قراءات نقدية

قراءات نقدية

قراءة نسوية لأشكال المقاومة في رواية "أوركسترا الموت"

"أوركسترا الموت"، أول رواية تكتبها القاصة والروائية الجزائرية آسيا رحاحلية، نُشرت عام 2018، وفازت بالمركز الثالث في مسابقة دار النشر "الجزائر تقرأ". تدور أحداث الرواية في مدينة سوق أهراس الجزائرية، المعروفة تاريخيًا باسم طاغست، ويُعتقد أن اسم المدينة جاء من اسم بربري مركب يعني "سوق الأسود"، في إشارة إلى الأسود الأمازيغية التي كانت تعيش في المنطقة حتى انقراضها في عام 1930i. تشتهر المنطقة بخصوبتها العالية وزراعتها المتنوعة. ولد القديس أوغسطين (354-430)  أيضا في سوق أهراس. ويقال أن له صلة خاصة بشجرة الزيتون في المنطقة (لا تزال موجودة وسميت باسمه)، حيث كان يقضي وقتًا طويلاً بالقرب منها في الصلاة والتأمل والكتابةii. هذه الشجرة، التي تمثل  رمزا للسلام والوئام وطول العمر والأمل والولاء، يُنظر إليها أيضًا على أنها رمز لروح مدينة سوق أهراس التاريخية كمكان للتعددية وللثقافة، أعطت الكثير للعالم، من بين فروعها: أبوليوس المدوري، كاتب ياسين، الطاهر وطار، مصطفى كاتب، شهاب الدين التيفاشي، وآسيا الرحاحلية.

مثل شجرة الزيتون، تعبر آسيا رحاحلية في كتاباتها عن المقاومة والقدرة على التكيف مع المتغيرات والعيش بثبات وسط ظروف قاسية. قال عنها الروائي المصري ربيع عقب الباب: "صوت أنثوي ليس كأي صوت آخر عرفناه. جمع هذا الصوت رقة وشفافية وحلاوة كلمة أحلام مستغانمي، وقوة العرض والمحتوى لرضوى عاشور وسلوى بكر. وإذا كان النموذج يميل إلى أن يكون فريدًا، وأن يخلق عالمه الخاص، بعيدًا عن وجود الواقع، وانهيار نظام القيم". يضيف معمر فرح، صحفي جزائري: "هناك شيء جديد في كتابات آسيا الرحاحلية. تحتوي الرسالة على القليل من الأنوثة، لكن النص مثير لأنه يبتعد عن النضال النسوي الضيق ليقع في إطار الأدب الهادف الذي تتمثل فكرته الأساسية في الحرية. الأدب ثوري في اللاوعي، وحديث في شكله ".

  لطالما كانت الكتابة منفذاً هاماً للنساء لتخريب الأنظمة القمعية التي قيدت تاريخياً من حقوقهن والاعتراف بهن، ورحاحلية هي مثال لامرأة استخدمت كتاباتها لاستكشاف وجهات نظر جديدة والاحتفاء بهوية الأنثى. تقدم الرواية الجزائرية أوركسترا الموت نظرة ثاقبة فريدة على قوة الكتابة كشكل من أشكال المقاومة. من المثير للاهتمام كيف وظفت الكاتبة قوى مختلفة لتحدي النظام الأبوي القمعي، عبر منحها أصواتا ثابتة للشخصيات النسائية لمقاومة الأعراف القمعية بطرق مختلفة سنكتشفها في يما يلي.

- مخالفة التوقعات والتحرر من دور الضحية: 

بشجاعة كبيرة، وفي مجتمع يلحق وصمة العار بالمطلقات، منحت الكاتبة شخصية الرواية الجرأة لاتخاذ هذا القرار والاصرار عليه. يعتبر الطلاق في الأدب النسوي، شكلاً من أشكال المقاومة، حيث استخدم لتحدي الأعراف الاجتماعية السائدة في المجتمعات التي تحد من حرية المرأة. منذ بداية الرواية، صرحت رحاحلية أن زواج بطلتها حنان لم يكن أكثر من صفقة اقتصادية. يونس الزوج غني. يسدد ديون والدها ويوظف شقيقها فريد. في حين أن الزواج  يفترض أن يقدم مزايا اجتماعية ونفسية، مثل إحساس أكبر بالاستقرار والأمان، فإن زواج حنان لم يكن سوى خيبة أمل كبيرة. أدركت حنان أن "الزواج كان يرهقها. إنه يستنزف عقلها وجسدها وروحها. يحولها، كل يوم تدريجيا، إلى امرأة ناعمة مطيعة، محرومة من روحها، مثل دمية خرقة تفقد الطاقة لخداع نفسها ومن حولها. الطاقة للتظاهر بأن كل شيء على ما يرام وأنها سعيدة. التظاهر بالسعادة هو البؤس نفسه "(رحاحلية 25).

من منظور نسوي، يمكن اعتبار الزواج نوعا من القيود التي تحد من حقوق وحريات المرأة. تقيد الأدوار التقليدية للجنسين المرتبطة بالزواج من حرية التعبير لأولئك الذين لا يتناسبون مع هذه الأدوار. لذلك غالبًا ما يُنظر إلى الطلاق على أنه من المحرمات في العديد من المجتمعات المحافظة، كما يُنظر إلى النساء المطلقات في هذه المجتمعات على أنهن منبوذات فشلن في القيام بدورهن الأساسي كزوجة وأم. غالبًا ما يتم الحكم عليهن ووصمهن من قبل عائلاتهم ومجتمعاتهم، مما قد يؤدي إلى الشعور بالفشل والوحدة. ومع ذلك، تعتقد رحاحلية، كما أشارت على لسان بطلة الرواية، أن الناس يتزوجون ليكونوا سعداء ويطلقون من أجل العثور على السعادة والأمان مرة أخرى: " ليست نهاية العالم، لكن في مجتمع مريض، لقد أصبحت مشبوهة و خطيرة و ناقصة، و فاشلة ومسكينة وسيئّة الحظ و مدعاة للرثاء و عرضة لقلوب ضالّة، و غرائز  متشرّدة  تمسح  الشوارع بحثا عن جسدٍ سائغ " (رحاحلية 26). لكن بالنسبة لعائلتها، كان طلاق حنان نهاية الدنيا والكرامة والشرف. صرخت والدتها في وجهها، وقال والدها بنبرة تهديد مهذّبة "هذا البيت لم يعد بيتك، ستدخلينه ضيفة ليوم أو ليومين" (رحاحلية 25). لم تر حنان قط أنها فعلت شيئًا سيئًا. ولم يسامح يونس حنان على طلبها الطلاق وإصرارها عليه. يعتبرها إهانة لرجولته وطعنة في قلب رجولته، وفي نوبة فخر أخرجها من المنزل بالملابس التي كانت ترتديها، رافضًا أن يعطيها حليها وملابسها.

المثير للاهتمام في وجهة نظر رحاحلية، أنه رغم انتقادها للمعايير المزدوجة لمجتمعها، إلا أنها لم تصور الشخصياتها النسائية في كتاباتها كضحايا. الكل يعتقد أن الطلاق كارثة على حنان الا هي، حنان تصالحت مع حالتها:""أنا لست الضحية ولا الجلاد". كانت تقول لنبيل "أنا لم أنجح في الزواج .. إنه ليس بمأساة ولا نهاية الدنيا". أنا بخير "(رحاحلية 22). كما أن رحاحلية لم تصف البطلة بالحمل الوديع كما هو شائع في مثل هذه الحالات، ولكن كنمر صغير ينتظر الاحتفاء بحريته بمجرد أن يخرج نفسه من القفص: " كانت الصورة الخارجية ملمّعة و برّاقة، و حنان هادئة و مستسلمة كنمرٍ صغير يدرّبونه لكي يصبح قطا أليفا ! "(رحاحلية 24)

خلقت رحاحلية شخصية مستقلة، تتجرأ وتتحدى، وحتى رحم حنان رفض احتواء نفس لا تشبهها (أطفال يونس): "كل إجهاض هو حالة رفض" (رحاحلية 28). بعد طلاقها، وبعد زواج شقيقها فريد، بدأت حنان تشعر بعبء وجودها في المنزل، ورأت ضرورة الانتقال والعيش بمفردها في منزل وظيفي حصلت عليه من مديرية التربية والتعليم. لم يكن من الصعب إقناع والدتها، فالمشكلة كانت فريد. لم يعارض الأمر فحسب، بل اقترح عليها أن تعطيه الشقة ليستقر فيها مع زوجته، بينما كانت تعيش مع والدته. عندما رفضت حنان غضب: "كانت أمسية مليئة بالصراخ والغضب والبكاء. هدد فريد بقتلها وقتل نفسه. "ذات يوم سأقتلك أيتها العاهرة!" امتلأ المنزل بالصراخ والشتائم. ضرب بقبضته على نافذة الغرفة، وتناثر الزجاج في كل مكان، واندفعت الخادمات، وأغمي على والدتها وتم نقلها إلى المستشفى "(رحاحلية 26). قاطعها فريد تمامًا ونهى والدته عن استقبالها وزوجته من التواصل معها بأي شكل من الأشكال. لكنه علم أنها زارت والدته سراً وأعطتها المال، وأخذ هذا المال. أصبح عاطلاً عن العمل بعد أن قرر ترك العمل مع يونس بعد طلاقها منه .. "كأنه يجعلها تشعر بالذنب وكأنها مسؤولة عن كسله وانحرافه، ومرض والدتها ووفاة والدها. ربما تكون مسؤولة عن العلل التي تصيب المجتمع أو عن تدمير العالم! " (رحاحلية 31).

 - الحب الرومانسي لإصلاح الأنوثة المتضررة:

تظل الكتابة عن الحب غير التقليدي نوعا من المقاومة في الكتابات النسوية وكسر القيود. من خلال قصصهن، استكشفت النساء تعقيدات العلاقات التي لا تتوافق مع التوقعات التقليدية. الحب الرومانسي هو أداة قوية لمقاومة النظام الأبوي، لأنه يوفر وسيلة للنساء للاحتفاء بهوياتهن ولإعطاء صوت لتجاربهن، وإبراز جمال الحب بجميع أشكاله. تقول رحاحلية أن مدينتها تحارب العشاق: "طاغست ليست مدينة الحب". ومع ذلك، فهي تسمح لبطلتها بالتمتع بعلاقة حب رومانسية خارج اطار الزواج. بعد طلاقها، الوقوع في الحب لم يشغل بال حنان. ومع ذلك، مثل كل أنثى، احتفظت في مكان عميق في قلبها بصورة رجل الأحلام. لم تتخيل أن هذا سيحدث. عندما نصحتها صديقتها بالتفكير بحكمة، أجابت: "سنوات و أنا أمشي خلف عقلي مثل كلبة وفيّة و لم أكن سعيدة كما أنا اليوم.سأتبع قلبي و لو قادني إلى حتفي . على الأقل أموت مختنقة بعطر الحب . "(رحاحلية 50).

الحب هو قوة هائلة، ولديه القدرة على تحقيق الذات. من خلال الدخول في علاقات مبنية على الحب والتفاهم مع المحامي، تعوض حنان سنواتها الضائعة من الزواج البارد، وتتخذ موقفًا ضد النظام الأبوي: "اختفى العالم واختفى كل شيء من حولهم، الغرفة، الشقة، الجوار والأرض والسماء والناس. لا شئ. لا أحد إلا نبيل العاشق الأبدي الذي يعيش الحب بحواسه الخمس .. وحنان شعلة قلبه المضيئة "(رحاحلية 40).  على عكس زوجها، وجود نبيل في حياة حنان جعلها امرأة كاملة، متألقة، لديها إحساس كبير بأنوثتها، وجمالها، وجسدها، وأعطاها سببًا مهما للاعتناء بنفسها: ""لم تحب جسدها حقاً حتى اندلع الحب بينها وبين نبيل. رأت كم كان يتوق إليها، فاشتهت حضورها. اكتشفت جسدها بعينيه وكأنها تراه لأول مرة ”(رحاحلية 60). بدأت تهتم بمظهرها وتعتني بنفسها. أخذت وقتها في شراء الملابس والأحذية التي تناسبها بشكل أفضل واشترت منتجات التجميل. أعادت اكتشاف شغفها بالفن والموسيقى. مع مرور كل يوم، كانت تشعر براحة أكبر مع جسدها وتعامله باحترام وحب.

 - قوة الصداقة الأنثوية كوسيلة للمقاومة:

بينما عارضت عائلة حنان قرارها بشأن الطلاق، تزود الكاتبة بطلة الرواية بأداة مهمة للوقوف ضد النظام الأبوي: دعم الصداقة الأنثوية. غالبًا ما يتم التقليل من أهمية قوة الصداقة الأنثوية، ومع ذلك فهي أكثر من مجرد مصدر للدردشة والفرح. تتمتع الروابط النسائية بالقدرة على أن تكون مصدرًا للقوة والصمود، وشكلًا من أشكال المقاومة ضد القوى القمعية. إلى جانب دعم أختها، كانت صديقة حنان نوال التي تحمل أفكارًا ليبرالية حول الزواج وهي الوحيدة التي دعمت قرارها بالطلاق. تتمتع نوال بشخصية قوية ومتحررة ومتمردة وواثقة وجريئة. ترغب في الاقتناع بالزواج، لكن عقلها يرفض الاعتراف به. إنها لا تستوعب فكرة أن يحكمها شخص ما. "كل رجل لديه الرغبة في السيطرة وهي فطرية في الذكر". هي تقول دائما. "كل زوج، سواء كان واعياً أو لاشعوراً، يرى نفسه كأول إنسان بدائي. يخرج للصيد، يجلب معه الطعام، ويقف لساعات عند مدخل الكهف، يحرسه من الحيوانات المفترسة، وعندما يرغب في رفيقته، يسحبها من شعرها إلى سريره " (رحاحلية 26).

فكرة نوال عن "النصف" مثيرة للاهتمام والتفكير. تعتقد أن الزواج يجب أن يكون له فترة صلاحية مثل أي منتج استهلاكي آخر، مع إمكانية تجديده حسب الحالة. سيوفر ذلك مزيدًا من الحرية للشركاء، مما يسمح لهم باتخاذ قرارات بشأن العلاقة دون الشعور بأنهم محاصرون بها. علاوة على ذلك، سيوفر طريقة للأزواج لتقييم علاقتهم على أساس منتظم وإجراء التعديلات وفقًا لذلك. يمكن أن يصبح الزواج شيئًا أكثر مرونة وديناميكية، وليس ثابتًا ودائمًا. بهذه الطريقة، يمكن للأزواج أن يكونوا أكثر صدقًا مع بعضهم البعض وأكثر وعياً بديناميات علاقتهم.

في أوقات الشدة، يمكن أن تكون صداقة الإناث مصدرًا لا يقدر بثمن للدعم العاطفي والمعنوي. يمكن أن يوفر مكانًا آمنًا للتحدث والتنفيس والعثور على التضامن. هذا النوع من الدعم ضروري للمرأة لتشعر بالقدرة على مواجهة التحديات التي تواجهها. من تقديم المشورة والتشجيع. حتى الثرثرة التي لا معنى لها، تساعد حنان على الشعور بأنها ليست البط الغريب. في الواقع، تقدم الكاتبة تعليقات ساخرة وعميقة من خلال المحادثة بين الأصدقاء الأربعة، تكشف عن المكانة المتدنية للمرأة في مجتمعها. قالت نوال: "أنت تعلمين أنه كلما دخلت المطبخ أشعر وكأنني أدخل غرفة التعذيب من العصور الوسطى! الحمد لله أن الجنة لا طبخ فيها". وعلقت مريم: "هذا على أساس أننا نستحق الجنة!". ونظرت نوال إلى مريم وقالت وهي تضحك: ""في هذا الصدد، لا تقلقي. ربك كريم. امرأة دخلت الجنة لأنها أعطت الماء لكلب وأنت تطعمين زوجك وتسقيه منذ سنوات ”. حتى نكاتهم كانت تنتقد مؤسسة الزواج:" "في فيلم شاهدته منذ فترة، قالت صديقة لصديقتها التي التقت بها بعد غياب طويل: ظننت أنك ميتة؟ ردت الصديقة. لا ... متزوجة فقط! " (رحاحلية 34)

- الاختيار بين الحياة و الموت كمحاولة لتخريب النظام الأبوي:

بشكل عام، بالإضافة إلى كونه شكلاً من أشكال الاحتجاج، يمكن اعتبار الموت شكلاً من أشكال تخريب النظام الأبوي من منظور نسوي. الفكرة هي أنه من خلال اختيار الموت، فإن المرأة تتحكم بشكل أساسي في مصيرها وترفض الامتثال لتوقعات الأبوية باعتبارها خاضعة. بموتها، تستعيد السلطة التي سلبت منها وتستعيد استقلاليتها. إحدى الطرق التي استخدمتها الكتابة النسوية للمقاومة هي من خلال مفهوم الاختيار بين الموت والحياة كشكل من أشكال تخريب النظام الأبوي. في الرواية فضلت حنان الانتحار عندما اكتشفت أنها حامل من نبيل. إنها تعلم أن الحياة ستكون أكثر صعوبة مع مثل هذه الفضيحة، لذلك اختارت مصيرها. حنان يمكن أن تتنبأ برد فعل الجميع: "ستفقد والدتها الوعي، وسيرتفع مستوى السكر في دمها، وقد تموت على الفور. سيقتلها وستقضي بقية حياتها في شعور بالذنب. فريد؟ ولن يتردد في ذبحها مثل شاة جربة دون أن يضرب الجفن "(رحاحلية 62).

في الختام، يمكننا أن نقول بثقة أنه من خلال رواية أوركسترا الموت، تجاوزت آسيا رحاحلية الحدود المرسومة لنساء مجتمعها وسلطت الضوء على القضايا النسوية والصعوبات التي تواجهها النساء في مجتمع تهيمن عليه السلطة الذكورية. إنها تخاطر بإلقاء الضوء على هذه القضايا والتشكيك في الوضع الراهن، وهو شهادة على شجاعتها والتزامها بالتغيير. تصفها فوزية خليفي، راوئية جزائرية، قائلة: "من بين النساء اللواتي أُعطين مقاليد الجمال، في السرد والأسلوب، والقدرة على تمثيل حالة البطل. آسيا رحاحلية تمد يدها إلى ممرات الأعماق وتلامس نقطة النور .. روائية وشاعرة وراوية تكتب بوعي كبير وتعي جيداً أن الأدب هو صوت الناس." من خلال استكشاف هذه الموضوعات، توضح قوة الكتابة كشكل من أشكال المقاومة للمرأة وأهميتها في خلق مجتمع أكثر إنصافًا.

***

بقلم: د. كريمة عبدالدايم - الجزائر

قراءة نقدية في المجموعة القصصية: تأمّلات بعدسة القلم  للقاصة: نوميديا جروفي

صدرت المجموعة القصصية الموسومة بـ (تأمّلات بعدسة القلم) للقاصة الجزائريّة نوميديا جروفي عن دار الماهر للطباعة والنشر والتوزيع، في طبعتها الأولى عام 2019 م. وقد أهدتني القاصة – مشكورة – نسخة منها أثناء فعاليات المعرض الدولي للكتاب بالجزائر العاصمة في شهر نوفمبر سنة 2019 م.

احتوت هذه المجموعة القصصية على اثنتين وخمسين قصة قصيرة. وقد صدّرتها الكاتبة نوميديا جروفي بعتبة جاء فيها: " قصص الحياة تُكتب في القلب وليس في الأوراق " ص 5. وهي - لعمري – بمثابة عنوان ثان ومفتاح للمجموعة، يفضي بالقاريء والناقد إلى تحديد العلاقة الجدليّة بين الفنّ القصصي الملتزم بقضايا الإنسان المصيريّة ووحياته اليوميّة في أبسط جزئياتها وأضيق زواياها.

تقول الكاتبة في مقدمة مجموعتها القصصية: " هي قصص ليست منزلة من العلى بل من روافد المجتمع ففي عمق كل قصة هناك خبرة وما وراء كل خبرة عبرة حياة... إنّها قصص أظنّها كفيلة بأن تجعل القاريء يرحل إلى أعماقه ليحاور ذاته ويتأمّل حياته حتى يبلغ ملء نضجه الإنساني " ص 9.

