت "(ص 35) جملة إسمية لا تدل على الثبوت والإستمرارية لأن خبرها جملة فعلية تنفي الموت وتحيل على الحياة بما هي حركة وتحول وتجدد. فطرح الزيف والخداع والنفاق لأنها الموت الحقيقي والبديل هو عشق الحياة وعشق الوطن وعشق الأمل.في قصيد " قلبي واضح على مفرق اللحظة " (ص 36) الخبر هنا مركب شبه إسنادي قائم على إسم الفاعل " واضح " تتخذ الشاعرة من القلب وسيلة لمواجهة الغياب وإثبات الحضور: الروح / الصوت/ الهذيان. إن القلب يجعل من صاحبة الأثر عنقاء تنتفض من رماد النسيان. في قصيد " العمر شاشة عرض " (ص 57) العمر الذي عاشته ممرات وعتمة وضياء وعلاقات تفتح لها نوافذ جديدة .لحظات العمر تحرسها الشاعرة بكثير من الأسئلة. يبقى دوما للقلب حضور في طقوس العبور من ضفة إلى أخرى بحثا عن سر الوجود.(ص59)

2- الحقول المعجمية وإحالتها على المخزون الثقافي للشاعرة:

بعد أن قرأنا المجموعة الشعرية قراءة عمودية، إنطلقت من عتبات النص: عنوان المجموعة ثم عناوين القصائد بحثا عن العلاقة بين تلك العتبات ومضامين القصائد، نسعى في القسم الثاني من هذه القراءة إلى النظر في متون القصائد ضمن تمش أفقي يبحث عن طبيعة سجلات القول التي تواترت في شتى القصائد.لقد كشفت اللسانيات الحديثة أن فعل القراءة بما هو تفكيك للنص وإعادة بنائه، تتحكم به ثلاثة مقومات: المقوم الأول النص/الشاعرة موضوع القراءة وقدرته على توليد المعنى وإستنبات الدلالة بغنائه وثرائه، فتتبع الحقول المعجمية التي إشتغلت عليها الشاعرة يكشف خصوبة النص الشعري من ناحية والمخزون الثقافي الذي تمتح منه الشاعرة صورها الشعرية وعمقها الفكري. المقوم الثاني: القارىء / الناقد بما يحمله من خلفية فكرية ورؤية جمالية وجهاز مفاهيمي .المقوم الثالث: الظرفية التاريخية والإجتماعية التي يقرأ في سياقها النص وهذه الظرفية تحدد توجهات القراءة ومجالاتها وتضبط مسارها.

أ – الموروث الإسلامي – التصوف:

يحضر الموروث الإسلامي بقوة بآعتباره أحد أبرز مكونات الثقافة الأساسية للشاعرة التي تتأسس عليها صيرورة الفرد إنفتاحا أو إنغلاقا.هذا الموروث هو صورة للبيئة التي عاشت فيها ورضعته منذ الولادة .مما يلاحظ أن هذا الموروث لن يظل على حالته الأولى بل سيخضع لعملية غربلة وتشذيب، ومما نلاحظه في حضور هذا المخزون في المجموعة الشعرية هو نزوعه الصوفي حيث تتواتر فيه المفردات المتعلقة بالرؤية القلبية وبالنبض القدسي وبالعشق الإلهي، إن مركز الثقل في كل ذلك هو القلب الذي يستدعى ضمن سياقات هذا الموروث- آنظر قصيد " لولا خمر الشعر " – في بعض الأحيان يمتزج ذلك الموروث بحضور الموروث الإغريقي- قصيد " هيستيا " – فنعثر على ذكر للمئذنة الشاهقة ولطهر الصلاة وللمشكاة التي تنضح بالنور. في قصيد " ذائبة في أعماق النور " نحن إزاء روح تطوف بعوالم البرازخ حد إنصهار الشيء في عدمه. كثيرا ما تستشهد الشاعرة في تدويناتها بجلال الدين الرومي وبابن عربي وإبن الفارض..أقطاب التصوف، هؤلاء يحضرون رسما لا إسما من خلال تشبع الشاعرة بآرائهم، إنهم يملأون عليها وعيها فتنثال أقوالهم في صور شعرية تعمق بها الشاعرة رؤيتها للوجود وللإنسان في الكون. إن إنسانية الفرد تتأسس على الفطرة السليمة فالحفاظ على النقاء من لوثة إبليس هو مقصد من مقاصد الحفاظ على النفس، تقول الشاعرة في قصيد " في بياض الياسمين ": " شوه إبليس النقاء والفطرة " . لا مناص من الحديث عن القلب ذاك الخزان الذي يحيا بقطرة ماء وكثيرا ما كني عن الذكر بالماء بآعتبار كليهما يحييان، تقول الشاعرة في قصيد " صاد الصمت ": " قطرة ماء ...قذفتها في القلب " تظل الروح المشرقة بالنور مطمحا يرنو إلى بلوغه الصوفي في عروجه متسلحا بالعرفان، تقول الشاعرة في القصيد نفسه: " سيول النور تزيل الغمام، تزيل الظلام من كل روح ."

