قراءات نقدية

قراءات نقدية

أحمد ختاوية يطارد أفعى الغثيان، على منوال جان بول سارتر، بوجودية تقود نحو الإيمان:

عنوان رواية الكاتب أحمد ختاوي المدينة بدم كاذب لما هذا العنوان المكون من المدينة.. بدم.. كاذب

هل يعكس هذا العنوان محتوى النص، هل يجذب إهتمام القارئ؟ أليس هناك خشية من تضليل القاريء إذا كان غير مناسب؟

قبل أن نبحث عن إجابة لهذه التساؤلات ينبغي أن نشير إلى وجود تناص بين هذه العبارة وهي العنوان وما جاء في سورة يوسف وجاءوا على قميصه بدم كذب) أي: بدم هو كذِب، لأنه لم يكن دم يوسف)

إذا كانت المدينة هي القميص فالمدينة التي جاءت في الرواية هي بوسمغون تقع في الجنوب الغربي من الجزائر حيث عانت من ويلات الاستعمار قبل الاستقلال والتهميش وقلة التنمية بعد الإستقلال، أم هي باريس العاصمة الفرنسية مدينة الجن والملائكة  كما قال عنها الأديب المصري طه حسين وهي أيضا كانت مسرحا لعمليات إرهابية عنيفة وهذا لم يمنعها أن تبقى أكبر عامل مؤثر في شخصيات ثقافية وفكرية وإبداعية عربية ومغاربية،بدم كاذب هل هي دماء زَكِيةٍ كدماء ثورة التحرير نوفمبر 1954 لأجل قضية حق،عادلة وهي المطالبة بالاستقلال وخروج الإستعمار فسالت دماء الجزائريين في بوسمغون وغيرها من مدن الجزائر،وسالت في باريس دماء المهاجرين،إنها صفحة من أحلك الصفحات في تاريخ فرنسا. في 17 أكتوبر/تشرين الأول عام 1961 ومع اقتراب الحرب الجزائرية من نهايتها، قمعت قوات الأمن الفرنسية بعنف مظاهرة نظمتها جمعية "مسلمو الجزائر الفرنسيون" (FMA في العاصمة الفرنسية باريس. فما كانت جريمتهم؟ الاحتجاج والتظاهر السلميان تلبية لدعوة أطلقتها جمعية "جبهة التحرير الوطني" (FLN) في فرنسا للخروج في مسيرات ضد حظر التجول الذي فرضه عليهم موريس بابون مدير أمن العاصمة.

في تلك الليلة وفي الأيام التي تلتها، قامت الشرطة الفرنسية باستخدام القوة في قمع المتظاهرين وضربهم وإعدام بعضهم وإلقاء جثثهم في نهر السين...

لكن وللأسف الدماء التي سالت في التسعينات من القرن الماضي، بما سمي بالعشرية السوداء وهي مرحلة الإرهاب الذي زرعته أيدي الخفاء بإسم الدين وراح ضحيته مئات الألاف من الرجال والنساء والاطفال، من الأجانب السياح والرهبان هنا في أرض الوطن وفي باريس كان دمًا أُهْدِر بغير حق كان دما كاذب بكل معاني الكلمة فمن هذه الحيثية يكون المؤلف قد عبَّر بهذا العنوان عن محتوى النص، وجذب القاريء بصدق إلى قضية إظهار الحقيقة وكشف الزيف والتلفيق ويكون بذلك لم يضلل قاريء الرواية.

يحكي الروائي أحمد ختاوي عن وضعيات تثير الحزن والقلق حتى اليأس والسخرية عن المجتمع البوسمغوني قبل الإستقلال:

كان يسرق المفتاح كلما سنحت له الفرصة من صدر أمه العجوز التي تصلي كل صلواتها بالفاتحة وسورة الإخلاص،ليفتح صندوقا صغيرا تختزن به رغيفا من الشعير

كم كان مملوءا بالنرجسية وباليتم والعوز أيضا.

قالت يعني الطفلة هذا فيتامين لا تمسوه بسوء .....

ولا توزعوه إلا بمقدار كيل كل ثلاثة أيام....

وبينهما كل الناس صيام فهمتم......

ثم يسرد لنا قصة الهجرة والهروب إلى باريس وفرنسا عموما

حيث يبتز المهاجر من طرف أرباب العمل من اليهود وغيرهم

ناوله سيدي كرتول قلنسوة يهودية وثمرا من عرجون متيم بخيام الصالحين وخواء اللحظات......

ثم بعد هذا ينقلنا عبر الزمن كيف يصير حالهم كجيل أول بدأ يتخلى عن ثقافته

كما توضحه الرواية عن شخصيات مثل العربي المدمن على الخمر والحشيش والقمار، محمود صاحب الحانة التي هي مرتع القمار والمخدرات وشوي شرائح لحم الخنزير....

زونة امرأة مغربية مهاجرة تشبه سميرة برودي تعمل في الحانة عشيقة العربي البوسمغوني ....

ثم ينقلنا المؤلف إلى جيل ثاني ولد في هذا الصراع والتفسخ

والضياع وهم أبناء المهاجرين الذي أستدرجوا بمكر في خلايا الارهاب ليجدوا أنفسهم في أفغنستان وجبال الجزائر وفي داعش يقودهم أمثال الزرقاوي.....

لماذا هذا الإنتقاء؟ لأنهم جيل يشده الحنين إلى اوطانهم إلى دينهم وعاداتهم فاستغل هذا الحماس ليخربوا به ما يحبونه من دين واوطان وأهل ووووووو

ينقل السارد هذا الحدث الأليم الذي يضرب الجزائر في أعماقها، وهي الدولة الفتية السائرة في طريق النمو بطريقة جميلة سلسة بين جيل هاجر قبل الاستقلال وابنائهم مع المهاجريين الجدد بعد الإستقلال:

اقترب العربي من شطيرة الخنزير، بصق عليها وهو يتأهب لمغادرة الحانة....

محمود يسأله وشطيرتك؟

العربي أعطيها للقطط يرد بنبرة حادة...

يستوقفه خبر عاجل محطة تي آف 1 الفرنسية مجموعة مسلحة تغتال رهبانا بضواحي البليدة واشتباك في منطقة الاربعاء

تمشيط أدغال الأخضرية بحثا عن معاقل الجماعات الإسلامية......

يرشق التلفاز والمذيع بنظرة ثاقبة..

يتنهد دون أن يعلق، وينصرف.....

يتخلل هذا السرد وصف رائع لحالة من الغثيان يعيشها العالم العربي بمشرقه ومغربه، نجده في أدبيات أمثال

غسان كنفاني، السياب ب والبياتي والجواهري ومعروف الرصافي.....

غناء يردد بكل أنواع الموسيقا الراي، الشعبي، المغربي، الراب

نفس الألم الذي خلق هذا الطوفان من الغثيان

أغاني الشيخة الريميتي، دحمان الحراشي، حسني، خالد، مريم عابد......

ثم يعرج بنا إلى أخطر معانات عانت منها الأمة الفتاوى على بياض من طرف مشايخ في التكفير والتفسيق والتبديع

إن رواية الاستاذ أحمد ختاوي إكتست نمط الرواية الوجودية........

والتي كان رائدها جانبول سارتر وسيمون ديبوفوار وبركامي

وغيرهم لأن لديهم نظرة أخرى للأدب حيث تقدم صور واحداث الرواية كما هي في المجتمع ليسمح للقاريء أن يشكل ماهيته من واقع حقيقي هو يتبناه ويلتزم به دون تدخل المؤلف ذاته وهذا ما لا نجده عند الشكلانيين والبنياويين والذين لم تصل افكارهم إلى تمييز الخطاب الأدبي عما سواه.

يعاني الإنسان أثناء تحقيق وجوده الذاتي من حتمية الاصطدام مع الذّاوات الأخرى ومع العالم الخارجي المليء بالمآسي والعبث واللامعقول، الأمر الذي يخلق عنده حالة من التمزق والقلق والضياع، تفضي به إلى العيش في دوامة من التناقضات والاضطرابات. انعكست هذه الحالات بصدق وعمق مكثّف في أعمال الوجوديين الأدبية، الذين حاولوا من خلالها خلق صور حية وحقيقة لهذا الصراع،فالكاتب أحمد ختاوي بهذا الاسلوب وإختياره لعبارات كعلامات إجتماعية الخاضعة للزمنكان ذات دلالة مشفرة تشير إلى أعمال إجرامية تهدم الدول وتدخلها في حروب أهلية كما نراه اليوم في افغنستان والعراق واليمن،ولا يقوى على مثل هذا إلا أجهزة إستخبارية ودول متمكنة ماديا تمد هؤلاء المجرمين بالمال والسلاح والمعلومات الدقيقة وأيضا يكون المؤلف المتبصر قد منح قرائه "لذة فنية"، يسميها سارتر "طرب فني". وهذا الشعور حين يظهر، يكون العمل قد اكتمل، ويرجع هذا الشعور- في أصله- إلى الانسجام التام، بين "الذاتية" و"الموضوعية"، وهنا، يبدو العالم بمثابة الأفق وراء موقفنا، أو بمثابة المسافة اللانهائية التي تفصلنا عن أنفسنا، فالعالم هو المجموع التركيبي للفكرة، أو جملة العوائق والأدوات على السواء.

ثم تسرتسل رواية المؤلفة كما يفعل الفيلسوف سارتر في روايته الغثيان عن وجود كله ضياع وإن كانت هذه الحالة

اوصلت سارتر ورفاقه إلى الالحاد لأنهم وجدوا تناقض صارخ في ديانتهم الكنيسية، فإنها ستقود غيرهم إلى وجودية إيمانية واستجابة إلى القوة العظمى والتي أقر بها سارتر لما لم يجد تفسيرا مقنعا في السير خلف هذه الماهية التي تسبق الوجود،فنحن نقول ان الإيمان الصادق والاحكام الشرعية الدينية من منقولها الصحيح وبعقل صريح دون تدخل اصحاب الهوى والطمع وفكر الاستعمار عند الآخر، ستوصلنا إلى بر الأمان،إلى السلام والوئام والعدل بين الروح والمادة وبين الفرد والمجتمع، وبين المجتمعات الإنسانية مهما باعد بينها الاختلاف المذهبي أو الديني لأنها ترجع في الأخير إلى القناعة والإقتناع بلا تشدد أو تعصب......

***

تأليف الأستاذ الشاعر رابح بلحمدي الجزائر 

البليدة الجزائر

 

 

توطئة: توفيق الحكيم كاتب روائي مصري ولادة الأسكندرية 1987 -1898 من أكبر كتاب مصر في العصر الحديث، وهومن رواد الأدب الحديث صاحب التيار الأدبي المعروف بالمسرح الذهبي، ويتميّز الحكيم بأسلوبه الخاص الذي يميّز شخصنتهُ الذي حرص المزج بين الواقعية الرمزية والواقع السوسيولوجي المصري المتهالك أصلا حين وضّحها في روايته أهل الكهف، ولهُ القدرة الأسطورية الفذة في تصوير حياة الفلاح الكادح المصري وواقعهُ المزري خلال تعايشه وصراعه الطبقي المرير مع تربة أرض الكنانة وهنا يغوص هذا الروائي البارع في مجمل الدلالات والمعاني بدقة شديدة يرسم على الورق أدوار أبطال روايته بسردية  رمزية بعيدة عن المبالغة كليا حتى تبدوتوجهاته الأدبية تشير للمسار المسرحي، لذا كانت  من أهم  نتاجاتهِ الثرة والثرية. 

كانت بدايات أنتاجه الأدبي في ثلاثينيات القرن العشرين في أبداعاتهِ المتألقة في " أهل الكهف " وعودة الروح، وشهرزاد، وعصفور من الشرق، والطعام لكل فم، ويا طالع الشجرة، ولهُ 100 مسرحية و52 كتاباً وتأثر بالثقافة الأوربية والمصرية فكانت مدوناته الأدبية من وحي التراث المصري بعصورهِ المختلفة ماراً بالتطورات السياسية والأجتماعية، تُرجمتْ اعمالهُ إلى الفرنسية والأنكليزية والأيطالية والأسبانية.

الموضوع: رواية " عصفور من الشرق " للروائي المصري (توفيق الحكيم)1938 جسدت فكرة التباين بين الشرق والغرب، وتعالج موضوع العلاقة بينهما عند توقيت التأريخ التنويري الأوربي ما سمي بعصر النهضة الأوربية التي باتت تعتبر صورة أوربية حديثة ربما صادمة بفجائيتها بالتقدم الأنفجاري بمجالات الحياة اليومية لترقى بالعالم الغربي إلى درجات رفيعة في سلم الحضارة البشرية، بفعل الأستكشافات الجغرافية وحيازة المستعمرات العديدة في أرجاء كوكب الأرض، بينما بقي الشرق قابعاً في مكانهِ مذهولاً من جراء تحسسهِ بالهوة السحيقة بينهُ وبين الغرب، بأعتقادي أن الصدمة الكهربائية شكلت عوامل دفع في فضاءات الشرق حيث أخذ يتحسس مواطن الحضارة الغربية ليفهمها ثُمّ ليستوعبها، وخلال كل هذا الصراع قد يشعر بالدونية ويعيش الجلد الذاتي على تأخرهِ هذا، كان " توفيق الحكيم " سباقاً إلى طرح تلك العلاقة (روائياً) وفتح الأبواب لتجارب أخرى جاءت بعدهُ مثل " قنديل أم هاشم " ل يحي حقي 1940 والحي اللاتيني لسهيل أدريس 1954 ثُمّ  " موسم الهجرة إلى الشمال " للطيب صالح، فكانت رائعة توفيق الحكيم " عصفور من الشرق " موفقاً في توظيف تقنيات الفن الروائي وأبعادها عن الخطابية والتقريرية التي طفت على ما قبلها، ورسم الأحداث والشخصيات بشكلٍ مقنع يدعو القاريء للغوص فيها، وكان الحكيم فناناً محترفاً وواعياً بتقنيات الكتابة الروائية التي تختلف كليا عن الكتابة الخطابية الوعظية، ففي هذه الرواية بالذات أعطى الأولوية للحدث الذي يتحرك ويتطوّرْ ليترك القاريء أستنتاج الدلالات. وكشف الحكيم في الرواية مآخذ تلك الحضارة الغربية في: مادية الحضارة الغربية التي غيّبتْ روحانيتها وخلوها من روح الفن وهنا يتجاوز الحكيم مفهوم الصراع إلى مفهوم أعمق هو التأكيد على فقدان الروحانية في الحضارة الغربية الحديثة، ومن جانبٍ آخر طرح الحكيم في روايتهِ بعض المشتركات والمقاربات التأريخية والحضارية الفنية بين الشرق والغرب، وشكلت الرواية مدخلاً وأساساً لمنظري السلام وحوار الحضارات في القرن العشرين، مؤكداً على غياب (الكمال المطلق) في كليهما الشرق والغرب، والرأي للكاتب الروائي الحكيم يطرح من خلال شخوص المسرحية الروائية: أن الحضارة الغربية لا تسمح للناس ألا أن يعيشوا في عالمٍ واحد فقط بينما الحضارة الشرقية تكمن سر عظمتها أنها جعلت الناس يعيشون في عالمين دنيوي وآخروي أو سماوي وأرضي.

الفروق الجدلية بين الحضارتين وقراءتها حداثوياً!

تعد الدراسة أنعكاساً حقيقياً لحال المجتمع الفرنسي في زمن حياة الحكيم في ثلاثينيات القرن الماضي، وتكمن  مغزى الرواية في صراعات الحضارات والنظريات المطروحة في محاولة الروائي البحث عن الحلم المفقود، وقد قرأتُ الرواية في السبعينات من القرن الماضي وجدتُ فيها من كل زهرة لون بها من الحب ربيعهُ والعمر صحراءهُ ومن الروح شفافيتها، وبعاطفة شبابية متأججة تقمصتُ تأييد الحكيم في كل ما طرح من رؤى عن الغرب والشرق، واليوم ونحن في الألفية الثانية من القرن 21 وأصبح زمن الروائي الحكيم عن بعد أكثر من تسعين عاماً وتحت تأثري بالمعطيات الحداثوية المعصرنة طلقتُ أفكار الحكيم لتأثري بالواقعية والتأمل بدل أحلام اليقظة الغيبية وتمسكتُ بأهل الأرض لتحسسي بأوجاعهم وطموحاتهم المشروعة في الرغيف والحرية، وأهم هذه الفروق هي:

-الفرق الدستوري تعتبر المجتمعات الشرقية على العموم مبتلاة بأنظمة شمولية دكتاتورية قمعية، بينما الأنظمة الغربية محمية بأنظمة وقوانين عادلة في حقوق الأنسان، وهل أطلع الحكيم – وهو في فرنسا – على مباديء روسو في الحرية والمساواة.

- القدرات العلمية عند الغرب متعددة ومتجددة وقابلة للتطور وتولت اختراعات الغرب في كل مجالات الحياة، أما الشرق لم ينتج أي شيءٍ نافع ولم يكملوا ما بدأ الأجداد في حقول الطب في زمن أبن سينا وأبن الهيثم بل أعتمدوا الأتكالية والأستهلاكية الطفيلية.

-الفرق المعماري والبيئي أتجه الغرب في التفنن في ريازة العمارة والحدائق والمنتزهات والنصب التذكارية، بينما العرب ليس فقط أهملوا هذا الجانب بل تفنن المتطرفون الأسلاميون في تخريب وأزالة العمارة والنصب التأريخية وقد فجعونا في الموصل العراقية سنتة الأحتلال 2014في نسف منارة الحدباء التأريخية وأزالة مدينة الحضر التأريخية، فهي أمة بدوية سالبة كما قال العلامة المغربي أبن خلدون في كتابه المقدمة.

- الفروق الفلسفية  في الثقافة الشرقية تعتمد على الأسلامية والبوذية والكونفوشية بعموم شمولية القارة الآسيوية بينما تعتمد المسيحية والتلمودية وتنحو بأتجاه العقلانية المنطقية، الثقافة الشرقية تستند على الأبدية بينما الغربية تستند على الفلسفة المسيحية في كل شيء لهُ بداية ونهاية، والشرقية تستخدم التأمل الروحي من خلال الذات أما الثقافة الغربية تعتمد على المنهج العلمي بمنجز عملي في البحث خارج الذات من خلال البحث والتحليل، تعتمد الثقافة الشرقية على الوسائل الروحية والغيبية في تحليل الظواهرالطبيعية والأجتماعية بينما الثقافة الغربية تعتمد على التحليل المادي الملموس للظواهر السوسيولوجية للمجتمع.

- قابلية الحضارة الأوربية على التطور خلال القرنين السادس عشر والعشرين شملت مجالات الفلسفة وتطوير طرق التربية والتعليم وأزدهار العلوم الأنسانية وأنفتاح العقل الغربي ومشاركته الفعلية والعملية في عصر التنوير، وظهور مباديء ومصطلحات جديدة مثل الديمقراطية، أما الحضارة الشرقية على العموم أنها بدأت في وادي الرافدين ووادي الكنج والسند والأردن منذ أكثر من سبعة آلاف سنة أن شعوبها علمتْ الغرب أبجديات الحروف والكتابة ولكنهم لم يحافظوا عليها وأهملوها ولم يخضعوها للتطوير بفعل التركيبة الذاتية السايكولوجية المتقوقعة للعربي والنظم الأستبدادية الشمولية المستلبة ووقع في المحذور حيث الأنعزال والأتكالية بأخذ قشور الحضارة الغربية وترك جوهرها وأصلها كما قال نزار قباني في هذا الموضوع: (لبسنا ثوب الحضارة والروح جاهلية) 

أخيراً/قد أختلف مع الروائي المتألق وهو من الكبار- ليعذرني – في أنعدام حياديته بين الحضارتين أذ أنحاز بشكلٍ كلي في روايته الرائعة " عصفورٌ من الشرق " ذاكراً سلبيات الحضارة الغربية دون الأشارة إلى أيجابياتها وتنويرها العالم المادي بالمعرفة والتكنلوجيا، وأنتقاده لماركس الذي فك لغز الأنعتاق للطبقات الفقيرة والمسحوقة في الشرق والغرب، وغاب عنهُ أن يذكر مستلبات وسلبيات النظام الرأسمالي المتعدد الرؤوس في أستعمار الشعوب وسلب مقدراتها المادية والأرثية الثقافية، وتكلم عن الفاشية الماركسية وتغافل عن ذكر الفاشية النازية والرأسمالية الجشعة والطفيلية المتوحشة التي أشعلت الحربين الكونيتين التي أبادت الملايين من بني البشر وتخريب البنى التحتية والفوقية لنصف العالم تنازلا لعراب الأقتصاد الرأسمالي (مالثوس)، وللحقيقة لم يكن في طرحهِ عدلاً، وهنا تكمن الهفوّة التي وقع فيها الروائي الحكيم متجرداً ومنحازاً كلياً للشرق مسلفناً أفكارهُ بأثنية قبلية تحامل بطريقة غير موضوعية على الحضارة الغربية بالوقت الذي الغرب هو الذي حقق أحلام البشرية من خلال الأنجازات العلمية، بيد أن الحكيم أصر خلال سرده الروائي على عمق زمكنة الحضارة الشرقيىة.

أي نعم ولكنهم لم يحافظوا عليها أو يطوروها لخدمة البشرية، وهو يقول: على لسان (أيفان) بطل روايته عصفور من الشرق: آه--- آه النور يشرق من بلاد الشرق ليغرب في بلاد الغرب ص180، ليتهُ (حياً) ليرى ماذا أقدم عليه عصابات خارج التأريخ وهم مسلمون من تكفير الغرب والشرق وفرض الجزية على الشعوب ونصب دكات النخاسة لبيع وشراء المرأة، ومعاول وبلدوزرات جيشها أتت على الأخضر واليابس، وهو يعترف بضياع الشرق في متاهات السخافة القشرية لما تسمى بالحضارة الغربية حين يقول في ص186و187: حتى أبطال الشرق قد ماتوا في قلوب الشرقيين /أنتهى --- نعم اليوم لا يوجد شرق !؟ أنما هي غابة بين أشجارها مجموعات متناحرة مفككة تلبس زي العرب على غير نظام ولا ترتيب ولا فهم ولا أدراك.

وتلك هي رسالة أدعوا الشرقيين – وأنا منهم - إلى الأمام ليجعلوا من شرقهم رمزاً حقيقياً وليس مشوّهاً.

***

عبدالجبارنوري

كاتب وباحث عراقي مقيم في السويد

...................

هوامش

* موساوي نعيمه –أثر الثقافة الفرنسية لمسرح توفيق الحكيم – 2010 الجزائر جامعة تلسمان ص15- 14بتصرف

* هدى التميمي – الأدب العربي عبر العصور – بيروت – ص575 بتصرف

يتميز النص المسرحي بصفة الازدواجية في الكتابة والعرض. فهو خطاب نصي يتمتع بميزتين الأولى إمكانية قراءته كنص أدبي كسائر النصوص الأدبية والثانية إمكانية مشاهدته كعرض تمثيلي على خشبة المسرح والانتقال بالمتلقي من المقروء إلى الملفوظ.

مسرحية موتى في إجازة الصادرة عن وزارة الثقافة/2022، تضمنت ثلاث مسرحيات معنونة بالترتيب كالتالي..موتى في إجازة ،السحابة الحمراء ،الجرذان كل واحدة منها تنتمي إلى شكل بناء درامي مختلف يعكس الواقع وكل مسرحية تحتاج إلى دراسة منفصلة وقد ارتأيت بأن أحلل في ورقتي هذه المسرحية الأولى والتي وسم بها الكتاب الذي ضم المسرحيات الثلاثة.

مسرحية موتى في إجازة.

هذا النص مقسم إلى ست مشاهد تقدمتها عبارات إرشادية قدمت وصفا لمكان وزمان الأحداث وأحيانا كانت تكتب خلال الحوار أو في نهاية كل مشهد للتعريف ببعد من أبعاد الشخصيات أو وصف حالة على خشبة المسرح أو وصف لنوع موسيقى أو شيء يتعلق بالإضاءة.

تحليل

-الفكرة..

لا بد لكل مسرحية جيدة من فكرة أساسية واضحة المعالم سليمة التكوين. وفكرة موتى في إجازة هي محاولة التغيير من خلال ثورة على الظلم والمجتمع تؤدي بأبطالها إلى موت آخر بعد فقدانهم حقهم في مساحتهم الصغيرة من التراب.

-الموضوع..

جاء شكل البناء الدرامي الذي اختاره حسام الرشيد لهذه المسرحية درامي تغريبي والتغريب في المسرح استخدام اللفظ أو الموقف في غير مكانها المألوف لتثير الوعي باغترابها. ويرتبط مصطلح التغريب المسرحي بالألماني برتولد بريخت حيث أدخل هذا المصطلح إلى المسرح كأداة فعالة تكشف عن أن الإنسان في أي مجتمع هو ثمرة إفرازات التناقضات الاجتماعية التي تنعكس على حياته فينجم عن ذلك حاجة ماسة إلى التغيير ونبذ الركود بشرط أن يشارك هو نفسه في عملية الاغتراب. وهذا بالفعل ما سعى حسام الرشيد إلى فعله في هذه المسرحية حيث استخدم أبطاله من الموتى ونقلهم إلى غير مكانهم المألوف وهو إخراجهم من قبورهم وإعادتهم إلى الحياة من خلال منحهم إجازة في سعي منهم لتغيير المجتمع من خلال قيامهم بثورة على الظلم والمجتمع معا. وقد قام حسام الرشيد بكسر وحدة المكان وتوظيفها في تقنية الاغتراب. فأحداث المسرحية دارت في أماكن متعددة، المقبرة،مكان حفل التأبين،بيت ناصر،شقة حمدان، الخان المهجور.

كما لجأ إلى توظيف الديكور لإنجاح عملية الاغتراب فاستخدم أدوات بسيطة شواهد قبور متناثرة، صخرة حدباء،صفوف مقاعد بلا مساند،طاولة عريضة،ستارة الدانتيلا وغيرها ربما ليستدعي ذهن المتلقي لكي يكمل ما نقص من الصورة.

كما وظف الكاتب الإضاءة لإنجاح تقنية التغريب فقد استعمل الإضاءة المركزة في مناسبة واحدة عندما خرج الأبطال الثلاثة من قبورهم واستراحوا على صخرة حدباء حيث تم تسليط الضوء عليها وذلك لتبئير المشهد حول قطب الحركة في المسرحية وهم هؤلاء الأبطال.

نستطيع أن نقول بأن حسام الرشيد لجأ إلى تقنية التغريب لأن من وظائفها في المسرح التسييس وإثارة الوعي فقد تبنت هذه المسرحية قضايا الإنسان المسلوب الإرادة وقضايا اجتماعية مثل إدانة السلبية والخنوع والصمت وبيع المبادئ من أجل المال والسعي وراء المراكز العليا كما حصل مع رفاق منيف في الحزب الذين قاموا بوضعه قيد الإقامة الجبرية حتى قضى نحبه.وأدانت المسرحية الطمع والخيانة كما في شخصية شقيق حمدان الذي قتل حمدان أستاذ الجغرافيا وصاحب المبادئ وزوجة ناصر الفنانة التشكيلية التي باعت أيضا مبادئها عندما عرضت لوحات زوجها للبيع بأسعار باهظة طمعا بالمال.

-الشخصيات

إن الشخصيات بما تفعل وبما تظهر من حياة مكونة من عواطف وأفكار وأحلام وبما تشترك فيه من صراع وبما تصفه من مشاكل تقدم لنا المادة الحيوية التي تقوم عليها المسرحية ويرى روجر بسفيلد (إن المسرحيات التي ظفرت بالشهرة الحقيقية في جميع العصور تمتاز عادة بميزة صنع الشخصيات). والشخصيات بتقسيمتها التقليدية تقسم إلى رئيسية وثانوية.لكن هناك أنواع أخرى للشخصية مثل الشخصية المحورية التي يدور حولها الحدث وتتمثل هنا بناصر ومنيف وحمدان.

لكن الشخصية التي ألقت بالحجر في مياه الدراما الراكدة وكسرت وتيرة الأحداث وعملت حراكا دراميا صامتا وأقول صامتا لأن ردة الفعل لم يكن لها ضجيجا بالفعل بل كانت ردة الفعل مشادة كلامية غيرت من مخطط البطل وهدم فكرته بالتغيير مثل شخصية المحامي الذي كشف زوجة ناصر وما خططت له من خلال الدعوى القضائية التي كسبوها لملكية اللوحات هذه الزوجة التي مسحت أول حرفين من شاهد قبره حتى تلغي وجوده فلا يتعرف عليه أحد حتى بعد مماته.والراقصة التي سترقص في شقة حمدان بعد أن تحولت على يد شقيقه إلى ملهى وهذه الحقائق صدمت الأبطال وكانت نقطة تحول جعلتهم ينتقلون من حالة إلى الحالة النقيض فبدلا من الثورة التي أرادوها عادوا أدراجهم إلى المقبرة وهذا التحول دفع التطور الدرامي إلى نقطة أخرى رأى الأبطال من خلالها هزائمهم المحتومة في مجتمع لن يتغير.وهناك شخصية نمطية تمثلت في حارس المقبرة الذي ظهر للأبطال الثلاثة حينما عادوا إلى المقبرة وصدمهم بأن قبورهم لم تعد لهم فقد شغرها أموات أخرون غيرهم لكن هنالك فرصة هي الدفن الجماعي في قبر واحد هو لعاهرة حينما قال لهم قبر عاهرة خير من الموت في العراء وهذه العبارة ربما حملت الكثير من المعاني وهي الرضوخ والخنوع اللذين رفضه أبطالنا فتوقف حينها الزمن وتجمدت حركة الكائنات وتحول الثلاثة إلى تماثيل يستظل بها العابرون والظل هنا هو الحقيقة الحاضرة الغائبة حقيقة التغيير التي ربما يلتفت لها البعض وربما لا يلتفتون بل بدلا من ذلك يتبولون عليها وهذا دليل الرفض، رفض التغيير لمجتمعات جمدت فكرها وظلت متمسكة بالقديم البائد.والحارس يشير إلى قضية عامة وهي تواجد أداة السلطة التي تستعمل القمع لجعل خياراتك محدودة بل كما أرادتها هي للشعوب في كل زمان ومكان.

-الحوار..

من المعروف بأن المسرحية لا تأخذ شكلها النهائي إلا عن طريق الحوار فهو نمط تواصل. والحوار الدرامي كلام ذو حساسية مفرطة ،دائم التحول والتغيير والاختلاف.وهو ينقسم إلى حوار خارجي وداخلي وقد استخدم حسام الرشيد كلا النوعين. فاستخدم الحوار الخارجي بين أبطال المسرحية أما الداخلي فقد لجأ إلى استخدام الحوار الجانبي مثل الذي تحدث به منيف خلال حفل تأبينه حينما قال هذا اللعين لم أره في حياتي...الخ وقد جاء هدفه كتعليق ساخر على كلمة المدعو بالرفيق سالم.

والحوار يعتبر ضابط إيقاع النص وأهم خصائصه التكثيف وقد استخدم الكاتب هذه الخاصية حيث كانت معظم حواراته مكثفة إلا ما استدعى الإطالة في سبيل تحقيق رسالة أراد إرسالها عن طريق هذه الإطالة.

ومن وظائف الحوار التي نجح الكاتب في توظيفها قدرة حواراته التي أجراها على لسان أبطاله على تطوير الحدث ودفعه للامام فلا يبقى الحدث ستاتيكي ثابت في منطقة واحدة.

وحوارات حسام الرشيد خالية من التعقيدات اللغوية فكانت فكرته التي أراد إيصالها واضحة لا لبس فيها.

وقد لاحظنا بأن الحوارات كانت ملائمة لطبيعة الشخصيات وأبعادها المادية والاجتماعية والنفسية فناصر بفكر فنان ومنيف بفكر رئيس حزب وحمدان بفكر أستاذ جغرافية وانعكس هذا الفكر على حواراتهم.

-الصراع..

الصراع ينقسم إلى خارجي وداخلي. أما الخارجي فقد يكون بين الشخصية وبين قوة خارجية أحيانا يكون المجتمع بقوانينه وعاداته أو السلطة القامعة أو بين أشخاص ،ومسرحية موتى في إجازة كان الأبطال يصارعون المجتمع ككل والظلم متمثل ببقية الشخصيات الثانوية..

وقسم آخرون الصراع إلى ساكن ،صاعد،واثب ومرهص.. ونلاحظ بأن الصراع حسب هذه التقسيمة ينتمي إلى القسم الأول وهو الساكن حيث كان رد فعل الأبطال الثلاثة مقابل فعل الأشرار ضدهم أقل وهنا لم نشعر بوجود صراع والسبب في اختيار الكاتب لهذا النوع ربما ليبعث لنا برسالة مبطنة بأن الواقع بظلمه وتخلفه هو أقوى من قدرتنا على التغيير وهذا ما كان في المشهد الأخير حينما تجمد الأبطال وتحولوا إلى تماثيل. وهذه النهاية قد تكون صادمة للمتلقي لكنها نهاية واقعية بكل ما تحمل الكلمة من معنى.

وأخيرا بقي أن نقول بأن حسام الرشيد نجح في تجسيد إشكالية ممتدة تصلح لكل زمان ومكان وهي إشكالية العجز عن تغيير الواقع لأن كل واقع فيه أشخاص يتسلقون على ظهر الآخرين متخذين منها سلالم للارتقاء إلى أعلى المناصب والوصول إلى المال ولو على حساب كرامتهم وقد عبر حسام الرشيد عن معاناة النخبة أصحاب المبادئ الثابتة التي لا يغيرها الزمن مهما جار.

***

بديعة النعيمي

 

أشرنا في المقال السابق إلى محور المرأة في قِصَّة "صادق أو القَدَرZadig Ou La Destinnée " للأديب الفيلسوف الفرنسي (فولتير Voltaire، -1787)، وأنها كانت تدير الكثير من الأحداث، أو تدور حولها الأحداث الكثيرة بالأحرى. فهي، منذ بداية القِصَّة، تبدو أوَّل محرِّك للأحداث، وهي أوَّل من يقف معه البطل (صادق) في صراع. أحبَّ (سميرًا) لكنَّها ابتعدت عنه لمَّا علمتْ أنَّ العَوَر سيُصيبه. وكانت السيِّدة سمير نفسها تُوقِع الشِّقاق، بل العِراك، بين صادق و(أوركان)، الذي ينافسه عليها، والذي استطاع أن يخطفها من صادق ليتزوَّجها. ثمَّ لمَّا اقترن (صادق) بفتاةٍ أخرى، هي (أزورا)، لم تكن خيرًا من (سمير)، ولا حظُّ صادق معها خيرًا من حظِّه مع الأُولى؛ وقد انقلبت عليه في التمثيليَّة التي اصطنعها مع صديقه (كادور) ليكشف صدق وفائها، حتى كادت أن تجدع أنفه لتشفي كادور- الذي مثَّل معها دَوْرَ الحُب- من ألمه في الطحال.(1)

ويأتي محور العِشق أيضًا وتأتي المرأة في سياق ما دار بين (صادق) وسيِّدةٍ حسناء، كانت تربطه بها علائق الإعجاب المشوب بعلامات الودِّ والرِّضا، لكنَّ الصروف تقضي عليهما بالسجن، بسبب مكيدة دبَّرها الحسود عند الملِك.(2) غير أنَّ جذوة الودِّ بين (صادق) والسيِّدة الحسناء تخبو، لتشبَّ نار عِشقٍ ملتهبةٍ بينه والملِكة الفاتنة (أستارتيه)، التي كانت أروع جمالًا من (سمير)، وأبرع حُسنًا من (أزورا). وسيُخلِص لها (صادق) وتُخلِص له، إلى أن يحظيا في نهاية القِصَّة بما رغبه أحدهما من الآخَر.

وفي أثناء هذا تظهر المرأة عاشقةً أو معشوقةً في كثير من المَواطِن. فقد عُرِض موقفٌ نبيلٌ في يوم العيد لأحد المحبِّين، ضِمن المواقف النبيلة التي كانت تُمنَح جائزة (بابل) من الملِك. ويحكي ذلك الموقفُ قِصَّة «فتًى كان يُحِبُّ فتاة أشدَّ الحُبِّ، ويريدها زوجًا، لكنَّه عَلِمَ أنَّ لها مُحِبًّا يكاد يُهلِكه الحُبُّ؛ فنزلَ له عنها. ثمَّ لم يكتف بهذه المكرمة وإنَّما أدَّى المهر من ماله الخاص.»(3) ثمَّ عُرِض موقفٌ آخَر: لجنديٍّ اختطفَ الأعداءُ أُمَّه وخليلته، فمال إلى إنقاذ أُمِّه، برغم حُبِّه الجارف لتلك الخليلة.

وكان يَرِد على (صادق) في القصر، كلَّ نهار، سيلٌ من الحسناوات اللاتي يخطبن ودَّه، ويُعرِبن عن إعجابهنَّ وكَلَفهنَّ به. حتى امرأة الحسود سعت في سبيل التقرُّب من صادق ما استطاعت، ثمَّ كادت له وللملِكة عند الملِك حين أحسَّت بما يتجاذبهما من عاطفة، وأحرقتها نيران الغيرة.

وتطالعنا المرأة مرةً أخرى في «المرأة المضروبة»؛ تلك المرأة المِصْريَّة (ميسوف) الجميلة، التي أنقذها (صادق) من يدَي حبيبها، الذي كان يضربها بدافع الغيرة أيضًا.(4)

 وتُطالعنا المرأة كذلك في بلاد العَرَب، في شخصيَّة (المونا)، أو (المُنَى)، تلك الأرملة الشابَّة التي كان القانون يفرض عليها أن تُحرَّق بعد موت زوجها، كما هي عادة العَرَب حينذاك، في زعم (فولتير).(5) وقد استطاع (صادق) أن يُغري الشابَّة بالحياة ويثنيها عن الغرور الذي كان سيدفع بها إلى النار. بل لقد أحبَّته ودعته إلى الزواج بها، لكنَّه كان مشغول القلب بالملِكة (أستارتيه). وقد أنقذت (المُنَى) صادقًا من براثن الكهنة، الذين سخطوا أشد السخط لِـما سمعوه من تحريضه النِّساء على الخروج على هذه العادة الشنيعة. بل استطاعت بذكائها أن تفضح أسرار الكهنة المستفيدين من تحريق النِّساء، وأن تُفسِد هذا القانون في بلاد العَرَب، وتزوَّجت أخيرًا (بسيتوك)، التاجر العَرَبيِّ الذي كان اشترى صادقًا من (مِصْر)، بعد أن حكَمَ عليه المِصريُّون بالرِّق، عقب موقفه الآنف ذكره مع المرأة المِصْريَّة (ميسوف).(6)

وهكذا، كان (فولتير) يردِّد، كغيره من قَبله ومن بَعده، ثقافة المَثَل الفرنسيَّ "فتِّشْ عن المرأة Cherchez la femme". وهو مَثَلٌ ينحدر من ثقافةٍ عالميَّةٍ قديمةٍ جِدًّا، تَنسِب كلَّ الخطايا إلى (حوَّاء). تعود إلى القِصَّة التوراتيَّة العتيقة حول حكاية (حوَّاء وآدم) في الفردوس، كما وردت في "العهد القديم"، وقبل ذلك في الأساطير السومريَّة.(7) ويظلُّ آدم- وَفق صورته في تلك الثقافة الذكوريَّة الظالمة- حمَلًا بريئًا، وغبيًّا في الوقت نفسه، تعبث به المرأة، إنْ في الأرض أو حتى في السماء!

ولحكايتها بقايا مثيرة نتطرَّق إليها في الحلقات الآتية من هذه السلسلة.

***

أ. د. عبدالله بن أحمد الفَيفي

(رئيس الشؤون الثقافيَّة والإعلاميَّة بمجلس الشورى سابقًا- الأستاذ بجامعة المَلِك سعود)

....................

(1) يُنظَر: فولتير، فرانسوا ماري آرويه، (1979)، القَدَر، نقلها إلى العَرَبيَّة: طه حسين، (بيروت: دار العِلم الملايين)، 20- 21.

(2) م.ن، 31- 00.

(3) م.ن، 36.

(4) يُنظَر: 58- 00.

(5) هذه العادة البراهميَّة الهنديَّة لم تُعرَف في عادات العَرَب، وإنَّما عُرِف أنَّ بعض أجلافهم كانوا يئدون بناتهم خشيةَ الإملاق أو العار.

(6) يُنظَر: فولتير، 67- 80.

(7) يُنظَر: سِفر التكوين، الإصحاح الثالث؛ وكريمر، صمويل نوح، (1980)، من ألواح سُومَر، ترجمة: طه باقر، مراجعة: أحمد فخري، (بغداد: مكتبة المثنَّى)، ، 242- 249.

 

دراسة في الأعمال الشعرية للشاعر حسين عبد اللطيف.. الفصل الثالث ـ المبحث (1)

مهاد نظري:

العدم أو المعدوم هما صفتان لا يتصف بهما من يجانب (التكون - التغيير) والانتقال بهما إلى عالم من مداليل الشعر.كما هو الحال في صفات (الأضداد)فلا يمكننا وضعهما جنبا إلى جنب في مساحة فضائية موحدة من الاحوال والأنسنة في قرائن الملفوظات الغير عاقلة.فالعدم ليس فيه بذور أو جدوى من أوجه الإمكان في مسار التصور والتكوين النواتي إطلاقا، لذا لا يمكننا إطلاق التسمية العدمية حول شواغل مدلول شعري، وإلا أصبحت القصيدة عبارة عن مجموعة من الغمائم الفارغة.فلابد إذاً من وجود (الممكن ـــ الإمكان ـــ الذات النواتية) فالقضية القائلة من قبل بعض النقاد بأن هناك حالات عدمية، فهذا بالأمر الممكن، ولكن لا يمكن لهذه الحالات اكتساب صبغة عدمية كلية على مجمل تفاصيل النص الشعري.فالممكن هو المعدوم الذي يتهيأ أن يوجد أو لا يوجد؟والمعدوم بدوره ممكنا أيضا ولكن في حدود مؤشرات موضوعية معدومة أيضا.إذن يمكننا القول حول بعض من نماذج شعر مجموعة(لم يعد يجدي النظر)كونها حالات شعرية جعلت تستدعي المعدوم في صفات من يحمل الإمكان، وهذا الأمر من جهة ما جائزا، لأن الفاعل المنفذ - الدوالي، موجودا في تمفصلات الممكن المتخيل، وإذا صار الأخذ بالممكن دون وجود عدمية الفاعل نفسه، فلابد لنا من التوغل في أسباب ذلك الفاعل ومن خلفه المعدوم في اللاجدوى من التكون والتفاعل في تحولات الإمكان الوصفي والقولي في خطاب الدال.

ــ الذات المؤولة وحوادث الممكنات العدمية:

بيد أن من البين من خلال الممكنات الاحوالية حالات الاستدعاء التلفظية في حدود حقيقية معقولة بالقياس إلى كون جوهر حقيقة المادة الذواتية، هي مسمى صوري ووسائطي لا توجد مقاديرها إلا في (الحدوث ــ الحادثة ـــ الزمن) وإذا كان وجود الذات ممكنا كحادثة مسبوقة بالأعراض والكيفيات، فلابد لها من التسليم بضرورة شرائط المصير.الشاعر حسين عبد اللطيف كما صادفنا الأمر المشار إليه تحديدا، هو من أبرز ممكناته شعرا حيث إحداث هذه الأوضاع من موضوعة (اللاجدوى ــ العدم ــ التيه) وصولا إلى جوهر المعنى الكامن في هوية قصيدته (أصرة) ضمن مختارات ديوانه موضع بحثنا:

بين الطريق والطريق

القدم

بين الغصن والشجرة

برعم

أو

ورقة

بين حياتي و ـــ النجف ـــ

خط مستقيم ./ص188

بإمكاننا ملاحظة الاتفاق الضمني والعلني بين عمومية الدوال، وما يترشح منها من خاصية ذاتية ملموسة في إطار حسية الذوبان في المعدوم من خلال دلالة العنونة المركزية الدالة ـ علائقيا ـ ب(أصرة ) ويبدو أن ما تصدرت به الدوال الأولى من النص، كوحدات تجمعها ملمزمات علاقة أفضائية على نحو ما من ملفوظ السياق.في هذا المعنى من مؤديات الدوال، تنحسر عيانية التلفظ بما يخولنا على معرفة أن المشار إليه عبر ضمير المتكلم، هو الشاعر نفسه، ذلك عندما أجاز لذاته العبور المستقيم الذي لا تحد منه العوائق والعلاقات بشكل ما، نحو موضع حتفه المشار إليه بـ (النجف) والمقصود بهذا الدال ليس المدينة ذاتها، وإنما حول وجود المقبرة فيها. إن القراءة المجملة للنص لا تعني لنا بعدا مخصصا حول الحديث عن الأثر النصي من ناحية إبداعية، بقدر ما تحملنا موجهات مبحث دراستنا حول وجود مستوى خاص من الخصوص حول ثيمة(العدم ـ المعدوم)وما جاء به النص موضع نموذجنا القرائي، خير دليل على أن الشاعر ينطلق نحو العدم من زاوية الاتفاق الممكن، إي من منطلق حدوث الأمر أو عدم حدوثه في أي مرحلة زمنية ما، مادام هو مسلما وجوده بالدلالة القاطعة كونه لا يفصله عن الموت أية حاجب ما، حتى وأن اختلفت الأسباب والمواقيت في ذلك الحدوث.

1- المدلول الشعري بين التزامن الممكن والتلائم الدلالي:

من الروابط البديهية في شعر حسين عبد اللطيف، أن تكون المحصلة الإنتاجية ــ النصية، على مستوى من المقايسة المتزامنة بين فاعلية التلفظ والبرهنة القرائية المخصوصة في العلاقة والشكل والحيز.وذلك تحديدا ما وجدنا لمثله في شواهد قصيدة (خطاب إزاء خطاب)والمقصود من وراء هذه العنونة، هو التحقق الامتثالي بين الأوضاع الدلالية:

يطلق البحارة:

لحى غلايينهم

دون أن يفطنوا

إلا أن الدخان ـ هو الآخر ـ

يطلق حكمته الأخيرة

حول المصير . / ص189

نحن هنا حيال ظاهرة شعرية تشتغل على المزامنة في التمثيل والمماثلة، كوظيفة موقعة في مسار المشابهة والمقابلة دلاليا: (يطلق البحارة ــ الدخان ــ المصير) وهذه الوقائع التلفظية ذاتية في المختزل والموجه والتحفيز.غير أنها أيضا تنطلق من ذات (جهات الموضوعة) ولكنها تتعارض من حيث الخاصية في المحكي.أن الكتابة في شكل هذا النص عملية إنتاجية نظرا لوضع المنتج الدوالي في وحدات مقابلة من الوصف والرؤية: ولكن يا ترى هل أن مجمل متعلقات الثيمة العدمية مختزلة في النص نفسه؟الجواب يكون بالتوكيد الممكن من كون شاغلية جمل (الدخان ــ هو الآخر ــ يطلق حكمته الأخيرة ــ حول المصير) إذاً الصفة الملوحة في غاية المحصول (الدخان ـ المصير) غالبا ما يشكل قيمة ممكنة نحو المصير العدمي، لذا فدلالة جملة (لحى غلايينهم)هي بحد ذاتها شكلا نحو تبخر الآمال والأوضاع المؤملة في رؤية البحارة، الأمر الذي جعل خطاب النص يقابل خطابا عدميا مصدره مجهولية المصير.

2 ــ تفكيك الجاذبية ومغامرة إبطاء الاختلاف:

إن في أغلب الأعم من تجارب قصائد ديوان (لم يعد يجدي النظر) ثمة اكتمالات (ميتا حداثوية) في ما يتعلق و مجرى مكونات الدال وشيفرته ووظيفته.وهذا الأمر بدوره أيضا ما ينسحب على أعمال الشاعر الأخرى وخاصة رائعته الكبرى (نار القطرب) التي من خلالها إكتملت تجربة حسين عبد اللطيف كشاعرا على حد تقديري النقدي.أردت أن أقول في هذا الفرع من مركز مبحثنا، إن الأكتمال البنائي (الشكلي ـ الموضوعي ـ الدلالي ) في مشغل قصيدة مجموعة (لم يعد يجدي النظر) كانت اعتمادا على المخيلة الفعالة التي من خلالها، بدا المنتج الدوالي في نص الشاعر، يحتل لذاته مراتب حضورية تتوغل بعيدا في سطوة الآفاق النصية .من خلال قراءتنا إلى قصيدة (إحالة) تعرفننا على موضوعة الإثبات وكينونة التجاوز والانخلاع من منطقة النمط الشعري السائد، لذا وجدنا عبر محاور الدوال ثمة متماهيات في الرؤية الأقرب إلى الفن السريالي، ولو أن الشاعر قد أشار عبر يافطة نصه ب (إحالة) ما يقصد به الاستدعاء في الأمر عينه وليس في شكله.إذ نقرأ هذه المقاطع من النص حتى تتبين لنا أوجه الصورة أكثر سعة وصدورا:

من بين ما يعنيه السلم:

الهرب من الجاذبية

لا مناص من الموضوع

إن لم تصدقوا...

اسألوا الجناح

عن القفص ./ص192

ربما إن التفصيلات في دوال النص، كانت تتطلب من الشاعر نفسه أن يكون أكثر تبحرا من مشاعية هذه المفردات الإخبارية.على أية حال، أقول أن حجم التماهي بين (السلم ـ الجناح ـ القفص)هي ليست بالإحالات تماما، بقدر ما تعنيه حالات العلامة السيميائية من مرمزات ذات أوجه متغايرة، ولكنها من ناحية ما بدت متوافقة في الحضور المعادل.الشاعر ومن خلفه الأنا المتخيلة تسعى إلى رفع القيد عن وجوده الآنوي، لذا فهو يرجح لنا في جملة(إن لم تصدقول..؟)فهو يواجه سطوة أغلال الواقع بمحاولة الاستئثار بذلك ـ الشاهد الغائب ـ في مزاياه ومسمياته، ليتوحد مع جدلية (حرية السلم )من قيود سلطة الأرضي، بما يعادل دليل المقاربة في جملة (أسألوا الجناح ؟)وهذان الموقعان رغم تفاوت المشبه والتشبيه بينهما، فللضرورة بينهما علاقة معادلة ومقارنة على حد ما.

ـ استدراج النص إلى غواية شعرية اللاجدوى:

أنني ميزت من خلال دراسة شعر حسين عبد اللطيف وأدركت بأن الكتابة لدى الشاعر نفسه بوصفها حادثة (هيرمنيوطيقية)يقوم بها زمن الدال عبر هواجس فاصلة بين الأوجه الذاتية ومؤشرات العلامات التي هي بحد ذاتها وقائع أحوالية ولكنها تصب في مجرى فعالية (التأويل ـ المؤول) إذ يرتبط المعنى في أحياز شواغل الدلالات في مرجحات غنية بالمضمر والمرمز وسيكولوجية المنضوي تحت المقاصد والأغراض الأكثر غورا في غواية (العدم ـ اللاجدوى) أو من خلال غائيات مرتبطة بمقادير تمتزج في مساحة تشكيلية متمحورة من بؤرة الأنا الشعرية عبر صوتها المتلفظ تحققا وحضورا متحولا.نقرأ ما حلت بمجال قصيدة (بنا حاجه) حيث الخلفية الصراعية المحتملة في كشوفات أغراض الذات الآنوية:

بنا حاجة

بنا حاجة إلى النوم

إلى نوم طويل ونسيان

إلى عزلة في الجبال وهرب

إلى هرب./ص 204

1 ـ فضاء اللاجدوى وعزلة توطين الحلم:

يعود ـ فضاء اللاجدوى ـ مجددا في مقترحاته الإظهارية في مستهل هذا الفرع المبحثي، لنواجه منه ذلك النموذج الشعري عبر جملة تفعيلات في مواضع ومنازع مرهونة بوعي اغترابي يسعى إلى توطين الماهية الحلمية في منظور الرؤية إلى ثنائية خاصة من(التداخل الذاتي ـ التخارج الذاتي)وعيا تاما يرتقي بدوال الممكن صعودا إلى الالتحام بالإمكاني المعادل، وذلك عبر مفتتح جمل النص (بنا حاجة ـ بنا حاجة إلى النوم ـ إلى نوم طويل ونسيان)وتضع المعادلة الابتدائية من المعلوم الإمكاني، ضوءا في الانتقال من فضاء الاستتار الأحدي في الذات المتلفظة (بنا حاجة) وصولا إلى مسار الدلالة في طبيعة مكونات الحاجة في ذاتها (بنا حاجة: إلى النوم ـ إلى نوم طويل ـ ونسيان ـ إلى عزلة ـ في الجبال ـ وهروب إلى هروب) وهنا تبتدى مقاصد المتن النصي خضوعا شبه تام إلى منظومة فعلية من التلاعب في استدراجات المشهد، ناهيك عن صوغ أحواله ضمن حدود الأداء الفعلي وبالجمع وبالمعطى الدوالي المتكرر في تفعيل دور لفظ (بنا حاجة) امتدادا نحو التغييرات والاستبدالات (النوم ـ النسيان ـ عزلة ـ جبال ـ هروب ـ هروب) إذ تتخلق وحدات الدال عبر مراحل تحول تدريجي، وتفتح لذاتها كشفا أنزوائيا مشيعا في مناخ النص وضوحا عاليا بالمسلمات الذاتية اللامجدية من التواصل النواتي عبر الزمن والمكان والذات التي تحيا في مقتضيات وجودها الداخلي بمعطيات خائبة خارجيا ومسلوبة من آهلية وجودها الحق:

أو

ترك العشب..

ينمو..

على الأثر./ص204

ولعل في هذه الوحدات ما يفسر لنا، مدى انسحاب الذات الشعرية عن محيطها الابتدائي الأولي، بيد إنها لا تعول بهذه النهاية حتى على جدوى أن ينمو العشب بصورته الطبيعية والفطرية، وأنما من خلال فعل الأثر المخلوع عن الذات في جملة موزعة ما بين اللاجدوى والعدم الأقصائي إلى أقصى غاية من الحدود الصفرية.

2ـ تصادفية الأفعال ودينامية اللحظة المفارقة:

يشتغل المنطق الشعري في معادلات الشاعر الكبير حسين عبد اللطيف على النحو الذي تبدو من خلاله معالم الأحوال والتحولات القصدية والغرضية والغيرية، وكأنها خاضعة في سياقات مكتفية بالاستفهام والاستنكار والرفض الوجودي، مما جعل أمر تشكيلات بنياته الدواليةفي مجموعته الشعرية (لم يعد يجدي النظر)موضع مباحثنا، وكأنها أطروحة صورية في حالات اصطياد (الإحالة ـ المفارقة ـ الأضداد ـ اللامتشابه في التشابه) أي أنها كما لو كانت جملة الأحوال اللامتكاملة في شرائح الأفعال والأوضاع التصويرية، أو إنها من جهة ما بدت في ذاتها هبوطا صاعقا بالمختزلات العكسية للزمن وبيان الموضوعة.نقرأ هذه النماذج المقطعية من ذات النص المصنف بهوية الهيئات الرقمية:

لم يعد يتناسل إلا السر

لم يعد يخضر إلا الخريف

لم يعد يستغلق إلا البرهان

لم يعد يتنمر إلا الذهب

المصادفات

وحدها

ما يترتب الآن!./ص205

المراد هنا من خلال أفعال الجمل الشعرية، هو إظهار إن الفعل الأحوالي، إذا أريد منه أن يكون شيئا آخرا، فهو لا يخلو من أحد اعتبارين: أما أن يكون بالفعل شيئا آخرا، أو بعد لم يصير شيئا آخرا، وبالاعتبار الأول يسمى بالفعل الجازم بوصفه تشكلا من تشكلات التفارق، وبالثاني يسمى التلائم في حدود النسبة النقيضة، أي أن يكون لنقيض المحمول بالجملة ما هو مصدق باليقين المفارق، أي إن الرؤية الشعرية بمثل هكذا مقامات وأحوال، تشكل المعرفة بوجود الامتناع، حفظا للمعنى المحمول إمكانا أو نقيضا متماثلا.الشاعر قد أختار هذه الحركية المتشكلة بالإمكان الجازم، حتى يتسنى له ترجيح الواقعة الكونية إلى محض تراتبية تصادفية ليس إلا.

ـ تعلق القراءة:

حاولنا في مبحث دراسة كتابنا في هذا الصدد من الاستدلال والتحويل والتأويل، الكشف عن تضمينات الدالات التي تؤلف بدورها أهمية النص الشعري في عوالم الفذ الكبير حسين عبد اللطيف، وإذا كنا قد سلكنا في مبحثنا هذا جملة دلالات تختص بـ(الممكن المعدوم لا يعد ممكنا بالإمكان؟)فذلك لأن آليات وأحوال ومقاصد قصيدة هذه المجموعة للشاعر، أكثر إيغالا في الأواصر(الميتا شعرية) نظرا لأن محفزات المخيلة لدى الشاعر راحت تصل بصفة الممكن العدمي إلى ملامح جعلت تسعى إلى خلق من المعدم دالا إمكانيا ذات موجهات مدلولية دالة تمثلا وإنجازا.ولكننا عندما قرأنا بعض من نماذج هذه المجموعة، لاحظنا العلاقة القصدية بالمعدوم الممكن، حيث من الصعوبة الإيحاء به كإمكانية محسوسة بالإيهام الإمكاني، ذلك لأن الدلالات الشعرية بوصلتها الاستعارة والمجاز والكناية والتورية والإحالة والتدوير، لا أن تكون مرسلا بالقيم العدمية عبر مداليل زوالية ذاتية مرهونة بالإمكان العدمي الذي لا يجوز الأخذ به كقيمة علائقية موضوعية شعرية خصبة.ولكننا بإمكاننا القول في الوقت نفسه إن بعض من نماذج شعرية المجموعة، قد سعت من جهة ما إلى توطين الذات العدمية في حدود حلمية وضنية وتفارقية فنية، إذ بدت الذات الشاعرة من خلالها تطرح العلامات والرموز والأسئلة في أتون أنساق موفقة من علاقات القرائن والبدائل المتواترة في المعنى والصورة والدلالة الضمنية الأكثر بروزا وتشخيصا في الكشف عن مأدبة الأضداد ومكابدة الواقع المعطى في قشور حياة الشاعر الانطفائية من كل رونق المقدمات الحياتية الهانئة والمبهجة، لهذا الأمر وجدنا أغلب قصائد أعمال الشاعر، تتصف باللوعة الفقدانية والحسية بالمعدوم من كل زوايا حياة الشاعر الضيقة الخناق والضاجة بأسئلة الأعتراضات والشجب والاستنكارات، فيما يبقى التعويض عنها بالمزيد من الأصوات والبنيات الشعرية القادمة من قعور ذاتية تفترض في خطابها المفردة العدمية، وتلحقها بقرائن من الذوبان في فضاءات من اللاجدوى والقنوط والمفارقة الفنية الدالة.

***

حيدر عبد الرضا

 المغزى الدلالي الكامن وراء عنوان المجموعة القصصية «من وجدَ نعل غاندي» للقاص حسين كامل، لا نجده في قصة تحمل هذا العنوان ضمن المجموعة التي صدرت مؤخراً عن دار (بغدادي) منتصف عام 2022، العنوان يحيلنا إلى حادث منسوب الى الزعيم الهندي المهاتما غاندي، ربما تبدو قصة الحادث غير واقعية، إنما نسجتها المخيلة الشعبية لتأكيد زهد غاندي بممتلكاته الشخصية، تروى القصة عن فردة حذاء فقدها غاندي، بعد أن كان مسرعاً فأراد اللحاق بالقطار، وأثناء ذلك رمى الفردة الثانية بعد أن استقل القطار، فتعجب أصدقاؤه عن مغزى ذلك، فقال: أحببت للفقير الذي يجد الحذاء أن يجد فردتين يستطيع الانتفاع بهما.

ثمة أسئلة يضعنا القاص في مواجهتها تبدأ في البحث عن معنى الفقدان، والخسارات، ومكمن السعادة والتضحية، كيف لنا ان نبتكر الفرح للآخر، تلك عناوين تفصح عنها أغلب قصص المجموعة، وإن جاءت بمسميات أخرى، لكنها تعبر عن رؤية فكرية وموقف شمولي من قضايا عدّة، اختزلها القاص في هذا العنوان.

إن تأمل المصير الإنساني، ومراجعة قضايا الموت والعبث واللامعقول وسواها، ما يشير الى تحقيق الاستثارة الذهنية والنفسية المتأتية من الإحساس بالعالم الذي يعيشه القاص، موحياً اليه بالمعاني والدلالات الخفية لمفردات لغته في وصف مشاهد الموت والعذاب وهي تحمل أكثر من معنى، بحكم اختصاصه المهني في الوسط الطبي الذي يشهد فيه عشرات الحالات من الألم اليومي، (قصة: أيقونة زرقاء، وقصة: استراتيجية الجراثيم) فضلاً عن حالة اليتم التي لازمته مذ كان صبياً، لعل هذا الحزن يعبر عنه بالعبارة التي تصدرت المجموعة (إلى أمي التي ماتت بالتدريج، وهي تمحو الحنين من حياتي). حتى كأنها ما تزال الى جانبه، وأن صوتها إذ يرنّ بخاطره، يلقي إليها يديه في صمت، يحس بأنها تستفيق لديه في لهف تملأ وحدته.

يعتمد القاص في تتبعه لأحلام شخصياته على لغة الوصف الموحية، واستخدام ظلال الصور وألوانها، ما جعل من دلالات الحدث القصصي الرمزية أشد وضوحاً من دلالالتها المباشرة. في قصة (الفأر الذي يأكل الكلمات) تحتل الفئران بيته تقرأ الكتب وتقرضها، الفئران تخلع الحروف من الورق، وتأكل اللغة، ليس كل لغة بل اللغة التي تذكر في نهايات الكتب. وقصة (بذور مصرية في بطن عراقية) تحكي عن امرأة تبتكر طريقة في اكتشاف المرأة الحامل، أن تتبول على بذور الحنطة والشعير، فإن نبتت فذا مؤشر للحمل. وفي (أناس المزاريب) مخلوق ينبش مزاريب الناس، كنبّاش في استخراج مخاط الحياة، قصة (ظلمة أديسون) مشحونة بالغرائبية واللامعقول، راضي بائع الكبّة يستيقظ بعد نوم عميق ليجد نفسه رئيساً للوزراء، يطرح أمام وزرائه أزمات نومه المزعجة: الوسادة عالية، أحلامه مليئة بالكوابيس، يدعوهم للتخلص من الليل، يصرخ ليقبضوا على أديسون مكتشف الكهرباء، تبرع أحد حراسه أن ينام بديلاً عنه وهو من يحلم، بينما الحراس يلتهمون ما تبقى من كبّة، ظل السيد راضي نائماً برأس غيره. هذا اللون من التعبير في الفن القصصي العراقي يبدو غير بعيد في تاريخه، إذ شهد العقد السادس من القرن الماضي الانطلاقة الأوسع والأشد إيغالاً وتوسعاً في اعتماد الحلم، أو ما يعرف بالأسلوب السيريالي في السرد، الذي تكاد تكون معالمه واضحة في أغلب قصص حسين كامل، تسوقه إليه ميوله الخاصة، وإحساسه بواقعه وتجربته الحياتية، فهو مطبوع بأسلوبها، لا مؤدلجاً في اتجاهها.

إن قصصا مثل (لوحة لرؤوس كل الحيوانات) تصور عالماً عجائبياً صرفاً: هبطت عليّ حمامة صغيرة، نقرتني، حملت جسدي، وقعت منها. في قصة (أطراف): في الخنادق البعيدة عند الحدود العراقية، يبحث عن ساقه الأولى، عاد بسيارة حمل كبيرة، محملة بالسيقان المنسية والمتضررة، وفي قصة (دار): تحول أبي إثر تعب كثير الى (راء) معكوفة بعد أن كان (ألفاً) واقفة!! وقصة (سارق الأنف) تتحدث عن حشرة عنود ملونة وقفت على أنف امرء، يحاول طردها، أو القبض عليها لكنها سرقت أنفه واختفت في حفرة وجد فيها عشرات الأنوف. هذا الاتجاه يبثه القاص في طيف واسع من قصصه، في استخدامه تقنيات الحلم، والتمازج بين الحلم والواقع أحياناً، بين عالم الأحياء والأموات، وتبادل الأدوار في عرض المشهد القصصي، سواء عن طريق الحوار أم السرد، ثم تتابع الصور، وتداخل الأحداث، والأصوات، وتغريب الواقع ليجعله ماضياً، وبعض صوره تأتي حادة ذات وقع صادم.

قصة (نبؤة الغراف) تنمّ عن موهبة طيبة، وتمكّن فني ضمن لها القاص بناء عالم قصصي نامٍ بعفوية وانسيابية، القصة عن صابر الذي يهدد أمه بالهرب منها، بعد دفع أجور حليب رضاعتها، أو تعويضها بأكياس حليب (المدهش) فغاب عن البيت، وجدوه غريقاً في نهر الغراف، كانت الأم ترقب الضفاف تسمع ضحكات الأسماك التي ترقص تحت سطح الماء، ظهرت جثة صابر، هشّة مكفنة بالعشب، حين كشفت الأم ثديها الأيسر أمام النهر لتعرف أجور حليبها! هذه القصة في اعتقادي من أجمل قصص المجموعة، بلغتها المكثفة، ووسائلها التعبيرية تقدم لنا نموذجاً من القصص ذات المستوى الفني المعبر عن أزمة الإنسان وصراعه ضد كل ما يشوه إنسانيته، فهذا الإحساس الطاغي بالموت يبدو هاجساً يتعدى المظاهر الخارجية، يهيمن على ذات القاص إلى حيث المشاعر المأزومة بمعنى فقدان الأم، هنا يبدو القاص بحسه المرهف وشفافيته، يرتقي عن المستوى المباشر في السرد إلى حيث تصبح القصة مثل نور اليقين المنسل من ظلمات النفس وعتمتها السابقة. ومما يعمق الإحساس بسلبية ذلك الجو الذي تعيشه الشخصيات القصصية، لجوء القاص إلى تصوير مشاعر الضيق الدائم والإحساس بطغيان الخوف من المستقبل،

ما تزال أمام القاص فرصة أكبر لتطوير أدواته السردية، (اللغوية والتقنية) ولكي تنضج تجربته في الكتابة لا بد من مراعاة للسمات الجمالية والفكرية في النص، دون الاستغراق في الغرائبية في انثيالاتها وتداعياتها، والتنوع في أساليب الكتابة.

حسين كامل يمتلك من الصدق والمخيلة والشجاعة، واللغة المفعمة بالايماء، الغنية بالإيحاء الدال، ما يؤهله لأن يكون قاصاً واعداً متميزاً بين زملائه كتاب القصة الشباب.َ

***

جمال العتّابي

صدرت الطّبعة الأولى لهذه الرِّواية في عام 2003، والنُّسخة التي بين يدي هي الطّبعة الثّانية 2006 الصّادرة عن دار الاختلاف – الجزائر. في 151 صفحة من الحجم المتوسط.

"أنتَ رضعتَ من ثدي الذِّئبة، لذلك تستحق أن تتوسَّط التَّوأمين رُومُلُو ورِيمُو في حضن روما يا أَمِدِيُو!". ص 109.

تدور أحداث الرِّواية حول جريمة قتل في مصعد عمارة في ساحة فِيتُورْيُو في روما، القتيل هو الشّاب الإيطالي "لورانزو مانفريدي" المدعو "الغْلادْياتور"، الذي كان دائم الاعتداء على المهاجرين وإهانتهم. والمُتّهم المُشتبه به في هذه الجريمة هو المدعو "أَمِدِيُو"، والذي يكاد يُجمِع على براءته من ارتكاب هذه الجريمة كُلّ من عرفه من سكان العمارة، كانوا يعتقدون أنه إيطالي من الجنوب لإتقانه الحديث باللُّغة الإيطالية أفضل من الكثير من الإيطاليين أنفسهم. حيثيات التَّحقيق في هذه الجريمة تُظهِر الواقع العنصري وصراع الهويات الذي يعيشه المهاجرين - خاصة غير النِّظاميين - في الغرب وفي هذا النَّصّ السَّردي إيطاليا مثالٌ عليه.