إذن، هي قصص انتزعتها الكاتبة نوميديا جروفي من بين مخالب الواقع المرّ وأنياب الدهر، الذي لا يرسو على شاطيء، ولا يقرّ له قرار. رسمت فيها الكاتبة جزئيات مجتمع أنهكته العلل النفسيّة، والعقد الدونيّة، والاستسلام لليأس والقنوط. ففي قصة (شبح)، يتحوّل - فجأة - حب البطلة ووفاؤها وفرحها وحلمها المعسول إلى حزن فجنون فانتحار من أعلى الجبل " لطمت ومزّقت ثيابها وأخذت تركض هائمة على وجهها حتى وصلت أعلى الجبل من ذلك الجرف ورمت نفسها منتحرة " ص 15. وكان (تحليقها) ذاك من (أعلى)، لا يشبه البتّة تحليق الفراشات بين الزهور زهوا واستمتاعا، بل كان فجيعة وموتا محتوما، وسقوطا نحو (جرف) مميت. وهو مصير مأساوي يعرّي هشاشة النسيج الاجتماعي ويفضح ضعف الوازع الروحي في مجتمع يتسيّد فيه (فخامة) الجهل و(جلالة) الخرافة على قدسيّة العلم واليقين. مجتمع، ينظر إلى المرأة من زاوية ضيّقة ومنكسرة، لأنّها جسد لقضاء متعة جنسيّة، وعورة وجب وأدها في (قبر) دنيويّ، قبل طمرها في قبرها الترابيّ. مجتمع يتّهم المرأة ويلبسها ثوب الجاني، ولو كانت ضحيّة بشهادة نجوم السماء وكواكبها. وقصة (فاجعة) صورة لذلك، فقد وقعت البطلة ضحيّة اغتصاب من طرف لاجئين من مالي، وغم أنّها كانت يدها مشفقة عليهم. " كانت المسكينة تشفق على لاجئين من مالي تراهم دوما قرب بيتها فتطعمهم وتعطيهم الماء لحرارة الجو خارجا " ص 16. أجل، منحتهم الماء، أي الحياة، بينما منحوها الموت. ".. فدخلوا عليها وكانوا ستّة وهي امرأة لا حول لها ولا قوّة وأطفالها الأربعة نائمون في العليّة... وتعاونوا لتكبيلها ثم تناوبوا عليها فاغتصبوها جميعا " ص 16. هو مشهد فظيع جدا، لأنّها لم ترتكب تلك الخطيئة، بل أُكرهت عليها كرها، لكن لم يرحمها المجتمع، ولا زوجها الذي قال لهم، بعدما أخرج لهم صحنا من الطعام: " عندما تنهون الأكل دقّوا عليها واعطوها الصحن " ص 16. رغم أنّه مسؤول عمّا حدث لها. وطلّقها الزوج بعد جريمة الاغتصاب الوحشي، " ليظهر رجولته أمام الملأ الحاضرين.. " ص 18، ثم تفارق الحياة من وطأة الصدمتين ؛ صدمة الاغتصاب وصدمة الطلاق. فالقصة - بقدر ما فيها من عبرة لمن يعتبر وذلك عندما يكون جزاء الإحسان غير الإحسان - تدين بشدّة عنجهيّة الذكر الفاقد لصفات الرجولة الحقّة ضد المرأة الضحيّة في بيئة ذكوريّة أحاديّة النظر، تغفر للذكر المستبّد كل خطاياه في حق المرأة، بينما تعاقب المرأة على خطيئة لم ترتكبا رغبة وطوعا، نظرا لاختلال عقليّ وسيكولوجيّ في تلك البيئة. وهذا ما تظهره قصة (مذلّة ومهانة)، حيث تتعرّض البطلة، وهي امرأة شرقية يتيمة، مترفة ماديا، لكنّها تعيسة في حياتها. " أعيش حياة الترف، أنظري حجم البيت الضخم الذي أعيش فيه، عندي أفخم الأثاث، أسافر كل سنة لبلد، ولكنّني أتعس الناس " ص 42. تتعرّض للتعذيب النفسي الشديد من زوجها الذي وصفته قائلة: ".. زوجي زير نساء " ص 42. وحين سألتها جارتها عن سبب رضاها بالعيش معه أجابتها بهدوء: " ماذا أفعل؟ أين أذهب؟ إلى الشارع؟ أنا يتيمة ولا بيت عندي يأويني ويحمي أولادي من الفقر ويسترني من أنياب ذئاب الشارع... أنا مقهورة، ذليلة، مهانة، مسكينة، مجروحة، أموت في اليوم مائة مرّة " ص 43. فالمال وحده لا يصنع السعادة، والغنى وحده لا يبني أسرة مطمئنّة ومتماسكة وسعيدة، إذا انعدمت المودة والرحمة والقناعة والغنى العاطفي والنفسي. فقد يكون الترف بوابة مشرعة على الفساد الأخلاقي والاجتماعي، ووسيلة لإذلال الآخر وتعذيبه نفسيّا. لكن ما يلفت النظر هنا، هو إصرار الكاتبة على تقديم بطلة قصتها في موقف انهزاميّ واستسلاميّ وسلبيّ، لا مثيل له، لا تملك من أسلحة المقاومة غير الصمت والرضا والدعاء. " كلّما أنظر إليه أحترق في أعماقي، وأدعو له الربّ في صلواتي ليبتعد عن الوحل الذي تلطّخ به.. هذا أقل ما أستطيعه للأسف، فهو أب أولادي " ص 43. موقف خال من بؤرة التأزّم، الذي يُكسب الحدث القصصي صراعا دراميّا، غايته إثارة الإشكالية المطروحة وإظهارها ورصدها للرأي العام في صورتها النمطيّة لا الفردانيّة. ومهما كانت الأعذار، فإنّ القبول بالخيانةّ الزوجية على أنّها أمر واقع، هو أشد إيلاما من الخياتة نفسها. وكان على الكاتبة أن ترسم بطلتها في صورة إيجابية، أقلّها ما فيها، الرفض المطلق لسلوك زوجها الخائن لها جهرا وعمدا.

أمّا العيش مهانة تحت سقف خيانة زوجها لها مع سبق الإصرار والترصّد، بحجة خوفها على نفسها، وعلى أبنائها من الفقر والتشرّد وذئاب الشارع. فذلك – لعمري – أكبر خيانة للضمير والعفّة والحدّ الشرعي والقيّم الأخلاقيّة النبيلة والأعراف الأسريّة المشاعة والميثاق المتين والمقدّس للزوجيّة.

وهكذا، وجدنا القاصة نوميديا جروفي، قد قدّمت لنا في ثنايا قصصها شخصيات منتزعة من عالم الواقع المعيش، مطحونة حتى النخاع، وبنظرة موغلة في واقعيّة انتقاديّة داكنة، تتأرجح بين دروب اليأس والاستسلام والخيبة والضياع والموت بشتى الطرق الموجعة. تارة يوجعها القدر في أعزّ ما تملك ؛ في فقدان مفاجيء ومأساويّ لزوج، كما حدث في قصة (غلطة عمر) أو ضياع حبّ كما في قصة (بعد 18 عاما)، أو إعاقة بيولوجية دائمة نتيجة حادث مرور، كما جرى للطالبة الجامعية في قصة (صدفة غريبة). وتارة أخرى يصدمها الواقع المرّ، وما فيه من خيبات وتناقضات عجيبة بين مظهره ومخبره. فهذا يتنكّر لها كم في قصة (بين الماضي والمستقبل)، وذاك يحاول خداعها بكلام معسول لنيل مبتغاه الجنسي، كما في قصة (في مهبّ الريح).

ففي قصة (الموت) كانت نهاية الفتى الصغير، الحالم بالجمال والابتسامة والسلام فظيعة، وفيها إشارة إلى العشريّة السوداء والحمراء التي عاشها جيل التسعينيّات في الجزائر "... لكنّه ما كاد يعدو نصف الطريق حتى أصبح أشلاء متناثرة " ص 21. وكذلك كان مصير الطفل السعيد صاحب البالون الأحمر في قصة (طفولة موؤودة)، بعدما سلبت منه الحرب اللعينة نعمة الأمن في وطنه، والتي فرضها الأقوياء على الضعفاء، وبات الموت ضيفا بشعا يتربّص - دون موعد أو سبب - بالأسر البريئة والأحياء الآمنة دون رحمة أو شفقة. " كان الوطن يعيش بأمن وأمان في زمن ليس ببعيد، واليوم اختلف كل شيء، حيث أصبح الشعب مستضعفا في وطنه، الذي عشّش فيه الخوف والرهبة من موت بشع، كيف لا والموت أصبح ضيف الغفلة على الأسر والأحياء " ص 69. ذلك الموت العشوائي، الذي لا يميّز بين ضحاياه، بل يزهق أرواح الأطفال. " وما كاد يخطو خطوتين حتى كُتمت أنفاسه البريئة برصاصة اعترض طريقها سهوا فاخترقت جمجمته الملائكية." ص 70. وكأن الذنب هنا، ذنب الطفل الذي اعترض طريق الرصاصة، لأن الحرب أمست سيّدة المكان، احتلّت الشوارع، أين يجد الأطفال متسعا ومساحة للعب الكرة. وهي في الغالب عادة الأطفال في البيئات الشعبية الفقيرة. وحين تحرم الحرب الأطفال من ممارسة ألعابهم المفضّلة في الشوارع، وتغتالهم الرصاصات الطائشة، فهذا يوحي بأنّ المأساة فظيعة، وأنّ الوطن قد غرق في مستنقع حرب لا عنوان لها ولا خطوط حمراء أمامها. " طار البالون الأحمر في السماء ولحقته روح الطفل هناك بعيدا حيث السلام الأبدي " ص 70. وقد وظفت القاصة نوميديا جروفي ألفاظا سيميائية مثيرة في التعبير عن بشاعة الحرب مثل: عشّش – الخوف – الرهبة – موت بشع – ضيف الغفلة - كُتمت – اعترض – اخترقت جمجمته – الأحمر.

ما أقسى وطأة الموت على قلوب تعشق الحياة البعيدة عن أزيز الرصاص ودويّ القنابل. وما أتعس حياة جيل التسعينيات، الذي طحنته حرب بين الإخوة الأعداء، وحرمته من نعمة السلام والأمن وسبّبت له عللا وعقدا نفسية، دفعته إلى جلد الذات، وإلى سلوكات مميتة، مثل: الهروب من الوطن على متن قوارب الموت والمخدّرات والانتحار والعنف ووو.

و تواصل القاصة نوميديا حروفي في التنقيب في أعماق المجتمع الشرقي المريض عن خباياه. ففي قصة (الأم والابن)، تعرّي القاصة جانبا أسود من المظالم الاجتماعية، وهو عقوق الوالدين، حيث طرد الابن أمّه إلى الشارع بسبب زوجته، ناسيا أو متناسيا برّ الوالدين، وغافلا عن مآل العاق لوالديه، ومتجاوزا – بعنجهيّة – أحكام الشرع وتقاليد المجتمع الشرقيّ وأعرافه وقيّمه، سواء المحافظ منه أو المتفتّح. جاء على لسان الأم: ".. شاءت الأقدار، أن يأتي يوم ويرميني ابني في الشارع مع حزمة من ثيابي بسبب زوجته " ص 57. وجاء على لسان الابن العاق، مخاطبا أمّه: " اذهبي.. غادري.. واخرجي من بيتي فقد ضقت ذرعا بك. " ص 57.

لقد تنكّر الابن العاق ورمى أمّه التي حملته وهنا على وهن، وأرضعته حتى الفطام، ورعته إلى أنّ شبّ واشتدّ عوده وساعده. " وقَضَى ربُّكَ ألاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إيَّاهُ وبالوالدين إحسانا، إمّا يبلغنّ عندكَ الكبرَ أحدُهُمَا أو كلاهُمَا فلا تقلْ لهما أفٍّ ولا تنهرْهُمَا وقُلْ لهُمَا قولاً كريما واخْفِضْ لهما جناح َالذّلِّ من الرَّحْمةِ وقُلْ ربِّ ارْحمهُما كما رَبيَّاني صغيرا " مسورة الإسراء 23 / 24.

و في القصة إيحاء إلى محاولة انسلاخ الجيل الجديد من هويّته بكل ما تحمله من قيّم نبيلة، بدعوى العصرنة الغربيّة الزائفة.

و لم تغفل القاصة زمن الحراك الشعبي الذي انطلق في فيفريّ 2019 م. وتناولته في قصة قصيرة جدا بعنوان (صلاة الشعب). بعد إعلان الرئيس – تحت ضغط المظاهرات المليونيّة السلميّة - عدم ترشّحه لعهدة خامسة، والصلاة هنا تعني الدعاء. وهي أقصوصة، تشبه ما عرفه العصر العباسي بفنّ (التوقيعات). وبقدر ما هي موجزة في لفظها، لكنّها عميقة في معناها. فقد عبّرت الأم - وهي رمز الجيل القديم والشاهدة على العهدات السابقة – عبّرت عن بهجتها، وكأنّها تخلّصت من كابوس، طالما أرّق حياتها. وهنا يظهر أثر التواصل بين الأجيال الواعيّة، ودور الشعب الحرّ في إحداث التغيير المنشود، وأحقيّته للتحية والتقدير والإجلال. فإذا أراد الشعب الحياة الحرّة، استجاب له القدر، أمّا إذا خنع واستسلم ورضي بالاستبداد، فإنّ مصيره الهوان والفناء.

لم تبتعد قصص الأديبة نوميديا جروفي عن معالم بيئتها الملأى بالمعاناة والمآسي اليوميّة التي تفترس الفرد كوحش ضار، والمحفوفة بالتناقضات الاجتماعيّة. فكأنّي بالقاصة، قد اتّخذت لها مجلسا شهرزاديّا، وطفقت تحكي دون تكلّف حكايات   شهدت أحداثها، بأسلوب سرديّ بسيط وواقعيّ (نسبة إلى المدرسة الواقعيّة) وخال من الخيال. مستغلّة تقنيّة الأنا الشاهد أو (التبئير الداخلي) كما سمّاه جرار جينيت. وفي أغلب الأحيان، جعلت القاريء يكتشف أن السارد (القاصة) تتحكّم في عالم القص وتوجه الأحداث، من خلال أسلوب بانوراميّ غير محايد. فغالبا ما جاءت نهايات قصصها منفصلة عن العقدة أو لحظة التأزّم، عبارة عن عبارات تلخّص المغزى والعبرة من القصة، تحمل معاني حكمية وعظية، وهذا تدّخل واضح وسافر من القاصة في توجيه الأحداث. كقولها - على سبيل المثال لا الحصر - في نهاية قصة (فاجعة): " صدق من قال: لا تكسر اليد التي تمد لك الخبز أبدا " ص 18. وقولها في نهاية قصة (انتحار): ".. وما أكثر هذه الأخطاء الطبيّة التي ذهب ضحيتها الكثيرون.. طوبى للحزانى لأنّهم يتعزّون. " ص 20. وقولها أيضا في خاتمة قصة (القهوة المالحة): " قد نشرب المرّ من أجل أحدهم فقط لأنّنا أحببناه من كل قلبنا وأنّنا نضحي بكل شيء في سبيل أن نبقى معه وحياتنا لا تستمرّ بدونه. إنّه الحب صانع المعجزات الذي لا يؤمن بالمستحيل أبدا " ص 97. وقولها في نهاية قصة (عشرون عاما وأنا أبحث عنك): " إنّنا لا بد أن نحصد ما زرعناه ولو بعد أيام كثيرة أو أعوام خيرا كان أم شرّا وليعطينا الرب الإله أن نصنع رحمة طوال أيّام حياتنا. " ص 131. وقولها في خاتمة قصة (بين العار والشرف): " قتلوا الشرف ليحيا العار " ص 148.

إنّ مثل هذه النهايات متروكة – في الأصل - للمتلقي، وهي حق من حقوق الناقد وواجباته ورسالته النقدية. وإلاّ ماذا بقي للناقد من اجتهاد نقدي؟ هي ليست من مهمّة القاص، لأنّ القصة في مضمونها العام، ليست مقالا فلسفيّا أو اجتماعيا أو أدبيّا، تستنتج العبر والمواعظ، وتمنح الحلول والنظريّات للمتلقّي. أعتقد أن القاصة نوميديا جروفي قد أقحمت تلك النهايات المنفصلة عن الأحداث في جلّ قصصها، وهذا شكل من أشكال هيمنة الساردة (القاصة) وسلطتها على النص. في الوقت الذي كان عليها أن تبقى محايدة عن النهايات القصصية الحاسمة أو المفتوحة، التي تفرضها فنيّات القصة القصيرة، من خلال توظيف تقنيّة التبئير الخارجي أو المعرفة المحايدة، التي تعطي لشخصيات القصة القصيرة دورا أكبر من دور (السارد)، حين يكون ناطقا بضمير الغائب.

و يلفت الانتباه، في هذه المجموعة القصصية، هو أنّ العديد من أبطالها أطفال معذبّون، بسبب اليتم أو الفقر والمرض والحرمان والقهر الاجتماعي. وقد قدّمتهم القاصة نوميديا جروفي في صورة أليمة ومؤلمة وتراجيدية، خاصة في قصص (البراءة) ص 146، و(الطفل والطبيب) ص 143، و(الوردة) ص 142، و(كلمة السر) ص 126 و(الموت) ص 21. و(طفولة موؤودة) ص 69، و(كأس الحليب) ص 98، و(الصندل) ص 100، وغيرها.

وعندما نتأمّل المقاطع السردية التالية: " دكتور، طفلي مريض وهو في حالة خطيرة جدا، أرجوك أن تفعل أي شيء لإنقاذه " ص 130. "... فالولد كان ضريرا " ص 142. ".. وما كاد يعدو (أي الولد) نصف الطريق حتى أصبح أشلاء متناثرة " ص 21. " طار البالون الأحمر في السماء ولحقته روح الطفل هناك بعيدا.." ص 70. " كان طفلا فقيرا يوزّع السلع على المنازل ليلا حتى يتمكن من إنهاء تعليمه، وفي ليلة شعر بجوع شديد.." ص 98. " طفل صغير يتيم في السابعة من عمره فقد والديه وهو رضيع.. " ص 100. "..و لأنّ اليوم كان العيد، فقد كانوا كلهم يلبسون الملابس الجديدة إلاّ هو الذي كان يلبس ملابس رثة، ونفس زوج الصندل الذي يصغر مقاسه عن قدمه.. " ص 100 / 101. تتّضح لنا صورة سوداوية لطفولة معذّبة وضائعة في مستنقع مجتمع لا مستقبل له. مجتمع يقتات من ترهات الماضي وخرافاته، ويتكيء على حاضر افترضيّ وفوضويّ، ويرنو إلى مستقبل أعنّته السراب.

كما كان للأنثى المقهورة والمهمّشة نصيبها في هذه المجموعة القصصية، فقد قدّمتها القاصة ضحيّة مجتمع ذكوريّ معقّد. فهي متّهمة ومذنبة رغم براءتها، تدفع ثمن خطيئة الطرف الآخر تحت سلطان القوّة والتسلّط. وكأنّها فرض كفاية في المجتمع. ففي قصة (مذلة وإهانة)، تعامل الأنثى كسقط المتاع، فهي – في نظر الذكر - مجرد كتلة من اللحم والعظم، منزوعة العواطف، وظيفتها جنسيّة لا أكثر. " زوجي زير نساء، كل نهاية أسبوع يأخذني عند أخته لتمضية يومي الخميس والجمعة... " ص 42.

وكذلك في قصة (فاجعة)، دفعت الزوجة الضحيّة، الطيّبة، الكريمة، البريئة، ثمن غلطة زوجها المتعجرف الذي " أدخل عليها غرباء وتركها وهي في أشدّ الحاجة إليها " ص 18. فبدلا من الوقوف بجانبها ومؤازرتها وحمايتها، قام بتطليقها، ليبدي رجولته المزيّفة أمام الناس. " تخلّص منها بطلاق ليظهر رجولته أمام الملأ الحاضرين... " ص 18. وهكذا يتحوّل الزوج من سند لزوجته وحام لها إلى جلاّد. وهو صورة واقعيّة لمجتمع ذكوريّ منافق، يمارس دور الخصم والحكم في الوقت نفسه.