ب – الموروث اليهودي المسيحي:

إن الإشارات للتراثين اليهودي والمسيحي مصدرهما القرآن الكريم الغني بالقصص المتصل بأنبياء بني إسرائيل،يحضر أولئك الأنبياء بشكل فيه إجلال وإحترام مستمدين من إحترام الإسلام والقرآن لهم بآعتبارهم قد إصطفاهم الله لتبليغ رسالته ونشر عقيدة التوحيد. في قصيد " لولا خمر الشعر " توظف الشاعرة أسفار داوود ضمن سياق ما تعيشه من تحولات فتصبح الذات التي تعيش التجربة الوجودية تحتاج إلى المقدس، تأتي الأسفار لتعمدها تقول الشاعرة: " رتلوني بأسفار داوود " ثم لا بد للتجربة من زمان ومكان يحتضنها يأتي " خاتم سليمان " رمز للسلطة بآعتبار هذا النبي من الأنبياء/ الملوك ليضفي على التجربة شرعية، تقول الشاعرة: " أرخوني بخاتم سليمان " . لا ملجأ للشاعرة التي ترى الحقد يملأ العيون والحمم السوداء اللاظية تحيط بها، إلا الله الذي رأته بيقينها، فالكلام الدامس الذي يلفها يشبه ظلام البئر الذي رمي فيه يوسف، إلا أن خرزتها تلك ستكون نجاته من كل ما دبر له، تقول الشاعرة: " فإني رأيت الله...واهب خرزة البئر ليوسف وهي له ناجية. " في قصيد " وطارت حمامتي " الذي يمكن تصنيفه قصيدا رثائيا قائما على الحفر في ألم الفراق تستحضر الشاعرة علاقة النبي يعقوب بآبنه يوسف، فكلاهما قد إكتوى بألم البعد وعاشا ذلك إبتلاءا من الله آمتحن فيه يعقوب حتى إسودت عيناه فهو كظيم، نفس التجربة عاشتها الشاعرة عند فقدها لأختها إختبارا من الله لصبرها ولكن بأشكال مختلفة لذلك صاغت من إسم يوسف نسبة حولتها إلى صيغة الجمع تقول الشاعرة في قصيد " وطارت حمامتي ": " فلا يوسفيات خيالك قد بدت ولم يأت يعقوبي فيغرسك مجددا في القرب"

ج – التراث الإغريقي / الروماني:

إن عصر التدوين العربي هو عصرالترجمة التي تعلقت بصنوف من العلوم كعلم الفلك والطب والفلسفة ...ففي عهد المأمون شهدت هذه الحركة الثقافية عصرها الذهبي وعمل الخليفة على جلب الكتب اليونانية من بلاد الروم وحرص على ترجمتها. لامست الترجمة مختلف العلوم والمعارف الإغريقية والرومانية بآستثناء الشعرو المسرح الذي كانت نصوصه الشعرية تعج بأسماء الآلهة وبالأوثان مما جعل الضمير الديني المسلم يجد حرجا في ترجمتها لغلبة الميتولوجيا الإغريقية عليها ولكن مع ترسخ العقيدة الإسلامية – عقيدة التوحيد- توجه العرب إلى المسرح الإغريقي وترجموا نصوصه. وقد عملت الشاعرة على توظيف بعض أسماء تلك الآلهة المفعمة بدلالات رمزية في بناء صور شعرية تشي بآنفتاح الثقافة العربية الإسلامية وبقدرتها على تمثل تلك العناصر الإغريقية بغرض مد جسور التواصل بين الثقافات. لقد وفقت الشاعرة في توظيف بعض الأساطير الإغريقية والرومانية ضمن نسق بعض القصائد لتضفي على دلالاتها أبعادا أنطولوجية .ففي قصيد " لولا خمر الشعر " تشبه الشاعرة قلبها بقلب هيفستوس فكلاهما من نار وهو رب الحدادة والنار والصناعة رمز للقوة وللتعاطي مع المواد الصلبة تقول الشاعرة: " وقلبها من نار مقال هيفستوس " وتذكر هيستيا في القصيد نفسه آلهة موقد النار فبفضلها أدركنا أن النار تحرق، تقول الشاعرة: " لولا هيستيا لم تلمس النار ذات عصور لما أدركت أنها تحرق " .أن يتغنى القلب ببروميثيوس إله من آلهة الأولمب محب للبشر فذلك لأنه أعطى للبشر ما به يعطون لوجودهم معنى فقد سرق لهم من الآلهة فنون العمارة والبناء والنجارة وعلم الفلك وعرفهم الفصول والأرقام والحروف. تقول الشاعرة: " فكيف للقلب...و يتغنى ببروميثيوس رافع الصوت بمذاق رذاذ البحر ليكون المعطف على الجسد...رسائل كالآيات تورق بالإعتماد عند الأمجاد " من قصيد لولا خمر الشعر. في قصيد " غبطة " توظف الشاعرة آلهتين إغريقية ورومانية كيوبيد ودينوسيوس وكلاهما يحيلان على نشأة الحياة وعلى شرط إستمرارها بيولوجيا ونفسيا، لذلك جمعت الشاعرة بينهما فذكرت في البداية كيوبيد من آلهة الرومان، إله الحب الجنسي إبن الآلهة فينوس رمز الشهوة الحسية ثم عطفته بدينوسيوس إله الخمر (باخوس) وهو ملهم لطقوس الإبتهاج والنشوة والجامع بينهما المتعة، تقول الشاعرة: " وإني أحبك...مذ كانت الأشعار عند أصفياء الله خمرة وعند كيوبيد ودينوسيوس كلمة الحب متعة " في قصيد " شموخ بنفسجة " ذكر للعنقاء التي تتخذها الشاعرة ديدنها في مراودة الأمنيات والمستحيلات .تقول الشاعرة: " أطالع الأمنيات بنوازع العنقاء تستعذب ما يراد من المستحيلات " ثم ذكر لطائر الفينيكس الذي ذكره هيرودوت المؤرخ الإغريقي اليوناني الآسيوي، هو طائر يعمر خمسة قرون ثم يقوم بإحراق نفسه ليعود منبعثا من جديد من رماده كما تذكر الأسطورة. ثم إستعملت الشاعرة في قصيد آخر " تونس أدرى بشعابها " لفظة الفينيق تقول الشاعرة: " ينهض الفينيق وتزهر الأمنية " فكلتا اللفظتين ترمزان للتجدد والشباب. في قصيد " يد من رحيق الصفاء " وظفت الشاعرة أسطورة بينيلوب زوجة أوديسيوس الوفية لزوجها التي ظلت تنتظره وقد طالت غيبته بسبب مشاركته في حرب طروادة، إستدعتها الشاعرة لتعبر من خلالها عن وفائها لمبادئها ولنزوعها الفطري نحو الصفاء والنقاء، تقول: " أشارت بينيلوب قبلي في غيم الأسفار العتيقة أن راقبوا هذه الأرواح الموقدة في وجه الشمس بالوفاء والنقاء. "

د – معجم الوجدان والمخيال:

في إطار البحث عن التوازن بين العقل والقلب أو بين المنطق والعاطفة تعمد الشاعرة إلى البحث عما يخرجنا من إحراجات تلك الثنائيات وهو ما يجمع بين تلك المتضادات، إنه الوجدان تلك القوة الباطنية المليئة بالأحاسيس والإنفعالات والعواطف والميولات إلا أنها تظل مسيطر عليها من قبل العقل الذي يحافظ على توازن الفرد وصلابته. لذلك يبقى مصطلح " الوجدان " جامعا للإنسان في كليته، فكثيرا ما تفيض قصائد بسمة المرواني بهذا النزوع فتتواتر ألفاظا وتراكيب من قبيل " وتر الروح "، فيض قدسي " ألمس الروح " " أنا أحبك " ضمن قصيد غبطة، ثم " إبتسام الطفل " في قصيد قالت العرافة، و" الأرواح الموقدة..بالوفاء والصفاء " في قصيد يد من رحيق الصفاء، ثم " خرائط العيون " و" زرقة قلبي " و" صدق الإحساس " و" رهافة الأمل " في قصيد هيستا…إن المفردات التي لها علاقة بالوجدان إنما تقع ضمن رؤية تعمل الفلسفة من خلالها على رأب الصدع بين تلك الثنائيات القاتلة التي إذا إستبدت إحداها، قد تفقد الإنسان ما به يكون إنسانا. الوجدان كفيل بإرجاع التوازن المفقود للذات التي ظلت لقرون طويلة عرجاء بسبب إستبداد أحد قطبي التوازن: العقل/ القلب، العلم / الدين بمصير البشرية وإقصائه للطرف الآخر. عن الوجدان ينبثق تصور جديد لا علاقة له بالمزدوجات البالية ولكنه موحد للإنسان بصفته ذاتا متكاملة مزودة بعقل وخيال في آن وبشكل لا ينفصم، لهما دور في فعالية الإنسان ونشاطه. هذا التصور يعترف بنصيب الخيال أو المتخيل من تركيبة الإنسان ولا يحذفها، والشعر أقدر الفنون والأجناس الأدبية على تليين شدة العقل وصرامته وتحريك الخيال من خلال الصورة الشعرية القائمة على المجاز وعلى الإستعارة لذلك لا تخلو قصيدة من المجموعة من ذاك المنزع الوجداني، فمثلا في قصيد " في بياض الياسمين " تتخيل الشاعرة فصلا خامسا من فصول السنة تضيفه للفصول الأربعة، فصل له نكهة خاصة مرساه القلب- يسار الصدر- ومنه الحياة وبه الروح تسعد. صورة شعرية تجمع بين الحسي " القلب " والمجرد " الروح " بينهما برزخ تجسده لفظة " الحياة " التي تجمع بينهما ويكون ذلك ممكنا بفضل التخييل. تقول الشاعرة : " فيصيب بنكهة الفصل الخامس ذاك الذي مرساه عميق في يسار الصدر ومنه الحياة وبه الروح تسعد والبهجة تقيم ."

الخاتمة: مجموعة " تعويذة قلب " لبسمة المرواني هي صدى لنصوص متداخلة، تعددت روافدها وتنوعت مصادرها، نحن إزاء نص بصيغة الجمع تسمع في أرجائه أصواتا لثقافات مختلفة تمثلتها الشاعرة وآستبطنتها من خلال تجاربها الشعرية السابقة. إن هذا التناص l'intertextualité الذي كشفت عنه القراءة الأفقية من خلال سجلات القول التي تواترت في المجموعة لم تعد في النقد الحديث نقطة ضعف في النص الإبداعي أبدا، بل هو شيء حتمي وجميل لا بد من وقوعه وبالإضافة إلى ذلك يعد إشارة إلى سعة إطلاع الشاعرة ومعرفتها الثقافية وثراء قراءاتها، بل إن الكاتب المتمكن هو الذي يستطيع إستحضار النصوص السابقة لنصه بالشكل الذي يخدم نصه. إن تاريخ الأفكار تاريخ هجرة لا إقامة، تاريخ ترحال وعبور وهو ما يمنح الثقافة أهميتها وخطورتها. إن نقل المعنى من لغة إلى أخرى ومن ثقافة إلى أخرى وهو ما فعلته الشاعرة بآقتدار يعني إثراءه بآنفتاحه على أبعاد جديدة وتوسيع دلالاته الممكنة والمحتملة وبذلك يتساوى ناقل المفهوم بمبتدعه، لأن النقل في هذه الحال يكون خلقا وتأسيسا. (آنظر مقالنا: أسرار إنتاج المعنى أو الدلالة في حلها وترحالها، مجلة الجديد العدد 68، سبتمبر / أيلول 2020)

***

بقلم : رمضان بن رمضان

في المثقف اليوم