في هذه السَّردية الشَّيّقة تتماس حقيقة شخصيات مختلفة الانتماءات والهويات والثَّقافات والمستويات الاجتماعية، يُقابلها "عواءات" الشَّخصية المحورية في الرِّواية "أَمِدِيُو":

* الشَّخصيات والعواءات:

- بارْوِيز منصور صمدي؛ لاجيء سياسي إيراني من شيراز. يعمل طبَّاخاً ويكره البيتزا كُرهاً لا نظير له. هو صديق أَمِدِيُو. يقول: "تعرفتُ عليه في إحدى المدارس المجانية لتعليم الإيطالية للأجانب في ساحة فِيتُورْيُو، كان ذلك عقب وصولي إلى روما بقليل. كان أَمِدِيُو متميزاً عن الجميع بمداومته على دروس سْتِيفَانْيا دون أن يُفوّت درساً واحداً... بعد شهور قليلة قرر أَمِدِيُو الانتقال للعيش مع سْتِيفَانْيا في شقتها المطلة على ساحة فِيتُورْيُو... كنا نلتقي يومياً تقريباً في بار سانْدْرُو لتناول الكَابُوتْشِينُو والشّاي." ص 15. " أَمِدِيُو كالمرفأ الجميل، نُبحر منه لنعود إليه دائماً. عندما أُطرد من العمل أجد نفسي كالغريق،وحده أَمِدِيُو يمد يد المساعدة." ص 18. "هذا مستحيل أَمِدِيُو قاتل! لن أُصدق أبداً ما تقولون... أنا متأكد من براءته. ما علاقة أَمِدِيُو بذلك المنحرف المقتول الذي يبول في المصعد؟ ". ص 22. "أنصحكم بالبحث عن الحقيقة. أَمِدِيُو ليس القاتل، لا يُمكن أن تكون له علاقة بهذه الجريمة. أَمِدِيُو بريء من دم الغْلادْياتُور. أنا حزين لغيابه، لا أعرف ماذا حدث له بالتّحديد لكني متأكد من أمر واحد: من الآن فصاعداً لن ينتبه أحد عندما أبكي في ساحة سانْتا مارِيا ماجُورِي... روما دون أَمِدِيُو لا تساوي شيئاً. أَمِدِيُو هو الملح الذي يُعطي لطعامنا المذاق الطّيب." ص 25.

- عواء أَمِدِيُو...

- بِنِدِتا إِسْبُوزِيتُو؛ نابوليتانية من نابولي، بوابة العِمارة التي اُرتكبت جريمة القتل في مصعدها، "ماذا تقولون؟! السِنْيُور أَمِدِيُو أجنبي! لا أُصدِّق أنّه ليس إيطالياً." ص 34. "حسناً ، إذا كان السِنْيُورأَمِدِيُو أجنبياً كما تدّعون، فمن هو الإيطالي حقّاً؟ بدأتُ أشك في الجميع حتّى في نفسي... إنه يتكلّم الإيطالية خيراً من ابني جِنَارُو بل أحسن من الأستاذ في جامعة روما أنْطُونْيُو مَارِينِي" ص 35. "يجبُ أن تعرفوا أن السِينْيُور أَمِدِيُو هو الوحيد الّذي يمتنع عن استعمال المصعد في هذه العِمارة" ص 36. "جاء للإقامة مع سْتِيفَانْيا. كم كنتُ سعيدةً بهذا السّاكن الجديد. هذه الحياة ليستْ عادلة على الإطلاق. قولوا لي: هل تستحق سْتِيفَانْيا مسّارو شاباً وسيماً مثل السِينْيُور أَمِدِيُو؟! هذه الشّيطانة تكرهني كأنني قتلتُ والديها، أنا أيضاً أكرهها، أتحاشى قدر الاستطاعة التّحدُّث معها." ص 37... "لا! السِينْيُور أَمِدِيُو لا دخل له في هذه الجريمة البشعة. أنا لا أعرف مَن قتل لُورَانْزُو مَانْفرِيدي؟ وجدته في المصعد مقتولاً يسبح في دمه. لم يكن "الغْلادْياتور" شخصاً محبوباً في ساحة فِيتُورْيو، أنا متأكدة أن سبب انحرافه هو البطالة. ما أكثر الشُّبّان الإيطاليين الذين لا يجدون عملاً شريفاً فهم مجبرون على السَّرِقة والكسب غير المشروع. يجب طرد العُمال المهاجرين وتعويضهم بأبنائنا المساكين." ص 38. "أنا متأكدة أن قاتل الشَّاب لُورَانْزُو مَانْفرِيدي هو واحد من المهاجرين." ص 40.

- عواء أَمِدِيُو...

- إِقْبَال أمير الله؛ من بانغلاديش، بائع في محل للمواد الغذائية. "السِّينْيُور أَمِدِيُو من الإيطاليين القلائل الذين يأتون عندي لشراء بعض المواد الغذائية. إنه زبون مثالي يدفع ثمن السِّلع نقداً ولم أسجِّل أبداً اسمه في دفتر المديونين... السِّينْيُور أَمِدِيُو إيطالي متميّز؛ إنه ليس فاشياً أي عنصرياً يكره الأجانب مثل الغْلادْياتور الذي كان يتعدّى على المُهاجرين ويُهينهم بِشتّى الوسائل. لقد نال هذا الحقير جزاءه. البوابة بِنِدِتا عنصرية كذلك، إنها تكرهني بلا سبب ولا تردّ على تحيتي بل تتعمّد إهانتي.." ص 49. "السِّينْيُور أَمِدِيُو الإيطالي الوحيد الذي يمتنع عن إحراجي بالأسئلة المتعلِّقة بالحجاب وحقوق المرأة والمُحرمات." ص 50. "السِّينْيُور أَمِدِيُو مُجرم فار من العدالة؟ لا أستطيع تصديق هذه التُّهمة. الشَّيء الذي يُحيّرني هو الخبر الذي تناقلته نشرات الأخبار: السِّينْيُور أَمِدِيُو ليس إيطالياً وإنما مهاجر." ص 51. "أنا لا أعرف أين هو الآن لكني متأكد من أمر واحد: السِّينْيُور أَمِدِيُو ليس أجنبياً ومجرماً! أنا واثق من براءته من دم الشّاب الإيطالي الذي لا يبتسم أبداً." ص 54.

- عواء أَمِدِيُو...

- إِلِزَابِتَا فَابْيانِي؛ مواطنة إيطالية من روما مُقيمة في العمارة. "إِلِزَابِتَا فَابْيانِي مُدمنة على شيئين إثنين: حُبّ الكلاب والتّعلُّق بالأفلام البوليسية." ص 69. "السِّينْيُور أَمِدِيُو هو الشّخص الوحيد المتسامح في هذه العِمارة. لم يتضايق من فَالِنْتِينُو عندما كان ينبح بل كان يُعامله بعطف وحنان." ص 61. "من قتل المسكين لُورَانْزُو مَانْفرِيدي؟ أنا لا أعرف، اسألوا الشُّرطة. أنا أعرف تمام المعرفة القتيل المأسوف عليه، كان صديقاً لابني ألبرْتو أثناء الطُّفولة والمُراهقة، كانا لا يفترقان كأنهما أخوين. جاء لُورَانْزُو للعيش مع جدّته العجوز بعد طلاق والديه اللذين خاضا صراعات قضائية محمومة من أجل اقتسام الميراث والحصول على حضانة الولد. لم تكن الجدّة قادرة على تربية حفيدها مما دفع لُورَانْزُو إلى التّخلِّي عن الدِّراسة مبكراً ومخالطة بعض المنحرفين. لا شك أنه ذهب ضحية تصفية حسابات بين عصابات المخدّرات." 66.

- عواء أَمِدِيُو...

- ماريا كريستينا غُونْزالِيز؛ مهاجرة دون وثائق قانونية من البيرو، تعمل في شقة السِّنْيورة رُوزَا ذات الثَّمانين عاماً ومصابة بالشَّلل. "السِّنْيُور أَمِدِيُو هو الوحيد الذي يعطف عليَّ ويقف إلى جانبي في أوقات المحن. أنا شقية وغبية لا أنكر ذلك، تدعو حالتي إلى الحيرة والتّعجب: ... أنا أبكي كثيراً من شدّةِ الخوف: الخوف من ضياع العمل، الخوف من الفقر، الخوف من المستقبل، الخوف من الشّرطة، الخوف من كلِّ شيء." ص 73. "أريد أن أشعر بالاطمئنان لكن المصيبة أنَّني بلا وثائق، إنَّني كالقارب الصَّغير الذي تحطم شراعه وصار تحت رحمة الصُّخور والأمواج." ص 76. "السِنْيُور أَمِدِيُو قاتل! هذا شيءٌ لا يقبله العقل. أنا متأكدة من براءته. ثُم كيف يتهمونه بأنه مُهاجر؟ هل الهجرة جريمة؟ أنا لا أفهم لماذا يكرهون المُهاجرين بهذا الشَّكل." ص 78.

- عواء أَمِدِيُو...

- أَنْطُونْيُو مَارِينِي؛ أستاذ جامعي من ميلانو يُدرس في جامعة روما، يُقيم في نفس العِمارة التي وقعت فيها جريمة المصعد. "أنا من ميلانو ولست متعوِّداً على هذه الفوضى... لم يكن ترك ميلانو والقدوم إلى روما قراراً صائباً... قبلت بمنصب معيد في معهد التّاريخ بجامعة روما." ص 84. وهو يجسد صورة النّظرة الدُّونية التي ينظر بها أهل الشّمال إلى أهل الجنوب في إيطاليا: "هكذا أهل الشّمال يعملون ويُنتجون ويدفعون الضّرائب وأهل الجنوب يستغلون هذه الأموال في إنشاء العصابات الإجرامية مثل المافيا في صقلية ولاكامورَّا في نابوليس ولانْدراغِتا في كلابْرِيا وعصابات الاختطاف في سَرْدِينْيا. المصيبة أن الشّمال عملاق اقتصادي وقزم سياسي! هذه هي الحقيقة المُرّة." ص 85. "أَمِدِيُو مُهاجر! بالنِّسبة لي لا فرق بين المهاجرين وأهل الجنوب. لا أفهم علاقة أَمِدِيُو بالجنوب... سمعته مرّة يقول: أنا من جنوب الجنوب!" ص 86. "هناك فضيحة لا يمكن السُّكوت عنها: هل تعرفون أن سكان عمارتنا يبولون في المصعد! إنه أمر مؤسف حقّاً. لم نكتشف الفاعل بعد، الأمر الأكيد أم أَمِدِيُو بريء لأنه لا يستعمل المصعد ويُفضِّل السَّلالم." ص 87. "يجبُ أن أعترف أن امتناع أَمِدِيُو عن استعمال المصعد والأوتوبيس والمترو وتعلُّقه بالمشي جعلني أشك في انتمائه إلى تيار سياسي يفوق النّازية والفاشية والستالينية خطورة ألا وهو تيار "الخضر"." ص 89. "لا تسألوني عن القاتل، أنا أستاذ جامعي ولست المفتش كُولُومْبُو !بالمُناسبة هل تعرفون كيف كان يُلقّب الشّاب المقتول؟ "الغْلَادْياتور"! هذا دليل كاف على تخلف أهل روما وتعلقهم المرضي بالماضي. من المستحيل أن تجد في ميلانو من يُطلق على نفسه هذه الشُّهرة! هذا يحدث في الجنوب فقط." ص 90.

- عواء أَمِدِيُو...

- يُوهان فان مارْتَن؛ شاب هولندي يقيم في نفس العمارة التي وقع بمصعدها جريمة القتل. مولع بالسِّينما الإيطالية ويرغب في تصوير فيلم واقعي عن سكان العمارة: يقول "جئتُ إلى روما لدراسة السِّينما وتحقيق الحلم الجميل الذي راودني منذ الصِّغر. أنا مُعجبٌ بالسِّينما الإيطالية كثيراً، ولا أخفي تعلقي بالواقعية الجديدة التي أحدثتْ قفزة نوعية في صناعة السِّينما وطرحتْ نفسها بديلاً لسينما هوليود. أُحِبُّ أفلام روسِليني ودي سيكا. "روما مدينة مفتوحة" لروبِرْتُو روسِليني و"سارق الدَّراجات" لفيتوريو دي سيكا هُما مِن أحسن الأفلام في تاريخ السِّينما، وقد صوِّرتْ بعض مشاهد الفيلم الثَّاني في ساحة فِيتُورْيو. هذا هو السّبب الذي دفعني إلى اكتراء غرفة في العمارة التي يقيم فيها أَمِدِيُو في ساحة فِيتُورْيو." ص 96. "أَمِدِيُو أجنبي! هل يُعقل أن يكون الشّخص الذي يُمثِّل إيطاليا العظيمة أجنبياً؟ إنه الوحيد الذي يُجيب على أسئلتي المتعلِّقة باللغة الإيطالية والسِّياسة والمافيا والطّبخ والسِّينما، إلخ. ثُمّ لا يمكن أن أفهم اتهامه الغريب بمقتل الغْلادْياتُور. أنا أعرف هذا الأخير معرفة جيدة لأنني كُنتُ أتقاسم معه شُقته. كان يعشق الكلاب كثيراً، يكفي أن تُلقي نظرة على أرجاء بيته لِتشاهد مئات الصُّور الخاصّة بالكلاب. إنّ مَن يُحِبّ الكلاب بهذا الشّكل لا يستحق ميتة الأشرار بطعنة سكين قاتلة. أعرف أنه لم يكن محبوباً من طرف سكان العمارة بسبب تصرفاته الغريبة.كان يقول لي دوماً: "أنا كلب متشرِّد لا سيد لي!"." ص 98. "هل كانت هناك عداوة مسبقة بينه وبين أَمِدِيُو؟ لا أملك الجواب. أنا متأكد من شيء واحد: العثور على القتيل في المصعد يحمل دلالة معينة. أغلب المشاكل بين سكان العمارة سببها المصعد ... المصعد هو أساس المشكلة، ليس ثمَّة إجماع بين سكان العمارة لاستعمال المصعد... هذا المصعد سفينة يقودها أكثر من قُبطان!". ص 99.

- عواء أَمِدِيُو...

- سانْدْرُو دَنْدِينِي؛ صاحب بار دَنْدِينِي في الأربعين من العُمر: "أنا صاحب بار دَنْدِينِي لمقابل لسوق فِيتُورْيُو، أغلبية زبائني أجانب، أنا أعرفهم جيداً،... ليس من السّهل أقناعي أن صديقي أمِدْ (Amed) ليس إيطالياً. أَمِدْ (Amed) هو أَمِدِيُو (Amedo) من عادتنا في روما حذف الحروف الأولى أو الوسطى أو الأخيرة من الأسماء، أنا مثلاً اسمي سانْدْرو لكن اسمي الحقيقي ألِسانْدْرو." ص 105. "أَمِدِيُو بريء من هذه الجريمة البشعة. أَمِدِيُو طيب وكريم، فهو طيب كالخبز كما نقول نحن في روما". ص 108. "أجدُ صعوبة في تصديق ما تقولون! أَمِدِيُو مهاجر مثل بارْوِيز الإيراني وإقْبال البنغالي والخادمة السّمينة ماريا كريستينا وبائع السّمك عَبَدُو والهولندي الأشقر..." ص 108. "أنتم لا تعرفون أَمِدِيُو كما أعرفه أنا، إنه يعرف تاريخ روما وشوارعها أكثر مني بل أكثر من ريكاردو نارْدِي الذي يفتخر بأصول عائلته التي تعود إلى العهد الرُّوماني. ريكاردو سائق تاكسي... ذات مرّة قال له ريكاردو ضَاحِكاً: "أنتَ تعرف روما كما يعرف الرَّجُل ثدي زوجته، بل أنتَ رضعتَ من ثدي الذِّئبة، لذلك تستحق أن تتوسَّط التَّوأمين رُومُلُو ورِيمُو في حضن روما يا أَمِدِيُو!". ص 109. "نعم. لا أنكر أنني تشاجرتُ مع الغْلادْياتُور كما تشاجر معه كُلّ سكان العمارة. كان يستفز الجميع بتصرفاته السّيئة... أنا أقول وأكرّر: لا دخل لأَمِدِيُو بهذه الجريمة. أنا مقتنع تماماً ببراءته ومستعد لأضع يدي على الجمر." ص 112.

- عواء أَمِدِيُو...

- سْتِيفانْيا مسّارو؛ تعمل في وكالة سياحية في روما، ومعلمة للغة الإيطالية، أحبّتْ أَمِدِيُو وأحبّها: "مَن هو أَمِدِيُو الحقيقي؟ يا له من سؤال غريب. لا يوجد أَمِدِيُو حقيقي وأَمِدِيُو مزيّف. هناك أَمِدِيُو واحد فقط: أَمِدِيُو المُدهش الذي عشقني وعشقته. قرأتُ ذات يومٍ تعريفاً قصيراً جِداً للحُبِّ: الحُبّ تضحيّة. لقد ضحى أَمِدِيُو بكُلِّ شيءٍ مِن أجلي، إذ تنازل عن وطنه ولُغته وثقافته واسمه وذاكرته. أراد أَمِدِيُو إسعادي بأيِّ ثمن. تعلّم الإيطالية مِن أجلي وأحبّ الطّبخ الإيطالي مِن أجلي وسمّى نفسه أَمِدِيُو مِن أجلي، باختصار صار إيطالياً لإسعادي." ص 117. "بعد ثلاثة أشهر فقط من تعارفنا قررنا الزّواج، لماذا ننتظر؟ هو يُحِبُّني وأنا أُحِبُّه. قبل الزّواج طلب مِنِّي أَمِدِيُو أن لا أسأله عن ماضيه، لا أزال أذكر كلماته: "حبيبتي، ذاكرتي كالمصعد المُعطّل، بل الماضي كالبركان النّائم، ساعديني على تجنّب إيقاظه الفظيع وحممه الجهنمية"... الآن فقط أفتح عيني على الحقيقة التّالية: لا أعرف من يكون أَمِدِيُو! من هو أَمِدِيُو قبل الاستقرار في روما؟ لماذا غادر بلده الأصلي؟ ماذا يُخفي في ذاكرته؟ ما سِرّ الكوابيس التي تلاحقه؟ هناك غموض يلف حياته السّابقة ربما هذا هو سِرّ عشقي له." ص 120. "لم يكن أَمِدِيُو يُحِبّ الماضي. في إحدى المرات قال لي إن الماضي كالرِّمال المتحركة، إنه فخ لا فكاك منه. أَمِدِيُو مدهش كالصّحراء، من الصّعب الإلمام بأسرار الصّحراء." ص 121. "سمعته مراراً يتمتم أثناء النّوم بكلماتٍ غير مفهومة، في إحدى المرات استيقظ من نومه مفزوعاً وهو يُردِّد: بَجة! بَجة! بَجة! ... في اليوم التّالي لم أقدر على كبت فضولي فسألتُ أَمِدِيُو عن مدلول كلمة "بجة" لكنه لم يرد ونظر إليّ بعتاب كأنه يُريد أن يُذكّرني بالشّرطِ الذي اتفقنا عليه قبل الزّواج: الماضي كالبركان، حذار من رفع الغطاء عن الفوهة!" ص 122. "أنا أقول لا علاقة بين مقتل لُورَانْزو واختفاء أَمِدِيُو. أنا متأكدة من أن أَمِدِيُو بريء من جريمة القتل. لا يوجد دافع واحد للإقدام على هذا الفعل الشّنيع. لم يكن "الغْلادْياتور" شخصاً محبوباً بين سكان العمارة، هذا معروف. لقد أساء للجميع دون أن يطلب العفو من أحد. ليس من العدل أن نُسيء إلى أَمِدِيُو بهذا الشّكل. اسألوا سكان ساحة فِتُورْيو عن أَمِدِيُو، سترون كم كان محبوباً من طرف الجميع. لم يتأخر عن مساعدة المحتاج دون أن ينتظر أجراً من أحد." ص 123. "لا أعرف أين هو الآن، أخشى أن يكون قد أصابه مكروه. لا أزال أبحث عنه في كُلِّ مكان، أتمنى أن يكون بخير. هناك علامات استفهام كثيرة تُحيط باختفاء أَمِدِيُو واتهامه بجريمة قتل بشعة. أنا متفائلة ومقتنعة ببراءته. سأُدافع عنه دون هوادة." ص 124.

- عواء أَمِدِيُو...

- عبد الله بن قدْور؛ "لماذا سمّى نفسه أَمِدِيُو؟ هذا هو السُّؤال الذي يُحيّرني. اسمه الحقيقي أحمد وهو اسم عظيم لأنه اسم الرّسول وقد ذكر في القرآن والإنجيل. بصراحة أنا لا أحترم كُلّ من يُغيّر اسمه أو يتنكّر لأصله." ص 129. "أحمد هو ابن حومتي، أعرفه جيداً كما أعرف كُلّ أفراد عائلته... كان أحمد شخصاً محبوباً ومحترماً في الحومة. لا أذكر أنه تخاصم مع أحد رغم أن الاشتباكات بين أولاد الحومة وأولاد الحومات المجاورة عادة منتشرة بكثرة في أحياء الجزائر العاصمة. بدأت محنة أحمد عندما ماتت خطيبته بَهْجَة بنت الجيران. كان أحمد يُحِبُّها كثيراً منذ الصِّغر، خطبها مُبكراً وأراد أن يتزوجها، لكن حدث ما حدث... ذات يوم ذهبتْ بَهْجَة إلى بوفاريك لتزور أختها، في طريق عودتها أوقف الإرهابيون الحافلة في حاجز مُزيّف وأقدموا على ذبح كُلّ المسافرين ما عدا الفتيات. حاولتْ بَهْجَة الهروب من قبضة المجرمين والنّجاة من الاغتصاب، فأطلقوا عليها وابلاً من الرّصاص. لم يقبل أحمد بالأمر الواقع فقبع في البيت لا يُغادره حتّى اختفى وغاب عن الأنظار، وتكاثرت التّفسيرات في الحومة: هناك من قال إنه تطوّع في الجيش بحثاً عن الانتقام من المسلحين الإسلاميين، وهناك من قال إنه الّتحق بالمسلّحين في الجبل حتّى ينتقم من الدّولة، وهناك من قال إنه اعتزل النّاس وانظم إلى جماعة صوفية في الصّحراء فهو يعيش مُلثّماً كالطّوارق، وهنا من قال إنه فقدَ عقله وصار يمشي عارياً في الشّوارع..." ص 131. "ذات يومٍ سألتُ والدته خالتي فاطمة الزّهراء عن أحمد فأجابتني باختصار: "إنه في الخارج". كلمة "الخارج" تحتمل عدّة معانٍ: خارج العقل أو خارج العاصمة أو خارج القانون أو خارج طاعة الوالدين أو خارج نعمة ربي. فضّلتُ عدم الإلحاح في السُّؤال وترك البئر بغطائه كما يقول المثل الشّعبي..." ص 132. "رأيته في سوق ساحة فِيتُورْيو حيث أشتغِل بائعاً للسمك. ناديته أحمد! أحمد! لكنه لم يردّ، تظاهر بعدم معرفتي، في نهاية المطاف تعرّف عليّ! وحيّاني ببرودة شديدة أمام دهشة السّيدة الإيطالية التي تُرافقه، عرفتُ فيما بعد أنها زوجته. بعدها التقينا مرات عديدة في بار دَنْدِينِي، لم يكن مُتحمساً لمعرفة أخبار الجزائر. كان أحمد أو أَمِدِيُو يعمل في المحكمة العُليا بالجزائر العاصمة مُترجِماً من الفرنسية إلى العربية. كان قد اشترى شقة في باب الزوار كي يعيش فيها مع بَهْجَة بعد الزّواج لكن المكتوب أراد شيئاً آخر. كما ترون قصة أحمد سالمي بسيطة ولا تحمل التّعقيدات... ليست هناك أسراراً خفية عن حياته الماضية قبل الاستقرار في روما." ص 132. "لا أزال أذكر المخاوف التي استبدت بي عندما سمعت النّاس يُنادونه "أَمِدِيُو"، خشيتُ أن يكون قد ارتدّ عن الإسلام، لم أطق الصّبر والانتظار، فسألته بقلق وتوجّس: "هل اعتنقت المسيحية يا أحمد؟"، فأجابني بنبرة صادقة: "لا"." ص 134. "ألا ترون ماذا تقول الصُّحف عن أحمد من أكاذيب، عندما اكتشفوا أنه مهاجر وليس إيطالياً، لم يتأخروا في اتهامه بجريمة القتل. لقد أخطأ احمد عندما سبح خارج الحوض. اختفاؤه هذا يُثير التّساؤل القديم الذي حيّر أولاد الحومة كثيراً: أين ذهب أحمد أو أَمِدِيُو كما تُسمونه أنتم؟" ص 135.

- عواء أَمِدِيُو...

- ماوْرُو بِتارِينِي؛ مفتش الشّرطة الذي يُحقق في جريمة قتل "الغْلادْياتور" في مصعد العمارة والمُتهم فيها "أَمِدِيُو". "لقد تعلّمتُ من عملي كمفتش الشّرطة أن الحقيقة مثل قطعة نقود، تتألف من وجهين مختلفين، الوّجه الأوّل يُكمِّل دائماً الوجه الثَّاني". ص 143.

الوجه الأول للحقيقة: "بالنّسبة لي التّحقيق انتهى والقاتل هو أحمد سالمي المدعو أَمِدِيُو. اختفاؤه المفاجئ يُثبت ضلوعه في مقتل الشّاب لُورانْزو مانْفْرِيدِي المدعو الغْلادْياتور... كُلِّفتُ بالتّحقيق في هذه الجريمة لأنني أعرف هذه المنطقة معرفة جيدة. قضيتُ سنوات طويلة في مركز الشّرطة في شارع بَيتْرارْكا مما أتاح لي الإطلاع عن قرب على مشاكل المواطنين المُقيمين في ساحة فِيتُورْيو وما جاورها. تعرفتُ على أحمد سالمي المدعو أَمِدِيُو عندما توسط لِحلِّ مشكلة حَمَام ساحة سانْتا مارِيا ماجُورِي التي تسبَّب فيها صديقه الإيراني." ص 143. "كان اعتقادي أن أَمِدِيُو هو متطوِّع إيطالي يُساند المهاجرين ويُلبِّي بعض خدماتهم المُتعلقة بالصّحة والعمل." ص 144. "ليس هناك صدفة بين الجريمة والاختفاء المفاجئ، عقب العثور على جثّة الشّاب لُورانْزو مانْفْرِيدي في المصعد، بدأنا التّحريات الأوّلية فاكتشفنا اختفاء أو بالأحرى هروب المتهم أَمِدِيُو. السُّؤال الذي طرحناه على أنفسنا: إذا كان أَمِدِيُو بريئاً كما يقول جيرانه في العمارة، فلماذا لم يظهر ليبرِّئ نفسه؟ المعلومات التي استقيناها من مختلف المصادر والشُّهود زادت من شكوكنا وجعلتنا نُدقِّق في هوية المتهم. لم يمض وقت طويل حتّى اكتشفنا أنه مهاجر واسمه الحقيقي أحمد سالمي..." ص 145. "لم يُزوِّر أحمد سالمي المدعو أَمِدِيُو وثيقة رسمية واحدة. لماذا اختفى؟ هل هي مجرد صدفة أم هروب من القضاء؟ هناك شهود عيان رأوه يتشاجر مع الضّحية في الليلة التي سبقت الجريمة. لا أحد يعرف السّبب. كما سمعوه وهو يقول للضحية: "سأقتلك إذا فعلتها مرة أخرى!". بالنسبة لي التّحقيق انتهى، أَمِدِيُو هو القاتل، فهو مجرم فارّ من العدالة." ص 146.

الوجه الثّاني للحقيقة: "التّحقيق لم ينته وأحمد سالمي المدعو أَمِدِيُو ليس هو قاتل لُورانْزو مانْفْرِيدِي المدعو الغْلادْياتور. بعدما قامت إحدى الجرائد في صفحات الحوادث بنشر حوار معي مرفق بصورتي وبصورة أَمِدِيُو، اتصلت بي الطّبيبة سِيمونيتي من مستشفى سان كاميلو وطلبت مِنِّي الحضور على عجل، ذهبتُ على وجه السُّرعة إلى المستشفى، أخذتني إلى قسم الإنعاش حيث رأيتُ أَمِدِيُو مُمدّداً على السَّرير. قالت لي الطّبيبة أن صباح الأربعاء 21 مارس أي اليوم الذي قُتِل فيه لُورَانْزو، تعرّض المريض إلى حادث مرور بينما كان يَعبُر الطّريق قريباً من الكُولُوسِيُو، تمّ نقله على عجل إلى المستشفى. لحد الآن لا يزال في حالة غيبوبة بعد أن أُصيب بجروح خطيرة في رأسه قد تُعرِّضه إلى فقدان الذّاكرة. سألتُها عن الوقت المحدّد للحادث، فقالت إنّ سيارة الإسعاف وصلت إلى مكان الحادث في حدود الثّامنة والنّصف، وهذا يعني أنّ الحادث الأليم قد وقع قبل ذلك بعشر دقائق تقريباً." ص 146. "أَمِدِيُو ليس هو القاتل! قال الطّبيب الشّرعي إنّ الجريمة وقعت بعد الواحدة زوالاً كما أكّد شهود عيان أنهم شاهدوا الضّحية في صبيحة ذلك اليوم ما بين التّاسعة ومنتصف النّهار. إذاً ليس هناك أدنى شك: أحمد سالمي المدعو أَمِدِيُو بريء." ص 147. "بعد ذلك أعدنا النّظر في طريقة التّحقيق، تركنا جانباً السُّؤال: مَن هو أَمِدِيُو؟ ورُحنا نبحثُ في حياة الضّحية.مَن يكون "الغْلادْياتور"؟... كنيته "الغْلادْياتور" ساعدتنا للوصول إلى القاتل أو القاتلة. التّحريات التي أجريناها عن الضّحية قادتنا إلى اكتشاف سرّ الكُنية "الغْلادْياتور". كان لُورانْزو مولعاً بالمبارزات القاتلة التي تنتهي بموت أحد المتصارعين. في عهد الرُّومان كان "الغْلادْياتور" أسيراً أو عبداً يُقاتل حيواناً مفترساً كالأسد أو النّمر أمام آلاف من المتفرجين في الكُولُوسِيُو بينمكا اهتدى لُورانْزو وبعض أصدقائه إلى لعبة قمار جديدة تقوم على مبارزات سرية بين الكلاب. هل تذكرون اختفاء الكلب الصّغير فالِنْتِينُو قبل أسابيع من حدوث الجريمة؟ كان لُورانْزو وراء هذه العملية. بعد تحريات طويلة تمكنت إِلِزابِتا فابْيانِي من اكتشاف المسّؤول عن اختطاف كلبها وقررتْ الانتقام منه شرّ انتقام إثر تأكدها من العذاب الشّنيع الذي ذاقه الكلب الصّغير قبل موته. لقد وضعت خطة قتل مُتقنة إلى أبعد الحدود حيث استفادت كثيراً من حيل المسلسلات البوليسية التي تتابعها يومياً على التلفزيون. اختارت المصعد لأنه مصدر النِّزاعات بين سكان العمارة ثم وقع اختيارها على السّكين لأنه أداة قتل رجالية مما يُبعد عنها الشُّبُهات. ثم راحت تسير حافية القدمين في ساحة فِيتُورْيو حتى تظهر للجميع أنها فقدت عقلها بسبب فقدان أو اختطاف كلبها. استطاعت أن تنفِّذ خطتها بمهارة فائقة دون أن تترك أي أثر. الخطأ الوحيد الذي ارتكبته هو عدم تخلصها من أداة الجريمة... بعد بحث دقيق عثرنا على السّكين وعليه بصماتها ودم الضّحية. التّحقيق انتهى، وإِلِزابِتا فَابْيانِي هي التي قتلتْ لُورانْزو ملنْفْرِيدِي المدعو الغْلادْياتُور." ص 147. 148.

- عواء أَمِدِيُو...

* نقاط على هامش قراءة رواية (كيف ترضع من الذِّئبة دون أن تعُضّك) لـ عمارة لخوص:

- رمزية العنوان: أولى عتبات النّصّ العنوان (كيف ترضع من الذِّئبة دون أن تعُضُّك)، جاء العنوان لافتاً محدثاً الدَّهشة والانفعال المطّلوبين لانجذاب القارئ إلى الرِّواية، والعارف بأسطورة تأسيس روما المجسَّدة في الأخوين الرَّضيعين رومولوس وروموس - أبناء الذِّئبة - يكاد يقبضّ على سِرّ العنوان وأنّ أحداث الرِّواية تدور في روما عاصمة إيطاليا: "أليست الذِّئبة هي رمزُ روما! أنا لا أثق أبداً في أبناء الذِّئبة لأنهم حيوانات مفترسة متوحشة. إن الحيلة الخبيثة هي وسيلتهم المفضَّلة في استغلال عرق الآخرين!". ص 85.

- بحكم كون الكاتب الدكتور "عمارة لخوص" متخصص في الأنثروبولوجيا وكونه عاش في روما حقبة من الزّمن فقد استغل تلك الثّقافة المعرفية المتعددة الفلسفية والأنثروبولوجية في كتابة هذه الرِّواية (كيف ترضع من الذِّئبة دون أن تعُضُّك) فجاء النّصّ محبكاً محكماً متقناً متنوعاً ثريّاً مشوِّقاً رائعاً.

- الحيّز المكاني للرِّواية هو مصعد العمارة حيث كانت جريمة القتل. يتمدد هذا الحيّز في كُل الاتجاهات المحيطة بالمكان: شقق العمارة، ساحة فِيتُورْيُو في روما، مطعم كابري القريب من ساحة نافُونا لصاحبه السِنْيُور بِنَارْدِي...

- الحيِّز الزماني للرِّواية يستمر لبضعة أيام، لكنه يتمدد ويتجذر تاريخياً بالبحث في الماضي للشخصيات المركبة للرِّواية.

- تبدو الرِّواية في ظاهرياً أنها تدور حول جريمة قتل في مصعد عمارة يقطنها عدد من المهاجرين والأوربيين غير أنها في عمقها تطرح مشاكل الهجرة غير القانونية ومشاكل المهاجرين في أوربا وكعينة عنهم جاءت أحداث الرِّواية في روما عاصمة إيطاليا. ومن خلال ذلك نكتشف مدى تّنافر وتقارب شخصيات الرِّواية القاطنين في العمارة ثقافياً وحضارياً. تتقلص حيناً وتتباعد أحياناً المسافة الفاصلة بين انتماءاتهم العرقية والثّقافية والاجتماعية والحضارية.

- النّص يُبرز مشاكل المهاجرين دون وثائق قانونية من العالم الثّالث وشرق أوربا إلى الغرب وهنا إيطاليا كمثال على ذلك. مشاكل العنصرية وازدراء ثقافة الأخر والاستغلال الجنسي. معاناة المهاجرين من العنصرية: "سألني إِقْبَال هذا الصَّباح: هل تعرف ما هو الفرق بين العُنصري والمُتسامح؟ قلت له: العُنصري في عداء مع الآخرين لأنه يعتقد أنّهم ليسوا في مستواه بينما المُتسامح يتعامل مع الآخرين دون تكبُّر واحتقار". ص 57.

- عطفاً على كُلِّ ما سبق فإن كُلّ قراءة لا تزيدك معرفة لا يُعوَّلُ عليها، وكُلَّ معرفةٍ لا تتنوع لا يُعوَّلُ عليها. وهذه الرِّواية يُعولُ عليها فهي تزيد القارئ معرفةً وتنوعاً.

* قالوا عن رواية (كيف ترضع من الذِّئبة دون أن تعُضّك) لـ عمارة لخوص:

- يقول عنها الكاتب نصر حامد أبو زيد: «إنّ إعجابي بهذه الرِّواية إعجاب نابع من متعة عالية وفرتها لي إلى جانب معرفة حقيقة هذه المتعة. هذه سمة الفنّ الحقيقي الذي يُجسد متعة المعرفة من خلال الجميل. توظيف الكاتب للرموز (رمز الذِّئبة والرَّضيعين) وثالثهما المهاجر الذي تشرّب المدينة والثَّقافة بالكامل توظيف يتسم بدرجة عالية من الدِّقّة والرّهافة. ما أروع الأمثولة. ليت الكاتب يكتبها بالإيطالية لتترجم إلى اللُّغات الأوربية الأخرى؛ - وهو ما قام به الكاتب فعلاً - لأنها تقول الكثير عن المُهاجرين مِمّا لا يستطيع البحث أن يقوله بنفس الكثافة والمتعة».

- ويقول عنها الكاتب الرِّوائي التُّونسي كمال الرَّياحي: «شيّد عمارة لخوص نصّه هذا بكثيرٍ من المكر والمراوغة والوعي الفنّي حتّى يكون نصّاً مختلفاً يحكي سيرة المنفى وواقع المهاجر في إيطاليا. إنها رواية الهروب من الذَّاكرة الجريحة ومأساة العيش دونها بين أحضان الذِّئبة الضَّارية روما... رواية ترضع الفلسفة والأدب والتَّاريخ وعلم الاجتماع والأنثروبولوجيا والسِّياسة دون أن تسقط في مزالق الإيديولوجيا أو في الخطابية الفجّة ولا عضّتها التّعليمية السّاذجة».

* اقتباسات من رواية (كيف ترضع من الذِّئبة دون أن تعُضّك) لـ عمارة لخوص:

- "رُباعيات الشَّاعر الكبير عُمر الخيام، تحتاج إلى سنوات طويلة لإدراك مغزاها، عندئذ ينفتح قلبك على العالم وتفيض دموعك لتدفئ خديك الباردين." ص 11.

- "أنا أعشق المصعد، لا أستعمله بدافع الكسل وإنما مِن أجل التَّأمل. تضع إصبعك على الزِّرّ دون أي جهد، تصعد إلى الأعلى أو تنزل إلى الأسفل، قد يتعطّل وأنتَ قابعٌ فيه، إنه كالحياة تماماً لا يخلو من العطب؛ تارةً أنتَ في الأعلى وتارةً أخرى في الأسفل." ص 14.

- "العشق كالشّمس السَّاطعة، يستحيل تجاهل أشعته الحارقة، العشق توأم الشّباب، صدق المثل الفارسي القائل: سكر الشّباب أقوى من سكر الخمر". ص 15.

- "يحتاج الإنسان إلى الحُلُم كحاجة السمكة للماء". ص 23.

- "الغراب الذي دلّ القاتل قابيل على كيفية التّخلُّص من جُثة أخيه هابيل. يُقال أنّه القاتل الأول على الأرض، إذاً الغُراب هو أول خبير في دفنِ الأموات في التَّاريخ. أنا غُرابٌ مِن نوعٍ خاص: مُهِمّتي هي دفنُ الذِّكريات الملوّثة بالدّمّ". ص 46.

- "إنّ الأقارب مثل الأحذية الضَّيِّقة التي تسبب لأصحابها الكثير مِن الإزعاج". ص 47.

- "البقاءُ في الكهف أفضل مِن الخُرُوجِ منه. لا فائدة مِن معرفة الحقيقة. العزاء الوحيد هو هذا العواء اللَّيلي". ص 48.

- "الحقيقة في أعماق بئر: تنظُّر في بئرٍ فترى الشَّمس أو القمر، لكنَّك إذا ألّقيتَ نفسك فيه، فإنَّكَ لن تجد الشَّمس ولا القمر، هناك الحقيقة فحسب". ص 48.

- "يا أطبَّاء العالم اتحدوا! اخترعوا دواءً جديداً يشفي العنصريين من الحقد والكراهية". ص 59.

- "عندما أرى تفاحة فاسدة، فإنِّي أُسرع إلى عزلها عن بقية التُّفاح لأنِّي لو تركتها في مكانها، فإنّ كُلّ التُّفاح سيفسد! لماذا لا تتصرّف الشّرطة بحزمٍ مع المهاجرين المنحرفين؟ ما ذنب المهاجرين الشُّرفاء الذين يكِدُّون من أجل لُقمة العيش؟!". ص 59.

- "هذا المساء استوقفني طويلاً هذا المقطع الوارد في كتاب سيغْموند فرُويْد "الطّوطم المُحرَّم": إن الاسم الذي يحمله الإنسان هو عنصر أساسي من كيانه، بل قد يسكون جزءاً من روحه". ص 60.

- "للمهاجر وجهٌ واحد عبر التَّاريخ رغم اختلاف لسانه ودينه ولون جلّده". ص 81.

- "أنا أقول أن هذا البلد غارق في بحر من الغرائب، كأس العالم في كرة القدم على سبيل المثال هي مناسبة يكتشف فيها الإيطاليون أنهم إيطاليون. يضعون الأعلام الوطنية على النَّوافذ وفي الشُّرُفات وعند مداخل المحلات. يا للعجب كرة القدم تصنع الهوية! لا فائدة من الدِّين الواحد واللُّغة الواحدة والتَّاريخ المشترك والمستقبل المشترك". ص 89.

- "ما يهمُّني حقّاً هو أن أرضع من الذِّئبة دون أن تعضَّني وأن أُمارس هوايتي المفضَّلة: العواء!". ص 93.

- "روما هي ذاكرة الإنسانية، إنّها المدينة التي تعلّمنا كُلّ صباح أن الحياة ربيع أبدي وإنّ الموت سحابة صيف عابرة، لقد هزمت روما الموت! لهذا السّبب يُطّلق عليها اسم المدينة الخالدة". ص 113.

- "صِرتُ أعرف روما كأنِّي ولِدتُ فيها ولم أُغادرها أبداً. من حقِّي أن أتساءل: هل أنا لقيط مثل التَّوأمين رُومُولُو ورِيمُو أم ابنٌ بالتّبنِّي؟ السُّؤال الجوهري هو كيف أرضع من الذِّئبة دون أن تعضّني؟ الآن على الأقل يجب أن أُتقن العواء كذئبٍ أصيل: أووووووووووووو...". ص 115.

- "إنّ أجمل مراحل الحُبّ هي مرحلة التًّعارف والغطس الجميل في بحر العشق دون الاهتمام بالتَّفاصيل وطرح التَّساؤلات المُمِلّة." ص 120.

- "العشق هو صندوق المفاجآت... إن عيب بعض العُشَّاق هو مُحاولة معرفة كُلَّ شيء عن المعشوق، هذا هو سبب السَّأم وانطِفاء شمّعة الحُبّ بسُرعة. العاشق الحقيقي لا يكشف عن نفسه كُلِّياً. هل تعرفون لماذا يُثير الطَّوارق الإعجاب والدَّهشة؟ لأنهم مُلثّمون. الغُمُوض سِرّ الآلهة! الأشياء المُدهشة غامضة بالضَّرورة." ص 120.

- "أَمِدِيُو مُدهش كالصَّحراء، مِن الصَّعب الإلمام بأسرار الصَّحراء... لا تثقي أبداً في دليل الصَّحراء، فهو كإبليس ملعونٌ إلى الأبد لأن الصَّحراء لا تُحِبّ المُتكبِّرين، مَن يَدّعي معرفة خبايا الصَّحراء، فلينتظر العقاب القادم أي الموت عطشاً، التَّواضع هي اللُّغة الوحيدة التي تعرفها الصَّحراء!." ص 121.

- "الرِّحلة الجميلة لا تنتهي أبداً لأنها تحمل في طياتها وعداً ببداية جديدة لرِحلة قادمة. إنها كحكايات شهرزاد لا تنتهي أبداً وإنَّما تبدأ باستمرار." ص 122.

- "الكابوس هو نافذة يتسلل منها الماضي في ثوب السَّارق". ص 122.

- "الكلام مُفيد جِدّاً للتَّنفيس عن الحُزن والقلق والحَنين وغياب الأَحِبّة". ص 123.

- "التَّرجمة هي رِحلةٌ بحرية مُمّتعة مِن مرفأ إلى آخر". ص 125.

- "ما أجمل أن نتحرر مِن قيود الهوية التي تقودنا إلى الهاوية!" ص 126.

- "ذاكرتي جريحة تنزف، يجب أن أُضمِّد جراح الماضي في عزلة" ص 127.

- "هناك مثل يُردِّده الإيطاليون كثيراً: الضَّيف مثل السمك بعد ثلاثة أيام يتعفّن" ص 133.

- "العواء نوعان: عواء الألم وعواء الفرح. الكثير من المهاجرين المهمّشين الذين يتوسَّدون زجاجات البيرة والخمر في حديقة ساحة فِتُورْيو لا يكفون عن العواء الحزين لأن عضَّة الذِّئبة قاسية ومؤلمة. أعتقد أن العواء في بعض الأحيان كالبُكاء. أمّا أنا فأعوي من شدّةِ الفرح، أنا أرضع من ثدي الذِّئبة برفقة اللَّقيطين رُمُولُو ورِيمُو. أنا أعشق الذِّئبة ولا أستطيع الاستغناء عن حليبها". ص 137.

- "المرض يوقظ شيطان الحنين أو "الوحش".. إنه الخوف من الموت: الموت بعيداً عن أنظار الأحبة، الموت وحيداً، الموت بيعيداً عن الأُمّ". ص 139.

- "يا بني اذا كنت سائراً واعترض طريقك مسلحون، وأجبروك على التَّحكيم: مَن على الحق ومَن على الباطل، قابيل أم هابيل؟ إياك أن تقول: إنّ قابيل على الحق وهابيل على الباطل، قد يكون المسلحون هابليين فتهلك وإياك ثم إياك أن تقول: أنّ قابيل على الباطل وهابيل على الحق، قد يكون المسلحون قابليين فتهلك، يا بني إياك ثم إياك ثم إياك أن تقول: لا قابيل ولا هابيل على الباطل فتهلك، فصدر هذا الزَّمن ضيِّق لا يتسع للحياد، يا بني اقطع لسانك و ابلعه. يا بني اهرب! اهرب! اهرب! إياك من نار الفتنة فهي أخطر من أنياب الذِّئاب" ص 142.

- "الحقيقة مثل قطعة نقود، تتألف من وجهين مختلفين، الوّجه الأوّل يُكمِّل دائماً الوجه الثَّاني". ص 143.

- "الحقيقة مُرّة كالدواء! ينبغي تناول الدَّواء على جُرُعات، قد يُؤدِّي الدَّواء إلى الموت إذا تناوله المريض دُفعة واحدة". ص 149.

- "الذَّاكرة صخرة سيزيف اللَّعينة" ص 150.

* التّعريف بالكاتب عمارة لخوص:

كاتب جزائري من مواليد الجزائر العاصمة، 1970. يكتب بالعربية والإيطالية. تخرج من معهد الفلسفة بجامعة الجزائر عام 1994. أقام في إيطاليا 18 عاما، وحصل على دكتوراه في الأنثروبولوجيا من جامعة روما. يقيم في نيويورك منذ 2014. صدر له: "البقّ والقرصان" (1999)، و"كيف ترضع من الذِّئبة دون أن تَعُضّك" (2003) التي ترجمت إلى ثماني لغات وتحولت إلى فيلم سينمائي عام 2010 من إخراج إيزوتا توزو. حازت الرواية على جائزة فلايانو الأدبية الدولية وجائزة راكلماري – ليوناردو شاشه عام 2006، إضافة إلى جائزة المكتبيين الجزائريين عام 2008. صدر له روايات أخرى هي: "القاهرة الصّغيرة" (2010)، "فتنة الخنزير الصّغير في سان سالفاريو" (2012)، "مزحة العذراء الصّغيرة في شارع أورميا" (2014) التي ترجمت إلى عدة لغات، ورواية رابعة بالعربية، "طير اللّيل" (2019).

***

 قراءة: السعيد بوشلالق

الدليل الثيماتي بين طفل الشيطان وإظهارية خفايا التوظيف

مهاد نظري:

تتداخل في بنيات النص الروائي عدة عناصر هي: (المرسل ـ المرسل إليه ـ الثيمة ـ المعلن الإظهاري ـ دليل النص) ولكل واحدة من هذه المحاور دورها الكبير في نمو وظيفة (السارد ـ الشخصية ـ الحبكة) وبما أن دراستنا في مجال هذا النحو من المعنى تتناول تجربة روائية ذات أهمية كبرى، وتلتزم في منحى بناءاتها بهذا النوع من المحاور التي أشرنا إليها، لذا وجب علينا التوسع في استخدام أكثر المحاور تلفظا وتداولا في رواية (شجرتي.. شجرة البرتقال الرائعة) للروائي والسيناريست البرازيلي (خوسيه ماورو دي فاسكونسيلوس) وقد أتفق مع النقاد من جهة نسبية وأختلف معهم من ناحية إجمالية، في كون أن هذه الرواية من صنيع المخيلة المنتخبة في مجال توطين أدب فئة الناشئة أو الأطفال.ولا يخفى على القارىء ـ احتمال ـ كوني أجد في تجربة هذه الرواية من البساطة والتعقيد والإحالة والعلامة الأكثر تجاوزا لوعي القارىء اللاروائي حتما.ومن هذا المنطلق أصررت على قراءة هذه الرواية وعشت مع دواخل شخصيتها المحورية (زيزا) وأخوته ووالداه وذلك السائق البرتغالي وجذع البرتقال الذي هو محط المعادل الموضوعي الذي من خلاله يمكننا فهم هذه الشخصية وطبيعة أنسنتها لحالات عوالمها اللامعقولة في أفضية التصديق والاستدلال المنطقي، إلا من جهة تقنية تتعاضد من خلالها عدة محاور (إظهارية ـ معلنة) امتدادا بها نحو مجموعة شرائط تلك المخيلة التي أرتضت بأن تكون أرادة العامل الشخوصي ـ المحور ـ فيها معادلا متجاذبا إلى جل جهات البطولة والمغامرة أو الشيطنة والملائكية أو الطيبة والشرور في الآن نفسه.

ـ حوارية أنسنة الأشياء في كينونة الوعي المضمر:

تستدعي حفريات دلالات رواية (شجرتي..شجرة البرتقال الرائعة) لخوسيه فاسكونسيلوس إلى ذهن التلقي، تلك التشاكلية المنتجة بين قطبي (الفاعل بالموضوع ـ الفاعل عن الموضوع) أي أن للمحور الشخوصي كامل التوطينية في لعبة طرفي العلاقة من ناحية كونه وليدا عن الموضوعة ومندمجا فيها، وتارة عن حضوره الامتثالي في علامة ملازمة للفعل السردي والعاملي.أما كونه فاعلا عن الموضوع فبالإمكان النظر في أبعاد الموضوعة من خلاله كمتتالية فعلية مستشرفة تارة ومنصوصة بأكثر المواضع تناقضا واعتدالا مستورا تارة أي عبر مجمل أفعال السردية.وإذا كان في موضع الفاعل بالموضوع، فهو يشكل دليلا على أن الشخصية مترسخة في مادة محورها الوقائعي.وهناك عدة أمثلة سوف نقوم بدراستها في حينها حتى تبدو للقارىء أكثر كشفا إزاء وحدة سردها أو مسرودها.

1 - الفاعل بالموضوع بين حساسية المخيلة وترجيح المعادلة الفقدانية:

في الخلفية النصية تندرج مهام الفعل النواتي كحالة استباقية بالسرد.إذا أن تمظهرات فعل الشخصية حيال مساحة مؤشرات (دليل الموضوعة) تكشف لنا بأن مجمل الأفعال والأحوال، حلت في حدود كون الفاعل الشخوصي هو بذاته ما راح يظهر تداولية الوقائع والاحساس بها ما جعلها تخوله إلى أن يكون السارد المشارك الذي تتصل كل المهام في صوته، فهو من يقدم ويؤخر، ولكنه كحالة عاملية يبقى يبث خطواته في سياق منشطر بين (حساسية المخيلة ـ وترجيح المعادلة الفقدانية) وهذه المعادلة الأخيرة هي الممثلة في إطارها العاملي المنصوص في علاقة المحور المركزي مع جذع البرتقال أو أحد أشقائه الأثنان (لويس ـ توتوكا) وعلى هذا النحو فالانبعاث مصدره الحسي والأفعالي هو الشخصية الأكثر بروزا (زيزا) وما يقوله وما يفكر به وما يتخيله هو الميثاق على اتساع حوارية المدار الشخوصي كأفعال كلامية تربطها خواص من المكان والزمن وسياق السرد: (على مهل كنا نقطع الطريق يدا بيد..كان ـ توتوكا ـ يعلمني الحياة، وكنت سعيدا جدا لأن أخي الأكبر يعطيني يده ويعلمني الحياة./ص7 الرواية) بهذا النوع من الفاعل بالموضوع، نتعرف على مجال التحول في حركة طبيعة الشخوص، وخاصة زيزا، كونه ـ ساردا مشاركا ـ ولهذا يلزم تبني سلطة المسرود والسرد إجمالا.وقد وظف الكاتب خوسيه ماورودي من شخوصه الروائية ما جعلها الأكثر بؤسا وكدحا في حيواتها الفعلية، لذا ظل زيزا العامل والفاعل يقارب حياة الموغل في حرمانه الطفولي، وهذا الشظف في حياته الخاصة هو الذي صنع منه مؤولا إظهاريا في حوارية مخيالية واهمة مع طائر الخفاش وجذع الشجرة، ما يوضح لنا كفائية معادلة الفقدان، أي بما يفسر لنا أن الشخصية زيزا ذات ملامح تندرج في تفاصيل استثنائية، كونه المتصل مع حالات تصويرية عاشها بمتعة بالغة وقسوة صارمة مع محيطه المتشيء.

2 ـ الفاعل عن الموضوع وأدائية العامل المحكي:

نجد هنا الفاعل عن الموضوع، سببا مباشرا ينبغي الاحتفاظ به بالطابع الذي يخولنا على أن نراه (كفاءة فاعل ـ مرسل ـ جهات موضوعة) ولكنه على الصعيد ذاته كفاعل منفذ، يبدو أكثر دقة بالمعطى الموضوعي، خاصة وأن الشخصية كان هو نفسه من يصنع موضوعته بذاته، وهذا لا يعني أن الجانب الذاتي للمحور قد غطى على وقائع أحوال ومعينات النص كوسائل موضوعية وأدوات في الأداء، لا أبدا فخاصية الاتصال بين (فاعل ـ موضوعة) كانت قائمة على تدرج (فاعل ـ لفاعل سلوك) وهو الأمر الذي جعل من قيمة الموضوعة في موصلات النص، تبدو ككفاءة الفعل المكتسب افتراضيا من حيث نقطة ومجال الخطاب النصي, كمصدرا موصولا للاتصال السردي في الرواية إجمالا.

3 ـ كينونة فاعل السلوك وحيثيات الاتصال السردي:

قبل الخوض في أدوار المحاور الأفعال الشخوصية في أفضية الحكاية الروائية، نود الاشارة حول مفهوم (كينونة فاعل السلوك) الذي أوردناه هنا كقيمة فردية وفردانية تخص وظائف (الفاعل ـ العامل ـ الممثل) والمقصود بهيئة هذه التفعيلات، هو الحضور في الاتصال الفعلي للعامل المحوري حيال مجسداته السردية و الأبعاد الوقائعية في موضوعة الرواية.وهذه الوظائف الثلاثة لا تمثل إنقطاعا عن حوارية الوقائع الخطية، بقدر ما تسهم في تفعيل الخوض في جزيئات وكليات النص دليلا ومدلولا.يواجه المحور الفاعل ـ زيزا ـ وهو الطفل الذي لم يبلغ عقده السادس من العمر، ثمة منغصات عقدية في حيز اندفاعاته الطفولية التي كانت رغم بذاءتها الظاهرة غالبا، إلا إنها طفولة مميزة على حين غرة : (في السابق لم يكن يضربني أحد..لكنهم أكتشفوا الأمر لاحقا، وبدؤوا يقضون وقتهم وهم ينعتوني بالشيطان، وبالطاعون وبقط المزاريب اللعين..لم يكن ذلك يشغل بالي حينما لا أكون في الشارع أنهمك في الغناء./ص7 الرواية) المقصود من وراء هذه الوحدات، إن ـ كينونة الفاعل ـ مهما بلغت من الخطورة حيال تصاعد أفعالها المحكاية لهمزات الشيطنة، فإنها من جهة ما تلاقي حضورها في ممارسة دورها التأثيري في أمكنة أخرى، خارج حدود المنزل حيث وجود ذلك الأب العاطل عن العمل، إلى جانب وجود دور تلك الأم الشاقة التي تعمل بالنيابة عن الأب، مما جعلها تتحمل كافة مشاق ومتاعب العمل كخياطة في الطاحونة الانكليزية، إلى جانب دورها في توفير كافة مستلزمات الحياة في مرابع ذلك المنزل القديم.حاولنا في بدء فرعنا المبحثي الحديث حول الفاعل الشخوصي، كعاملية ممسرحة في بنية السرد، إذ تبدأ الحكاية الروائية منه وتنتهي به، وكأنها حكاية إطارية في الاعمال الروائية.ولكننا عندما نتابع مجرى المسرود أحيانا، نلاحظ ثمة حكاية ذات رؤية تقترب من الواقعية السحرية إلى جانب استثمار تقانة الفنتازيا التي تعد في محددات أفعال المحور، كمعادلة موضوعية في غاية التأطير الدلالي، وإذا أحببنا تسميتها من جهة أخرى كحكاية واقعية، ذلك لكونها تصب في الكشف عن أشد العلاقات الشخصية بواقعها الحياتي المصور بؤسا وحرمانا.أما إذا أردنا وسمها بالفنتازيا، فلا بأس، لأن أغلب متصورات الفاعل الشخوصي تصب لذاتها واقعا بعيدا كل البعد عن مسار صحة وتصديق الواقع الموضوعي الروائي لها.ولهذا ظلت أغلب حوادث الزمن الروائي، تمتاح بتلك الأجواء الواهمة بين جهة حوارية زيزا مع ذلك الغصن من شجرته الخاصة بالبرتقال الحل.فهو عادة ما يصنع لذاته مع ذلك الجذع جملة حوارية تمتد إلى أجواء حكايات فرعية تختص بحكم كونها ناتجة عن مقدرات مدارك الوعي الطفولي وحده، بذلك العالم المحفوف بالاظهارية المعادلة ـ اكتمالا تعويضيا ـ عن نواقص حياة الطفل زيزا، فهو تارة يجعل من جذع شجرة البرتقال جوادا فيمتطيه مسافرا نحو عوالم متأثرة بالخيال السينمائي، وتارة أخرى يجد فيها خلاصاته وملذاته المقموعة في بيت الأب العاطل عن العمل، أو حتى إشباع رمقه من خلال مأكولات يتخيلها متواجدة في واصلات رحلته فوق ذلك الحصان المتمثل بجذع شجرة البرتقال.

ـ التخاطر الزمني والانتقال الضمني بين أحوال الأشياء.

تتجلى مظاهر الزمن في تحقيقات روايةخوسيه ماورو دي، ببناء الوحدات الزمنية من خلال أوجه اندماجية في نسق المحمول السردي التحقيبي، أو ذلك اللازمن الفاصل بين الوحدات بصورة مشخصة.وقد يرتبط الزمن أحيانا داخل تنقلات ملفوظة وليس فعلية.الأمر الذي جعل من وحدات تراسل الزمن داخل حيثيات المواضع في السرد، وكأنها (حالات تخاطرية مع الذات) تلح في إبراز تلك الملامح الأكثر حوارية، بالشكل الذي يخولنا إلى الاعتقاد بأن الزمن جاريا بخطوات المتلفظ في دائرة المحاورة السردية.وليس في حقيقة المواقع الزمنية المؤشرة، اعتمادا على وحدة الزمن: (: ـ يوم تحامقت، فقد أرسلتني ـ غلوريا ـ إلى ـ ديندينيا ـ هو كان يريد قراءة الجريدة، لكنه لم يجد نظارته، كان يبحث عنها في كل مكان ساخطا./ص11 الرواية) لاحظ إن الاستحالة على معرفة الزمن عبر هذه الوحدات، كانت مرهونة بمقدرات التلفظ الحواري والاخباري، لذا بدت مرسومية الملفوظ وكأنها غائرة في ما كانت يينقل الأحداث ـ اخبارا ـ تارة والوصف تارة أخرى.أنا لا أقصد ربما من وراء كلامي هذا، إن السمات البنائية للسرد خالية من الزمن الفيزيائي جدلا؟بل أود التنويه إلى إن الزمن في النص الروائي موضع بحثنا، يشكل بذاته ذلك الحدوث اللامؤشر عليه في حساب الوحدات الزمنية، ما جعل أغلب الأحداث في سيرها بادية كما لو كانت اعتمادا على وحدة السارد في أخباره وتواصيفه ـ تكثيفا ـ في نمو وبناء الوقائع في مسرود الرواية تحديدا.

1 ـ الوقائع المتصلة في فضاء الحيز الارتباطي من الزمن:

ولا تتوقف أهمية مرحلة دون أخرى في رواية (شجرتي.. شجرة البرتقال الرائعة) إذ كانت مجمل المراحل المتكونة من (بداية ـ وسط ـ خاتمة) ذات القيمة من الأهمية وخاصة من حيث الصياغة وكيفية عملية التبئير الحادثة، وذلك الاحساس القرائي بتزايد التأثير الجمالي والدلالي في مسافة تشويقات أسباب الحبكة المضمرة رغم إن حجم علانيتها المحبوكة في طرائق أكثر دقة وجزالة من المعنى الظاهر في النص.ولو حاولنا تتبع تجليات الوقائع المجملة في النسيج السردي، لواجهتنا مسارات كيفية ومحتدمة من سمات الاحياز الأكثر ترابطية ومفعول المفترض الزمني، كحال هذه المقتبسات من وحدات السرد، التي يظهر من خلالها مستوى من (الوقائع المتصلة؟) عبر مقتضيات الارتباط بالممكنات المعينية: (أنت الذي يريد معرفة كل شيء، ألم تكتشف الدراما التي تحدث في البيت؟أبي من دون عمل، أوليس كذلك؟تشاجر مع السيد ـ سكوتفليد ـ منذ ستة أشهر وطردوه.ألم تلاحظ بأن ـ لالا ـ قد بدأت العمل في المصنع؟ألا تعرف بأن أمي ستنتقل للعمل في المدينة، في تلك المطحنة الانكليزية؟./ص12 الرواية) كان ذلك هو الجزء الحواري الدائر بين الشقيقين زيزا وتوتوكا، إذ كان هذا الأخير بدوره يطلق الملفوظ في صيغة جمل استفهامية، وكأنه يذكر شقيقه الأصغر زيزا بما عليه حال الأسرة في البيت.بيد إن هذه الوحدات الاستفهامية أخذت تشتغل على جعل الوقائع المنصرمة في حدود مشاهدات واقعية زمنية ذات ارتباطات استرجاعية ما، وكأن الغاية منها كانت حصر الماهية السردية في حدود حلقات من الزمن التعاقبي أو الطردي أحيانا عبر سلسلة من الأفعال والمشاهد.لعلنا عاينا أيضا من جهة أخرى كيفية وضع ضمير السارد المشارك لوحدات وعناصر الزمن، ومنذ بداية الرواية، على إن ما يجري فيها من السرد والمسرود أخذ يتبنى أبعادا حسية خاصة من دوافع ونزوعات النفوس المحرومة والمقهورة في درجة قصوى من واقع حياتها..وهذا الأمر بدوره يعد بذاته تجسيدا في مسار إن الزمن ما زال جاريا بالتأزم والتضخم الحرماني السائر في مفاصل هذه الأسرة، وخصوصا ما بدا واضحا عند معاناة الطفل زيزا على وجه من التحديد: (أجل ، أن الأمر يبعث على الحزن، كنت حزينا جدا ومحبطا جدا إلى درجة أنني فضلت أن أموت./ص42 الرواية).

ـ التداعيات السردية بين الفاعل الداخلي والمعطى في زمن الخارج النصي.

تتحدد مع حجم التداعيات في محاور العلاقة السردية بين جهة موقع السارد المشارك وما يرويه الواقع المتداعى في موجهات أكثر أنسنة مع أشياء ومقتنيات الشخصية زيزا.فهذه الشخصية كما أسلفنا سابقا في مبحث فرع أولي أكثر اندغاما وحدود علاقة مؤنسنة بين ذات المحور والأشياء المحيطة من حوله. وتبعا لهذا نقول بأن الطفل زيزا هو ما كان يقيم لنفسه تلك اللغات والتصورات والرؤى الواهمة مع الخفاش مثلا، الذي كان يقطن في أحدى زوايا سقوف منزل العائلة القديم، أو في ما يخص تلك العلاقة الثيماتية التي تتشكلها مقتضيات وهمية مصدرها هوية المعادل الموضوعي أو الترميزي أحيانا: (عندما عرضت المشكلة على العم إدموندو، فكر في الموضوع بجدية ـ إذن هذا ما يشغل بالك؟ ـ أجل، سيدي أخشى بأن لا يأتي لوسيانو معنا إذ ما أنتقلنا إلى المنزل الجديد ـ هل تعتقد إن هذا الخفاش يحبك كثيرا؟ ـ أجل أنه يحبني.. من صميم قلبه؟ـ هذا أكيد؟ ـ إذن تأكد من أنه سيتبعك..من المحتمل أن يتأخر في الظهور، لكنه سيجدك ذات يوم./ص34 الرواية) ولا يعنينا هنا مستوى الملفوظ اطلاقا، بقدر ما يهمنا مستوى الإحالة المرسلة في دواخل أسرار حياة زيزا.فلهذه المتداعيات السردية، ثمة بؤرة ظنية خاصة بمشاهدات الطفل مع نفسه تخيلا.فهو يقربنا بذلك من حادثة تعلقه العاطفي بمعلمته في المدرسة، حيث كان يسرق لها الزهرة البيضاء كل صباح من قصور الأثرياء، لأجل وضع تلك الزهرة في كأس يملأ نصفه الماء ليضع فيه هذه الزهرة كل صباح، إجلالا لتلك المعلمة التي تقوم برعايته بطريقة مختلفة عن أقرانه في حصة الدرس.وعندما واجهته المعلمة برفضها فكرة أن يسرق الأزهار من أجلها، شعر بالحزن والإحباط الوجع مع نفسه لوهلة، وكي لا يصاب بالحزن مرارا، اقترحت عليه المعلمة بأن يبقى كأس زهورها فارغا، ما دام هناك من يود أن يضع فيه كل صباح وردة.فإذا هناك وردة رمزية تبقى كحالة مقابلة لعدم وجودها الحقيقي. هذا المكون المعادل هو بمثابة الشيفرة أو الخاصية الرمزية بحد ذاتها، ذلك لأجل أن يبقى زيزا غير سارقا، ولأجل أن تزع فيه المعلمة تلك القيم اللامرئية في معادلات عالمه الطفولي الخصب.وبهذا النوع من الوعي نعاين ما تركه فيه ذلك الرجل البرتغالي عندما كان سابقاممن كانوا يوبخونه ضربا على مؤخرته ـ أي زيزا ـ ، عندما كان زيزا بأفكاره الشيطانية سابقا، ذلك عندما يبقى متشقلبا بطريقة ساخرة ومشاغبة في الجزء من مؤخرة سيارة ذلك الرجل البرتغالي، وعندما كان يحظى به متلبسا بفعلته، يسارع هذا الرجل البرتغالي في ضربه وتوبيخه.ولكن مع حادث تعرف البرتغالي على زيزا مثقلا من جراء جرح أصاب قدمه، قرر أن يحادثه بلطف ويحمله بسيارته إلى المشفى. إذ راح الطبيب هناك يقوم بمعالجة الجرح ولفه بالضماد وهكذا مع الوقت أصبح طفل الشيطان ـ زيزا ـ يعتبر ذلك الرجل البرتغالي بمقدار أشد من أحبه في هذا العالم. ويرتبط أيضا بذات العلاقة مع بائع الأغاني الذي كان يمنحه القدر الكاف من العناية والرعاية والعاطفة، مما جعل زيزا يعده في مصاف الصدر الحنون له.أقول أردنا من كل هذه الأمثلة الواردة في مفاصل السرد من الرواية، إظهار الطفل زيزا الذي كان يعد في منظور من لا يعرفه حقا بمثابة (طفل الشيطان؟) ولكن من يتعرف عليه عن كثب، يكتشف فيه ذلك الملاك السماوي الذي يسكن قلوب كل من أحبوه وفهموه، وليس في صدور من كانوا يمقتوه.

ـ الانفصال المحوري الشخوصي من المتخيل إلى الواقع.