وبعد، فقد وفقت القاصة نوميديا جروفي - في مجموعتها القصصية (تأمّلات بعدسة القلم) – في فضح خبايا واقع اجتماعيّ يرزح تحت نير التخلّف والخرافة والظلم والقهر والتهميش والعلل النفسيّة، ورصد سلوكيّات أفراده، بأسلوب سرديّ بسيط وسلس. فإن أغلب قصص مجموعتها السالفة الذكر، لم تخل من سلبيات وعثرات على المستويات التالية:

أ – ظهرت في المجموعة أخطاء إملائية ونحوية ولغويّة، مثل " وكان الوقت متأخر (متأخرا) – فكان جوابه سلبي (سلبيا) ص 19 - بعد فوات الأوان أي بعد أن نفقده للأبد – (ما دور أيّ هنا؟) ص 33 – ترك لها أموال (أموالا) ص 37 - أم لولدان (لولدين) ص 37 – فنقله بسيرة (سيارة) ص 39 – ولا ترى أحد (أحدا) ص 40 – هو ذا الظلام ينشر سواده ليلا ص 45 (تكرار المعنى) – ذو السبعة عشر عام (عاما) ص 46 – وجد طفل صغير (صغيرا) ص 127. أنت ابني الغلي (الغالي) ص 116. وهنا، أطرح سؤالا، طالما أرّقني ومازال، أين المدقق اللغوي في دار النشر؟ وما دوره؟ وما جدوى وجوده؟ لماذا غفل عنها أو تغافل؟ أم أنّه أكذوبة؟ أم أنّ بعض المدقّقين اللغويين يخونون الأمانة، ويخدعون من استأمنوهم؟ وأذكر أنّني قرأت كتابا مطبوعا لأحد الأصدقاء، فعددت فيه أكثر من ألف خطأ. فلمت مؤلفه على تلك الأخطاء الفاضحة، وسألته: هل مرّ كتابك على التدقيق اللغوي قبل النشر؟ فقال لي: نعم. (كما أخبره الناشر)، ثم أضاف: لقد عرضته على أستاذين جامعيين مختصين في اللغة العربية، قبل دفعه للمطبعة. فحوقلت واستعذت للغة الضاد من همزات الدعاة والمنتحلين.

ب – من المآخذ التي رصدتها أيضا، تلك النهايات في القصص، وهي تدخّل واضح من القاصة في توجيه القاريء، نحو المغزى العام للقصة، ممّا قد يحوّلها إلى مروحة للكسالى. كان على القاصة أن تدع ذلك للقاريء المتذوّق والناقد المتمكّن، كي يغوص في أعماق المعمار القصصي لاستنباط الهدف والمغزى العام.

ج – لم تعتن القاصة، جيّدا، بأسلوبها السردي، من حيث توظيف بعض الألفاظ في موضعها المعجمي أو المجازي، كما جاءت بعض العبارات مهلهلة الصياغة، طنباء، تحتاج إلى ترميم وإيجاز، إضافة إلى غياب علامات الترقيم في بعض المقاطع.

وبعد، فبالرغم، من المآخذ السالفة الذكر، فإنّ (تأملات بعدسة القلم) لنوميديا جروفي إضافة مفيدة للمكتبة العربية، ولبنة أخرى، تضاف إلى هرم القصة الجزائرية القصيرة الشبابيّة، وبريشة وعدسة نسويّتين.

***

بقلم الروائي والناقد: علي فضيل العربي – الجزائر

 

توطئة: تقول الكاتبة الروائية: "شهد الراوي" عن روايتها هذه وتجربتها في الكتابة: {روايتي عن أبناء جيلي ومدينتي بغداد التي غادرتها ولم تغادرني، عن طفولتنا ومراهقتنا وشبابنا وأمنياتنا وأحلامنا والتي حاولتُ أن أحميها من النسيان وأمنعها من الضياع، أنّها (الرواية النظيفة) كما يروق لي تسميتها لأنها لا تعتمد أشارة خارج منطق الأحداث التي صنعها الواقع والحلم والذكرى والوهم بعد الحد من دور العقل والمنطق في رسم النهايات الطبيعية المتوقعة، فهناك نهايات مفتوحة وأسئلة لم تتم الأجابة عنها، وهكذا هي الحياة بمجملها}. 

رواية  " ساعة بغداد " لشهد الراوي:

إنّها منجز أدبي وثقافي رائع متكامل بمعنى الكلمة من بنية معمارية بهندسة لغوية ونصيّة نثرية في السردية الحكاواتية وبرصانة أدبية بالشكل والمضمون.

صدرت الرواية في 2016 عن دار الحكمة والنشر في لندن، فقد صدرت طبعتها الثالثة من نفس الدار وبيع منها أكثر من 25 ألف نسخة، كما تُرجمتْ إلى اللغة الأنكليزية ولغات أخرى، وحصلت على جائزة الكتاب في أدنبرة المملكة البريطانية في يوم الخميس الأول من يناير 2018، والروائية العراقية شهد الراوي من مواليد 1986 وغادرت العراق عام 2003، وأبدعت في كشف  مأساة (جيل الحرب والحصار) من العراقيين الذين وُلِدوا أبان الحرب فأكتوت طفولتهم المبكرة بها وعايشوا حصار الموت البطيء وتهجروا قسراً، وتيتموأ وتشردوا قهراً، فهي تريد أن توصل القاريء: 

إلى أن السعادة تنبثق من ليل الألم الطويل وتستمر في سردها إلى حكايات أشبه ما تكون فنتازية من نسج الخيال في الأنتحار والهجرة إلى الفردوس المفقود، وسلاح الحصاراللئيم ينشب مخالبهُ في هذه الشريحة المترفة، أما بخصوص الطبقة الفقيرة المعدمة أنها سُحقتْ بلا رحمة وأنتهى وجودها لكون بعضها سار بقناعته إلى حتفهِ الأخير الأنتحار من فوق جسور دجلة، وتتخيّلْ الكاتبة: أن الناس يقفون طوابير طويلة يمارسون الأنتحار مجموعة بعد أخرى.

تدور أحداث الرواية في منطقة راقية من ضواحي بغداد في التسعينات من القرن العشرين، وترويها (طفلة) تجد نفسها في ملجأ محصّن ضد الغارات الأنكلو أمريكية، وتروي قصة جيل وُلِد من رحم الحروب العبثية وعاش حصاراً ظالماً وهُجر وهاجر في أعقاب كارثة الحرب والحصار، وفي ساعة بغداد تتابع عن كثب مأساة العراقيين تحت الحصار الأمريكي في التسعينات وما قبلها الثمانينات في حروب ظالمة عبثية لم يكن للعراقيين فيها ناقة ولا جمل وذلك بعيني طفلة عراقية كُتبَ لها أن تولد في بلد محاصر ولهذا تبدو رؤيتها للواقع ساذجة وسطحية أحياناً من خلال تبسيط الأمور إلى حدٍ كبير، ولهذا يمكن القول بأن الكاتبة أصبحت  ناشطة لحقوق الأطفال أمام العالم المتمدن وأرتقت لبعث رسالة صادقة وواضحة لجميع البشر، وتقوم فكرة الرواية على محاور متعددة في مقدمتها محور الحب ومحور ثاني يمتاز بالديناميكية والطرافة والتي أجاد فيها (عمو شوكت) والشخصية الجذابة المرحة (باجي نادرة) التي تمثل الأقليم الكردي، وفي نظر الروائية وبحبكة أدبية  تبدو للقاريء متقصدة أضفاء البسمة واللطافة على فجائعية وسوداوية تلك الحقبة المرعبة ممزوجة بالسخرية من شاعلي الحروب العبثية وسكاكين صانعي الحصار الظالم. 

وتبدأ الحكاية التراجيدية المأساوية في ساعة بغداد من داخل الملجأ المظلم، فكان أحتساب الوقت المحلي  في مدينة بغداد حسب الساعة الزمنية في تلك الفترة السوداوية المظلمة ذات البوصلة المضطربة وهي تحكي تأريخ بغداد الحبيبة وظلامية  سوداوية العيش، أما بنظر مواطنيها (البغادلة) وبحبكة سردها  الرصين لقد فقدوا الأحساس بالزمن وبكل شيء عدا الدموع وهم يتقاسمون مظلوميات النظام الشمولي ويعيشون بفراغ زمني موحش متمسكين بالقديم بكل عفويته وفطرته، وبحبكة (فنتازية) للروائية  تجعل المتلقي أمام جمهوربالرغم من أوجاعه ومرارة فجائعية الثمانينيات القرن الماضي  تقتحم زمن العصرنة الحداثوية حيث صار بالأمكان رؤية (أورنمو) رئيس القضاء الأعلا بقصره  في حي المنصور مستضيفاً الحاكم بأمر الأمبراطورية الأمريكية (بريمر) .

 أثارتْ الرواية ضجة أعلامية كبيرة لم يألفها الوسط الثقافي العراقي من المتلقين والقراء من قبل، تحاول شهد الراوي في روايتها " ساعة بغداد " أن تلملم شظايا أشتات العراقيين وتعيدهم سيرتهم الأولى يوم كانوا عراقيين وكفى !!!، ولأنها من عشاق الحرية ففي هذه الرواية أستعملت جُلّ أدواتها الأدبية لتعزيز صرح الحرية أنها تؤمن: أن الجمال أقوى من القبح، وأن الوطن أحلى من الشتات وأن طائرها الأبيض العراقي الأصل لا يخونها مطلقا وأن طار كان مصيرهُ أن يعود لعشه الوطن.

والرواية ساعة بغداد هي واحدة من أكثر الروايات العربية لأثارة للجدل نقاد كونها تخالف في أسلوب سرد الخطوات السوية للرواية العراقية والعربية، فقد أعتمدت شهد الراوي على شكل مغاير للبنية التقليدية التي تأسست عليها الأعمال السردية الكلاسيكية ويمكن القول أن شهد الراوي قد قطعت صلتها بالماضي بشكلٍ واضح، فهي من جيل الحداثة،  وما رأيته خلال قراءتي للرواية في الأسلوب المعاكس في أدبيات الروائية أقول أن الكاتبة عندما جاءت بنصوص مخالفة للواقع السوي هو من تأثير بيئتها في تلك المحلة التي عايشت الحروب والحصار، فتبرر شهد هذه التجربة  بالقول: 

-(عندما تولد في سنوات حرب الخليج الأولى وتجد نفسك طفلاً في ملجأ محصّن ضد غارات التحالف الدولي ثم ترى نفسك في حرب الخليج الثانية وأنت تعيش مراهقتك في الحصار المفروض على بلدك ثم تصحو في شبابك على سقوط بغداد لتواجه حرب أهلية، فلابد أن تأتي كتاباتك خارج السياقات السردية التي عرفتها الكتابة قبلك)، فهذه بعض الأختلافات المعاكسة لروايات الآخرين:

- تبدو الشخصيات غاية في التعقيد والأرتباك ومبهمة أحياناً وملغّزة في الكثير من الأحيان وخاصة في تمثيل الطفلة التي تختلط في ذهنها الوقائع وحين يمتزج الخيال بالملموس ويتعانق عالم الأحياء مع عالم الأموات.

- شهد تحررت من البطل التقليدي الواحد، فهي تحررت من الثيمة الرئيسية الواحدة معتمدة ثيمات متساوية من حيث العمق والشمولية وأبراز أهمية الأفكار في كل ثيمة على أنفراد كالحب والحرب والأرهاب والهجرة والأغتراب والأنتحار والشعوذة والنبوءة، أي يمكن القول – حسب قراءتي للرواية – لم تعتمد على البطولة الفردية بل الشاملة على مجموعة من الرواة مثل ناديا وبيداء وباجي نادرة والمشعوذ، فهي قد دمرت آليات السرد المتعارف عليها سابقاً كالذي سار عليه من الروائيين الفرنسيين بأنتهاك محدودية الزمكنة، فأعتقد هو مذهبها الأدبي الجديد في روايتها البكر وربما تنحو للتغيير لاحقا في نتاجاتها المستقبلية، وعلى كل حال أتمكن أن أجزم أنها أتجهت إلى مابعد الحداثية التي تقوم على تحطيم بنية السرد التقليدي.

- وتبرز مذهب الحب والعشق بين فتيات مراهقات في الرواية بشكلٍ ملفت بالرغم من طغيان التراجيديات المأساوية للحرب والحصاروهو شيءٌ مخالف للواقع السوي،بالأضافة إلى أن رواية "ساعة بغداد" في سردياتها لقصص الحب لا تنتهي بالزواج التقليدي كالمألوف في الروايات الأخرى. 

أخيرا/أنها حقاً رواية ممتعة ولذيذة يشعر المتلقي كونه هو أحد رواة "ساعة بغداد" في حكاية الحرب والحصار، لكوننا جميعاً تقاسمنا رغيفها وقلقها وخوفها ودفع ثمن رصاصتها الغبية في أعدام أبناءنا، وأستلب منا كل شيء عدا دموع أطفالنا، فساعة بغداد رواية حديثة  معنى ومبنى وشخصياتها مدروسة وهي تعايش التراجيدية الملهاة المأساوية قدمت سرداً وصفياً عن طفولتنا ومراهقتنا وشبابنا وحتى كهولتنا وهي تتحدث بلساننا عن خيالاتنا وأحلامنا الممنوعة وواقعنا المرْ في محنتنا وخسائرنا وأقدارنا، تألقت الرواية بكل ثقة لتنتزع الفوز لجائزة الكتاب في أدنبرة البريطانية وعلى التوقيع التأريخي للرواية العراقية، وأعجبت بفلسفة شهد الراوي حين توحي لك خلال التعايش ما بين سطور السرد الرائع بأن " الطبقة الوسطى هي صديقة الحكومة أما الطبقة الفقيرة فهي في عهدة الوطن.

 فتحية اكبار واجلال للروائية المبدعة "شهد الراوي" وإلى الأمام حيث مكانتك الجوزاء وشاهدة ناشطة وأديبة في سفر الذاكرة الأدبية العراقية .

***

عبد الجبار نوري

شباط 2023 ستوكهولم

 

في المجموعة القصصيّة: "حينما ابتلعت القمر" للقاص السعودي: حسن الشيخ.

وصلتني من المملكة العربية السعودية الشقيقة، مجموعة قصصية للأستاذ الأديب والناقد السعودي حسن الشيخ. تحت عنوان (حينما ابتلعت القمر)، وهي من جنس القصة القصيرة جدا. ضمت بين دفتيها وصفحاتها 117 خمسة وثمانون نصا سرديّا قصيرا جدا. يعتبر فنّ القصص القصير من أصعب الفنون النثريّة على الإطلاق، منذ أن أسس له الكاتب الروسي نيكولاي غوغول من خلال قصته الشهيرة " المعطف " في القرن التاسع عشر. لكن، ألا يمكن اعتبار فنّ المقامات وسرديّات ألف ليلة وليلة وكليلة ودمنة وفنّ التوقيعات في العصر العباسي وحي ابن يقظان في العصر الأندلسي إرهاصات مشروعة لظهور معالم السرد العربي ؟. وأنا أتصفّح مجموعة الأستاذ حسن الشيخ " حين ابتلعت القمر "، استوقفني عنوانها، كما استوقف امريء القيس صاحبيه، وتساءلت: هل اللغة هي مجرّد ساعي بريد حياديّ، أم هي حمّالة إبداع وفكر وشعور وتاريخ وتجارب إنسانيّة ؟ كيف يمكن أن يكون الرمز أقوى في النفاذ إلى الذائقة الأدبية النقديّة، وأسرع إلى بلوغ مرامي الكاتب المبدع ؟ فالقمر له رموز عدّة منها التجسّد والشخصيّة والخصوبة والحياة والتفكير والأطباع والأم والبراءة والعفّة والهدوء والحزن والشوق والتعزيّة. ومازال سحره يشغل الأدب والفن والعلم والفلك. لقد وظّف القاص حسن الشيخ لفظة " القمر " توظيفا سيميائيا مجرّدا من روح الرومانسيّة، للدلالة على فقدان التأمّل والهدوء، وللتعبير عن رفض واقعه الداكن والبحث عن الحقيقة المطلقة، والتطلّع إلى الحريّة المشروعة. لكن هناك بون ومساحة بين شعور المرء وموقفه، حين " يبتلع " ما يعشقه ويستسيغه ذوقه، أو يبتلع ما لا يعشقه وما لا يستسيغه. فالدلالة الصرفيّة لصيغة (افتعل)، تفيد المشاركة أو الاتّخاذ والمطاوعة غالبا، بمعنى قوّتها، لأنّ معنى قوّة الفعل والمبالغة فيه متأصّل في هذه الصيغة. كما تفيد الاجتهاد أو الاضطراب أيضا، لأن صدور الفعل من الفاعل يكون ذاتيّا دون أن يتعرّض إلى أثر خارجي. يقول القاص حسن الشريف في أقصوصته (حين ابتلعت القمر)، والتي حملت عنوان المجموعة وتحمّلتها، ص 83 " اتكأت على كرسي خشبي، وتطلعت إلى السماء بعينين. كسولتين. رأيت بأم عيني القمر بازغا فقلت: هذا هو وجهها

تطلعت مرة أخرى إلى السماء، فلما رأيت النجوم بارقة، قلت: هكذا كانت تبرق عينيها.

تطلعت إلى السماء، ولم أرى شيئا. فتذكرت إنها في داخلي، حينما ابتلعت القمر ".

والصواب (لم أر)..

هكذا إذن، حين يبحث المرء المأزوم نفسيّا، الرازح تحت نير اللاانتماء، يبحث عن الحقيقة خارج ذاته، فلا يجد لها ظلاّ، وإذا به يكتشفها كامنة في أعماق ذاته. ويتطلّع إلى تغيير العالم الخارجي، وتغيير صورة الآخر وسلوكه تغييرا إيجابيّا، بينما ذاته ترفس في أغلال السلبيّة والقصور. عندها يعجزعن هزم أزمته، والتخلّص من براثينها.يقول القاص في أقصوصته (البحث عن بحر الدمام) ص 84 / 85: " حينما دخلتُ مدينة الدمام

تداخلت الرؤى والأحلام والذكريات البعيدة

هنا حي العدامة.. هنا منزلنا وبقالة العم صابر وهنا ملاعبنا.

وهناك حي الطبيشي ومنزل والدها، ومنزل عمها، ومحل الخياط الهندي الذي تقف عند بابه لكي تٌخيط فساتينها عنده.

حاولتُ البحث عن البحر الذي كنتُ ارتاده يوما بصحبتها.

ولكن ورغم كل محاولاتي

لم أجده

ولم أجدها. "

أجل، يصبح البطل (الأنا) السارد، ضائعا بين الرؤى والأحلام والذكريات التليدة، أي بين الماضي والمستقبل. فهو واقع بين زمان ومكان جميلين، كانا يحضنان حبيبته، تفوح منهما عطور الحب في حي العدامة وحيّ الطبيشي، ودكان الخياط الهندي الذي يخيط فساتين حبيبته، ومنزل والدها، والبحر الذي كانا يرتاده صحبتها. وكم للبحر من رمزيّة وسمات استدلالية وميتافيزيقية الخيال ووجود تاريخي وتراثي. فهو يوحي بمعان إيجابية مثل: الوطن، والحنين، والأمل، والصمود، والصديق، والعطاء، وذكريات الطفولة. أما النواحي السلبية للدلالات الرمزية للبحر، فهي: الضياع، والمنفى، والمحتل. فقد ابتلعت المدنيّة الحديثة والصناعة النفطيّة رومانسيّة الدمام، بالخصوص بحرها وخليجها، الذي يشبه شكل نصف القمر.

إنّ القاسم المشترك بين سرديّات هذه المجموعة القصصيّة، هو المعاناة والحنين والأمل. وقد حاول القاص حسن الشريف، أن يتخفّى – قدر المستطاع – خلف لغة شعريّة ومجازيّة ورمزيّة وزئبقيّة الملمس. ولعلّ ذلك ما جعله يخفي في قرارة نفسه الكثير ممّا كان يودّ قوله ونقله إلى المتلّقي. يعبّر القاص عن أزمة جيله على لسان السارد في أقصوصة (أنا لا أخاف الموت) ص 78، بقوله: " من منكم لا يخاف الموت !

أنا لا أخاف الموت أبدا، رغم إنني أخشى المرض. "

لماذا ؟ لأن الموت راحة جسديّة وسفر إلى عالم الخلود في دلالته الماديّة المباشرة، بالإضافة إلى رمزيّته. بينما المرض معاناة وألم عرضيّان ينهكان الجسد، وله أيضا من دلالات رمزيّة ومخارج مجازيّة في متون الشعر والنثر قديما وحديثا، خاصة عند الأدباء الرومانسيين والرمزيين. فالأمم المريضة بأمراض مزمنة، هي أمم في حالة موت سريريّ اكلينيكي.

ما لم يقله القاص أكثر ممّا قاله، وما أخفاه من وراء سرديّاته المجازيّة أخطر ممّا أظهره. وكأنّي بالقاص حسن الشيخ، قد وظّف لغة الصراخ والرفض والاحتجاج والتمرّد على الواقع السياسي والاجتماعي بأسلوب التخفّي وراء لغة مظهر الحيّاد لمراوغة مقصّ الرقيب. ولنتأمّل ما جاء في الأقصوصة التالية (سرّ الغرفة العلويّة المقدّس) ص 71." سر الغرفة العلوية المقدس

إلى الآن لم يستطع أحد الدخول إلى الغرفة العلوية التي حذّر جدي من الدخول إليها.

فمنذ أن حافظ جدي على سرها لآماد طويلة، جاء دورنا نحن لنحافظ على سرها المقدس.

فمن الغرفة العلوية يأتينا الخير والبركة والسعادة. ويأتينا النور من الظلام

وإلى بابها نلتجئ من غِير الزمان والظلمة والقهر. ونشكو ظلم الطغاة.

إلا أي منا لم يهتك الستر المقدس، ويلج على داخل الغرفة منذ أيام الأجداد السابقين.

فما خلف الباب لا يعلمه إلا من هو خلف الباب. ".

ألا تعبّر هذا القطعة السرديّة، عن أزمة مجتمع منغلق، تمارس فيه السلطة السياسيّة الطاغيّة والظالمة في غرف (مظلمة) هواية الوصاية على الرعيّة بقوّة الرعاية (المقدّسة)؟ بلى، هي ظاهرة عربيّة بامتياز، وجدت تربتها الخصبة لتنمو وتتجذر و(تتقدّس) في كنف الجهل والاستسلام والركون للقابليّة والقدريّة.

إنّ نقد الأنظمة السياسيّة في البلاد العربيّة (طابوه) محرّم، يجرّ صاحبه إلى مسرح التخوين والعمالة للأجنبي والمحاكمة والمساءلة والسجن أو النفيّ، أو ربّما الإعدام. لأنّ الحاكم العربيّ، مخلوق معصوم لا يأتيه الزلل من بين يديه ولا من خلفه. حاكم لا يعترف إلاّ بالولاءات، وإن هوت به إلى الجحيم، ويحارب الكفاءات بشتى السبل.

وإذا كان الهمّ السياسي، قد شغل القاص حسن الشيخ في بعض سرديّات هذه المجموعة، فإن همّه الأكبر من جراء التضييق على الحريّات الفرديّة والجماعيّة قد أرّقه، لأن حرمان المواطن من حريّته، سيؤدي بالضرورة إلى ضياع الوطن وخضوعه لسيف الأجنبي. لا يمكن لوطن (القطيع)، مهما كان جنسه وموقعه، أن يحافظ على حريّته وكرامته. لأنّ حريّة الجماعة من حريّة الفرد، وحريّة المواطن صون لحريّة الوطن. ولا يمكن – أيضا - أن تشاد الحضارة بالعنف والقهر واليأس والكراهيّة، وخارج أسوار الحريّة الراشدة والعدل. ولعلّ ما جاء في أقصوصته، المعنونة ب (ترسيم الحدود)، ص 64، يميط اللثام عن ذلك الهمّ المؤلم، يقول القاص حسن الشيخ: " يأتون بخرائطهم ومناظيرهم وببدلهم الزرقاء والخضراء، لكي يرسموا الحدود على أرضنا وفي دواخلنا بطباشيرهم الفحمية السوداء.

ومن خلفهم صبية صغار يلعبون، يمحون بأرجلهم ما يرسمه الجنود من حدود. ".

لكن، سنّة التغيير والأمل قائمان - دوما – في نفوس أجيال الخلاص. فمهما طال الليل، فإن الفجر قادم لا محالة. صغار اليوم هم شباب الغد ورجاله، هم الذين يحملون على عواتقهم رسالة الحريّة والإصلاح لم ينسوا، ولن ينسوا تفاصيل اغتصاب الصهاينة لوطنهم وضياع أرضهم ونكبة آبائهم وأجدادهم ومآسيهم، كما تمنّى ابن غوريون، مؤسس الكيان الصهيوني في مقولته: " الكبار يموتون والصغار ينسون ". وانتفاضة أطفال الحجارة في فلسطين المحتلّة خير شاهد على بطلان ترّهات الصهايّنة.

لم يغفل القاص حسن الشيخ الهمّ الاجتماعي الإنساني، في صورته (السوداء). فإذا كان الكاتب أو المفكر أو الفيلسوف، يعاني من فقر الحريّة في مجتمع اللاحريّة، فإن الفرد المسحوق يئنّ تحت عجلات العوز المادي. ممّا يضطر إلى الترحال والهجرة مئات الأميال أو آلافها من أجل لقمة خبز مغمّس بالشقاء والإذلال والمعاناة والغربة والوحدة والحنين والشوق والتضحيّة. لقد حرّكته ظاهرة الخادمات الأسيويات في الخليج والشام، وأدمت قلبه المرهف. يقول القاص حسن الشيخ في سرديته (أنا جوانا دانييلا)، ص 74 / 75: " عندما قبلتُ بالعمل هنا، بعيدا عن أهلي وعن وطني، كان الأمر تحدياً كبيراً. سأعيش مع أناس لا أعرفهم، ولا أنتمي إليهم، ولا أتحدث لغتهم، بل ولستُ على ديانتهم.

أنا جوانا دانييلا من الفلبين البعيدة. قدمتُ إلى هذا المكان البعيد لأوفر لقمة العيش لأطفالي الصغار الذين تركتهم عند زوجي.

أنا الخادمة جوانا دانييلا ضحّيتُ بحريتي، لأجعل من غد أطفالي أكثر سعادة. فلا تجعلوا من غدي أكثر تعاسة. "

أليس ذلك إدانة صريحة لتلك (الظاهرة المشينة) ولبعض المجتمعات الأسيويّة، التي عجزت عن صون كرامة رجالها وشرف رجولتهم وذكورتهم وحريّة نسائها، لمّا أجبرت نساءها على الهجرة إلى بلاد قاصية من أجل لقمة خبز لأطفالها الجوعى ؟ والأقصوصة صورة تعكس كفاح المرأة الأسيوية الفقيرة، والشعور الرهيب بألم العيش في مجتمعات اللانتماء، غريبة الملّة واللسان والانتماء، وتضحيتها من أجل البقاء، في عولمة دروينيّة ورأسماليّة، عنوانها، البقاء للأقوى وليس للأصلح. وفي أقصوصة (جيوش البرابرة) ص 15، يقول القاص: " جاءت جيوش البرابرة تجتاح حضارة ايامي، واجتاحت جموع التتار مواطني.

وهذا أنا وحيدا جائعا عاريا بعد ان سلب الجنود متاعي، ووقفت على قارعة الطريق أنوح كالثكلى.

اليوم تعلمتُ أن التقط اغصان الأشجار اليابسة لأصد كل الغزاة. فتوقف التاريخ.". يفضح القاص راهن أمتّه وهزائمها وانكساراتها المتتاليّة في صراعها ضد الآخر اليهودي والنصراني. وهو صراع تعدّدت أشكاله وأنماطه ؛ صراع عسكريّ وفكريّ وثقافيّ وعقائديّ وأخلاقيّ واقتصادي. فالبرابرة المعاصرون مازالوا على عهود أسلافهم في القرون الوسطى. يقتلون الأطفال والنساء ويذبّحونهم ويعذبون الأبرياء ويضطهدونهم بأبشع وسائل التعذيب. ما أشبه سقوط فلسطين في أيدي الصهاينة بليلة سقوط غرناطة في أيدي القشتاليين. ما أشبه هوان الأمة اليوم وخضوعها لأعدائها وخنوعها لهم بهوانها في أواخر أيام الرجل المريض والامبراطوريّة العثمانيّة المتهاويّة.

ومن خلال تتبّع سرديّات هذه المجموعة القصصية. يمكن استخلاص أهم العناصر التي شغلت القاص حسن الشيخ وأرّقته. وأهمها، وفي المقام الأوّل؛ الحريّة المسؤولة بمفهومها الإنساني المعيش (حريّة التفكير والتعبير في إبداء الرأي)، لا الفلسفي الميتافيزيقي. فهو على وعي تام، بأنّ الإنسان المنزوع الحريّة شبيه بجسد بلا روح. وأنّ أزمة العالم العربي تكمن في غياب حريّة الفرد والحوار المنتج، وهذا يفضي به إلى معيشة ضنكى، معيشة مجرّدة من العزة والكرامة والإباء وصون الذات الجسديّة والعقليّة من مغبّة الذوبان في العبث والعدم. أمّا العنصر الثاني، فهو غيّاب العدالة الاجتماعيّة كواقع ملموس في حياة الفرد والجماعة. فقد استُعمِل العدل - والذي على أساسه يقام الملك – كشعارلخدمة أهداف سياسيّة فقط، لا لتحقيق فريضة رباّنيّة، وخدمة رسالة إنسانيّة. أما العنصر الثالث، فهو التمّرد والرفض، فقد هدف القاص حسن الشيخ، إلى تحريك خبايا اللاشعور وإيقاظ الضمائر التائهة في مدن الاستسلام واليأس، وذلك من خلال توظيف سيميائية الرمز والإسقاط والتوريّة. كما ورد – مثلا - في أقصوصته (القلعة العالية)، ص 39: " أتطلع الى السماء من نافذة زنزانتي العالية، ولا شيء غير الظلام والصمت، العصافير على شجرة النبق هدأ صفيرها. ولا أسمع سوى همهمات الحراس في باحة السجن الهادئة منذ عشرين سنة وانا انتظر محاكمتي التي لم يحن وقتها بعد، كل شيء كما هو في هذه القلعة العالية. الوجبات الرتيبة، والوجوه، والكتب القديمة، والجدران، لم يتغير شيء سوى تزايد أعداد المسجونين في هذه القلعة الكئيبة. "

إنّها لوحة قاتمة اللون، تعبّر عن مجتمع عربيّ مغلول الأفكار النيّرة، ومحكوم باللامعقول في زمن سيادة العقل والحكمة والمنطق والديمقراطيّة الرشيدة. مجتمع تتحكّم فيه الأحاديّة المستبدّة والفردانيّة المطلقة، تحت شعار أنا أو الفوضى، أنا أو لا أحد.

و الخلاصة، يمكن اعتبار سرديّات المجموعة القصصية (حينما ابتلعت القمر) للقاص حسن الشيخ، إضافة - لا بأس بها - إلى المكتبة السعوديّة والعربيّة. وهي أقاصيص لم تخضع في بنائها لمنطق توالي الأفعال تبعا لسياق الحكاية (بداية / عقدة / حل) في الحلقة السرديّة الكلاسيكيّة.

وما على القاص إلا الانتباه إلى بعض الهفوات الإملائية والنحويّة الواردة في بعض الأقاصيص لتصويبها في الطبعات اللاحقة.

***

بقلم: الناقد والروائي:

علي فضيل العربي – الجزائر

ألمحنا في المقالات السابقة إلى التصوُّر العامِّ الأوربيِّ للمرأة الشَّرقيَّة، الذي استُقي من "ألف ليلة وليلة"، قبل أيِّ مصدرٍ آخَر.  ولئن صحَّ بعض ذلك التصوُّر، فإنَّ بعضه لا يعدو خيالًا "ألفليليًّا".  وتتمثَّل آثاره في قِصَّة "صادق أو القَدَرZadig Ou La Destinnée "، للفيلسوف الفرنسي (فولتير Voltaire، -1787)، في مظاهر، منها تصوير المرأة ممتهنةً غالبًا، وبخاصَّةٍ في بلاد العَرَب، حتى إنَّها لتُحرَق، على حدِّ زعم الراوي.  وهناك القصور الحافلة بقوافل النِّساء اللَّاتي يحرسهن العبيد والخصيان، كما في الفصل المتعلِّق بحكاية (الباسليك).  بيدَ أنَّك ترى في المقابل الأميرات المترفات والملِكات المتوَّجات.  هكذا تَظهر تلك الصُّورة الطبقيَّة المتقابلة في "صادق" كما تظهر في الليالي العَرَبيَّة.

ولعلَّ تصوُّر المرأة خائنةً، عديمة الوفاء، أو قليلته على الأقل، هو من أهمِّ ما يُلحَظ من تشابُهٍ في تصوير المرأة بين قِصَّة "صادق" و"ألف ليلة وليلة".  وتبرز خيانة المرأة زوجها في عِدَّة مواضع من "صادق"، أهمُّها خيانة المَلِكة زوجها.  وتلك إحدى الأفكار الرئيسة في قصص الليالي، في مثل قِصَّة "السلطان محمود صاحب الجزائر السود"، وغيرها.  وإلى جانب الخيانة، تبرز الغيرة القاتلة.  أمَّا النظرة العامَّة إلى مكائد النِّساء، وغرائزهن، ودوافعهن، وما إلى ذلك من أسرارهن- كما بدت في زوجات مَلِك (سرنديب)، في فصل "العيون الزُّرق"- فإنَّ أصله واضحٌ من قصص الليالي في حكايات مكائد النِّساء وحِيَلهنَّ المتعدِّدة، وأُولاهنَّ (شهرزاد) نفسها.

-2-

وتُصادفنا موضوعةُ الحِيلة في قِصَّة "صادق" كما تصادفنا في "ألف ليلة وليلة".  وهي في كلا النَّصَّين لأهداف مختلفة.  منها ما يكون لكشف حقيقة، كالحِيلة التي أجراها (صادق) ليعرف صِدق امرأته (أزورا) في حُبِّه، وكالحِيلة التي اتَّخذها مَلِك (سرنديب)، بمساعدة صادق، لكشف أمانة المرشَّحين لبيت ماله، أو لكشف وفاء نسائه.  ومن الحِيَل ما يكون لجلب منفعةٍ أو دفع مضرَّة، كالحِيلة التي احتالها (كادور) في سبيل إنقاذ صادق والملِكة، بعد كشف أمرهما عند الملِك، أو الحِيلة التي قامت بها الأرملة العَرَبيَّة (المُنَى)، من أجل إنقاذ جسدها من الحرق، وإنقاذ صادق من ثورة الكهنة.  وقد تأتي الحِيلة لعملٍ شَرِّيٍّ، كتلك الحِيلة التي أعدَّتها زوجة الحسود للإيقاع بصادق وامرأة المَلِك (مؤبدار)، أو كالحِيلة التي سرقَ بها (إيتوباد) اللَّأْمَةَ البيضاء من صادق، بعد أن تفوَّق عليه في المبارزة، التي تسابقا فيها على عرش المملكة.  وكلُّ تلك الضُّروب من الحِيَل عهدناه في قصص (شهرزاد) بكثرة.  منها، على سبيل المثال، ما نقرأ في (الليلة 672)، من "حكاية أحمد الدنف وحسن شومان مع الدليلة المحتالة وبنتها زينب النَّصَّابة"(1).  إلى غير هذا من النماذج، التي كثيرًا ما ترتبط بالمرأة، متمخِّضةً عن الثقافة الذكوريَّة في شيطنة الأُنثى، هنا وهناك.

-3-

وقد جرت العادة في ليالي (شهرزاد) أن يظهر علينا البطل متَّصِفًا بصفات الفُروسيَّة غالبًا.  وصفات الفُروسيَّة هناك كانت الشجاعة، والفِطنة، والجَمال الخُلقي، والخَلقي.  وقد يجمع البطل مع هذه الخصال: الثقافةَ، والعِلمَ الواسع، والحِكمة الفاضلة.  وقد تمثَّلت تلك الصفات الفروسيَّة في شخصيَّة (صادق)؛ فهو فتًى جميلٌ، ذكيٌّ، مثقَّفٌ، شجاع، له من الحِكمة، والعِلم، والخُلق، مثلما كان لأبطال القصص الشهرزاديَّة.

ومن أوجه الشَّبَه بين النَّصَّين أن تتمثَّل فطنة البطل في تحليل الأمور والاستعانة بالقرائن.  كما فعل (صادق) عندما عرف صفات كلبة المَلِكة وجوادها بقرائن من آثارهما، لينال بذلك جائزة الأربع مئة مثقال محمولة إلى داره في موكب.  وهي الصورة عينها التي تتكرَّر مع بعض الأبطال الشهرزاديِّين.

والبطل في "ألف ليلة وليلة" غالبًا ما يكون شاعرًا، يُنشِد في مختلف المواقف.  مثال ذلك ما تَقرأ في قصَّة "أنس الوجود مع محبوبته الورد في الأكمام"(2)، وفي غيرها.  وتتكرَّر في قِصَّة (فولتير) الصُّورة نفسها في شخصيَّة (صادق)، الذي أدَّت به إلى السجن بِضْعةُ أبيات كتبها.  وإنْ كان يبدو أنَّ (فولتير) إنَّما أقحم هذا في قِصَّته لتصوير بعض المشكلات التي كان واقعيًّا يعانيها هو في حياته.

وفي مقال الأسبوع المقبل ننتقل إلى مقارنة قِصَّة (فولتير) بقِصَّة "السندباد البحري".

***

أ. د. عبد الله بن أحمد الفَيفي

..............................

(1) (1981)، ألف ليلة وليلة، (بيروت: دار التوفيق)، 5: 990. 

(2) م.ن، 4: 707- 725.

 

عن دار الوسط اليوم في رام الله صدرت مؤخّرا المجموعة القصصية الجديدة للكاتبة والشاعرة هيام مصطفى قبلان، تزيّن لوحة غلافه لوحة الفنانة لينا صقر مصطفى، تقع في 120 صفحة وتحتوي على اثنتين وعشرين قصة قصيرة.

تفتتح المجموعة قصة «أفقد نفسي»، بطلتها هي إمرأة شابة، وربما من المثير للعجب أن اسمها يهودي، راحيل، رغم كونها عربية من عائلة عربية، قرويّة، تقليدية، تعود برفقة زوجها وابنها الصّغير إلى بيت أهلها الذي نشأت فيه في القرية، بعد غياب عشر سنوات. راحيل، التي توفّيت والدتها وهي صغيرة، فقدت حنان ودفء الأم منذ ذلك اليوم، واضطرّت هي وأختها فريدة للخروج للعمل في الحقول والكروم والبيوت، وتفاقمت معاناتها بعد زواج الأب من رحمة، إمرأة شابة وجميلة، تصفها الكاتبة بأنها «ذكيّة بحنكتها ومكرها وضعت كل طاقتها بتقريب الأختين لها وكسبهما» في البداية، وبعد ذلك كشفت رحمة عن وجهها الحقيقي بعد أن أنهت راحيل المدرسة وتمّت خطوبتها على سعيد الذي أراد الزواج من راحيل بعد أن طالت فترة الخطوبة، بموافقة راحيل، إلا أن زوجة أبيها، رحمة، أقنعت زوجها أن راحيل ما زالت صغيرة السّن والأفضل تأخير الزواج حتى يكمل سعيد تجهيز البيت.