نكتشف عندما نتقدم في مسار النص الروائي، ذلك بعد سلسلة من الصدمات الموجعة التي تلقاها الطفل زيزا ألما أثر موت الرجل البرتغالي في حادث دهس القطار لسيارته، وصولا إلى محاولة البلدية في المدينة إلى توسيع الشوارع، فقرر مدير البلدية قلع صفوف أشجار البرتقال التي كانت تغطي من امتداد عرض الشوارع، وقد شمل هذا الأمر شجرة برتقال الشخصية زيزا.نكتشف إن هناك وظائف زمنية وظرفية ونفسية جعلت من زيزا يتفهم ما كان عليه حاله من أوهام سحيقة، كان قد أختلقها لنفسه وأدمن عليها ردحا من زمن طفولته: (عند ئذ تحدث إلى قلبي صوت في منتهى العذوبة والحنان..لا شك أنه الصوت الحنون للشجرة./ص175 الرواية) إن حالات الانفصال عن المخيلة بدت في أوج فقدان الشخصية زيزا لذلك الرجل البرتغالي العجوز : ولها من صدمة ؟ فعلا أجاد الروائي خوسيه ماورو دي في صياغتها وسبكها إلى درجة شعور من يقوم بقراءتها بالاختناق والرغبة الطويلة في البكاء الموجع.

ـ تعليق القراءة:

في الحقيقة تثير فينا رواية (شجرتي.. شجرة البرتقال الرائعة) للمبدع البرازيلي القدير خوسيه ماورو دي فاسكونسيلوس روائيا وكاتبا سيناريويا بارعا بارعا للعديد من الأفلام في البرازيل، ذلك الاحساس العميق للطفولة وسحرها، رغم ما أظهر الروائي نفسه عبر شخصية محوره الروائي زيزا من تفاصيل مؤلمة وقاهرة من حياة عائلة أكتنفها العوز إلى حد الإشباع والتخمة المأساوية. أود القول إن تحليلات وتوظيفات الروائي إلى عالم شخصيته الروائية قد فاقت كل حدود المتوقع والمنتظر من وراء زمن قراءتنا للرواية.فهو عاش مرحلة طفولة زيزا ـ روائيا ـ ثم بالتالي زرع فيها شقاوة الطفولة لدرجة أصبح يقارب أن يكون مثلا لطفل الشيطان ثم أخيرا جعل فيه حب الخير للناس والأشياء، فأحب جذع شجرة البرتقال والرجل البرتغالي والمعلمة وذلك الرجل بائع الأغاني وأما كل هذا هل لنا من الممكن عد هذه المشخصات والمعينات والإمكانيات التي حملها هذا النص الروائي الكبير بأدب الناشئة أو أدب الأطفال كما توهما بعض النقاد في الغرب: لا أبدا ؟ فهذا النص الروائي فيه من الوظائف التأثيرية والتقنية الأدائية ما راح يتعدى أعمالا حائزة على جوائز كبرى بالجزاف.وعلى الرغم من المساحة المحدودة التي حاولنا فيها في دراسة مقالنا هذا للرواية، فلا أكيل لنفسي إلا باللوم واللائمة لأنني لم أكتب عن هذه الرواية والروائي والمترجمة الرائعة الأستاذة أيناس العباسي، إلا ما لا تستحقه منزلة ومقام هذه الدلالات الكبرى الناتجة عن تعالقات ومضمرات وجماليات هذا النص الروائي الفذ.

***

حيدر عبد الرضا

في المجموعة الشعرية (فراديس إينانا) للشاعر يحيى السماوي، سنطوف ونحلق عالياً في فضاءات شعرية الى فراديس الملحمة الخالدة (كلكامش)، تلك التي ثبتت في الأرض، ليستلهم منها الشعراء، عالمهم الرحب، ونكون مع إينانا إلهة المطر والخصب والحكمة والحب والجنس في ملحمة (كلكامش)، ومع أنكيدو، وأنليل وخمبابا، بل إننا سنكون مع حضارة اوروك، ومعالمها البهية، حيث يغوص الشاعر عميقاً، في هذه الفراديس، مع نفحات إيمانية من وحي القرآن الكريم، ومع الحياة بكل تقلباتها، على أرض الحب والجمال، بلدنا الحبيب وهو ينوء يثقل كاهله بحمل كبير، فقد تمكن الشاعر ومن خلال هذه المجموعة، أن يتفاعل مع هذه الرؤى الفنية، فيصنع لنا قصائده الشعرية، وهو يستمد من لغة القرآن الكريم، ولغة الملحمة الشعرية، ودورة الحياة في البلد وما يحدث، والحب الخالد، وسني العمر التي ترحل سريعاً، ليجعلها مفردة شعرية مركبة، ثم صورة استعارية تنتمي لهذه التفاعلات، لتكون قصيدة شعرية ملونة تدور وتتمحور مع حضارة البلد، وكأنه يسحبنا من عالمنا الى عوالم تلك الفراديس، ونطوف في اوروك، وشخصيات الملحمة، كل حسب دوره ومكانه وما قدم فيها، لكنه يستحضرهم ليؤازروه ويساندوه ويكونوا  معه، وهو ينوء بالكثير من الأحمال التي تدفعه لرسم ملامح قصيدة شعرية، ذات أكثر من بعد وأكثر من رؤية وأكثر من صورة، فلم يكن الطواف في مدينة أوروك  إلا صرخة احتجاج لواقع فقد الكثير من الجمال، والخير والأمان والحب والطمأنينة والسلام والأمن، وهو يذكرهم ويذكرنا بأن العمر عبر السبعين، وبات يرى كل شيء بشكل أنضج، وغدا الحس الشعري الذي يمتلكه يحلق في الفضاء الى أعمق ما يحتاجه الشاعر من معانٍ تلهب النفوس، وتثير المشاعر، وتشحن الذهن بقصائد ناضجة مشحونة بسحر الكلمة التي انطلقت من شاعر خبر الكثير من خباياها، ولم يعد يكتب  إلآ الشعر ولا يعيش  إلآ له، وهو يقدم لنا هذه التجربة الجديدة والحديثة، بكل ألوانها، وعملية بنائها المغاير والمختلف، وهو يستمد جمالها من كل شيء مكث في الأرض، وظل خالداً ولا تمحوه الازمنة، ويظهر التأثير واضحاً في تلك القصائد، في تكوينها وتشكيلها، كونها طوافاً  في هذه الفراديس، وهو يقدمها بروحها ولغتها وسر خلودها.3758 فرتيس اينانا

في قصيدة (هبوط إينانا من عالمها العلوي) يقدم لنا الشاعر هذا التفاعل الذي يضفي على جمال القصيدة سحرها الأخاذ، إذ أن إينانا تهبط لترى وجه الأرض المتناقض القبيح، وتبوح بسر جمال فردوسها الازلي، وانوثتها المبهرة:

هَبَطت من بُرجها العلويّ إينانا

احتجاجاً

ضد أنليل وما يكنز من تبرٍ

ومالٍ وقيانْ

*

ورياشٍ في رحابِ " المعبد الأخضر"

في وادي اليتامى..

والمُرائين المُصَلْينَ أمامَ الناسِ

جهراً

ووراءَ السورِ مانال امرؤ القيس من اللذاتِ

زادًا وكؤوسًا وقصورًا وغوانْ

وتستمر القصيدة في انثيالاتها الشعرية الحالمة الشفيفة لتأخذنا الى جمال اوروك وسحر النساء فيها، وفي نهاية القصيدة، تشير الى وجه الاختلاف:

فلماذا أصبحوا الآن كأسنان التماسيحِ

وقد كانوا كما أسنانُ مِشطٍ

ما الذي صَيَّرَ أوروكَ جحيماً

بعدما ما كانت جنانً؟

*

حانَ وقتُ الفصلِ بينَ الصدقِ والزيفِ

وبين اللهِ والاصنامِ

حانْ

وفي قصيدة (الماء أحرقني فأطفئيني بلظاك) يقدم لنا الشاعر طوافاً آخر في فراديس أوروك، وغاباتها ومتاهاتها، وسط الضياع الذي يكسوه، وهو يناجي معشوقته متلهفاً لرؤيتها، مشتاقاً لكل ما فيها:

مُتعثّراً بخطايَ جئتُكِ

هارباً مني إليكِ

دخلت ليلَ الغابة الحجريةِ الأشجار

أبحثُ عنكِ

لكنْ

ليس من أثر يقودُ إليكِ

فالليل البهيمُ

أضاع خطوي عن خُطاكْ

وتستمر القصيدة نحو هذا المحتوى حتى نهايتها، وفي قصيدة (الامتلاء فراغاً) نجد هذه التراكيب الفنية المستحدثة تتفاعل وتنصهر في بوتقة واحدة، لتعطينا صورة مغايرة لحياة اوروك، وتنقل لنا الحياة الجديدة وانقلابها:

لستُ أدري

أيًّ ربٍّ أتّقيهْ

كاهنُ المعبدِ لصِّ

ووليُّ  الأمرِ دجّالٌ..

وكلًّ يطلبُ البَيعةَ في أوروكَ..

كلكامش باعَ السور أصهاراً

وأضحى قارئُ الفنجانُ والكفِّ فقيهْ

//

فإذا السارقُ قاضٍ

وإذا النُّكْرُ وجيهْ

//

وإذا بالشمسِ تستجدي من الفانوس ضوءاً

ليس ما يملؤني إلآ فراغُ القلبِ

ممن يَسْتبيهْ

ونكون مع رحلة السبعين عاماً في قصيدة (جفاف بعد سبعة أنهار وسبع سواقٍ) ويكشف لنا الشاعر في هذه القصيدة تداعيات الرجل الذي تجاوز السبعين، وآثار السنين على رحلة عمره، ونقرأ في موطن من هذه القصيدة:

كل ما أعرفهُ

أني أخيذُ الغابةِ

الصَّبُّ الفراتيُّ الذي جاوز سبعينَ

ولا زال غريراً

عَقَدَ الألفة بين الظبيِ والذئبِ

وبينَ الماءِ والنارِ

المُصَلَّي الرافعُ الكفَّينِ يدعو

للعصافيرِ بقمحٍٍ

وبوردٍ للفراشاتِ وبالأطفالِ للعاقرِ

والجائعِ بالخبزِ وبالأمنِ لقومي

والصحارى بالمطرْ

أما قصيدة (كُنا... فصرنا) نكون برحلة مع العمر حين يمضي، تغدو الذكريات اطلالاً وماضيا، ولا شيء سوى المناجاة والتداعيات:

مضى ما كانَ يَجمَعُنا فأمسى

بمقبرةِ المُنى والعشقِ رمسا

*

فما عُدت المُطلَّ عليَّ بدراً

ولا عُدتُ المُطِلَّ عليكَ شمسا

*

وكنا في الوئام ندىً وورداً

وكنا في اللقاء فماً وكأسا

وفي قصيدة (عتمة) نكون مع هذه التفاعلات، وهو يقدم لنا مدينة اوروك بقصيدة قصيرة، اوروك الآن وكيف أضحت، وليس اوروك الحضارة:

أوروك لا شمسٌ ولا نجمٌ..

وكهفي دونَ نافذةٍ..

وبستاني بلا شجَرٍ..

ولا من سامرٍ فيشدُّ من أزري

//

أما لليلِ في أوروكَ

من فجرِ!

وهكذا نكون قد طفنا بعالم الشعر الحديث، للشاعر يحيى السماوي، ونحن نختار جزءًا  يسيرًا من مجموعته الشعرية (فراديس إينانا) التي ضمت العديد من القصائد بكل أنماطها، وأنا أشعر بغبطة إذ شعرت بأن الشعر لازال عراقياً.

***

يوسف عبود جويعد

....................

* من اصدارات دار الينابيع – طباعة ، نشر، توزيع لعام 2022

للقاص السوري د. محمد ياسين صبيح

خروج

(كلّما خرجتُ إلى فضائي متسلّحًا بفكرةٍ ومعطفٍ ضدّ المطر، كنتُ أفقدُ بعضًا منّي، وبعضَ جيوبي..

وكلّما كنتُ أخبّئُ فكرةً جديدةً، أفقد رداءً..

مؤخّرًا.. عدتُ إلى البيت عاريًا...)

***

1- ديباجة النص:

هناك عدد من الدلالات السيمائية التي ألقاها القاص في نصّه، منها:

فعل الخروج، الفضاء، الفكرة، المعطف أو الرداء، المطر، الجسد (بعضًا مني)، الجيوب، فعل التخبئة، فكرة جديدة، فعل العودة، البيت، العري..

في هذا النص يشير الكاتب، في فعل الخروج إلى الفضاء والعودة إلى البيت، إلى الإنسان كمخلوق سجين بين الولادة والموت، فالخروج ولادة، والفضاء حياة حرة، والعودة إلى البيت والعري موت في قبر.

الجيوب هي عقلُه الذي يحوي بنات أفكاره، ومخبأُ كل ابتكار يبدعه هذا العقل، ويستهلكه الجسد، فالجيوب عندما تمتلئ بالأفكار، تثقل رداء الجسد الذي يواكب الإنسان، في لبسه كلما خرج، وخلعه كلّما عاد، بمعادلة معروفة:

لبس الرداء - خروج

خلع الرداء – رجوع

والخلع واللبس يشير إلى العمر الإنسان الذي يملك عقلًا وجسدًا، يخبئ أفكاره بجيوب ردائه، يخرج نهارًا يرتدي معطفًا يظن أنه يقيه مطر الأفكار الخارجية، ولكن جيوب معطفه تمتلئ بها رغمًا عنه تزاحم أفكاره الجديدة، وعندما يعود ليلًا إلى داره يستجدي الراحة ينزع عنه رداءه، ويضيع منه، كما تضيع الفكرة الوليدة حينما نخفيها ونعجز عن تذكّرها وتذكّر مكانها، فيغدو عاريًا من كل فكرة كما جسده العاري المتخفّف من كل حمل.

وكلّما كان الإنسان في مقتبل العمر، كلّما كان قويَّ الجسد حرَّ التفكير، ثريًّا قادرًا على شراء أردية كثيرة، تلائم الأفكار المنهارة عليه كالمطر، ومع تقدّمه بالعمر يتكرّر فعل الخروج والعودة، اللبس والخلع، الكسب والفقد، الثراء والفقر، إلى أن يصل إلى مرحلة يفقد فيها القدرات الإيجابية جميعها، ولا يملك إلّا الضدّ السلبي وقبر يلجه بجسد ضعيف زالت أرديته إلا من كفن، وعقل ذاهل تبدّدت منه الذاكرة والعلوم والأفكار، وتعرّى من الوعي والإدراك.

2- التحليل الدلالي الإيحائي:

- الدلالة الأولى: ( كلّما خرجت إلى فضائي متسلّحًا بفكرة )

يشير القاص بفعل الخروج إيحائيًّا إلى أن الإنسان حينما يخرج إلى العالم الخارجي يرتدي ملابس، فما هي هذه الملابس؟ هل هي الملابس التقليدية؟ لم يقصد القاص هذا المعنى إطلاقًا، وإنما قصد المعنى الإيحائي الذي يذهب إلى اعتبار ملابس الإنسان هي عقله، الزينة التي زيّنه بها رب العالمين، فإن كانت الملابس زينة البدن فإن العقل هو زينة الإنسان ككينونة مكرّمة عن سائر مخلوقات الله، هذا العقل هو جيب ووعاء الأفكار التي تنزل إليه كمخلوق مكرّم، فيها يقاوم أفكار الغير، بمعاندة كبيرة، وحرص أكبر على الاحتفاظ بملكية فكرته.

- الدلالة الثانية: ( ومعطفٍ ضدّ المطر، كنتُ أفقدُ بعضًا منّي، وبعضَ جيوبي..)

هنا يشير الكاتب إيحائيًّا إلى أن الإنسان، مهما حاول أن يقي نفسه من أفكار الغير، وتحصّن بدرع أو معطف مضاد فلن يستطيع أن يمنع تلك الأفكار من الهطول، كما لن يستطيع بمعطفه الواقي أن يمنعها من اختراقه، ستجد مكانًا لها في جيوب معطفه المفتوحة، وستنافس أفكاره المخبوءة فيها، وقد تطردها، حينما تمتلئ فلا تستوعب الكثير، فيقع ما فاض منها، والغالب أن الفائض هو تلك الأفكار الذاتية الخاصة المخبوءة، التي يكون مصيرها الفقد التي هي بضع من صاحبها، ويطال الفقد أيضًا بعض من أوعية عقله.

- الدلالة الثالثة: (وكلّما كنتُ أخبّئُ فكرةً جديدةً، أفقد رداءً..):

وهي تشير إيحائيًّا إلى أن الإنسان عندما يرتدي ملابسه، إنما يرتدي أفكاره، وحينما يتقدّم بالعمر، تغدو السنوات هي الأردية، وكل رداء منها يخلع جزءًا من أفكار الإنسان في عقله وقوّته في بدنه، والأفكار حينما نخفيها أو نخبّئها سنفقدها حتمًا، فهي خُلقت لتظهر للعيان، لتفيض عن أردية الغير بقصدية النماء، الفكر الجديد هو علم مفقود إن لم يُنشر ويعمّم.

- الدلالة الرابعة: ( مؤخّرًا.. عدتُ إلى البيت عاريًا...):

الرسالة النص: سنوات العمر أردية متناقصة بتوالي الخلع، مع كل خلع يفقد الإنسان جزءًا من الكل، حتى يضحي عاريًا من الفكر، متجرّدًا من القوة، مسلّمًا نفسه إلى مدير سجن الموت، نهايته القدرية المحتومة.

3- التحليل النقدي الذرائعي:

وفق المستويات التحليلية الذرائعية التالية:

- المستوى المتحرّك:

حمّل القاص نصّه العديد من الحمولات المختلفة بنوعيّتها:

1- الحمل الفلسفي:

للقاص فلسفته في قضيته كإنسان، فهو يرى نفسه سجينًا بين الولادة والموت وفقط، وكل ما يحصّل من مكاسب في الحياة، من قوة مادية بدنية وأفكار وقدرات عقلية، تنتزعها منه السنوات بتقدّم العمر، وهكذا في البداية تبدو السنوات مقبلة باتجاه النماء، ثم يدير العمر وجهه، فتبدأ السنوات باسترجاع ما أعطت، فتسلب منه القوة والإدراك، وعندما تجرّده من كل ذلك، تدبر الحياة باتجاه الموت، النهاية التي لا يختلف عليها ضدّان.

2- الحمل الرمزي:

بنى القاص قصته بتكثيف موجز رمزي مغلق، أشار له برمز (السنوات)،وجعل السنوات بوجهين، وجه أبيض ووجه أسود، الأول اتجه باتجاه الولادة، والثاني اتجه باتجاه الموت، ودعّم العنوان ( خروج) فعل التوجّه.

3- الحمل الإيحائي الذرائعي:

كان هذا الجمل أو الجانب واسعًا، والدليل أنه كتب قصته الطويلة كإنسان عبر بالحياة بكلمات موجزة، ويعني ذلك أن النصف الثاني غير المرئي من الدلالة ( الإيحائي الذرائعي)

كان، إيحائيًّا، ممتدًّا إلى ما لا نهاية من احتمالات تأويلية، ويستطيع المحلّل تحميله باحتمالات كثيرة أوجزنا منها الولادة والموت، وأترك الباقي للمتلقي.

4- الحمل الاجتماعي:

قدّم فيه رسالة مفيدة، مؤثّرة، عن مسيرة الإنسان الواعي، والتأكيد على الاستفادة من المعرفة المتكاملة، وطريقة إيصالها للناس دون تبذير ولا تفريط.

- المستوى السيكولوجي:

في هذا المستوى، تقرّ الذرائعية أن أصل كل فعل وقول يجريه الإنسان، إنما يتأتّى من دواخله السيكولوجية، بأوامر تصدر أحيانًا من اللاوعي، وأحيانًا من الوعي نفسه، فالأوامر الصادرة من اللاوعي هي نتاجات حتمية تستقرّ في رأس قلم الكاتب، لا يستطيع التخلّص والتملّص منها بسهولة، إلّا إن كان واعيًا ومتمكّنًا من قدرته على هذا التملّص من سيطرة النفس.

أمّا الأمور النفسية والسيكولوجية الواعية فهي تصدر عن رضى نفسي بالتضافر بين الوعي واللاوعي لسيطرة الضمير كموجّه حتمي للتوازن الانفعالي للفرد.

والقاص، في هذا النص، كان منطلقًا من الجانب النفسي الواعي، حيث كتب عن التجربة المعاشة فقط، وحكّمها بالمنطق الذي أقرّ الواقع المعاش، ولم يتطرّق إلى ماوراء المعاش، مقصيًا جانب الغيبيات، ما قبل الولادة وما بعد الموت.

المستوى الأخلاقي:

إن أقرب عمل إجرائي يقوم به الإنسان هو العمل الإيجابي، ليكون هذا العمل في متناول الأخلاق التي تقود الإنسان باتجاه الخير ومجافاة الشر، والأديب هو خير أداة بيد الخير، معول لحفر قبور الشرور والأشرار.

والقاص، في هذا النص، مسنود على رسالته الأخلاقية هذه التي تدعو أفراد مجتمعه نحو الإفادة من علوم الحياة، وزرع أفكاره الخيّرة فيها، ولو أكلت الحياة عمره وقوته وعقله، يكفيه أن يغادرها مؤثّرًا فيها، عابرًا إلى حتمه تاركًا تركته من العلم لأجيال سيعبرون في الحياة متسلّحين بما تسلّح به، والسلاح قوة، فالأفكار والعلوم وُجدت لتُنشر لا لتُخبّأ، وهي قوة مضافة، هكذا تُبنى الأمم.

المستوى الجمالي:

امتازت هذه القصة المكثفة الموجزة بإطناب السهل الممتنع، وحمولة الدلالات الإيحائية الأربعة، ما أكسبها جمالية إيجابية أعطت جوانب برّاقة كما نراها منعكسة بجمالياتها فوق بياض الورق.

أحيي القاص الدكتور محمد ياسين صبيح على هذا النص القصصي المكثف الموجز المائز.

***

بقلم الناقدة الذرائعية د. عبير خالد يحيي

سرد بصوت الكاتب، وهو ينطلق من عمق مرابع البادية في ترحال بين الشمال والهضاب العليا، ترافقهم الخيمة ومواشيهم.

 كنت أجلس مع المؤلف واتنقل وأسيح في البادية، واعشق وأكره، وأفرح بنجاحاته التي تولد من رحم المعاناة والتحدي وأحزن لضياع فرص جميلة يشاء القدر أن لا تكون لحكمة كونية تظهر نتائجها من خلال النص المسرود.

الكتاب بعنوان حَدِثُ القُبَرَة، هذا العنوان الإيحائي يخلق مطابقة بين النص وشخصية السارد وبيئته فالقبرة ذلك الطائر المعروف بأنغامه العذبة، والذي ظهر في العديد من الأعمال الأدبية فرُمِز به إلى الفجر، فوجدناه كثيرا في كتب التراث والأساطير المختلفة لكن في مسرود سعدي صباح كان مرافقه رفيقا لأنه يكثر في بيئته الشبه صحراوية، فهو يسمع زقزقته في ذهابه وإيابه، أثناء لعبه وصيده، وكثيرا ما يجد أعشاشه في الارض، كان المؤلف يريد أن يرفرف مثله في السماء يصطاد أحلامه التي تزاحمت كنجوم السماء، يعتبر هذا الكتاب وصف لأعماق النفس البشرية وما يكتنفها من انفعالات وعواطف كتحدي الفقر، التخلف، الجهل والسعي للخروج من هذه البوتقة بإمكانيات جد بسيطة من عالم الاشياء تنتهي به إلى التألق والنجاح،كما أنه كان يغوص في الأرواح الطيبة من أهل البادية رجالا ونساء فيبين أجمل ما فيها من الخير والإحسان، تعلق الشاعر بالمرأة منذ مراهقته الأولى، كانت تعلمه وتدفعه ليتعلم أكثر، ويلبس أفضل، ومن العجائب كان يمر بإخفاقات فهو شاعر عاشق للفن بالفطرة، كان يجري خلف الجمال الذي يهبه الله حتى لا أقول تهبه الطبيعة لمخلوقاتها من فتيات أو صحراء، أو تلال، أو مروج. المؤلف يحب الجمال إلى حد بعيد، ينقله في روحه،ودمه ثم ينثره حروفا تغني وترقص،كان رومنسيا وسرياليا إلى حد بعيد، يصف نفسية الشخصيات التي مرت معه كما يفعل الاديب الروسي فيودور دوستويفسكي في رواياته المقامر، في قبوي، كان يصف الكريم حتى تحب أن تراه والابله حتى تمقته والحسناء حتى تحلم بها، يحكي عن نفسيات كثيرة متجردا من كل العقد بلا تهور أو قلة حياء عن امه. ما أجملك أيها الكاتب الرائع سعدي صباح نسمي هذا النسق بالجانب السيكولوجي.

أما النسق الثاني بلون آخر فيحمل كما هائلا من لوازم بيئته البدوية وأشيائها وأعمالها، من حيواناتها، نشاطات الموالين والفلاحين والمرتحلين الباحثين عن الماء والكلأ، عن المدن المعزولة من قبل الاستقلال إلى بعد الاستقلال ثم الزمن الثالث بعد زلزال الشلف وظهور التدين منه ما أفاد ومنه ما أستعمل في غير مكانه فكانت المنطقة ممرا لجحافل الإرهاب في الاخير زمن الرئيس بوتفليقة وما وقع فيه من وصول المفسدين لمراكز حساسة.

لو سألت اليوم واحد من الشباب كيف كنا نعيش ثقافيا واجتماعيا قبل الاستقلال أو في السبعينات فلا يعرفها لنسمي هذا السياق بالبعد الاجتماعي وهو بهذا البعد يكون قد ساهم في نقل التراث نقلة عجيبة ليس بمجسمات طينية من قلال وترس (شواري)، ومنجل، وأسماء الأشخاص، والخيمة الحمراء التي تميز ولاد نايل، أما السوداء تمثل عروش بني هلال وكل هذا يسهل الدراسة الأنثروبولوجي لحركية هذا الانسان في هذه السهوب والتلال هنا التراث يتحرك، يتكلم، يجري، يجلس، يغني ويرقص.

النسق الثالث يحمل بعدا تربويا وثقافيا، أما التربوي فالمؤلف نقل لنا صورة رائعة لمراحل تطور المدرسة الجزائرية عامة في مناهجها، وبناياتها، وتلامذتها ومعلميها، أيضا يحكي عن حالة التدريس قبل وبعد الاستقلال في تلك المنطقة مصورا فيها.

كل شيء المدرسة كفضاء يتطور من خيمة إلى تراب إلى بناء، التلميذ، تعلم المرأة في الريف، المعلم وتنقله، المديرين، المفتشين، الكل بمحاسنهم ومساوئهم ....

أما الشيء الرائع في حديث القبرة يحكي تطور الأدب خاصة وفنون أخرى من شعر بأنواعه وقصة ورواية بطريقة فنية أتمنى أن يدرس هذا الكتاب في مختلف الكليات الأدبية، الاجتماعية، النفسية. فهو مرجع رائع جدا. كأنه دليل سياحي لهذا الجزء الجغرافي السهبي الخلاب.

نتفاءل بأن مستقبل الجزائر الجديدة في جنوبها، أكثر من شمالها وليس هذا في المورد النفطي، بل كل الموارد من الطاقة البديلة، إلى الذكاء لدى هذا الإنسان، إلى كل ما في هذه البيئة من كائنات حية..

***

كتبه الشاعر رابح بلحمدي

البليدة الجزائر

ذياب مهدي محسن آل غلام، من مواليد العراق، الشامية 1952م، فنان تشكيلي وكاتب وشاعر، وعضو جماعة فنانين النجف 1970م، وعضو نقابة الفنانين العراقيين 1975م، وعضو جمعية التشكيليين العراقيين 1975م، عضو جماعة أدب في النجف 1975م، وعضو جمعية حقوق الانسان العراقية-الأردن2002م، وعضو اتحاد ادباء وكتّاب العراق، ومشارك في الكثير من المعارض التشكيلية داخل القطر وخارجه، وله ثمانية عشر معرضاً تشكيلي شخصي ما بين 1970 – 2009م، وعضو اتحاد شعراء ملبورن/استراليا، وحائز على العديد من الجوائز والشهادات التقديرية؛ فنية وأدبية.

وله مجاميع شعرية صادرة، منها: (قطار الشوق (2ج) الصادر في عمان عام 2001م، حبايب ديوان شعر، حياة الأيام ديوان شعر، ليالي البنفسج الصادر في عمان عام 2002م، من سيرة الأيام الصادر في عمان عام 2004م، القرمطي لا يخلع صاحبة الصادر عن دار الفرات، سونيتة الغجر الصادر عن دار الفرات، المشي على أطراف الروح الصادر عن دار الفرات عام 2018م، عاشق مضرج بالنهد الصادر عن دار الفرات عام 2019م). فضلاً عن مؤلفاته (مقهى عبد ننه.. عن تاريخ النجف النضالي في الفكر الصادر عن دار الفرات في بابل عام 2018م، الإسلام والماركسية.. دراسة فكرية مقارنة الصادر عن دار الفرات عام 2017م، القرنفل الشقي.. أوراق من سيرة الأيام الصادر عن دار سما عام 2021م) وكتب العديد من الدراسات الفكرية والمقالات الأدبية والثقافية، ومقالاته التي تجاوزت (270) مقال على مواقع الكترونية وصحافة ورقية في مجالات متنوعة.

الحوار مع الشاعر ذياب مهدي آل غلاب يفسح المجال ويخصبه للنبش والحفر وتقليب أرضة القصيدة، لمعرفة عمقه بقصيدة النثر، وتجربة الشاعر ذياب تشكل بمجملها ظاهرة أدبية في حركة الشعر المعاصر في قصيدة الغزل، فديوانه الأخير (وشم على رئة التراتيل أناشيد تعتقها المنافي) الصادر هذا العام عن دار الفرات في بابل بالمشاركة مع دار سما للطبع والنشر والتوزيع، وقد تضمن (59) قصيدة عشق للقرنفل الشقي ذياب آل غلام، جميعها تتحدث عن سيرة حياة عاشق، قرمطي النزعة والفكر، قديس اشبه بالملاك، يمتلك قلب طفل مدلل ومولع بالعشق الفطري. أول القصائد كانت بعنوان (استهلال)، تُشبه في اسلوبها تراتيل عاشق عاش أكثر من عقدين في الغربة وهو يحن إلى ظفائر حبيبته الأولى. وكانت مقدمة الديوان بقلم ابنته الدكتور (هلا) تحت عنوان (خطوة في الدرب... نحوك): قصيدة سومرية، أول معزوفةٍ سمعها البشر، زهرة رقيقة في قمة جبل، ماؤها ورحيقها... راهبة في محراب أنسها الوحيد أن تتلو ترانيم وتراتيل طفولتها وكأنها عزف منفرد على وتر اليقين)، ثم تختم الدكتورة المقدمة بكلمات رقيقة: (فلو كان للقلب فن يمارسه لكان الشعر والعزف... فكل قصائده وموسيقاه في صوتك وعينيك).

واللافت لمن يقرأ قصائده في ديوانه الأخير يجد أن قلب الشاعر يخفق بعشق المرأة، ويقترب في أكثر قصائده من قلب النساء. فهو المبدع الحقيقي، والشخص الحساس والمغترب برؤاه وأفكاره وطموحاته وأحاسيسه القرمطية، وله طقوسه الخاصة، وأحاسيسه المشبعة عشق وغربة، ووعياً وإدراكاً، وتوتراً واحتراقاً، وحرقة وتأمل، فهو الشاعر الذي يختلف في نص قصائده عن الآخرين في فاعلية تأثيره في وسطه الأدبي.

عرفته منذ عام 1988م من خلال الخدمة في العسكرية، انساناً شفافاً، مخزون بالإبداع والثقافة والموهبة، يمتلك ركيزة معرفية وثقافية حساسة، وهو الأكثر تأثراً وإحساساً، وبعد أن فرقتنا الأيام بعد الحروب والحصار الاقتصادي على العراق، كان لموقع (الحوار المتمدن) الفضل لإعادة علاقتنا الأخوية، بعد أن عرفت أنه مقيماً في استراليا، وقلبه ومشاعره ترنوا لأحداث بلده بعد الاحتلال الأمريكي، ومن ثم زياراته المتكررة للعراق، والإقامة لأكثر من ثلاثة أشهر في كل سفرة، فعاد تواصلنا وحواراتنا بين الاتفاق والاختلاف.

وهو المبدع المغترب المستمر في حركة دائبة من الحراك الشعوري، والصدام مع الواقع وتحديه، والتمسك والتسلح بكل ما يحمله من روح الجديّة المعاصرة، واللجوء إلى الموروث للإبتكار. وما من شك في أن للرموز الوجدانية نجدها في نصوص الشاعر بحركتها المؤثرة في لغة الحداثة النثرية في قصائده عموماً، وهو الشاعر الأكثر احتفاءً بالرموز في نصوصه، إذ يخلقها خلقاً جديداً، ويمنحها الشفافية والعمق، والحركة والإيقاع، وقد لا نذهب بعيداً في قولنا: إن ابتهاله الهادئ يميل فيه إلى عمق المكاشفة والتأمل، كما في قوله:

ها أنا في الغربةِ وحدي

تحتَ عبءِ الهمومِ

أتلمّسُ نبضَكِ،

ضفائركِ

يا لحظةً جميلةً في ذكرياتي

***

أبحث عن سماءٍ تسقيني

غيثَ السلوانِ لروحي

ثم أغمضُ عيني

لأعانقَ أحلامي

هنا يطالعنا الشاعر برموزه التي تكشف عن إيحاءاتٍ عميقة، من حيث الابتكار والشفافية والعمق، فهو يبتدع رموزه ودلالاته، ورؤاه الخاصة بعيداً عن مسالك السالفين، فهو الشاعر الذي يفاجئنا بأنساق تشي بالدلالة العميقة، والإيحاءات المبتكرة التي لم نعهدها من السابق عبر حركتها الرمزية المشتعلة قوة، وإيحاء وشفافية روحية وجمال روحي مفتوح الرؤى.

***

نبيل عبد الأمير الربيعي

25/11/2022

 

مبدئيا فالعنوان ليس خـدعة أو نوع من الإثارة؛ بل هو بمثابة مدخل لما أود خطه في هاته المقالة؛ التي تجنح تارة نحو الذكريات وتارة نحو النقد للمشهد عامة؛ وتارة هي هلوسات في أفق عوالم الرقمنة؛ إذ في لحظة النشوة تساءلت لماذا لم تحظ التمثيلية الإذاعية بالمتابعة والنقد والمتابعة عندنا؟ هل نقاد المسرح لا يعنيهم  الموضوع أم كانوا لا يتوفرون على مذياع؟ لكن ما هو مثبت تاريخيا ليس لدينا [نقاد] بالمعنى العلمي/ الأكاديمي/ الاحترافي/ وأبعَـد من هذا كنا ومازلنا لا نتوفر على صحف فنية (مختصة) ولا على ناقد فني؛ وإن حاول في زمان (ما) المرحوم علي الهواري وعبدالسلام السفياني ومحمد الطنجاوي و... لم يستطيعوا تأسيس نهج أوتوجه  كما هو الشأن في الشرق  سواء مصر/ سوريا/ العراق/... ومجلاته كالموعد/ روز اليوسف/ صباح الخير/المصور/ فنون/ الكواكب/ الإذاعة/ الشبكة/... -.../

ربما أحد جهابذة "اللغـْو" سينط  كالقرد ويشير بأننا (الآن) نتوفر على نقاد أكاديميين! ممكن؟ ولكن في المِشْمش؛ وحسب الأرصاد الفنية، ما أعتقد، والذي أعتقده أن بعضهم لم يستمع في أيامه ولو لتمثيلية إذاعية! (واحدة) والبعض الآخر لا يعرفها!  لماذا؟ آه: لماذا؟ فالذي لا يحضر للعروض المسرحية؛ ويكتب عنها عن طريق (السماع) أو من (تحْـتها) وينسب لنفسه صفة (ناقد) هل سيعرف ما هي التمثيلية الإذاعية؟ هل سيكتب عنها؟ إطلاقا. لأن لا ثم لا: وقت لديهم، لأنهم كانوا ولازالوا متفرغين للفراغ وللبحث عن منافـذ ومنابع للتعويضات بين الموائد أواللجن أودهاليز الصناديق السوداء! باسم الصفة (ناقد)؟

رب عالم في همسه سيقـول: كما يقولون دائما: في الكـَواليس ومن وراء جدران كهوف باخوس. ولما لا يمارس (هـو) ما يدعُـون إليه؟ هكذا يتكلمون! ولا يواجهون! ليس خجلا بل خوفا من ذيول تصرفاتهم ومسلكياتهم؛ إنهم واعون بما يمارسونه على حساب الفن الرابع؛ فن النبل وإنسانية الإنسان؛ بالنسبة لي لم ادخل غمار قراءة التمثيلية الإذاعية، لأنني كنت ضمن فريق إذاعي بمدينتي؛ إن قمت بما يسألون؟ عنه بالتحليل والقراءة لعمل إذاعي (ما) سيقول النمامون والوشاة؛ بأنني مأجور؛ من قلب البناية التي فتحت لي أبوابها للإنتاج منذ عقدين(..) إنها تهمة رخيصة، تلتصق بمن خارج الزمرة؛ أو يميل لاتجاه غير تجاههم، أو عازف عن متاع الدنيا في الحد الأدنى. وأفظع التهم التي كانت:(أنه) مؤسساتي مُمَخـزن، هكذا كان مشهدنا الثقافي/ الفني؛ ومن بين الطرائف التي حصلت ما مرة في زمن الإذاعة، أنني نسقت مع أحد (المثقفين) و(أكثرهم) تحَـدد ميعاد اللقاء والتسجيل؛ صبيحة ذاك (اليوم) اعتذر أنه يرفض الدخول لتلك المؤسسة بدعوى أنها (يمينية) فهل هناك مؤسسة(يسارية) ستقبله؟ والمضحك أنه موظف كان موظفا في أعلى الدرجات في قطاع (...) لن نقول أنه يميني، بل مصدرلرزقه!  مفارقات كنا نعيشها أبهى، وأروع من [التمثيليات الإذاعية] التي كان ينتجها الراحل عبدالله شقرون أوأحمد البصري أو الهاشمي بنعمرأو الطيب العلج عبدالرزاق حكم أوزهور المعمري أو فريد بن امبارك أوحمادي عمور أو حبيبة المذكوري أو محمد عاطفي وعبد الصمد دنيا أو شعيبية العذراوي أوالمحجوب الراجي أوحماد الأزرق أوعبد العظيم الشناوي أو وفاء الهراوي أوزكي الهواري أوحسن الجندي أوأحمد العلوي أوحمادي التونسي أو العربي الدغمي أو رشيدة الحراق أو محمد الرزين أو أحمد الناجي.. والقائمة أطول من عمر من ينسى أن هؤلاء تعلمنا منهم حسن الإصغاء وتوسيع مدارك التخييل وإنتاج الخيال الذي هو عُـصب الإبداع في فنون القول: مي رحمة أو رحلة بن شامة أو حكايات دادا سعادة أونهار الخميس أو الخيمة.. ومن الصعب أن ننسى مسلسل "الأزلية" فكل منا له ألف حكاية وحكاية مع ذاك المسلسل. وحكايتي كانت قبل المسلسل مع المذياع؛ بحيث اشترى والدي رحم الله الجميع. مذياعا من الصنف الكبير؛ زمن صولة المذياع (؟) وشبه انعـدام التلفاز(!) وكان مستحْـوذا عليه في غرفته؛ إنها عقلية الجندية في زمَـن الحَـرب العالمية الثانية؛ فكنت كل "خميس" أتحجج بزيارة جَـدتي في إحدى الأحياء الشعبية؛ ذات الطبيعة الحيوية بالهرج والمرج وطيبوبة ناسها، ولكي أسرق مذياعا صغيرا ل"خالي" الذي كان يأتي من العمل ليلا وفي حالة سكر طافح؛ يساهم في نومه نوما عميقا، تاركا لي فرصة الاستماع للتمثيلية الإذاعية أواسط الخمسينات من ذاك القرن؛ لأعيش منطق السعادة والعزة أمام صوت المذياع! بحيث كان ذهني ينغمس كليا في أجواء تلك الحلقة؛ وأهيم كما تهيمُ البهيمة في بَهـيم ِ الليل، حتى يغلبني النوم وتضيع شحنة البطارية التي كانت على ظهر المذياع، تستدرك جدتي الموقف؛ كل أسبوع. وتخبئ المذياع في مكانه، حتى لا يفطن إبنها بالأمر، وهكذا حتى أمسيت مدمنا كالبقية الباقية على التمثيلية الإذاعية؛ وخاصة الأزلية التي استلبت عقول كل الناس صغيرا وكبيرا؛ وأمست الألقاب والنعوت توزع إما بَسْطا أو مدحا أو ذما بين الشباب والنساء وأفراد العائلة والأسر:كعيروض/ عاقصة/ السقرديس/ قمرية / السقرديوس/ عاقلة / رعد/ قمرون/سعدون/ وحْـش الفلا/.../ وأحلى وأبهى لحظات الإستماع للتمثيلية الإذاعية في شهر رمضان؛ إما قبل آذان المغرب في الدكاكين والمحلات للصناعات التقليدية! وبعْـد الإفطار في الغرف والبيوتات! حيث كانت و(كنا) نجتمع للتمعُـن والاستفادة من الحكاية المسترسلة، تلك كانت حكايات واضحة المعاني وشديدة المباني؛ بثراء المؤثرات الصوتية وبأصوات متنوعة ومتلونة لمبدعين أفـذاذ. كأننا في مجالس البصرة أوفي جامعة الزيتونة أو سوق عكاظ أو في جامعة القرويين؛ نعم قرب المذياع! كانت الأسَـر كيفما كان شأنها، تجتمع للتسلية والترفيه أمام فرجة سماعية / بصرية عبر المخيلة؛ والتي كان يطلق عليها "الرواية" انتحالا من الشرق؛ علما أن العمل المسرحي في الأربعينات والخمسينات من الزمن الماضي كان يطلق عليه " الرواية " وليس " المسرحية " إسوة (ب): ألف ليلة وليلة وسيرة بني هلال والعنترية والأزلية  وسيرة بني هاشم والزمردة وهارون الرشيد.. أعمال خالِـدة، ثرية  بشموخ حضورها؛ تمثيليات بحق (كانت) ولازالت حاضرة؛ بطابعها الإذاعي وأجواء الأستوديو الذي يتحول برؤية (الأذن) إلى حمام أو مطبخ أو مخيم أو محكمة أو طريق سيار أو ساحة للوغى (...) عبر خيال مُـعِـد التمثيلية أو مخرجها معية الطاقم التمثيلي؛ الذي له قوى الحضور بالفعل وليس بالقوة. والعجيب أن أغلبها لم يضمحل أو يتلاشى عبر الزمان؛ فتقنية " اليوتوب" وانتشاره أعطى صولة أخـرى للتمثيلية الإذاعية؛ فالذي حيرني؛ في غضون انتشار الوباء وتوقف الحركية الفنية والإبداعية؛ وهنا قولي محصور في بلادي ومحيطي. فلماذا لم يستغل الفنانون والمبدعون تقنية اليوتوب لتمرير أعمالهم المسرحية بأسلوب التمثيلية الإذاعية؟ هل ينقصهم الخيال أم تنقصهم الإرادة أم تنقصهم الإمكانيات والإمكانات؟ سأحتفظ بالحيرة لنفسي: ونقول لا هَـذا ولا ذاك (..) بل كانوا ينتظرون الدعم من الجهة التي عودتهم (الدعم المسرحي) ووقع التهافت والتلاسن والوقفات والاحتجاجات والصَّهلـَلة والهَيْـلـَلة رغم أن فيروس "[كورونا]" كان يمنع التجمعات والتلاصق؛ فاجتمعُـوا على الصندوق (؟)هكذا حالنا! حتى اكتسحتنا على غفلة عـَوالم "الرقمنة" فالرقمنة (الآن) حققت ثورة عارمة عبر العالم الغربي والأمريكي؛ وعندنا تسير حثيتا إلى المؤسسات والإدارات والهيئات.. وإن كانت ظواهر رقمية جَـديدة تتشكل وتتغير في سرعة فائقة  مع الحياة الرقمية، فالمسرح والتمثيلية الإذاعية تمركز وتوظف فيها أجواء " الرقمنة" فما السبيل ياترى؟ وكيف يا سادة؟ سيتم تعامل المبدعين؟ الفنانين؟ المسرحيين؟ مع عوالم الرقمنة؛ لتحقيق قفزات ما بعْـد الحَـداثة.....

***

نجيب طــلال

لم يكن هناك في الأدب القديم تركيز على العنوان، ولم يتحوّل إلى حساسية شعرية وجزءاً من بنية النص اللغوية والدلالية، فقد كان الاستهلال والمقدمة العنصرين اللذين يعتمد عليهما الشعراء في شدّ المتلقي، وخلق أفق معين للتوقع، فكانت المباغتة السمعية والدلالية السمة الأبرز للشعر القديم.

اختلف الأمر في الشعر الحديث والمعاصر، فقد استبدلت أو عوضت هذه المباغتة التي كنّا نتلقاها في الاستهلال أو في المقدمات الطللية أو الغزلية بالعنوان. إذ يزخر الشعر الحديث والمعاصر بعنوانات موحية جداً، تكاد تكون لوحة شعرية مستقلة بوحدها، وأصبح مفتاحاً للاستقراء والتأويل، لأنّه يحمل دلالات، ويستشف المتلقي منها إيحاءات، فقد أصبح علامات قادرة على إنتاج علامات جديدة، وتضيئ المناطق المعتمة. فبإمكان القارئ أن يستخلص فكرة القصيدة أو لبّها من العنوان. بمعنى أنّ العنوان يلخّص تجربة النص وعالمه. وتعود هذه الأهمية، وهذا الوعي الشديد باختيار العنوان في الأدب الحديث والمعاصر إلى طبيعة الكتابة ومتطلبات العصر والذائقة الأدبية، وهذا ما يجعل من الشعراء والأدباء على نحو عام أن يضعوا عنوانات لقصائدهم بعد الانتهاء من كتابة القصيدة، وليس قبل البدء بالكتابة، فبعد أن ينتهي الشاعر من كتابة القصيدة يبدأ التفكير باستخلاص عنوان من خلال أفكار القصيدة وبنيتها اللغوية.

في الشعر القديم؛ كان الشاعر يرتجل قول الشعر ارتجالاً، أو كانت العلاقة الحضورية بين الشاعر والجمهور، وبين الشاعر وراويه تلقي بظلالها على طبيعة الاستهلال، فكان التركيز فيه على المباغتة والإتيان بأسلوب بديع جديد يجبر المتلقي أو الجمهور على الإصغاء والوقوع في شَرَك القصيدة. ونجد هذا البعد في جميع الأغراض الشعرية القديمة، ولا سيما في الغزل والمديح والرثاء. لأنّ الشاعر كان يريد أن يستميل الجمهور، ويضعه تحت صدمة المباغتة ومن ثمّ إدخاله مباشرة في صلب الموضوع، نجد ذلك في الاستهلالات وفي المقدمات الطللية التي كان الشاعر يسعى إلى التأثير في وعي ولا وعي المتلقي، فيجعله شريكاً في الإحساس والمشاعر، كما نجد ذلك في معلقة امريء القيس؛ حيث الدخول مباشرة إلى الموضوع الأثير للأدب، أعني الفراق، من خلال البكاء:

قِفَا نَبْكِ مِنْ ذِكْرَى حَبِيْبٍ وَمَنْزِلِ

بِسِقْطِ اللِّوَى بَيْنَ الدَّخُولِ فَحَوْمَلِ

بإمكان القارئ من خلال الشطر الأول أو البيت الأول أن يتنبأ بمحاور القصيدة، فهناك حديث مباشر عن البكاء والافتراق والابتعاد والغربة والاغتراب. فهذه المحاور أو الموضوعات هي مغزى قصيدة امرئ القيس. وبإمكاننا تعميم هذا القول على معظم شعرنا القديم من العصر الجاهلي مروراً بالعصر الإسلامي والأموي إلى العباسي والأندلسي.

وتتجلّى حيوية هذه المباغتة في القصائد التي قيلت في مناسبات سياسية أو اجتماعية مباشرة، كان للحضور فيها الدور البارز في إنتاج المباغتة، ويمكننا الاستدلال على هذا النوع من القصائد في تراثنا الأدبي بقصيدة الفرزدق في حق (زين العابدين علي بن الحسين) التي باغت الشاعر فيها هشام بن عبد الملك وأعيان الشام بقوله:

هَذا الَّذي تَعرِفُ البَطحاءُ وَطأَتَهُ

وَالبَيتُ يَعرِفُهُ وَالحِلُّ وَالحَرَمُ

فالعلاقة الحضورية، والمقام الشعري الحيّ ألقت بظلالها على عملية الإنشاد التي كانت عملية مباغتة، احتفظت بحرارتها إلى يومنا هذا. من هنا يمكننا القول إنّ المباغتة كانت العنصر الأهم والأبرز في الشعر العربي القديم، وهي كانت أساس عملية التغريب (Estrangement) فيه، وفق مصطلح الشكلانيين الروس. بل امتدّ هذا الأسلوب الشعري المحكم إلى الشعر العربي العمودي الحديث والمعاصر، كما نجد ذلك بوضوح عند شعراء المدرسة الإحيائية، بشقيها المحافظ والمجدّد، ولا سيّما عند أحمد شوقي، في جميع قصائده، وقد تكون قصيدة (سلوا قلبي) أوضح مثال على هذا الموضوع:

سَلو قَلبي غَداةَ سَلا وَثابا

لَعَلَّ عَلى الجَمالِ لَهُ عِتابا

*

وَيُسأَلُ في الحَوادِثِ ذو صَوابٍ

فَهَل تَرَكَ الجَمالُ لَهُ صَوابا

*

وَكُنتُ إِذا سَأَلتُ القَلبَ يَوماً

تَوَلّى الدَمعُ عَن قَلبي الجَوابا

*

وَلي بَينَ الضُلوعِ دَمٌ وَلَحمٌ

هُما الواهي الَّذي ثَكِلَ الشَبابا

*

تَسَرَّبَ في الدُموعِ فَقُلتُ وَلّى

وَصَفَّقَ في الضُلوعِ فَقُلتُ ثابا

*

وَلَو خُلِقَت قُلوبٌ مِن حَديدٍ

لَما حَمَلَت كَما حَمَلَ العَذابا

فقد باغت الشاعر المتلقي بالسؤال عن شيء يكون الحصول على الجواب مستحيلاً، فالقلب قلبه، فأنّى للقارئ الحاضر والغائب معرفة المشاعر والأحاسيس والرغبات التي تجيش فيه، ولم يترك الشاعر للمتلقي مجالاً يأخذ أنفاسه، فبادره بأسئلة أخرى، وبيّن له في الوقت نفسه، أنّ العقل فقد اتزانه وهام، لأنّه واقع تحت تأثير جمال باهر، ففقد القدرة على الكلام، وأصبحت العين المعبّرة – بدل اللسان - عن الحال والمقام.

استبدلت هذه المباغتة في الشعر الحديث بالعنوان، فقد أصبح العنوان العنصر الذي يشدّ القارئ ويبهره قبل الدخول إلى عالم النص. ويعود هذا التبديل والتغيير إلى التمدن، والحياة المدنية التي غيرت حياتنا في العصر الحديث والمعاصر، إذ يعيش معظم السكان بالعالم في المدن؛ يعيشون في عالم مكتظ بالناس والأشياء والمؤسسات والعلاقات المعقدة، وأصبحت المدن كبيرة وواسعة، تمتلك تخطيطاً دقيقاً وإدارة عالية الدقة لمحلاتها وشوارعها ودوائرها ومؤسساتها الكثيرة المتنوعة، ولا سيّما المدن الكبيرة التي يقطن فيها ملايين من السكان، فهذا العالم المكتظ والمتشعب يحتاج - في الوقت نفسه - إلى تنظيم، ويتمّ هذا التنظيم من خلال وضع عنوانات رئيسة وفرعية إلى أصغر فأصغر، لأمكنة المدينة وضواحيها، لكي نستدل الطريق ونعلم أين نبدأ وأين ننتهي. صرنا نستعين حتى في مدننا التي نعيش فيها ونسكن فيها منذ نعومة أظافرنا بخرائط – كانت ورقية وتحولت الآن إلى ألكترونية -.

تأثر الشعر الحديث بهذه الدقة في وضع العنوانات المكانية للشوارع والمحلات والبيوتات أي الأماكن العامة والخاصة، فأصبحت العنوانات عملية فنية دقيقة، يقصد من ورائها الشعراء إلى فتح آفاق أمام المتلقي للتخييل والتأويل، فعندما نرى هذا العنوان لـ(محمد الماغوط): (وجه بين حذائين) ستذهب أفكارنا مباشرة مذاهب شتى؛ نجد أنفسنا واقعين تحت تأثير مباغتة العنوان، فنسأل أنفسنا كيف يكون هذا الوجه محشوراً بين حذائين؟!. وقد نسأل أنفساً هل هذا النص نص سريالي؟ أم نص عبثي؟ أم هو نص ينطلق من واقع مجتمع يعاني من الاستعباد؟! ويتألم من الاستبداد، فأهدرت فيه كرامة الإنسان؟ إذ الرأس ومعه الوجه هو رمز لكرامة الإنسان، لهذا نهى النبي صلى الله عليه وسلّم عن ضربه، لكي لا يهان صاحبُه. فإذ أهين هذا الرمز فهذا يعني أنّ صاحبه قد أهين، وسحق وغمط الحق من مهده.

وهكذا نجد أمثلة عديدة لعنوانات موحية تباغت وعي المتلقي ولا وعيه للشاعر نفسه مثل: (كلّ العيون نحو الأفق) و (حزن في ضوء القمر) و(غرفة بملايين الجدران)، و(الفرح ليس مهنتي)، (البدوي الأحمر)، و(بدوي يبحث عن بلاد بدوية)، و(شرق عدن غرب الله).

 فعندما نعي أهمية العنوان، يجب أن يرافق وعينا هذا عند دراستنا للأدب وعي بطبيعة الجنس الأدبي. بعد ذلك نأتي إلى دراسة العنوان، وقد يكون المنهج السيميائي أنسب لهذا النوع من الدراسة، لأنّ هذا المنهج يتوافر على أدوات وإجراءات ورؤية واضحة تسعف المحلّل، وتفتح له أبواب القراءة الواعية.

***

الأستاذ الدكتور يادكار لطيف الشهرزوري

جامعة صلاح الدين – أربيل

قراءة سيمائية في رواية إبط السفينة لؤلفها أحمد ختاوي الإعلامي والروائي.. قراءة لمضامينها الجلية، وأنساقها المضمرة، المخفية داخل بنيتها اللغوية واصواتها السردية، يحتاج التشريح إلى آلة التفكيك ليبدو النص قطعا متجاورات بينها أسرار الربط والالتحام أو إن شئت فقل انت داخل النص تفتش في زواياه كأنك في حي تشابهت أزقته تنظر إلى الجدران مستمسكا بعلامات دلالية تسمح لك بالخروج والدخول دون تيه أو ضياع، وضع هذه الأجزاء المفككة على مجهر يبين الكتابة الظل الخفية تمثل اللاوعي الباطني للنص فيها بعد أن صار الوعي ظاهرا جليا في الكتابة الأولى   

عنوان الرواية إذا كان العنوان قد وضع كمدخل يستفز القارئ ليندفع إلى قراءته، أو أحيانا وضع لتسويق المنتوج، أو خدعة تجلب القارئ ليجد نفسه في غير ما طمح إليه وهذا ما أطلق عليه المنفلوطي بخداع العنوانين.

 الروائي أحمد ختاوي في إبط السفينة بدا عنده العنوان هو عمق النص هو القلب النابض لأحداث روايته. إن السفينة تقتضي البحر وتقتضي الإبحار ثم المسافرين على ظهرها وقد تتعرض للغرق أو الارتطام بالخلجان فيصير ركابها بين غارق مات، وناج سلم وبلغ غايته مبتهجا، ومفقودا يعيش أهله على بصيص من الأمل. لكنه هو هنا أضاف علامة غريبة جدا إبط، والإبط هو باطن المنكب والجناح وأضافه للسفينة كأن السفينة حيوان أسطوري يخرج من البحر لينتهي بمن يحملهم  إلى عوالم جديدة أم هي الوسيلة المثلى التي تغير من وجودية

كل من يعلو على ظهرها وهذا ما تغنى به في تلك الأيام (يا الرايح وين تروح تعيا وتولي) نفس الشيء اليوم رحلات إنتحارية تحت أهازيج باللهجة الجزائرية

(ياكلني الحوت وما ياكلنيش الدود أو يا لبابور يا مو نامور أي حبيبي بالفرنسية خرجني من لاميزار)

ما هي السفينة عند أحمد ختاوي؟

هل هي نفسية الكاتب؟ حيث تتعاقب أطياف ووميض أحداث مرت معه وهو يقرأ وجوده في هذا العالم الذي تتصارع فيه الافكار يمنة ويسرة، من ميراث اللوحة والصلصال إلى أفكار سارتر ونتشه، نوال السعداوي سيمون ديبوفوار.

هل هي بوسمغون التي نستشرف من دلالاتها الأنثروبولوجي وهي بلدية من ولاية البيض الجزائر يتحدث سكان بوسمغون بلهجة البربرية، يطلق عليها محليًا "شلحة" أو "تشلحيت"؛ إختلطت بقبائل عربية هلالية وهي مركز الطريقة التيجانية التي أسسها سيدي أحمد التيجاني عام 1782. فيها زاوية التجانية. وفيها المسكن القديم للأديب قبل النزوح إلى مشرية، ثم وهران التي كانت مسقط رأس الكاتب وفيها قضى فترة دراسته وهي ماتزال تحمل حنين الأديب، حيث النخيل شاهد على ما أصاب المنطقة خلال الغزو الإفرنجي من الفقر، المرض،غزو الجراد في أربعينيات القرن الماضي.

التجنيد القهري في صفوف الجيش الفرنسي الحرب العالمية الأولى والثانية ثم العودة بالجراح ولم يتغير شيء، المكافأة دماء خراطة، قالمة، سطيف، حيث الهجرة إلى ماوراء البحر بعد مباركة الكنيسة للقلوب التي تنصرت مقابل إسم وبيت في ليون أو مارساي أو باريس،حيث الجدة ،و الغراب يتابع المأساة ويسرد منعرجاتها وتناقضاتها البائسة، هل ..هل ..هل على وزن عاق عاق صوت الغراب أحد أبطال الرواية ،سيميائية هذا التحول جعل اختيار السارد يقع على شخصيات  خاصة ، لبُعْدها ومستواها الخاص، بغية تحقيقها لذلك البعد االجتماعي أو الفكري وبالأحرى الأنثروبولوجي، الذي وظفت من أجل تحقيقه، بصفتها تمثل المحمول الثقافي والتاريخي للمجتمع البوسمغوني كنموذج لباقي قرى ومداشر ومدن الجزائر المستعمرة وهذا ما يرمى إليه الروائي في توظيفه للشخصيات المشحونة بحمولة تراثية ثقافية ،إن سيميائية الزمن في رواية إبط السفينة جعلت المؤلف يستعمل قسمين من الزمن داخلي خاص بالرواية، وخارجي متعلق بالكاتب والمتلقي، فهناك زمن الشيء المروي وزمن الحكاية، الدال، وزمن المدلول كما هو عند جيرار جينيت في خطاب الحكاية، ترجمة: محمد معتصم، المركز الثقافي العربي، د ط، د ت، ص21.

هذا التلاعب في الترتيب الزمني قد يكون لأغراض جمالية وفنية بحتة. كلما تعددت الحكايات داخل العمل الروائي تعقدت كذلك مشكلة الزمن. فلهذا قام المؤلف بكل جرأة يلعب بالزمن حيث يتحدث مع عمي الطاهر في أمر يعود لخمسينات القرن الماضي ثم يذكر دلالة من دليل عاشه المؤلف في شبابه أو مراهقته في وهران أو سعيدة ثم يعود إلى أبعد من ذلك إلى سارتر و سيمون ديبوفوار أو حتى إبن خلدون وهكذا بدون أن يشعرك بالملل بل يجعلك في أرجوحة زمنية حمل الكاتب هذا الخلق الذي تجري أحداثه فوق عاصفة زمنية تدور فيها السنين العجاف والأمكنة الموحشة والاجساد الموبوءة والأماني المذبوحة الكل مع بعض بما يشبه تورنادو وهو يقذف بقرى كاملة من الأبلاش إلى الروكي في السماء ثم تهوي إلى مستقر للفناء، هكذا فعل السارد أحمد ختاوي بأشيائه، بأفكاره، بحنينه، بمرابعه بالسعي نحو ما وراء بوسمغون.

تستقر الاشخاص أمام سفينة الروائي أحمد ختاوي بين من فضل البقاء في صومعته وصوفيتها وأعرض عن السفينة كالجدة ومشايخ التيجانية، ومنهم من يقوم بصيانة السفينة كعامل يحلم بركوبها والهجرة على متنها ليداوي جراحه مثل عمي الطاهر ومنهم من تجرأ وركبها وفتح بها عالم آخر خسر فيه إسمه ودينه وربح دنياه مثل رومان.

تنتهي الرواية في الاخير بسفينة تحمل من كل زوجين إثنين تجري بها البحر.

إن النضال والحركية تستمر من اتجاه السربون إلى جوامع قرانا ومداشرنا أو ينتقل عزمنا من بوسمغون إلى باريس وفيرساي ليحمل ثورة جديدة كلما تعبت قامت ثورة أخرى تساندهارغم كل هذا، تضل سفينة الرواية تجري إلى حيث لا ندري وتبقى ضفيرة حنان وجوكندا دفنشي والقرش والدلفين الوديع تلعب بهم الامواج، كما يلعب الحنين بالغياب والحضور، ويبقى ديغول يتمنى وعمي الطاهر يتمنى وكل العالم على نفس السفينة الهائمة على وجهها تبيت عند قالوا وتصبح عند قلنا ولله الأمر من قبل ومن بعد.

***

كتبها رابح بلحمدي

البليدة الجزائر

 

دراسة في عالم روايات أحمد سعداوي،  الفصل الخامس ـ المبحث (2)

مهاد نظري: تعاين الحالات الأجرائية في مقاربات المنهج (السيميوطيقا) جملة من الحوادث والمواقف الزمكانية المحفوفة بالأبعاد الانفعالية والحسية المتعلقة بالذات الناظمة كمحددا منقسما بين (الفاعل المنفذ = العامل المتمثل) وصولا إلى أقصى المكونات في مدار المقاطع والوحدات في تراكيب السطوح والافضية الدلالية (الضمنية ـ الاظهارية) التي من شأنها استخلاص تداولية البنيات الشخوصية والحوادثية في سياقات أكثر تحليلا وتأويلا في العلاقة الدلالية الكامنة في الرصيد المقصدي من وظائف الفصول الروائية.

ـ الزمن تمفصلات وإحالات في مؤشرات المواقع

حاولنا في سياق مباحثنا السابقة في مواضع مختلفة من الفصول الأولى من الرواية، القول بأن خطاب الرواية موضع مبحثنا، تتلخصه العديد من المؤشرات الزمنية اللاخطية أو اللاتتابعية، لذا وجدنا خطاب السرد عبارة عن تبئيرات تبادلية في مشاغل مواقع شخوصية تربطها المواقع المتحولة والتمفصلات الاستباقية والاسترجاعية من معينات مختلفة من وقائع آليات (المتن = المبنى) ومن خلال مستوى ومعدلات العلاقات الوقائعية في زمن الرواية، عاينا بأن زمن الانجاز السردي في حدود تركيزات ذات أبعاد زمنية مقتطفاتية، أي إن العلاقة فيما بين مرحلة سردية وأخرى، تنتظمها مواقع استرجاعية أو استباق داخلي ما من دوافع معينات زمنية فاصلة وواصلة بين (زمن الحكاية ـ زمن الخطاب) امتدادا نحو إمكانية خاصة في تقانات (الصيغة ـ التبئير ـ المسافة ـ المنظور) أي أن جملة العلاقة بين حاضر الواقعة والشخصية بالماضي وحدوثها الدال، تشكل استكمالا في الوحدات اللاحقة المتآتية في أشكال ومواقع لزمن ضوابط أفعال السرد في النص.

1 ـ الأهواء العلائقية في نزوات الزمن المضطرب:

يمكننا الحديث في جملة تفرعات مبحثنا المركزي حول ملامح الامتداد الروائي، وذلك من خلال النهوض بالشخصية الروائية وسلوكياتها وأفعالها وصفاتها ونوازعها من جانب استثمار توجهات عدمية منكفئة على ذاتها بلواحق أفكار مستلبة وأكثر تجاوبا مع غرائبية العبث العدمي. نتعرف بموجب المعاينة القرائية على خطوات وأفعال الشخصية علي ناجي وهو يسعى إلى عملية الانتحار من فوق جسر الجمهورية غرقا في دجلة، وتضعنا هذه الوحدات من مواقف السرد إزاء خيارات عناصر جمعية المنتحرين التي يقوم برأستها الشخصية المحور ذاته. وفي غضون متباينات هذه العملية تواجهنا عدة دوافع كابحة من الداخل الذاتي للشخصية، أهمها (شاعرية اللحظة ـ القلق الاكتئابي ـ عدم الرغبة الجادة في الموت) والدليل على بروز عدم جدية خيارية الموت، إن علي ناجي كان المتواجد الوحيد فوق حاجز الجسر يعبر عن صراعاته الداخلية بالردود الكابحة في جدية الانتحار: (كان يفترض، وحسب الموعد الذي ضربه مع أصدقائه السبعة عشر في جمعية المنتحرين، أن يحضروا ها هنا في هذه الساعة تحديدا.. سيكونون معه ثمانية عشر منتحرا ينفذون غطسة جماعية وأخيرة مع ضربات الساعة الأولى في القرن الجديد. /ص47 الرواية) وضمن هذا السياق نعلم بأن مضمر عملية الانتحار جاءت تلاقيا مع مقتبسات روح الحياة وشاعرية اللعبة الفنية في موقف المنتحر، وليس في جدية أهوال الانتحار موتا حقيقيا. وبانتقالنا إلى مواقف أخرى من السرد، نلاحظ وجود الدكتور واصف أيضا هو ممن أنضم إلى هذه الجمعية الخائبة، حيث نعلم بأن الدكتور واصف كان كمن يقوم بدور المستشرف في دراسة سيكولوجية نوازع الانتحار لدى الشخوص التي تسعى إلى الموت حياتا بشرائط أولية. ولهذا الأمر لا يغدو الأمر شروعا جادا في الموت، بقدر ما يعني تصحيحا في بدء حياة جديدة لعلي ناجي وأولئك المتورطين معه في تجربة الموت الشفوي.