وعندما طلبت راحيل من رحمة استقبال أهل خطيبها لتحديد موعد الزواج، ينكشف وجهٌ آخر لرحمة لم تكن تبديه، فيتّضح لراحيل أنها بلا رحمة، حيث «لم تمنحها فرصة أن تكمل كلامها وكأنّ الدّنيا انقلبت والنيران اشتعلت في جسدها»، ثم تتفاقم الأزمة العائلية بشكل مفاجئ وغريب، تقوم راحيل من بعده بفعل مفاجئ وجريء، يحوّل مسار حياتها إلى نقطة اللاعودة. «أفقد نفسي» هي قصة اجتماعية ميلودرامية عن صراع الخير والشر، عن فقد الأم وفقد الأب من بعده رغم وجوده الجسدي.

وتصف الكاتبة في قصة «ضوءٌ متكسّر» حالة انكسار رجل بعد فشل علاقة حبّه مع إمرأة لا نعرف اسمها ولا اسمه، فالكاتبة لم تسمِّهما بأي اسم، وسردت القصّة بضمير الغائب، وكأنّها قصدت بذلك أنها قصة يمكن أن تحدث مع أيّ رجل مهما كان اسمه ومع أيّ إمرأة مهما كان اسمها.  وتبدأ القصّة بمشهد تصفه الكاتبة بأنه «متكسّر الأرداف ينعكس على وجه الماء»، حيث تقترب سيّارة إمرأة من بطل القصة، وكان «متأكّدًا أنها هي، تمرّ هذه اللحظة كأزيز رصاصة من أمامه، ودخان سيارتها من الخلف يتعالى في الأفق».4886 هيام قبلان

لم تلتفت المرأة نحوه، رغم أنها كانت تعرفه جيّدًا. حيث تسرد لنا الكاتبة كيف تعرّف الرجل عليها مصادفةً في مقهى وباحت له بالعديد من أمورها الشخصية في ذلك اللقاء الأوّل، فأحسّ نحوها بشيءٍ ما مغاير كان يبحث عنه دائما، شيء مختلف لم يعرفه في النساء من قبل، و«مارس معها لعبة الحب حتى الذوبان... ولم يكن مجرد إحساس، بل إنه الانصهار والتّماهي بمن يحبّ». لكنه، في تلك اللحظة، أدرك أنه فشل في علاقته، وبقي حائرًا وتائهًا، يتساءل في داخله: هل كانت خدعة؟

أما بطل قصة «نقرات الكعب العالي» فهو رجل وحيد وحزين بعد أن طلّق زوجته، زهرة، المطيعة، الخدوم الصّامتة، التي لا ترفع إلى زوجها النظر حتى في أصعب اللحظات، يجلس كل صباح أمام النافذة ليختلس النظر إلى العمارة المقابلة لشقّته، حيث يرى المرأة التي «تمشّط شعرها الليليّ الطويل، تسترخي على الكنبة بقميص نومها الشّفاف الذي يكشف عن جسد بضّ ومشاغب»، فيشعر بدوار من تلك الأنثى التي دوّخته. وفي يوم من الأيام حين عرّج على المقهى القريب ليرتشف قهوته، لم يصدّق عينيه، إذ رآها هناك بجسدها الرّشيق، أميرة أحلامه. فسار وراءها مأخوذًا بسحر جمالها، بعطرها الزكيّ الذي يفوح منها، بكعبها العالي الذي كلّما ابتعدت نقراته «ينفكّ رباط حذائه، يتحلحل، يطير ويتطاير». ويتمنى لو يتوقّف الزّمن ليلامس شعرها، ويصمت الكون ليتنفّس ليلها ويغرق في عينيها. ولا بدّ أنه أحسّ حينها كأنه عاد مراهقا شابّا إذ ذكّرته ملاحقته لذات الكعب العالي كيف كان يلاحق بنت الجيران في حبّه القديم بين البيوت المتراصة، ثم يقارن في ذهنه تلك المرأة ذات الكعب العالي بزوجته التي طلّقها، زهرة، التي يتذكّرها بجلبابها الطويل، وكيف كانت «تخنقه رائحة الرّطوبة التي تنبعث من تحت جلبابها ومن قدميها المتشقّقين، وهي تهرول حافية على الطريق الترابيّ المؤدّي إلى الحقل». في هذه المقارنة بين المرأتين تنتصر ذات الكعب العالي على ذات الجلباب الطويل في جذب الرجل والاستحواذ على قلبه، أو هكذا تبدو للوهلة الأولى، لكن الكاتبة تفاجئنا في نهاية القصة بلحظة تهزّ النفس وتحرق القلب حين تخبرنا كيف يختفي ظلّ تلك المرأة ذات الكعب العالي و«ويهوي حلمه المدنّس من ثقوب السّراب».

وفي قصة «بعد أن كبُر الموج» التي تحمل عنوان المجموعة، تصارع الراوية، بطلة القصة، مجتمعها وأهلها من أجل حبّها وعشقها للكتاب، الذي تصفه بكل مواصفات الحبيب: «تلهث أنفاسي، وأدري أنني أستسلم لسحرك العارم. حين دسستُ رائحتك بين خصلات شعري لأول مرة، تجوّلت، تابعتَ خطواتي المهرولة، تجولتَ معي في شوارع المدينة، ودخلتَ ورائي إلى حانوت الملابس. كم تعثّرتُ خجلا وأنت ترمقني نصف عارية أمامك. انتابني شعور مراهقة يتورّد خدّها البتول، دون استئذان تتأبّط ذراعي وأختلس النظر إلى الوراء.» ذلك الحبيب الذي حاولت عبثًا التخلّص منه برميه في البحر، وتقاوم الطّعم وتقرّر ألا تتبعه. «أردتُ أن أخلعك مني، كما تخلع الشعوب حكامها، كما تُهدم في الوطن المساكن، كما تُنزع الطفولة من أثداء الأمهات وكما يسقط القتيل وراء القتيل مضرجًا بدمائه.» لكن، رغم كل الضغوط والقيود التي حاولوا تكبيلها بها، وقفت أمام أمّها بكلّ شجاعة، عندما اكتشفت ما تكتبه في أوراقها التي تخبّئها تحت فرشتها فنهرتها، أدارت لها ظهرها، في حركة تدلّ على الثقة بنفسها وبحقّها في الحبّ، وسألتها: «أين أوراقي التي تحت فرشتي يا أمي؟»

 ثم أضافت: «هذه أوراقٌ تخصّني وحدي»، مذكّرة أمّها بحقّها في الخصوصيّة، حتى لو كانت ابنتها، فلها كيانها الخاص، حاجاتها ورغباتها، ولا يحقّ لأحد، حتى لو كانت أمّها، بفرض رغبته عليها ولمس أوراقها الشخصية. وكان على الكاتبة الاستمرار في لهجة الراوية الصّارمة مع أمّها خلال تلك المواجهة فلا تتلعثم ولا يتوقف الكلام في حلقها ولا تحاول الصّراخ بعلو صوتها، كما فعلت، فكلّ هذه الأفعال تدلّ على التردّد والضعف، بل كان عليها أن تقول لها ببساطة ورزانة كلّ ما قالته لها في نهاية القصّة دفاعًا عن حبّها. 

«بعد أن كبُر الموج» هو الإصدار التاسع للكاتبة هيام مصطفى قبلان من قرية عسفيا، التي أصدرت حتى الآن خمسة دواوين شعرية، نصوص أدبية بعنوان «بين أصابع البحر»، رواية «رائحة الزمن العاري» عام 2010، وهذه ثاني مجموعاتها القصصية، بعد مجموعة «طفل خارج من معطفه» عام 1998. وعن سبب اختيارها لكتابة القصة القصيرة تقول هيام: «كتابة القصة لم تكن بمعزل عن فكري وتفكيري وقدرتي، فالقصة كأيّ جنس من الأجناس الأدبية تأخذ حيّزا كبيرًا ومهمًّا بين كتاباتي، اخترتُ هذه المرة إصدار مجموعة قصصية لأنني أشعر أنني متمكّنة من كتابة قصة بكل ما فيها من عناصر وتقنيات القصة القصيرة، القصة لا تتطلب مني غير أن أكون على علم مُسبق وتجربة في كتابة القصة، فقد درستُ عن القصة والرواية في دراساتي العليا وكان قراري بإصدار المجموعة حيث أتى بعد كتابتي لمعظم قصص المجموعة من قبل وقد كنتُ أريد أن أطلق عليها اسم (نساء) ،جمعت القصص وترويت، لكن تجري الرّياح بما لا تشتهي السّفن، فقدتُ ابني ومرضتُ، حاولتُ التوقّف عن الكتابة لفترة لأعود لقصص مجموعة (نساء)، لكن مشاعري في تلك اللحظة والفترة الزّمنية التي صارعتني قبل أن أصارعها ألحّت عليّ الاستمرار بكتابة باقي القصص التي وُلدت من رحم الألم والصّدمات والمعاناة، خاصة الإحساس بالموت والفقدان والغربة والحنين للأمس!»

نلاحظ أن معظم قصص المجموعة تتحدّث عن نساء يعانين من الظّلم والقهر والاضطهاد في المجتمع العربي الذّكوري. فماذا يميّز بطلات القصص عن غيرهن من النساء؟

تقول هيام: «كل بطلة من بطلات قصصي لها شخصيتها المختلفة والخاصة التي تميّزها: مثل المرأة المقموعة المظلومة، والمرأة المتسلطة القوية، والمرأة الخائنة، والمرأة المناضلة، والمرأة الضعيفة الوفية، وفي نفس الوقت جميعهن يخضعن للاضطهاد في مجتمع عربي ذكوري وعقلية قبلية متوارثة».

الدير الذي لجأت إليه فاتن، الحقول والكروم التي عملت فيها فريدة، القطيف في حقول التّفاح التي تعمل فيها أم سماح، الكروم التي في أطراق القرية، الغابة الممتدّة وشجرة التّين القريبة من البيت...  كلّها تذكّرنا بنكهة قرية الكاتبة، عسفيا. ومن هنا يتبادر إلى الذّهن السؤال: إلى أي حدّ تكتب هيام في قصصها عن قريتها وعن البيئة التي نشأت بها؟

عن ذلك تقول هيام: «أكتب عن البيئة والمكان ليس فقط في قصصي، بل واضح في روايتي «رائحة الزمن العاري» وفي قصائدي أيضا عن المكان والطبيعة، وتعلّقي بكرمنا في أطراف القرية ونكهة قريتي التي ولدتُ فيها ونشأت وترعرعت، من يتناول شعري وقصصي يشعر أن (أدب المكان) يتواجد في كتاباتي وهذا ما أطلقه عليّ بعض النّقاد لتعلّقي بالمكان وما يسمى ب (توبوفيليا)، فحين نتحدّث عن المكان ونصفه لأن المكان قد يكون مرجعا يوفّر للكاتب بداية وانطباع أوّلي، حيث الحكائي الذي يكتنز مضمونات مأخوذة من الواقع ووظيفته توفير مرجعية لانطلاق الإبداع لدى القاص أو الروائي وكأن المبدع يستشرق واقعًا جديدًا رغم المعاناة التي يمرّ بها في واقعه، فلا زمان دون مكان طبعا، ولا سرد للقصة أو الرواية دون الاهتمام بالمكان والجذور فالذّات البشرية تمزج ما بين المكان الواقع والخيال ليصبح المكان فضاء لا يخلو من الرّمزية والإحساس والواقع المتخيّل فهو امتداد للشخصية وانتقالها من جغرافية المكان إلى الدّلالات الرّمزية والفكريّة وأقول: أن للمكان مكانة خاصة في كتابة السرد عند الكتّاب وأنا منهم».

مداهمة المرض الخبيث بعد رحيل الابن في «دون خيار»، الإصابة بمرض السرطان الذي اختار منطقة حساسة من جسد المرأة في قصة «فوق سرير أبيض»، السقوط في سرير المرض في قصة «سرب ضجيج»، كلّها توحي بتجارب وآلام شخصية اختبرتها الكاتبة بنفسها. فإلى أيّ حدّ تعبّر قصصها عن تجاربها الشخصية؟ 

تقول هيام: «ليست جميع قصص المجموعة هي تجارب شخصية، من الواضح في مجموعتي أن فقداني لابني وقتله غدرًا، ومداهمة المرض الخبيث بعد رحيله بفترة وجيزة ناتجة عن تجربة شخصية ومعاناة وانكسارات وصدمات، أما باقي القصص فتعبر عن المجتمع والواقع الذي نعيشه، فماذا تغيّر؟ الرّذيلة والفساد والعنف والقمع والخيانات والمصالح الشخصية والطبقيّة والعار والأقاويل والسّمعة كلّها ما تزال موجودة وتؤثّر طبعا على القاص الذي ليس بيده مصباح علاء الدين، ولا سيف الحق والعدالة ولا قدره لتقويم الأخطاء في المجتمع بل التطرّق لمثل هذه الظواهر هي امتداد لتربية وعقليّة متوارثة، وآن الأوان أن تتغيّر، ورسالة الكتّاب والأدباء ليس الحياد لا في الشعر ولا في القصة ولا في الرواية، لأنّ موقف الحياد  قد يزيد من الآفات في مجتمعنا وهذا ما لا نصبو إليه بأقلامنا».

«بعد أن كبُر الموج» للشاعرة والكاتبة هيام مصطفى قبلان، التي لها العديد من المشاركات في أمسيات ومهرجانات محلية، عربية ودولية، هو كتابٌ يستحقّ القراءة والتّمعّن والإبحار في معاني قصصها المُستقاة من الواقع المرير للمجتمع العربي، وتدعو إلى واقع أفضل في مجتمعنا للمرأة والرجل على السّواء، فألف مبروك للأديبة هيام مصطفى قبلان وإلى المزيد من الإبداع.

***

بقلم: حوا بطواش

 

وُجدت القيم الإنسانية لتكون الضوابط التي تقودنا نحو حياة أفضل. وتظهر في السلوك الظاهري لدى الإنسان سواء الشعوري منه أو اللاشعوري.

وتُعد القيم الإنسانية من المتغيرات التي يُستند إليها في تفسير الواقع الإجتماعي بمختلف مظاهره. ونجد منها الإيجابي ونقيضها السلبي، حيث نستطيع الإستدلال عليها عن طريق التعبيرات المختلفة من خلال اللفظ أو السلوك الذي يسلكه الشخص سواء كان شخصيا أو اجتماعيا.فالسلبي منها يجعل الشخص من أخطر الوحوش وأكثرها تدميرا للحياة. بينما الإيجابي يجعل الشخص إنسانا بناءً للحياة معمرا لهذه الأرض.وقد كرس الأدباء هذه القيم في كتاباتهم. حيث برزت في نصوص الروائيين.

 وما وجدناه من خلال قراءة الحرب التي أحرقت تولستوي، للكاتبة "زينب السعود"، من إصدارات الآن ناشروون وموزعون/2023،  أن الكاتبة أبرزت العديد من القيم الإنسانية من خلال ما جسدته من أحداث واضطرابات نفسية واجتماعية وأخلاقية عانت منها شخصياتها بسبب الحرب التي اندلعت بين روسيا وأوكرانيا. ولعل البعض قد يتسائل عن السبب الذي دفع الكاتبة لإقحام نصها في حرب ليست لنا! إلا أننا نجدها تبرر سبب تناولها للموضوع وهي تعلن للمتلقي ص170 على لسان السارد (فهذه الدولة التي تُقصف وتُدمر هي التي تنتج الخبز الذي يقتات به السواد الأعظم من أبناء هذه الكرة المستديرة). كما أن زينب السعود أرادت إيصال رسالة للعالم عبر شخصية يوسف الدور الخطير الذي يؤديه الصحفي وما يحمل هذا الدور من قيم إنسانية.

المرأة كانت واحدة من القيم المهمة التي طرحتها الكاتبة وقد جسدتها في أكثر من شخصية لكن الأبرز كانت شخصية جمانة. وجمانة مثال المرأة القوية المثقفة المحبة صاحبة المبدأ زوجة الصحفي يوسف الذي تم تكليفه لإدارة مكتب إعلامي في أوروبا الشرقية وتحديدا في مدينة ماريوبل الأوكرانية. فتحملت مسؤولية البيت والأولاد بالرغم مما كانت تعانيه من عذاب نفسي وشوق للزوج والحبيب وخوف وتوتر من فقدانه في دولة نزلت بها حرب لم تكن بالحسبان. ونلخص قيمة تلك المرأة المحبة المضحية القوية فيما جاء على لسان الساردة عن يوسف بعد أن جاءت كلمة أحبك على لسان جمانة عبر الهاتف ص97 (كان قد استسلم منذ فترة لفكرة أنها قد تكون كرهته بسبب انشغاله بعمله، وإجازاته المتباعدة، وتحملها مسؤولية الأولاد وحدها، واضطرارها للتخلي عن أحلامها وطموحاتها). ومن هنا نستنبط أيضا قيمة مهمة وقفت عليها الكاتبة بعمق وهي الحب. فحب جمانة ويوسف كان الدافع لهما ليصبر كل منهما على الوضع الذي وضعته الظروف فيه.

كما أن جمانة تحلت بقيمة إنسانية وهي الوفاء فبالرغم من البعد الذي حال بينها وبين صديقتيها سارة وأفنان إلا أنها ظلت وفيه لهما ويتضح هذا ص84 من خلال ما جاء عن سارة على لسان الساردة (تنصت إليها كلما دار الحديث بينهما، تاركة لها مساحة كي تخرج ما بداخلها من تمرد على كثير من المتناقضات التي تواجهها في علاقتها المضطربة بزوجها..)

وتجلت قيمة الحياة في النص وقد أولتها الكاتبة اهتماما وعناية. ذلك لأن التشبث بالحياة هي طبيعة جُبلت عليها النفس البشرية وتتضح هذه القيمة في كثير من المواقف منها ما جاء عن رشا طالبة الطب التي تدرس في جامعة كييف على لسان الساردة ص106(كانت هذه أول مرة تختبئ فيها داخل قبو تحتمي بجدرانه من نيران القصف). ومن خلال قيمة الحياة والتشبث بها تعري لنا الكاتبة النفس البشرية التي تحولت عند البعض إلى كتلة من الأنانية. وقد أتت على هذا في عدة مشاهد وكيف تعامل الأوكران تجاه الطلاب العرب. وقد أزاحت الحرب اللثام عن التمييز العنصري تجاه سكان العالم الثالث. نذكر منها ما حصل عندما قرر أؤلئك الطلاب مغادرة كييف إلى لفيف عبر القطار. فعلى لسان الشرطي ص142 لطالب الطب معاذ عندما اعترض على منعهم الركوب (قاطعه الشرطي بنبرة مستفزة :أأنت أوكراني؟ طبعا لا، إذا لا يحق لك ركوب القطار، الأولوية للأوكرانيين). والتمييز العنصري، هذه القيمة السلبية أدت إلى إلغاء قيمة العدالة فالطلاب العرب لم تتم معاملتهم بالمثل، ما عرضهم إلى الشعور بالإذلال النفسي بسبب فقدانهم لحقوقهم الإنسانية بسبب جنسيتهم العربية المهمشة في بلاد الغرب. والعدالة كقيمة إنسانية تعطي الشخص قيمة مهمة وهي الحرية، وقد لجأت الكاتبة إلى تصوير حجم الخسارة والإنهيار الذي تتعرض له الشخصية الإنسانية من خلال هؤلاء الطلاب حين يتم التهاون في ممارستها لحريتها والتي هي حق طبيعي لكل إنسان. فحين مُنعوا من قبل الشرطي من ركوب القطار فهذا يعني بقاءهم في كييف للموت وهذا لا يعني سوى أنهم باتوا مسلوبي الحرية. وبما أن الحياة هي ضد الموت فقد كان الجميع يصارع من أجل النجاة من الموت الذي بات يهدد الجميع دون استثناء. فبرزت قيمة جديدة وهي الصراع. وهناك من يصارع من أجل راحة الجميع وهذا يتضح في مواقف الصحفي يوسف فقد بذل نفسه ووقته حين تأخر في كييف مع الطلاب العرب بالرغم من إصابته إلى أن اطمأن أنهم غادروا، كما وهبهم المال حينما ساهم بنصف أجرة الحافلة التي ستقلهم إلى لفيف، ويتجلى هذا فيما جاء على لسان يوسف حينما أخبرمعاذ بأن صاحب الحافلة طلب مبلغا كبيرا ص192 (أنا سأتكفل بنصف المبلغ، عليكم أن توفروا نقودكم كي تتمكنوا من الخروج من لفيف إلى بولندا). وهذه هي التضحية، قيمة من أسمى القيم الإنسانية فقد بذل يوسف نفسه ووقته وماله من أجل الطلاب العرب، كما أنه في خط الدفاع الأول حينما وقف أمام كاميرته لنقل الخبر الصادق للعالم ولم يأبه بالموت ومن هنا تأتي قيمة الشجاعة التي تحلى بها هذا الصحفي.