2ـ حدود شعرية الموت إحباط عبور الحدود الجغرافية:

أن طبيعة الكيفية الروائية المتعلقة في موضوعة روايات سعداوي دائما هي مثار نوازع عدمية شخصية أحادية في هدفها الدلالي وسطحية في مدلولها التأليفي. أن سعداوي في أحداث رواية (باب الطباشير) يمارس عبر لسان حال سارده حياة شخوصيه ذات الأشكال الشعبية المرجع والمصدر، لذا تبدو غير واعية بواظائفها الوقائعية:فما معنى أو قيمة شخصية علي ناجي من ناحية اعتبارية كشخصية روائية مثلا؟إذا نظرنا من حيث كونها شخصية تعلن عن ذاتها مرارة عيش الواقع فهذا بدوره ليس من الأهمية إطلاقا، خاصة وإن ثلث أرباع الشخوص في الرواية العراقية والعربية تحمل ذات المعنى المستخلص شكلا؟. هكذا لاحظنا إجمالا بأن أغلب حاصلية شخوص روايات سعداوي، تعبر عن (ذات أحادية؟!) مشغولة في شواغلها الذاتية الشعبية الضيقة والنزقة، لدرجة شعورنا بأن سعداوي غدا يكرر نسخة بطله الروائي في عدة رواياته التي غالبا ما لا تحمل سوى إرهاصات الذات الأحادية الغاطسة في قاع محيطها الشعبي:أنا شخصيا لا أهاجم سعداوي كونه روائيا أبدا، فهو عبر رواياته لا إشكالية ما على أدواته وعدته الروائية، ولكن من المؤسف أن لا ينظر الروائي سوى إلى حدود ذاته وحدها، فيقوم برسمها عبر وجوه أبطاله بألوان وإيقاعات لا تحمل سوى مطالب ذاتية قسرية واضحة في أبعادها الزمانية والمكانية ليس إلا؟. ولو حاولنا الرجوع حينا إلى الشخصية علي ناجي وفكرته في عملية الانتحار، لوجدناها سؤالا بسبب حرمانه العاطفي والجنسي حينا. وهذا الأمر بدوره ما كشف للشخصية ذاتها عن عدولها وتأسفها على نفسها عندما خطرة لها فكرة الانتحار مضضا ، خصوصا بعد ظهور الشخصية ليلى حميد مجددا في حياته: (الأفكار السيئة أحيانا تأتي من عضو ذكري معطل له صلة بالدماغ، قال عمار ذات مرة، ولم يرد عليه علي بشيء. /ص49 الرواية) فالسرد هنا جاء بما يقتضي وحدود ما قلناه قبل قليل. فحدود الشخصية علي ناجي كانت محكومة بوظيفة تعطل جهاز العاطفة الجنسية لديه، وهذا الأمر ما عثرنا على مثله في روايات علي بدر تقريبا، سوى أن الأخير كان أكثر إبداعا وتألقا في تنويع مشاغل شخوص روايته وموضوعاتها، ولا يقتصر على التركيز على شخصية محوره الروائي المتكرر ، وفرز كل تفاصيله بروح المغالاة والافراط غالبا، ولدرجة شعورنا بأن سعداوي يستنسخ نفسه في قوالب شخوصه. ولعل أهم خصيصة في جملة تحولات شخصية علي ناجي ، عثوره على ليلى حميد في منزل الدكتور واصف أخيرا: (حاول علي جاهدا أن يبدو طبيعيا، وأن يحذف من دماغة أي شيء يتعلق بالقبلة القديمة، وأيام التسكعات والنقاشات الحامية/حاول أن بدو منشغلا وغائصا في تفاصيل حياة صاخبة، وما ليلى وعالمها كله إلا صورة شاحبة لا يتذكر تفاصيلها جيدا، أوهكذا أحاول أن يوحي لليلى. /ص66 الرواية) وعلى الرغم مما تحدثنا به بصراحة قبل قليل، ولكن هذا الأمر لا يعفينا من الخوص في ثنائية (الموت ـ الحياة) لدى نوازع الشخصية علي ناجي. حاول الشخصية الدكتور واصف انتشال علي ناجي من محاولته الباهتة في قذف نفسه في أمواج النهر، بعد أن أقنعه بأن هذه الليلة لا تعد في حساب وتقويم القرن الجديد: (أنها ليست ليلة رأس القرن.. حساباتي الرياضية الدقيقة تشير إلى ذلك، وقد أخبرت البقية بالموضوع. ليلة رأس السنة الفعلية بعد ثلاثة أيام، لهذا هم لم يحضروا.. كانت تلك الكلمات القاضية، التي جعلت علي ساكنا وصامتا. /ص56. ص57 الرواية) في الواقع كما تخبرنا الرواية بأن الشخصية علي ناجي حاول سابقا في شتى الطرق أختراق الحدود بين العراق وسوريا ، وبعد فشل عملية التهريب، تمكنت دوريات الحرس الحدودية العراقية بإيداع علي ناجي (قضى ستة أشهر في سجن بادوش الموصل. /ص49 الرواية) وبعد إطرق سراح الشخصية ناجي، عادت إليه كل مظاهر حياة البؤس وكرنفالية الرقص في أدنى قعور الشظف في دركات الفقر والحرمان كحياة راح يصفها سعداوي بحياة الجرذان. أعود لأقول إن الشخصية واصف بعد أن أثنى علي ناجي من فكرة شروعه بالانتحار، أدلى إليه بأفكار غريبة جعلت من الناجي يستسلم كليا إلى مقترح الدكتور واصف بالموت حيا.

3ـ  خيارات الغياب موتا حيا:

وبما أن آلية خيارات الغياب للشخصية علي ناجي ذلك الانفصال المصحوب برغبة الحياة والموت معا، تواجهنا معادلة أن يكون الانسان (حي = ميت) معا، هذا ما جاءت به غواية أطروحة الدكتور واصف إلى إقناع علي ناجي بأن يصرف عنه فكرة الانتحار عوضا عنها بأن يظل بين طرفي المعادلة الضدية على حد سواء. إذا هو تدبرا من الشخصية واصف على حد ما، أو أنها الفكرة الفلسفية التي تذكرنا بمقولة أفلاطون بالموت الاختياري، على أن يبقى المرء حيا وهو في عين التسليم إلى الموت: (هناك أشكال متعددة من الحياة تشبه الموت تماما وربما أقسى. /ص63 الرواية) أو في ما تحدده هذه الوحدة من فرضية مؤثرة في إقناع الشخصية علي ناجي: (افترض منذ الليلة أن علي ألقى نفسه من الجسر، وعش منذ الليلة وكأنك ميت حي. /ص64 الرواية) هكذا تباعا ظل ناجي يواظب على زيارة مجلس حديقة الدكتور واصف، كي يتزود برؤى إضافية في تجربة العيش في جدل الضدين معا (الحياة ـ الموت) من خلال ما يتفضل به الدكتور واصف من أطروحات قيمة، تجد لها اهتماما واسعا لدى أعضاء جمعية المنتحرين. وليس الأمر يتوقف على حدود قناعة علي ناجي نفسه، بل صار يتعدى إلى درجة تخلي سنان ولد صديقه العجوز وجاره الذي كان أيضا من ذوي أعضاء الجمعية سابقا، وهو الآن متحررا من أفكار العدمية والشروع برغبة الموت إطلاقا. طبعا لاحظنا الحجم الذي بذله سعداوي في هذا الشأن من استطرادات أحيانا يتثاقف بها السارد نفسه، ولا تكشف بدورها إلا عن خلفية سعداوي الثقافية الملحوظة في مسار ملفوظات شخوصه فنيا ومعرفيا.

4 ـ من أشباح القبلة الصفراء إلى فضاء الإيروسية القاتلة:

من المؤكد أن سياق فصل (جمعية المنتحرين) له الأهمية في إبراز أوجه الإشكالية الخاصة في حياة الشخصية علي ناجي ، وتجاوزها بذات درجة القلق والضياع الذي كان يعيش تفاصيله من ذي قبل، أي بدءا بمرحلة شعارات الشروع بالموت ونوازعه إلى مرحلة ظهور ليلى حميد مجددا في حياته وما أظهره ظهورها من مأزومية عاطفية كبيرة في تمفصلات هذه العلاقة التي سرعان ما يختفي طرفها الآخر المتمثل بليلى فيعود الطرف الآخر علي ناجي في دوامة سحيقة من التيه والرغبة في الموت: (كانت تحب كعادتها الأجوبة غير المباشرة، واللف والدوران، وألا تنطق بشيء يشبه لغة الاعترافات ـ استمرا على هذا الحال عدة أسابيع، وغادر علي تحفظه السابق وخوفه من إزعاج ليلى ـ كان صوت في رأس علي يخبره أنه يندفع معها مثل فراشة العث التي تقترب من مصباح حارق ـ رافقها حتى شقة أختها ـ تذكر وهو يمسك يد ليلى ويرى إلتماعة عينيها وكأنها تكبت دموعا غامضة لا تريد سفحها في هذا اللقاء، كان أحمق حين فكر بالانتحار، وأن الدكتور واصف أنقذه وهو من قدم له بشكل غريب، هذه اللحظة المميزة. /ص68. ص69 الرواية) أن علامة رجوع ليلى إلى علاقتها بعلي ناجي لم تكن إمكانية دائمة في طبيعة الحد الأقصى من نضوج العلاقة في ذاتها، كما أن تحرر علي ناجي من الموت منتحرا لم تكن إلا فرصة نحو دخوله إلى تفاصيل جديدة من الموت الجديد. لذا فالمعنى في سابقية تلك القبلة الصفراء ما هي إلا تمهيدا في الدخول إلى آفاق مرحلة حميمية من ممارسة الجنس بين علي وليلى، في ظل هواجس قلقة من الطرف المتمثل بعلي بأن خلف هذه الاسترخائية ثمة فاجعة فاصلة من الغياب والفراق من الطرف المتمثل بليلى: (ظل علي ليومين وهو يشم في يديه وجسمه رائحة ليلى ـ تحطم علي تماما،  رغم أن صوت المنطق في عقله يخبره بإلحاح أن الارتفاع الشديد يؤدي إلى سقطة مؤلمة أكثر ـ تقطعت أقدامه من السير على غير هدى في شوارع حي الزعفرانية، يدقق في وجوه فتيات يبدين من بعيد بهيئة ليلى ـ في مزاجه الجديد لم يجد علي في كلام الدكتور واصف أي ترياق أو تعزية ـ كان قد قرر شيئا مع نفسه، فإن كان القدر يلعب معه لعبة ما، فعليه أن يظهر ليلى أمامه ثانية كي يمنعه من الموت هذه المرة. /ص70. ص71. ص72. ص73 الرواية). هكذا يظهر الشخصية علي ناجي داخل أهوال نوبات من الفقد لمحبوبته الزئبقية. فهو كما السابق عاد يفكر بطرائق جديدة لإنتزاع حياته تتمثل في أساليب حديثه في تحصيل موته ومرارته أثر فقده للشخصية ليلى، إذ صار يبتكر علاقات معمقة في وسائل إيجاد الموت، وما كان عليه سوى قيامه بعمليات شبه وهمية كمحاولة التفجير عند أبواب دوائر عسكرية أو رئاسية مثالا، حتى وصل به الأمر أنه غدا ثرثارا ضروسا: (أخذوه بالسيارة إلى مكان لم يكن يعرف ماهو، وابتداء من ليلة القبض عليه تعرف على عالم آخر. /ص75 الرواية).

ـ تعليق القراءة:

لعل من أكثر الأوجه الابداعية والاذحاقية في مفاصل وحدات السرد الفصولية في رواية (باب الطباشير) هو في كيفية الإمكانية على مخاتلة الزمن عبر مسافة (وقائع ـ متواترات ـ مؤثرات تقاطعية ـ إبدالات صيغة ـ الاستدعاء المطرد ـ النسيج المضمر من الداخل ـ نقطة إرتكاز ـالوهم والإمكان ـ الارتداد في الإمساك بعلائق منقطعة وواصلة) لعل ما واجهنا به فصل (المتجول بين العوالم) هو ما يجيز لنا تسميته (الخطاب من الداخل الزمني) أي رؤية العالم ضمن فاصلة من الغيبوبة ومعاودة سرد الأشياء في آفاق من اللاوعي والعشوائية بمجليات الحياة الداخلية المحكومة بزمن غيبوبة الشخصية، لذا بدا لنا هذا الفصل أكثر تأشيرا نحو الفلاش باك الذاكراتي ولكن عبر زمن من اللامعقول وشرود الذهن في نوبات الوقائع اللامؤطرة زمنيا. وهذا الأمر هو ما جعل بدروه أن تبقى مجمل (المحاور الإجرائية بين ـ الفاعل المنفذ ـ والعامل التمثل) أي في حدوث الفاعل المنفذ داخل مبنى من الأمكنة والأزمنة المتداعية في سياق الامتداد نحو الدخول في جولة غيبانية من الوعي الشخوصي الذي أقضى على الشخصية سمة التمثيل بين حقيقة السياق النصي في وجوده حينذاك ـ كفاعلا ـ وبين الواقع الاستيهامي الذي عاشه الجوال الشخوصي كحالة متمثلة في الأطياف الخارجة عن زمنها الحسي الكائن.

***

حيدر عبد الرضا

إرتطامٌ لم يُسمَع له دَويّ، رواية صدرت عن مكتبة أفاق للنشر والتوزيع في الكويت للكاتبة بثينة العيسى، رواية كُتِبَت بسلاسةٍ وبُلغةٍ بسيطة وبتناسقٍ تام بين مُجريات أحداثها، بحيث تجعل القارىء يتلهّف لقراءتها ومعرفة ما تُخفيهِ من تطوّرات. وهي أيضاً بمثابة رسالة من الطالبة الكويتيّة "فرح" بعد عودتها إلى وطنها تتوجّه بها إلى مُرشدها "ضاري" الذي لازمها كمُرافق مُنتدب خلال تواجدها في السويد. فوثّقت فيها يوميّاتها هناك وما شابها من أحداث إعترضتها.

تتطرّق الرواية بلسان "فرح" إلى ما يُمكن تسميتهُ بِصراع الحضارات ما بين الحضارة الغربيّة المُتَمثّلة بِمُشاهداتها في السويد، وما بين ما تكتنزهُ من عادات وتقاليد، وما نعيشه ليس في الكويت فحسب بل في مختلف أقطارنا العربيّة. مُشيرة إلى التفاوت الكبير والملحوظ خاصة في المجال التعليميّ والأكاديميّ والفروقات الشاسعة بين ما إكتشفته الطالبة فرح وبين ما هو قائم في موطنها. وهذا التمايز ولّدَ لديها شعوراً بالدونيّة وبأنها مختلفة عن بقيّة زملاء البعثة ، فشعرت وكأنها تبدو بينهم كعشبة ضارّة بين وفود الدول المُشاركة.وشعرت كأنّهم يرونها مُجرد برميل نفط وبلادة.4592 ارتطام بثينة العيسى

كما أشارت الرواية الى مسألة التباطؤ في تحديث المناهج التعليميّة  العربيّة إذ تقول "معيب أن أكون هنا من أجل مسابقة أحياء وأجهل هذا ال"لينيه" في إشارة منها إلى "كارل لينيه"مؤسّس علم تصنيف النبات وأشهرعالم في علم الأحياء. وتسأل "ما هذا الذي كنت أدرسه إذاً طوال عامين ؟ الجميع من الزملاء ينصتون الى المحاضرة ويهزون رؤوسهم، كأنهم يتلقّون معلوماتٍ يألفونها وأنا وحدي أضيع في اللاأدري" وفي موضع آخر عندما وزّعوا على الطلبة أوراق الإختبار تقول "هناك خلل ما ربما أخطأوا  في توزيع الأوراق، فمن غير الوارد أن يكون ما أقرأه هنا له علاقة بعلم الأحياء". منتقدة هذا التخلّف في تحديث المناهج بقولها "ما معنى أن نعتلف كتباً طوال عامين  ثم يتّضح أنّها تحمل معلومات أصابها العطب منذ عشرين عاماً". وفي هذا إشارة إلى الحشو الذي نلحظه في مناهجنا التعليميّة، والتي تحتوي على كمّيّة هائلة من المعلومات غير المُحدّثة لتواكب التطوّر العلمي، وبالتالي يصبح تلقّيها أوتلقينها بلا أي فائدة، لأنّها تكون قد أصبحت خارج الزمن بشكل أو بآخر. وهنا يتبادر للأذهان السؤال لماذا تتمّ مثل هذه المشاركات العربيّة في هكذا ندوات او مؤتمرات علميّة بالرغم من تواضع القدرات العلميّة إن لم نقل إنعدامها وسرعان ما يأتي الجواب على تساؤلنا هذا على لسان "فرح" عندما قالت " إيه يا وطني لم يكن مجيئك إلى هنا إلا روتينيّاً شكليّاً لكي تدوّن الصور الفوتوغرافية وجود ألوانك الأربعة بين كل هذه الأعلام".

 ولم تغفل الكاتبة الإشارة الى التفاوت في المستوى المعيشيّ والإجتماعيّ فيما خصَّ الإمتيازات والخدمات التي يحظى بها الفرد في الغرب وبين هزالة هذه الخدمات أو إنعدامها في أوطاننا، ففي الغرب الأمور متناهية المثاليّة في مختلف القطاعات الصحيّة، التعليميّة، وفي تسَيُّد العدالة في توزيع الدخول والثروات بحيث لا نجد القصور الفارهة بجانب عمارات تكاد تقع فوق رؤوس قاطنيها كما في بلداننا المُتخمة بالثروات، وهذه إشارة الى الهُوَّة الكبيرة في مستويات المعيشة والرفاهيّة بين شعوب منطقتنا، وإلى إنعدام التوزيع العادل للثروات.

وفي موضوع الهويّة والوطن تصف "فرح" الوطن، بأنه الحبّ بمعنى ان تحب شيئاً معيّناً ليس لأنّه الأجمل او الأفضل، ولكن لأنّك تحبّه يُصبح هو الأجمل والأفضل، وإذا كانت السويد جميلة والكويت لا تجاريها جمالاً، تبقى الكويت هي الأجمل لأنها وطني.

مسألة "البدون" كانت حاضرة في الرواية من خلال شخصيّة "ضاري"، والبدون هم تلك الفئة المُهمّشة التي حُرم أفرادها من الجنسيّة الكويتيّة رغم ولادة الكثير منهم على أرض الكويت، فأصبح الفرد منهم مجرّداً من أيّة أوراق ثبوتيّة رسميّة  تمنعه من الإلتحاق بأيّة وظيفة مهما كانت مرتبته التعليمية أو مكانته الأدبيّة والثقافيّة وليس أدلُّ على ذلك من والد ضاري نفسه، وهو الشاعر الكبير الذي تُرجمت قصائده إلى سبع لغات، ويعرفه العالم على أنّه شاعر كويتيّ ولكن في الكويت غير مُعترفٍ به فقط لأنّه من البدون.

وإذا ما حاولنا التطرّق إلى العلاقة بين فرح وضاري، فلا يمكن لنا الذهاب بإعتبارها علاقة حُب وليدة بين شخصين بقدر ما هي في الواقع علاقة إستطعنا من خلالها معرفة شعور ضاري الحقيقي تجاه  فرح التي رأى فيها صورة مصغرة عن "بلده" الكويت ذاك البلد الذي أحبه بجنون ولكن لم يلقَ منه غير الإهمال وعدم الإكتراث، وقد عبرت الكاتبة عن هذا عندما إعترف ضاري بحبه وبصوت عالٍ لفرح ولأكثر من مرّة ولكن فرح (الكويت) تجاهلت هذا الإعتراف وتظاهرت بعدم سماعها له. 

لذا وبما أن ضاري وجد في فرح نسخة عن الكويت بتفاصيلها مصبوبة في هيئة أنثى، فقد حاول بشتّى الطرق العمل على إيذائها عن طريق سعيه لتشويش أفكارها عن الوطن لتهتزّ صورة الكويت في نظرها، وهذا ما عبّرت عنه فرح عندما تساءلت في سرّها واصفةً ضاري بالقول:  "انت الذي ما فتئت تنتهز أيّة فرصة لتسدّد طعنة لقدسيّة الوطن ، تجيء بالشكوك لتتأمّل بتشفٍّ كافٍ مصرع ثوابتي، أتساءل أي شيء شنيع صنعه لك الوطن لكي تقابله بكل هذا الخمود؟"  . وعلى هذا التساؤل نذكر ما جاء على لسان ضاري قائلا لها:" هذا الذي أمارسه فيكِ الآن هو إنتقام طفيف ومؤذٍ، أنا أشوّه فرحكِ التافه بوطنٍ، وأستبسل لأجعلكِ تشبهينني". يمكن أن نستخلص مما سبق أن ما أراده ضاري من كل هذا هو التعبير عن حنقه وغضبه من وطنٍ يُحبّه ولكن للأسف هذا الوطن لا يكترث له. ولذا فإنّه يرفض أن تكون علاقته بالكويت علاقة حبّ من طرف واحد كما قال.

 أيضاً مسألة الحجر الذي يُمارس على الفتاة العربيّة، والموانع التي توضع أمامها للحدّ من طموحاتها وتحقيق ذاتها كان لها الحضور في هذه الرواية عندما أشارت "فرح" إلى أنّها أمضت تلك الليلة في طبع القبلات على رأس جدتها لكي تضغط على والدها ويوافق على سفرها، أيضا إستعطفت أمها مرّات عدة لكي تمنع أخوتها الذكور من محاولة عرقلة هذا السفر .

وفي سياق غير بعيد تُشيرالكاتبة ولو بشكلٍ عابر إلى مسألة تكاد تكون شائعة في مجتمعاتنا العربيّة وهي مسألة التحرّش فتقول فرح كيف كان أستاذها يخصّها بإهتمام مشبوه من بين الطلبة والجميع يلاحظ ذلك. وربّما إختيرت للبعثة ليس لأنها الأفضل بين الطلبة، بل لأنها الأثيرة لدى أستاذ مراهق. كما تطرّقت الرواية الى تقليد إجتماعيّ وهو الزيجات التقليديّة بين الأقارب، وفي هذا يقول ضاري " غالبا ما تجري الأمورهناك في الكويت هكذا، فلان لفلانة، وفلانة لفلان، هو زواج أشبه بسوق نخاسة  يجري بين الجدران بحجّة الزواج".

 لقد أصرّت الكاتبة على جعل نهاية الرواية مفتوحة تاركة للقارىء –أو للزمن- كتابتها سواء مستقبل العلاقة بين ضاري وفرح كشخصين، وأيضا - وهذا هو الأهم -  مستقبل علاقة ضاري بما يُمثل من فئة البدون وبين الكويت (فرح)، هذه النهاية المفتوحة ما هي سوى إقرار بأن مسألة البدون لم تحسم بعد وتركتها الكاتبة للقادم من الأيام.

أخيراً الرواية كما قلنا شيّقة وممتعة تجذب القارىْ بأسلوبها الرشيق ومصطلحاتها اللافتة وتعابيرها المسبوكة ومن بينها هذه الجملة التي تقول " أنا أتبرزخ بين الظاهر والباطن " فكلمة "أتبرزخ" ملفتة جدّاً وأجدها معبّرة بشكل لافت.

 وأختم مثنياً على الكاتبة ومهنّئاً لها على ما قدّمته لنا، وعلى هذا الإرتطام وإن كان لا يسمع له دويّ، لكنّه دون شكّ إرتطام سيحدث صدى في قلوب القُراء.

***

بقلم عفيف قاووق – لبنان

 

تبدو شخصيات الإنكليزية هيلاري مانتل مضطربة وقلقة، وفي حالة تناقض وصراع مع طبيعتها - الطبيعية والاجتماعية بنفس الوقت. وهذا يعني أنها تقاتل على جبهتين: داخلية غير منظورة، وخارجية. وقد تكلمت عن هذه المشكلة في أول سيرة روائية لها صدرت عام 2003 بعنوان غروتسكي وهو "الهرب من الأشباح". وحددت معنى كلمة شبح بواحد من ثلاثة.

الأول هو الأطياف المنزلية، ومن بينها خيال زوج الأم step father ص4، وصور ملائكة نورانية، سرعان ما تتحول إلى رهبان ورجال دين جوالين ص3. ويتخلل هذه التهيؤات وجبات وهمية، وبالأخص في وقت الجوع، كأن ترى أمامها كعكة محلاة تطير في الهواء كالبالون ص2. أو الأسوأ أنها تلتهم سربا من النحل ص3. وكانت هذه الولائم تجري في بيت  يحيط به جدار من الطوب الأحمر ص10. ولا شك أن التورية ليس بالسور ولكن بلونه. فهو إشارة لجناية يرافقها سفك الدم. واتسع نطاق هذه الأوهام وشمل أماكن السهر واللهو، مثل  بار جيش الملك King's Arms، والذي كان يحترق، في نظرها، بالضوء ص8، ولا يسبح في بركة أو هالة مباركة من النور. ويوجد طباق ملحوظ بين الاحتمالين: أن تحترق بالضياء وأن تسبح به (وهي عبارة توراتية مفضلة طالما اتكأ عليها لورنس). إلى جانب ذلك أبدت مانتل اهتماما غير مسبوق بالجغرافيا المتحولة والبديلة.  وهذا لا يشمل تبديل المكان فقط، ولكن أيضا المعنى المرتبط به. فقد كانت تهرب من مكان حاضر إلى مكان غائب. أو بتعبير آخر كانت تبحث عن مكان لها في زمن الآخرين. وأدى ذلك لاهتمام مماثل بأدوات قياس الوقت، ومنها الساعة.  وقد قالت عنها في آخر فصل من السيرة: إنها تتدلى على جدار بيتها بشكل قمر آخر مضيء - وهذا معيار للتنوير والمعرفة ص376.

وقد وجدت أفضل صيغة للتعبير عن هذه القضية في أهم عملين لها. الأول "تبدل في الطقس" 1994. وتدور أحداثه في جنوب إفريقيا حيث أن التاريخ يغدر بالجغرافيا. وكما توضح الرواية لا تتوقف علاقات الاستغلال عند حدود النهب للأرض ولكنها تتطور إلى نهب للذاكرة. وأهم ما يحسب للرواية أنها لا تتكلم عن إمبريالية ملونة، أبيض - مؤمن مقابل أسود - وثني أو كافر، إنما تتبع نفس المنطق الجدلي الذي بنى عليه العقل الرومنسي والتنويري أطروحته، وتقسم المجتمع الكولونيالي إلى ثلاث فئات: الأب الجلاد - ويمثله النظام. والعراب وتمثله البعثات التبشيرية. والأبناء وهم سكان الأرض الأصليون. وهذه بنية أوديببة معدلة تلغي الزواج الخارجي. وتحصر الجدل في توفير الغذاء للعقل أو للروح. ولذلك لا يوجد صراع أو دراما وإنما مجرد خصام.  واختارت مانتل أهون الشرين. أن تفرض رؤيتها على الطبيعة المحلية بالاستئناس أو بالترويض. وبالنتيجة كانت روايتها ذات توجه إمبريالي. وانصب الخلاف على الأساليب فقط. وربما يجوز أن نقول إنها شنت على إفريقيا حملة صليبية - ناعمة. السلاح فيها هو الجائزة الممنوحة بعد الاستسلام. وكما قالت ميرلي روبين: لقد قسمت العالم إلى "حالات محزنة" و"نفوس طيبة"، ولم تعمد إلى إنهاء قوة الشر الهدامة.

العمل الثاني "ثماني شهور في شارع غزة" 1988. ويبدو كأنه سيرة ذاتية لحياتها في العربية السعودية. وقد حرصت على ضمان نظافتها من أساطير الاستشراق، وصوره الجاهزة، التي تغذيها الفانتازيا والرومنسيات. فلا كلام عن النقاب وقصور الحريم، ولا أية إشارة عن الأنفاق التي تغرق بالنفط والحداثة السائلة، ولم تلجأ لفرز وتصنيف الأمكنة والشخصيات بالطريقة المعهودة: شرق مذكر بحالة انتصاب وغرب مؤنث يزخر بالمفاتن.  فالحضارات، في هذه الرواية، تتقاطع وتتجاور، والأعراق والثقافات تتداخل. واستعملت مانتل الحمية الغذائية لترمز لهذا التقابل. ودخلت لروح الحضارات من بوابة تعرفها السيدات بشكل أفضل وهو المطابخ. وابتعدت عن أي حزمة أو أجندا للتبشير، بعكس ما فعلته في روايتها الإفريقية، وأكدت على علاقات العمالة وتبادل المنافع. وبالنتيجة نجد أنفسنا في ميتروبول بديل، يدشن أول ظاهرة من نوعها، وهي تحويل الهجرات، من الشمال البارد إلى الجنوب المشمس. وعموما تؤكد مانتل في كل أعمالها على دور تنويري للريف الإنكليزي، وعلى دور تحديثي للمدينة الشرقية. وبهذا المنطق يمكن أن تجد أن الروح هي البطل في الشمال بينما العقل العملي هو البطل في الجنوب. وهذه مخالفة صريحة لأطروحة الإستشراق الأوروبي، وكل من يمثلها، وفي مقدمتهم لورنس العرب مؤلف "أعمدة الحكمة السبعة". وعلى ما أعتقد إن العناصر الحرجة في رواية لورنس - وهي الدين والحرب والجفاف موجودة في كلام مانتل عن إفريقيا وليس العرب. فكلاهما يبني فلسفته على رؤية واحدة للأحداث. وهو نقل الحداثة في أول حالة - فتح أسواق للسلع، والعمل على إنتاجها في ثاني حالة - بناء هياكل -  أو  معابد لدين عابر للقوميات والثقافات. والحقيقة إن هياكل لورنس لا تمنح الإنسان فرصة لتأسيس علاقة مع أرضه لأنها نقاط انطلاق، أو عروج من جغرافيا إلى جغرافيا مثل محطات قطار أو مضافات عشائر.  في حين أن معابد مانتل كانت بشكل أسواق وأبراج، تدخل فيها صور جزئية وتخرج منها صور كلية. وللتوضيح كان بطل لورنس بصورة نبي جاء للهداية والمؤازرة. بينما كان قوام المدينة، في رواية مانتل، مؤلفا من عدة أقليات، يفصل بينها  جدران التقاليد. وفي هذه الحالة يكون الثابت هو المعبد وإلهه المتخفي عن الأنظار، بينما المتبدل هو الإنسان الذي تحركه احتياجاته البسيطة واليومية. مع التأكيد على أبوة الإمبريالية الغربية للحضارة واستحالة المساكنة بين الأعراق والأديان. ولذلك فرضت مانتل على أبطال روايتيها فلسفة "الفجيعة". ويتضمن ذلك بالضرورة خيبة الرجاء بالمشروع الكولونيالي وبشقيه: التربوي والتجاري.  فلا إفريقيا جاهزة لتبديل وجهها، ولا العرب جاهزون لتغيير أقنعتهم. وقد تناول الكويتي سعود السنعوسي هذه المشكلة المحتدمة بين الوجه والقناع في روايته الهامة "ساق البامبو". وإن كانت المشكلة محصورة ضمن شعوب المشرق، يمكن بكل سهولة ملاحظة الجدل الدائر بين الطبع والتطبع، والتراجيديا المحتملة التي تنجم عن اتباع أنصاف حلول. 

الشبح الثاني هو الذات. ولا تخلو رواية لمانتل من شخصية تتطابق معها. ولكنها دائما بحالة سوء تفاهم مع هذه الشخصية. ومثلما أنها ترفض بإصرار وضعها الوجودي، وتأثير المعاناة في الاختلاف مع الواقع، تحاول أن تلجأ ليوتوبيا ذهنية. وقد تناولت هذا الإشكال في قصص كتابها "التعرف على الكلام" 1985 . وهي قصص من سيرتها، أو إنها زيارة للماضي. ولا يجوز أن ننظر لماضي مانتل على أنه مرحلة مرت من الحياة، بل هو ذاكرة محمولة. حتى أنها في أول قصة من المجموعة وهي بعنوان "كينغ بيللي رجل محترم" تعلن: عدم قدرتها على الخروج من ذهنها ص1. فالماضي بنظرها  خلاصة لحياة  الشخصيات التي تجتمع لتصنع ما يقول عنه لاكان الآخر الصغير والآخر الحقيقي. ويبدو لي أن مانتل  مؤمنة بفلسفة الشقاء المثالي، فكل إنسان غريب عندها هو جحيم نحترق به. ولكنه أيضا مصدر للمعرفة ولإدراك موضع الذات من الوجود. وتوجد إشارات واضحة في كل القصص على أن الأشباح التي تراها ما هي إلا خيال ظل للشخصيات ذاتها، أو هي عين ساحرة نرى من خلالها الجزء المغمور والمجهول من حياتنا. وكما تقول سارة موس**:  هذه القصص تنظر للطفولة على أنها مسرح لأحداث تساهم في بناء الإنسان البالغ ووعيه. وهي مكان دائم نحيا من خلاله وليست حقبة زمنية تنتهي وتموت. ثم تضيف: إن كل قصة في المجموعة عبارة عن لحظة غير مفهومة من حياة بلغت نقطة انعطاف وتبدل (وأضيف مني: هو تبدل يطال الصورة والوعي أو الإدراك).

أما الشبح الثالث والأخير فهو التاريخ. ولا تستطيع أن تبني قناعة ثابتة على هذا الموضوع. فمانتل تتعامل مع التاريخ الإنكليزي بطرق ملتوية. وغالبا ما تقف على طرفي الجدار العازل، تنظر من الخارج لما تحمله معها من معارف وخبرات، ثم تنظر لنفسها بالمرآة. ولذلك يمكن أن يكون التاريخ برأيها معرفة مكتسبة، أو تجربة شخصية. وقد اقتربت من هذا الموضوع في ثلاثيتها المعروفة: "قصر الذئب" 2009، "أحضر الجماعة"2012، و"النور والمرآة" 2020. وقد حملت هذه الثلاثية كل أعراض التقدم بالعمر.

أولا لجأت للمونولوجات والكلام بلسان صامت - وهو ما تسميه الفلسفة بالتفكير. لكن الحقيقة أنها كانت تكلم الآخر الذي يحمله الإنسان في لاشعوره أو صندوقه الأسود. وربما كان سلوكها أقرب إلى المونولوج الدرامي. فقد كانت تناور لتكتشف حقائق نفسها، ولحسن الحظ إن شخصيات مانتل بسيطة وغير مركبة. وإن كانت تعاني من خلل فهو عائد لخطأ بالتشخيص وليس لعطل حقيقي. وأعتقد أنها بهذا السياق تشير لمحنتها الشخصية. فقد شخص أطباؤها الألم الذي عانت منه على أنه ذهان، وتبين فيما بعد أنه نمو غير طبيعي في الرحم. وترتب على هذا الخطأ توقف القدرة على الإنجاب، وتبدل ملحوظ في الملامح. بتعبير آخر تكبدت خسارة مزدوجة.. في المحاكاة وفي التكاثر. وبالضرورة أنهى ذلك قدراتها على محاكاة نفسها بالسبل المعروفة، وهي الانعكاس والانقسام. وتجد صدى المشكلة في غموض كتاباتها الواضحة. فهي تلعب بالمعاني وتغنيها بعلاقات تصورية لا متناهية، لكن لا تحدد أي هدف أو وظيفة نهائية. حتى أن سيرتها لا تبدأ من الخاتمة ولا من البداية. وتقفز فورا لثاني محطة من حياتها. وتعلل هذا الفراغ بعجز في الذاكرة، وإن كنت أرى أنها لا تريد ذاكرة بيت الأب حصرا. وأكدت على ذلك في عدة مناسبات، فقد وضعت أمها في مركز الأحداث. ونادرا ما تكرمت على الرجل البالغ بدور رجولي، وغالبا صورته بشكل ابن كبير الحجم، وأبوه مقتول أو ميت. وهذا الانتقام من رب الأسرة - سواء هو أب أو زوج دعمه نفور واضح من بابا الفاتيكان. وقد رأى كل نقاد الثلاثية أن روايتها موجهة ضد الكنيسة البابوية، وتقف مع كنيسة الأم الناشئة.

ثانيا تخلت في ثلاثيتها عن الجرعة الدرامية لمصلحة الجدل النفسي كما هو الحال في "لعبة الكريات الزجاجية"، آخر وأضخم كتاب لهيرمان هيسة. وكانت مثله، عوضا عن أن تكتشف نفسها بأسلوب الإسقاط والملاحظة، لجأت للتكهن والتخمين.

ثالثا وهنا مربط الفرس. لم يخطر في ذهنها أن أوليفر كرومويل أهم من توماس كرومويل. وفوتت على نفسها هذه الفرصة الثمينة. لقد كانت الحبكة وبنية الخطاب تصلح لمتابعة مخاض كرومويل الأول - باعتبار أنه تتوفر لحكايته عناصر درامية في إطار تراجيدي وبطولي. كما أنه أقرب ببنيته الملحمية للملك لير (الأب المغدور به في مسرحية شكسبير)،  وللأخوة كرامازوف (الأشقاء الأوديب يين الذين تورطوا بصراع غاشم وسخيف مع الإرادة). لقد توفرت في حبكة أول كرومويل فكرة صراع الأجيال، وتناقض المصالح الطبقية، وأخيرا مشكلة المشيئة الطبيعية للقدر، أو بلغة أقرب للنقد الأدبي مشيئة البيئة والظروف. في حين أن كرومويل - توماس كان شخصية شيطانية، مجالها الغرف المغلقة والصالونات. وهو أشبه بأي شخصية تظهر لك في أحلامك. إنه أقرب لعالم الرموز وبعيد تماما عن مجال الاشتقاق والاستعارة. ولهذا السبب لم يكن إنسانا تجريديا، ولم يكن صالحا لأسلوب المحاكاة الذي خرجت أهم الأعمال الروائية من معطفه ابتداء من "قصة مدينتين" لديكنز وحتى "الجريمة والعقاب" لديستويفسكي و"آناكارنينا" لتولستوي، انتهاء بــ"عشيق الليدي شاترلي" للورنس. والحقيقة إن آخر كلمة في الروايات التاريخية تكون للسيف. وهو سبب بقاء وشهرة أعمال مثل "السيف المعقوف" لهارولد لامب و"الفرسان الثلاثة لألكسندر دوما الكبير"، لكنها ليست لحكايات البلاط المسلية. ولذلك أرى أن هيلاري مانتل أعادت توطين أشباح الماضي القلق ونصف التراجيدي في ثلاثيتها، بعد أن تحررت منها في أعمالها السابقة.

***

د. صالح الرزوق

....................

*Merle Rubin. Wall Street Journal. 24-9-1997.

**Children Stories for Adult Audiences. Sarah Moss. The New York Times. 21 June 2022.

وقفة مع كتاب (غرناطة) أنموذجا.. المعينات الوظائفية في الضمائرية والزمكانية والشخوصية المتصلة، الفصل الأول ـ المبحث (2)

مهاد نظري:

لعل الغائية الروائية التي تسعى بدورها إلى توصيف وتصوير ومعالجة الممارسات المقامية بطرائق التشخيص المباشرة وغير المباشرة، في بنيات المادة المرجعية المحالة إلى دائرة التخييل السردي الروائي، هي من الآثار الأكثر أهمية وتندرا، خصوصا فيما يتعلق بنوعية وكيفية التعامل مع تلك الجملة من المقامات الأخبارية والمروية بطريقة (الحكي = الحكواتي) كما إن حالات المنظور الخطابي والحكائي في طبيعة هكذا روايات، لا تكتمل معيناتها إلا في حالات استيعاب هذه الجملة من التقانيات (المعينات ـ المقامية ـ المنظور الأداتي ـ المقاربة الاتصالية ـ ضمائرية الحضور ـ الوظائف المتصلة) وتبعا لهذه الاختزالية الوظائفية في تشريح المفاهيم المنجدلة في الفضاء النصي الخاص في محاور رواية (ليون الأفريقي) نعاين حدوث هذه الشبكة من مفاهيم الإجراءات على أسس بينية وغير ذلك من خصائص الأخبار والمسرود الصراعي المتشكل بين (الأنا الشاهدة) وتراجيديا التلاحم السيكولوجي المتبادل في تعددية الأصوات والوقائع ذات الطابع التأريخي المعزز بالاشتغالات الاستهوائية من بنيات خصوصية الفواعل المعينية في الذوات والمكان والزمن والمقامات السردية الناتجة من تقابلات الأشكال التمظهرية واللاتمظهرية في نماذج وحدات الخطاب والحكاية المرجعية.

ـ الفواعل الاستهوائية وسيطا بين المروى إليه والفاعل الذاتي.

قد لاحظنا في متواليات الفصول الروائية الأولى من النص الروائي، بأن هناك (سيميوطيقا) بين السيرة الذاتية للمكان والأحداث، قد جرت في ضوء الربط بين المعينات الاستهوائية ومستوى المحددات المرجعية الموظفة في التقاويم والتواريخ المؤشرة أعلى اليافطات العنوانية لكل فصل من الفصول.وهذا الأمر ما جعل من المادة المرجعية متراوحة في مسافة المروى إليه راويا، وكأنها حالات نابعة من حال لسان (الحكواتي؟) .ولكن لا يمكننا في الوقت نفسه تحديد زمن هذا الحكواتي، صحيح أن المرويات كانت قادمة من خلال أوضاع شخوصية متمثلة بشخص والدة ليون أو ذلك الأب الذي انقطع رويه على حين غرة، ولكن هل يمكننا تحديد الزمن الذي كانت تبث فيه هذه المرويات حول أخبار السلطان لغرناطة أو كم كان عمر ليون في غضون ذلك الزمن: (كنت في ذلك الحين طفلا بدينا، فلم أكن أجسر على إخراجك معي إلى الشارع خوفا من عيون السوء./ص59 الرواية) من هنا نعلم أن الرائي كانت هي الأم سلمى ذاتها، ولكن هل يعني أن ليون كان طفلا وهو يتلقى المروى إليه في حقيقة الاستطاعة العمرية له في ذلك الزمن؟ولعلنا نتابع في وحدات أخرى ما قاله ليون راويا عن ذاته: (وهكذا ذهبنا في أولى ساعات النهار تحملني أمي، وتحمل أختي مريم أمها، وكلتا الوالدتين تسيران الهويناء لتفادي الانزلاق على الثلج./ص74 الرواية) ويعني هذا أن الوحدات الكلامية قد لا تتقدم أو أنها تتأخر عن الوحدات (التمرسية ـ الاستهوائية) ذلك لأن التحويل بالعامل الزمني ما زال في حيز (المروى إليه راويا) أما حالات الحكي والمسرود فهي قائمة في مدار الاشتغال بالشاهد على المروي أو الاتصال بوسائط (المسرود إليه) كما قلنا سابقا.إذ أن مستوى بناء الأحداث والعلاقات الشخوصية لحد الآن هي تحت (حبكة المروى إليه) أما بما يتعلق بزمن الشخصية ليون، فهو كما نعلم طفلا لا يتجاوز أعوامه الثلاث كما أوردتنا به سياق الرواية.

1ـ الأحوال الاستهوائية في عام الشيخ ـ استغفر الله ـ:

ثمة دائما في طبيعة الأعمال الروائية المرجعية، ما نعثر على شخصية استهوائية، كحال الشخصية المتعلقة في الشيخ ـ استغفر الله ـ وهذا النمط الشخوصي هو من التعقيد والشكوكية في كل مجالات حياته المتوترة: (كانت عمامة الشيخ ـ استغفر الله ـ عريضة وكانت كتفاه ضيقتين وصوته أئمة الجوامع الأبح /وكان في كل صباح يركب ساعة الآذان سطح منزله، أحد أعلى منازل المدينة، لا لكي يدعو المؤمنين للصلاة كما يفعل سنوات طوالا، بل يحدق بعيدا إلى ما كان مثار حنقه.. وكان يصيح في جيرانه الذين لم يكونوا قد استيقظوا تماما بعد: انظروا، إنه قبركم ذاك الذي يشاد هناك على طريق ـ لوشة ـ وأنتم هنا راقدون منتظرين منتظرين قدومهم لدفنكم؟./ص45 الرواية) وبناء على ما جاءت به هذه الوحدات، يمكننا معاينة مستوى الدوافع الاستهوائية في مكنون سيكلوجية هذه الشخصية، وعند التركيز على محض أفعالها نستنتج بأنها الذات المستهواة، بأعتبارها تقدم ملفوظاتها الشعورية من جهة التمظهر فحسب ثم وبالاستعانة بالنية القولية من مقترحاتها الأهوائية.وهنا يمكننا معرفة آليات تخطيب الأهواء لدى هذه الشخصية المغالية في ملفوظها ومفرداتها النفسانية، خصوصا وإنها على مستوى من العاملية التي تستهوي لذاتها حالات بث الأخبار والمواجيد الفوضوية في أذهان الناس.وعلى ههذا النحو نعلم جيدا بأن ما كان يشير إليه هذا الشيخ هو الأشارة إلى (أسوار سانتافية) حيث كان الزعماء من الكاثوليك قد بدأوا بناءها في الربيع، وسرعان ما اتخذت في متوسط موسم الصيف مظهرا من مظاهر المدينة: (وباح لي أبي بأنه كان قبل مولدي بزمن كثيرا، ما يجتمع وعصبة من الأصحاب يوم الجمعة قبل صلاة الظهر الجامعة في دكان وراق لا يبعد كثيرا عن الجامع .. وأنهم كانوا يتراهنون فيما بينهم على عدة المرات التي سيتلفظ فيها الشيخ بعباراته المفضلة في أثناء خطبته./ص46 الرواية) قد لا تختلف الرواية السيرذاتية للزمن والواقعة المرجعية عن سائر أجناس الكتابة التاريخية ـ سيريا ـ فهناك أحوال تقترب من (السير ذاتي) ولا شك أن مستوى زمن الكتابة في رواية (ليون الأفريقي) مرحلة مرتبطة ب (الأنا الحكواتي) حتى وأن كان الغالب فيها هوالراوي نقلا عن مرويات الشخوص والشواهد الأخرى في الرواية.

2 ـ التبئير الداخلي المرتبط بوجهة نظر الراوي:

قد بدت لنا النتائج التي وصلتنا عن طريق الرواة بأن فاعل تلخيصها كان كافيا في مرسلات الاثبات العاملي الذي مصدره (التبئير الداخلي = ذاتية الراوي) فالمسرودات للأمكنة والأحوال الشخوصية قد تتاح من خلال نوع سردي مصدره أحد الشواهد الشخوصية، ولكن وعي الإيصال يتم من خلال ضمير المتكلم الذي هو المبأر والناقل بضمير ذاته الصفرية.ولكن هذا يظل في مجال النمط الداخلي من التبئير الذي يتخذه الراوي المشارك نفسه.فكلما غلب التبئير الصفر على مركزية وجهة نظر الذات الساردة، كلما تم الكشف الزمني عن أوليات (السير الذاتي) للأحداث وطابعها التخييلي المقرون بمنزلة مهمة من مستوى رؤية القارىء للأحداث والأفعال في زمن الحالات الصفرية من النواة الروائية الأولى: (عام السقوط:لم تكن أمي هي إياها عندما كانت تتحدث عن سقوط مدينتنا، وكان يصدر عنها حيال هذه المأساة صوت ونظرة وكلمات ودموع لم أكن أعرفها لها في أية مناسبة..وأما أنا فلم أكن قد بلغت الثالثة من عمري في تلك الأيام الصاخبة، ولست أدري إذا كانت الصيحات المزدحمة في مسمعي في هذه اللحظة تذكرة لما كنت قد سمعته حينذاك حقا أو أنها فقط صدى ألف حكاية حكيت لي مذاك./ص57 الرواية) هنا نعاين كيفية الإدلاء بواسطة الشخصية المحورية ـ ليون ساردا ومتمثلا ـ حول مواضعات الأصوات للرواة، والعلاقة ما بين صوت الفاعل إزاء تعاقبات الرواة ـ سببا في اكتمال مستويات المادة في المروى إليه.ولكن المتخيل لا يمنح نفسه عادة بالقول عن اللاكتمال في زمن المحور العاملي حينذاك، إلا في مؤشرات تقديم المحور ذاته شاهدا في ما مضى من الاستراتيجية في حكاية المروى إليه راويا.وإزاء بيان وضوح صوت المحور الشخوصي ـ ساردا ـ نلاحظ حجم التعاقب في المبنى الحكائي، بدءا من صوت سلمى وانتهاء بصوت ليون ذاته، الذي يمثل الانموذج الجامع في جل مستويات الاستغراق في التفاصيل الدقيقة ذات المنحى الميتاتاريخي والسيكولوجي الخاص بوصف أدق معاينات الملحمة الغرناطية عبر نمو زمنها الضاج بتواصل الأوضاع المسرودة من عبر ثقوب الوثيقة المرجعية.

ـ تشاكل المعينات في علاقات القرائن الواصلة.

هناك جملة واسعة من المسميات والوسائل الاصطلاحية التي تطلق على مفاهيم وخواص (المعينات) منها سبيلا:القرائن المدمجة أو الواصلات في وحدات المينولوفيجيا.غير أننا نود استخدام هذا الاصطلاح في مجال مباحث دراسة رواية (ليون الأفريقي) اعتمادا على مخصوصيات: (الإشارات ـ المحددات التمثيلية ـ العرض والتعيين ـ الإحالة ـ التأثير والمحاكاة) والمراد من وراء كل هذه المصطلحات هو الكشف عن الفحوى الإحالية في علامات وصور ومواقف المرجعية النصية المبنية على شروط وتوافقات الأداة التلفظية وعواملها الزمنية والمكانية والضمائرية والظرفية والسياقية.فالمعينات بوصفها العناصر الاسلوبية والبنائية والسيميائية التي تحيل على السياقات الخاصة بالزمكانية الجارية في صيغة المتكلمين في أوضاع التلفظ والتواصل الإطاري من الملفوظ الكتابي دلاليا وإحاليا.فإذا أخذنا على سبيل المثال بعض من وحدات التلفظ الواردة في سياق جملة مقامية أو احالية، فنلاحظ بأن أدوات التعيين فيها غدت تمثل صفات خاصة بالزمن السردي، ما يجعل تغيرات الأحوال والمقام من وحدة الانطباع المشهدي تبدو وكأنها مفضية إلى تصاعدية عدة مواقف أو أزمنة في الوقت الواحد أو المشهد المحدد في عدة جمل: (وهكذا فإنه كان يقص علي خبر سقوط غرناطة .. كان من المحتم أن تبدأ حكايته من قاعات ـ الحمراء ـ المنجدة) أو ما جاء مقتبسا في هذه الوحدة مثالا: (ولا يعرف أحد في المغرب أنني بالأفريقي: فهناك كنت الحسن بن محمد الوزان) وعلى هذا النحو من هذه الأمثلة وغيرها في موارد متعددة ومشتعبة من وحدات الرواية المسكوكة، نتابع ذلك الحجم من التلفظ في مواضع مقامية وإحالية مختلفة، بل إنها تبدو كما لو كانت علامات أو شيفرات يراد بها أغراض ووظائف مختزلة في عدة جهات من (التلفظ في عدة أوجه) أو الانطباع في عدة علاقات مختلفة في المظهر، غير إنها في مقاييس الأوضاع الدلالية تكشف لنا عن محصلات اتفاقية في الغاية والنتيجة: (وران صمت مطبق على الحضور الذين كانوا يكتفون بإرسال هدير بالموافقة بين الحين والحين..وفتح المليح فمه وكأنه يستعد لمتابعة حججه..ولكنه لم يقل شيئا./ص62 الرواية) وتتبدى العلاقة في الكلام هنا بين الحضور أو اللاحضور، ولكنها واقعة في مجال دلالة مقامية فعل الكلام والاتصال والاندماج، والموقف الإحالي هنا يعبر عن دينامية الاشتغال في فعل التكلم، لو لا إنه كان يقول شيئا لما توقف، فهناك في مسار آخر من الوحدات جعلته وبطريقة ضمنية يقوم بفعل التلفظ، إلا أنه اختار: (وخطا خطوة إلى الوراء، وجلس وبصره إلى الأرض./ص62 .ص63 الرواية) لعل هذا الفعل من المعينات العلامية التي تؤشر لنا دلالة إحالية في وصفها المقامي قد لا يحتاج الشخصية في حالته الوصفية إلى التلفظ بما لا يصح به المتلفظ من خطاب مباشر أوقسري .

1 ـ المعينات الزمكانية المتصلة والمنفصلة:

تواجهنا في هذا الباب الفرعي من مركز دراسة مبحثنا عدة تعالقات في العلاقة الزمانية والمكانية المزاحة عبر مظاهر التلفظ داخل تشكيلات ومتواليات الوحدات المسرودة من النص.ذلك بعد أن أدركنا كيفية قيام المعينات في الجوانب الاشارية والفعلية والاحوالية والمقامية من سياق النص.الآن سوف نتناول كيفية إجراء صيغة المعينات في المجالين (الزماني ـ المكاني) تبعا إلى العلاقة المخصوصة من وظائف النص في الرواية: (وظلت المدافع والمجانيق صامتة في الأيام التالية، وظل الثلج يتساقط على غرناطة موشحا إياها بالسلام وبدعة ما كان يبدو أن شيئا ينبغي أن يقطع معهما أوصالها.فلم تكن هناك معارك، وكانت بعض صيحات الأطفال وحدها تبعث الحياة في الشوارع./ص71 الرواية) قد تنكشف الصور المكانية والزمانية ، ضمن ثنائية تلفظية غالبا، وهذا ما يجعلها تبدو معينات في حضور (الذاتية ـ الموضوعية) فغالبا ما ترتبط الذاتية في حدود خطاب زماني أنفعالي، في حين ترتبط دلالات الموضوعية بالمكانية كظروف في أحوال الوجود والكلية في الأثر المكاني على مواجيد الذات.فالذات والموضوعة كلاهما يشكلان في الزمكانية علاقة حضورية وغيابية، تمتزج بعضهما مع بعض كوقائع اتصالية في الشكل والمضمون والبنية والفضاء والدلالة.

ـ تعليق القراءة:

لا شك في أن المعينات هوية تكوينية تأشيرية داخل النص الروائي، وما يلفت اهتمامنا حول هذه المعينات الاشارية والضمائرية والزمكانية في محاور الرواية، هو قدرتها على خلق القرائن والتوليفات بطرائق محددة وغير محددة.فضلا عن هذه الوظائف والأغراض التي امتاز بها الطابع الروائي، لعلنا نكشف للقارىء عن سقوط غرناطة بيد القائد الصليبي فرديناند، حيث نص بقطع العلاقة بين اليهود والمسيحيين، وهذا الأمر ما جعل أغلب اليهود يشارفون على مغادرة غرناطة: (وعلى هذا فقد مشت سارة وأهل بيتها من غير أن يلتفتوا خلفهم./ص83 الرواية) فيما ظلت سلمى تعاود مسرود غرناطة وسقوطها على أيدي المسيحيين على مسامع صغيرها ليون الأفريقي، وكأنها ذات الوسائل والتقانات من المعينات الحكواتية يحلو بها مقام القص عبر ضمير المروى إليه، وصولا بحضور ليون ذلك الشخصية الساردة في مدار الابعاد الزمكانية والشخوصية المتصلة عبر فضاءات مرجعية المخطوطة التأريخية وإعادة انتاجها في مستحدثات سلطة التخييل وأفعال المتخيل.

***

حيدر عبد الرضا

الوقائع المؤلمة للمجموعات المعزولة غالبا ما يكون رواتها مجهولين، وتتأخر قليلا الذّاكرة الاجتماعيّة في هضمها وتداولها، وسيُبذل الكثير من الجهد والوقت لتكون جزء من السياق التاريخيّ للبلد. وهذا التّضييق، الذي تُكره عليه الذّاكرات المعزولة، لا يعني ضياع الوقائع كليّا، أو تخلي المجموعات عن خصوصيتها وتاريخها، فللحوادث رواتها وللحركات الاجتماعيّة نشطاؤها وادباءُها ومفكروها. وحركة الانصار الشيوعيون التي جرت احداثها (1978-1988) في جبال كردستان العراق هي واحدة من تلك التجارب التي لا حظ كبير لها في الانتشار، رغم احتوائها وقائع مهمة، وتوثيقها من قبل روائيين وسينمائيين ومثقفين قاتلوا من اجل وطنهم. سبب ذلك ليس فقط عزلة الحركة القسريّة بالجبال وابتعادها عن حاضنتها الاجتماعيّة، فلقد ذهبت الأعوام وسأم الناس الحروب وقصص الأبطال، وتحوّل عالم الثوريّين المثير إلى عالمٍ ممل في ظروفٍ سياسيّة\اجتماعيّة معقدة.

روايات الأنصار الشيوعيون، على قلّة ما قدمته، كانت حقول كشف مغايرة لأدب الحرب بالعراق في ثمانينيّات القرن الفائت. مؤلفوها لم يؤرخوا ولم يبحثوا عن مخطوطات تدعم قصتهم، هم كتبوا عن احداث عاشوها، بأسلوب روائي يعكس المناخ العام للعيش بين السياسيّين والقتال بين الفلاحين الكورد. في رواياتهم لم يتبنوا خطابا سياسيّا مجردا ولم يدافعوا عن حزبٍ أو جنرال، وتجاوزوا في كثير من صفحاتهم مفهوم الثورة والعصيان والقتال، إلى حقول ومفاهيم عامة اكتسبت بعدا إنسانيّا من خلال تناولهم حياة الألاف من المقاتلين وفقراء الفلاحين والجنود المهزومين من جحيم الحروب. ومع ذلك سيكون من غير الواقعي إبعاد هذه الروايات عن السياسة، فالحروب والصراعات الاجتماعيّة غالبا ما تقف خلفها دوافع سياسيّة. أردنا القول ان الالتزام بقضايا الإنسان ومشكلاته في الروايات التي تناولت بيئة الثوار في الجبل أعمق من أي التزام، التقط مؤلفوها حالات الجوع والخوف والشجاعة والتوتر والنذالة، دون مواعظ ثورية أو وعود بالخلاص. بدتْ فيها كتاباتهم خالية من استمالة مزاج رفاق السلاح، وهو ما أدى إلى ان يتعامل معها البعض بجفاء، ويجدون فيها كتابات تسيء إلى تجربة عظيمة. الروائيون، موضوع مقالنا، لديهم قلقهم الابداعي والوجودي، فهم قاتلوا وفقدوا أحبة وتجمدت اطرافهم في مواقع الحراسة، وباتوا يكتبون عن موضوعٍ يمسهم شخصيا في المقام الأول، يبحثون فيه عن عزاء بحجم الخراب الذي عاشوه. خلت فيها كتاباتهم من مجاز الانتصار والفخر والتباهي، خلت كذلك من المواقف الرمادية ولفلفة الحقائق وتزْيين الشخوص، والأهم من كل ذلك لم يدعِ أيّا منهم رسم صورة كاملة لتجربة افترشت عشرة أعوام، وأكتفوا برواية المشهد كلٌّ من زاويته.

إنّ المسارعة إلى ربط النصوص التي تتناول الخصومات المسلحة بـــ "أدب الحرب" ليس ناجعا على الدوام، وقد تأخذ من النصوص أكثر مما تعطيها. فالروايات موضوع مقالنا، كصياغات نصْيّة لحركة مسلّحة، لا يمكن حصرها كليّا في هذا المصطلح. فهي توسلت الحرب للكشف عن الاستبداد السياسيّ والاجتماعيّ والثقافيّ الذي خيّم على البلد، للكشف عن هشاشة الإنسان وإنْ كان محقّا ومتعلّما ومسلّحا، للكشف عن أعراف وتقاليد ما زالت محمية بجبال بعيدة، للكشف عن أفكارٍ عظيمة ورومانسيّة يستحيل تحقيقها. صحيح إن النهاية غير المقنعة لتجربة الأنصار بالجبال، ومغادرة المقاتلين للمنفى، أنتج حالة تمرد عند الروائييّن، خرجوا فيها عن تقديس الشخوص والمؤسسات السياسيّة، ولكن هذا لا يقلل من حقيقة انهم عاشوا تجارب يومية بدّدت اوهامهم، وجعلتهم يشاهدون عن قرب ما يتركه حمل السلاح من خراب في النفوس. من جهة أخرى نجد ان الروايات التي تناولت ما للكفاح المسلح وما عليه، فضحت كذلك حروب الدولة وتداعياتها. فقبل ظهور كتاباتهم كان الروائيون، موضوع مقالنا، يدعون لإيقاف الحرب العراقيّة\الإيرانيّة، وعندما ظهرت كتاباتهم على الورق كانت مشحونة بالتنديد والادانة لمشعليها، ولم يحدث إن تضمنت شعارا او دعوة للقتال. وهذا الذي نقول ليس حكرا على الروائي، فالمواطن البسيط الذي صعد الجبل يومذاك، هاربا من الجبهات، هو الآخر لم يضع القتل والقتال في سلّم أولوياته. ولا نفشي سرا بالقول انه حتى الحزب الشيوعيّ العراقيّ الذي تجمّع كلّ هؤلاء للقتال تحت رايته لم تكن سياسته تدعو للحرب، فالجميع هرب تحاشيا لخطر الموت المتفشي بالبلد، ثم حملوا السلاح للدفاع عن أنفسهم. ومَنْ يحمل السلاح في بلدٍ مضطرب فهو على الأغلب إمّا قاتل او مقتول (هذه الأرض مصنع تحول الإنسان إلى بقايا إنسان، وأنا مكثت هنا فأما سأكون قاتلا أو مقتولا.. صــ 321 رواية خلف الطواحين) 

إنّ الروايات التي سنتناولها هي ثمرة جهد مجموعة من الروائيّين الناجين من الموت، صدرت في فترات متباعدة، لتدوين حكاية مَن لجأوا للجبال هربا من بطش السلطة. روايات لا يمكنها لوحدها تشكيل هوية جماعيّة لآلاف المقاتلين الذين جاؤوا من أماكن مختلفة ومن خلفيّات ثقافيّة واجتماعيّة متباينة، ولكنها جزء من "سرديّة انصاريّة" شارك في توثيقها العديد من الروائيّين والسينمائيّين والسياسيّين والشعراء.. الذين امتلأت بهم المنافي. إنّ اختلاف موضوعات الروايات وأساليبها وتجارب مؤلفيها الحياتيّة لا ينقص من وجود فضاء روائي عام لأحداثها، محدّد مكانيّا بجبال كوردستان العراق، وبفترة زمنية محدّدة بأعوام (1978-1988) وبشخوصٍ يتحركون ويعانون وينشدون اهدافاً مشتركة. وهذا المناخ العام أنتج بدوره ثيمات مشتركة، واقعية، انتجتها مخيّلة مُحاصرة ومُهدّدة. وفي نظرة عامة على كلّ عناوين الروايات سنجد ان لها دلالات عنف وقعت في الجبال، تناولت فيها وقائع ذات طابع جمعيّ "مجزرة بشتاشان، الضربة الكيمياوية، عملية الأنفال" صار بعضها جزء من وثائق محكمة العدل الدوليّة، وما زال الكثير من ابطالها وضحاياه أحياء. المشترك أيضا بين الروايات وجود السلاح كثيمة رئيسية تلازم كلّ الشخوص. وحتى حين يعود المؤلف بذاكرته للمكان الأول ومقاعد الدراسة، او يتوقف عند هموم الانصار اليوميّة الباحثة عن الطعام والحب والكتاب، يبقى السلاح مكوما في خلفية المشهد. ثيمة أخرى مشتركة بين الروايات هو الغياب الملفت للعلاقات العاطفيّة في حياة المقاتلين، باستثناء ما تختزنه الذاكرة من حكايات حب قديمة، او لحظات تعلّق عابرة في الجبال، تحاكي حياة المقاتلين المرتبطة بالحرمان والتهديد. الغياب العاطفي يستدعي حضوره، نلمسه في محاولة المؤلفين إظهار لحظاته الجميلة، لترطيب الأجواء، ولكن المكان ليس مكانا للحب والعواطف، حتى للمتزوجين منهم. سبب ذلك ليس فقط العزلة وقلّة النساء، بل كذلك سببه أسلوب حياة المفارز القتالية المتنقلة والزاهدة، إضافة إلى تقاليد الفلاحين الكورد التي يسودها التحفظ والخوف من وجود المقاتلين العرب. ملمح آخر بين الروايات هو انها روايات تمرد وحزن وعناد وعتاب ولم تكن روايات هزيمة، بالمعنى العسكريّ للهزيمة. هم يروون معارك انتصار وهزيمة، ويردّدون أفكارا يائسة في مواجهة الديكتاتور، ويعانون انكسارات داخلية في ثقل أعوام العزلة التي أثرت على معنوياتهم كمقاتلين، ولكن على المستوى العام لم يترسخ عندهم مفهوم الهزيمة، على الرغم من النهاية الموجعة لتجربتهم. فكريم كطافة ينهي روايته "حصار العنكبوت" بجلوس القلّة الناجية من الحصار تفكر ببداية جديدة (بهذا الحزام نستطيع على الأقل البداية من جديد صــ 366). المشترك الآخر في الروايات موضع البحث هو أنها تضعنا تارة في التوثيق وتارة أخرى في الرواية وثالثة في السيرة الذاتيّة. وهذا الأمر المثير لفضول القراء الباحثين عن الحقائق والاسرار والأسماء، يعطي الانطباع أحيانا بالضعف الفني. على العموم احداث الروايات رويت بضمير الغائب، كنوع من الحياد الادبي، واستمرار للتواضع ونكران الذات الذي طبع حياة المقاتلين المهووسين بأحلام عظيمة. باستثناء كتابات "سلام إبراهيم" الذي اعتمد على سيرته الذاتيّة موضوعا لرواياته، استخدم فيها ضمير المتكلم. إضافة لهذه الموضوعات المشتركة كان الجبل هو المفردة المركزيّة التي تحتضن أحداث الروايات فتميزت لغة السرد بحملها مفردات البيئة الحاضنة بجملة من الكلمات الدالة على حياة بشر تلك البيئة التي احتضنت الثوار مثل الثلج، ينابيع الماء، شجر الاسبندار، مواقع الحراسة، البندقية، الشروال، حذاء السمسون، الفانوس، الكتاب، العزلة، العدس، الجاجي، الباكَردان، البغل، القمل.. وغيرها من المفردات التي لها قرابة مع حياة المقاتلين الذين ينامون كل ليلة في قرية جبليّة مختلفة.

ينبغي الإشارة إلى ان بعض الموضوعات والمفردات المار ذكرها تُعتبر نمطيّة في حياة الفلاحين الاكراد، وهي ليست كذلك في بيئات أخرى.

4578 عامر حسين

"خلف الطواحين"

موت الوحش والإنسان

رواية "خلف الطواحين - عامر حسين - 500صفحة" هي من أولى الروايات التي ظهرت عن تجربة الأنصار الشيوعيّين (الطبعة الأولى، 1991) وهذه المعلومة الأخيرة وضعناها بين قوسين لأنها الوحيدة التي ذكرتها دار النشر، بعد ان أغفلت اسم الدار وعنوانها. وهي إشارة مبكرة إلى إبقاء هذه الكتابة كصرخة في وادي، لا يسمعها إلا من كان هناك. تبدأ احداث الرواية بمفرزة مقاتلين تائهة في الجبال؛ ماء قليل وشمس حارقة، ومقاتل أناني يغسل مؤخرته بالماء المتبقي، لعدم وجود خرقة.

وسط بيئة ريفيّة قاسية، ومحيط اجتماعيّ يمتدح المقاتلين نهارا ويذمهم ليلا، استلهم المؤلف احداث روايته. بيئة لم يكن فيها السلاح والقتال فقط هما مقياس الشجاعة، فأسلوب التحطيب وربط البغل ومعرفة طرق الجبال وينابيع الماء كلها معايير شجاعة. شخوص الرواية، بأسماء مستعارة، يعانون عزلة مهلكة في الجبل، ويحملون أفكارا لا يمكن تحقيقها. يناضلون وسط خلافات داخلية مع قادتهم "الشيوخ" الذين فشلوا في أدارة الصراع الداخلي، ويعيشون صدامات متكررة مع الواقع السياسيّ القبليّ السائد بين القوى السياسيّة. هذه التراكمات مهدت لاقْتتال دموي بين ضحايا الديكتاتور، جرت تفاصيله في وادي "بشتاشان – خلف الطواحين عام 1983". احداث الرواية تتحرك ببطء اشبه بحياة المقاتلين بالجبل بعد هطول الثلوج، رويت بضمير الغائب، بلغة سهلة وغنية بتفاصيل الواقع. وحتى حين تشط المخيّلة قليلا لغرض التشويق، فإن المؤلف سرعان ما يعود للحفر في مشاعر العزلة والجوع والخراب العاطفي للمقاتلين. مفردات القتال والنضال والنزاع حاضرة في الرواية، تشير إلى خطر الافتتان بفكرة والتضحية من أجلها دون تفكير. فتحويل المبادئ والقناعات السياسيّة إلى عنف مسلّح فيه خطر بعيد على الذات الإنسانيّة وما تحمله من قيّم، لأن (ثقافة الموت التي تشيع الرعب والدم، تحول كل كائن هنا إلى ضحية وجلاد صـــ 96) تجلّى ذلك في اسئلة إشكالية على لسان شخوصه؛ ما جدوى ما نفعله بالجبل؟ لماذا يُقتل الأبرياء بشكل لا إنساني؟ لماذا يتقاتل الضحايا فيما بينهم؟ فالبطل الرئيسي (رحمن) لا يريد ان يكون وحشا، وقد عاش لحظات تردّد عندما فكر بأطلاق رصاصة الرحمة على رأس جندي جريح بعد انتهاء احدى المعارك. ينبغي الإشارة إلى معضلة شائكة تناولتها الرواية عن الجنود الذين ترسلهم الحكومة لقتال الثوار في الجبال، وهم في غالبيتهم من الفقراء الطيبين الأبرياء. هؤلاء الجنود هم ضحايا الحكومة والثوار على حد سواء، نلمسه في قول أب مكلوم على ابنه الجندي (أين سنولي بوجوهنا؟ إن نجونا من الشياطين قتلتنا الملائكة صــ 451) إلى جانب ذلك تجاوزت الرواية خطوطا حمر كان من الصعب التقرب منها في ظروف أخرى، من بينها؛ عدم الصمت على أخطاء القادة السياسيّين، فضح ممارسات الطعن في الظهر التي يمارسها الحلفاء، فضح الحماقات التي يرتكبها المقاتلون. المؤلف اعتمد الواقع للكشف عن هشاشة الذات الإنسانية وخستها، نلمسه في سلوك المقاتليّن "قاسم، عولا" اللذين قتلا اختيهما غسلا للعار، وهربا للجبال لارتداء ثوب الثورة. في إشارة ضمنية إلى ان الثورة ليست على الدوام ناصعة البياض، وليس بالضرورة ان ينتمي إليها فقط الانقياء والشجعان.

إن السواد الذي غطى لوحة حياة المقاتلين في "خلف الطواحين" لم يكن من صنع المخيّلة وحدها، فالمقاتلون في عزلتهم الجبليّة تحولوا بعد أعوام إلى بقايا بشر، يحسدون الخروف على نعجته والبغل على صبره، إذ لا دفء ولا طعام ولا أم ولا حبيبة يغنون لها. حتى (باب العواطف، أياً كان، مفرح أم محزن، لا بد أن يوصد في مثل تلك الظروف. صـــ11) في مثل هذه الظروف، التي لا يعرفها سوى من عاش تفاصيلها، يحضر الحب عنيفا ومشوها، اشبه بحياة الأنصار بالجبل. نلمس ذلك في فصلين حاول فيهما المؤلف رش الماء على قسوة الاحداث ودوي الرصاص، رواهما في الطريق إلى وادي "بشتاشان، خلف الطواحين" عندما كان ذاهبا للعلاج بعد اصابته بإحدى المعارك قرب جبل روست؛ فصلٌ عن الفتاة الجميلة التي جُدع انفها وقُطعت اذنها ليلة عرسها ومن ثم ربطها إلى عمودٍ لتموت وسط الثلوج، اختزل فيها المؤلف الكثير من العلاقات الاجتماعية في البيئة الكردية؛ الضيافة والطعام والحب والرقص والزواج وقيم الشرف. والفصل الآخر تحدث عن المعتوه الذي زوجوه الاخت التؤم للفتاة "المجمدة" تحدث فيه عن قسوة العلاقات العاطفية وعن نذالة السياسي "أبو جقارة" في ابتزازه للعوائل الفقيرة واعتدائه على الصبايا في بيئة محافظة.

احداث الرواية البطيئة تجري وسط سلاسل جبلية قاسية (يئست الغيوم من تسلقها) يتواجد بين أوديتها أسواق مليئة بالبضائع المهربة، يتبضع منها المثقف والفلاح والمهرب والمطلوب عشائريا والهارب من الجندية.. يتصافحون ويبتسمون ويساومون بعضهم البعض في خلطة من المشاعر المتناقضة بحضور الموت. من الحبكات الدالة على أزمة البطل "رحمن" تلك المرتبطة بظهور شخصية "سامان" الذكي واليائس، والهارب مع زوجته لا يدري إلى أين. سامان يتناول حياة الثوريين من الخارج، بمفاهيم إنسانيّة عامة، هي جزء من هذا الخليط الهارب من السلطة وحروبها. يرى زمن ثورات الشعوب قد ولى، وانه، حتى لو حدثت الثورة فأنها ستغير حاكم بحاكم آخر أكثر قسوة، وبالتالي لن يتغير شيء. شخصية سامان لا تتفاعل مع الاحداث الجارية في الجبل، لكنها تنمو مع تدهورها وتأزمها. والملفت ان المناضل الثوري "رحمن" يقف اعزلا امام المنطق اليائس لسامان، ويراه محقا بكلامه. إنّ التناقضات وحالات اليأس التي يعيشها "رحمن" هي جزء من نسيجه كمقاتل ومثقف، عاش اعوام في الجبل لم تمر كما أراد لها ان تمر، ولذلك نجده تارة يحمّل القادة "الشيوخ" وزر معاناته، وتارة أخرى يحمّل القيم الاجتماعيّة البالية ذلك الوزر، وثالثة يحمّل الديكتاتور، ورابعة يبحر بالثورة وما تتركه من امتهان لكرامة الإنسان. إنّ النهاية المأساوية التي وصل إليها البطل "الانتحار" تعكس شخصيته المضطربة؛ فهو (رحمن) مقاتل له تجارب سابقة مع المنظمات الفلسطينية، وفي ذات الوقت هو كتوم وحزين ومنغلق. يعاني خسارة الحلم وفقد الأحبة، إلى جانب ذكريات مريرة في سجون الديكتاتور، الأمر الذي يشير إلى ان مشكلته ليست فقط بالجبل..

4577 كريم كظافة

"حصار العنكبوت"

ما حدث أعمق مما أروي

رواية "حصار العنكبوت، كريم كطافة، 366 صفحة، دار نون الأردنية ـــ 2014" رواية معاناة من بدايتها وحتى نهايتها، مسرحها جبل كَارا" الرهيب. وثّقت لواقعة كبيرة دخلت التاريخ باسم عملية "الانفال" التي تعتبرها المؤسسات الدوليّة واحدة من اسوء عمليات الإبادة الجماعيّة التي تعرض لها الشعب الكردي. والمؤلف من عتبة الإهداء يضعنا في دوامة المعاناة بقوله (عشرون سنة وانا كالشاة المشدوهة امام رزمة أوراق قديمة، كتبتها حين كانت الاحداث لم تزل طازجة يتصاعد بخارها من اجسادنا).

تبدأ الرواية بخبر انتهاء الحرب العراقيّة\الإيرانيّة، ومن ثم توجه الجيش العراقيّ للداخل لغرض اجتثاث القوى السياسيّة المعارضة في الجبال، والتي طالما اعتبرها الديكتاتور سكينا في خاصرته. وأمام هذا التطور الصادم يحار المقاتلون بردود أفعالهم، وما هي الخطوة القادمة؟ فبنادقهم القديمة لا تفيد كثيرا في مواجهة طائرات الجيش وعرباته المصفحة، الأمر الذي جعلهم يقلّبون الأسئلة فيما بينهم دون جواب، تجرأ أحدهم سؤال البغل المربوط قرب غرفة نومهم عند سفح الجبل (.. انت شنو رأيك؟) وتأويل همهمة البغل على انها حياد حيوانيّ. هكذا يبدأ المؤلف تصويره لخوف يتصاعد بمرور الساعات وبتكاثر الفلاحين الذين أُحرقت قراهم، وتجمعوا قرب قواعد الأنصار هربا من جحافل الجيش. سلط فيها الضوء على الاطفال والنساء والشيوخ الذين شكّلوا عبئا على حركة المقاتلين ودورهم بالجبال، وأدى إلى تحولهم ادلاء وبقالين، مهمتهم حماية النازحين وتوفير وسائل نقل الطعام لهم، وهي ليست من مهماتهم. وهو ما دفع أحد القادة الميدانيّين للقول (آني احتاج بغال، وليس رفاق صــ129).

"حصار العنكبوت" تجربة حيّة لعشرات الآلاف من الفلاحين المحاصرين في ظلمة الجبال، وهم يبحثون عن طعام ومكان ينامون فيه. حصارٌ كان سيضاف إلى قائمة الحصارات التي اشتهرت بها شعوب أخرى، لكنه أُغفل بتواطؤ من الجميع. السرد تناول تفاصيل نزوح جماعيّ غير منظم لمجموعات هاربة باتجاه القمم الجبليّة، وأخرى نازلة من تلك القمم، في مشهد رعب يعكس حالة المحاصرين. في هذه الفوضى تجمّد دور المقاتلين، وخلا السرد من البطولات والافكار والاحلام والموضوعات المثيرة، وحل محلها البحث عن الطرق العملية لإنقاذ الجموع المضطربة من هول الصدمة. إنّ الهروب الجماعي من قسوة النظام واسلحته الفتاكة هو المتن الذي يجمع حكايات ومخاوف القرويين من اصقاع مختلفة، كل ذلك حدّده المؤلف بزمن واقعيّ متسلسل بأيام وساعات، وبأمكنة واقعية وشخوص من لحم ودم. مزج فيها المؤلف بين التوثيق والسرد الروائي لرسم المشهد، مرد ذلك التداخل بين الهم السيرذاتي والهم الروائي، الذي طبع أغلب كتابات مَنْ عاشوا تلك الاحداث وكتبوا عنها. نلمس ذلك في بنية الاحداث وتشابكها وتسلسلها، وفي قلق المؤلف من هيمنة مخيلته على الاحداث الطازجة، فيتوقف المؤلف فجأة عن الاستطراد (موصيا نفسه وللمرة الألف أن يوثق، لا أن يتدخل في الاحداث، هدفي التوثيق وليس السرد صــ 249) ولكن يبدو ان الوصايا الألف لم تقلّل من كثافة السرد وتدفق اللغة وحضور المخيّلة، زيّن ذلك بلقطات سينمائيّة ومقاطع شعريّة وقصص حب عابرة ارتبطت ببناء المشهد الروائي.

الرواية متعددة الأصوات، لا وجود لبطلٍ واحد، رغم الحضور الواضح لـــ "حاتم". وفي نظرة تحليلية لطبيعة الشخوص سنجد ان حضور الذات الكاتبة ليس ضعيفا، وان المؤلف حاول التماهي مع "حاتم" الميّال للصمت وحب الأوراق والعودة للمكان الأول. المؤلف يروي بضمير الغائب إلا انه يكون مكشوفا أحيانا، وهذا ليس ضعفا فنيّا. فالتأثير السيّري على هذا النوع من الكتابة، ذكر أسماء وحوادث معروفة، هو الذي يجر الكاتب لبقعة الضوء. في قسم الرواية الأول اشتغل المؤلف بدأبٍ على رسم شخوصه في عزلتهم الجبليّة، وصفهم جسديّا وفكريّا وعاطفيّا. وفي القسم الآخر، عندما حاصرهم الجيش وبدأت الجموع بالنزوح هاربة صوب الحدود، حمل المؤلف كاميرته إلى تلة ليصور برؤية بانورامية عامة ملامح شخوصه؛ خدود ناشفة وعيون غائرة وخطى بطيئة لشيوخ ونساء حوامل وأطفال رضع. تتضح اللغة التسجيليّة أكثر في توثيق حركة النازحين ساعة بساعة ويوم بيوم، في أمكنة موحشة، تعكس معرفة المؤلف التفصيلية بالوديان والينابيع. إنّ من خصائص الواقعة الكبيرة احتضانها لكثير من الحوادث الصغيرة، التي تنفتح على أمكنة تعكس طبيعة التجمعات القبليّة والقروية للمحاصرين عند جبل "كَارا" كل مجموعة تبحث عن خيمتها، سفحها، شجرتها التي ستنام في ظلها. إنّ تجمّع آلاف العوائل وهم يجرجرون أطفالهم ومعاناتهم خلفهم من سفح إلى آخر، افسح المجال لظهور شخصيات وقصص فرعية تتقاطع وتلتقي في مكان ضيق ومحاصر. قصص حب ومرض وخوف واختفاء تدور حوّل كيفية الهروب من قطعات الجيش العراقيّ باتجاه الحدود التركية. السرد هنا لا يبني علاقات مسهبة بين الشخوص الذين قدموا بالآلاف من قرى مختلف، ومد بدلا عن ذلك خيوط علاقات عامة بين قرويين تتسم حياتهم بالألفة والبساطة والعمق، كان فيها للتكافل الاجتماعيّ دوره في استمرار الحياة. هنا تبدو حبكة الفلاح الذي جلب معه بقرته العزيزة على قلبه، بعد ان هرب من قريته وترك خلفه كل شيء يحترق، من الحبكات التي تجسد حال التكافل بين المحاصرين بالجبل. فعندما جاع المحاصرون قدّم بقرته للذبح، ثم هام المسكين على وجهه في الجبل، لا يستطيع رؤية دمّها وتذوق لحمها. وكل ذلك يمضي بلغة متدفقة وحيوية تصنع البسمة على وجه القارئ. ففي هذا الجمع الهائل، حين تركض عقارب الساعة دون حل يلوح في الأفق، سيكون من الطبيعي ظهور حوادث مضحكة\مؤلمة مصدرها قسوة الطبيعة، او سذاجة القروي، أو حصار الجيوش، او تفاهة المسؤول السياسي. يكون فيها الضحك متعدد الاستعمالات، ينفع للفرح وللحزن وللرفض وللسخرية من الذات.

تراجيديا "حصار العنكبوت" تنتهي مفتوحة الضفاف، بعد حصار دام فيها أيام. يُقتل فيها الكثير من الأنصار، وتضيع أخبار آخرين بحثا عن منافذ للنجاة، في حين يفضّل الناجون منهم بدء مرحلة جديدة من القتال (أكيد من سيقود المحاولة الجديدة غير هذه القيادة التي فشلت وانتهى أمرها... سيكونون هم والجبل وبنادقهم صــ 366) أما العوائل فقد امتثلت للأمر الواقع، وذهبت مستسلمة باتجاه القطعات العسكريّة الحكوميّة. هنا تنتهي الرواية، مع ملاحظة أخيرة من المؤلف تقول (حتى وقت كتابة هذه الشهادة، ورغم الحفريات الكثيرة التي نبشت في خارطة الدفن الجماعي بعد احتلال البلد في نيسان 2003 وسقوط النظام إلا ان أحدا لم يعثر بعد على رفاة تلك العوائل، وما زالت رفاتهم مجهولة صــ 367).

***

"في باطن الجحيم"

نشيد عزاء لضحايا الأسلحة الكيمياوية

للروائي سلام إبراهيم رواية تسجيليّة واحدة عن تجربة الأنصار الشيوعيّين (في باطن الجحيم ـــ مجلة الكلمة ـــ العدد 48 أبريل .2011 وصدرت لاحقاً ورقياً عن وزارة الثقافة العراقية 2013 بـ 320 صفحة)  تناول فيها تعرضه، هو ورفاقه، للأسلحة المحرمة دوليّا، وما تبعه من أنفال وتهجير. ولكن "إبراهيم" يُعد الأكثر تناولا لتجربة الانصار من بين أقرانه الآخرين، بسبب اعتماده سيرته الذاتيّة موضوعا لرواياته، والتي تُعتبر سجلا مهما لعنف الصراع بالعراق، في النصف الثاني من القرن الفائت.

تبدأ الرواية بمفارقة لا تحدث كثيرا في بلداننا؛ جلوس الضحيّة على كرسيّ في منفاه يتناول قهوة الصباح أمام شاشة التلفاز يشاهد بفرح، دهشة الجلاد في قفص الاتهام. ومع تكرار الجلوس قدام شاشة التلفاز تتبيّن لنا صورة البطل، وما كابده خلال عقود في مواجهة سلطة تتغذى على الخوف والقتل. المؤلف لم يقتنص لحظة ظهور الديكتاتور ليعيد تدويرها واللعب فيها، فهو عرف سجون الديكتاتور وحروبه وسمومه التي اعطبت رئته، إلا ان الكتابة هنا بدتْ اشبه بردةِ فعلٍ تلقائيّة لضحيّة يرى جلاده ذليلا. في الواقع هذه اللحظة التاريخيّة افسحت المجال لكثير من الضحايا ان يعودوا بذاكرتهم إلى جزء من تاريخهم المؤلم، وأن يتذكّروا رفاقهم الذين رحلوا، دون ان يروا ذل الديكتاتور وهو يعبث بلحيته في قفص الاتهام. يوهمنا مدخل الرواية بأن الضربة الكيمياوية التي تعرض لها المؤلف ورفاقه هي كلّ الموضوع، ولكننا سرعان ما نعرف ان تلك الجريمة البشعة ليس سوى جوّلة من جولات العنف التي حوّلت حياة أجيال إلى جحيم. المؤلف تناول في روايته ثلاثة وقائع؛ الأولى مع محقق الدولة الدنمركي عن الضربة الكيمياوية (عندما أدخلني الديكتاتور في الجحيم) والثانية عن واقعة الغازات السامة وعملية الأنفال (عندما أدخل الديكتاتور رفاقي في الجنون) والثالثة عن التشرد بالمنافي. إضافة إلى الكثير من حوادث السجون وجبهات الحرب العراقيّة الإيرانية، كان المؤلف قد مر عليها سريعا على أمل العودة إليها في مكان آخر. 

إنّ ملمحا مهما من فصول الرواية الثلاث يقوم على حقيقة ان حوادثها وقعت على الأرض، وأن بعضا من شهودها ما زالوا أحياء. وهو ما حيّد المخيّلة وقلّل من مساحة التلاعب بالتفاصيل الصغيرة للحوادث، ووضع المؤلف في منطقة التوثيق المحكومة بتسلسل الحوادث وإيقاع السرد. أردنا القول ان الكتابات التسجيليّة لا تنفق على الدوام جهدا في التزيين وفي نقل الحوادث من الواقع للمتخيل، فبعض الحوادث لا تحتمل التجريد واللعب عند التوثيق، ولا يمكن إخراجها عن سياقها دون ان يترك ذلك أثرا. المؤلف حتى حين يذهب لتدعيم شهادته بوثائق ورسائل محكمة العدل الدوليّة، وبشهادات أهالي الضحايا المفقودين "صباح كنجي" وبشهادة الجندي "يحيى غازي رمضان" الذي كان على الجهة الأخرى يقاتل في صفوف الجيش العراقي، حيث رأي بعينيه ما حدث للمدنيين، قبل ان يختفوا إلى الأبد في المقابر الجماعيّة. المؤلف حتى حين يذهب لتدعيم شهادته، ويتلاعب بالزمن، نجده ممسكا بخيط السرد امام شاشة التلفاز، تارة يغني للديكتاتور: اه يا أسمر اللون. وتارة أخرى يكتب شعرا له: ننصت أنا والطاغية.. هو في دهشة وامتعاض.. وأنا في نشوة وطرب. وفي تكرار جلسات المحاكمة على شاشة التلفاز تستعيد ذاكرة الراوي أسماء الاصدقاء والاخوة والاقرباء الذين غابوا دون قبور، تستعيد أعوام التعذيب في سجون الديكتاتور ورعب الموت في جبهات الحرب العراقيّة الإيرانيّة، ثم يجمعها بخبرة السارد، لمقاربة آلام الحريق المشتعل في جسده جراء الضربة الكيمياوية. فلقد باتت المعاناة مفصلا في وجود المؤلف وذكرياته وكتاباته اللاحقة، ونجده في رواياته ونشاطاته الإعلامية دائما ما يخبرنا عن الظروف والأسباب التي دفعته للكتابة بعد تعرضه للإصابة بالسلاح الكيمياوي ويقول (لو كُتِبَ لي النجاة من هذه المحنة، فسوف أجهر بحقيقة حواسي في التجربة دون أي رادع فكري أو أخلاقي أو اجتماعي أو قيمي. صــ22)

ما يميز رواية (في باطن الجحيم) هو انها جاءت على لسان واحد، يروي بضمير المتكلم أحداثا سامة، يغمض فيها القارئ عينيه مرارا من قسوتها ومن بطء زمنها الذي تساوي دهرا كل ثانية فيه. فالزمن الذي يشعر به المصابون بالأسلحة الكيمياوية هو زمن داخلي احتفظت به ذاكراتهم واجسادهم المحروقة. نلمسه في ركض الراوي المعطوب الرئة بين النيران وهو يصف جثثا مكدسة وقرى مخربة وطائرات محلقة، ثم يتسع المشهد على حيوانات نافقة وامرأة حامل مات طفلها في بطنها، وفجأة يقطع علينا السرد ليقول (فالذي أسرده عليكم الآن جرى بدقائق معدودة. صــ12) وتساوقا مع ذلك لم يشغلنا المؤلف بزخرفات اللغة وصنع المشاهد الساخنة، وأدخلنا منذ سطوره الأولى إلى حوادث رعب خانقة. بدتْ فيها متعة القراءة مشدودة وضيقة، بالقياس إلى كمية الألم والمعلومات الصادمة عما تتركه الغازات السامة من أثر على جسد وعقل الإنسان. إنّ استخدام المؤلف لغة في متناول القارئ يعود لطبيعة الحوادث الواقعية من جهة، ومن جهة أخرى معرفة المؤلف المسبقة بعمق وغرابة ما يروي. ونجده من الطبيعي، في هذا النوع من الكتابات، ان تسقط اللغة بالمباشرة والتكرار والصراخ أحيانا (ليسمع من كان في المراكز العليا من بطانة الدكتاتور، ممن يقول في المحكمة بأنه لا يعلم ما يجري حوله، وخصوصا وزير الدفاع سلطان هاشم، الذي صور نفسه حملاً وديعاً، وهو المكلف بقيادة حملة الأنفال، صــ 60) إنّ الروايات التي توقفنا عندها ينبغي وضعها في سياقٍ تاريخيّ كان فيه العراق يخوض حروبا خارجيّة وداخليّة مستمرة، عمّت تأثيراتها البيوت والشوارع والمقاهي، ثم تسربت للأدب؛ وبالتالي لا يعيب  هذه الروايات اجواء القتال والدماء والغازات السامة، مثلما لا يعيبها البكاء والصراخ بصمت، أو حتى بصوتٍ عال.

احداث رواية (في باطن الجحيم) خالية تماما من الغموض. ابطالها قليلون، مشخصون بأسمائهم وبأساليب عيشهم وطرق موتهم. يستعيدهم الراوي من الماضي لتدعيم شهادته عن الغازات السامة والرئات المعطوبة. أغلب شخوص الرواية جاؤوا من خلفيات عمالية وطلابية، تارة يقدمهم المؤلف ضحايا لسلاح فتاك لا يستطيعون مواجهته، وتارة أخرى يقدمهم ابطالا في مواجهة الموت، لا يتخلون عن قيّمهم وعلاقاتهم الرفاقية حتى النفس الأخير (أمام غرفة الطبابة جلس الشهيد أبو رزكار متربعاً على الأرض واضعاً رأس أبو فؤاد في حضنه، ومنحنياً عليه، يهمس بشيء ما، كأمٍ تحنو على وليدها.. وقسمات أبو فؤاد بدأت تسّود شيئاً فشيئاً وكأنها حرقت بفرن صــ 10). المؤلف رسم سيّرا مختصرة لشخوصٍ يستمدون قوتهم من الجبل ومن قناعاتهم الفكريّة، واشار إلى بطولاتهم في مواجهة الموت دون تطبيل سياسيّ. فقد رسم لــ "أبو فؤاد" سيرة رائعة؛ تبيّن جهوده في استقبال الملتحقين الجدد، طيبة عائلته التي ستضيع في المقابر الجماعية إلى الأبد، حادثة تسميمه المدبر من قبل عملاء السلطة، ذهابه للعلاج في إيران، وصولا إلى تفحم جسده وموته في الضربة الكيمياوية. هذه السيّر المختصرة غالبا ما ترتبط بأحداث فرعية وأسماء مستعارة لأفراد ما زالوا أحياء، وأخرى صريحة، كما نجده مع حادثة (جابر هادي هيجل صــ13) الذي قُطعت ساقه في احدى المعارك، سقوطه من البغل، انشغال الآخرين بطفلته الصغيرة. في خضم هذا الكابوس الخانق نتعرف على الشخصية الأكثر حضورا في الرواية، زوجة المؤلف "بهار_ ناهدة جابر جاسم" التي ملأت حياته بالدفء والأمل. نتعرف على دورها بعد الضربة الكيمياوية؛ كيف اعانته وذكّرته بمواقف الرجال، وكيف صارت دليله بعد ان افقدته الغازات الكيمياوية بصره. المؤلف نجح في ابراز دور المرأة، وحاول تسخين المناطق العاطفيّة، إلا ان الخراب والموت والاجساد المحترقة التي خيّمت على السرد حالت دون ذلك. ينبغي الإشارة هنا إلى ان المؤلف في ملاحقته للأحداث، متنقلا بين الماضي والحاضر، يتوقف ناقما على دور النشر التي لم توافق على طبع روايته، يتوقف عند دعاء أمه على الطاغية، عند أصدقائه الشعراء.. توقفات وتعقيبات تأتي سريعة، ترتبط بالشخوص والاحداث تارة، وتارة أخرى بلا سبب فني.

 لا نبالغ بالقول ان "الروايات التي تناولت بيئة الثوار في الجبل وثّقت لضحايا الأسلحة المحرمة دوليّا أكثر مما فعل المدون السياسي الذي عاش التجربة نفسها، أما المؤرخ فهو ما زال مشغولا بجمع أدواته عن حوادث وقعت خلف الجبال. الروائيون وثّقوا رؤيتهم عن احداثٍ عاشوها، رصد كل منهم زاوية منها. في سطور سابقة كنّا قد تحدثنا عن رواية (حصار العنكبوت ــ كريم كطافة) التي تناول فيها واقعة الانفال، وفي رواية "في باطن الجحيم" كذلك تناول سلام إبراهيم واقعة الانفال، لكنها بدتْ مختلفة في أكثر من موقع. فهذه الأخيرة رواية تسجيليّة، تناولت عدة وقائع، في فترات مختلفة من سيرة المؤلف. من جهة أخرى ظهرت هذه الاحداث في روايات عدة لسلام إبراهيم، ولكن بأسلوب مختلف، ومضامين لم تكن معنية فقط بالأسلحة الكيمياوية، وانشغلت بمعاناة الإنسان وبخيانة رفاق السلاح وبانسداد الأفق الذي عايشه في تنقلاته بين السجون والجبال والمنافي. روايات سلام إبراهيم الأخرى تناولت حياة الأنصار الشيوعيّين بالجبل، لكنها توقفت طويلا عند الجانب الهش في حياتهم، وخلت صفحاتها من المداراة والتفاؤل، فإصحاب القضايا الحقيقية لا يعيشون على الدوام حالات رضا وتفاؤل، خصوصا عندما يغيب المستقبل وتنقص نسبة الاوكسجين بالهواء.

هذا هو النسيان أن تتذكر الماضي ولما تتذكر الحكاية

***

نصير عواد

 

سوف أنطلق من تأثيثِ خطابٍ نقدي بخلقٍ بونٍ شاسعٍ مع مفهوم النتائج المعيارية (سيء رديء جيد) وأتحدث من زاوية منظورها العلائقي عن عرض مسرحية (ليلة ال (للمخرج (محسن حيدر) ومن تأليف الفنان (عمار سيف) خارج هيمنة (التقنين وألتسيس) التي انطلقت من عتبةِ عنونة المهرجان. نعم من المحلية نصل إلى العالمية، نعم واحدة من غاياتنا كمسرحيين تصدير ثقافتنا لا سيما الأطرس الدينية، هذه الفوارز الفارقة المحملة بالقيم الفكرية والجمالية لا بد من الالتفات لها لتأكيد الهوية بتعابر الثقافات، وهنا يتبادر في ذهني سؤال هو (كيفية؟) و(ما مدى اتساع الخطاب المسرح الحسيني؟) هذا السؤال لم نجد له اجابة وافية منذ عقوده متنافرة مروا بتمرحلات التاريخ، ربما أجد أن فكرة النص الاصل (ليلة التغسيل) كانت تحاكي القضية الحسينية ولكن بشكل مغاير (التعرية/ كشف المستور) اذ نجد ان هنالك كماً هائلاً من المحاولات التي اهتمت بتأصيل وتطريز شكل الثقافة الدينية والطقوسية لا سيما (القضية الحسينية)، ومحاولة تقنين التاريخ من دون التفكير بمفهومي (الجذر والأصل / الكل الجزء)، إذ هل يمكننا أن نفرق بين (المسرح، والقضية الحسينية)؟ كون المسرح هو (لعب / تمثيل) والدين بشكل عام هو (الامتثال)، وهنا نقع في إشكالية الوصف والتجريب، نعم هنالك مساهمات واضحة تناغمت مع القضية الدينية (الحسينية) لكن لا بد لنا ان لا نترك السمت الجمالي للمسرح، اذ ما هي السبل التي يجب ان نعتمدها في تأكد هذه الهوية (الدينية، الحسينية)؟، من خلال عدم صهر الافاق الثقافية بعيداً عن المنظومات السسيوثقافية الكبرى؟ ام من خلال التعامل مع القضية من جانب انساني عالمي بعيداً عن الكلائشيات؟. اذ ان هنالك فواصل كثيرة انا اجزم بان الاعم الاغلب لم ينظر اليها من زاوية جمالية لطرح الأسئلة المهجورة الساكنة كما طرحها(عمار سيف) بخجل وتحفظ عن الكثير من الامور التي تسمح له بطرحها لما للنص من بعد فكري وفلسفي يتحمل المزيد، وهذا ما جعل (عمار) يخرج عن هيمنة (الكلائشية)، اذ دائما ما نحبو صوب خطابات ذات اجوبة تعطل عقل المتلقي المتعطش للاثنوغرافيا والانثروبولوجيا والايقونولوجيا وتوظيف المحنة الاجتماعية وتحريك الساكن، ومن هذا المنبر الثقافي اوجه سؤالي ولكل القائمين على المهرجانات الحسينية (هل ان العرض  المسرحي الذي يناول القضية الدينية (الحسينة) بشكل واقعي او تجريبي لا يمكن ان يقدم في المهرجانات المسرحية الاخرى ام أنه مقتصر فقط لمثل هكذا مهرجانات تندرج تحت شعارات القضية الحسيني؟)، وهنا ندخل بقوقعة (التقنين، التسيس، البقاء في المحلية).

فما طرحه (عمار) في بنية النص الادبي اكد مفهوم الابسملوجي الفيلسوف (بشلار) في أن الموت ليس نهاية المطاف في حياة الفرد بل هو مرتبط بالوجود الزمني للانسان . فنحن نموت ونحيا في الزمن لان الزمن لحظات معلقة بين عدمين (الماضي والمستقبل) فتحديد الزمن يفترض الموت لان الزمن لا يستطيع ان ينقل كينونته من لحظة الى اخرى لكي يكون في ذلك ديمومة. فالموت ليس الطريقة الى التحرير من الزمن  بل هو عنصر محايث للزمن ذاته، وهذا ما خلدته القضية الحسينية وبنيت ثيمة النص عليه، الا أن المخرج (محسن علي) قد خانت التعبير في التعامل وبإسراف مع (سر الحياة / الماء) اذ ناغا (محسن) بلغة بصرية مفهوم اقصاء القضية الحسينية لكنه اخفق في هذه الصورة فكريا من خلال اشراك (الشمر) في هذا الاقصاء وكأنه امتزج فكريا مع المجسدين الاخرين (حيدر عنوز وعلي الجشعمي) واستخدامهم للماء في الاقصاء.

وبهذا ندخل الى نص العرض، ونحن والجميع يعلم أن (بوبوف) اكد على مفهوم التكاملية، وهذا ما لم اجده في هذا العرض، فما للمشهد الاستهلالي الا كم هائل من التنميط وعدم الدراية بتكاملية الموسيقى مع المؤدين وباقي عناصر العرض الاخرى، مشهد متشابك بين موسيقى واخرى بلا مبرر وبلا دراية واحساس من قبل الممثلين في التعامل حتى معا لغة الجسد، حسنن عمل المخرج الشاب في توظيفه للقطعة الديكورية كاهم علامة في هذا العرض لتعدد استخداماتها (مسطبة/ دكة تغسيل الموتى/ منبر ديني/ نافورة ماء) لكنها بقت ساكنة من دون روح او مهيمنة على جميع عناصر العرض الاخرى حتى على الممثلين، التكاملية التي وردت في سياق الورقة تشمل الممثل وتكاملية ادائه، اذ لا يمكن للمثل ان يصل ذروة الجمال ما لم ينسجم مع فضاء العرض يتحسس هواء القاعة ويتنفس ظلمت المكان ويبصر ذاته وذات الشخصية، فما الجسد الا لعنة ما لم تعي تفاصيله وتدرك تعويذته لا تقنع الاخر وهنا وقع المخرج في شباك هذه اللغة ودخل في عتمت القبح وسذاجة الطرح لا سيما مشهد الاستهلال ومشهد تغسيل الرجل، فما طرحه العرض المسرحي من شخصيات ابتعدت فكريا مع ما يطرحه النص الادبي، شخصيتين متناقضتين قدمها لنا العرض ليس بظاهرهما بل بالمحمول الفكري الباطن، فما الرجل السكير الا محب لآل البيت عكس رجل الدين المرابي الذي استلهم من الرجل السكير قيمة القضية الحسينية، هاتين الشخصيتين الغت فكرة الخطابات المحايدة المهيمنة في العروض الحسينية، لكن رغم هذه الحسنة الا ان العرض افتقد الى الحيوية على الرغم مغادرة مركزية الواقعة وهذا الاهم لكن المخرج ادخلنا في قعرها اذ كان بالإمكان خلق بؤر اخرى للصراع واستحداث مساحة انشائية للممثلين للخروج من شباك السطحية وهيمنت التشتت على الرؤية الجمالية.

على سبيل الاقتراح بعيدا عن التنظير كان من الافضل أن يعمد المخرج إلى تغييب القصائد والردات رغم ما تم تناوله من موضوعة تحسب للمخرج باختياره هكذا نص يحاول إيصال القضية عالميا بعيدا عن اللغة الجامدة، نعم هنالك انفتاح إلى اللغة الصورية هنالك همساً إخراجي

امامنا تجربة شبابية لا يمكن نكرانها او محوها

الملاحظات لا تثقل من جودة العرض المسرحي الا اني حاولت أن أمنح العرض المسرحي قراءة نقدية عن عرض قدمه لنا مخرج واعد عرفته ممثلا بصوته الراكز.

***

يوسف السياف

عام 1963

تدنو منه أمه في الغرفة الجديدة، ماذا تفعل هنا؟ أقرأ، يقول لها، ماذا تقرأ؟ تسأله، يرسل نظرة صامتة إليها، ويتابع القراءة. تسأله أمه وهي مولّية ألا تريد أن تتناول الطعام؟ بعد قليل يا أمي، بعد قليل.

تنصرف أمه، يواصل القراءة في كتاب " الأم" يطوي الصفحة تلو الصفحة، يتوقّف عند بعض الكلمات يعيد قراءتها لا سيما تلك التي تتحدث عن صمود الأم وثباتها على أرض لا تميد، أم مكسيم جوركي تشبه أمه من العديد من الجوانب، الاثنتان مناضلتان في هذه الحياة، الفرق بينهما أن المجال اتسع أمام أم جوركي وضاق أمام أمه، أمه جاءت مع أبيه وأخويه الأكبرين من قرية سيرين بعد أن طردهم منها اليهود، كم من مرة حكت له عن كفاحها من أجل أن تحافظ على ما تبقى من الحياة.

يواصل القراءة، كم هو معجب بما يقرؤه، يشعر بقدمي أمه تدبان بين الغرفتين، يفتعل عدم رؤيته لها، تدنو منه تضع يدها على رأسه بحنو لا حدود له، ألا تريد أن تتناول الطعام يا ولدي؟ بعد قليل يا أمي، بعد قليل. الساعة متأخرة يا ولدي أخشى أن أنام دون أن أضع لك الطعام، لا تخافي يا أمي لا تخافي، بعد قليل أعدك أن أفرغ من القراءة، وأن آتي إليك.

يبقى وحده في الغرفة لا يشعر إلا بحركة الحياة تنبعث من الكتاب بين يديه، المقارنات تتواصل، الناس عند جوركي يقاومون الظلم، الناس حوله مستسلمون له، لا حول بيدهم ولا قوة، أبوه يعمل بعيدًا عن البيت وأمه تحاول أن تسد الغيبة، أحيانًا تعمل في أراضي اليهود، اليهود أخذوا البلد وأخذوا معها راحة البال، لم يخلّفوا وراءهم سوى الشقاء.

الليل يمضي متقدمًا دون أن يشعر بأنه في ليل، الكائنات في كل مكان صامتة إلا هو هناك في غرفته هو يقرأ الصفحة تلو الصفحة، حالمًا بامتلاك عالم ما يقرؤه.

يواصل القراءة. تهل تباشير الفجر، تستيقظ أمه من نومها، يشعر من حركتها تدب في ساحة البيت، تدنو منه مرة أخرى، أما زلت تقرأ منذ مساء أمس؟ لماذا تفعل هذا كله؟ أريد أن أكون كاتبًا، يرد عليها بشمم، أريد أن أكتب القصص عنكم وعن عذابكم مع الأيام. تنظر إليه أمه كمن لم يفهم، ماذا تقول ستكتب القصص؟

عام 1968

يكتب قصته الحقيقية الأولى، قبلها كتب الكثير من القصص، ما إن كتب تلك القصة حتى شعر أنه وضع قدمه على بداية الطريق، ليس مُهمًا ما يقوله آخرون، المهم ما نقوله نحن عن أنفسنا، هو شعر بنفسه أصبح كاتبًا، أخيرًا تمكن من الكتابة عن أمه ومدينته، بل عن حبيبته المتخيّلة، لكن ماذا عليه أن يفعل كي يتأكد من أنه أصبح كاتبًا؟ الكثيرون من أصدقائه القلائل آمنوا به قالوا له أنك كاتب بالفطرة، قرؤوا كتاباته بانبهار، أنت مولود لتكون كاتبًا، هو يعرف أنه أصبح كاتبًا لكن كيف يتأكد؟ كيف يعرف أن ما يسمعه من أصدقائه لا يعدو كونه شفقة ورأفة بولد مهجّر ابن مهجّر؟

ظل يفكر إلى أن توصل إلى تحد ليس سهلًا، ما لبث أن بادر إلى خوضه، فإما يكون أو لا يكون، إما أن يواجه فشله وإما أن يضع قدمه في خطوتها الأولى على طريق المجد (كان متأثرًا فعلا بكتاب" طريق المجد للشباب لسلامة موسى).

طوى القصة عدة طيات وضعها في مغلف اشتراه من المكتبة خصيصًا، كتب عليه عنوان مجلة" الجديد" المجلة الأهم في بلاده تلك الفترة، وأودعها صندوق البريد الأحمر القريب جدًا من بناية البريد في الناصرة، أودعه هناك إبعادًا لأي سبب قد يحول دون وصول الرسالة إلى عنوانها.

في نهاية الشهر اشترى مجلته المقدسة، ليفاجأ بقصته منشورة فيها، حمل المجلة كأنما هو عرف أنه يمكنه أن يفعل شيئًا للمرة الأولى في حياته، وركض إلى بيته، كان فرحًا يريد أن يشارك الإنسان الأعز على قلبه فرحه بقصته.

اقترب من أمه احتضنها، لقد أصبحت كاتبًا، أصبحت كاتبًا يا أمي. أمه ترسل نظرة مستفسرة، ماذا تقول؟ أصبحت كاتبًا؟ يعني ستكتب الرسائل لمن لا يعرف كتابتها ستعمل قبالة المسكوبية؟ كلا يا أمي، انتظري ها هي أهم مجلة في البلاد نشرت واحدة من قصصي. ماذا يعني هذا يا ولدي أنا لا افهم عليك، هذا يعني أنني أصبحت كاتبًا يا أمي، سأملأ الدنيا قصصًا عنكم وعما ذقتموه من عذاب. لا أفهم لا أفهم يا ولدي، على كل حال " على الله يطلع من بيت هالمطبلين مزمر"، سأزمر يا أمي سأزمر، سأكون كاتبًا، سأكتب أجمل القصص.

عام2006

تأتيه أمه في منامه، تقترب منه، هو ما زال يقرأ الكتاب تلو الكتاب، أما زلت تقرأ الكتب يا ولدي؟ نعم يا أمي، الكُتّاب لا يتوقفون عن قراءة الكتب، إلا في واحد من أمرين حينما يرحلون من هذه الدنيا، أو حينما يفقدون أبصارهم، ويستدرك حتى حينما يفقدون أبصارهم فإنهم يبحثون عمن يقرأ لهم الكتب.

تتمعّن والدته في ملابسه، لماذا أراك تزداد فقرًا يا ولدي؟ لقد أصبحت كهلًا وبعد قليل تصبح رجلًا مُسنًا، وأنت كما أنت ما زلت فقيرًا، إلى متى ستبقى فقيرًا يا ولدي، ألا يفيدك أنك أصبحت كاتبًا؟ لست فقيرًا إلى هذا الحد يا أمي، ثم إنني لا أعرف ماذا يخبئ لي الغد، كم كنت أود لو أنك بقيت إلى جانبي في عالمي الفاني هذا لنقطف ثمرة أحببت أن نقطفها معًا. تتمعن أمه في ملابسه، لكن لماذا ترتدي هذه الملابس الرثة يا ولدي؟ يحاول أن يشرح لها أن يقول لها إن الإنسان الجميل يبدأ من الداخل إلى الخارج، وليس العكس، وإن من يبدؤون من الخارج إنما هم أناس تعساء، يشرح ويشرح ويشرح، إلى أن تستوقفه أمه بإشارة من يدها لا أفهم ما تقوله يا ولدي، أنت تعرف أنني أميّة لا اقرأ ولا اكتب، إلا أنني افهم أن الواحد منا نحن بني البشر إنما يحاول أن يحسّن حياته. أنا أحاول أن أحسن حياتي يا أمي، لا تقلقي، أرجوك لا تقلقي، طريق الكُتّاب كثيرًا ما تكون طويلة، أطول من أعمارهم، لهذا هم يعيشون أحيانا بعد رحيلهم، لا أفهم عليك يا ولدي، ما افهمه انك ينبغي أن تعيش حياة أفضل من هذه، وماذا تقترحين يا أمي؟ أقترح عليك أن تبحث عن عمل آخر يمكنك من أن ترتدي أفضل الملابس، لن ابحث يا أمي، قلت سأكون كاتبًا، يعني سأكون كاتبًا.. ولن أتنازل عن حلمي.

***

قصة: ناجي ظاهر

تقنية الإخراج الجمعوي:

بداهة ليست هنالك  وصفة جاهزة، لمنهج إخراجي معين؛ يمكن أن يتم تطبيقه بحذافيره، باعتبار أن الإخراج أساسا إبداع وخطاب بصري/ جمالي، وليس بمثابة معادلة رياضية أو تركيب كيماوي؛ لكن هنالك مبادئ أساس في عملية الإخراج لحظة التعامل مع توجه إخراجي (ما) لكن في حالة الإخراج الجماعي؛ فالمسالة جد مستعصية؛ نظرا لغياب شخص معين (مخرج) يستند على قدراته الذهنية  والتخيلية وتجاربه السالفة وموضعة خطط فنية وابداعية وفكرية في صناعة العرض المسرحي؛ باعتبارأن تنمية الرؤية الإخراجية عند المخرج تتطلب مجموعة أدوات تتيح له القدرة على صناعة العرض المسرحي . بحيث وإن كان هنالك شخص واحد هو المتحكم في العملية الإخراجية؛ جوانيا. فإنه ينصهر ضمن الجماعة برانيا، وذلك لتحقيق مفهوم الفعل الجمعوي؛ وتبديد سلطوية "المخرج" لكن الجمعيات التي انخرطت في عملية الإخراج الجمعوي؛ في الغالب انطلق أفرادها والذين كانوا يشكلون القاعدة التلامذية / الطلابية / أساتذة / من منظورين [السياسي/ الفني] ارتباطا بالتجارب التي لم تكن بمعْزل عما (كان) يقع في الساحة المسرحية العالمية، والتي رسختها الترجمة والتي: ترجمت أبرز أعمال كبار الكتاب والشعراء والفلاسفة الألمان إلى العربية؛ وفي مقدمة أولئك المترجمين يأتي غوتة وماركس ونيتشة وهيكل وبريخت...(1) وكذا بروز الفكر اليساري/ الاشتراكي في العالم العربي (وقتئذ) والمبشر بالحرية والعدالة الإجتماعية والتقدم، ليس في المغرب وحده بل في العديد من الأقطار العربية؛ باستثناء (الخليج) وهذا: في إطار الوعي بالتاريخ تأثر المثقفون والمفكرون بالأفكار الاشتراكية التي تدعو الأدباء إلى أن يضعوا أنفسهم ومواهبهم في خدمة المجتمع وهو ما سمى بالالتزام بمعنى أن يتحمل الأديب مسئوليته أمام المجتمع حتى لا يصبح الأدب والفن ترفا ينعم به الخواص ويدور في فراغ (2) مما أدى بالعَديد من المسرحيين/ المثقفين للبحث عن بدائل إبداعية وثقافية مواكبة للثورات الثقافية و الإجتماعية والاقتصادية، فلم يجدوا ضالتهم ومرتعهم إلا في مسرح بيسكاتور/ ستانسلافسكي/ مايرهولد/ برشت/...وخاصة هذا الأخير تم التركيز عليه بشدة مما: كانت فلسفة الدراما الملحمية وصنعتها كأسلوب مغاير؛ قد تركت ملامحها على مجمل النتاج المسرحي (نصاً وعرضاً) وفي ضوء حالة التجديد التي حققتها نظرية المسرح الملحمي، فقد أخذت تأثيرها على مسا رات المسرح العالمي والعربي (3) لإنجاز تصوراتهم الفنية المقرونة بالحماس والاندفاع عِند أغلبية شباب المسرح المغربي، بحكم أن بريشت :جعل مسرحه مدرسة للتنوير الفكري والعقلي، كما أن أحد أركان هذا التنوير الفكري هو الكفاح ضد الوعي الخاطئ وضد الإیدیولوجیة التي تستغلها السياسة. والتي تحدد مسار التاريخ لصالح البورجوازية (4) فمن هذا التصور النظري للمسرح الملحمي؛ الذي دخل حيز التجريب، انطلقت جملة من الجمعيات لتوظيف تقنية الإيهام/التغريب/ التكسير/ اللاندماج/ الارتجال/.../ وذلك من خلال إقامة شبه مختبر مسرحي فيما بينهم؛ لتفعيل تلك التقنيات ومحاولة تطويرها، عبر التدرب على العديد من عناصر العرض كتقنيات التمثيل والفنيات وأساليب الإخراج. انطلاقا من النص المسرحي المقترح. هنا الإشكالية تزيد تعقيدا؛ بحيث نجد العديد من النماذج التي جربت ومارست الإخراج الجمعوي. صيغتين هكذا = (تأليف: علال/ إخراج: جماعي) أو (تأليف وإخراج: جماعي)؟ ففي الصيغة الأولى :هل الذي ألف النص؛ هو مخرجه (عمليا) كما هو سائد في العديد من الأعمال؛ لكن تماشياً مع التيارات السياسية والأساليب الفنية ذات المنظور" الإشتراكي" يتنازل [المؤلف] للجماعة، وينصهر فيها لتصريف وتفعيل مفهوم " الإشتراكية "؟ أم بحكم أن المسرح عند بريشت، ليس خادما للمؤلف؟ أم إيمانا بعَدم قدرته على ممارسة الإخراج ؟ باعتبارأن الإخراج كيفما كانت نوعيته؛ فإنه يحتاج لضوابط تضبط إيقاع عمله وترسم حدوده الفنية /الجمالية، لتحقيق ماهية التلقي للفعل المسرحي، لكن بحكم المعايشة؛ فإن المسألة كانت رهينة؛بالمقام الأول: باختيار أبرز عضو في الجمعية أوأحسن ممثل له تأثير قوي في إدارة المجموعة وتسييرها. تسند له مهمة الإخراج (تنسيقيا) بالمجموعة؛ ليشغل أدواته الحسية والإبداعية لخلق مشاهد وصورة فنية / جمالية؛ تخدم تجربة الجمعية ابداعيا / سياسيا، وللقضاء على مفهوم النجم وسلطوية المخرج،علما أن العديد من أفراد الجمعية يتوفرون إما على موهبة، أوعلى مقومات لامحدودة من الأبتكاروالإبداع؛ وبالتالي يتأطر الإخراج في إطار" جمعوي" عمليا؛ ومن خلاله تتم ممارسة التسييس؛ والطموح لتحقيق رياح التغيير عبر المسرح كما بشر < بريشت >: كون مسرح بريخت مسرح تغيير ونضال يجعل منه أداة فعالة لمواجهة النفوذ الإمبريالي في العالم الثالث ومناهضة الاستعمار بأشكاله الإقتصادية والثقافية والسياسية (5) دونما إغفال ما طرحه المخرج اروين بيسكاتور/بيتر فايس/.../ في تقنيات ومفاهيم المسرح السياسي. على وجه التحديد، مِما تغذت الأجواء المسرحية بروافد جديدة . ارتباطا بالانفتاح الثقافي والإبداعي، على بلدان أوروبا الاشتراكية وتنوعت الثيمات والأشكال والصراعات والتجارب، بحيث تصدر الصراع الطبقي الأولوية، بوصفه عصب التحول الاشتراكي بكثير من اهتمام. وبالتالي فكان الفعل الجمعوي هو الأس في تلك الجمعيات؛ من هنا كانت الصيغة الثانية (تأليف وإخراج: جماعي) لها حضور قوي في المشهد المسرحي، فكان الارتجال/ التحاور/ النقاش/ من السمات الغالبة بين أفراد الجمعية؛ مما كان يستغرق العمل شهورا عدة. تجاه (فكرة) طارئة أو تم طرحها سلفا، وكثيرا ما كانت صياغة الإخراج تتعدل بين منسق ومنسق آخر. ومن هذا المنطلق نرى أن التغيرات في البنية المجتمعية والعلاقة المتبادلة بين الأفراد تؤثر على الإنتاج الفني بشكل عام. ولا غرابة بأن المسرح ألصق الفنون بالمجتمع؛ وحاضن  لروح الجماعة في بنيته . وتبدو ظاهرة الإخراج الجماعي أوضح ما تكون في هذا المضمار، لكن ليست كل الجمعيات مارست الإخراج الجماعي، لأسباب تتأطر فيما هُو سياسي صرف.

بين المشاهَدة والوثيقة:

كما أشرنا بأن الإخراج الجمعوي من الصعْب الإمساك به؛ لتحليل ميكنزماته ومدى المطابقة النسبية للاتجاه الإخراجي المعتمد عليه، نظرا أن الإخراج يرتبط بنسج خيوط الفرجة وعملية التمسرح؛ لكن انعدام التوثيق للحركة المسرحية في فعلها الجمعوي؛ يصبح تاريخا منسيا أو متناسيا، لما قام به بعض الشباب والفعاليات، باعتزاز دونما طمع في أي شيء . يعُوق البحث ومنهجية العمل؛ والتشكيك في بعض الإشارات الواردة هنا وهناك بحيث: والحال أن التزييف والتضليل الذي بدأ يطال الذاكرة الجماعية لتاريخ المغرب المستقل عموما، وتاريخ العمل الجمعوي خلال العقد الأخير من القرن الماضي، مع التكاثر العددي لمنظمات الشباب وتنوع تلاوينها؛ أوحى لأقلام متهافتة ومتجاهلة أوجاهلة بحقيقة الإرث الجماعي باستلهام الكتابة، في هَذا الشأن، بشكل تمخضت عنها صياغة تاريخ مشوه يلغي الحقائق ويعرض الأراجيف، ويهيل على منجزات الشباب (6) وخاصة الذين يتكلمون عن تاريخ الحركة المسرحية الهاوية ! يقفزون على ظاهِرة الإخراج الجمعوي، إما لجهلهم بها أوخوفا من ملامسة الواقع السياسي(السبعيني) بعلاقته بالمسرح؛ ولاسيما أن الظاهرة كانت انعكاسا موضوعيا لعناصر الحياة السياسية والابداعية والاجتماعية؛ للعَديد من التنظيمات السياسية ذات طابع يساري والتي كانت تشتغل في السر؛ لتحقيق رياح التغيير، حسب منطلقاتها. فاتخذت من المسرح واجهة نضالية لترسيخ مفهوم الصراع الطبقي؛ ومدخلا للاستقطاب الشبابي(آنذاك) ومن أهم المدن التي تمركز فيها الإخراج الجمعوي مراكش/ فاس/ الخميسات/ الدارالبيضاء/.../ لكن كما أشرنا؛ بأن المنطلق لتجربة الإخراج الجماعي ترتبط جدليا بالمسرح الملحمي وبالواقعية الاشتراكية؛ بعد [الهزيمة العربية  1967] نجد في مدينة وجدة ظهور الظاهرة من خلال نادي الكشفية الحسنية التابع مع لجمعية (سيدي بوبكر) والتي كانت تابعة لنقابة للاتحاد العام للشغالين ب: عمل مسرحي قصير بعنوان " بايزا" سنة1967 من تأليف ميري عزالدين واخراج جماعي (..) وفي سنة 1982 وقع سوء تفاهم بين أعضاء الجمعية بسبب انحياز بعْض أعضائها المطلق لحزب وطني كان من نتائجه ان تغير اسمها الى "جمعية الشعلة للمسرح والفن" بعْد ان انسحب منها ،بعض الأعضاء... واصل إبداعاته بإعْداد مسرحية " كوريولان" عن برتولد بريخت واخراج جماعي، في نفس السنة . وبفضل النجاح الذي لقيته انضم إلى الجمعَية؛ رواد آخرون من الشباب المتحمس وأغلبهم من الطلبة والتلاميذ (7) هنا يمكن أن نتساءل كيف اخترق الإخراج الجماعي الجمعية إلى نادي الكشفية؟ منطقيا أنه تسرب من الجزائر؛ بحكم الجولات التي كانت تقوم بها الجمعية هناك؛ علما أن الإخراج الثنائي والجمعوي مارسته أغلب الجمعيات المسرحية إبان الاستعمار وبعده؛ متبنية الواقعية الاشتراكية في أعمالها. فحتى المحترفين مارسوا الإخراج الجماعي نموذج مسرحية (المائدة) لعبد القادر علوله سنة 1972 .

إذن بحكم التقارب الحدودي؛ والتأثير والتأثر الإبداعي بين الأفراد، نجد جمعية برومثيوس  والطلائعي  للمسرح سنة 1976 يتعاملان مع الظاهرة: وكان العرض يحمل عنوان "الكراب والديمقراطية" وهو عمل جماعي ...والسنة الموالية قدمت الجمعية مسرحية " مأساة الأشباح الحية من تأليف ع العزيز بنيس وإخراج جماعي (8) والعجيب أن المسرح الأمازيغي؛ بمنطقة (الناضور) تبنى الظاهرة، ولكن بشكل محتشم؛ ومن خلال الأسطر التالية، يمكن للقارئ المفترض أن يستنتج بعض الخيوط المرتبطة بالإخراج الجماعي؛ في المنطقة بحيث تم تقديم: مسرحية (إیرحاگد أمیثناغ) [وصل ابننا] :عُرضت ھذه المسرحية سنة 1978 في میضار والعروي وزایو، وقدمت كذلك لصالح عمال مناجم الحَدید وعمال شركة السكة الحديدية " سیف ریف" بوكسان... من تأليف وإخراج جماعي، وقد أعِدت في إطارجمعیة " أھْل الدربالة". (...) ومسرحية (إیھواد أوكامپاوي غاپاساپورتي)[ذهب القروي إلى المدینة للحصول على جواز السفر] :عرضت سنة 1979 بقاعة العروض بمقر الاتحاد الاشتراكي و كذلك بسينما الریف بمدينة الناظور، من تأليف وإخراج جماعي. وقد تبنت جمعیة" زریاب للموسيقى والمسرح" (9) لكن الظاهرة تشعشعت وتقوت وتطورت في العديد من المدن؛ التي تمركز فيها اليسارالمحضور" آنذاك" لكن ما لفت انتباهي أنه بمدينة [العرائش] سنة 1969-1970 -  برزت الظاهرة مرة واحدة من طرف (جمعية شبيبة لوكوس للمسرح) بمسرحيتين " للاخيتي " و" للاشويكة " تأليف حسن لمراني/ إخراج جماعي (10) للعلم أن الجمعية كانت تابعة لحزب الاصلاح الوطني؛ ولازالت تلك النزعة حاضرة رغم اندماج الحزب بحزب الاستقلال سنة 1956؛ لأن الفنان لمراني أحيا الجمعية بعْد رجوعه من إسبانيا "الفرنكوية" فربما تأثر بالورشات المسرحية التي تدعو للعمل الجمعوي؟ أو ربما المسألة وردت عرضا وعفويا ؟...... [يتبع]

***

نجيب طلال

........................

الإستئناس:

1) صفحات خالدة من الأدب الألماني من البداية حتى العصر الحاضر- وخاصة (ص 623 إلى 680)

لمصطفى ماهر- دار صادر - بيروت /1970

2) المسرحية بين النظرية والتطبيق :لمحمد عبد الرحيم عنبر ص219- الدار القومية /القاهرة: 1966

3) ملامح الملحمية في النص المسرحي الأردني (نماذج مختارة)- (دراسة جماعية) في مجلة:

دراسات العلوم الإنسانية والاجتماعية- ص 281- المجلّد 48 / العدد 3- ملحق 1/2021 / الجامعة الأردنية.

4) نظریة المسرح الملحمي لبرتولد بریشت- ترجمة جميل نصیف،ص81 دار الحرية للطباعة بغداد 1973

5) آثر برتولد بريخت في مسرح المشرق العربي للطالب: الرشيد بوشعير ص64 أطروحة لنيل

الدكتورة من جامعة دمشق/1983

6) العمل الجمعوي بالمغرب التاريخ والهوية ص4/5 منشورات الجمعية المغربية لتربية الشبيبة

سنة 2004 أعدها للنشر حسن أميلي

7) الحركة المسرحية بوجدة: لمصطفى رمضاني (انظر- ص75- 79) منشورات كلية الآداب/ وجدة

رقم15/1996

8) نفسه – ص112

9) ببلیوغرافیا العروض المسرحية الأمازيغية المتعلقة بمنطقة الریف: لجمیل حمداوي صحيفة دنيا

الوطن في-  29  /  05 / 2007

10) انظر لكتاب: هذا الذي نسميه مسرحا لعبد المولى الزياتي ص132 مطبعة طوب بريس – الرباط

ط 1/ 2002

سنعالج في هذه الدراسة، صورة القهر في رواية "عروس الفرات" لكاتبها المفكر العراقي علي المؤمن، وسنعمد إلى تتبّع المواقف التي ظهرت فيها الشخصيات مقموعة. وهذا التوجّه له دوافعه الظاهرة والباطنة، وتصبح هنا وظيفة الكشف عن هذه التوجهات كامنةً في معرفة المحركات والمسوغات لظهور أشكال القمع وتقصّي تأثيراتها في الأفراد والجماعات وإظهار الموقف المعادي الذي أبدته الشخصيات تجاه السلطة القمعية.

القهر يعني في التعريف القاموسي الغلبة والأخذ من فوق، ومن دون رضى الشخص الآخر، وتالياً؛ فالإنسان المقهور هو ذاك المغلوب على أمره الذي تعرّض لفرض السطوة من لدن المتسلِّط عنوة، وأما في تعريف التخلف الاجتماعي فيتمثل القهر في فقدان السيطرة على المصير إزاء قوى الطبيعة واعتباطها وإزاء قوى التسلط في آنٍ معاً. ففي رحلة القهر تولد الأجناس الأدبية ومنها الروايات التي هي أيضاً وليدة المجتمع ونتاجه وصورته التي تعكس معاناته؛ لأنّ الأدب بشكل عام هو نشاط إنساني يعبّر عن صاحبه وعن المجتمع الذي نما وترعرع فيه، وللأدب وظائف شاملة ذاتية واجتماعية وسياسية ينتقد من خلالها أفعال البشر، ويعبّر عن مشاعرهم وعواطفهم ويعالج قضاياهم، كما أنه يتناول القضايا الوجودية ويبحث عن أجوبة تتعلق بالكون والمصير وقوانين الطبيعة ونواميسها(1).

وفي هذا السياق، تنقل رواية "عروس الفرات" في خطابها ذكريات الماضي في سرد واقعي ممزوج بالألم المستمد من أرض الرافدين، حيث يقدّم كاتبها الدكتور علي المؤمن مادّته السردية في مشاهد تطغى عليها الذاتية المنطلقة من الأنا مصدر الإلهام ومنبع التجربة، مروراً بالشخصيات وصولاً إلى ميناء المجتمع المقهور، حيث يحطّ الكاتب الرحال في نهر الفرات، ويرتبط اسم الفرات هنا بالعروس (عروس الفرات). والاسمان يوحيان بالفرح والابتهاج والسرور، إلّا أنّ حقيقة التسمية تحمل كل معاني التعثّر والخيبة والألم والتيه. والرواية هي حكاية شخصية يستخدم فيها الكاتب تقنية الاسترجاع، ويرسم بقلمه الصورة السوداوية القاتمة من أحداثٍ جرت على أرض العراق.

نقرأ رواية علي المؤمن، فنجد صوت الأنين يصدح من عمقها، ويُسمَعُ ذاك الأنين في أنحاء وطنٍ معذبٍ مقهورٍ عانى من ويلاتٍ وحروبٍ وتنكيلٍ بالفئات الضعيفة؛ وهذه الفئات هي وليدة أرحامٍ مجبولةٍ بالدمع والمشقّة؛ وهي تضم شخصيات قوية حتى في قهرها؛ لأنها ليست خاضعة، بل مجبَرة مسلوبة الرأي والقرار تؤمن بالحرية، ولكن طريقها طويل وصعب يحتاج إلى مغامرة موسومة بالتمرد، ولكن ما النفع من حياةٍ نسعى في رحلتها الشاقة إلى التحرر من الظلم والقهر ونفقد في مساراتها المتشعّبة أرواحنا التي خُلِقت لتكون حاضرة لا تائهة؟! فهل أضحى هنا البحث عن التحرر هو الحرب الوجودية ذاتها للبقاء؟

تحاكي الرواية الواقع وتنقل تنوّع الرؤى، والأصوات والأفكار فيه، وتصطبغ بمواصفات الشخصيات، وتفتح أُفق التخيل، والنقد، والتحليل، وتأسر القارئ، وتجذب الباحث، وتحتوي أيضاً طاقةً شعريةً مدهشةً. فانطلاقاً من الواقع المرير، كُتِبَت رواية "عروس الفرات" لتنقل المأساة الحقيقية التي عانتها عائلة الموسوي وغيرها من العائلات العراقية في حقبةٍ زمنيةٍ محدّدةٍ بزمانٍ ومكانٍ، ولكنها مفتوحة الأفق متعاقبة متتالية تتكرر في كل الضواحي والأرجاء.

تصوّر رواية "عروس الفرات" الصراعات الحادة، وتختصر الواقع في سردٍ متخيّلٍ يحاكي الإشكاليات المتعددة برمزيةٍ تضاف إليها الواقعية المعبّر عنها بأسلوبٍ ينطوي على أشكالٍ شتى من المتناقضات مثل الحب والكره والوجود والعدم والموت والحياة، وفي هذا المجتمع العراقي هويات ضائعة ومصاير مضطربة.

تسلك الشخصيات في بنائها السردي منحىً أيديولوجياً، يختزن في تشعّباته حواراتٍ تكشف عن حالة القهر، فتظهر الشخصيات مُحاصرةً تبحث عن أجزائها في مجتمعٍ ممزقٍ مسلوب الحرية والقرار. ولهذا تتفرّع جملة تساؤلاتٍ يثيرها هذا الموضوع، نسعى إلى طرحها هادفين من ورائها إلى إيجاد الحلول الّتي تبحث عنها الدراسة بعد اعتمادنا على منهج يتناسب مع الموضوع المطروح:4571 عروس الفرات علي المؤمن

كيف تجلّت صورة القهر في هذه الرواية؟

ما الأسباب الكامنة وراء تخبّط الشخصيات ومعاناتها؟

هل تمردت الشخصيات على قهرها النابع من أعماق الذات؟

ما الأسباب الخفية وراء الممارسات القمعية التي تُمارس بحق الأبرياء؟

إنها تساؤلات تحتاج إلى التعمق في التحليل، وهذا بدوره يقتضي منّا اعتماد منهج نقدي، وذلك بغية الوصول إلى الخصوصية التشكيلية والدلالية التي يتميز بها النص. وعندما نعتمد هذه الطريقة، نترك جانباً المشاعر، والعواطف وتأثيرات الأهواء. ولأنّ النص (جهاز نقلٍ يُعيد توزيع اللغة، واضعاً الحديث التواصلي في علاقةٍ مع ملفوظاتٍ مختلِفةٍ، سابقةٍ أو متزامنةٍ)(2)، تصبح الرواية غاية الكتّاب الذين يُوصِلون من خلالها قضاياهم، ويكون المنهج الاجتماعي هو الوسيلة التي تكشف عن خبايا المجتمع الذي يُعَدُّ المنتِج الفعلي لهذه الرواية الإبداعية، وقراءتها وتحليلها من منظور (مدى تعبيرها عن الوسط الاجتماعي الذي أَنتجَها، وهو بذلك، يتعامل مع الظاهرة الأدبية ليس بوصفها ظاهرة مستقلة بذاتها، وبخصوصيتها، وبفرادتها الإبداعية، وإنما يعدّ النصوص الأدبية وسائر الفنون غير مستقلة عن شروط إنتاجها الاجتماعي)(3). وعندما تكون البنية (ترجمة لمجموعةٍ من العلاقات بين عناصر مختلفة، أو عمليات أولية)(4)، فمن الضروري أن ننظر في علاقة الأجزاء بعضها ببعض؛ لأنّ النص ليس تجميعاً لهذه الأجزاء، وإنما هو نتيجة تفاعُلها، والعلاقات التي تربط بينها. ولأنّ المشكلة الأولية التي (يتوجّب على سوسيولوجيا الرواية تناولها هي مشكلة العلاقة بين الشكل الروائي نفسِه، وبنية الوسط الاجتماعي الذي تطوّر هذا الشكل داخله)(5)؛ ينبغي أن نعتمد المنهج البنيوي السردي، كونه ينطلق من داخل النص، ويكشف عن مكونات الرواية، ووظائف كل مكوِّن تركيبي؛ لأنه يبحث عن البناء الداخلي، وعن البنية الشكلية التي أنتجت نصاً روائياً مُستنِداً إلى عناصر السرد الروائي.

والسردية تدرس وظائف كلٍّ من المنظور، والزمان والمكان؛ لذلك ينبغي لنا أن نتناول الرواية بمكوناتها الأساسية كافةً؛ لأن السردية تبحث عن أنظمة التشكُّل الداخلي في الرواية، وتهدف من خلال ذلك إلى دراسة الأشكال والقوانين التي تحيلنا بالضرورة إلى استيعاب الخصائص الداخلية، وتدرس الشخصيات وعلاقتها، ونوع الرؤية ودلالاتها، وترصد شبكة البناء الزمني ومفارقاته، وتشكُّل البناء المكاني. وهذا المنهج يدفعنا إلى (دراسة المتن الحكائي الذي يُعنى بالأحداث، ومن ثَمّ المعطى الدلالي الذي يتجلى في عالَم الرواية، من خلال الأحداث، والشخصيات، والفضاء)(6).

تظهر صورة القهر بداية في العنوان؛ لأنّ "عروس الفرات" لم تكن عروساً اعتيادية، بل فتاة أسطورية تحمل اسماً مقدّساً "زهراء"، يوحي بدلالته الدينية التي تحيلنا إلى تحديد هوية هذه الشخصية الروائية التي تنطق بمواصفات سردية واضحة المعالم والملامح والسمات؛ فلا تحتاج إلى استنباط وتأويل من القارئ. فهذه العروس مشت على درب الجلجلة، ورأت مشهد الصلب واقعاً مأساوياً؛ فهي شاهدة على صورة إعدام خطيبها "صلاح". وفي هذا الواقع تتجلّى صورة القهر والقدر المفروض في تحديد الموت والخلاص.

و"زهراء" هي نموذج عن فتياتٍ أخرياتٍ عانين فقداناً للالتحام الجسدي الروحي الذي نما في مخيلتهن؛ فصورة الحبيب والزوج والسند أُبعدت قسراً، وخلقت انعداماً بالتكافؤ لدى الذات الإنسانية الأنثوية، وأظهرت صراعاً نفسياً بين الأنا والآخر (الشريك)، وبرزت صورة المرأة المقهورة التي سُلِبَ حقها في خلق مصيرها وبناء جيلها التي رسمته في اللاوعي لديها. وهذا ما يسمى (الرغبةَ اللاواعية)(7)؛ فحينما تلاقي الأفكارُ مقاومةً تمنعها من الظهور في الوعي، تلجأ الطاقة النفسية المتصلة بها إلى النقل، أي الاتصال بمعانٍ أخرى بديلةٍ تكون عادة رموزاً للمعاني الأصلية. ولأنّ هذه الرموز مبهمة وغير صريحة لا تلاقي أيّ مقاومة، ما يعني أنّ المكبوت يُستبدَل به فكرةٌ بديلةٌ تكون بمنزلة مندوبٍ أو وكيلٍ، وهو محميّ من هجمات الأنا بسبب عذابات طويلة.