ولأن القيم الإنسانية أساس بناء المجتمعات وضمان استمراريتها فقد تزاحمت في رواية الحرب التي أحرقت تولستوي مثل بر الوالدين، الشكر، الأمانة، التضامن، الإنتصار وغيرها مما لا تتسع له هذه القراءة.

وبقي القول أنه من الواضح بأن الحرب التي أحرقت تولستوي عكست ما اكتسبته الكاتبة زينب السعود من ثقافات وعلوم وأحداث معاشة ووقائع اجتماعية ونفسية مما ساعدها على بناء عالمها الروائي الخاص.

***

قراءة: بديعة النعيمي

الحقيقة بهرتني الشاعرة المغربية الكبيرة بهذه القراءة النقدية الرائعة لقصيدتي (الزلزال) فكان من واجبي أن أنشر هذه الدراسة القيمة ليقرأها الأصدقاء الأعزاء والتي تثبت أن الأستاذة نبيلة حماني ناقدة متمكنة بالإضافة لكونها شاعرة جميلة.

أولا: القصيدة:

الزلزال

شعر: د. جمال مرسي

(بعد الزلزال المدمر في سورية وتركيا في السادس من فبراير لعام 2023م والذي راح ضحيته الآلاف ما مبين شهيد ومصاب.. ندعو للشهداء بالرحمة والمغفرة وللمصابين بتمام الشفاء):

بــالأمـسِ كـــان لـنـا بـيـتٌ يُـجـمِّعُنا

والـيومَ سـالتْ على الأطلالِ أدمُعُنَا

أشـلاؤنـا انْـتَـثَرَتْ فــي كــل نـاحـيةٍ

لــم تَـبـقَ غـيرُ ريـاحِ الـفقدِ تـصفعُنا

نُـشـيِّعُ الأهـلَ والأصـحابَ فـي كَـدَرٍ

فــمــن تُــــراهُ إذا مُــتـنـا يُـشَـيِّـعُـنا

بــالأمـسِ كُــنَّـا هُـنـا نـلـهو بـحـارَتِنا

الـشمسُ تـرمُقُنا، والـنجمُ يسمعُنا

يَــمـوءُ فـــي بـيـتِـنا هِـــرٌّ، نـلاعِـبُهُ

ويـصـدح الـبـلبلُ الـشـادي فـيُـمْتِعُنا

يـبـدو الأثــاثُ سـعـيدًا لــو نُـجالِسُهُ

و يــزدَهِـي بـجـمـالِ الـزَّهـرِ مـربَـعُنا

كـانـت تُـقيمُ عـلى الـجُدرانِ مـكتَبَةٌ

نـغـوصُ فـي عُـمقِها عـصرًا فـترفَعُنا

وكــان جِـيـرانُنا مِــن نـفـسِ طـيـنتِنا

مـا كـانَ عـن وصـلِهِمْ أشـياءُ تَمنَعُنا

كـانـتْ لَـهُـم طِـفلَةٌ، إبـنٌ، وخَـادِمَةٌ

وربَّــةُ الـبَـيتِ فِـي الأحـضانِ تَـزرَعُنَا

كـأنَّـنَـا بَـعـضُـهَا، لا شــيءَ يَـفـرُقُنا

عـن "بـاسمٍ"، و"صـبا" لـما تُـوَدِّعُنا

وحِـيـنَ تُـقـبِلُ أُمِّــي بـعـدَ مـطبَخِهَا

نَـلتَفُّ مِـن حَـولِهَا جَـوعَى فَـتُشبِعُنا

يــا لـلـمساءِ الـذي يَـأتِي بِـنُورِ أَبِـي

تُـحِـيطُهُ فِــي ظَــلَامِ الـلَّـيلِ أَذرُعُـنَا

يَـجِيءُ، فِـي يَـدِهِ حَـلوَى لِـيُسعِدَنا

وحَــــولَ تِـلـفَـازِنَـا يَــحـلُـو تَـجَـمُّـعُنَا

حَـدِيـثُهُ الـعـذبُ يُـشـجِينَا ويَـمـنَحُنَا

مِــن فَـيـضِ خِـبـرَتِهِ مَـا كَـانَ يَـنفَعُنَا

والــيـومَ نـجـلـسُ والأنـقـاضُ بَـاكِـيَةٌ

مِــن تَـحتِنا، وسِـيَاطُ الـمَوتِ تَـلفَعُنَا

يـا مـوتُ كـيفَ أتـيتَ اليومَ فِي سِنَةٍ

تـخـتارُ مِــن بـيـنِنَا الآلافَ، تَـفـجَعُنَا

تتلو: "إذا زُلزِلَتْ"، هل حَانَ موعدُها

يَـا مَـوتُ، أم جـئتَ مُـختالًا تُـرَوِّعُنَا؟

وتُـنـذرُ الـخـلقَ أَنْ أشـرَاطُهَا ظَـهَرتْ

نَـعَـم.. ومــا كــانَ يُـنـجِينَا تَـضَـرُّعُنَا

أقـــدارُ رَبِّـــيَ قَـــد فَــاقَـتْ تَـصَـوُّرَنَا

و الـهَـدمُ نـَحوَ جَـليدِ الـمَوتِ يَـدفَعُنَا

يـا مـوتُ رِفـقًا بِـنَا، صِـرنَا بِـلا سَكَنٍ

وراحَ تــحـتَ ثَـــرَى الــزِّلـزَالِ أَروَعُـنَـا

فَـمَن سَـتَشرَبُ بـعدَ الـيومِ مِن دَمِهِ

و هَـل هُـناكَ، هُـنا، أم أيـنَ مَصرَعُنَا

4876 جمال مرسي ونبيلة حباني

ثانيا: القراءة النقدية:

يظل الشعر لغة الروح والقلب، ودفق الأعماق وخلجات الروح، ذلك الزلال الذي يتدفق من الدواخل وينسكب فيها، الشعر هو ذلك الشلال الهادر المريء الذي ننهل منه في كل الحالات ومع كل الظروف، حزنا كانت أم فرحا، تعبا أم ارتياحا، وجعا أم شعورا بالرضي، حبا أم خذلانا...

الشعر يسع الإنسان وامتداداته اللامتناهية في الوجود، يسع كل ما يعتمل في النفس الإنسانية، لذلك أقول: إن الشعر هو الصدق الإنساني والحقيقة التي لا تظهر إلا فيه وبه ومنه، وما المجازات والانزياحات والتحليق في الخيال إلا حقيقة ذلك الصدق الذي لا يرى إلا في الشعر بكل أشكاله..

ففي زمن استشرى فيه الوجع، وتفصمت العرى، وأحس الإنسان بوطأة الحياة وثقلها، بغربة عن نفسه وعمن حوله، تصبح القصيدة دفقا وشلالا من المشاعر المعبرة عن واقع مر، وحياة مليئة بالمتناقضات والمشاعر المتباينة...

من هذا المنطلق أعرض في قراءة انطباعية عاشقة لقصيدة الشاعر المصري الكبير الدكتور "جمال مرسي" والتي عنونها ب " الزلزال"

من خلال القراءة الأولية للعتبات الخارجية للنص،يكون أول ما يثير الاهتمام ويلفت الانتباه هو هذا العنوان "الرمز"، العنوان الكبير حجما والمقتضب حروفا "الزلزال" هذا الزلزال الذي هو علامة دالة قوية صادمة تحل بالمكان فتدمره وتهدمه، وتغير معالمه تماما، وتحل بالزمان فتسمه وتطبعه، ليكون التغيير المنذر.. الآتي بالشتات والفقد والموت والوجع الشامل، سواء بالنسبة للذي عايش هذا "الزلزال" ونال من ويلاته موتا وتشريدا، فقدا ومرضا، فقرا وعوزا،ضياعا للماضي والحاضر، تكبدا لحسرات لم تكن في الحسبان.. أو بالنسبة للذي سمع عنه ورأى صوره المفزعة فظلت مشاعر الهلع والخوف مسيطرة عليه، باعتبار ما كان وما قد يكون، وما قد يسلط عليه من مآسي محتملة أينما كان وفي كل أنحاء الأرض..

الزلزال فضلا عن ذلك، يحمل دلالة السرعة لفاجعة لا منتظرة، فاجعة لا تبقي ولا تذر، لا تترك فرصة لأخذ الحيطة والحذر...

من هذا المنطلق يكون لعنوان القصيدة " الزلزال " دلالة رمزية إيحائية وواقعية معيشة..

تتمثل في أن العالم يعيش زلزالا فضلا عن الزلزال الواقعي زلزالا من نوع أخر، زلزالا طال القيم والفكر والثقافة، طال المجتمع والاقتصاد والسياسة والقيم، طال كل مجالات الحياة فأصبح الإنسان يعيش أزمة لا قبل له بها، توازيها سرعة التغيير مع الاغتراب والذهول والحيرة..

إذن هو زلزال التغيير.. هذا التغيير الذي ليست لنا به قابلية والذي لم يكن متوقعا ولا خطط له سلفا.. الزلزال كان مباغتا مس أمن وسلامة وطمأنينة الفرد والمجتمع..

فالزلزال حدث حقيقة ومجازا، طال أوطانا بأكملها، دمر وشتت وشرد وأغرق المدن في ركام من الثرى والغبار، في ركام من المواجع والأحزان.. مس كل جوانب الحياة اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا فكانت الفاجعة كبرى، والكارثة لا قبل لأحد بها حتى من يعتبرون أنفسهم من عظماء هذا الكوكب..

استمرارا في استقراء العتبات الخارجية للنص من عنوان وبداية ونهاية نجد الشاعر يستهل قصيدته قائلا:

بالأمس كان لنا بيت يجمعنا

واليوم سالت على الأطلال أدمعنا

أشلاؤنا انتثرت في كل ناحية

لم تبق غير رياح الفقد تصفعنا

فالبيت الأول ومن خلال شطريه "يُجْمِلُ" القصيدة ومضمونها..

يستهل الشاعر قصيدته بالحديث عن "الأمس" في إشارة إلى الزمن الماضي، هذا الزمن الذي ولى وانتهى، تاركا في نفسه كل الأثر الجميل، ما جعل الشاعر يتوق إليه ويتمنى عودته، ويستشعر مرارة الفقد لهذا الزمن من أول شطر في القصيدة، فكان الحديث عن "الأمس "الذي تنعم فيه بالأمن والأمان والطمأنينة والسكينة والود والمحبة والدفء..وكل معاني الانسجام والارتياح والحميمية والألفة بين من كان في هذا الزمن وهذا البيت...

وقد يكون البيت هنا رمزا وإشارة إلى الروابط التي تجمع بين أبناء الوطن أو بين الأوطان العربية، والسلم والأمان الذي تنعمت به، فكان التعاون والتكافل بين الشعوب، وكانت الطمأنينة التي يشعر بها الإنسان العربي سواء داخل وطنه أو خارجه..

فدلالة "البيت" لها إيحاءات، تمثلت في أن البيت كان مبعث الطمأنينة والسكينة والبشر والفرح، وكل معاني الصفاء والود والشعور بالدعم والسند.. واليوم غدا البيت شتاتا وخرابا وأطلالا نقف عليها فنبكي ماضيها وحاضرها، ونفزع حين التفكير في غدها الآتي، كل ذلك هو رمز ودلالة لما أصاب الكثير من الشعوب العربية من تشرذم وانكسار وفقر وانهزام وشتات فوق وطأة الزلزال الحقيقي..

إنه "البيت "العربي،الذي طاله الهدم والانهيار إثر زلزال تصدعت له الأوطان، وانهدمت به الأمجاد، وضاع الحق في الكرامة والحرية..

بتعبير أوضح إنه زلزال "الربيع العربي"، بل وما قبل الربيع العربي في مخطط مدروس من قبل قوى الهدم والاستبداد..

الفارق الوحيد هو أن الزلزال ظاهرة طبيعية، وكارثة بيئية لا دخل للإنسان فيها، لأنها ابتلاء من الله عز وجل، واختبار لمدى الرضا والصبر والإيمان..

أما الزلزال الذي طال الوطن العربي، فقد كان زلزالا من صنع البشر لأجل هدم حضارة عمرها مئات السنين، والاستيلاء على الثروات والحد من المد العربي الذي كان يبشر بصبح قادم وحلم يتحقق..

إذن هو "زلزال" الهدم للبيت الذي جمع هذه الأسرة الموحدة تحت لواءات عدة، أهمها الدين والعرق واللغة والقيم والعادات والتقاليد والثقافة والأعراف، زلزال كسر القلوب وأهان وأدمى قبل أن يقتل..

هدم البيت فبكينا على أطلاله، وسالت أدمع الأمة حسرة وألما، بؤسا وعوزا، انكسارا وحسرة على ماض هيهات أن يعود..إنه البكاء على أطلال هذا البيت الذي تشظت أشلاؤنا منه إلى كل الأنحاء، فعم الشتات والتشرذم والبؤس وأصابنا هول الحقيقة المرة، وصفعتنا أيدي الأسى ولاحت رياح التغيير في الأفق صاخبة مرعدة مزبدة، ولم نكن قد حسبنا لها أي حساب.. ولم نتوقع مرارة ولا هول الدمار الداخلي والخارجي الذي طال كل شيء فينا..

لتأتي خاتمة القصيدة كآخر العتبات الخارجية والتي هي استمرار لفكرة فقد "البيت" والسكن إذ القصيدة تنحو في وحدة موضوعية تامة وانسجام متناهي، وتراص للبناء والفكرة، ما يمنحها قوة ووحدة موضوعية، وما يجعل القصيدة تنمو أفقيا وعموديا لتمضي في الغرض الذي كتبت له وهو في اعتباري غرض "الرثاء" رثاء النفس ورثاء البيت الذي تعرضت لرمزيته ودلالته ورثاء الأهل وكل ما بالحياة من أحياء وأشياء..

إذن هو رثاء البيت الكبير رثاء "الموروث الثقافي والحضاري" ومن هم جزء منه وأعمدة أساسية ينبني عليها البيت، ليستمر الشاعر في الحديث عن شبح الموت الذي هو رمز للنهاية، نهاية حقبة من تاريخ الأمة، ونهاية زمن كانت تنعم فيه بكل مقومات الحياة الكريمة المستقرة،التي كانت في نمو وصعود وتسامي... إلى أن انقلبت الموازين وحل ما قد نسميه زمن الموت الذي يشرب الدماء، فيتعاظم ويطغى ويتمرد، يعيث في الأرواح قتلا وتنكيلا، لدرجة وصل فيها الأمر بالشاعر- والذي هو رمز "لوجدان الأمة "وصوت لصرختها، ولسان ينطق بحال واقعها -.. أن يحدث الموت ويسأله ويخاطبه في أسى وحزن وألم..إلى أين؟ وأين سيكون مصرعنا؟..على اعتبار انه ما زال في الأمة أحياء سيقاومون ويناضلون لأجل الخروج من الأزمة وتجاوز الدمار وتحقيق النصر.. لكن بأمل ضئيل واستشعار للرعب من هول الفاجعة.. ومع ذلك لم يفقد الأمل فمازال هناك إصرار على التحدي والمقاومة..

لازال هناك إنسان رابض في الأعماق، وأركز هنا على لفظ "إنسان " على اعتبار أن الإنسان هو أصل القيم، وبانيها والمحافظ عليها بخلاف كلمة" بشر" هذه الكلمة التي تحمل معاني القسوة والسوء والضرر والانتهازية وغيرها من المعاني الخالية من معنى الإنسانية.

إضافة إلى ذلك هناك دلالة أخرى هامة في النص ومن الثيمات الأساسية في القصيدة إنها ثيمة "الأم " ورمزيتها.

" الأم" هذا الكائن الملاك الذي يضيء حياة الإنسان، الكائن المتفرد في عطاءه، الكامل في محبته، الوفي الأمين المضحي، الذي لا يستمرئ الحياة إلا بالتضحية والبذل والاحتضان، إنها الأم تلك الشجرة الوارفة الظليلة المثمرة الدانية القطوف، التي هي عماد البيت والأسرة والتي يجتمع حولها الكل، فتكتمل البهجة، من إليها نعود في الفرح والحزن، من تدثرنا وتمسح على رؤوسنا ونواصينا..وبذلك تكون "الأم" هنا رمز "للوطن " هذا الوطن الذي لا يمكن إلا أن نحتمي به ونعود إليه مهما ساءت الظروف والأحوال..

يقول الشاعر "جمال مرسي" في البيت الحادي عشر من قصيدته "الزلزال":

وحين تقبل أمي بعد مطبخها

نلتف من حولها جوعى فتطعمنا

إذن هي "الأم " مصدر القوت والشبع،مصدر الرعاية والعناية والاهتمام، الأم نبع المحبة المطلقة اللامشروطة، لتكون الأم هي "الوطن" الذي يحمي ويظلل ويأوي ويسامح..

إضافة إلى ذلك هناك دلالة "الأب " في القصيدة، فهو رمز الحماية والرعاية والدعم النفسي وقد شبهه الشاعر ب"النور" الذي يضيء فيزيل العتمة، الأب نبع الخير ومن نتكئ عليه فيدعمنا، ويتحملنا،الأب المثل الأعلى، رمز السلطة والقوة والاستقرار والإعالة، إنه الضمير والوازع الأخلاقي الذي يملي شرائعه وقوانينه، إنه رمز الحب الخالص وعباءة نحتمي بها ليعم الأمان.. للأب دلالة اقتصادية أيضا فهو الكافي وهو المانح وهو من يحقق الاكتفاء، المرشد المعلم المدلل الهادي.. هذا الأب الذي له موعد للعودة ألا وهو "المساء"

من هنا نستشعر رمزية الأب في القصيدة ورمزية الزمان أيضا " المساء" الليل مبعث العتمة والظلمة والرهبة والخوف من المجهول.. إذن هو "الأب" بعودته يجلي النور، ويحقق فكرة البطولة لدى الأبناء، يمد بالعطف والإرشاد فيكون الحماية والسد المنيع أمام كل المخاطر.. وبحلول "الزلزال" فقد السند والمدد والطمأنينة والأمان الذي كمن في رمزية غياب "الأب" و"الأم "..

و تصادفنا في القصيدة الإشارة إلى المنحى الديني الاعتقادي الذي يطبع النص بمسحة إيمانية قوية لدى الشاعر، ويظهر بشكل جلي في المقاطع الأخيرة من القصيدة

إذ يقول الشاعر في البيت السابع عشر من قصيدته

تتلو "إذا زلزلت" هل حان موعدها

يا موت، أم جئت مختالا تروعنا؟

كذا البيت الذي يليه

وتنذر الخلق أن أشراطها ظهرت

نعم..وما كان ينجينا تضرعنا

إذن هذا التناص الذي وظفه الشاعر انطلاقا من النص القرآني والآية الكريمة من سورة "الزلزلة" يقول عز وجل "إذا زلزلت الأرض زلزالها، وأخرجت الأرض أثقالها وقال الإنسان مالها.." (سورة الزلزلة)

أذن يمتح الشاعر من معين القرآن الكريم الذي هو حاضر في نصه بشكل جلي والذي يبين عن الإيمان القوي، والعودة إلى الله في المواقف الحرجة وغيرها لدى الإنسان المسلم

الإيحاء القرآني هنا لسورة "الزلزلة " هو تأكيد على عظمة الخالق وقدرته التي لا حد لها، وتأكيد لحقيقة المآل الذي سيصير إليه الكون والوجود في قيامة حتمية لا راد لها...