المرأة هي أفصح الأمثلة على وضعية القهر بكل أوجهها ودينامياتها في المجتمع المتسلط(8)؛ فهي رائدة الانكفاء على الذات والتمسك بالتقاليد، وضعيّتها تمثّل أقصى درجات التماهي بالمتسلِّط من خلال ما تعانيه من استلابٍ وجودي تتحكم فيه وسائل السيطرة على المصير. وشخصية "زهراء" بيّنت هذا التجاذب والتعرّض للتبخيس المفرط.

اعتمد علي المؤمن في روايته على سلسلةٍ مترابطةٍ متماسكةٍ من السرد المنطقي المتدرّج من بداية الرواية إلى نهايتها، وهنا تبرز جدلية القهر في العناوين الهادفة: "فرحتان"، "الجريمة"، "عروس الفرات"؛ ففي هذه العناوين الثلاثة، على سبيل المثال لا الحصر، تظهر الازدواجية في نقل صورة الفرح (العرس) والحزن (المأتم)، فتتعارض الحالات الشعورية وتتخبط الذات، وتعيش هيكلية المتناقضات في شكلها القمعي لا في ضروراتها الوجودية التي بنيت عليها في حقيقة نشأتها. فيستنبط الباحث من المشاهد الروائية ومن الوصف الدقيق الذي أتى على لسان راوٍ حذقٍ عارفٍ بكل شيء؛ الصورةَ المتبدّلةَ التي تغيّرت بفعل العدوانية والقمع الممارَسين بحق الأبرياء.

ففي مشاهد الوصف؛ تكاد تصل إلينا رائحة الأزهار في البيت القديم الذي تقطنه عائلة "عبد الرازق" في محلّة "الحويش" النجفية، ذلك البيت الذي (عشّشت في شقوق حجارته العتيقة طيور اليمام البني... قائم وسط حديقة، تناثرت في حوضها الأزاهير؛ فتناغمت فيها الألوان، وانصهرت الروائح لتنتشر في كل ناحية)(9)؛ إذ أتت وظيفة الوصف هنا دالّةً رمزيةً، الغرض منها هو تفسير (موقف معيّن في سياق الحكي)(10) لا يقتصر على أداء وظيفة جمالية تزيينية مجرّدة من المعنى)(11).

يُمثّل المكان مكوّناً محورياً في بنية السرد، فالبيت النجفي هو مكان واقعي يتحدّد بعلاقاته ومفاهيمه المكانية، ويُبرز الإحداثيات الأساسية التي تحدّد الأشياء الفيزيقية. وفي هذا السياق يؤدي الراوي دوراً رئيساً في نقل الصورة بدقةٍ ووضوحٍ، فتظهر قدسية المكان من خلال ذكر مدينة "النجف الأشرف" وأسماء الشخصيات التي تنتمي إلى سلالة الأنبياء؛ لأنّ العلاقة ما بين وصف المكان والدلالة أو (المعنى) ليست دائماً علاقة تبعيّة وخضوع؛ فالمكان ليس مسطّحاً أملس، أو بمعنى آخر ليس محايداً أو عارياً من أي دلالة محددة، وهذا ما حاول الروائي إظهاره في مشاهده السردية الأولى، حيث رسم معالم المكان المفعم بالإيجابية والقدسية والتبجيل والفرح والاحترام؛ فشخصياته وجدت بالضرورة كي تتبادل الملفوظات ومحكي الأقوال وتكشف عن اندفاعها العفوي، وانحازت لتشكّل بعداً دينياً وسياسياً يحويه الوعاء السردي.

وفي هذا الإطار؛ نعثر في الرواية على سجل مشوّق يعكس التقاليد والعادات النجفيّة في أوقات الفرح والحزن. والمتتبّع لحركة السرد في الرواية يُدرك أنّ الانتقال من مشهدية الفرح إلى مشهدية الحزن لم يكن انتقالاً اعتباطياً، بل كان انتقالاً مقصوداً يصوّر الأيادي التي عبثت بالكيان الآمن للأفراد، وشوّهت معالم المكان المليء بالحب والطمأنينة والسكينة والحماية، وحوّلت هذا المكان حسب (قيمه الأنطولوجية)(12) من مكانٍ أليفٍ إلى مكانٍ معادٍ يتّسم بالضيق والظلمة والأذية والشقاء والتهديد: (الثالث عشر من رجب، يوم ربيعي مشرق... اليوم هو عقد قران أخيكم!! (صلاح خطيب زهراء الذي أعدم) هيّا قوموا... نهض الجميع مستبشرين لكنّهم متهالكون؛ لأنّ حديث الفرح لم يترك لهم ليلة أمس سوى سويعاتٍ للنوم.. لبسوا أفخر الثياب... أكثر من لفت الأنظار "أبو عادل" وعصاه الخشبية الجديدة المرصّعة بالفيروز... بين الحين والآخر كانت تعلو زغاريد النساء وتوزّع الحلوى والفاكهة والعصير)(13).

الصور التذكارية، المدائح النبوية، لباس العروس، خواتم القران والعقد النفيس والأقراط والأساور الذهب، الزغاريد التي تطرق الآذان، صوت الضحكات، وغيرها من مظاهر الفرح في عائلة "عبد الرازق"؛ تبدّلت جميعها في صفحاتٍ معدودةٍ إلى مظاهر حزن، وعلا فيها صوت البكاء والأنين على استشهاد ابنها "صلاح". والتحوّل في مجرى الأحداث برز جلياً، فانتقل هذا العرس النجفي الذي يجمع التراث الشعبي والالتزام بالتقاليد الدينية، إلى مأتمٍ محزنٍ، مفارقتُهُ الوحيدة هي ارتباطه بعناصر الفرح التي سبقت مشهد الإعدام: (في الطريق إلى البيت سرح أحمد بخياله، ودموعه تنهمر ويقضم شفتيه، كان يفكّر في الطريقة التي يخبر بها الأهل باستشهاد صلاح... حلّت الكارثة "أم عادل" مغشيّ عليها، أبو عادل يذرف الدموع، ويندب حظّه، ويدندن باكياً: ليتك متّ قبل هذه المصيبة... ضجّت شيماء وياسمين بالبكاء، وهما تندبان صلاحاً، وترثيانه بتفجّع... كانت شيماء تولول، وقد اختنق صوتها، وبحّت نبراته الحزينة، وقد مَزقت ثيابها، وعثت شعرها، وازرّق خدّاها من شدة اللطم... أم عادل تولول وتتفوّه بكلماتٍ مبهمةٍ لا يفهم منها سوى... حبيبي صلاح... عرسك يا ولدي... قتلوك قبل زفافك)(14).

هذا الوصف الخلّاق سيطر على مجموع الحكي، ونقل حالاتٍ شعوريةً مأزقيةً مبنيةً على ثنائياتٍ ضدّيةٍ (فرح/ حزن)، وذلك على حساب السرد، فهو يشيّد المعنى وحده، أو على الأصح (يُشيّد معاني متعددةً ذات طبيعة رمزية)(15)، غير أنّ الوصف بكونه استراحة (pause) و(توقّفاً زمنياً قد لا يوقف سيرورة الحدث)(16) مثل الوصف هنا؛ لأنّ التوقف لم يكن من فعل الراوي وحده، ولكنه من فعل طبيعة القصة نفسها وحالات شخصياتها. فالراوي العالم بكل شيء أوقف السرد من دون أن يحدث فجوة في مسار الأحداث، بل جعل القارئ يتماهى مع عاطفة الشخصيات تجاه الأحداث المتعاقبة التي خلقتها يد النظام المتسلط، وعمّقت في ذهنه آثار الظلم الواقع على عائلة "الموسوي". وهنا يتّضح لنا تبلور حالةٍ قهريةٍ ناتجةٍ من العلاقة ما بين المتسلِّط والإنسان المقهور، والعلاقة تظهر نتيجة وجود طرفٍ قاسٍ مستبدٍ، يُنزل الأذى والعذاب بضحيته؛ ومن ثَمّ فهذا الطرف المتسلط لا يستقر له توازن إلّا حين يدفع بذلك المقهور إلى موقع الرضوخ والعجز والاستسلام. وهذا التسلط الأعمى ليس وليد اللحظة، بل هو صورة انعكاسية عن تراكماتٍ ذهنيةٍ متخلفةٍ أرادت التنكيل بالفئات الضعيفة، فعائلة "الموسوي" هي نموذج مصغّر عن عائلاتٍ عراقيةٍ كثيرةٍ عانت الاضطهاد والظلم.

وهنا نستنتج أنّ طبيعة العلاقة تتلخص بانعدام القيمة وبهدر الإنسانية؛ لأنّ الأشكال الدموية بكل جبروتها وسيطرتها فرضت واقعاً ومصيراً مجهولاً حافلاً بكل احتمالات القلق وانعدام الشعور بالطمأنينة، وهذا يعود إلى (بنية اجتماعية تنتج عدوانية متفجرة ومدمرة ناتجة عن سيطرة سلطةٍ فردية تحكميةٍ تفرض القمع والإرهاب والذعر في نفوس المواطنين)(17)، لأنّ الشخصية تشكل عنصراً مهماً من عناصر العمل الروائي، والبطل ما هو إلّا واحد من هذه الشخصيات، وأهمها. لذا؛ كان لا بد من التوقف عند شخصية "أحمد" الشخصية المحورية النامية في الرواية، واقترابنا من مفهوم البطولة لا يعني فقط (البطل الشجاع الذي يبطل العظائم بسيفه فيبهرجها، وتَبطلُ جراحه فلا يكترث لها)(18)، ولا يعني البطل الخارق الذي يمتلك صفاتٍ وملامح غير بشريةٍ، بل على العكس تماماً؛ ففي هذه الرواية وغيرها من الروايات العربية التي تنقل الاستبداد السلطوي الذي يُمارس بحق المواطنين؛ نجد بطلاً عانى، وقاوم، وقُهِر، وعُذِّبَ.. ولأنّ فكرة البطولة لا تلغي الملامح الإنسانية، بل على العكس؛ قد يكون البطل هو الشخصية المحورية التي تلقّت العذابات الكثيرة ومختلف صنوف الاضطهاد.

نستطيع أن نسمي "أحمد" بطلاً نتيجة تعرضّه للعنف، وتبنّيه رؤيةً وقضيةً ذاتيةً ومجتمعيةً؛ فـ"أحمد" حمل لواء تعطيل حكم إعدام شقيقه "صلاح"، ولواء منع جريمة قتل السيد محمد باقر الصدر، من خلال مشاركته في المسيرات المنددة بالنظام الفاسد والمطالِبة بإسقاطه، ودعوته إلى القيام بمظاهراتٍ علنيةٍ جريئةٍ في وجه القوات القمعية للنظام. وفي هذا الصدد، نجد أنّ الروائي أوكل إلى أحمد مهمة نقل الصورة القهرية والقمعية التي سيطر فعلها في المسار السردي، وهذا ما يسمّى التقديم غير المباشر أو تقديم الشخصية أحداثاً محوريةً؛ تقديماً يأتي على خلاف تقديم السارد الغائب العالم بكل شيء. ونقل الأحداث المفصلية على لسان الشخصية وليس على لسان السارد أو الرواي؛ يعكس منظوراً ذاتياً يتحدّد ويتأثّر بشكل العلاقة التي تجمع بين الشخصية الرئيسة والشخصيّات الأخرى، ومن شواهد ذلك على سبيل المثال: (ذات يوم ٍدلف أحمد إلى البيت قبيل الظهر على غير عادته، وكان في حالة سيئة جداً؛ شاحب الوجه، دامع العينين، وجسده يرتعد ارتعاد المقرور بدوار الحمّى الشديدة، إذ راح يجر قدميه بصعوبة، وقد بدا على ملامح وجهه الحزن الشديد... وبصوتٍ ضعيفٍ ومتقطّعٍ كأنّه الهمس)(19)، أخبر أسرته بمقتل السيد محمد باقر الصدر على يد البعثيين... حلّ الحزن على العائلة يرافقه اعتراض وسخط وغضب، اعترت الأب رعشة هائلة... وقعت الكلمات كالصاعقة على أبي عادل...إنّها القيامة... في حين هتفت أمّ عادل: يا لهول المصيبة... أما شيماء فقد عصر الخبر قلبها(20).

وفي أثناء نقل الخبرين (استشهاد صلاح واستشهاد السيد الصدر)، نلاحظ أنّ "أحمد" كان يترجّح بين عاطفته البارزة والجياشة تجاه أخيه وعاطفته الملتهبة تجاه قائده؛ إذ برزت هذه العاطفة واضحةً في سطور الرواية. وفي خضم هذا الواقع المتخبط الذي لا يحتمل اللطم والبكاء فحسب، بل يحتاج إلى سواعد تدحر العدو الداخلي الذي يعبث بالأمن والأمان، كان "أحمد" ينتصر دائماً على الظلم بالمقاومة والدفاع عن الذات؛ فقد كان يأبى الخضوع للمستبدّين، وقرارته كانت دائماً حاسمةً صارمةً جازمةً، على الرغم من حزنه الخفي الذي حُفر في أعماقه: (ما لبث أن اعتدل في جلسته، وضبط نبرات صوته، وبلع ريقه منفعلاً، وأتبع بالقول: أيام... ويبدأ الوفاء لدمائك يا سيد... ولدماء آلاف الشهداء)(21).

في السرد الواقعي يأتي الروائي عادةً بشخصياته من الواقع المرئي المادي، وينقل ما سُجّل في ذاكرته من أحداثٍ مؤثرةٍ، إيجابية كانت أم سلبية، كما ينقل تعدّد الرؤى والأفكار والمواقف. فشخصية أحمد في هذه الرواية هي من الشخصيات الهادفة المتمردة على الظلم والقهر؛ لأنها تحاكي تطلعات المجتمع العراقي وآماله في مجابهة السلطة الحاكمة في تلك الحقبة التاريخية. وهذه الشخصية إنما تمثّل فئةً عراقيةً جابهت وقاومت ولم ترضخ على الرغم من توالي المصائب الأليمة التي عصفت بكيانها ونفوسها الآمنة. فـ "أحمد" لم يأخذ حيّزاً واسعاً من صفحات الرواية وحسب، بل أخذ مساحةً واسعةً في أذهاننا، ووجدنا من خلاله بصيص أملٍ في ظل اسوداد الواقع وعتمته وانعكاسه على النتاج السردي الروائي. وتصبح هنا الشخصية في الرواية تركيباً جديداً يقوم به القارئ أكثر مما هي تركيب يقوم به النص(22). نستطيع في هذا الإطار إطلاق صفة "التفريد" على شخصية أحمد؛ فالكاتب يخص هذه الشخصية بمجموعة من الصفات لا تملكها الشخصيات الأخرى؛ إذ إنّ شخصية أحمد تتمتع بالعمق الذي يجعلها مثار اهتمام الشخصيات الأخرى، كما أنها شخصية معقّدة تجذب القارئ إلى تتبّع هذا التعقيد الهادف. فالباحث يكتشف رؤية النص السردي من خلال سيطرة الصفات الشخصية، ومن خلال الحوار الداخلي والخارجي الذي تجريه هذه الشخصية مع محيطها.

يُعدّ "أحمد" من الشخصيات التي يتوقّف عليها فهم العمل الروائي كلّه؛ لأنّه يتمتع بكثافة سيكولوجية، ويقوم بأدوارٍ رئيسةٍ في المسار الحكائي، وهو من أكثر الشخصيات التي تعرّضت للظلم والتعنيف، فقد طُرد من عمله بعد إعدام أخيه "صلاح"، وتعرّض للتعذيب الجسدي في المركز الأمني التابع للسلطة، بسبب عدم التحاقه بالجيش الذي يحارب الجارة ايران. وعلى الرغم من ذلك، لم تهدأ روحه ولم تخضع، فبقي يقاوم حتى الانتصار، وكان لديه قدرة كبيرة على إقناع المحققين الأمنيّين بأنّه بريء، ولا علاقة له بالمعارضين والثوار، وهذا ما جعله ينتصر بتمرّده الخفي المدروس، الذي اعتمده ليس بدافع الخوف، بل بكونه سبيلاً للنيل من جبروت الحكم الظالم. إذ إنّ ثمة نوعاً من التوازن يحتاج إليه الإنسان في علاقاته المجتمعية، خصوصاً في أثناء سعيه إلى تغيير الواقع المتأزم. وهذا ما فعله أحمد في الرواية للوصول إلى طريقٍ متوازنٍ يؤمّن الانسجام، والتآلف مع محيطه الاجتماعي بأقل الخسائر الممكنة. ويتجلى هذا التوازن من خلال لعبة التخفي التي مارسها، فأوهم من خلالها المحققين الأمنيّين بأنّه من الموالين للنظام.

لقد أراد الروائي - من خلال خلق شخصية "أحمد" التي تتماهى في دورها مع الراوي - القول إنّ التمرد لا بدّ من أن يُخلَق من صميم السطوة والتنكيل والوجع، وإنّ المحاولة التي وجدت في الرواية إنّما هي محاولة تمرّدٍ فردي لتغيير الواقع. وعلى الرغم من ارتباط اسم "أحمد" بعددٍ كبيرٍ من المعارضين، فإنّ محاولته التغييرية، بسبب فرديّتها، محكومٌ عليها بالإخفاق؛ ذلك أنّ تغيير الواقع يحتاج إلى ثورةٍ اجتماعيةٍ أو إلى مدى تاريخي، وفي هذه الحالة نرى أن لا خيار أمام الإنسان إلّا التمرد؛ لأنّ فعل التحدي (الذي يمارسه الفرد ضد قوى عاتيةٍ لا يستطيع إلحاق الهزيمة بها، لذلك عليه متابعة الصراع على الرغم من تكرار الفشل للوصول إلى ثورةٍ مجتمعيةٍ لا ترضى برؤية الظلم والسكوت عنه)(23).

وفي الإطار نفسه، تحضر في الرواية صورة أخرى من صور القهر ولكنها الأقسى والأقبح، وهي صورة القهر الجنسي، وذلك في مشهد اغتصاب الشابة الجميلة العفيفة "شيماء" التي كابدت كل أنواع القهر والاستلاب الفكري والجسدي، واللافت أنّ الروائي نأى عن طرح قضية الاغتصاب بأسلوبها الميكانيكي، وعالجها بكونها ظاهرةً اجتماعيةً مُظهِرًا أسبابَها وأبعادَها خلال السرد الروائي من دون أن يشوّه ذائقة القارئ، فكان تصويره هادفاً. وفي المقابل؛ لقد أشعل الروائي في القارئ من خلال مشاهد تعذيب "شيماء" واغتصابها؛ بركاناً من الغضب لم يهدأ حتى مع انطفاء الشهوة الشيطانية للضابط السفاح "فلاح"؛ فهذا الضابط ظهر غارقاً في عقده النفسية التي فرّغها في عائلة "السيد عبد الرزاق الموسوي"؛ ولذلك فشخصيته تمثّل وحشية النظام المتسلط المشحون بكل أنواع القمع. لقد اغتُصِبت "شيماء" أمام عيني والدها "أبي عادل"، الذي مات قهراً وحرقةً على فلذة كبده ابنته الشابة الجامعية المثقفة، بعدما شاهد العبث بجسدها، ولم يقوَ على تحمُّل أقسى أنواع الوجع الذي قد يفجع به المرء في حياته: (مات السيد الموسوي... أسلم الروح المتعبة. أغمض عينيه على صورة ابنته البائسة... العارية.. ينهش بها بواسل الحزب والثورة. رجعت روحه إلى ربّها.. وهي تنوء مثله... تحت عبء الشكوى)(24).

ولكن؛ على الرغم من قساوة مشهد الاستلاب الروحي، إلّا أنّ الروائي صوّر "شيماء" بمشهد القوّة، وكأنّه تمرّد على قلمه وصوره المرئية في أثناء الكتابة، فحاول أن يخلق مشهداً آخر ونهاية أخرى، ولكنّ الواقع الذي عكسه في سرده كان أقوى من نصرة المظلوم وأقسى من النهايات السعيدة التي نشهدها في الروايات الرومانسية الخيالية؛ فالتمنيات غلبتها شدّة القهر الناتج من مجتمعٍ يئنّ ويصرخ وجعاً وألماً. فبقيت "شيماء" تُصارع انتهاك حرمتها وسترها وجسدها النحيل حتى آخر رمقٍ، وفارقت الحياة بشموخٍ ممزوجٍ بتسليمٍ رباني لقدرها، وبإيمان أبدي بأنّ دماءها ستروي أرض العراق، وتصبح هي الأسطورة المخلّدة في عمق الذاكرة: (بعد قليل ستننعش هذه البقع بدمي الجديد... ابتسمت، وقالت هامسةً بلهفةٍ وارتجافٍ عظيمين بعدما قرأت الشّهادتين)(25). ولذا، فإنّ مشهد الاغتصاب ومشاهد تعذيب العائلة تُشبه مشهديةً ملحميةً تراجيديةً نهايتها كانت كارثية: (مقبرة جماعية تضم رفات مئات المعدومين... قذفوا بالجثث بما بقي عليها من ملابس مصبوغة بالدم... في حفرة أعدّت سلفاً.. كأنّهم يقذفون بأجساد حيوانات ماتت بوباء معدٍ...)(26).

ويُشكّل المكان الروائي أبعاداً ومفاهيم فكرية تعبيرية قبل تشكيل الكاتب معالمه الهندسية ورسمها؛ إذ يتميّز المكان الروائي باختلافه (عن الفضاءات الخاصة بالسينما والمسرح، أي كل الأماكن التي ندركها بالبصر أو السمع، إنّه فضاء لا يوجد سوى من خلال الكلمات المطبوعة في الكتاب، فهو يتشكّل كموضوعٍ للفكر الذي يخلقه الروائي بجميع أجزائه)(27). والمكان الأبرز في الرواية الذي أفرغت فيه كل صور القهر هو مركز التحقيق؛ إنّه مكان منغلق، مظلم، مهجور، يشبه القبر (لا مناظر في ذلك المكان، لا نبتة ولا زهرة، ولا طائر، لا مناظر سوى الوجوه الشاحبة ومناظر الأجساد الناحلة الضعيفة القوى، الزنزانة أشبه بالقبر، لا لون لها، ولا نافذة... توزّع على الجموع أكواب العدس المالح، لكلٍّ رغيفٌ مرَّ عليه الزمن مصبوغ ببقع من زرقة العفن... الحمامات قذرة، ضيقة يسمح بارتيادها... يستحمّون بماءٍ عفنٍ بلا صابون، ويعيدون ارتداء ثيابهم ذاتها، الثياب التي ارتدوها منذ أول دخولهم إلى ذلك العالم)(28). فالوصف هنا يمثّل مفاهيم أساسية في وصف الواقع الاجتماعي، وفي الأحكام الثقافية والأخلاقية، وفي التصنيفات الأيديولوجية؛ ففي هذا الوصف تكون الاستعارات المكانية حاضرةً بتقاطباتها في المجال السياسي، فنجد التقاطب ما بين اليمين واليسار، وفي المجال الاجتماعي نجد التقاطب ما بين الرفيع والوضيع. فهذا المكان بكل قذارته وضيقه وظلامه يشبه قاطنيه من مخابرات النظام، على عكس البيت النجفي الجميل برائحته العطرة واتساعه وعراقته. فالمكان يأخذ تارة شكل تدرّج هرمي سياسي ـــ اجتماعي يؤكّد تضاد السمات بين تلك التي تقع في قمة الهرم (الرفيع)، وتلك التي تقع في أسفله (الوضيع)، (وقد تتخذ هذه السمات شكل تضاد أخلاقي يقابل بين "اليمين واليسار"، وتنتظم في شكل نماذج للعالم تتسم بسماتٍ مكانيةٍ واضحةٍ.. (من قبيل) المهن أو الأنشطة "الدّنيئة" و"الرّفيعة")(29).

أُقفل ملف مقتل العائلة وتعذيبها الوحشي بكل برودةٍ في مركز التحقيق في ذاك النهار الأسود، إلّا أنّ هذا الملف أصبح وثيقةً دهريةً سجّلت بدماء الشهداء الأبرار الإجرام والهمجية والشّراسة عند مؤسسات النظام الأمنية، ولكنّ هذه الوثيقة ستُفتح مع كل بزوغٍ جديدٍ لشمسٍ غيّرت وجهة شروقها في البيت النجفي.

إذاً؛ برزت صورة القهر في هذه الرواية وتعددت أوجهها؛ فعكست وحشية رجال النظام البعثي تجاه هذه العائلة النجفية التي كابدت كل أنواع العذاب وهتك الحرمات، فعالجها الكاتب علي المؤمن بأسلوب روائي هادف، وقدّم طروحاته وانتقاها من الأحداث التي تنتاب المجتمع العراقي. وقد تتبّع في عرضه المآزم الإنسانية كلّها، لتصبح هذه الرواية جسر عبورٍ نحو عملٍ مكتملٍ يُصوّر الجراحات العراقية وتشظياتها المؤلمة، ويحمل في طياته دراما روائية نادرة تستحق الغوص في أغوارها الغنية بالدلالات، بالإضافة إلى تميّزها باللغة الشعرية الممتدة على مساحة السرد؛ وهي لغة لا تتكئ على الصور التقليدية الجامدة، بل لغة مبتكرة قادرة على الإيماء بعيداً من المباشرة والتكرار والابتذال؛ فلغة "عروس الفرات" راقية منمّقة، تأخذنا باتجاه الحيّز الزمكاني الذي يخدم الأحداث، وتنمو في ظله الشخصيات. لقد اجتمعت عناصر السرد جميعها وتآلفت منسجمةً لتأتي بهذا العمل المميّز الذي يأسر القارئ، ويأخذ به إلى مصافٍ من الدهشة والإعجاب.

***

د. رفاه معين دياب

(اكاديمية وأديبة لبنانية)

.................................

قائمة المصادر والمراجع:

أولاً: المصادر:

1-المؤمن، علي، عروس الفرات، مؤسسة الرسول الأعظم العلمية، النجف الأشرف، العراق، دار روافد، بيروت، لبنان، ط2، 2017.

ثانياً: المراجع:

1-أبو نضال، نزيه، تمرّد الأنثى في رواية المرأة العربية وبيبلوغرافيا الرواية النسوية العربية (2000-1885)، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، ط1، 2004.

2- أيوب، نبيل، البنية الجمالية في القصيدة العربية الحديثة، المكتبة البولسية، جونية، ط1، 1991.

3- أيوب نبيل، نص القارئ المختلف وسيميائية الخطاب النقدي (2)، مكتبة لبنان ناشرون، ط1، 2011.

4- بحراوي، حسن، بنية الشكل الروائي، (الفضاء- الزمن- الشخصية)، بيروت المركز الثقافي العربي، ط1، 1996.

5- بو عزّة، محمد، تحليل النص السردي، تقنيّات ومفاهيم، الدار العربية للعلوم، بيروت، لبنان، ط1، 2020.

6- حجازي مصطفى، التخلّف الاجتماعي، مدخل إلى سيكولوجيّة الإنسان المقهور، المركز الثقافي العربي، بيروت، لبنان، ط13، 2018.

7- حمزة، مريم، الأدب بين الشرق والغرب، مفاهيم وأنواع، دار المواسم، بيروت، لبنان، ط1، 2004.

8- فضل، صلاح، نظرية البنائية في النقد الأدبي، بيروت، دار الآفاق الجديدة، ط3، 1985.

9- الحمداني، حميد، بنية النص السردي، من منظور النقد الأدبي، المركز الثقافي العربي، بيروت، لبنان، ط3، 2000.

10- الموسى، أنور، عِلم الاجتماع الأدبي: منهج سوسيولوجي في القراءة والنقد، دار النهضة العربية، بيروت، لبنان، ط2011.

ثالثًا: المراجع المعرّبة:

1- باشلار، غاستون، جماليّات المكان، ترجمة: غالب هلسا، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت، ط2، 1984.

2- جنيت، جرار، حدود السرد، ترجمة: بنعبسي بو حمالة، ضمن كتاب طرائق تحليل السرد الأدبي.

3-غرييه، آلان روب، نحو رواية جديدة، ترجمة: مصطفى إبراهيم مصطفى، دار المعارف بمصر، (دون سنة الطبع).

رابعاً: المراجع الأجنبية:

1-J. LDumortieret F.plasanet: Pour lire le récit.Ed.Duepot,1980.

2-Lucien Goldman: pour une sociologie du roman, idée/ Gallimard, 1973

3-M. Klein et Joan rivere, l’amour et la Heine, paris, P. B. Payot,1972.

خامساً :المعاجم اللغوية:

1-ابن منظور، جمال الدين محمد بن مكرم: معجم لسان العرب، المجلد الحادي عشر، بيروت، لبنان، دار صادر، بيروت، ط1، 2008.

سادساً: الدوريات:

1- لوتمان، يوري، مشكلة المكان الفني، تقديم وترجمة: سيزا قاسم، مجلة عيون المقالات، العدد 8، 1987.

هوامش

(1) حمزة، مريم، الأدب بين الشّرق والغرب، مفاهيم وأنواع، دار المواسم، بيروت، لبنان، ط1، 2004، ص:36.

(2) أيّوب، نبيل، البنية الجماليّة في القصيدة العربيّة الحديثة، المكتبة البولسيّة، جونية، ط1، 1991، ص: 23.

(3) الموسى، أنور، عِلم الاجتماع الأدبيّ، (منهج سوسيولوجيّ في القراءة والنّقد)، دار النّهضة العربيّة، بيروت، لبنان، ط2011، ص: 46.

(4) فضل، صلاح، نظريّة البنائيّة في النّقد الأدبيّ، بيروت، دار الآفاق الجديدة، ط3، 1985، ص: 177.

(5) Lucien Goldman: pour une sociologie du roman, idée/ Gallimard, 1973, p: 22.

(6) بحراوي، حسن، بنية الشّكل الرّوائيّ، (الفضاء- الزّمن- الشّخصيّة)، بيروت المركز الثّقافيّ العربيّ، ط1، 1996، ص: 34.

(7) أيّوب نبيل، نصّ القارئ المختلف وسيميائيّة الخطاب النّقديّ (2)، مكتبة لبنان ناشرون، ط1، 2011، ص:13.

(8) -حجازي مصطفى، التخلّف الاجتماعيّ، مدخل إلى سيكولوجيّة الإنسان المقهور، المركز الثقافيّ العربيّ، بيروت، لبنان، ط13، 2018، ص:199.

(9) المؤمن، علي، عروس الفرات، مؤسّسة الرّسول الأعظم العلميّة، دار روافد النّجف الأشرف، العراق، ط2، 2017، ص:7.

(10) بوعزّة، محمّد، تحليل النّصّ السّرديّ، تقنيّات ومفاهيم، الدّار العربيّة للعلوم، بيروت، لبنان، ط1، 2020، ص:121.

(11) جنيت، جرار، حدود السّرد، ترجمة بنعبسي بو حمالة، ضمن كتاب طرائق تحليل السّرد الأدبيّ، ص: 75.

(12) باشلار، غاستون، جماليّات المكان، ترجمة غالب هلسا، المؤسّسة الجامعيّة للدّراسات والنّشر والتّوزيع، بيروت، ط2، 1984، ص: 31.

(13) المؤمن، علي، عروس الفرات، ص:26.

(14) المؤمن، علي، عروس الفرات، ص: 50-51.

(15) غرييه، آلان روب، نحو رواية جديدة، ترجمة مصطفى إبراهيم مصطفى، دار المعارف بمصر، (دون سنة الطّبع)، ص: 160.

(16) لحمداني، حميد، بنية النّصّ السّرديّ، من منظور النّقد الأدبيّ، المركز الثّقافيّ العربيّ، بيروت، لبنان، ط3، 2000، ص: 77.

(17) M. Klein et Joan rivere, l’amour et la Heine, paris, P. B. Payot,1972,p:51.

(18) ابن منظور، جمال الدّين محمد بن مكرم: معجم لسان العرب، المجلّد الحادي عشر، بيروت، لبنان، دار صادر، بيروت، ط1، 2008، ص56.

(19) المؤمن، علي، عروس الفرات، ص:55-59.

(20) المصدر نفسه، ص: 57-58.

(21) المؤمن، علي، عروس الفرات، ص:60.

(22) -J. LDumortieret F.plasanet: Pour lire le récit.Ed.Duepot,1980.p:12.

(23) أبو نضال، نزيه، تمرّد الأنثى في رواية المرأة العربيّة وبيبلوغرافيا الرّواية النّسويّة العربيّة (2000-1885)، المؤسّسة العربيّة للدّراسات والنّشر، بيروت، ط1، 2004، ص: 25.

(24) المؤمن، علي، عروس الفرات، ص: 211-212.

(25) المصدر نفسه، ص:215

(26) -م. ن، ص: 217.

(27) بحراوي، حسن، بنية الشّكل الرّوائيّ ص: 27.

(28) المؤمن، علي، عروس الفرات، ص:197-198.

(29) لوتمان، يوري، مشكلة المكان الفنّيّ، تقديم وترجمة سيزا قاسم، مجلّة عيون المقالات، العدد 8، 1987، ص:69.

استبدالات البناء القصصي وأسانيد الحبكة المخاتلة.. دراسة في تراث إدغار ألن بو القصصي

مهاد نظري: إن إمكانية التقانة الاستبدالية في استعمال سنن العوامل والصياغات في ممارسة التشكيل في منحنيات المتن القصصي، كانت من الوازم الدلالية والبؤروية التي من شأنها حفظ للنص بكامل أدواره الايحائية والقصدية، وصولا إلى ذلك الزمن المتماهي وحدود تقلبات الغاية الوظائفية المتعينة في واردات النص الحكائية والخطابية.لذا علينا ونحن نهم بقراءة نصوص (إدغار ألن بو ) تحديدا التريث في مجال تشوفاتنا التمهيدية لموضوعة النص السياقية وشواهدها الملتبسة في محاور الحكي.تواجهنا قصة (الصندوق المستطيل) بهذا وبذلك النحو من ملامسات مقدمتنا الاستهلالية في معرفات القيمة الجمالية والبنائية والدلالية في أدب بو القصصي. إذ ترانا نتعرف منها على ملامح خاصية إيحائية من منظومة (الاستبدال العاملي) وهذا النوع من خصوصية الاستبدال ذا أسلوبية مارسها بو في العديد من تجاربه القصصية السالفة، التي اتخذنا منها مواضعا للدراسة والمعاينة سابقة.غير إن الإمكانيات الوظائفية في كل حالة موضوعية جديدة، تفرض لذاتها شكلا خاصا من الأدوات الضمائرية والنحوية والاشارية والزمانية والمكانية والعاملية والتمثيلية إجمالا.لذا تجد أن المرحلة الأولى من بنية القص السارية على حال لسان السارد العليم، تنتج لذاتها ذلك الوازع الادواري المنقسم بين (شخصية ــ سارد) وبما ينسجم مع ملامح أوجه الأسباب التلفظية والتخاطبية من ردود وتوجهات خاصة في مسار الأفعال والصفات والزمن المحكي الممتد فوق أرضية متقلبة في سكناتها وتواتراتها المكانية.

ـ الزمن إيقاع تصاعدي في سياق الفعل الشخوصي

تبادرنا المؤشرات العتباتية من مبنى الاستهلال النصي، بذلك الصوت الرائي الذي راح يختزل المفكرة الزمنية ـ المكانية في ذاته، بالموازاة مع التوكيدية عبر رحلته على ظهر السفينة قبل موعدها بعدة أيام.وهذا الأمر ما جعله ذا صورة متوترة في موقفه من غرابة تأجيل موعد الرحلة على ظهر السفينة، كما أن موعدها من خلال ذلك القبطان المدعوـ هاردي ـ.وعلى هذا النحو الغريب من الشخصية العاملة هو على ما يبدو عليها أنها تتعجل حدوث الأمور، حتى وإن كانت أحيانا في غير ضرورتها، هكذا نعاين الوحدات قاب قوسين: (منذ سنوات خلت قمت برحلة بين شارلستون ومدينة نيويورك على ظهر سفينة أسمها ـ الاستقلال ـ بقيادة الكابتن هاردي.كان مقررا أن نبدأ رحلتنا في الخامس عشر من حزيران، إذا كانت حالة الطقس مؤاتية.. صعدت قبل موعد الرحلة بيوم واحد إلى السفينة لأتعرف على غرفتي أجري فيها بعض الترتيبات عرفت أنه سيكون على ظهر السفينة عدد كبير من الركاب بينهم كثير من السيدات خلافا للمعهود في أمثال هذه الرحلات. / ص105 النص القصصي) هناك ثمة بديهيات قد يظنها القارىء في بادىء النص، خصوصا وأنها تتعلق ببداية قصصية شكلية العرض ليس إلا:فما كان واردا في عتبة المستهل يبدو عليه بوضوح، أنه حالة نمطية من غاية استهوائية لدى ضمير السارد الشخصية الحاضرة واللاحاضرة في النص، غير إن مهام واصلات سردها المؤشري قد يعني لنا الكثير من الاعتبار والنمو والتلميح إلى ملامح حسية في مبنى المضمر من طبيعة السرد.الشخصية يتابع وجود قائمة أسماء المسافرين في رحلة السفينة، وقد لمح أسم الفنان ـ وياط ـ ذلك الرسام الشاب صديقه الأعز منذ عقود من زمن الدراسة: (وقد أسرني وجود أسم السيد كورنيلوس وياط على اللائحة./ص105 النص القصصي) كما أن جملة التفاتات الشخصية الساردة، يمكن ملاحظتها حول زخم وجود أسماء السيدات فوق مكتوب اللائحة، الأمر الذي لم يعتد لمثله في رحلاته السابقة.طبقا أن من ملامح الخيوط الأولى في النص ما جعلها ـ بو ـ محتكمة اتصالا ومحددات المتن النصي، أي كحال ما تعنيه كل هذه الحشود من النساء في هذه الرحلة تحديدا، كذلك ما صار معولا عليه من قبل الشخصية في ذكر أسم ذلك الفنان الشاب وسرد مزاياه وصفاته الخلقية ومدى نبوغه في فن الرسم.أعتقد من جهتي الشخصية أن ألن بو يسعى منذ أول بواكير نصه إلى فرز وشد خيوط علاقات نصه العاملية، حتى وأن كان أمرها لحد الآن محض آلية عرضية في غاية الاستعمال التقديمي.

1 ـ العلاقة المكانية وإشكالية المكان الإضافي:

تزعم لذاتها الجملة المكانية في فضاء النص، ذلك الوازع المأهول بأشد التساؤلات والقلق والحيرة، وأحيانا الترقب لذلك المكان الموصوف بـ (المكان الإضافية!) ومن ثم الإصرار من قبل الشخصية الساردة حول كهنها وما كيفية دورها في الإنابة العاملية من قبل ساكنيها.لقد حجز الفنان وياط وزوجته وأختيه ثلاث غرف: (كانت غرف السفينة واسعة، في كل منها سريران الواحد فوق الآخر.ومع أن أسرة السفن ضيقة عادة يستحيل أن الواحد منها لأكثر من شخص.فلم أفهم تماما حاجة الأشخاص الأربعة إلى ثلاث غرف./ص105 النص القصصي) ويتسع مسار (الإشكالية في ذلك المكان الإضافي؟) أو لربما هو حالة قد لا تستدعي من السارد الشخصية الاهتمام بها إلى هذا الحد، خصوصا وأن للرسام أعمالا مثيرة في فن الرسم، قد يكون مؤكدا بأن لهذه الغرفة خاصية ما لضم هذا النوع من أعمال الفنان، لذا راح يبقي لنفسه وزوجته غرفة لهما وإلى أختيه غرفة، قد تكون هذه بالضبط ما يود السارد الشخصية الوصول إليه من إجابة حاسمة حول مؤشر تساؤلاته الملحاحة حينذاك: (لم يكن الأمر يعنيني بالطبع..لكن ذلك لم يصرفني عن عزمي على إكتشاف اللغز..أخيرا توصلت إلى نتيجة جعلتني استغرب كيف لم أكتشف السر بسهولة ـ ترافقهم خادمة ولا شك ـ قلت مخاطبا نفسي./ص105 النص القصصي) ثمة أسانيد أخرى كانت تدعم حجج الشخصية الساردة بأفكار ناتجة عن مزاج مضطرب أو أنه غير مهيأ سببيا إلى معرفة حقيقة الأمر.لقد حاول إدغار أن يضع قارئه في الاتجاهات المخمنة من حاصلية النتيجة، ولكن فاعلية التمويه كانت أقدر على حجب جل الحلول المقترحة من قبل سارده العليم.هناك فئة من الكتاب ممن يمارسوا أفعالا غريبة في أبطال رواياتهم أو قصصهم، فعلى سبيل المثال كان (وليم فوكنر) ومن خلال رواياته وقصصه القصيرة، لاحظنا بأنه لا يثق برواة نصوصه، كحال قصة بطله توماس سوتبن، فقد كان فوكنر يدفع قراء نصه إلى إعادة تشكيل القصة بأنفسهم.وإن قصة سوتبن التي يمكن أن تكون أقرب إلى حقيقة شخصيته ووقائع حياته الفعلية ربما كانت هي التي يقوم برويها شخص غريب تماما لا يعرف سوتبن مطلقا./ المصدر: قراءة الرواية ـ روجر . ب .هينكل .وأنا أقول من جهتي مؤكدا لعل السارد الشخصية أحيانا لا يبدو أمينا في نقل كل تطلاعاته واتساق مشاهداته التصديقية والتخمينية، فلربما من جهة ما كان ذلك الفنان يحلو له الجلوس في أواخر الليل وحيدا مع لوحاته التي جلبها معه على ظهر تلك السفينة، أو لربما كانت تربطه علاقة حميمية مع الخادمة ذاتها بعيدا عن أنظار زوجته القادمة معه في الرحلة ذاتها وفي الغرفة التي تجمع الاثنان مع بعضهما البعض.لذا ليس من المؤكد أن يضع ذلك الفنان بعض من لوحاته التي لم ينتهي من رسمها داخل غرفة تدافعها الأمواج من كلا الجهتين، لأجل أتمامها على أحسن وجه؟: (كنت أعرف أختي وياط معرفة جيدة..كانتا فتاتين حلوتين ذكيتين:أما وياط فقد كان حديث العهد بالزواج ولهذا لم يتسن لي أن أتعرف على زوجته.لكم تحدث في حضوري بطريقته الحماسية المعهودة.كان يصفها بالجمال الخارق وسرعة البديهة والمهارة، لهذا كنت شديد الرغبة في التعرف عليها./ص106 النص القصصي) .

2 - الوظيفة التكميلية في التركيز وجلب الأطراف النصية:

أن ما يمكننا ملاحظته في أسلوب القص لدى ألن بو، هو الشروع بعملية (الوظيفة التكميلية) تتبعها لاحقا المؤديات الاستخدامية في دلالة (التركيز) وصولا إلى زمن وحدات (جلب الأطراف النصية) بما معناه خلوصا، أن بو يستثمر جميع العلاقات الطرفية المخبوءة في خلفيات النص كحال الوحدة (كانت أختي وياط) أو وحدة (كان حديث العهد بالزواج) أو الأخرى (لم يتسن لي أن أتعرف على زوجته) فمن شأن هذه الوحدات مثالا، هو التهيئة أو استكمال غائية التركيز حول الأسباب العلائقية التي توفر إلى زمن الحبكة ذلك الشد الذروي عندما تتوفر لاحقا الجملة النادرة من فعل التبئير أو العقدة النصية.إذن السارد كان يعلم بأن زوجة وياط على درجة كبيرة من الجمال وأيضا كانتا أختي وياط على درجة من الذكاء والفطنة، لهذا السبب فهو يبحث عن فرصة استكمالية تتيح إليه التركيز في جلب الأطراف المتكونة من وياط وأختيه مع ما قيل عن جمال زوجته من خلال وياط زوجها، وهكذا تتم عملية الربط والفرز والمقارنة والخلوص إلى النتيجة المقنعة بأن أسرة وياط متكاملة في مظهرها الخارجي والداخلي حتما: (بعد عشرة دقائق من وصولي أطل وياط وأهله ـ الأختان والعروس، وبدا لي أن وياط يجتاز إحدى نوبات تجنب الناس.كنت قد اعتدت مثل هذه الحالات من صديقي، لذا لم أعرها أي اهتمام.أما هو فلم يحاول أن يقدمني إلى زوجته ـ فاستدركت أخته ماريان الأمر، وكانت فتاة جميلة جدا وذكية ـ وقدمتنا الواحد إلى الآخر بكلمات سريعة ـ كانت السيدة وياط تضع على وجهها قناعا محكما./ص106النص القصصي) .

3 ـ مزايا حجب الهوية في مجريات أفعال القص:

يحاول القص إخفاء المؤديات السردية التي تتضمنها العوامل الشخوصية في زمن تماثلات الأحداث الفعلية.إي بمعنى ما هناك إشكالية ما في الأدوار العاملية تحديدا، خصوصا فيما يتعلق والشخصية وياط وسلوكياته المتغايرة إزاء نفسه وصديقه والناس، فهو على ما يبدو شخصية مأزومة في محدثات واقعها الجديد الذي يصبو على أنه ليس ذلك الشخص الذي يعرفه السارد المشارك:أهناك خطب ما في الأمر؟كان السارد الشخصية ممن يعرف وياط كونه مرحا وشفافا في كل أحواله الخاصة والعامة فماذا قد جرى؟.ومن أجل الإحاطة بمتغيرات هذا الفنان المرح من قبل أنا السارد المشارك.نتعرف في فقرة لاحقة على مواجهة السارد الشخصية لزوجة وياط وجها لوجه، الأمر الذي أحدث صدمة كبيرة في نفسه، وذلك لكون ما تعرف عليه في وضع السيدة وياط، راح يخالف مزاعم زوجها الفنان الذي كان يزعم لها كل ملكية ذلك الجمال الآسر: (عندما رفعت القناع لترد، على تحيتي لم أتمالك نفسي من الدهشة ـ ولو لا أن تجاربي علمتني أنه ليس من الحكمة التسليم بآراء وياط في كل ما يتعلق بجمال النساء لكان تعجبي يفوق هذا الحد.كنت علم تام بأية حرارة يندفع صديقي في إغداق الأوصاف المثالية حين يكون الموضوع متعلقا بالجمال..في الحقيقة أنني رأيت السيدة وياط عادية جدا إن لم أقل بشعة أو على الأقل قريبة من البشاعة./ً106النص القصصي) وما يتكرر عادة في ذهن السارد المشارك هو عدم ملاحظته على وجود الخادمة مع قدوم الأسرة في رحلتها، وهذا الشك بدوره ضاعف من يقين الشخصية بأن هناك من إشكالية ما في علاقة وياط بزوجته هذه، وهذا الأمر ما قاد ظنه أيضا بعدم جدوى تلك الغرفة الإضافية: (بعد قليل وصلت إلى الميناء عربة تحمل صندوقا من خشب الصنوبر ذا شكل مستطيل.وبدا لي أن هذا الصندوق هو الشيء المنتظر..بعد وصوله أقلعنا فورا ولم يطل بنا الوقت حتى أصبحنا في عرض البحر./ص107 النص القصصي) .

4 ـ غيبانية محتوى الصندوق وتضاليل العنوان البريدي:

في مسار مركبات البناء القصصي يمكننا الوقوع على أساليب أكثر اختزالا فيما يتعلق وخصوصية المساحة الضيقة للقصة القصيرة.ولكننا لا يمكننا العثور على قصة قصيرة دون مضاعفة رمزية أو إيحائية أو حتى مونتاجية، لكن بشرط عدم الإخلال بضوابط الزمن المضغوط للنص نفسه، وما يتيحه هذا الضغط من خطية ملغزة في موضوعة القصة.قد تكون عوالم الروايات واسعة من حيث الانفلات الزمني والمكاني والشخوصي، ولكنها من ناحية الموضوعة وأبعادها الدلالي لا تقترب شبرا واحدا من صعوبة وعقدة الموضوعة القصصية القصيرة، ذلك لأن الخط السردي في القصة يحتمل ملازمات فجائية في أحوال التكوين النصي، إذ لا يمكننا قراءة قصة دون عملية التفكر والتوقف حيث تأملها الذي يتطلب زمنا يتعدى قراءة فصلا كاملا في رواية ذات القطع المتوسط.على أية حال نعود إلى موضوعة قصة (الصندوق المستطيل) لنفهم من وراءه بعض المؤشرات التقديرية في ما يحتويه من حالات فعلية وهذا ما يمكن ملاحظته من خلال تخمينات ـ السارد الشخصية ـ حيث ظن ما فيه حينا نسخة من لوحة العشاء الأخير للرسام ليوناردو وحنيا آخر راح يفكر في سبب عدم وضع الصندوق في تلك الغرفة الإضافية: وأنما ويا للعجب أخذ ذلك الصندوق لنفسه مكانا في غرفة وياط: (أن الدهان الذي أستعمل لكتابة العنوان كان يشيع رائحة مزعجة، لا بل رائحة أحسست أنها كريهة.لقد كتب على الغطاء بحروف كبيرة الكلمات التالية: (السيدة ديليد كورتيس ـ الباني ـ نيويورك، بواسطة كورنيلوس وياط، هذا الوجه إلى فوق، الرجاء نقله بعناية؟./ص107 النص القصصي) ما ينبغي علينا ملاحظته هنا أن السارد الشخصية كان يعلم بأن السيدة كورتيس هي والدة زوجة وياط، ولهذا المعنى يتضح أن العنوان ليس تضليلا، وإنما كان مكتوبا بطريقة صحيحة ودالة.

5 ـ التعاقب الزمني وإبطاء صراع دائرة المحاور:

أن القارىء إلى مراحل الزمنية في النص، لربما سوف يلاحظ، بأن (الفضاء القصصي) يمر بدورة تعاقبية زمنية تتابعية بحتة، أي المحكي في النص مسبوغا بطرائق تتابعية خطية في التجسيد والتمثيل.أما فيما يتعلق و مسار النص فقد أضحى السارد المشارك وشخصية وياط في عملية صراعية دائبة.فالأول المتمثل بالسارد المشارك هو من يبحث عن حقيقة محتوى الصندوق، أما الثاني وهو وياط فهو المبتلى الأول والأخير بشعلة الصراع كله.وعلى الرغم من ظهور بعض الأعراض الغريبة على الشخصية وياط كحالات ضحكاته الهستيرية في أمسية ما مع شخص السارد، ما أدى الأمر به إلى السقوط أرضا مغشى عليه..وإمام كل هذا فلم يتوقف السارد المشارك عن محاولة البحث عن الأسباب التي تكمن وراء اعتزال الأختين وياط في غرفتهما دون الاختلاط بأحد من المسافرين، أو ذلك الخروج للسيدة وياط عند منتصف الليل: (بينما كنت مستيقظا في فراشي رأيت السيدة وياط بكل وضوح تخرج بحذر من غرفة زوجها حوالي الساعة الحادية عشرة، تسير ببطء وعلى رؤوس أصابعها ثم تدخل الغرفة الإضافية الفارغة حيث تبقى حتى طلوع الفجر، حين يذهب زوجها ويوقظها فتعود معه إلى غرفته./ص109 النص القصصي) قد يلوح لنا هذا التحول السردي المفصلي من أجزاء الوحدات السردية، بأن عملية إبطاء الصراع بصورة ضمنية، ما راح يخول مسار النص على استيعاب قيمة زمنية لا يمكن لنا سبر غورها، خاصة وأن تجليات المواقف غدت أكثر مأزومية وإلتباسا:فما وراء خروج الزوجة ليلا نحو تلك الغرفة التي كان الأحرى بالصندوق أخذ مكانه فيها طالما هو لا يحتوي سوى على لوحة العشاء الأخير ربما؟هل الزوجان منفصلان مثالا، وهذا ما يبدو ظاهرا ولو بشكل نسبي؟أليس وياط ذلك الفنان الذي عشق جمال الروح في المرأة لذا خليقا به أن يضحي بكفة عدم جمال زوجته الشكلي والرجحان إلى كفة كفة جمال روحها وأخلاقها على حد تقويم سكان السفينة؟.

6 ـ أسرار الصندوق ومصدر غرائبية الأصوات القادمة:

يمنحنا البعد الحبكوي في حكاية محتوى الصندوق ذلك التولد لمختلف الأسئلة والشكوك والدوافع التخييلية التي قد تجند لذاتها فضاءات رحبة من التوهم وإعادة التفكير بطريقة مريبة.غير أن آليات النص وفتنته بلغت حدا من التمويه والمخاتلة والانعطاف بحقيقة الدلالة إلى دائرة سجالية ظنية محتدمة في نفس السارد المشارك: (هناك شيء آخر أثار اهتمامي لدرجة كبيرة.وهو أنه خلال الليلتين المذكورتين وفور خروج السيدة وياط من غرفة زوجها إلى الغرفة الإضافية تناهت إلى سمعي ـ أصوات غريبة ـ حذرة مكبوتة صادرة من غرفة السيد وياط.بعد أن أنصت طويلا إلى هذه الأصوات وأنا غارق في التفكير فيها، نجحت أخيرا ولو جزئيا في معرفة طبيعتها.كانت ناجمة عن محاولات الفنان لفتح الصندوق بواسطة إزميل ومطرقة صغيرة ملفوفة كما يظهر بشيء ناعم كالقطن أو الصوف كي يختنق صوتها حين الاستعمال./ص110 النص القصصي) قد أبدو أني لم أتحدث عن وحدات (الزمن الترقبي؟) ذلك الزمن الخاص الذي يخول صاحبه إلى الانطلاق في مكونات تصورية هي مزيج من التوهم والتخييل واللهفة الاطلاعية الفضولية في الغريزة البشرية عامة.فحتما ما كان يتصوره هو شكلا من مصاحبة مرحلة طويلة من الانتظار والعيش في أدق دقائق التفحص لكل شاردة وواردة، فهذا النوع من زمن الفعل الترقبي يخلق لدى المرء حالة قريبة من حدوث الأشياء اللامحسوسة واللامرئية وكأنه يراها في محال من التصديق والقناعة.فالشخصية كان يتابع تلك الأصوات القادمة من غرفة الفنان، ولكنه كيف حدس بوجود هذه الوسائل (الأزميل ـ المطرقة) وللغرض التعيني ذاته في فتح غطاء الصندوق.هنا لا يبدو (ألن بو) دقيقا نوعا ما، خصوصا وأن السارد الشخصية لم يكن بجوار وياط في غرفته العلوية، حتى يتاح له التعرف على هذه الأدوات الملفوفة بالقطن أو الصوف، ثم كيف أتاح له تخمين استخدام هذه الأدوات في فتح الصندوق ذاته، وليس ربما أي شيء آخر في الغرفة يتطلب عمل ذلك.ربما أن مصدر الأصوات التي سمعها السارد المشارك هي من غواية ارتطام الرياح فوق أجزاء السفينة أو لربما هناك جرذان تتسلق أحد سقوف الغرف المبطنة؟كل هذا وذاك هي من محتملات مبحثنا النقدي، ولا يجوز إقناعنا بإختلاف حالة دخلية وحشوية لأجل تضييع الفرصة على القارىء بضرورة الفهم والتعيين على ماهية حقيقة تلك الأصوات في مصدرها الواقع.على أية حال أقول أن ورود هذه الوحدة من النص كان بالإمكان أن تتقدم عن موضعها الأخير إلى سابق البدء بالوحدة السابقة عندما بث السارد المشارك بهذا الكلام: (هذا إذا لم تكن الأصوات الأخيرة، ثمرات خيالي ـ أقول أنها أصوات تشبه النحيب أو التأوه ـ لكن بالطبع، لم تكن شيئا من هذا القبيل، أفضل أن أعتبرها أصواتا تخرج من أذني./ص110 النص القصصي) بهذا الشأن يمكننا تقبل معادلة التخمين أو التخييل للشخصية المشاركة، خصوصا وإنها دفعت عن ذاتها وساوس التوهم ورسم التصورات بطرائق أستهوائية عابثة.

- الرياح الاعصارية تغرق السفينة وتكشف سرانية محتوى الصندوق

تتداعى مبررات واسباب الشد الموضوعي في فواعل المتن القصصي، نحو حوادث قاهرة جعلت من سعادة الرحلة إلى مواجيد قلق وشجون وانتظارات إلى المزيد من الناجين من غرق السفينة، بعد أياما وليال من الاعصار والرياح البحرية المرتفعة بالأمواج السوداء.الأمر الذي جعل جميع ركاب السفينة شبه الغارقة تتلاقفهم أحواض قوارب النجاة بعيدا عن جسد السفينة الآيل إلى الغرق رويدا رويدا: (الصندوق !: صرخ وياط وهو ما يزال واقفا - لا يمكنك يا كابتن هاردي، يجب أن لا ترفض طلبي.سيكون ثقله شيئا بسيطا ـ لا شيء ـ مجرد لا شيء.بحق الأم التي حملتك ـ بحق السماء - بحق أمل نجاتك، أرجوك أن نعود للصندوق!.. بدا القبطان لبرهة وجيزة وكأنه تأثر من كلمات الفنان، لكنه استعاد ملامح الجد وقال: إنك مجنون يا سيد وياط..لا أقدر أن أستمع إليك.أجلس، أقول أجلس وإلا ستغرق القارب بنا.قف، أمسكوه ـ أقبضوا عليه ـ إنه على وشك أن يقفز إلى الماء، لقد توقعت..وفيما كان القبطان يقول هذا، قفز السيد وياط إلى الماء فعلا، وبما أننا كنا ما نزال قريبين من مكان الحطام، تمكن وياط بعد جهد من أن يمسك بجبل يتدلى من السلاسل الأمامية للسفينة./ص111.ص112 النص القصصي) من هنا نلاحظ بأن مستوى تضمينات النص قد أخذت طابع قويم من ظاهرة الرمزية المنقسمة إلى ثنائية (الملفوظ ـ تلفظ) وهذا الأخير يتفق ها هنا مع حالة الشخصية وياط التي جعلت منه يدفع نفسه نحو أعماق البحر للوصول إلى حطام السفينة، لأجل بلوغ تلك الغرفة المغمورة بالمياه، لغرض إخراج ذلك الصندوق.وهذه العملية بحد ذاتها تتوزع بين (إرادي ـ اللاإرادي ) أو حتى بين الوعي أو اللاوعي أو التعقل أو الجنون، فبماذا يمكننا تقويم سلوك هذه الشخصية ظاهرا يريد الانتحار في سبيل إخراج ذلك الصندوق ذا المحتوى الملغز..وما حدث فعلا يشبه ما قرأناه في حكايا الأساطير والفنتاستيك وقصص العجائب، عندما ظهر الاثنان (وياط = الصندوق) على حافة مقدمة السفينة ثم جعل وياط رابطا جسده بذلك الصندوق بطريقة محكمة، ثم راح يقذف بنفسه بصحبة الصندوق إلى عمق أمواج البحر غارقا.

ـ تعليق القراءة:

بهذا المنظور المرمز هل يمكننا عد قصة (الصندوق المستطيل) حكاية قصصية ذات فضاءات مغلقة ومحجوبة في نقطة الحسم الانفراجي للمضمون لها ؟أوهل حاول ألن بو على صعيد كل أحداث قصته أن يبلغنا أن قصته ذات النهاية المفتوحة لغزا ملغزا مكينا فيما يتعلق بمحتوى أسرار ذلك الصندوق؟وما مدى أوجه العلاقة المصيرية بين الشخصية وياط وذلك التابوت الخشبي؟أهي محض جملة طموحاته التي دنستها المياه فبعثرت ألوان كل لوحاته التي كان قد سلخ أياما وشهورا في نسيجها على شكل أحلام تجسد علاماته ورموزه الفنية، أيمكن أن يكون قد فضل الموت معها مصيرا؟في الواقع ربما النهاية لا تجانب أي واحدة من تساؤلاتنا بعد أن نعلم حقيقة ما قاله الكابتن هاردي إلى السارد المشارك بعد مرور فترة من زمن ممارسة حياتهما الطبيعية في المدينة: (التقيت الكابتن هاردي صدفة، وتطرق حديثنا طبعا إلى المأساة، وإلى المصير المؤلم الذي لاقاه المسكين وياط عندها عرفت التفاصيل التالية:كان الفنان قد حجز أمكنة لنفسه وزوجته وأختيه والخادمة.وكانت زوجته تماما كما كان يحكي عنها..سيدة رائعة الجمال عالية الإدراك.في صباح الرابع عشر من حزيران ـ اليوم الذي زرت فيه السفينة ـ مرضت السيدة فجأة وماتت.فجن الزوج المسكين من فرط الحزن.لكن الظروف لم تسمح له بأن يؤخر سفره إلى نيويورك.وكان من الضروري أن يحمل جثمان زوجته إلى أمها. والمعروف أنه يصعب على الركاب تقبل مثل هذا الأمر.إذ لو عرفوا بذلك لكان أكثرهم فضل مغادرة السفينة على السفر برفقة جثة./ص112 .ص113 النص القصصي) أن أهمية قصة إدغار ألن بو (الصندوق المستطيل) تمكن في إمكانية خلق الأسباب التمايزية في تغيرات الأحداث، إلى جانب فرادة الفكرة واشتغالات الموضوعة بوسائل محفزة وتشويقية، إذ لا تفارقها جدية تقانة الوصف وبلوغ الخطاب إلى أقصى مراحل الانسجام الدلالي والرمزي والكنائي والأغوائي والنفسي.فوظيفة استقصاء الأحوال من دقائق النفس والأشياء هي المفتاح إلى فتح كل أبواب الكتابة القصة القصيرة بنجاح وكفاءة لا نظير لها.وتبعا لهذا أضيف قائلا:أن عوالم قصص بو هي صياغات نوعية في الرؤية والأفعال الشخوصية ودورها في تحفيز منظور وتقانة (الاستبدال) في أشد اللحظات توصيلا مغايرا نحو قراءة تقتني كنوز النصوص من خلال انفعالات شخوصها مع الادوارالعاملية لها دخولا، بالصورة التي توفر للقارىء جملة ثابتة ومتغيرة من أسانيد الرؤية الحبكوية التي تأخذنا إلى مفاوز ظنونية وجملة تساؤلات مشتتة حول مدى احتمالية تلك الحبكة المخاتلة؟ في فضاء القص، التي راحت توفر لنا إمكانية راجحة من حسن اشتغالها بالبحث في المعنى المحتمل أو انتاج المعنى الآخر الذي هو الصورة المتعددة لأوجه مؤولات الدلالة المركبة في حاضنة النصوص الخالدة على صعيد تصاعد كل الأجيال والعقود الباحثة عن حقيقة ما عليه أدوات وآليات وموضوعة فن القصة القصيرة، التي لم نجد لها من نظير سوى في عوالم هذا العملاق الفذ إدغار ألن بو .

***

حيدر عبد الرضا

شهدت الساحة العربية أحداثا سياسية متعاقبة ومتسارعة أفرزت ما سمي بالربيع العربي والذي طال أكثر من بلد عربي ابتداء من تونس وانتهاء بسورية. حيث كان الشارع فيها نقطة انطلاق لثورات نادت بسقوط الأنظمة. فجاء القتل والتدمير والنزوح ولجوء الشعوب إلى بلدان أخرى وما رافق ذلك من مشاعر تمزق للهوية وفقدان الذات على أرض جديدة تنكرت لهم وتنازلت عن مخيمات حُشروا فيها تفتقر لأقل الحاجات الآدمية.

ومسألة الهوية من الموضوعات الهامة التي شغلت بال الروائيين. حيث أن الرواية هي الأقدر على التعبير عن الواقع المعيش في أوطاننا الممزقة والاقتراب من الذات العربية والوقوف على إشكالية الهوية.

ونحن أمام عمل جعل من الهوية مادة أساسية له حيث نجد الكاتبة براءة الأيوبي قد تفاعلت مع الواقع وجعلت عملها أرضا خصبة طرحت من خلالها موضوع الهوية والذات وتأثيرات الحرب واللجوء على الشعوب دون ذكر للبلد الذي دارت فيه أحداث الربيع العربي أو حتى ذكر للبلد المضيف.

والهوية في علم النفس صورة الشخص عن ذاته، كما تمثل التساؤلات التي يطرحها الشخص للبحث عن كينونته وهويته، ولا تحدد الهوية إلا من خلال البيئة والوسط الذي نشأ فيه من خلال الانتساب إلى مجموعة يتشارك معها الميول والتطلعات والأفكار والعادات والتقاليد. وتعتبر الهوية الفردية محور الدراسات في علم النفس بعكس علم الاجتماع الذي يهتم بالهوية الجماعية.

وبينما الذات وعي فردي فالهوية وعي جماعي والوعي بالذات يرتبط بالوعي بالهوية والانتماء، فنحن لا نعي ذواتنا إلا من خلال الهوية ولا تتكون الهوية إلا من خلال هذا الوعي.وكل اختلال في الذات يحدث إضطرابا في الهوية.

وقد جاءت رواية حياة ترف للكاتبة الأيوبي، الصادرة عن الآن ناشرون وموزعون، لنقل الانكسارات النفسية لتلك الشريحة المهمشة من اللاجئين المنخرطة رغما عنها في تيه فقدان الوطن والذات وبالتالي الهوية، وسط رفض الواقع لهم في بلد يعاني أزمات اقتصادية ليجدوا الآفاق أمامهم مسدودة وبلا هوية.

صنعت الأيوبي من أسرة صقر والد ترف أنموذجا مصغرا ليمثل بمعاناته وانكساراته وصراعه النفسي آلاف النماذج التي مرت في الواقع بنفس الظروف وأكثر لشعوب عاشت مأساة الحرب وتيمة الحرب شوهت ذوات هذه الشعوب وجعلتها متشظية تائهة تشعر بالنقص وعدم الانتماء، ذوات متأزمة مشوشة الرؤية يئجعلها جحيم الحرب تبحث عن أوطان جديدة تحتويهم وترمم تصدع ذواتهم. ففي ص66على لسان ترف( يا إلهي كم هي بعيدة هذه الحدود، وكم هو كبير ذلك الحلم المعلق خلف عتباتها.. هناك سنستعيد ذاتنا التي كانت، سنرمم أمنياتنا).

وحيث أن الأسرة هي الوطن الأول الذي تنتمي له ذواتنا ونستمد منه هوياتنا فإن أي خلل في التنشئة تفرز عقدا وأزمات نفسية تبقى ملازمة لتلك الذوات وبالتالي تدخل الشخصية في حالة اغتراب وهو شعور نفسي وليس مادي يبعدها عن واقعها ويجعلها تائهة حائرة، دائمة العزلة حتى عن أقرب الأشخاص منها وهو أشد أنواع الاغتراب تأثيرا على الذات..  وهذا ما سيجده المتلقي لرواية حياة ترف حيث البادية هو المكان الأول الذي احتضن بداية الأحداث حيث الحياة البسيطة والسعيدة التي عاشتها بطلة العمل ترف في ظل والدها صقر ووالدتها نوف إلى أن يحل يوم الرحيل بعد أن فقد البلد أمنه بسبب انتشار عصابات مسلحة تقتل وتنهب وتغتصب ولا تعرف الرحمة طريقا إليها فيلجأ صقر والد ترف إلى اتخاذ قرارا صعبا وهو مغادرة الوطن وترك كل شيء إلى أرض جديدة نشدانا للآمان. ففي ص41 على لسان ترف تتحدث عما سمعته من رجال القرية الذين اجتمعوا في بيتهم (كلمات مبعثرة وسط أحاديث طويلة تمكنت من التسلل إلى مخدعي فدكت هدأتي وأوردتني في هلع: عمليات سلب..  مسلحون..  ارتحال). وفي ص68( مسلحون، عمليات خطف واعتقال .. منازل مدمرة، كلمات سمعتها تتردد مفادها أن ثمة مارد مجهول الهوية يتربص بالأهالي في كل مكان من أرض الوطن ولا وسيلة لصرفة أو التخلص منه سوى بالفرار السريع).