على هذا يكون الجانب الإيماني أساس في كيان الشاعر وسند عند اشتداد الأزمات ومآل وملاذ،

وإن حانت الساعة فلا مُوقف لها، مهما تضرعنا وتوسلنا فزمانها محدد عند الله عز وجل وهو وحده من يعلمه..

أقدار ربي قد فاقت تصورنا

والهدم نحو جليد الموت يدفعنا

إيمان قوي في قدرة الله عز وجل وفي النهاية المحتومة لكل الخلق

واستشعار لجلال الموت وسطوته في هذه الظروف الصعبة لدرجة أصبح فيها جبارا ماردا مع هذا الزلزال العملاق الذي ذهب بكل شيء إلا الأمل الكامن في عمق كل الشاعر وكل من ظل على قيد الحياة ما يجعل الشاعر يخاطب الموت، ويسأله رفقا بالخلق الذين سامهم الوجع والعذاب والتشرد والبحث عن مآل

ويستمر في مخاطبة الموت وسؤاله، تراه الدور على من؟ وإلى أين..؟

تظل القصيدة مليئة بالإشارات والإيحاءات المتواترة التي لها دلالاتها في القصيدة "كالجيران" و"القطة" التي تموء و"البلبل الشادي" و"الأثاث" الذي يسعد بلمة الأسرة فيزداد ألقا وجمالا..

إلى حين الوصول لرمزية "المكتبة"..

هذه "المكتبة " التي هي إشارة من الشاعر للفكر والعلم والمعرفة والتنوير..

يقول الشاعر في البيت السابع من قصيدة "الزلزال "

كانت تقيم على الجدران مكتبة

نغوص في عمقها عصرا فترفعنا

إذن هناك رمزية "المكتبة" التي هي علامة هامة في القصيدة،تتعلق بالفكر والعلم والأدب، هذه المكتبة التي ضمت كتب "ابن رشد "و"ابن خلدون" و"ابن طفيل" و"الجاحظ "و"المتنبي" و"ابن المقفع" و"البيروني" و"شوقي" و"ابن عربي "وغيرهم..المكتبة التي صارت في خبر كان، فقد نهب الفكر وترجمت الكتب العربية ثم أحرقت بعد ذلك قلم يبق لها اثر.. وما بقي ما هو إلا النزر اليسير،الذي يدل على ما وصل إليه الفكر العربي من علو وسمو ومجد، فنسب الفكر لغير أهله والعلوم لغير مكتشفيها..

فضلا على العقول العربية التي تهاجر فتسهم بشكل كبير في التقدم العلمي والتكنولوجي الغربي والتي لا يشار إلى أثرها وعبقريتها ودورها المهم والأساسي.. والنماذج كثيرة على ذلك.

كانت تلك رمزية المكتبة في القصيدة فانهيارها وجدرانها لاشك علامة موجعة وقوية، هذه المكتبة التي صانها الفكر العربي عبر الزمن، لكنها انهارت وضاعت في هذا "الزلزال" وظلت أطلالها شاهدة عليها ليوصف الفكر العربي بالتخلف والرجعية دون إنصاف أو إحقاق للحق..

إذن هل ضاع الحلم الكبير الذي هو رابض في كل منا؟ هل حقا خيم الموت والأسى لحد الخنوع والاستسلام للموت؟ هل وهل...؟ تلك تساؤلات عدة طرحها الشاعر في مناحي مختلفة من القصيدة المغمسة بالحزن والأسى بأساليب متنوعة للاستفهام أذكر منها قوله:

يا موت كيف أتيت اليوم في سنة..؟

هل حان موعدها؟

أم جئت مختالا تروعنا؟

من ستشرب بعد اليوم من دمه؟

وهل هناك هنا، أم أين مصرعنا؟

والسؤال هنا هو لم يطرح الشاعر تساؤلاته؟ لم الاستفهام؟ لم هذا الكم من الأسئلة..؟ هل حقا فقد الشاعر الأمل؟ ووصل إلى تقبل الموت والدمار والخراب الذي أصبح عليه العالم، رامزا له ب"الزلزال" الذي حل موتا مظلما، غيب المباهج وأرخى سدول الدمار والأسى؟

من خلال استقراء القصيدة نجد أن "الزلزال" مهما كان قويا فإنه لابد فيه من ناجين، ومن نور ينبعث بين الركام، فالأمل لم تخب شرارته بعد، وتلك الجذوة المشتعلة تحت الرماد حتما ستكبر لتؤكد أن هناك أمل وحياة وناجين من هذا الزلزال..

إذن طرح السؤال في اعتباري هو انتفاضة داخلية في عمق الضمير الإنساني، والوعي الفردي والجماعي لدى من مسهم الزلزال.

فالكبوة لا تعني الموت، أو السقوط الدائم، بل تعني أن هناك ناجين سيبحثون عن منفذ من تحت الركام، سينهضون ويحيون ويقاومون الموت والدمار، سيحيون ويبنون ويقاومون لأجل تحقيق الحلم الذي لن يخبو ولن يندثر..

وهنا أحب إن أقف عند رمزية الأبناء ورمزية الأسماء

فالأبناء هم رمز الاستمرارية والبقاء ومقاومة الفناء وتحدي الزمن والإصرار على الحياة.

ليكون الطفل والطفلة في القصيدة من يختزلان الجنس البشري الذي لا يمكن أن يستمر إلا بكليهما.

فهما وأقصد بذلك الطفلين "باسم" و"صبا " شتلات الحياة الآتية،وبرعما الأمل ويقين الاستمرار مهما كانت العواصف قوية والموت مستأسد جبار..

يقول الشاعر في قصيدته الزلزال البيت العاشر من القصيدة"

كأننا بعضها، لا شيء يفرقنا

عن "باسم" و"صبا" لما تودعنا

ف"باسم " هو رمز المستقبل المنشود، الذي نأمل وننتظر أن يكون باسما، مبهجا،قادما بكل ما نأمل من رخاء ونماء وتطور، "باسم" المستقبل الواعد للأوطان،الآخذ إلى مدارج السمو والنمو والتطور الحتمي الذي لابد وأن يكون...

أما "صبا" فهي الطفلة الرمز، التي تهب بنسائم الخير، والخصب والعطاء والنماء، صبا المرأة المستقبل الواعد، التي يزهر بها الوطن فيكون جنانا وارفة ظليلة وقطوفا دانيات،" صبا" دلالة الخير التي ستعم كل المجالات فكرا وعلما وأدبا واقتصادا وغيرها..

"باسم" و"صبا" لم يكونا اختيارا اعتباطيا من قبل الشاعر، وإنما هما عمق الدلالة المختزلة في القصيدة والتيمة التي تبرز خيط النور والضياء في للقصيدة..

فمع " الزلزال " وانهياراته وما ضاع خلاله، ستكون "صبا" و"باسم" من نجا من هذا الزلزال ومن أخذ المشعل وبني من جديد، يتأكد ذلك من خلال التساؤلات العديدة التي طرحها الشاعر في النص.. والتي تعني الأمل في غد أفضل، رغم ما خلفه الزلزال من دمار وموت ووجع..

النص زاخر بالدلالات والإيحاءات التي تحكي واقع الأمة بمنتهى الدقة والرمزية والإيحاء وكذا بمنتهى الشاعرية والعذوبة والروعة والانسياب، والجمال اللغوي والتعبيري شكلا ومضمونا، فالقصيدة محكمة السبك قوية البناء، تنساب انسيابا وتنهمر من القلب والوجدان

عاطفة الشاعر فيها صادقة متأججة فياضة بمشاعر الأسى والحزن لسبب هذا الانهيار، وهذا الزلزال الذي طال كل شيء ومحا كل شيء واغتال الحياة وجمالها.

عاطفة بات الحزن رداءها، والوجع مصدرها، والأسى على ماض ولى، وحاضر لا ينذر إلا بالحزن والوجع.. هو جرح مأتاه ما حل بكل شيء جميل في العالم، مأتاه هذا الانهيار في كل شيء ومأتاه آمال وأحلام لم تتحقق، لكن المفارقة هنا تمثلت في خيط الأمل الرفيع الذي ظل صامدا والذي تجلي من خلال توالي الأسئلة، هذه الأسئلة التي كانت أسلوبا بيانيا، له دلالاته العريضة منها استمرار الأمل والتشبث بالحياة والبحث عن فرصة للنجاة، واستعادة الماضي الذي كان كل البهجة في مشاعر وأعماق الشاعر..

من حيث بناء القصيدة نجد الشاعر قد وظف معجما دلاليا تراوح بين الحزن والفرح، فهناك الماضي السعيد، وهناك الحاضر المأساوي الموجع، وهناك انتظار الآتي والتساؤل حوله..

ومن الحقول البارزة في نص قصيدة الشاعر الدكتور جمال مرسي "الزلزال" هناك حقل الفرح والذي تشير إليه العبارات التالية:

بيت يجمعنا – كنا نل هو بحارتنا –الشمس ترمقنا –النجم يسمعنا-يموء في بيتنا هر –نلاعبه –يصدح البلبل الشادي- فيمتعنا – يبدو الاثاث سعيدا – يزدهي بجمال الزهر مربعنا –نغوص في عمقها عصرا – فترفعنا –جيراننا –ما كان في وصلهم أشياء تمنعنا –تقبل أمي –تشبعنا – نلتف حولها –يأتي بنور أبي –تحيطه أذرعنا – في يده حلوى –ليسعدنا – تزرعنا -.....

ثم هناك المعجم الدال على الحزن ويتمثل في قول الشاعر:

سالت على الاطلال ادمعنا –رياح الفقد – تصفعنا – في كدر –يفزعنا –تودعنا – جوعى – ظلام الليل –الانقاض باكية – الاطلال – تروعنا –بلا سكن – اروعنا – تنذر – سياط –...

المعجم الدال على الموت في قول الشاعر:

أشلاؤنا في كل ناحية – نشيع الأهل – إذا متنا – سياط الموت – يا موت – تفجعنا – الزلزال –جليد الموت –مصرعنا – أشلاءنا –إذا متنا – تشرب من دمه...

أذن هناك تراوح بين الماضي السعيد المليء بالحياة والحاضر التعيس الحزين الذي سطا فيه الموت على كل شيء ولكن هل ضاع الأمل؟

كما أشرت تبقي لغة الشاعر في القصيدة قوية متينة منسابة فصيحة بعيدة عن الغموض والغرابة سهلة الألفاظ، واضحة تميزت بجمال الأسلوب، وقوة البناء والتركيب، موحية شفيفة تنساب بعذوبة في اللفظ والمعني قوية التعبير مع انزياح مكن من رمزية عالية وتكثيف للدلالات..

قصيدة يمكن أن ندرجها ضمن ما يسمى بالسهل الممتنع وذلك في اعتقادي أكثر قوة وإبداعا وإيصالا..

وظف الشاعر في قصيدته كما من المحسنات البديعية التي أضفت على النص حلة من الروعة والعذوبة والجمال شكلا ومضمونا نذكر منها

الطباق

اليوم - الأمس

بيت – أطلال

طفلة – ابن

امي – ابي

العصر الليل

جوعى – تشبعنا...

الترادف

يلهو – نلاعبه

يصدح – الشادي

تقيم – نجالسه

تودعنا – تشيع

الموت – الفقد

بيتنا - سكن

التكرار

زلزلت – الزلزال – إذا زلزلت

الأمس – الامس

بيت – بيتنا

متنا -الموت -يا موت...

بهذا تكون القصيدة الشعرية المعنونة ب"الزلزال " لصاحبها الشاعر الدكتور "جمال مرسي" هي كم من الدلالات الإيحائية في من أول العنوان إلى آخر القصيدة..

تظل قصيدة "الزلزال " فياضة بالجمال وأناقة الإبداع وصدق الفكرة والإحساس وبلاغة اللغة وجمالية الصورة الشعرية ورمزيتها فضلا عن قوة البناء والقالب الذي صيغت فيه ما يخلق الانسيابية والعذوبة التي لا تشعر معها بأي انقطاع أو فصل بين وحدات القصيدة وبخاتمة يتساءل فيها الشاعر عن المآل؟

بنيت القصيدة على بحر البسيط وتفعيلاته هي

مستفعلن فاعلن مستفعلن فاعلن

مستفعلن فاعلن مستفعلن فاعلن

هذا البحر الذي لا يكتب عليه إلا المتمرسون في علم العروض..

لا يسعني إلا أن أقول في خاتمة هذه القراءة الانطباعية لقصيدة "الزلزال " للشاعر الدكتور "جمال مرسي "إلا أنها قصيدة من أجمل ما قيل في الشعر الإنساني، وفي التعبير عن مواجع الأمة وعن الضمير الإنساني في لحظات الحزن والوجع، إنها في غاية الشاعرية والعذوبة وصدق التعبير فهي انهمار فياض لدواخل المبدع الذي يعبر عن خلجات الإنسان لغة وتصويرا وأسلوبا وبناء

وما الأسئلة في اعتباري إلا جذوة الأمل الكامنة خلف كل الأوجاع، فبعد الزلزال لابد من إشراقة أمل بغد أفضل، ولم لا ونحن نحيا بالأمل..فلا بد وأن ننتظر الآتي، والآتي هو حتما نور الصباح وخروج "باسم" و"صبا "من تحت الأنقاض وبناء مستقبل مضيء

***

نبيلة حماني

 

 

لهيب المكابدة في جسد ملتبس

أنقرة

من المدهش حقا ان يتصدى كاتب لمعضلة سايكولوجية شائكة و بلغة رصينة ووصف آسر وهو يجوس في دخيلة نفس معذبة مشحونة بالغضب والضنك والرفض لطبيعتها الفسيولوجية فيؤدي الكاتب دور الطبيب النفسي الذي يجتهد للنفاذ الى تلك الذات الموجوعة والثائرة ويعبر بعمق عن هواجسها ورغباتها ومشاعرها الدفينة بإقتدار مشهود.

فالكاتب والشاعر عبدالحميد صافي العاني في اخر كتاب روائي له والذي يحمل عنوان (ريحانة والآخر) المطبوع في القاهرة في العام 2019 تصدى لموضوع شائك متفرد قد يندر مثيله في المكتبة العراقية من خلال محاولته الجريئة للكشف عن أستار نفس مضطربة لفتاة إسمها (ريحانة) تنتمي فسلوجياً الى بني جنسها وكان يجب أن لا تكون كذلك، لكنها بسبب خلل عضوي ولادي في جهازها التناسلي وجدت نفسها في أتون ازدواجية مؤلمة بحيث يتعذر توصيفها بين الرجولة والأنوثة رغم إصرارها وبعناد غير مجدي على فرض ذكوريتها عبر سلوكها واحاسيسها الناضحة باليأس والمكابدة المريرة.

وريحانة وهي شخصية حقيقية عاصرها العاني (فتاة تجاوزت العشرين عاما من عمرها.. نحيفة ذات وجه طفولي، أطلت على الدنيا في غرفة شبه مظلمة بسبب انقطاع الكهرباء في خضم صرخات الأم نتيجة عسر الولادة فجاءت عليلة وحجمها صغير بحجم (قطة صغيرة) عاينتها القابلة فأكتشفت أنها ذات عيب خلقى فى موضعها التناسلي، فعاهدت الأم بعدم اذاعة السر حتى لأقرب الناس.) لكن الطب عجز فيما بعد في علاج الحالة وبقي العائق العضوي حائلا دون ممارستها الوظيفة الطبيعية كذكر، فإستحالت الى كائن إنساني فاقد النوع لا هو ذكر ولا هو انثى!

من هنا ومنذ إدراك ريحانة محنة حاضرها وغدها الغامض المفجع. نشب في داخلها صراع رهيب كان الوحش الضاري في اعماقها يفتت قدرتها علي الاحتمال، ويحيل ليلها الى كابوس محرق.

(هكذا هي..أو هي والآخر روحان في جسد.. رغبتان متصارعتان، متقاتلتان، جنسان متنافران.. الواحد يأنف الآخر.. ريحانة الأنثى وريحانة الذكر.. كل يريد تدمير الآخر.. ما أعجب هذا الجسد.. وما أقسى تلك الرغبة الجامحة كجواد بري لا يقوى أحد على تسييسه وامتطائه.. وما أعجب ذلك الشيء الرابض في أحشائها كذئب حاصره الجوع حد الاستغاثة والغثيان)

ويواصل العاني رصد محاولات ريحانة المضنية في محاولة إقناع الاسرة والبيئة المحيطة بها بتخطى مظهرها وسماتها الانثوية أوالانتماء الى عالم الذكور، إلا أن هذه الارادة جوبهت بالرفض التام لانعدام المعطيات العضوية في جسدها، وهي في سبيل تحقيق هذا الهدف المستحيل تحدت انوثتها المفروضة عليها وأشعلت صراعا سايكولوجيا زلزل كيانها داخليا على جبهتين، مع نفسها ومع المجتمع معاَ لإرضاخهما وإجبارهما على التعامل مع قناعتها الراسخة بغض النظر عن اعضائها الحيوية الملتبسة التي تخونها وتفتقر الى تحديد هويتها الذكورية ونوعها الانساني.

ويخوص العاني الى أعماق ريحانة ويلتقي مع المحللة النفسية الالمانية كارين هورني التي ارجعت مثل هذه الحالات إلى الصراع النفسي باعتباره ظاهرة ملازمة للإنسان وأن هذا الصراع يرجع إلى القلق الأساسي الذي يعاني منه بصورة دائمة ومستمرة نتيجة إحساسه بضعفه وعجزه عن مواجهة القوى الطبيعية والاجتماعية..

وتتوالى الاحداث والوقائع المثيرة والمتضاربة في حياة ريحانة.. ويسبر العاني غور هذه النفس الملتاعة سواء بتشريحها وكشف دوافعها العميقة او من خلال زجها في أتون مواقف تضج بالحرمان والشبق والتمرد على انوثتها.. فهناك تارة (ريم) الجارة المحرومة التي افلحت في غوايتها بعد اكتشافها بالغريزة وجود وحش ذكوري داخل ريحانة، وتارة اخرى صداقتها المتينة مع (نرجس) تلك الفتاة الجميلة ذات العينين اللوزيتين والقوام الممشوق والتي كانت الاثيرة لديها اثناء زمالتهما في الكلية ، فعشقتها بقوة وحاولت ان تبوح لها بلواعج قلبها المكلوم لكن نرجس تزوجت وهاجرت مع زوجها، وتارّة أخرى بعد تعينها وعملها في المكتبة العامة بعد تخرجها وسط دهشة العاملين فيها كون هويتها واوراقها الرسمية تشير الى أنها انسة في حين ان مظهرها الخارجي يشي بكونها ذكراََ بعد ان تزينت بزي الرجال وقصت شعرها وصارت تجلس وتدخن في المقاهي وتلج صالونات الحلاقة الرجالية وإختيار اسم ريحان لمناداتها، كل ذلك جاء امتدادا لواقعة إقحامها الغريب في الماضي اثناء عملها كصبي يتصيد الرجال في الشوارع ويجلبهم الى احدى النساء التي حولت دارها الى مرتع للباحثين عن المتعة !

ويتجلى كل هذا الدفق المتشنج ليرسم العاني سمات شخصية مأزومة تتقاذفها عواطفها المتناقضة وتدفعها إلى ردود أفعال متباينة تصل إلى حد الغرابة أحيانا. فحالما تعود نرجس من رحلة الهجرة بعد فقدان زوجها في حادث، تلتقي بها ريحانة بالصدفة وتتلقفها بفرح طاغ ولا تدع الفرصة الذهبية تضيع من بين يديها وهي منهارة تبكي بحرقة لما ال إليه حالها، فحاولت (أن تمسك بيد نرجس الرقيقة الأنامل ثم تراجعت في اللحظة الأخيرة وسألتها بتوسل بعد أن قرأت الأمان فى عينيها: نرجس.. بحق كل غالٍ عندك.. وبعد أن استمعتِ إلى كل ما سمعت أجيبيني بصراحة عن سؤال ظل يداعب روحي الحيرى العطشى..هل تقبلين بي زوجا لك ؟!)

(هل جننت؟ أأنت مخبولة؟ أنت بحاجة إلى طبيب نفساني لمعاينتك، ابتعدي عني.. ابتعدي!