تتكرر إشكالية الهوية طيلة صفحات الرواية تعبيرا عن أزمة الذات والوطن وكانت هذه الإشكالية تتصل مع البطلة ترف التي تعيش حالة انفصال مع ذاتها وهويتها فوالدها المشلول الذي كان موضع ثقتها وتبعته دون خوف عند الرحيل أصبح اليوم عاجزا مشلولا على كرسي متحرك ينزوي عن العالم في زاوية منزل الصفيح كأنما يهرب من الواقع ففي ص205 تصور والدها وما أصبح عليه من لا مبالاة بسبب وضعه (ولكن ثمة أزمة نفسية سلبت منه وهج الحضور وجعلته يتوارى خلف جدار الصمت الثقيل.. بات يرى بؤس أمي.. فينغمس في عمق مأساته متناسيا أوضاعها). وقد أبرزت الكاتبة العلاقة بين الأبناء والأمهات التي كانت تتميز سابقا بالحب والاحترام والعطف وانقلبت بعد اللجوء إلى نفور وجلد للآخر لأقل زلة ففي ص156-157 على لسان ترف (هذا ليس صوت أمي ولا تلك نظراتها! حتى كلامها الثقيل بدا لي وكأنها استعارته.. وهي تلعن وتشتم .. بعد سطوة هذه الكلمات شعرت أني غريبة عن المكان بكل ما يحويه وحتى عن ذاتي). وهذا بحد ذاته اغتراب تحاول ترف البحث عمن يعوضها هذا الاغتراب فتجده بداية مع الحجي فنجدها في ص158 بعد كلمات أمها القاسية (غادرت مكاني دون أن أظهر أي احتجاج.. وسرت على غير إدراك.. وجدتني كعادتي في لحظات الضعف أقف أمام كشك الحجي والدموع ترسم.. غادرت مكاني وشكرته على سكينة انسربت إلي رغم صمت لقائنا).

ثم تجد الأمان عند العم عدي الذي التقت به يوما عند شاطئ البحر لكننا نكتشف في النهاية أنها شخصية ابتدعها خيالها للهرب إليها كلما عصفت بها الأيام ففي ص165 تقول عن هذه الشخصية التي صنعتها وتعلقت بها (برغم غموض استشرى بين كلماته إلا أن استجابته لسؤالي وعدم لجوئه إلى تجاهل استفهامي حمل إلي تفاؤلا بتقارب محتمل بيننا).

وتعيش ذات ترف كذات معزولة فاقدة للأمل ومعلنة عن وحدتها وغربتها وضياع هويتها ففي ص18 على لسانها (تسع سنوات منذ أن غادرتني الأحلام وغدرني الزمن وأنا أعاني شتات الروح وفقدان الهوية). وفي ص22 تقول (هذه أنا.. أفتقد الرضا عن الذات وواقعي يكبلني بألف عقدة ويحيلني ريشة في مهب الريح).

كما نجحت الكاتبة الأيوبي في طرح الهوية وإشكالية الاختلاف ابتداء باختلاف اللهجة وتتضح لنا هذه الإشكالية في كلمات ترف ص22( دائما ما أكون بسبب مظهري ولهجتي الريفية - البدوية محط استهزاء من زميلاتي في الصف).

أما إشكالية اللون فنجدها ص96 وما جاء على لسان ترف (أما عن لون البشرة فلا أحد يشبهنا مطلقا نحن كسوانا من أهل قريتنا ببشرة سمراء مع إحمرار يزيد من قتامتها.. ساكني هذه الأرض.. بشراتهم بيضاء وقمحية وسمراء.. فعلا نحن مختلفون).

أما إشكالية اللباس فنجد الكاتبة وقد طرحتها ص96( النساء عندنا مختلفات، وجميعهن كأمي يتنقلن ب الدفة وهي عبارة عن عباءة سوداء ومعها الشيلة كغطاء على الرأس.. حتى ملابسي لا تشبه ما عاينته في الفتيات الصغيرات).

وترف البطلة كانت شاهدة على مأساة من يقطنون المخيم فكان مشهد هذا المخيم هو المهيمن على السرد. حيث جاء وصف لأبشع مشاهد الحياة هناك حيث انعدمت الإنسانية ومما جاء على لسانها ص 24 (شوارع المخيم تنبض قذارة.. هي مكان للضياع والانغماس في كل أنواع الموبقات) وفي موضع آخر من نفس الصفحة (نحن اللاجئون نعيش هنا خارج مدار الإنسانية). وموضع آخر من نفس الصفحة تصف بيت خلاء منزلهم (أما عن بيت الخلاء فتستحيل إمكانية الاختلاء فيه.. هو جزء كبير من القاعة الكبيرة.. وفي كثير من الأحيان يحدث أن تتقيأ الحفرة كل ما فيها ويغرق المنزل في دنس ومأساة).

وبطلة الرواية ترف تضيع ذاتها في قذارة المخيم وهنا تكون قد فقدت الانتماء وهنا يبرز التصدع في الهوية ونستشعر هذا ص157من كلمات ترف (وخسرت ما تبقى منها في مخيم يضم بين أركانه جميع مقومات الدمار النفسي وتشتت الهوية والانتماء).

ونجد بأن مأساوية المخيم وعدم تقبل المجتمع لها كما بقية أبناء المخيم جعلها تتوق للرحيل والعودة إلى الوطن على امل استعادة الذات والهوية وهذه الخطوة نجدها في الفصل الموسوم ب العودة ففي ص241 نجد ما جاء على لسان ترف (فعلا نحتاج إلى عودة سريعة نلتئم بها مع جذورنا.. تفرغنا من هزائمنا النفسية وتجعلنا نستعيد ذاتنا الساكنة).

فالعودة هي الحل الذي تتوصل له ترف وان البعد عن الوطن لأوطان أخرى كارثة حقيقية فنجدها تركب البحر مع لوليه المرأة التي احتضنتها بعد موت والدها وعودة والدتها مع أخوتها إلى الوطن لتجد طمع سماسرة البشر وسط الأمواج التي لا ترحم في زورق غدار مع كتلة بشرية من أبناء وطنها ليكون مصيرهم واحدا مصير سوداوي لأناس خاضوا غمار الخطر لاستعادة جذورهم.

بقي أن نقول بأن الكاتبة اعتمدت تقنية الاسترجاع والتي مصدرها الذاكرة حيث تعود البطلة ترف إلى ماضيها وطفولتها وظلها الذي تركته هناك في باديتها التي تحب، ظلها الذي كان يؤنسها ولا يشبه تلك الظلال المزيفة في أرض اللجوء.

كما أن من أهم الظواهر الأسلوبية التي بنت عليها الكاتبة روايتها التكرار الذي كان الهدف منه التذكير بالأحداث مثل التذكير بحياة المخيم والتأكيد على تمزق الهوية وفقدان الذات والانتماء بسبب الظروف غير الإنسانية في جميع زواياه، شكله، بؤسه، ناسه.

***

قراءة بديعة النعيمي

بعد سلسلة المقالات التي ناقشنا فيها قضيَّة (الالتزام في الأدب)، بتنظيراتها وتطبيقاتها التي شاعت خلال القرن العشرين، يمكن استخلاص الآتي:

1- إنَّ المفهوم اللُّغويَّ للالتزام- في الأدب وفي غير الأدب- والدَّعوة إليه، قديمان، منذ فلاسفة (الإغريق).  أمَّا المصطلح الفلسفيُّ لهذا المفهوم، فحديث.

2- من أبرز المدارس التي تبنَّت الالتزامَ في الأدب خلال العصر الحديث مدرستان: (الاشتراكيَّة)، و(الوُجوديَّة).  على أنَّ الالتزام في المدرسة الاشتراكيَّة كان أشبه بالإلزام منه بالالتزام، على حين حرصت الوُجوديَّة على المناداة بحُريَّة الأديب الفرديَّة، في إطار الالتزام الإنسانيِّ العامِّ والقوميِّ الخاص.  وقد تنامت فلسفة الالتزام الوُجوديِّ في الأدب، حتى كان الفيلسوف الفرنسي (جان بول سارتر Jean-Paul Sartre، 1905- 1980) هو مُروِّج مذهبها وناشره في العالم في القرن العشرين.

3- كان الوُجوديُّون، في ربطهم الإنسان بوجوده في العالم، لا يرون مفرًّا من التزام الأديب بقضيَّةٍ يُعالجها في أعماله.  ولا يكفي شعورُه بالتعاطف مع تلك القضيَّة، بل هو مطالبٌ بنقل شعوره ذاك إلى حيِّز التعبير، مهما واجه من المصاعب والمعوِّقات.

4- لم يكن (سارتر)، في كتابه «ما الأدب؟»، يرى وجوب الالتزام على الشاعر، بل يخصُّ الناثر الأدبيَّ فقط بوجوب الالتزام؛ لأنَّ طبيعة الشِّعر ولغته الفنِّـيَّة هما كطبيعة الموسيقى والرسم ولغتهما الفنِّيـَّة، إنْ أُخضِعتا لالتزاماتٍ خارجيَّةٍ، فسدتا، هويَّةً جماليَّةً ووظيفة.  أمَّا أصحاب المذهب الاشتراكي، فلا يُعْفُون الأديب من الالتزام، شاعرًا كان أو ناثرًا.

5- ليس من مفهوم الالتزام الوُجوديِّ في الأدب التحوُّل به إلى وَعْظٍ وإرشادٍ أو إلى توجيهٍ مباشر، بل إنَّ الالتزام مشروطٌ بالمحافظة على الأُسُس الجماليَّة والفنِّـيَّة في العمل الأدبي، بحيث يستطيع الأدب أن يكون فنًّا جميلًا، ذا طبيعةٍ خاصَّةٍ، مع القُدرة على أداء وظيفته في الحياة.

6- لعلَّ سيطرة السياسة في العصر الحديث على مجريات كثيرٍ من الأمور في الحياة، هو ما جعل الالتزام يكاد يكون التزامًا سياسيًّا مَحْضًا؛ لأنَّ المشكلات- وإنْ بدت اجتماعيَّةً أو اقتصاديَّةً أو حتى فكريَّةً في ظاهرها- تكمن السياسة من ورائها غالبًا، وتكون المحرِّك الأساس إلى اتجاهاتها.

7- إنَّ وظيفة الالتزام في الأدب وقيمته تكمنان في حُريَّة الأديب لاتخاذ مواقفه من قضايا عصره. وهي مواقف الرائد الصادق، الذي يتطلَّع إليه شَعبُه، مُذ أناط بنفسه عمليَّة التعبير؛ كي يكون النذير بالمخاطر، والهادي إلى كيفيَّة التغلُّب عليها.  بَيْدَ أنَّ الكاتب مطالبٌ قبل ذلك، ولتحقيق هذا الهدف النبيل، بتمهيد السُّبل.  ومن تلك السُّبل امتلاك وسائل الإعلام، بشتَّى أنواعها، للوصول إلى الجماهير، وبخاصَّةٍ أوساط الناس منهم.  ومن ثَمَّ التفكير في كيفيَّة توحيد عناصر الناس المتباعدة في مجتمعٍ موحَّدٍ متجانسٍ، يُشْبِه الجسد الواحد. وقد ناقش (سارتر) هذا الإشكال واقترح له الحلول في كتابه «ما الأدب؟».

8- كان من الشُّعراء المحْدثين الذين اعتنقوا المذهب الاشتراكيَّ الشاعر المصري (صلاح عبدالصَّبور، -1981).  صحيحٌ أنه تقلَّب في حياته بين اتِّجاهاتٍ عِدَّة، ولكنَّه بقي أخيرًا مخلصًا للمذهب الاشتراكي.  وقد تمثَّل اتجاهه هذا في مسرحيَّته الشِّعريَّة «مأساة الحلَّاج»، التي عبَّر فيها عن انتمائه الاشتراكي؛ مصوِّرًا الفقرَ والعَوَزَ ونتائجهما، في تشكيل الفرد والجماعة، عارضًا دَور الفنَّان في مجتمعه، عَبْرَ شخصيَّة (الحلَّاج، -309هـ= 922م)، الذي لا يكتفي بالتغيير بلسانه، بل يُكافِح بنفسه، ويُضحِّي بها في سبيل قضيَّته، التي نَذَرَ حياته من أجلها.

9- في ميدان (النَّثر الأدبي) جاءت مسرحيَّة (سارتر)- فيلسوف الوُجوديَّة ورافع شِعار الالتزام في الأدب- بعنوان «الشيطان والرحمن»، حاملةً وجهَين: أحدهما يمثِّل المبادئ الوُجوديَّة، والآخَر يمثِّل الالتزام الوُجودي في الأدب.  مع عَرْضٍ لصراعاتٍ مختلفةٍ حول قضايا السياسة والاجتماع والفكر، وكشفٍ لمعوِّقات الالتزام، وطُرُق الانتصار على تلك المعوِّقات.  لتنتهي المسرحيَّة بدعوةٍ صارخةٍ إلى الوُجوديَّة؛ بحُسبانها مُخَلِّصًا وحيدًا للإنسان في العصر الحديث.

***

أ. د. عبد الله بن أحمد الفَيفي

 

 

نَخبُ الأُلَى للكاتبة ليلى عامر بجوار خلوة عبد الرحمن بن خلدون بتيارت عاصمة الرستميين الجزائر اغترفنا من رواية.

 لم أكن أقصد في هذه القراءة النقد الثقافي أو النقد الأدبي إنما هي قراءة لبنيتها السيمائية وأنساقها المضمرة بعد تفكيك النص، أيضا على منوال ما ذكره عبد الله الغذامي في النقد الثقافي أن الكاتب له حضور مزدوج كاتب ينتج انساقا أدبية وجمالية بشكل واعي وكاتب ينتج انساقا ثقافية بشكل غير واعي.

من خلال الدراسة السيمائية لهذا المنتوج الجميل بدءًا من صورة الغلاف التي تحمل بعدا سرياليا لرجل وظل امرأة في ظل شجرة عراها الخريف وباغتها الشتاء تشعبت فروعها وعلى كل فرع ممطرة (تقلبات نفسية قاسية) يمكن تفسيرها بالأمال والألآم، كل المياه بلون الغرق عنوان كما ال إميل سيوران.

بدأت المؤلفة ليلى عامر سردها بوضع الحجر الأساسي للولوج في الحكاية بحبكة مركبة بدأت الأحداث من النهاية رجل فاقد الذاكرة، منهار، على سرير يريد استرجاع الذكريات فتذكر الشخصية المهمة في وعيه إمرأة جميلة تسمى مريم تعلق بها ذات مرة في ساحة الجامعة أيّما تعلق لكن سرعان ما تغير كل شيء، وضعت الأديبة هذه التغيرات تحت حبكات فرعية متعلقة بالحبكة الرئيسية ليتغذى عنصر الإبداع والتشويق كما يتغذى النهر من روافده.....

منها:

ذهاب عمر للخدمة العسكرية ومعاقرته للخمر والنساء ثم وقوعه في فخ النساء ليجد نفسه في السجن العسكري...... ...

زواج مريم من عبد الرحيم الذي تعرض لاغتيال إرهابي لتبقى أرملة وأما لبنتين.........

زواج عمر المنهك نفسيا من نبيلة فتكون بذلك ضحية إنسان مدمن على الخمر وعلى ذكريات عشيقته الأولى مريم.... .....

مريم تتعرض لمرض سرطان الثدي ويتم استئصاله ترك أثرا عميقا في مسار حياتها........

تعرضت نبيلة لابتعاد عن بيتها لتبقى في بيت أهلها، ولما تعود تحت إلحاح أبنائها وأثناء غياب الزوج في دوريات مجونه وسكره تتعرض العائلة لاعتداء إجرامي تموت نبيلة وهي تقاوم وتغتصب سعاد البنت التي لتزال في الإكمالية .

حمل سعاد واضطرارها تحت الضغط الاجتماعي والعائلي الزواج من مغتصبها.....

نأتي إلى السرد اعتمدت على السرد المتسلسل في شكل رسائل وأصوات تتناوب على المسرود عمر ثم مريم، نبيلة، سعاد *4567 ليلى عامر

الأنساق المضمرة في هذا النص الروائي

- الحب وبناء الأسرة

- هل ينتهي الحب بمتعة الجسد؟

- الشخصية السوية الصالحة لبناء الأسرة المثالية

- تدهور الظروف السياسية وانتشار الأفات الاجتماعية

- ضرورة بقاء الدولة مهما كان الخلاف

- تأثير الغزو الثقافي على البيئة العربية المسلمة

- الحب بين المتعة وتكوين الأسرة

دراسة أنثروبولوجي للمنطقة التي وقعت فيها أحداث الرواية

هي تيارت أو تهيرت سكنتها عدة قبائل عربية هلالية وغيرها شكلت وحدتها الثقافية والاجتماعية ومنها تنحدر قبيلة بني عامر والتي تنتسب إليها الكاتبة  ،كانت عاصمة للدولة  الرستمية  ،ألف فيها عبد الرحمن بن خلدون مقدمته فلسفة التاريخ ،انتشرت بها زوايا كثيرة رحمانية وتجانيه حافظت على بعدها العربي المسلم أمام الغزو الفرنسي وكانت ساحة للمقاومة والفروسية ،نجد الزواج فيها مبني على شروط منها الكفاءة فلو تزوجت المرأة بغير كفء فللأولياء أن يعترضوا ولا يقروه فلا تصيبهم معرة الصهر وبهذا تتحقق المصلحة,  هذا السلوك الذي تحمله متون المالكية التي هي مرجعية هذه الزوايا قبل أن يدب  إلى بعضها داء  الانحراف. فالبيوت لا تبنى دائما على هذا الحب والعشق الجنوني الذي يعمي البصيرة، ولا يراعي قيمه الاجتماعية بل تبنى كما جاء في كلام الله على المودة والرحمة.

كثير من قصص العشق تعثرت لمعارضة اجتماعية قبلية أو لمانع عند أحد الطرفين لما كانت مصلحتها في ذلك وإن كان فيها بعض الإجحاف كقصة عنترة، جميل، مجنون ليلى، ابن زيدون

بعد الاستقلال زادت حركية التعلم والتحضر لكن تبعها غزو ثقافي مفتوح على مصراعيه دست فيه حركات التحرر المنسلخ عن كل قيم شجعت على فكرة (دايها ولباس والله ويكون عليها الرصاص) و(توحمت في الغابة وولدت في البحر)

حب جنوني وصفته المؤلفة ليلى عامر بالآن أومن أن الحبّ ليس خرافة وليس بدعة أفلام السابعة كما كنت أومن قبل أن أرى عينيك،

 يقول المتنبي:

وما كنت ممّن يدخل العشق قلبه

ولكن من يرى عينيك يعشق

هكذا آمن فرعون بربه وهو يغرق وأومن بك وأنا أغرق

هنا الشيء زاد عن حده فانقلب إلى ضده، فمعرفة الحالة النفسية والعقلية وأشياء أخرى لا أريد ذكرها ضروري في بناء الأسرة فالحب كما قيل أعمى حين لا ينظر إلى مآلات الأمور الأساسية لبناء الفرد والأسرة المتينة. .....

***

كتبه رابح بلحمدي

البليدة الجزائر

إنَّ في الشعرموجودات تتبلور في وعي الشاعر من حيث كونها مفردات تفتح آفاق متعددة مع القارئ للنص، أو المستمع للألقاء، أو المتلقي للصور التي يريدها المرسل في رسائله المتعددة، وما بين المفردة الشعرية وتصوراتها في الوعي بعد أن اصبحت هذه التصورات ظهورات عقلية في الوجود الذهني، وما يتحتم على هذه الوجودات الذهنية من أعراض في العالم المعاش في تجربة الشاعر، سواء أكانت هذه التجربة ذات منحى مؤقت جاءت بها الظروف العرضية التي أصبحت لها أثر في نتاج الشاعر، أو كانت هذه التجربة متأصلة في وجدان الشاعر على مستوى الدلالات الفكرية وصياغة البنية المعرفية في أنتاج وعي ووجدان شعري ثر يرتكز عليه قاموس الشاعر الوجداني في استدعاء مفرداته الشعرية وجمالياتها وتشفيراتها التي يريد من خلالها إيجاد فعل أنطولوجي له أثر في الصورة المتلقاة من قبل متابعيه ومحبي قصائده ومفرداته التي تغازل أذهان المتلقين لشعره .

إنها أنطولوجيا مبنية على اعتبارات الماهيات المتشكلة في ذهن الشاعر، هذا العالم المواز للعالم المادي، وهذه الملكة القابلة لتصنيع مفردات يفارق بها الشاعر بين لغته الشعرية وما تنتجه من مفردات خاصة مميزة له، وبين اللغة الحياتية اليومية، على وفق هذه الجدلية بين الشعري المتعالي في الوعي وبين اليومي المقصود في أعادة أنتاجه يكمن الأبداع في صيغته الأنطولوجية، ودلالاته للمفردات في صيغها الحياتية المتحولة في بعدها الشعري . القارئ العادي ليس معني بهذا المصنع الجمالي الذي ينتجه الشاعر، بل هو معني بالبضاعة الجمالية التي يتلقاها وتحرك مشاعره من خلال الاقتران الواعي بين المفردة المتلقاة والأفق الخاص بالشاعر وتجربته الإبداعية .

في هذا المجال من الممكن أن نبحث عن مفردات كثيرة لدى الشعراء صاغوا تجربتهم الإبداعية قياساً لهذه الجدلية الانطولوجية بين الشعري والحياتي اليومي من جهة وبين الشعري في أطاره التاريخي الزمني في حياة الشاعر وبين التجارب التي صاغتها مديات حياة الشاعر في تأكيد الكثير من المفردات التي شكلت قاموساً دالاً عن الشاعر ذاته . ومن هذه المقدمة في المجال الجدلية الأنطولوجية بين الأفاق التي ذكرناها أعلاه نتناول تجربة الشاعر عبد الحسين بريسم الشعرية في (قرط النعاس) الصادر عن منشورات الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق لسنة 2022، هذه التجربة الشعرية التي حفلت بها مفردات عبرت عن المجال الأنطولوجي للشاعر ابتداءً من عنوانات قصائده، ومنها قصيدة (قال أبي)، و(قرط النعاس) وهي عنوان إصداره، وقصيدة (انت جداريات العالم وصهيل خيولي )، وقصيدة (الشعراء يتبعهم الغاوون)، وقصيدة (نزف الشجرة)، وقصيدة (أغزلك لغة وأصيغك كلمات)، وغيرها من القصائد التي قد لا نستطيع تقديم دراسة في بعدها الأنطولوجي وافية، كون هذا المقال يركز على هذه الجدلية في جانبها الأعم، وليس في جزئياتها والتي تتطلب بحثاً عميقاً في هذا الإطار، مما سنركز في هذا المقال على بحث ثلاثة من الصور التي تؤطر مفردات الشاعر في بعدها الأنطولوجي .

إنَّ في قصيدة قال أبي، الموت والرياح والأشجار والفوضى هي مفردات شكلت في اشتغالها اليومي مواز شعري أنتجه الشاعر في لغة شعرية من وصايا الأب وقوله الذي لا يفارق وعي الشاعر في تدويناته على ورق الذاكرة في الأنتظار والخوف من انفراط عقد المنتظر كي لا تعم الفوضى وتذهب كل ما اراده الأب عن لسان الشاعر بعيداَ عن ينابيع الأهوار، وهي الأصل الأنطولوجي في أصل الاباء والأجداد، وفي المقطع الثاني من القصيدة تأتي (اليابسة والماء والتراب والقميص والقمح)، لتعبر جسد الأب ووصاياه في لغة اليومي التشكل في تصورات الشاعر الذهنية وظهوراتها الواعية لغة شعرية غايتها الولادة بين اليابسة والماء والثمار في القمح والتمر)، لكن الموت يعود في ذاكرة الأب حين لا تمر العصافير ولا يستريح النهر ويبقى الأنتظار في باب الجنة وقمح الحياة . لغة الأب، يومياته، حياته، مفرداته أنتجت صور ذهنية مأخوذة من عالمها الأنطولوجي لي ينتج بها الشاعر فضاءات شعرية ترتبت على وفق بنى جمالية في ذاكرة القول عند الأب والشاعر معاً في آفاق متحدة بين الماضي / الأب، والحاضر / الشاعر.

إنَّ قصيدة (قرط النعاس)، قد حفلت أيضا بجدلية أنطولوجية بين الوعي اليومي والوعي الشعر، لكن من خلال الأم، وسرد الحياة اليومية من خلال لغة شعرية توزعت مفرداتها بين دال أنطولوجي متأصل في تجربة الشاعر الشعرية، ومدلول فيه أثر التجربة لكن في وجودها الاعتباري الذي أنتجت تصورات صاغ من خلالها الشاعر مفرداته من اليومي الى الشعر عبر متحول جمالي يسرد أنطولوجية الأم في بعدها ومرتكزها الإبداعي في التجربة الشعرية لدى الشاعر ، من الساحات القديمة والنخلة وشجرة السدر والجدران القديمة المنحنية مفردات يومية أعتادتها الأمهات في المحلات والازقة الضيقة، تصاغ في تجربة البريسم الشعرية هذه المفردات التي تتحول أثر أنطولوجي أعمق يربط بها بين إشراقة الشمس على الأزقة وظهورات والأمهات التي يوقظن الصباحات برائحة الخبز ليتحول أيقاد النار في التنور الى أيقاد للشعر في دفاتر الشاعر شعراً، وفي تكملة القصيدة يسوق الشاعر مفردات حياته اليومية من طيور الجنوب وشوارع المدينة وسياج البيت العتيق لتصبح هذه المفردات رسائل شعرية تحمل صور الأنتظار للأمهات وخطواتهن المتعبة ـ ليصور مرورهن في شوارع المدينة واسيجتها العتيق لتتمايل الأشجار في صور سجود لهذه الخطوات المحملة برائحة القصب والبردي وأضرحة الأئمة .

وفي قصيدة (أمة من الوجع) يعود فيها البريسم الى مفردات قد تختلف هذه المرة عن البدء بالموجودات التي اعتادها في ذاكرته من عالمه الأنطولوجي الذي شكلته ذاكرة الأيام المملوءة به الأزقة والحارات والجدران وقصص الآباء والأمهات، ليعطي سياقه الشعري أنطولوجيا أخرى ذات خيال كونها أرتبطت بوجدانية ذات بعد عاطفي، ففيها غابة مسحورة وفيها جدران قديمة يملأها القبح، ويحاول ترميمها بالحب، فيها حواجز تكشف طبيعة الجدران وفيها أسوار لغابة ذاكرته في ظهورها الأنطولوجي، وفيها قبلات طويلة تعتمد السحر، كلها في قلب شاعر حاول تجميع صوره النابعة بالحب من خلال وردة تضعها من أحب فوق قلبه، أنها وجودات يؤطرها عالم خال من مفرداته التي عودنا عليها في (قرط النعاس) و(قال أبي)، هي مفردات يحاول كسر قوالبه الأنطولوجية اليومية الظهور في وعيه من أجل سياق آخر يتنوع فيه الوجود الشعري لديه .

أما في قصيدة (أغزلك لغة وأصيغك كلمات) تنوعت لديه مفرداتها من مجال أنطولوجي آخر فيه صور تصف ما هو أبعد من محلياته اليومية، في لغة آخرى يحاول أن يصيغ فيها موجوداته الأبعد أفقاً، فمن وراء البحر من (الشموس، والأقمار) هذا الموجودات الكونية ذات الدلالات البعيدة، ويصور بعدها الحروب والمقابر ذات التصورات القريبة في عالم موجوداته المتناثرة، وأغنياته السوداء وبابه الذي هو كالبحر في السعة الذي يمثل نافذته على وجوداته الكونية التي يراها رغم الريح التي تحاول أن تغلق أبوابه ونوافذه، من ثم يأتي الى عالمه الصغير المحمل بالقلائد تحمل كلماته ومن الجسد الذي هو نافذته الأقرب المطلة على أحزانه ليسترق السمع من صوت الملائكة بداخله، هذه العوالم المختلفة وكأنه يحاول أن يثير الجدالية بين وجوداته الأقرب في التعامل اليومي وأخر ذات طابع شعري فيه الخيال الباحث عن آفاق كونية أبعد .

في قصائد البريسم التي رصدنا فيها بعض من مفرداته في بعدها الأنطولوجي التي تتجلى فيها جدليته، وهذه المفردات قد أتت في ثلاثة صور هي:

1. الصورة الأولى: أن الشاعر يحاول أن يكون قصائده من خلال التأثير المباشر لليومي في الشعري حتى يكون ما حصده عبر السنين من ذاكرة أبداعية لها من اليومي اثر كبير عبر آفاق حياته المستمرة بحالاته المختلفة، كما في قصيدتي (قال أبي و قرط النعاس).

2. الصورة الثانية: يقدم البريسم في كونه يعمل على استبدال ما في ذاكرته اليومية قائمة على الظهورات المباشرة في حياته بأخرى تغذيها مفردات قد أكتسبها من وجود آخر هو العاطفة وما فيها من ثراء في موجوداته وظهوراتها في قصائده المغايرة عن حياته اليومية المباشرة وتجلياتها في قصائده، كما في قصيدته (أمة من الوجع).

3. الصورة الثالثة: يقدم البريسم في صوره الشعرية مفردات أخرى فيها عوالم آخرى لا هي من مفرداته اليومية، ولا من مفرداته الوجدانية، بل هي مفردات فيها ظهورات كونية في الاستخدام، مما جعل مفرداته في تنوع آخر غير الذي في ما سبق الحديث عنه، وكما في قصيدة (أغزلك لغة وأصيغك كلمات).

إذن، للشاعر البريسم جدلية في البناء الأنطولوجي والتصورات الذهنية وظهوراتها الواعية التي يحاول من خلالها أنتاج لغة شعرية قائمة في بعدها الأنطولوجي على مفردات يتمظهر فيها هذا البعد في صور ثلاثة قائمة على جدلية مستمرة لها أبعادها العميقة في أنتاج المعنى في قصائده .

***

أ.د محمد كريم الساعدي

يمكن النظر إلى الذات بوصفها منظومة من الأفكار والقيم والمبادئ والأحاسيس الإنسانية. ومعرفة الذات لهواجسها وفهم حيرتها وتأمل أفكارها العميقة هو إحدى السمات النوعية لطبيعة هذه الذات في السرد الروائي.

حيث يمكن القول بأن بطلة الرواية أميرة تسعى أن تخوض مغامرة فهم الذات من خلال السفر أو بالأحرى الهرب والكتابة.

والهرب ليس إلا الخروج من دائرة الواقع وصنع عالم مواز نقوم بترتيب ذواتنا فيه وفق رغباتنا واحتياجاتنا. وبطلة الرواية أميرة ذات متشظية بين الماضي والحاضر تعمل حال وصولها إلى تونس كدليل سياحي من أجل قتل الوقت ونسيان انتكاساتها وربما انتظار الآخر الذي سينتشلها من بئرها المظلم.

أميرة التي تجرعت مرارة الغياب عن أولادها وعن عُمان الذي تعلقت به أكثر من تونس بلد أمها وتمثل نصفها الثاني مما صنع لديها حالة من التناقض بينهما في رحلة الذات تلك التي سعت من خلالها إلى استعادة إنسانيتها بعد ثلاث صفعات تلقتها في بلد أبيها هي الأقوى في حياتها.

فهروب أميرة إلى تونس كان تحت وطأة الظروف النفسية وتبدد أحلامها في عُمان بسبب تلك الصفعات ابتداء من قيس حبيبها الذي هجرها بعد أن تخلى عنها ففي ص87 (هناك في إحدى الزوايا وقف قيس يخبرها أنه قرر التخلي عن فكرة الزواج بها) وغدر ابن عمتها إبراهيم وفسخ خطوبته منها في ص100 (وغدر إبراهيم لها وتركها بعد شهر من عقد قرانهما) إلى خيانة زوجها عبد الله مع زوجة صديقه ص109(كيف جاتك الجرأة تخون زوجتك بهذا الشكل وبهذي الطريقة).

حينما عزمت أميرة على السفر لم تكن تعرف ما تريد إنما هي الرغبة في الخلاص الذي كان الحافز نحو معرفة الذات ونشدان السكينة بالرغم من تركها لأطفالها الثلاثة خلفها ففي ص52 عن أميرة على لسان السارد (تعرف أنها اتخذت قرارا مؤلما بالهرب إلى تونس وترك ابنها قيس وابنتيها العنود والريم عند طليقها وجدتهم).

كما أن السفر مهم في تحقيق الذات إلا أنه قادر على الكشف عن التناقضات الداخلية والاضطرابات النفسية التي تحيط بشخصية أميرة، فقد كشف السفر أنها تعاني فقدان السلام الداخلي وتتضح لنا هذه الحقيقة وهي تخاطب شخصية إحدى بطلات رواية الطواف حيث الجمر ص13(نكست أميرة رأسها وهي تقول: لست وحدك الهاربة يا زهرة، لكني لم أهرب بحثا عن حبيب بل بحثا عن سلامي الداخلي).

كما أن هرب أميرة إلى تونس كان بمثابة منبها للذاكرة على الغوص في تفاصيلها وما تختزنه من ذكريات، إنها الذات التي تستعيد ماضيها وطفولتها وتجعل منهما رمزا لهويتها العُمانية المفقودة ففي ص148أثناء حديثها مع سعيد العماني ضيف تونس عن المنتخب العُماني (صمتت ووجهها يشع سعادة، ذكرياتها مع المنتخب كثيرة، تعد نفسها متعصبة في تشجيعها للمنتخب.. فكانت في 2009 بعد الفوز بأول كأس للخليج.. يومها شاركت في مسيرات الفرح) وهنا استعادت انتمائها لهويتها العُمانية من خلال تلك الذكريات والعودة إلى الماضي حين كانت متعصبة للمنتخب العِماني.

وبالإضافة إلى مغامرة السفر الذي هو نوع من الهروب حلمت أميرة بمغامرة أخرى هي أشد تأثيرا في الذات وهي مغامرة الكتابة وتحديدا كتابة رواية وهي التي كانت تعشق قراءة الروايات وخصوصاً العُمانية منها. ففي ص12 (الحلم الذي لا يزال يراودها أن تكون ذات يوم الكاتب الشره للكتابة.. الرف الأول وضعت فيه مجموعة من الروايات العُمانية مصفوفة بشكل مستقيم وكأنها توحي لمن يراها بأنها لا تزال تنتمي لذلك البلد). ومغامرة الكتابة هذه بالنسبة لها كانت محاولة للوصول إلى السكينة والسلام النفسي كما أنها تعكس توق الذات إلى إضاءة جوانبها الخفية المعقدة التي لا تستطيع أن تقولها إلا من خلال الكتابة ففي ص9 اقتباس لإميل سيوران (يفترض أن لا نؤلف الكتب إلا لنقول فيها ما لا نجرؤ على البوح به لأحد).

وقد سعت أميرة إلى تجاوز عللها الداخلية من خلال الكتابة ..وتُفَسَّر هذه التحولات في الذات الإنسانية التي كشفت عنها الرغبة في الكتابة تلك العلاقة المهمة بين الإبداع والحياة وعلى هذا النحو تمثل الكتابة حافزا يسهم في تحقيق الذات وفعلا خاصا يستطيع المرء من خلاله أن يدرك تناقضاته ففي ص143 أسرت إلى سعيد نيتها كتابة رواية تسرد فيها قصة حياتها (نفكر نكتب رواية ونحط فيها العبارات هذي وبعض الاقتباسات من الأفلام المترجمة.. إذا كتبت رواية نحب نسميها أميرة بنت تونس، بش نحكي فيها قصة حياتي).

وقد كانت تونس فضاء لتواصل ذاتيّ أميرة وسعيد اللتين عجزتا عن تحقيق أحلامهما في عُمان، ذوات حائرة وجدت في الحب خلاصا من المحن الداخلية وآلام الذاكرة. فكانت تونس المكان الذي فيه أدركت هذه الذوات جوهرها وحقيقتها التي هزمها الواقع هناك في عُمان ونجد ذلك في ص205 (في لحظة انسجام من الزمن وهما يتبادلان الضحك بينهما كانت على وشك أن تحتضنه ليعرف أنها في قمة السعادة وكاد...أن يقبلها ليخبرها أنها تستحق مثل هذا الفرح).

وفي ص221 عن ثريا طليقة سعيد (فحين ترحل واحدة دون ذنب منك تعوضك الدنيا غيرها مثلها أو افضل منها).

وقد كشفت أميرة ذاتها الحقيقية بواسطة الآخر (سعيد)، معه بدأت ذاتها تراجع نفسها وماضيها وتفهم بل وتبحث عن أحلامها ونلاحظ هذا الشيء بكل وضوح في ص219 وهي تفصح لسعيد عن حياتها السابقة (تجمعت الدموع في عينيها فجاة وكأنها تفاجات بلحظة كهذه تفتح فيها قلبها لنثر ما به من أوجاع ونفض ما علق فيه من هموم).

كما أن الذات كلما تقدمت في التجربة ازداد وعيها وإدراكها بماضيها.فالمراوحة بين الذاكرة والحاضر في تواز وتدرج مستمر هو ما يمنح هذه الذات نوعا من الإدراك والتقييم، ويظهر لنا هذا التغيير في ذات أميرة ووعيها عما كانت عليه في الماضي ص263 فعلى لسان أميرة حينما تقدم سعيد لخطبتها (أقدر على القول إن سعيد الخيار الأنسب لهذه المرحلة من عمري، نضحت بما فيه الكفاية لمعرفة ذلك).

وقد اعتمد الحمداني الاقتباسات كمفاتيح تُعدّ علامات يستدل بها القارئ لربط الدلالات التي يستهدفها من الأحداث والتعمق أكثر في شخصيات روايته كما الاقتباس الذي جاء باسم مجهول الذي جاء ص251 عندما حدث سعيد أميرة عن جدهما سعيد بن سالم ونجاحاته التي حققها بسبب أسفاره (السفر الشيء الوحيد الذي تشتريه فيجعلك أكثر ثراء).

بقي القول بأن الحمداني قد نجح في تسجيل شريط كامل وثق فيه للأماكن في عُمان وتونس كما وثق للأزياء الشعبية والأكلات المشهورة واللهجتين العُمانية والتونسية لكن كان لتونس النصيب الأكبر ومن هنا يتضح للقارئ إعجاب الكاتب بتونس كبلد صنع نفسه بأقل الإمكانيات. كما وثق لأحداث سياسية في كلا البلدين تونس وعُمان في حقب مختلفة من عمر البلدين.

***

قراءة: بديعة النعيمي

...........................

* الرواية من إصدارات الآن ناشرون وموزعون/ 2022

 

تجربة التسلق على قمة الشعر العربي الحديث، لم تتوقف عند الشاعر السماوي الكبير، فهي عملية متواصلة في التكامل الخلاق وفي الابتكارات المتجددة، بأطر حديثة في الشكل والمضمون، بتطور نوعي في جمالية مكوناته، التي تستمد خاماتها الشعرية، من معطيات الواقع وافرازاته الدالة، في عمق الاحساس الصادق بكشف صيرورة الواقع بظواهره المحسوسة واللامحسوسة، هذه الأسلوبية الشعرية تقدح الذهن بشحنات من التفكير والتأمل، ان يضع صورة مشاهد الواقع التصويرية على حقيقتها، دون رتوش تجميل، ولا مبالغة وتكلف في سبيل خداع القارئ والمستمع، يستمد المفردات من واقع الحال على عيوبها ومطباتها. من اجل تكوين المشهد التصويري المتكامل، وهذا يمثل تطور في الأدوات الشعرية، التي تملك إيحاءات عميقة وبليغة، في اكتشاف الظاهر والباطن، وهذه الصورة الشعرية هي حصيلة استلهام صور الواقع في مصداقية المضمون والمعنى الدال، فهي علاقة متبادلة بين التصوير الشعري، وإيحاءاته في الرؤية الفكرية، في تلمس المعنى ورؤيتها الخلفية، تحاكي هذه المنطلقات الأساسية (الأسلوب، والصياغة، والاستعارة والتشبيه والمجاز، والتخيل المدهش في الموهبة الشعرية) نتلمس قالب الفني الشعري يصب في قالب المضمون وتعبيراته الدالة، في ثنائية سيميائية متقابلة بين الطرفين، أي سيميائية الفعل الفني الشعري، تقابله سيميائية افعال الواقع، التي خرجت عن المعقول والمنطق. أي نحن أمام صراع متبادل بين صوتين متقابلين في المحاججة والمجادلة. الصوت الأول الذي تنكر وكفر بالعدل الإلهي، واستحوذ على كل شيء، الياقوت والذهب والدولار والجاه والنفوذ، اي باختصار شديد امتلك الجمل بما حمل. والصوت الثاني، صوت حرم من كل شيء سوى من الوجع والأنين والمعاناة، صوت المحرومين والمظلومين الذين لا يملكون حتى الكفاف العيش البسيط. أي أنه صراع شرس في جدليته، بين السارق والمسروق، بين الناهب والمنهوب. أي بين المتخم الى حد اللعنة والبطون الخاوية الى حد اللعنة. هذا الجرح العميق لا يتحمله جسد العراق، انه اكبر من طاقة تحمله، وهو الانزلاق الخطير نحو الانحدار الى الأسفل في سلم الحياة وسلم المعيشة. يصوغ هذا الصراع الذي شذ عن المعقول والمنطق، في جمالية والهام شعري متألق في إبداعاته وابتكاراته على خلفية مستجدات الواقع، في بلاغة لغوية وشعرية جذابة تتذوق فيها الاحساس الجمالي الشعري والتعبيري، توظف امكانية براعة التشبيه والمجاز في البنية الشعرية ومنطلقاتها الدالة، في الديوان الشعري (جرح اكبر من الجسد) يشتغل ببراعة في بشكل خاص بالهم الوطني والإنساني، ولكن يدلل بأنه لا يمكن الوقوف بين الجانبين، بموقف المتفرج والمحايد أو الوقوف على التل، وهو يجد أن العدل الإلهي يطمر في الوحل. يجد القيمة الإنسانية تتدهور الى الأسفل. ولابد من اتخاذ الموقف الحاسم بين قطبي الصراع. اما هذا، أو ذاك، ولا يمكن مسك العصا من المنتصف.4552 يحيى السماوي

1 - مفتاح الازمة:

 هو الانزلاق نحو البؤس والمعاناة، هو بداية الخداع والدجل والاحتيال، حين لبست الثعالب السياسية الماكرة ثوب الدين والتقوى والايمان والزهد، فصدقتها الرعية ووضعت سلة ثقتها بهم، ووضعت تحت تصرفهم بيت المال وميراث الأمة والبيعة. وكانت الطامة الكبرى حين نزعت جلد الحمل والنزاهة وبانت عوراتها للقاصي والداني، وكشفت وجه اللص الشيطاني المخادع.

 - من قصيدة: ربنا قد أظلم الصبحُ.

ربَّنا

إنا سمِعنا

هاتفاً يهتفُ بالعدلِ الالهيِ

فصدَّقنا كلامهْ

فمَحَضناهُ خُّطانا

ومفاتيحَ بيوت المالِ

بايَعناهُ للامرِ وليَّاً

وخصصناهُ بميراثِ الامامةْ

ثمَّ لما أكمَلَ البيعةَ

باعَ الصُّحفَ الاولى

وأرخى لليواقتِ والدولار والجاهِ

لجامَهْ

ربَّنا

قد أظلمَ الصبحُ

فلا نعرفُ

هل أنَّ ملاكَ العدلِ في القفطانِ ؟

أم أبليس أخفى في الجلابيبِ

غُلامهْ ؟

2 - مفتاح الاستغاثة بالرموز الدينية المقدسة: القرأن والانجيل والائمة المعصومين (الامام الحسين والامام المنتظر صاحب الزمان) في سبيل الإنقاذ والفرج من أزمة الواقع المخيب والمحبط. فالإمام الحسين نبراس الشعوب المظلومة في التحرر والخلاص من الظلم والطغيان.

 - من قصيدة: يا سيدي الحسين  

فدىً لتـرابِ نعلِكَ يا إمـامـي

أنا.. وأبي.. وأمي.. والبنونُ

أخفتَ الموتَ حتى خرَّ ذُعراً

فأ نتَ الحيُّ والموتُ الدَّفينُ

جهـادُكَ آخِرُ الآياتِ خُطّـتْ

بنور العرش سُورَتُها " حُسَينُ "

فأنتَ لكلِّ ذي عزمٍ حسامٌ

وأنتَ لكلِّ مذعورٍ حُصونُ

أبا الأحرار هلّا قمْتَ فينا

فقد عمَّ البلاءُ.. ولا مُعينُ

ولا "حـُرٌّ ريـاحيٌّ" فيُفدي

ولا العبّاسُ والقدّيسُ "جُونُ"

- الاستغاثة بصاحب الزمان الامام المهدي المنتظر (ع):

في بارقة أمل وانقاذ عند الناس، بأن هناك مقولة تقول: عندما يطمر العدل الالهي في التراب، ويصبح ناموس الحياة الظلم والطغيان والفساد، عندما تكون عقيدة أولياء الامر والجاه والنفوذ عقيدة السلب والنهب، عندها يظهر الامام المنتظر، ليعيد العدل الالهي الى استقامته، ويطمر الظلم الطغيان والفساد.

- من قصيدة يا صاحب الزمان.

ياصاحبَ الزّمانِ

لو يملكُ

أنْ يهربَ من ساستِهِ عراقُنا

أو

يطلبَ اللجوءَ في الأوطانْ

لفرَّ من ساستِهِ..

يا صاحبَ الزّمانْ

دمُ الحسين باتَ حِبراً

للشعاراتِ التي تخجلُ من ريائِها

الجدرانْ

يا صاحبَ الزّمانْ

أُخرجْ

فقد أوشكَ أنْ يكفرَ في عراقِنا

الإنسانْ

- الاستغاثة بالرموز التاريخية، ورموز عقلاء الحكمة (صوفائيل)، التي تركت بصماتها بحكمة العقل والصواب، او رموز الفعل الثوري الملتهبة بالاقدام والعزيمة والإرادة، التي أشعلت شعلة النهوض والاحتجاج والحماس في نفوس الجياع والمحرومين، أن يأخذوا الحق بأيديهم ولا ينتظرون منحة من السماء، في الهجوم على ناكري الحق وغاصبي اموال الفقراء. لا خلاص من العبودية إلا بالنهوض، ونهوضهم لا يخسروا شيئاً سوى كسر اغلالهم، لو رأى الظالم على جنب المظلوم سيفاً، لما أقدم على الظلم. فلا يمكن ان يستقر الحال في ظل ناهبي الذهب والياقوت والدولار، ومغتصبي الجاه والنفوذ إلا بثورة ( ابا ذر الغفاري ) سيكون مصيرهم شذر مذر، ويتحولون الى فئران مذعورة تفتش عن جحور لسلامة جلدها.

- من قصيدة: رؤيا.

وأرى تنانيرَ الجياعِ

تكرُّ بالجمرالجحيمِ

على قصورالمُتخمينَ

أرى الذئابَ تفرُّ

تستجدي السلام من الظباء المستباحةِ..

والحمائم بعد غربتها تؤوبْ

وأرى طواويسَ المدينةِ

تخلعُ الريشَ الملون..

تستعيرُ من القنافذِ جلدَها..

ولحى الذقون المستعارةِ

من براميلِ القمامةْ

وأرى أبا ذر الغفاري

شاهراً سيفاً بوجه الاولياءِ الزورِ

تتبعهُ ملايينُ الجياعِ..

وعروة بن الورد ممتشقاً حسامهْ..

أهي القيامةُ ؟

قال عرافُ المدينةِ

أن للدنيا قيامتها التي تفضي

الى يوم القيامةْ

3 - العجب في عراق العجب:

كل شيءٍ مقلوب، الحق مكسور الظهر، والباطل منتصب القامة، والميزان مفقود في حقول الدهر المخيب. فلا عجب ان يكون النهب والسلب دين وعقيدة، فلا عجب في عراق العجب. الزفت يكون مسؤولاً عن الياقوت والذهب والدولار. واللص أمين الصندوق. والداعر أمين الشرف والنزاهة، وتاجر النخاسة الناطق بأسم الدين. ومجهول النسب مسؤولاً عن شؤون الناس، فما عجب في عراق العجب ؟.

- من قصيدة: ما العجبْ؟.

ما العجبْ

أن يكونَ الزفتُ

مسؤولاً عن الياقوتِ

في سوق الذهبْ؟

نحنُ في عصرٍ

به اللصُّ أمين المالِ

والناطقُ باسم الدينِ

مجهول النسبْ !

ما العجبْ

إنْ غدونا ورقاً

في موقدها

محض حطَبْ ؟

........

.......

لا عجبْ

نحنُ منْ جاء الى القصرِ بمنْ

هبَ ودبْ

فحصدنا من حقول الدَّهر

سوء المنقلبْ !

***

جمعة عبد الله

 

المعادلة الشعرية بين حجب الداخل الحسي وعدمية الخارج الأحوالي

مهاد نظري: من الأهمية أن ندرك إن بناء المعرفة في أبعاد وظائف النص الشعري، تمرر بمواقف انطلوجية ـ حسية، خاصة من مبعث حيثيات رؤية الشاعر ووسائل المعطى التصوري للأشياء المصورة انطباعا في مشخصات دقيقة من محاور الذات الشعرية التي ترتبط بالأحداث النفسية والحسية والشيئية بمحاور أكثر من محل ضرورة وأهمية ومقدرة وسعة في ذهن الشاعر ذاته من هنا قد يجوز لنا دراسة قصائد مجموعة (هاجس النجاة والأنا) للشاعرة الدكتورة سلاهب الغرابي في حدود ومواقع وحالات علامية دالة، تتضمنها غائية العنونة المركزية في المجموعة الشعرية، على كونها العلاقة الصورية المرمزة في مسافة الأفكار والرؤى والحلم التواصلي في مكونات النصوص الشعرية.لذا فإننا حيال حضور صوت الذات (الآنوية) كيانا متجسدا في وحدة مؤشرات علاماته كمناصات للنص المحيطة بهواجس ودلالات تغلب على أشد مؤشرات المقصدية في مشاغل (الذات ـ الهاجس ـ النجاة) ولهذا لاحظنا بأن أغلب أشكال النصوص في المجموعة تبدو لنا شبه منقطعة مع الحياة تارة ومع ذاتها الآنوية تارة عبر بينات متشكلة من أفضية من الفواصل الزمنية وجملة من الواصلات الحسية، وهي تمرر تشوفاتها اليقينية بالآخر المتوارى، كهوية مسكوت عنها في كينونة الذات المشروطة في تشظيات بوحها المنقسم في ثلاثية الأقطاب (هواجس + النجاة = الأنا) .

ـ الشعرية بعيدا في بؤرة استدراك الحال القصدي:

بوسعنا أن نتعرف على خلاصة الطاقة التعبيرية ـ الصورية، في لغة الحراك الواصف ـ أفعالا ـ ومسميات وإحالات في مشهدية العنونة المركزية الموسومة بـ (هواجس النجاة والأنا) لنواجه من خلالها ذلك الحجم الشاسع من (اللاجدوى ـ الخذلان ـ الرحيل ـ الاغتراب عن الذات) امتدادا إلى حالات تحاورية مع مساحة الأنا ذاتها وبذاتها، أي في مواجهة حضور أسئلة الفضاءات التشكيلية المراوية في معاينات مرآة النص:

يجلسُ الحُزنُ حيثما تكونُ يا أيُّها الغريبُ

لسْتَ بِمُسافرٍ أوبِمقيمٍ فإلى أينَ السَّبيل؟

ألم تكتفِ بحثاً في الفراغِ؟

بعدما خذلكَ الكثير ./ص6 قصيدة : هاجس النجاة والأنا

ترسم لنا قابلية التخييل ذلك الحضور المقصدي بمعنى البوح الاستعادي للذات ومراجعاتها لذاتها في ظل علامة المخاطبة (يا أيها الغريب) ولا تخلو هذه الجملة من مجالية ما تختص بها حساسية الرصد الفاعلة والمحددة بمعناها الوصفي المتابع لـ (يجلس ـ الحزن ـ حيثما) وبهذا تكون حساسية القراءة إلى الملفوظ قد حلت حلولا في صورة تجزيئية ما منا، لأجل الكشف عن وجه التضامن بين طرفي (الأنا ـ الذات ـ المرسلة) في الآن نفسه نلاحظ بأن الشاعرة قد استثمرت مرسلها بما يوازي عتبة القول الذاتي الصادرة عن (أنا الذات) فيما تنعكس علامة مرسلها أيضا بوساطة الذات الموصوفة المحددة بـ (يا أيها الغريب) وبهذا الأمر نواجه حالتين من الذات، الأولى ـ مركزا ـ والثانية ـ موصوفا ـ، ليتراءى للقارىء بأن هناك صعيدين من (فضاء آنوي = مرسل ذاتي موصوف) وهو ما يشكل القيمة الدلالية الاستفهامية في جملة (لست بمسافر أو بمقيم فإلى أين السبيل؟) وتتزامن مع هذا الخط المستفهم، العملية الأحوالية استنكارا ومباغتة، كما ولا يمكنها إعادة ذات الملفوظ إلا من جهة أداة وعلامة ونسق خاص، لتبدو من خلالها حركية كمساحة عزلوية من مجال تحققات القيمة الاستفهامية المستنكرة في دليلها (ألم تكتف بحثا في هذا الفراغ؟) ويمكن ملاحظة في إن أغلب مسميات الدوال في الملفوظ، هي قادمة ليس من وظائف وضعية، بقدر ما تحمل من أحوال قادمة كل شغلها الشاغل هو التواصل بين العلاقة الحسية من طرف حال وذلك الوجود اللحظوي المتمثل بهواجس الأنا .أي بمعنى ما أدق، أقول أن مجموعة وظائف القول في النص، هي مرسلات آنوية ولا يحكمها في ملامسة الخارج من الأشياء إلا بقدر متطلبات الذات الواصفة على نهوض موصوفها في مجال أدائي ما.

1ـ الدال الشعري بين المثال والأقاصي العدمية:

إن حالات التصدير في مجالات المتن النصي ظاهرا في أحوال القصدية، تتمظهر لذاتها تحولا نحو خلاصات ملتهبة من دلالات (المستحيل ـ تنتظر ـ خطى الرحيل ـ الشيء واللاشيء) تشعرنا الغرابي بأن ذاكرتها الشعرية تسعى من جهة ما للتمسك بخلاصات نوعية ما يكون مبعثها دلالات متشظية مركونة من زمن انكسارات الذات وخسائرها في جبة الانعزال في أسطورة الأنا وهواجسها الباحثة عن مواطن (الحلم ـ المأوى ـ المنفى الآخروي) وهذا ما غدا مضاعفا في هذه الجمل من النص :

لكن لم تتغيَّر رغم المُستحيل

ماذا تنتظر وظُلك ينثُ غُموضاً؟

على سبيلٍ اِنتحَب على خُطى الرَّحيل

في أقاصِي المَنطق

ألم تتشَظَّ أفكاركَ بين الشَّيء واللّاشيء؟

ولا شك من جهة ما هامة إن دوال الغرابي طاقة بلاغية عالية، تبدأ فيها مساحة التوظيف في مستويات تساؤلية واستفهامية، تأخذ لذاتها توكيدا محتملا، من إن الشاعرة تحاكي وترائي حالات ذاتها في مرآة ذاتها.أي إنها تكمن في رؤيتها ثمة مسارية خاصة من بداهة (السؤال ـ الإجابة) وكأنها تناظر لازمة مراوية لذاتها في مقابلات هواجس الأنا وصخب خوضها في حتمية رؤى مصيرية تتعلق أولا وأخيرا بذاتها وحدها، وذلك الواصل الآخر من صوت هواجسها المغيبة في أتون محرابها الآنوي.

2 ـ فعالية تقاطع المرسل بالآخر وبلوغات مقاصد الداخل النصي:

لا يمكن لأية قراءة للقصيدة أن تتجاوز مثولها في حدود ثنائيات (ذات ـ موضوع / مرسل ـ مرسل إليه / التقاط ـ شيفرة / أحوال ـ ظروف / داخل خارج / خطاب ـ نص) وعلى هذه الأصعدة الأدائية في مهام الغرض الشعري، نعاين بأن سلاهب الغرابي تسعى إلى محاورة الآخر من جهة أحادية داخل ذاتية، وعلى النحو الذي يجعل من كشوفاتها كقصدية خاصة في بناء مرسلها الممتد نحو موضع التأويل.نقرأ ما جاءت به هذه المقتبسات من أجزاء النص ذاته:

كنتُ جسداً والآن سَماوياً

هاهو زمنُكَ الصَّحيح

فمت أسمُكَ؟

ما عالمُكَ؟

وما التَّأويل؟

قاسمتني الأمسَ وسأقاسُمكَ الغَد

تحمَّلتُ ثورة تقلُّباتكَ واليوم تقبَّل مني

عفويَّتي وذُهولي دون ذمٍ أو تَبجيلٍ./ص8

على ما يبدو لي إن ذات الشاعرة تخاطب عمقها الآخر، أو إنها تحضى بكتابة مرثية إلى جهة قد سلبها منها روح الفقد: وإلا ما معنى ـ كنت جسدا والآن سماويا ـ أو جملة اللاحق ـ ها هو زمنك الصحيح / فما أسمك؟ ـ ما عالمك؟ ـ .قد تكون الشاعرة تستظهر نوعا ما من تمرئيها بأنا ذلك الآخر المفقود من حياتها، وهي بذلك تبدو وكأنها ترني بتعزيمة رثائية حول وازع ذلك المدثر بالفقد.يمكن للناقد سبر أغوار تحاليل النص إلى أقصى أوجه ما من المعنى المحتمل، ولكن ليس في الأمر من ملكية عائدة بصورتها المباشرة إلى جهة الذات الشاعرة، فهي مثلا في جملة (قاسمتني الأمس وسأقاسمك الغد) قد تعني في ما تعنيه منشطرة ما بين الماقبل والمابعد، ولا يخفى عن متبصرا ما بأن ما تلوح له الغرابي، لا يتم إلا في صورتين تعبران عن (العالم الأرضي ـ العالم البرزخي) إذا هناك دلالة على حالة مفقودة من حياة الشاعرة، لا بد لها من الالتحام بها سرا أو في العلن، وهذا بدوره ما يبدو واضحا في هذه الجملة (لا تتركني خذ بيدي للفردوس الأعلى) هنا تتضح الأستحالة في خيارات الذات الواصفة، خاصة وأنها تتحدث من منطلق لغة العوائق والتمني أو الانغراس المحتمل في تيه المحال، في ما يبدو الكمال الأوحد مجسدا في ماهوية اللاشيء أو اللاقدرة الذاتية في الإحاطة بمعاودة ذلك المفقود إلى حيز ذاتها الاستفهامية في الحد الواقع بين (الذات الآخر = علاقة اللاممكن) .

ـ جدلية الموت خلاصا للذات وقيدا للمرجعية الشعرية:

إن نوازع الذات الشعرية في مجموعة (هاجس النجاة والأنا) تؤسس إلى مواطن كينوناتها شرعية بلوغ دال الموت ومصافحته ضمن ثنائية دليل ( الموت : خلاصا ـ قيدا) وبما إن الموت قوة كونية الإرادة غاطسة في توطين مفردات الانقطاع والفقد والرحيل عن الحاضنة الأرضية الدنيوية، لذا بقية لغة الغرابي تتعامل مع هذا الدال تارة كمخلصا، وتارة كطاقة استلابية في نموذجها التحقيقي والتمثيلي.ومن هذا النوع وذاك نقرأ مداليل قصيدة (للموت صوت عال) :

"أنتَ الحُب المُطْلّق

تصالح الذَّات مع الرُّوح"

هكذا وصَفوك

لكنَّكَ يا أيُّها الموت

مبعث تساؤلاتي المُضنية

والحقيقة التي لا أزايد عليها

في لُجَّةِ معرفتي في صمتكَ المُطبق

سأتحرَّر من قُيودِ الجسد

وسَأنحر بمقدَّمك تساؤلات الحَياة الفانية ./ص17

إن مبعث الفاعلية هنا، سواء كانت انعكاسية أو معرفية أو زهدية أو شعرية أو خلجات نفسية، فر تبرر للشاعرة بأن مستوى درجات فهمها للموت واردة في حدود لغة عارية من المحمول الشعري المؤثر، فقد تبدو لغة النص وكأنها جاءت خاطرة نثرية في تجربة الكتابة عن الموت، وليس فيها أدنى درجة من الفراسة الشعرية الدالة والمؤثرة موضوعيا.على أية حال أقول إن دينماميكية (الذات ـ الموت) تصبان في شيئين من الإضافة والتعزية، لا إلى مستوى الحسية الكاملة المسكونة بآهلية شرائط وأشكال حقيقة فقه الموت، خاصة وإن علاقة موضوعة الموت بالذات الواصفة أخذت لها تسويقا مقاربا إلى وسيلة الانتقائية في اختيار الموضوعة.كما وأن حالة التحرر من الجسد، أي من منحة أهواء المادية الأرضية إلى الموت وصولا وتزهدا مرمزا، راح يعكس حالات عائدة للذات أولا وأخيرا كما يتضح في مقتبس هذه الجملة (يا ملاذ الأرواح يا من وجدت فيك حلا) أو جملة المقابل (أمامك اللحظية تنفى) تقودنا اعترفات الشاعرة عبر وحدات قصيدتها بأنها انصهرت كصوفية في مناشدة الموت تطهرا واحتسابا، ولكن قصيدتها لم تنفك من الإحالات والتمثيلات المرجعية للأساطير والملاحم وأبطالها المسكوكة، لذا ظلت قصيدتها منشطرة ما بين جدلية الموت خلاصا وقيدا، خلوصا للمرجعية الشواهدية  للأساطير والملاحم، وتجميل صرخة الانموذج المعرفي في فلسفة أفلاطون المثالية والألوهية .

1ـ فضاء التصدير الصوفي وقلق حالات الارتحال:

ينفتح المدى الزمني في فلسفة التصوف الشعري منذ بواكير الحلاج العرفانية وحتى محي الدين أبن عربي، وهذا الأسلوب الثلاثي الأقطاب هو الانموذج الأكثر أهمية عند أهل العرفان (التوحيد الفعلي ـ التوحيد العقلي ـ التوحيد الصفاتي) هذا الذي اندرج عليه أغلب أهل التصوف العرفاني النظري والتطبيقي، كما أن الوازع الشعري في منجاة الحلاج وباقي شعراء المتصوفة، قد أخذ لذاته الحركة التوحيدية النسبية، ذلك لأن المتصوفة قد ساروا في حدود ضيقة من أوهام المخيلة والتخييل في العبادة، وليس في آفاق تصديقية مبرهنة في إظهاراتها الكلية ولا حتى الجزئية.أو أن لا أكون قد سجلت على ذاتي خروجا من فروع قراءتنا لشعر الشاعرة سلاهب الغرابي، ولكن أحببت إعطاء فكرة وومضة حول شواهد من الشعراء المتصوفة اللذين كانوا يطلقون خيالاتهم في الغيب شططا.أقول أن تجربة الشاعرة في هذا النمط من الشعر، كان يرتدي هيئات من ألوان التصوف في ملبس دواله، ولكنه على أية حال لم يكن إلا عاطفة شعرية مضغوطة بقلم الموت تارة وحب الأنا وأهلها تارة، وهذا الأمر ما جعل من قصيدة (ارتحال) بمثابة الملاءات للحساسية الشعرية بذلك الموت تطهرا وخوفا معا:

تَصْهَلُ الذِكْرَيَاتُ

فِي الرُّوحِ كَّي لَا أَرْحل

وحنينيي يَشٌدُّنِي

أَنْ أُبْقى بِحُضن وَطَنِي الجَرِيحِ./ص21

وبهذا الشكل تكون قصيدة (ارتحال) ذات تلوينات مختلفة، فهي اختارت وظيفة البقاء في وطنها الذي هو في الواقع الموت أهون من العيش فيه فترة من الزمن!؟.

ـ تعليق القراءة:

من خلال خاتمة قراءتنا لبعض من نماذج قصائد مجموعة (هاجس النجاة والأنا) للشاعرة العزيزة الدكتورة سلاهب الغرابي، أجدني أقول وبكل أمانة: إن فضاءات قصائد المجموعة تجارب شعرية تستحق التقويم والإضاءة والتداول النقدي في مشروع دلالاتها الرصينة، وبالحجم ذاته هناك ذائقة وأداة شعرية موهوبة وثاقبة في رؤيتها ولغتها.فيما تبقى مفاصل قصيدة مطلعة ومتواصلة بين مسافة الذات الفاعلة وموضوعة حجب الداخل الحسي حيال عدمية الخارج الآنوي.

***

حيدر عبد الرضا

1- تقديم: إن مقاربة هذا العمل لا يمكن أن تتم إلا بوضعه ضمن السياق الرؤيوي الذي ينطلق منه المبدع، لأن اقتحام القاص رضوان بن يشرق مضمار الكتابة الأدبية كانت له مبرراته ودوافعه الذاتية والموضوعية. والقارئ المتأمل لهذا المنجز يدرك أن الكاتب استثمر تجاربه الحياتية باعتباره شابا حالما بالتغيير، شابا عاش كل الإحباطات المؤلمة التي تطارد الخريجين الجدد، وعانق الحياة البائسة في أبشع صورها. وفي النهاية قرر أن يطل علينا بهذا المنجز ليحمل صورة الهامش الذي يعيش جحيم الإقصاء، ولينوب عن كل المقيمين فيه. وقد ساعده احتكاكه اليومي بالناس في إسماع صوت البؤس، وفي رسم صور التعاسة، وترجمة التجاعيد الغائرة التي تسكن وجوه المهمشين.

ولتقديم هذا العمل الذي يطرح العديد من الأسئلة الكبرى، نجد أنفسنا مضطرين إلى تسجيل بعض الانطباعات الأولية حول هذا العمل بالعبارات التالية:

- لعنة طنجة عملية تشريح دقيق لأنسجة المجتمع الطنجي، وكشف حثيث عن الهم الكبير الذي يزداد عتوا وضخامة مادام الواقع يزداد ترديا، ومادامت القيم تزداد انقلابا وتحورا.

- لعنة طنجة جماع الإحباطات التي تغتال أحلام كل شاب حالم بالتغيير وتحقيق الذات وإيجاد المعنى لهذا الوجود بعد سنوات طويلة من الأمل والانتظار.

- لعنة طنجة استنطاق للمسكوت عنه، وتسلل نحو الأعماق المظلمة الصاخبة.

- لعنة طنجة مذكرات شاب محبط.  نبضات شاب عاشق للحياة الكريمة. صرخات شاب غاضب ثائر في زمن التهميش وأزمة القيم وضياع المعنى.4544 لعنة طنجة

2- لعنة طنجة وإشكالية التصنيف:

لعنة طنجة مجموعة قصصية حربائية، تتلون وتتشكل في أكثر من شكل مما يجعلها عصية على التصنيف. فهي تنتمي، في بعض محكياتها، إلى الأدب الواقعي الذي يكشف صورا من الواقع السياسي والاجتماعي والعاطفي.  ولكنها في جانب آخر تميل إلى الأدب الفنطازي الخرافي الذي تنزاح فيه الوقائع وتفقد هويتها الواقعية وتكتسي صفة النص الخرافي العجائبي. وأحيانا يتضمن هذا العمل كائنا سيريا مضمرا يطل علينا من بين بعض الفجوات والمحكيات. فهي إذن مزيج حكائي يجمع بين الرصد والخيال والبوح.

3- ظلال العنوان:

العنوان هو المعبر الأول الذي نمر من خلاله إلى أغوار المتن، وغالبا ما يكون منطقة دلالة حبلى بالإشارات التي تفيدنا في عملية القراءة. ولعنة طنجة عنوان مستفز للقارئ ومثير للفضول. كما هو الشأن حينما نقول لعنة الجوار/ لعنة الحب/ لعنة الوظيفة/ لعنة الشيخوخة... فهو، وإن كان عنوانا لإحدى قصص هذه المجموعة، فإنه المفتاح الذي يمهد الطريق لكل قارئ لهذا المنجز القصصي، ويسهل عليه الولوج إلى عالم مكتظ بالإحباطات المتلاحقة والإخفاقات المتتالية. فهذه العبارة تختزل كل المعاني التي تحيل على الخيبة والغربة والإخفاق والإحباط والمعاناة وسوء الحظ في مدينة عاقة لأهلها اسمها طنجة. طنجة المقنّعة بأقنعة دخيلة زائفة، جعلتها تختلف عن صورتها القديمة البهية الفاتنة ذات الخصوصية المعمارية والبشرية والخلقية. طنجة التي كانت.. طنجة التنوع والاندماج والتفتح والتمدن والأصالة والبساطة والطيبة والشهامة والنبل والسمو. طنجة القناعة والعفة والحياء....

لعنة طنجة هو تعريض صريح بهذه المدينة الساحرة التي ُمسخت تفاصيلها وصارت تتمرد على ذاتها، وتتنكر لماضيها، فأصابت أبناءها بالاغتراب وبلعنات يومية لا تنتهي. صارت تُعرض بكل قسوة عن أبنائها، وتسلمهم قرابين لنيران اليأس والبؤس، وتزرع في أعماقهم المرارة والرغبة في الانسحاب والهروب، فغرقوا في بحار التخدير والجريمة والهجرة والعدمية والاغتراب.

هذه الغربة القاسية التي تحيط بأهل طنجة في مدينتهم، جعلتهم يميلون إلى الاعتقاد بأنهم أصيبوا بلعنة حب غير متبادل.. لعنة حكمت عليهم بالانزواء والعزلة. ولذلك تجدهم يلوذون بالهامش وبالأحياء الفقيرة ويخفون أوجاعهم في المقاهي الشعبية. هناك يتحررون من سطوة الاغتراب ومن متاهة الضياع. هناك فقط يجدون الإحساس بشيء يشبه الحياة.

4- العوالم الجمالية في (لعنة طنجة):

قبل الخوض في عوالم هذا المنجز أشير إلى أنه منجز أفكار وأسئلة ورسائل قوية ومنبهة أكثر مما هو عمل فني معد للمتعة أو مقصود لذاته. فالكاتب يميل إلى فلسفة الفن من أجل الواقع وليس إلى تيار الفن من أجل الفن.

أولا: على مستوى المحكيات

عوالم لعنة طنجة كثيرة ومتنوعة. لأن هذا العمل يوجه رسائل كثيرة في قالب فني. وهي رسائل قوية تصل إلى مستوى الإدانة ومحاكمة مؤسسات الواقع.  كما نجد رسائل النقد الثائر ورسائل النقد الساخر. ففي هذا المنجز نجد المبدع يترافع بالورق والقلم والكلمة والخيال مناصرة للمظلومين والمسحوقين وسكان الهامش.

وفي عوالم لعنة طنجة نجد مزيجا من الأحاسيس المتناقضة التي تعكس وضع الإنسان المهزوز في هذه المدينة؛ مدينة المتناقضات. أحاسيس قوية غير ثابتة، يسيطر عليها اليأس والرغبة في الانسحاب تارة، وتارة أخرى يسيطر عليها إعلان التحدي والرغبة في المواجهة. يمكن تصنيفه في: الإحساس بالاغتراب في مدينة إسمنتية جاحدة. الإحساس بالظلم في وسط رأسمالي متغول محتكر للثروة والمناصب. الإحساس بالدونية في مجتمع مادي أناني لا يرحم الضعفاء. الإحساس بالإحباط والخيبة وسوء الحظ. الإحساس بضرورة مقاومة الواقع والتمرد على مؤسساته. التطلع إلى العدالة والديموقراطية وتكافؤ الفرص.

ثانيا: على مستوى الشخصيات

كان الكاتب ذكيا في اقتناص شخصيات قصصه لأنه لم يبحث عنهم بعيدا، لأنهم جزء من الصور الآدمية التي تؤثث الوسط الذي ينتمي إليه. فأغلب الشخوص في قصصه تنتمي إلى الشريحة المسحوقة التي تقاوم كثيرا لتعيش، تكد وتجد ليستمر نبض الحياة، ولكنها أحيانا تضعف وتنسحب وتستسلم لسطوة اليأس فتلجأ إلى الانتحار. يحضر رواد المقاهي الشعبية والسكارى والمنحرفون وتجار المخدرات وتجار البشر والطلبة وأصحاب المهن البسيطة. هذه الشريحة من النماذج البشرية تجمعها قواسم مشتركة عديدة، أهمها الخيبة والقهر والإقصاء.

ثالثا: المذهب القصصي

يهتم الكاتب كثيرا بالتنويع في بناء قصصه وصياغة عالمها الجمالي، وذلك بالتركيز على الواقعية تارة، والارتماء في ساحل النصوص الفانطستيكية والهتشكوكية والكتابة الساخرة وكأنه رأى في النص العجائبي الساخر والمشوق ملاذا آمنا يحتمي فيه كل من اكتوى بلهيب الحياة اليومية في ظل سيادة الظلم والتهميش والأنانية والمحسوبية والفساد.

رابعا: الفضاءات المكانية

الأمكنة تنتمي للهامش. تتقدمها المقاهي الشعبية وبعض الفضاءات التي يتردد عليها البسطاء. وهي شاهدة على تجارب حياتية مؤلمة وحكايات موجعة لشريحة اجتماعية مكتئبة حكمت عليها قوانين الرأسمالية المتغولة بالتواري طوال اليوم في الزوايا المظلمة وارتشاف كؤوس القهر بعيدا عن أعين المحظوظين الوافدين الذين استباحوا كل قطعة جميلة أو معلمة تاريخية في هذه المدينة، فأقاموا أبراجا إسمنتية باردة بلا ذاكرة ولا روح ولا حياة.

6- خاتمة:

هذه المجموعة القصصية الحاملة لهموم البسطاء والحالمة بالتغيير واستعادة الهوية، تقدم للقارئ المغربي وجها جديدا لمدينة طنجة. وجها مختلفا عما عهدناه في الأعمال الأدبية الأخرى. وجها لا يمكن أن يدرك بشاعته وقبحه إلا أبناء هذه المدينة المغتصبة. وجها مقنعا بألف قناع، وقد استطاعت هذه المجموعة أن تنزع بعض هذه الأقنعة لتظهر الصورة البشعة لمدينة صارت تفقد بهاءها يوما بعد يوم، وتتنكر لماضيها المجيد. مدينة جاحدة تنتحر فيها الفضيلة على مقصلة المال والثراء.

***

د.  محمد شداد الحراق

سأشتغل على قصيدة للمبدع رضى مريني، عَنْونها صاحبُها بعبارة خزّانة دلالياً، وبحمولات قوية مختزلة في مركب إسمي يعجن التعبير في مزيج اللغة والرقم والعجمية. والعنوان هو (دولوريس وقطار الساعة 25). لتنحسر الدهشة في هذه العتبة عن مقولات الكينونة والزمان والمكان.

1- في الصوغ الفنّي:

القصيدة في صوغها الفني جاءت عبارة عن مقاطع قصيرة، وكل مقطع يتناسل عن مقطع بحيث لا تكاد ترى خلالا بينها. إنها مشدودة إلى بعضها بذكاء الصوغ الشعري البعيد عن معانقة التكرار الجمالي، والذي يعتبره الشاعر درجة ثانية في شعرية القول بعد ذكاء التناسل الشعري.

والتناسل الشعري هنا مبني بقصدية دلالية مدهشة تستثمر آخر كلمة في المقطع لتنتج منها دلالة ثانية في المقطع الثاني، وتستثمر الكلمة الأخيرة في المقطع الثالث لتنتج منها دلالة ثالثة في المقطع الثالث وهكذا في تناغم إيقاعي أو في إيقاع تناغمي يتسم بقوة الصوغ ويفر من ارتجالية المعنى والمبنى. وإن الشاعر بذلك يقحم المتلقي في عملية البناء ويستدرجه في التفكير بمعيةٍ جمعية تتكهن بسيرورة وصيرورة المحكي الشعري داخل محطة القطار.

و إن المتتبع لعملية التناسل سينبهر بالحمولة المعجمية الموغلة في الاختلاف والتنوع والتشعب. وندرج هذا المعجم الخاص بين قوسين حتى يتمكن القارئ من ملامسة شعرية التناسل عند الشاعر رضى مريني الراغب في الصمت: (المحطة القطار الحلم اللامرئي الخيال الساعة المطر السماء السكة الحديدية الانتظار العد العكسي دولوريس الحمامة الرصيف الطريق الأثر) وهنا يتوقف التناسل والتوالد ليعلن الشاعر عن قرار شعرية الكينونة داخل المكان والزمان.

و يأتي المقطع الأخير ليكسر تجانس عملية التوليد الدلالي ويكسر معها انتظارات القارئ وهو يسقط في فخ ترقب تكرار المشهد. إلا أن الشاعر أبى إلا أن يتحول عن انسيابية التناسل الشعري إلى شعرية الدفقة الدلالية الأخيرة المختلفة في بنائها عمّا سبق. وهو المشهد الذي يسجل قمّة الإدهاش في سفر التجلي الذي ينسج ذاته في محاريب الحرف والكلمة وهما المقولتان الناقصتان في مفارقة الحضور والغياب والمكتملتان في المشترك القائم في شرط واحد هو شرط المعية (مع) والّتي أسميها (الكينونة الممتازة).

2 - هندسة البياض:

يرتّب الشاعر رضى مريني بصرَ القارئ وذهنه داخل هندسة البياض بذكاء نوعي، بحيث يسيّج بصره داخل رسمٍ كِتابيّ يطرح السطر الأول في مفردة ويليه سطر شعري في جملة إسمية أو فعلية واحدة لا غير حتى آخر القصيدة حيث تختفي هذه الهندسة ويتحول القصيد إلى انسياب شعري في أربعة أسطر شعرية مكسرةً الإيقاع السابق.

معنى ذلك أن الشاعر لا يتقيد بحدود المساحة البيضاء التقليدية التي تحدّ من حرية السواد والحبر. وبالتالي تحدّ من قوة التدفّق الشعري لديه. إن رضى مريني شاعر معاصر يهمه أن يبني قصيده وفق تصور بصري يمتد إلى دواخل المتلقي ليحدث بعض الخلخلة في نمطية استقباله لمفهوم الشعر على مستوى استثمار مساحة البياض على الأقل. وهو اختيار من الشاعر يحدد فيه مفهومه للبياض والسواد باعتبارهما جدلاً إبداعياً لا يُسيَّج في رؤية واحدة وأوحد. (الشاعر في اختياره لهذه المقاييس لا يصدر عن تفضيل عنصر على آخر، وإنما تتداخل في الاختبار الذاتي مجموع البنيات الجزئية التي يحكم وجودها ترابط جدلي وينتهي البيت عندما يلامسه البياض أو عندما يوقفه البياض فيحد من حريته في التدفق)1

ينزع الشاعر رضى مريني بالكتابة (الڭرافيك) منزعا ثنائيا يقوم على بنية تشعّب المقولتين ثم تجانسهما: الكلمة ثم السطر في توارد يتمظهر خمسة عشرة مرّة ولا ينحسر إلا في المقطع السادس عشر، وعياً منه بأن الكتابة عنصر فني جمالي لا ينفصل عن عمق الذات وهي تتفاعل في الصوغ الدلالي والنفسي للغة. حتى لا مسافة بين المحتوَى والمُحتوِي، بين المادة والوعاء. قال ابن خلدون (واعلم أن الخط بيان عن القول والكلام، كما أن القول والكلام بيان عما في النفس والضمير من المعاني، فلابد لكل منهما أن يكون واضح الدلالة)2

و هذا النزوع من الشاعر لا يروم به تسجيل الاختلاف عن الرسم العمودي، بدعوى الاختلاف فقط، وإنما هو صيرورة تمتد من قرار الكتابة الشعرية في قلب النثيرة لا في قلب القصيدة الخليلية، ومن ثمّة كان الأمر أنطولوجيا أكثر منه شكليا يقيم في تخوم الـ (الڭرافيك) في بلاغة الزخرفة واستدعاء بصر المتلقي خارج بداهة القديم. إنه التماهي بين الذات المنفعلة والذات الراسمة، في قناعة تصورية تكسر تراتبية الفضاء النصي وحدوده التاريخية وهيمنته الكاسحة. ومن هنا تداعى في الرسم موضوع النبر، فنحن عندما نقرأ السطر المختزل في كلمة واحدة، نجلو صواتةً بالغة في التقصّي الدلالة البعيدة، ولنضرب على ذلك مثال ثلاثة مقاطع:

المحطة..

تنتظر حلول قطار س25.

القطار..

عابر سبيل ساحر وحالم.

الحلم..

مسافر يتأبّط أيامه اللامرئية.

فالنبر على مفردة (المحطة) مثلا ينزل بحمولتيه الصوتية والدلالية في سؤال المتلقي عن هذه المحطة وبالتالي تتداعي في الذهن تمثلاته عن المكان وامتداده في وجدانه سواء على مستوى شكل المكان أو عناصره أو حركيته أو سكونه أو غير ذلك من تداعيات المكان الممكنة بسياق القصيد. وكذا ينسحب القول على نبر ألفاظ القطار والحلم وغيرها من مقاطع النص المفردة.

3 - شعرية الكينونة:

هي شعرية تمتح قوتها من قدرة الشاعر (ر م) على حشد ثلاثة أقانيم في متن العنوان ثم تحليلها داخل المتن الشعري في مكر أدبي مثير جمالياً ومستفز دلاليا. ونقصد بذلك:

- الإنسان: دولوريس

- المكان: القطار

- الزمان: الساعة 25

تتبدى هذه المقولة واضحة في الاسم العلمي العجمي (دولوريس) وهو علامة سيميائية مستفزة تطرح علينا أكثر من سؤال، على الأقل في تصورنا للشاعر وهو يزورّ عن تراثيات (هند وبثية وفاطمة وغيرهنّ...) ممّن ملأْنَ قصائد الشعراء وكما ملأن آذاننا ووجداننا.

و اللافت للنظر في هذه العلامة ليس العجمية فحسب، وإن دلّت في عرف الشاعر وفي عرفِ تأويلنا على اختيار المتكلم اسماً لا يرمي بنا في شوفينية القول العربي الرابض دائما في التغنّي بالاسم الأنثوي العربي، وذلك إيمانا من الشاعر بكونية التجربة الإنسانية في عمليات الانتظار أو في واقعة الانتظار. إنها النفس البشرية مقروءةً في صميمها الكوني الذي لا يتبدل من دولوريس إلى فاطمة.

وأنما الأمر متعلق في بعض تأويلنا بالاسم العجمي الموسوم بالإشارة إلى متعيّن غائب، ذلك أن اسم دولوريس مشتق إيثيمولوجياً من الأصل اللاتيني (dolor) والدال على الألم. 3

من هنا دقّة الاختيار في الاسم الشاعري والشعري الرامي بالقارئ في أتون القراءة الذكية والممتطية صهوة التأويل لا مطايا البحث عن المعنى القريب والمستسلم لأول تناول.

والمسألة تتيح لنا شيئاً من فائض المعنى ونحن نقرأ التوظيف داخل سيمياء التركيب بين الاسم وفعل الانتظار في المكان. إنها الكينونة المتميزة لا في الحضور الإنساني المكتظ، وإنما في الحضور الفنّي القارئ للذات البشرية في كينونةٍ شعرية تتسم بالعمار التأملي إن لم نقل الفلسفي، حيث الماهيةُ قضيةٌ، وحيث الوجود سؤال.

و الأمر لا يتعلق باسم مفرد هو دولوريس داخل مكان عابر هو المحطة في زمن متلاشٍ في السديم هو سحابة ساعة أو أقل. الأمر أكبر من ذلك، وأعمق، وأقوى من تحييزه داخل التشيؤ. وخاصّةً عندما ندرك استعمال الشاعر للساعة الخامسة والعشرين المترنحة خارج إمكان القبض. من هنا أيضاً شرط الكينونة في قراءة هذه القصيدة السائلة.

و في تشعب القصيدة بين مقولة المكان والزمان والإنسان تشعبت كثيرٌ من العناصر تتداعى فيها معانٍ مولّدة في صوغٍ شعري لا يبذخ في الفكرة وإنما يرسم الفكرة فلسفياً لتقول القصيدة شيئا في هذه الكينونة الظاهر بسطها والباطنِ عمقها. إذ في كل عنصر يتبدى الشعرُ مسافراً لا في تحديد ماهية العنصر بقدر ما هو انزياحٌ في شعرنة العنصر. فتتحول المحطة إلى كائن حيّ يمارس فعل الانتظار، والقطار إلى عابر سبيل، والحلم إلى مسافر، واللامرئي إلى خيال، والخيال إلى إيادٍ تتلاعب برقاص الساعة... وهكذا في توليدية عجيبة تؤثّت ذهن المتلقي وتدفع بمخياله إلى تخوم الذكاء في استنتاج الآتي والممكن والمحتمل.

وهو التشعب المنتهي بفكرة الانسجام على مستوى الخطاب الشعري الذي تتساءل فيه الكينونة أكثر من أي عنصر آخر. وفيه تبدو دولوريس حمامةً تميس على الرصيف وتغفو على كرسي الانتظار لتمسك بتلابيب القصيدة داخل فعل الانتظار الذي أعتبره صلب القصيد مشفوعاً برؤية فنية ووجودية للزمن خارج مسألة التحقيب، ونستفيد ذلك من اختيار الساعة الخامسة والعشرين في اخترام واضح لمفهوم الزمن. فالساعة الخامسة والعشرون ساعة مستحيلة في عرف إدراكنا البسيط ولكنها في عرف الشاعر ممكنة سيميائياً لأن الاستحضار هنا غير فيزيائي لا يقاس بدلالة مقدار حركة الموجودات داخل المحطة \ المكان وإنما بمقدار وجودها داخل الزمان النفسي كمطلق كوني لامتناه.

و فيه اعتمد الشاعر رضى مريني توظيف الزمان باعتباره مقولة نفسية معرفية يحدّها سلوك عاطفي وجداني وانفعالي يحتويه الشعور واللاشعور، كما وسمه في دواخل دولوريس الممتدة إلى روحها والهاربة من تخوم إحساسها البسيط بالوقت المتحيّز داخل المحطة. وبتعبير آخر فإن الشاعر اختار الزمن الممتلئ من منظور برجسوني (يفسح الزمان الممتلي والعميق والمتواصل والغني ليكون مكاناً للجوهر الروحي الذي لا تستطيع فيه النفس الانفصال عن الزمان)4

4 – ختمٌ:

ينتهي الدفق الدلالي في هذه القصيدة - التي لم نوفيها حقها في التحليل نظرا لعبقرية عمقها – بقرار شعري يعيد ترتيب تشعب العناصر الأولى المنسابة في إيقاع تناسلي عجيب، وهو قرار شعري يتناسل من مفردة الطريق بمنطق السبب والنتيجة مشيرا إلى تداعٍ انزياحي قوي هو (الأثر) الناجم عن مقولة الطريق، وهو الأثر المتحول إلى إمكان الاستمرار لتخرج معاناة الألم والانتظار من الحالة الخاصة إلى الحالة الكونية، فيتحول الأثر الناجمُ عن السَّفر سِفرا للتجلّي. وتتحول الكسرة من حركة مورفولوجية إلى حركة دلالية تحدث شرخا بين المعيش انتظاراً إلى المعيش كينونةً ووجودا. والسفر بكسر السين متعلق في استيعاب الشاعر بالتجلي. ذلك أن رؤيته الشعرية لم ترد أن تلقي بالانتظار في نهاية البداهة حيث يتحول المنتظر إلى استقرار في عربة من عربات القطار لتنتهي الرحلة من حيث بدأت... وإنما هي الرحلة الوجودية في قلب المعاناة الإنسانية الكونية الموسومة بالجوهر بقرينة لفظية هي الساعة الخامسة والعشرون التي رمى بها الشاعر في كتاب التجلي القائم على يناع الحروف والكلمات.

 ***

بقلم نورالدين حنيف

........................

1- بنيس محمد، ظاهرة الشعر المعاصر في المغرب مقاربة بنيوية تكوينية المركز الثقافي، الدار البيضاء، المغرب، ص10

2 - عبد الرحمن بن خلدون، المقدّمة، دار ابن الجوز، القاهرة، مصر، ط1،2010،ص351

3- أنظر https://fr.wiktionary.org/wiki/dolor

4- جاستون باشلار، تكوين العقل العلمي، ترجمة خليل احمد خليل، الممؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، ط 2، ص16

.............................

أنظر نص القصيدة:

"دولوريس" وقطار الساعة 25

المحطة..

تنتظر حلول قطار س25.

القطار..

عابر سبيل ساحر وحالم.

الحلم..

مسافر يتأبّط أيامه اللامرئية.

اللامرئي..

يرى مخلّفات الخيال.

الخيال..

أيادي تتلاعب برقّاص السّاعة.

السّاعة..

تعلن رحيل المطر.

المطر..

يراقب وِجْهة الريح في السماء.

السماء..

تعكس ظمأ حجارة السكة الحديدية.

السكة الحديدية..

تآكل صُلْبُها بفعل الانتظار.

الانتظار..

ينتظر على إيقاع العدّ العكسي.

العدّ العكسي..

يتلهّى في انتظار إطلالة " دولوريس ".

" دولوريس "..

تميس على الرصيف كحمامة.

الحمامة..

تغفو فوق آخر كراسي الرصيف.

الرصيف..

مفترق طُرُق.

الطريق..

اِقتفاء أثر.

الأثر..

سِفر التجلّي..

حيث زُرعتْ حروف..

أيْنَعتْ كلمات..

على إيقاع شِعريّة فنّ الغياب..

عن الحضور المشترك مع.

***

رضا مريني

 

إذا كان الشَّرُّ متأصِّلًا في البَشَر، والخير مستحيلًا- كما تُصوِّر مسرحيَّةُ (جان بول سارتر)، "الشيطان والرحمن"، في مَواطِن عديدة- فإنَّ من الخير، إنْ وُجِد، ما هو خيرٌ سلبيٌّ؛ يُعيق الالتزام بالحقِّ والواقعيَّة في النظر إلى الأمور، كموقف الفلَّاحين المتديِّنين الذين يقابلون الشَّرَّ القادم بالخير والحُبِّ(1)؛ ممَّا يفرض على الملتزِم توجيههم الوجهة الواقعيَّة، ولو استدعَى ذلك اللجوء إلى القوَّة.  والمعوِّق الآخَر: رجال الدِّين ودجَّالي الغيبيَّات؛ ممَّا يجعل مهمَّة الملتزِم صعبةً في إقناع أبناء الشَّعب بزيف ما تُحشَى به رؤوسهم، مثلما حدث عندما حاول (تيتزل)، الكاهن الدجَّال، أن يوزِّع صكوك الغُفران على أبناء الشَّعب ليَبْتَزَّ أموالهم.  وحين حاول بطل المسرحيَّة (كوتز) أن يُفهِّم الجمهور حقيقة لعبة تيتزل الدنيئة لم يُفلِح، بل لقد عاداه جمهور الشَّعب، على حين استطاع تيتزل أن يزيد حُبَّ الشَّعب إيَّاه وإطاعته.(2)  وقد يكون تضليل الشَّعب عن طريق السِّحر والشعوذة وما أشبه ذلك، مثلما نجِد في (اللوحة الحادية عشرة)، إذ تَحُكُّ السَّاحرة بِيَدٍ خشبيَّةٍ ظهور الفلَّاحين، زاعمةً أنَّهم بذلك سيُصبحون معصومين من التعرُّض للجراحات. حتى لقد استُغِلَّت هذه الطريقة لدفعهم إلى الحرب ومنعهم من الفرار. غير أنَّ (ناستي)، الذي يمثِّل قائد الثورة الشَّعبيَّة، وقف أمامهم، مخاطبًا أحد أبطال هذا الفصل من المسرحيَّة:

"ناستي: لقد جعلتُ منهم رجالًا وأنتَ تحوِّلهم إلى بهائم!

كارل: إنَّ البهائم التي تُقتَل وهي ثابتةٌ بمكانها أفضل من الرِّجال الذين يَفِرُّون."(3)

وماذا عن التعليم؟

من خلال دَور المعلِّمة التي تتولَّى تعليم الفلَّاحين، تُصوِّرُ المسرحيَّةُ التعليمَ- وكان المعوَّل عليه في تبصير البُسَطاء والجهلة بحقيقة الأمور ووظائف الإنسان في الحياة- على أنَّه لا يُعَلِّم إلَّا المثاليَّة الفارغة، وحُبَّ الخير العقيم، الذي لا يُشْبِعُ جائعًا، ولا يكسي عاريًا، ولا يشفي مريضًا، ولا يَدْرَأُ شَرًّا محدِقًا بالمجتمع.  وأنَّ تكريس تلك المثاليَّة تجعل الناس يقفون ضِدَّ من يُفتِّح عيونهم على أشعَّة الشمس الساطعة.(4)

 وهكذا فإنَّ مسرحيَّة (سارتر) تُقدِّم عرضًا لمختلف جوانب المشكلة الوُجوديَّة، وتصويرًا للصراعات بين عواملها المتباينة المركَّبة.  صراع الفقر مع الغِنَى، وصراع الواقعيَّة مع المثاليَّة، وصراع الخير مع الشَّر، وصراع الوُجوديَّة مع الدِّين، وصولًا إلى النهاية التي جاءت دعوةً إلى تحقيق وجود الإنسان.  أمَّا الوسيلة، فهي باعتماد الإنسان على نفسه في تحقيق ذلك الوجود، وبالواقعيَّة الوُجوديَّة، التي تجاهد الفساد في كلِّ صُوَره، وإنْ استدعَى الأمر العنف والإرهاب! 

أَ فيتَّفق هذا الالتزام الذي يطرحه (سارتر) في مسرحيَّته هذه مع ما دعا إليه الوُجوديُّون، وفي مقدمتهم سارتر نفسه، من أن يقدِّم الكاتب رأيه الالتزاميَّ بهدوءٍ، وبلا عنفٍ أو تَشَنُّج، بل من دون أنْ يُشْعِرَ القارئَ بفرض شيءٍ عليه، وإنَّما تُقَدَّم إليه الحقائق والاقتناعات ليُكْسَب تعاطفُه على الأقل؟ 

تلك مسألةٌ نقديَّةٌ تتطلَّب استطرادًا جانبيًّا، ليس هذا بمجاله.  ومهما يكن من أمرٍ، فلعلَّه قد اتَّضح- من خلال سلسلة المقالات في هذا الموضوع- ما جاءت تُمثِّله مسرحيَّة (سارتر) من نظرةٍ وجوديَّةٍ إلى علاقة الأدب بالسُّلْطة، وما عبَّرت عنه من التزامٍ وُجوديٍّ عميق، لا يخلو من تطرُّف.

***

أ. د. عبد الله بن أحمد الفَيفي

...........................

(1) سارتر، (د.ت)، الشيطان والرحمن، ترجمة: سامي الجندي، (بيروت: المكتب التجاري للطباعة والنشر والتوزيع)، 186- 188.

(2) انظر: م.ن، 136- 144.

(3) م.ن، 248.

(4) انظر: م.ن، 181- 190.

 

في خضم صراع الايدلوجيات وتشابك الأفكار وارتباك أو اهتزاز في بعض الانتماءات في العراق لاسيما أثناء وبعد تظاهرات تشرين 2019،التي خرجت وعلى الرغم من كل الملاحظات عليها لكنها خرجت بمسوغات حقيقية ناتجة عن فشل المنظومة السياسية الحاكمة بعد 2003بقيادة الاسلام السياسي، يصدر لنا أحد الشباب كتابا بعنوان (تحرر من القيود) وللوهلة الأولى يظن من يقرأ إنه يدعو الى كسر كافة القيود بما فيها الضوابط الشرعية والقانوية لكن عندما نسترسل بقراءة الكتاب نجده إنه ضد القوالب التي اختلقتها العادات ووبعض الطقوس المبتدعة التي تحولت إلى مقدسة يصعب التقرب منها هي من صنع ذوات المصالح وبعد ذلك تصبح قيودا وأثقالا على كاهل الفرد والمجتمع ولما نقرأ مقطوعة من الكتاب سيتبين لنا أن الكاتب محمد كريم الكلابي يدعو الى تنظيم الحياة لا انفلاتها فالتمسك بالشرع والقانون ما هو إلا تمسكا بنظم الحياة وهذه قضية يدعو أو دعا اليها  الامام علي عليه السلام إذ قال (عليكم بنظم أموركم) ونظم الأمور في واقع الحال  يعد مفتاحا لتقدم المجتمعات ورقيها ومن نافلة القول إن التقدم الذي يشهده العالم الأول جاء بعد أن أصبح القانون القوة الفاعلة هناك وخرقه مهما كان صغيرا يواجه بعقوبات رادعة عكس المجتمعات في العالم الثالث ومنها العراق الذي يطبق القانون بصورة مراعاة المصالح لا لبناء المجتمع ولابد لنا من القول إن القيود التي فرضها الانسان على نفسه لا تقتصر على من يؤمن بالأفكار الدينية أو المنحدر من التقاليد العشائرية أو القبلية بل إن الجماعات التي تقف بالضد من هاذين المفهومين أيضا طوقت نفسها بقوالب فكرية تحولت بمرور الزمن إلى قيود لا يمكنهم أن يتحرروا منهم ولذلك يصعب عليهم التحرر منها وبالتالي صعوبة مد جسور التفاهم معهم بالنسبة للجماعات الاسلامية أو العشائرية وحتى مع اللامنتمين ولو نقرأ المقطع التعريفي لكتاب محمد كريم الكلابي اللذي ينص على "إن القيود التي يفرضها الانسان على نفسه إنما هي سجن داخلي للذات يثقلها ويقيدها عن التلذذ بمتع الحياة . وتلك القيود وليدة من الانسان نفسه فهو من يخلقها ويحتضنها وينميها لتكبر فوق أكتافه متحكمة فيه ومتشعبة في أدق تفاصيله" على الرغم من سهولة المفردات لكنها دقيقة جدا فقد حمل الانسان بخلق القيود ولم يذكر أمرا آخر بل استخدم مفردة الانسان ذاتها بدلا عن مفردة الفرد لأنها أشمل وأدق في هذا المفهوم أن هذا الكتاب ينبئنا بولادة كاتب دقيق في اختياراته وكلماته وستكون لنا وقفة حوارية معه ليبين لنا كيف فكر في هذا الكتاب وما هي مشاريعه.

***

رائد عبد الحسين السوداني

كان الدافع الرئيس للقيام بهذه الدراسة حول الإسلاميَّات في "صادق أو القَدَر" لـ(فولتير) ملاحظة بعض الآثار الإسلاميَّة أو العَرَبيَّة، خاصَّةً القُرآنيَّة، أو التي قد تعود إلى حكايات "ألف ليلةٍ وليلة". فجاءت بهدف استقصاء تلك الآثار، وإرجاعها إلى أصولها. وازداد الاهتمام بالموضوع بمعرفة علاقة (فولتير، -1787) الوثيقة بالشَّرق. وأبرز دليلٍ على تلك العلاقة قِصَّة "صادق" نفسها؛ إذ كانت قِصَّةً بابليَّةً شرقيَّةً قديمة، أعاد فولتير طرحها على نحوٍ آخَر.

ولأنَّ قِصَّة "صادق" قِصَّةٌ بابليَّةٌ قديمة- نُقِلت إلى العَرَبيَّة في الفترة نفسها التي أُلِّفت فيها مجموعة "ألف ليلة وليلة"- فإنَّه يبدو من المهمِّ أن تُدرَس القِصَّة البابليَّة القديمة، أو المترجمة إلى العَرَبيَّة؛ لمعرفة ما أخذ (فولتير) منها وما ترك. غير أنَّ هذا مشروعٌ آخَر لعلَّه يتحقَّق مستقبلًا. أمَّا هذه المقاربة، فتُعنَى باستقراء الآثار الفنِّـيَّة المقارنة، اعتمادًا على الترجمة العَرَبيَّة التي أنجزها (طه حسين) لقِصَّة "صادق".

وبناءً على هذا قُسِّم الموضوع إلى ثلاثة أجزاء: جُعِل الأوَّل للمَحاور الرئيسة في قِصَّة "صادق" لـ(فولتير)؛ لأنَّ في ذلك مفتاحًا لما سيكون بعد ذلك من دراسة. أمَّا الجزء الثاني، فكان عن العلاقات التاريخيَّة، وقد انشعب هذا الجزء إلى شُعبتين: واحدة أُفرِدت لحياة فولتير، والأخرى لصِلاته بالشَّرق الإسلامي. والجزء الثالث للمقارنة، عُرِضت فيه الآثار الإسلاميَّة أو العَرَبيَّة وأُصولها، مبيَّنةً وجوه التشابه أو الاختلاف بين المؤثِّر والمتأثِّر. وانقسم هذا الجزء إلى قِسمين: الأوَّل "بين القُرآن الكريم وقِصَّة صادق"، والآخَر "بين ألف ليلة وليلة وقِصَّة صادق".

وقد كنتُ كتبتُ هذه الدراسة قبل أكثر من ثلاثة عقود من السنين، خلال الفصل الجامعيِّ الأوَّل لعام 1405هـ= 1985م، ضِمن متطلباتٍ فصليَّةٍ لمقرر (الأدب المقارن)، في مرحلة الماجستير، تحت إشراف (أ.د. أحمد كمال زكي، رحمه الله). ومرَّت السنون، ولم يتسنَّ لي أن أنشر منها إلَّا مقدِّمتها في صحيفة «الرياض»، خلال ثمانينيَّات القرن الماضي، ولم تشأ الصحيفة أن تستكمل نشر بقيَّتها، ربما بسبب السمعة الفولتيريَّة غير المقبولة إذ ذاك.

ويسجِّل لنا هذا العمل مرحلة من مراحل تطوُّر المصطلح الأجناسي في الأدب، ولاسيما في العالم العَرَبي. فالمتلقِّي اليوم سيسأل: أهذا النصُّ "قِصَّة"، ذات صبغة تاريخيَّة، كما سمَّاه كاتبه: Histoire، وكما وافقه مترجمه؟ أم هو "رواية" تاريخيَّة، كما يمكن أن نفهم مصطلح (رواية) اليوم؟ إنَّه رواية، حجمًا وبناءً، غير أنَّه كان يُسمَّى "قِصَّة"، في ستينيَّات القرن الماضي، وما قبلها. وربما مُيِّز بإضافة صفة "طويلة"؛ فسُمِّي: "قِصَّة طويلة"، بعد ظهور "القِصَّة القصيرة". غير أنَّنا هنا سنلتزم بالمصطلح المستعمل مع النصِّ، بالفرنسيَّة والعَرَبيَّة.

كما أنَّ هذا العمل يسجِّل مرحلةً من مراحل تطوُّر الباحِث، بل من مراحل تطوُّر مناهج الأدب المقارن في العالم. فليس ما يجده القارئ في هذا الفصل من انطلاق المقارنة من شرطَي (العلاقات التاريخيَّة) و(التأثُّر والتأثير) هو لأنَّ موضوع الدراسة كان يستدعيه بالضرورة، لكنَّه تبنٍّ لمعايير المدرسة الفرنسيَّة التقليديَّة في الأدب المقارن، المنحدرة من القرن التاسع عشر؛ التي تشترط ذلك، والتي ما زالت عقابيلها مسيطرةً إلى اليوم على غير قليلٍ من المهتمِّين بالأدب المقارن. وكان ذلك بالطبع هو مذهب أستاذي (أحمد كمال زكي)(1)، ومذهب جيله من المقارنيِّين العَرَب، تلاميذ المدرسة الفرنسيَّة العتيقة. على حين لم تَعُد المدرسة الأميركيَّة في الأدب المقارن تُقِرُّ بمعيارَي العلاقات التاريخيَّة والتأثُّر والتأثير ولا تأخُذ بهما، منذ الثورة على المدرسة الفرنسيَّة- في المؤتمر الثاني للرابطة العالميَّة للأدب المقارن، عام 1958- على يد (رينيه ويليك، -1995). وإنَّما تتبنَّى، عِوَض مفهوم التأثُّر والتأثير، مفهوم (التوازي) بين الأعمال قَيْدَ المقارنة. غير أنَّ عدم اشتراط التأثُّر والتأثير في الدرس المقارن لا يعني إنكار وجوده، إنْ وُجِد، كما في حالتنا هذه.(2)

وللموضوع بقايا.

***

أ. د. عبد الله بن أحمد الفَيفي

(رئيس الشؤون الثقافيَّة والإعلاميَّة بمجلس الشورى سابقًا- الأستاذ بجامعة المَلِك سعود)

.....................

(1) وفي كتابه «الأدب المقارن»، (الرياض: دار العلوم، 1984)، نموذج من ذلك المنهاج الفرنسي.

(2) حول هذا طالع مثلًا كتاب: علوش، سعيد، مدارس الأدب المقارن، (بيروت: المركز الثقافي العربي، 1987).

"كلما عشت حياتك بشكل كامل كلما كان موتك أقل مأساوية"

ايرفين دي يالوم.

العام 1973 سيشهد حدثا مهما في مجال علم النفس، حيث اصدرت المطابع كتاب " إنكار الموت " لعالم النفس الامريكي إرنست بيكر – ترجمة سارة ازهر واحمد عزيز -، وسرعان ما يحصل الكتاب على جائزة بوليترز، لكن المثير ان الجائزة لم يستلمها المؤلف الذي توفي قبل اعلان الجائزة بشهرين.. والمثير ايضا ان " إرنست بيكر " ظل طوال عمله يخبرنا ان " الدافع الحقيقي خلف سلوك الإنسان هو الخوف من الموت " اثناء تاليفه لكتابه " إنكار الموت " كان بيكر يعاني من سرطان القولون، كان في عمر التاسعة والأربعين، والمرض الذي اصيب به لا أمل في الشفاء منه. تم نقله للمستشفى حتى يقضي أيامه الأخيرة. كان يشعر بالحزن على هذا المواجهة المبكرة للموت الذي سعى الى إنكاره.ولهذا قرر ان يقدم كتابا وصفه بانه أنضج ما قدمه، يريح من خلاله الظلال الثقيلة التي تنعكس على حياته والقلق الوجودي الذي يعيشه والعدم التي يحيط به وبنا جميعا والذي اشار اليها كيركغارد قبل ما يقارب المئتين عام عندما قال ان المشلكة ليست هى" الموت"، بل المشكلة الحقة هى" أني أنا أموت"..ولهذا اصر بيكر وهو يجد الموت يزحف باتجاهه ان يحلل شخصية الإنسان الهارب من فكرة الموت، من اجل ان يمنح هذا الإنسان الفرصة لمواجهة هذه الحقيقة، أو ليرى كيف لعبت به فكرة الموت ودفعته ليشكل العالم الاجتماعي والثقافي الذي منحه الإحساس بالقيمة وساعده لكي ينسى قليلا مصيره المحتوم. لكن ماذا على الانسان ان يفعل لكي يواجه هذا المصير المحتوم ؟ يحيلنا بيكر الى كيركغارد الذي عاش ممارسة فكرية صعبة وخطيرة لكي يصل إلى فهم حقيقة الإنسان من دون أن يكذب على نفسه. هل يطلب منا إرنست بيكر ان نواجه الموت وجها لوجه؟، انه ينتظره بالخارج وسيطرق الباب عليه في أية لحظة، يحيلنا في " إنكار الموت " الى آدم وقصة خروجه من الجنة، حيث يرى بيكر إن اعتراف آدم بالخطيئة واكله من شجرة المعرفة، هذه الافعال احتوت على حقيقة الموت، حيث إن قمة معرفة الذات هي إدراك الإنسان لحتمية زوال كل شيء.ولهذا يؤكد بيكر ان الإنسان هو الكائن الوحيد بين الكائنات الحية الذي يعرف جيدا أنه سيموت، وبسبب هذه المعرفة تطور لديه الوعي والضمير، ولذلك اضطر الإنسان على مدى الأجيال للتعلم واكتساب الحكمة حتى يتمكن من تجنب الموت والبقاء على قيد الحياة لأطول فترة ممكنة.

لكن هنا تواجهنا اعمق مشكلة وجودية حيث يتساءل الانسان: لماذا أولد وأتعلم واعمل، ثم بعد كل هذا يكون مصيري الموت؟. عند هذه اللحظة تنشأ عند الانسان الرغبة في الاستسلام للحياة، فبرغم الموت والعدم، فان الانسان ما يزال يعمل ويتعلم ويتألم ويتأمل ويكافح من اجل تغيير واقعه، وكان الموت قد تحول الى خرافة، لهذا يرى بيكر ان الموت عندما يقترب منا يحدث في دواخلنا رعب رهيب، حيث تستيقظ تلك المنطقة العميقة داخل النفس البشرية التي حاولنا ان نتجاهلها من خلال مشاغل الحياة اليومية، ومثلما حاول فرويد في كتابه الشهير – ثلاث مقالات في نظرية الجنس " – ترجمة سامي محمد علي – ان يتعامل مع مشاكلنا على انها مشاكل جنسية نشأت من رفضنا لاجسادنا وكبتنا لرغباتنا. فان إرنست بيكر يطور تلك النظرية ليخبرنا ان كل ما فعله فرويد هو محاولة لانكار حقيقة الموت.

عام 2018 اكتشف الاطباء اصابة الباحثة في علم النفس والجنس مارلين يالوم بسرطان في النخاع، وستقرر مع زوجها عالم النفس الوجودي إيرفين دي يالوم تاليف كتاب بعنوان " مسألة موت وحياة " – ترجمة خالد الجبيلي، حيث يبدا الاثنان في كيفية العيش من دون ندم، برغم ان الموت يتربص بالزوجة.

كان هدف الكتاب أن تموت مارلين موتا جيدا، وان يتمكن إيرفين العيش بدونها. في الاشهر الاخيرة من حياة مارلين حاول الزوجان ان ينظرا الى الوراء لسنوات قاربت الـ " 65 " عاما من زواج بهيج، ونجد الزوج يشعر بالقلق حيال فقدان "أهم شخص في حياتي "، فهو يخشى أن يضيع الكثير من ماضيه

عالم النفس الذي كرس حياته لمعاجة المرضى وكشف وساوسهم وخوفهم، يجد نفسه لأول مرة في حياته في مواجهة "حتمية الموت" ولهذا يتساءل مع زوجته: "كيف يمكننا أن نترك هذا العالم برشاقة للجيل القادم؟".

يتذكر إيرفين ذلك الصبي البالغ من العمر خمسة عشر عاما وهو يقع في حب فتاة في عمره. هذا الرجل يبلغ الآن 91 عاما ؛ كانت مارلين تبلغ من العمر 88 عاما عندما رحلت عن عام 2019. كانت مارلين هي التي اقترحت على زوجها أن يقوما بكتابة كتاب يوثق وفاتها من منظور الزوجين اللذين كانا معا سعداء لأكثر من 60 عاما، ولهذا ارادت مارلين من خلال الكتاب ان يكون لديها ما تقدمه "للأزواج الآخرين من أفراد عائلتها الذين ربما يواجهون مرضا مميتا". فهي منذ ان علمت باصابتها بالسرطان اخذت تتبع نصيحة نيتشه "الموت في الوقت المناسب".

يقدم لنا كتاب " مسألة موت وحياة " دروسا في كيفية التعامل مع تقدمنا في السن والذي يجلب منظورا جديدًا لاشياء مثل الحب والمرض والموت. يكتب كل من إرفين ومارلين فصولا متتالية يستكشفان فيها مشاعرهما، وكيف يواجه كل منهما مسألة فقدان شريك حياته الى الابد ولأن مارلين لا تملك وقتا طويلاً لتعيش تخطط لما يجب أن تفعله بممتلكاتها، وكتبها، وكيف تقول وداعا للعائلة والأصدقاء. من خلال القيام بذلك، تقوم بتقييم ما هو مهم بالنسبة لها، وما الذي يمنحها الفرح، وما الذي يمكنها تحقيقه بين مرحلة المرض وانتظار شبح الموت.

تظهر مارلين كشخص لطالما عرف كيف يعيش والآن تريد ان تعرف كيف يجب ان تموت.تحب مارلين إيرفين بعمق، وهي في سن الثامنة والثمانين من عمرها سعيدة بالحياة التي عاشتها، هناك شعور حقيقي بأنها وان تخلت عنها لكنها تشعر بالثراء مما حققته، وما ستتركه من ارث الحب لزوجها وعائلتها وأصدقائها.في العشرين من تشرين الثاني عام 2019 ينشر يالوم خبر نعي زوجته التي توفيت في ساعة مبكرة من الصباح.

بعد الكتابة في الطب النفسي، يجرب ان يُدخل التحليل النفسي في صلب الرواية، كان يريد ان يتفوق على سيجموند فرويد الذي فشل في بداية شبابه ان يصبح روائيا، فوجد ضالته عند دستويفيسكي وراح يعطي نصائح لفرجينيا وولف، ويسخر من الصفحات المملة في " يوليسيس " جيميس جويس، ويفضل عليه عبقرية مارسيل بروست. إرفين د. يالوم المولود في في الثالث عشر من حزيران عام 1931، في واشنطن لوالدين هاجرا من روسيا، أفتتح الأب بقالة صغيرة، فوق الشقة الصغيرة التي سكنتها العائلة، لم يحب والداه الكتب، وكان اهتمام ابنهما الصغير بالذهاب على دراجته الى المكتبة العامة يثير استغرابهما:" كانت القراءة ملجأ لي، اذهب الى المكتبة مرتين في الأسبوع، لامارس هواية تخزين الإمدادات "

 يجد في الروايات ضالته، عالم من الخيال يحاول ان ينسج منه عالما بديلا يتحول شيئا فشيئا الى مصدر إلهام وحكمة: " في وقت مبكر من العمر طورت الفكرة - التي لم أتخلى عنها أبداً - أن كتابة الرواية هي أفضل شيء يمكن أن يفعله الشخص ".لكنه وجد نفسه مضطرا إلى ان يدرس الطب تلبية لرغبة امه التي كانت تتباهى بان ابنها سيصبح طبيبا مشهورا، يختار الطب النفسي، فهو الاقرب الى الادب، هناك سيتمكن من الاستمرار في قراءة دستويفيسكي وان يجد الجواب على سؤال: اي عقار مهدئ كان يتناوله تولستوي ؟، ويرافق كافكا في متاهة البحث عن المصير.

كتابه الاول " العلاج النفسي الجماعي " صدر عام 1970 فلفت الانظار اليه، حتى ان البعض وضع مقارنات بينه وبين فرويد، باع الكتاب اكثر من مليون نسخة وترجم الى العديد من اللغات، واصبح من الكتب الاساسية التي تدرس في كليات الطب النفسي،بعدها يصدر كتابه الشهير " معنى الحياة " والذي يحقق نجاحا كبيرا في المبيعات، يقول لمراسل النييويورك تايمز حين يسأله عن سر اقبال القراء على كتبه:" أنها تدين ببعض نجاحها الى عشقي للرواية، وقدرتي على الإستفادة من فن القص. لقد سمعت منذ عشرين عاماً أن الطلاب يقولون لي إن كتبي تقرا كأنها روايات "، يؤمن ان الكتب الجافة – هكذا يسمي المؤلفات العلمية – ستحقق رواجا كبيرا لو ان اصحابها قرأوا بانتباه وصايا فلوبير لكتاب الرواية:" سيعرفون حينها ان في كل كتاب يجب ان تكون هناك قصة تبقي القارئ مشدودا إلى الصفحات ".

تستهويه الفلسفة فيتعمق في قراءة اعمال افلاطون وابيقور، وهيوم ولوك واسبينوزا، وشوبنهاور ونيتشه وسارتر وكامو:" كانوا في الجامعة يقولون لنا ان علم النفس موجود في اعمال فرويد ويونغ، لكن بدا لي ان في الامر خطأ كبيراً، لان الفلاسفة منذ عهد افلاطون وحتى يومنا هذا كانوا يتعاملون مع قضايا ذات علاقة بمجال الطب النفسي".

في أوائل التسعينيات يقرر نشر روايته " عندما بكى نيتشه – صدرت عام 1992- صدرت ترجمتها العربية عام 2016 للمترجم خالد الجبيلي - قال لزوجته بعد ان قدم الرواية للناشر: "مرحبا بالخيال ".

في رواية " هكذا بكى نيتشه " نجد سالومي تطلب من عالم النفس الشهير جوزف بروير أن يتولى علاج نيتشه الذي يعاني من الكآبة وشعور بالقهر، وتخاف عليه ان ينتحر، وبهذا ستضيع امال الفلسفة بالبقاء طويلا، هكذا تخبر الطبيب عن هواجسها..ومثلما وجد فيها الفيلسوف باول ري ومن بعده نيتشه والشاعر ريلكه ومعهم فرويد نموذجا للجمال الساحر، فان اللقاء الاول الذي يحدث بين الطبيب وسالومي، ينذر بان الطبيب في طريقه ان يصبح تحت رحمة هذا الحضور الانثوي الطاغي، ورغم ان سالومي لا تعود إلى لقاء بروير سوى مرة واحدة، إلا أنها تضع امامه عددا من المفاتيح التي تتعلق بشخصية نيتشه الذي يرفض ان يسلم امره بيد شخص آخر حتى لو كان الطبيب المعالج، فهو يؤمن ان الناس لاترغب " إلا في الهيمنة على الآخرين لزيادة قوتهم. "

في العام 2005 يصدر يالوم روايته الثانية " علاج شوبنهاور" - صدرت بالعربية عام 2018 بترجمة خالد الجبيلي – حيث نجد انفسنا هذه المرة مع المعالج النفسي جوليوس، الذي يعاني من الكابة والاحباط بسبب إصابته بمرض السرطان، فهو يدرك ان الموت صار قريباً منه، وعليه ان يتامل حياته الماضية، وهذا ما يفعله، حيت نجده يتذكر أحد مرضاه المصابين بالإدمان، وهو الطبيب فيليب، الذي تحولت حياته الى جحيم لايطاق بسبب تأثير الإدمان عليه، يقوم جوليوس بالسؤال عنه ويبدأ بالبحث عن اخباره ؟ ليكتشف أن مريضه السابق قد شفي من الادمان، وأصبح استاذا جامعيا يلقي محاضرات في الفلسفة،، وكان الامر بمثابة المفاجأة لجوليوس، حيث أخذ يسأل: كيف يمكن للانسان ان يتعالج من الإدمان؟ و كيف يستأنف حياته بسهولة وبساطة وكأن شيئاً لم يكن؟.

 يكتشف جوليوس أن مريضه السابق عالج نفسه بنفسه، من خلال قراءة كتب شوبنهاور، حيث وجد في حياة الفيلسوف الالماني المتشائم تشابهاً كبيراً بمعاناته مع الحياة والمرض، فوالد فيليب انتحر مثلما انتحر والد شوبنهاور، وهو ايضا مثل الفيلسوف العدمي يكره امه و يحب العزلة ويرى في العلاقات الإنسانية مزيدا من الأوجاع، وهوايضا كارها للجنس، الذي يراه مثل السرطان يفسد كل شيء، ويحطم العلاقات الانسانية بين البشر، ويسلب الضمائر شرفها، وهكذا تعلم فيليب من شوبنهاور ضرورة حفظ المسافة بين كل شخص وآخر نفسياً وجسدياً، فسار على تلك التعاليم واعتزل الحياة، وانقطع للتفكير والتأمل، فكان ذلك بمثابة العلاج له من الإدمان، لكنه يقع في إدمان آخر، وهو التعلق بشوبنهاور، وهو الأمر الذي سيعمل الطبيب جوليوس على مساعدته للتخلص منه.

يرى يالوم، أن نظرتنا للعالم، تتشكل في سنوات الطفولة، ثم تتطور وتكتمل، لكنها لا تتبدل من حيث الجوهر، وفي الرواية نجده يتتبع حياة شوبنهاور وعلاقته بوالده ووالدته حيث يرى ان تلك العلاقة هي التي اسهمت تشكيل نظرته التشاؤميه، فقد كان والده قاسيا ً، بينما كانت والدته رقيقه، وكان زواجها بوالده اشبه بالمأساة بالنسبة لها، فهي من طبقة فقيرة تنظر إلى عائلة شوبنهاورالغنية بخوف، وتندم على تركها حياتها البسيطة وحبيبها الاول الذي لم يفارقها لحظة واحدة. في هذا الجو النفسي المتازم تشكلت اراء شوبنهاور عن الحياة.

قال يلوم إنه يقرأ كثيرا في الفلسفة والادب لكي تزداد أفكاره عن الحياة. " نحن فنّانون بالطريقة التي نرى بها العالم ونفسّره ونبنيه. فنّانون كل يوم باللعب، الحديث، المشي، الطعام، والحب. "، وهو يتذكر مقولة أندريه جيد: "إن التاريخ خيال لم يحدث. فالخيال هو التاريخ الذي ربما حدث." وهذا هو بالضبط ما أنتجته يالوم: أكثر من مجرد اجتماع افتراضي لعقول مهمة تاريخياً، " عندما يبكي نيتشه، وعلاج شوبنهاور، و " مشكلة سبينوزا " ان سرد جذاب وواضح لظروف الحياة الواقعية لثلاثة من الفلاسفة الكبار عاشوا حياة غريبة ومثيرة.

***

علي حسين – كاتب

رئيس تحرير صحيفة المدى البغدادية

توطئة: تشكل الدراسات المقارنة صورة العلاقات الثقافية والتراثية بين الأمم ولحضارات البشرية، ومن أهم هذه الدراسات في خزانة السفر الثقافي العالمي هي رسالة الغفران لأبي العلاء المعري والكوميديا الألهية لدانتي الأيطالي بدلالة مشتركات اللقاء بينهما. ولا أخفي رغبتي في البحث في مثل هذا الموضوع الخصب والثري هو تحديث التراث الثقافي العربي والأطلاع على حضارة الغرب الأوربي ومدى التلاقح الفكري والثقافي بين الحضارتين .

الفنتازيا: وسر حضور الرحلات الفنتازيا الخيالية في مجمل الحضارات هي تلك الفكرة (الأنسانية) المشتركة الكامنة في جينات الحضارات البشرية في تلك الحكايات الأسطورية الأفتراضية التي نطالعها اليوم في رسالتي المعري ودانتي، وإن هاتين الجوهرتين النفيستين تعتبران من أبدع روائع الأدب العالمي ومن أهم الذخائر التراثية الثرة والثرية التي توجت ورصعت خزانة الفكرالأنساني وأبدعت في الخيال الأفتراضي للبحث عن المدينة الفاضلة والتي يقودها الأنسان النموذجي المصلح الكامل، ولغرض الأرتقاء بالذات البشرية إلى الكمال الروحي والعقلي وأيجاد الأنسان النموذجي السوي بعد تعميدهِ من خطاياه بالتوبة الأزلية وخضاعهِ لدفع فاتورة الجلد الذاتي والتعذيب الروحي المأساوي في محطات الرحلات الفنتازية الخيالية التي تبدو لنا بشكل أساطير، ليس غريباً أن نرى اليوم شيوع (الأساطير) في زمن التكنلوجيا الرقمية وفضاءاتها الحداثوية نرى كل جامعات العالم تحتوي على "قسم علم الأساطير" Mythology وكما أرى: (إن الأساطير حضارة والحضارة أساطير) أذ لاتوجد حضارة عبر زمكنة التأريخ دون أساطير مخالفة للعقل البشري، فالمجنون يعتبرها حقيقة والعاقل يعتبرها وسيلة للتسلية والعبرة .

(يلومون الأديان لأنّها مليئة بالأساطير، وماذا تكون الدنيا بلا أساطير؟ أعطوني حضارة دون أساطير، إن الأنسان نفسهُ أسطوري بالفطرة، قيل إن ألأنسان حيوان عاقل، أبحث طيلة حياتي عن أدلة يمكنها تأكيد ذلك) الفيلسوف البريطاني / برنت راند رسل(كتاب الكوميديا الألهية/ دانتي .

الكوميديا الآلهية لدانتي

الكوميديا اللإلهّية --- الملهاة – للشاعرالإيطالي " دانتي"، 1265م – 1321م، الكوميديا تدور في أطار جديد من القيّمّ الروحية (اللوثرية) لأصلاح رجال الدين الذين يمارسون أساليب تعسفية في تغيير أتجاهات البشر في السياسة والأصلاح حسب أهوائهم وأستغلال سلطاتهم الكنسية الكاثوليكية في عصرهِ، ونسجَ أفكارهُ بشعرٍ ملحمّي تحتوي على نظرةٍ خياليةٍ في الإِستعانةِ بالعناصر المجازية حول الآخرة- حسبَ الديانة المسيحية- وتخيلَ عالماً أبدّعهُ من خياله فيه مكانٌ للخير وكذلك للشر- عندما تمرد أولُ ملاكٍ على الّرب، لسريان الشر في الأنسان نفسه، فهو يصبوا في قرارة نفسهِ ألى رحلةِ أرتقاءٍ روحي نحو الكمال، وأيجاد الأنسان النموذجي المُصلِحْ بعد تعميدِه من خطاياه بالتوبة الأزلية بعد معاناة الجَلد الذاتي والتعذيب الروحي المأساوي في مرحلتي رحلة (الجحيم والمُطّهر)، وبذلك غاصَ الشاعر الإيطالي دانتي في أعماق هذا الكائن العجيب المتمرد والمتعجرف تارةً بجبروت وخيلاء، وواهن ومتمسكن تارةً اُخرى، غايتهُ الصعود في السماوات العلا لمشاهدة الأنوار السماوية الساطعة بنور الرب أو لنقل: إنهُ يصبو إلى رحلة أرتقاء روحي نحو الكمال لأيجاد الأنسان النموذجي المصلح بعد تعميده من خطاياه وأعطائهِ فرصة التوبة الأزلية، وربما أعتقد أن هناك ثمة (فلترة) بين مرحلتي الجحيم والمطهر لأيجاد هذا الأنسان المنشود .

رسالة الغفران لأبي العلاء المعري

أبو العلاء المعري شاعرٌ وفيلسوفٌ من العصر العباسي 363 -449 هجري---- 973 -1057 م،هاجم عقائد الدين، رفضَ أن الأديان تمتلك الحقائق التي يزعمها، أعتبرمقال الرسل مزورا لذا أتُهمَ بالزندقة لأنّهُ أعلن آراءهُ بأن الدين خرافة أبتدعها القدماء لاقيمة لها ألا لأُلئك الذين يستغفلون السُذّج من الناس، وكان نباتيا لدعم حقوق الحيوان .(اقتباس من كتاب رسالة الغفران لأبي العلاء المعري)

وأن رسالة الغفران أثمن روائع الأدب النثري العربي، وهي من سلسلة ذخائر الأدب العربي أو أسطورة اللغة العربية قبل دانتي ب—280 سنة .

وجد الباحثون تشابهاً كبيراً بين الكوميديا الألهية ورسالة الغفران لأبي العلاء المعري، وأُثيَر(بضم الأف) جدلٌ واسع في هذا المجال وأول من أثارَ هذا الجدل هو المستشرق الأسباني الكاهن *بالاثيوس*1919 أكّدَ فيها أثر رسالة الغفران بالكوميديا وأيدتها الأقلام العربية ومنهم من قال (أعمى المعّرةِ كان معلماً لنابغة ايطاليا في الشعر والخيال)، وآخر:أن الشاعر الأيطالي قد نسخ خطة الملهاة عن رسالة الغفران، مستدلين من أوجُه الشبه بين الرسالتين.

أوجه الشبه بين الرسالتين

أثار هذا الموضوع جدلاً بين أوساط النقاد، والذي وجدته الأكثرية تؤكد وجود تشابه بين النصين وحسب قناعتي نعم هناك تشابه ورد في الرسالتين وصف أحوال الجحيم والفردوس وكان كلّ منهما قديساً في وجدانهِ وشاعراً في روحهِ والرسالتان متفقتان في رحلتهما السماوية الخيالية للوصول إلى شجرة المنتهى حيث النور الألهي .

وعلى هذا أُثيرجدلٌ كبيرٌ في أوساط النُخبْ المثقفة منهم من يؤيد وآخر ينفي ويعارض، وللحقيقة وجدتُ كفةَ النافين-في التأثر والأستنساخ- أقوى من حيث قوة المنطق و حجج التباين المكاني والزماني.، ليس هناك ما يدعوالى التشكيك في أستنساخ دانتي لرسالة الغفران من المعري، صحيح أن هناك تشابها في بعض الحوانب -مثل ماعرض في المقال -ولكن هناك شواهد تأريخية ومكانية تثبت بأن الرحلات السماوية (الخيالية) كانت شائعة في تلك الفترة الزمنية مثل الرحلة النبوية: "الأسراء والمعراج"التي فيها وصفا عميقا للجحيم والفردوس و حدثت قبل أن يولد المعري، وهي الأخرى رحلة سماوية للقاء الرب والوصول الى سدرة المنتهى التي هي غاية وأمل جميع الرحلات الخيالية .

وأن الشام ومعرة النعمان تعرضتا للغزو التتري والروماني ونهبت خزائن الكتب والمخطوطات، وأن الملك الأسباني (الفونسو) ملك قشتالة أمر بترجمة رسالة الغفران الى الأسبانية اللغة القشتالية بالذات قبل ولادة دانتي بعام 1264 م، من الجائز والمحتمل أن يطلع هذا الروائي والشاعروالفيلسوف على جميع المخطوطات والكتب المتاحة في عصره، وليس من الضروري أن يستنسخ عمل غيره، وذلك لوجود تباين وأختلاف في العقلية والعقيدة والمضمون والأهداف والغايات والمشاهد والأساليب والتخيلات وذكر الأساطير، وأن التفاعل بين ثقافات الأمم والشعوب هو مؤشر صحيح لبناء الحضارة الأنسانية ----- لا يمكن لأيةِ أمةٍ من الأممْ أن تبني حضارتها بمعزل عن حضارات الأمم الأخرى، لأنّ الأنسانية جمعاء قد تتلاقى في بعض أفكارٍ وتختلف في أخرى --- تتأثر وتؤثرمن خلال عملية التلاقح الفكري يمكن أن تولد أبداعات عظيمة تُسّخَرْ من أجل خدمة البشرية، لهذا كلُه إني من المؤيدين لفكرة ما يدعو أليهِ البعض من أنّ الكوميديا الألهية غيرمستوحات من رسالة الغفران لأن لكلٍ من الرسالتين شخصيتها المستقلة، وذلك كلٌ منهما تحكي معاناة ما حولها--- الكوميديا الالهية تحكي تسلط الكنيسة وخطايا الصراع المجتمعي الروماني والأغريقي، ورسالة الغفران تحكي ظروف مجتمعية أسلامية بين التشظي المذهبي والعرقي التى أُدلجتْ بمدارس فكرية كالجبرية والقدرية والمعتزلة وتيار الزندقة --- وغيرها من المذاهب الفكرية .

الفروقات بين الرسالتين

توضحت لديي قناعة أدبية وثيقة بذكر بعض الفروق المهمة يمكنها دحض فكرة (الأقتباس) لدانتي الأيطالي:

عند وصول الرحلة إلى الأنوار الألهية كانت تمنيات وطلبات المعري (مادية) أما أحلام دانتي عند النور الألهي تؤكد على (الوصايا السبع للمسيحية)، بدأ المعري رحلتهُ السماوية يالفردوس ثُم الجحيم أما دانتي بدأ رحلتهُ بالجحيم ثم الفردوس، أن حراس الجحيم عند المعري ملائكة وعند دانتي شياطين وعصاة، والرواة عند المعري شعراء وعند دانتي رجال دين وعصاة أفاقين، والجنة عند المعري ثلاثة أقسام وعند دانتي تسعة أقسام.

***

عبد الجبار نوري

كاتب وباحث أدب عراقي مقيم في السويد

في تشرين الثاني2022

...................

مصادر البحث

-الكوميديا الألهية، ترجمة المؤرخ المصري، حسن عثمان، القاهرة

- رسالة الغفران، لأبي العلاء المعري

- رسالة الغفران، تحقيق فوزي عطوي بيروت 1968

- قصة الحضارة – ترجمة الدكتور زكي نجيب محمود1988 بيروت

حينما أثار الشعراء العرب مسألة الشعر الحر أو شعر التفعيلة، على إثر نشر نازك الملائكة لقصيدتها "الكوليرا"، كان ذلك تأثرا بالشعر الغربي. إلا أن مفهوم "الحر" يختلف من ثقافة إلى أخرى، وبطبيعة الحال الاختلاف هنا بين الثقافة العربية والغربية، تماما كما تختلف "ع" عن "غ" بزيادة النقطة أو حذفها. فمثلا الشعر الفرنسي تحدث عن الشعر الحر أو البيت المحرر مع بليز دو فيجينير Blaise De Vigenère الذي كان يشغل منصب كاتب لدى الملك هنري 3، سنة 1588. إلا أن البيت المحرر لم يتم الاهتمام به فعليا إلا في القرن التاسع عشر مع كل من موريس دو كًران Maurice De Guérin بديوانيه "الباخوسية La bacchante و القنطور Le Centaure، وألوسيوس برتراند Aloysius Bertrand بديوانه "كاسبار الليل" (Gaspard de la nuit 1842) ثم مع رامبو Rimbaud بديوانه "إضاءات" (Illuminations). يهدف إذن البيت المحرر vers libéré أو البيت الحر vers libre إلى تحرير القصيدة من ضغوطات الأوزان التقليدية المحسوبة والمنغلقة بعددها ومن ضغط القافية، مكتفيا بالايقاع الداخلي والقوافي الداخلية وما يمكن ترجمته تجاوزا بالسجع والجناس (allitérations, assonances)، وبطبيعة الحال بالصور الشعرية. في هذا الصدد يقول الشاعر البلجيكي إميل فيرهايرن Émile Verhaeren:"الإيقاع هو حركة الفكرة نفسها [...]. الشعرية الجديدة تحذف الأشكال الثابتة وتمنح الفكرة-الصورة الحق في خلق شكلها من خلال تطورها، تماما كما يخلق النهر مجراه."

وللتذكير فإن الكلمات الفرنسية مكونة من مجموعات صوتية syllabes يُعتمد عليها لتقطيع الكلمات بالبيت الشعري، و تتشكل أنواع البحور أو الأوزان حسب عدد هذه المجموعات الصوتية. فيكون البيت الأسكندري مثلا، مشكلا من 12 مقطعا صوتيا. وهكذا حينما تتحرر القصيدة، سوف تتشكل من فسيفساء من المجموعات الصوتية، حيث قد نجد بيتا مثلا من 12مقطعا وآخر من 2 أو 3 إلخ... وهكذا يتضح أن القصيدة الحرة لا تحترم مقطع انطلاق القصيدة، بل وفيما بعد أصبحت القصيدة لا تحتوي حتى على علامات الترقيم.

كيف إذن يفهم الشعر الحر العربي في تفاعله وتثاقفه بالشعر الغربي؟

ينعت الشعر حرا مقارنة بالشعر العمودي او التقليدي. بمعنى أنه يتحرر من أشكاله المعروفة، أي من البناء حيث كل بيت مكون من شطرين افقيا، صدر وعجز، وينتهي بقافية تتكرر في نهاية كل بيت، وخاضع لقوانين العروض الخاصة ببحوره وزحافاته وعلله الخ... وهكذا، بتحرره من التقليدي، يصبح شعرا حرا مكونا من أبيات توزع عموديا من غير تشدد في نفس القافية. لكن هناك من يقول بتعدد التفعيلات، وبطبيعة الحال سوف يحترم أيضا ما تفرضه الضرورة العروضية كالزحاف والعلل إلخ... وهناك من يقول بأنه يحافظ على نفس التفعيلة، حيث يجب على الشاعر أن يلتزم بنفس البحر فيما يخص الوزن، وغالبا ما تكون الأوزان حسب البحور البسيطة او الصافية.

نلاحظ إذن أن الشعر الحر في الثقافة الغربية، هو فعلا حر بمعنى الكلمة ولا يخضع لأي ضغط تقليدي، وفي المقابل فإن الشعر العربي لم يتحرر بالكامل، بل يحمل معه جينات من تقنينات الشعر التقليدي حينما يُفرض عليه، في الغالب، الالتزام بنفس التفعيلة وبنفس البحر الذي بدأ به الشاعر قصيدته، وهكذا لا تتحقق تلك الحرية التي نودِي بها. بل وحتى في حالة ما إذا تعددت التفعيلات فإنها تبقى خاضعة لما قننه العروضيون.

هل ذلك مرجعه إلى كون القصيدة العربية، حتى و كونها تُقطع حسب الحركة والسكون، ما يشكل مجموعة صوتية، تخضع في الأخير إلى "ميزان ذهبي" وهو نظام التفعيلة الذي يمر حتما بما يسمى بالميزان الصرفي، خلافا للقصيدة الغربية والفرنسية بالتحديد التي تقطع حسب المجموعات الصوتية فقط كما سبق الذكر؟ أم ذلك راجع إلى طغيان الإيقاع الخارجي المفصل حسب الوزن؟ او نكتفي بترديد ما قاله الناقد عباس محمود العقاد في إحدى حواراته المسجلة صوتا:"الشعر الحر؟ مُحرر مماذا... ليس هناك شعر حر...لا يمكن للشعر أن يتحرر من نفسه"، بمعنى أن الشعر العربي شعر بقوانينه التي استخرجها الخليل من القصائد الأولى وقننها، وما عدا ذلك، ليس شعرا.

ربما هذا هو السبب الرئيسي، المشبع بالحرية الكاملة، الذي أدى إلى ما ينعت بشكل هجين : قصيدة النثر. هذه القصيدة التي تحررت لتسقط هي نفسها مع تضخم الأنا لدى شيوخها، في سجن الرؤى والفتاوي... فهل هناك من يدعو إلى تحرر القصيدة من هذه الفتاوي؟

***

محمد العرجوني

 

 

في المثقف اليوم