أمُسكت ريحانة بيد نرجس لتهدئتها وإسكاتها. لكنها دفعتها بقوة فهوى جسد ريحانة النحيل على الأرض مخذولاً وعيناها الغائرتان بالألم والحرج تطاردان نرجس التي هرولت كالمجنونة متوارية عن أنظار ريحانة الكسيرة.. فيما دمعة حائرة قد طفرت وأفلتت من محجرها..!!)

الخلاص الدراماتيكي

ويركن العاني الى تصعيد وتائر الاحداث الى نهاياتها القصوى باسلوب سلس ومدهش يتسم بالمهارة والدفق والعنفوان، وفي بحث الذات المكدودة لريحانة عن راحة مفقودة وأمن ضائع، تلج غرفتها وتتناول علبة السجائر لترتشف سيجارة بإشتهاء غريب، إلا أن باب الغرفة إرتج وفُتح على مصراعيه فإذا بها أمام شقيقها الأكبر الذي (إندفع إليها كثور هائج وهو يرسل صفعة إلى وجهها ارتدّت لها جدران الغرفة ولطمة أخرى أقسى وأعنف!! والدم يتسرب دفاقاً من أنفها والتبغ تمازج مع الدم وتناثرا سوية فوق السرير.. أيتها الساقطة.. أتدخنين..؟؟ صفعة أخرى.. ولا زال الدم ينبجس من فمها راعفاً فوق السجادة القديمة‏. -أنا رجل! رجل.. رجل.. رجل!!… الصفعات تترى وتتهافت على وجهها سراعاً ولم ينقذها من تلك اليدين إلا صرخات الأم :(كف يدك عن هذه المسكينة. -  دعيه يثبت رجولته..ها نحن رجل لرجل! تجيب ريحانة بتحدٍ وصراخ مجنون تضج به جدران الغرفة).

في خضم هذا المشهد المدوي تختار ريحانه قدرها المحتوم.. فتتجاهل دقات امها الباب مرات ومرات.. آنذاك يناديها شقيقها بحزم وتحد : ريحانة!!.. ريحانة !! افتحي الباب وإلا سأحطم رأسك ولم تجب ريحانة.. (فدفع الباب بقوة فانفتح محدثاً ضجةً عالية، كانت الغرفة معتمة إلا من نور مندلق من حوش الدار الذي أضاء شيئا نحيفا متأرجحاً ومتدلياً بحبل من قماش.. إنه جسدها.. جسد ريحانة القتيل والذي كان يدور مع دوران المروحة ! صراخ الأم وعويلها مع ابنتيها أنساهن الجسد المدلى الذي كان يرتدي ثوبا نسائيا فضفاضاً ويعتلي الرأس شعرٌ صناعي طويل…).

قد يرى الكثيرون الان ان هذه المشكلة لم تعد معضلة حقيقية في المجتمعات الغربية الحديثة، بل وأصبح المثليون يتمتعون في العديد من الدول بحماية قانونية، لكن العاني تصدى في هذه الرواية لقضية مختلفة تماما. ففيها تناول موضوعا من المواضيع المهمة في مجال التحليل النفسي وما يترتب عليه من اشكالات النقص في التكوين الجسدي والجنسي والذي يشعل في داخل صاحبه صراعا ضاريا وشعورا عارما بالنقص مقارنة بالاشخاص العاديين فضلا عن ان ظاهرة زواج المثليين ذاتها مرفوضة في مجتمعاتنا العربية او الدينية المحافظة والتي تحكمها الشرائع السماوية والمصدات الاجتماعية الصارمة. وكان انهاء ازمة ريحانة  بتلك النهاية المأساوية والتي أسدل بها العاني الستار على هذه الملحمة الإنسانية الدامية منطقيا، ورغم بعض المآخذ على بعض احداث الرواية مثل تخفي ريحانة بهيئة صبي في ماخور أو عرض الزواج المستحيل على صديقتها، إلا أنها لا تقلل من قيمة الرواية الريادية كونها اضافة نوعية مهمة، وانجاز ابداعي لحالة نادرة تناولت موضوعا فريدا يساهم في إثراء المكتبة العراقية التي تفتقر لمثل هذه المعالجات الجادة في مجال الصراع والجنس الملتبس وتداعياته النفسية الموجعة على حياة الإنسان.

***

محمد حسين الداغستاني

في ديوانه (رجاء على شفاه العدم) الصادر عن دار الدراويش 2023 تولَدُ عند الشاعر أ. د. عادل الحنظل القصائدُ موشّحةً بألم الغربة، وجراح وطنٍ خلّفه وراءه، لكنّه ما انفكّ مغروساً في نفسه. لذا يتناوب هذان الجرحان (الغربة والوطن) معظمَ قصائده، ليُصوّرَ معاناته في غربته المكانية، ومعاناة غربة الوطن؛ لما ابتلي به من نكباتٍ وقادةٍ ينهشونه، لذا نجده يستلهم قصة قابيل وهابيل؛ ليضفي عليهما صورةَ الحاضر بين الأخوين في وطنٍ واحد: أحدهما يريد أنْ يُغيّر نحو الأفضل، والآخر لا يشاركه هذا الأمل والرغبة والهمَّ، فنجد هذا الإسقاط الفنيّ في تناصٍّ مع قصة ابني آدم قابيل وهابيل كما وردت في (العهد القديم)، وكيف قتل قابيل أخاه هابيل والسبب، وهي القصة التي ورد ذكرها في القرآن أيضاً دون ذكر اسميهما: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ) المائدة 27 .  وقد ورد التناصّ في قصيدة الشاعر "قابيل":

هابيلُ

هل أنتَ الذي ضحَى

لكي نأتي الى الدنيا

بثوبِ ملائكةْ

أم كنْتَ مقتولاً

لأنَّ أخاكَ أعرضَ أنْ تكونَ مشاركّهْ

وهنا تورية (ترميز) الى ما يحدثُ في الوطنِ منْ قتل قابيلَ (الحاكم/ السلطة) لأخيه هابيلَ (المحكوم/ الشعب) كي لا يشاركُهُ في الحكم. وهو تضمين بين صورتين تلتقيان في دلالتهما واشاراتهما. إنّ عدم قبول قابيل لأخيه هابيل هو صراعٌ على السلطة والكرسيّ مثلما يحدثُ في العراق، وهذا في إشارة الشاعر من القصة واستلهامها. هاتان الصورتان المتضادتان والملتقيتان في مضمونهما الإنساني بوجهيه السلبي: الشرّ المستحكِم، والقتل المتعمّد من أجل مصالح ذاتية زائلة. والوجه الإيجابي: الخير الهادف والمناضل منْ أجل صالح الإنسان. هذا الصراع يخلق شرخاً اجتماعياً أخلاقياً في نسيج الوطن وشعبه، فيؤدي الى صراعٍ يقتل فيه الأخُ أخاه (قابيل وهابيل).

هذا التقابل وتصوير حالتين هو سمّةٌ من سمات قصائد الديوان، وقصيدة "غربتان" مثال آخر لهذه المقارنة بين الذاتي/الشاعر، والجمعي/الوطن، فهو يعاني الغربة بعيداً عن أرضهِ وبلاده، والوطن يعاني الغربة بمَنْ يتسلطون عليه، منَ الغرباء، ومِنْ أهله ومِنْ خارج أهله فيما وراء الحدود، وهو ماكان وراء رحيل وهجرة الشاعر:

كلانا غريبان

رمَتْها سُدىً بذرةٌ في العراءْ

وأنكرَني موطنٌ لا يصونُ الوفاءْ

الوطنُ رمته بذرةٌ منه في العراءِ؛ ليُمسيَ غريباً متجرّداً من ثوبهِ وقيمه السامية. أمّا هو الشاعر فقد أنكره الوطنُ الذي لا يصون الوفاء، أي وطن عاقّ، وهو هنا يستخدم المجاز، فيرمز بالوطن الى البذرة الناكرة، أي الذين يتحكّمون بمصيره فيطاردون الأوفياء من أبنائه، فيضطرون للرحيل، ليلقوا بأنفسهم في أحضان بلاد غريبةٍ علّهم يعثرون على الأمان والطمأنينة والحياة الكريم. لكنّهم يقعون فريسةَ الغربةومعاناتها، تماماً مثل وطنهم الغريب اليوم بسبب معاناته من حكامه. فمعاناته إذن مزدوجة بين وطنٍ عاقّ (المتحكّمون برقابه)، وغربةٍ أعقّ:

وطني كامرأةٍ تدورُ بضرعِها

تسقي بهِ نذلّاً يُباركُ ذُلَّها

كالنخلةِ العَيطاءِ والعَوجاءِ

ترمي تمرَها

في صحنِ جيرانٍ

وتحرمُ أهلَها

(من قصيدة لولا ثراك)

ويستمر الشاعرُ في القصيدة بذكرَ علّةَ غربته ورحيله عن؛ محاولاً إفهام المتلقي مسببات نظرته السلبية الى أوضاع بلاده والتي دفعته ليلقي بنفسه في أحضانِ ديار الغربة:

والمجدُ مجدي

لو وجدْتُ العزَّ في عليائهِ

ما ينفعُ الذِكرُ الجميلُ

وملءُ كفيَّ الحصى

أأُسامُ ذُلاً

كي يُقالَ يموتُ حتفَ وفائِهِ

وطني يُفرّقُنا الرحيلُ

وكأنّهُ هنا يُبرّرُ غضبه من وطنه، وهو ما يدفعُه الى التعبير عمّا في داخلهِ والتبرير للقارئ عن هذا الإحجام عن تمجيد الوطن الذي لاقى فيه الإجحافَ والظلمَ واللاعدالة. لكنّه في ثنايا قصائده يفتح لنا نافذة العِلّة الكامنة وراء ذلك. هي ليست الأرضُ التي سقتْه ماءَ النكران، إنمّا المتسلطون عتاةُ الجور والعسفِ والإضطهاد. الشاعر د. عادل الحنظل تمتدُّ محبتُه وجذور مشاعره في عمق الوطن. وهذا ما نقرأه بجلاء في قصيدة "ما بعد أسوار النفاق":

ابنُ النخيلِ أنا ومربعيَ الشجرْ

مرأى السماءِ لديَّ ما بينَ السَعَفْ

وأعدُّ بينَ الخُوصِ أنجمَها

فتأتي دونها عِشتارُ تدعوني إذا الليلُ انتصفْ

معها يغني الكَرْمُ أغنيتي

ويثملُ فوق مائدتي الرُطَبْ 

يهتزُّ مِنْ حولي الوجودُ

فينثني حيناً وأخرى ينتصبْ

يختالُ حسّي حينَ تعزفُ لحنها

 نرى هنا، بوضوحٍ لا لبسَ فيه، أنّ ارتباطه بأرضهِ وثيقٌ، محبةً لا انفصام عنها، وبذا فإنّ كلَّ ما نقرأ من غضبٍ دفين، إنّما هو حالةٌ من معاناةِ الغربةِ والاضطرار للرحيل، وهي سويعاتٌ وتمضي.

القلق الوجودي:

نقرأ في الديوان صوراً مُعبّرةً في قصائد عن إحساس الشاعر بالقلق (الوجوديّ)؛ وهو بين فكَي الغربة، وما تجرُّه من أحاسيسَ واخزة لروح الإنسان الذي يصعبً عليهِ التآلفُ مع مجتمع جديد غريبٍ روحاً وثقافةً، وهو ما يوقعُه في حيرةٍ، واضطرابٍ وألمٍ يحدثان جرحاً غائراً في روحه الشاعرة الحساسة، وهو ما يدفعه الى أنْ ينفّسَ عبر القصيدة عن هذا الجرح والألم. فالقصيدة هي وسيلته في التعبير عن أحاسيسه، يقول في قصيدة (حائر):

أنا حائرٌ

يقسو عليّ العمرُ في رغباتهِ

ويزيدُ رشّ الماءِ فوقَ الطينِ قلبي

كي يمرّغَني

إذا أفلتُّ منْ نزواتهِ

*

يا جامعَ المتناقضَينْ

هل ذاكَ منْ نكدِ الزمانْ

أم تلكَ منْ حسناتهِ

أيصحُّ أنْ تضعَ الجحيمَ على مشارفِ جنّةٍ

أم أنَّ سعدَكَ في لظى جنّاتهِ

الغزل:

يشتملُ الديوان أيضاً على مجموعة من القصائد الغزلية، وهي ليست غزلية تقليدية تصفُ المحاسن والجمال، وتتغزّلُ بمفاتن الحبيب، وتعبّر عن الشوق الحارَ واللهفة والغرام الحرّاق، إنّما هي أقرب إلى الأحاسيس التي تراود الشاعر وهو يحبّ، فيعبّر عنها بصور ولغة تصفها وتقدّمها على طبقٍ شعريّ جماليّ، وتصوغُ ما تبثه في نفسه من لواعج  ومشاعر. يقول في قصيدة "كرّ الشوق":

أبصرُ في عينيكِ ضياعَ الصبرْ

ونزوعَ غريقٍ أفلَتْهُ الطوف

فيمورُ على شفتيكِ نداء

فمُكِ الفاغرُ كالموقدِ يلتمسُ الجَمْر

يدعوني أنْ أنحرَ ذاتي بعناق

 وأنا أعشقُ بينَ يديكِ النحرْ

وكما نقرأ له في قصيدة "تراتيل":

امنحيني ليلةً

أو بعضَ ليلْ

واشرحي صدراً

يغذُّ السيرَ غذّا

*

أُشعِلُ ذكراكِ قناديلاً

تخيفُ الصمتَ حولي

وتراتيلاً

***

عبد الستار نورعلي

 أيلول 2022

تمهيد: قبل الخوض في تلابيب ديوان شاعرنا الأريب سي الطلابي لابد من التذكير بأن الرجل جامع مانع فقد جمع بين العديد من الحسنات فهو كاتب ومخرج مسرحي وممثل قدير،وقاص خاض تجربة السرد والحكي بكل أريحية،وهو أيضا شاعر زجال تشبع بروح التراث الشعبي والأصالة المغربية القُحة،لهذا نحن أبناء مدينة خريبكة نعتبره خير سفير للمدينة إلى جانب أسماء أخرى نعتز بها ونقدرها خير تقدير.

1) مدخل:

وعود على بدء نعود للحديث عن ديوان "فعلي يلكاني" المولود الجديد لسي إدريس والصادر عن جامعة المبدعين المغاربة، يحتوي فهرس هذا الديوان على أربع وعشرين قصيدة متوسطة الطول،وتقديم راق للفنان الحسين السطاتي.

الولوج لديوان الصديق الطالبي يقتضي أن نطأ عتبته ممثلة في عنوانه فعلي يلقاني،وهذا العنوان يذكرنا بلفظ شائع بين العامة وهو " كلا يلقى فعلو" أي أن ما تقترفه يدا المرء من خير أو شر سيتحمل وحده نتائجها،والشاعر يعلن عبر عنوانه مسؤوليته المسبقة عن فسيفسائه الشعري وتطريزاته الجمالية،العنوان مقتبس من قصيدة "شاد العسة" وكان بمثابة قفلة لهذه القصيدة:

في مرس الكلام

حاضي لخوا ليفيض

مول الشي

مانا كساب

شوية زهواني

نشتت زريعة السفا

في ڭاعة البراني ...

عاد راسي حاجة وشان

خماس مني تراس

فعلي يلڭاني .

إذا تجاوزنا العتبة وولجنا المتن،فإننا نجد أنفسنا أمام فيض جمالي دافق يمتح من قاموس البادية الأصيل والموروث الثقافي الشعبي الحامل لجينات تاريخ الهوية المغربية المتأصلة التي تميز المغاربة عن غيرهم من الشعوب،لأنها تؤسس لعلاقة وجدانية راسخة بين الذات الشاعرة ووجدان الأمة.

بداية الديوان تتوشح بشذرات زجلية عميقة،مهد بها الشاعر لنصوصه .وضمنها حِكما ذات بعد انساني حاول من خلالها مقاربة النفس البشرية ومحاولة الكشف عن تأثير الغريزة في البشر:

راڭد على غدرو

وبايت يتسارى

في ڭلوب الناس

*

نقرب ليا ننساني

نهرب مني نلڭاني

هذه الشذرات هي بمثابة جسر للعبور إلى عوالم الشاعر ودخول صرح إبداعه الموشى بسحر الكلام وتواشيحه الناطقة بالجمال، في قصيدته الأولى خيط الجراية التي تتضمن مجموعة من الاستعارات والتشبيهات، فالشاعر كان حريصا على استغلال عملية النسج التي تتم من خلال إعداد السدا كخطوة أولى تتم في الشارع العام وتكون فرصة للعامة لنفح النسوة ببعض القطع النقدية " كبياض أو فتوح" وهو تقليد أصبح اليوم شبه منعدم،لتبدأ فيما بعد عملية النسج داخل البيت باستعمال الطعمة، الشاعر عمد إلى نسج الكلام وتشكيله في تركيب جمالي ذو بعد دلالي عميق، يقول:

نغزل ظل الصوفة

نلوح البياض في غربال الفتوح

ناوي نڭرج هينوكة الكلام

قبل ما يشفڭ الصبح

في ڭلب اللي بايت ينج

البهوت بين الطوارف .

عادة نستعمل كلمة نكرج للتعبير عن إنهاء عملية النسج سواء تعلق الأمر بزربية أو جلابة أو حرشيش وهنا الشاعر يتوق لا نهاء هينوكة الكلام قبل شقشقة الصبح. على من في قلبه مرض.

سنكتشف أننا كلما أوغلنا في الصرح الإبداعي للشاعر إدريس الطالبي،يصادفنا زخم شعري معبر وذو حمولة فكرية وثقافية عميقة، وقوة جمالية على المستوى اللغوي وتوظيف للأمثال الشعبية السائدة بالمنطقة التي ينتمي إليها الشاعر، وكذلك بعض الأحداث التي تناولها المخيال الشعبي عبر العيطة الخريبكية الأصيلة.

بكرةعلال

علال

درويش بحالك وبحالي

علال بڭرة يكساب

جطو في ورث غريب

وكلب ياريت كون كان سلوڭي

جحموم يبات يقيدح

كاسر لعباد

بڭرة غارزة الذات وجابت في ليام

ميشدها طيكوك ماعندها تويتر ولا فايسبوك

مرة مرة تروف بڭطرات حليب

بكرة علال عنوان يحيل على الماضي الضارب في القدم الذي كنا نسمع عنه ولم نعشه، بكر علال مصطلح أطلقه المتفقهون من المغاربة في بداية الاستقلال على القطيع المخدوع بلغة فئة من الساسة كانوا يُعلّمون أبنائهم ويدفعونهم للمناصب العليا وبالمقابل يسخرون أبناء الشعب لأعمال السخرة

في نص بكرة علال هناك لغة مُشبعة بالخلفية الرمزية وقوة التلميح،فالبقرة هي الوطن الذي لا يملك فيه الفقراء إلا الفتات،هذا الفتات الذي لا يتردد بعض الساسة الفاسدين من سلبهم إياه.

عراضة جات لعلال من دوار غريب

ولو طارت زردة علال مايزڭل

السفة المردومة والبڭري مخضر بالزبيب

تزيزعلال ولبس حوايجو الكبار

ومشط الفريزي ودار الريحة

وڭبل مايسڭد وصى بلاك على ميرزة

يحظيها ويديها فيها

وڭبل مايڭيدهم بجوج بطوال مثين

صوت صارف ڭايداه كلبة عيشورية

تسمع من بعيد

بلاك عينو خضرا وجاه بلوغ الكلب ولد الكلب

بقى يتحرحز ويتركل وينقز

تابع خزيت

خف من البرق أولاد علي الفراقشية ضربوا ليه النقب

ساڭوا البڭرة وخلاو الكلب

كملات الجوقة وتفرتكات الناس

وعڭب علال مسري يتڭرع

بين كدا وشعب

جاتو السخفة ورفداتو الكربة

مللي مالقى لابڭرة لاكلب

عرف الخيات سمرو ليه على الحفا وداروها بيه

تسنى حتى بان ليه الزهواني

شعل معاه بهراوة لمسلانو

مللي ڭاع هذه لهطة في بوك

ڭوليا نحضي زمري بيدي

ياولد الكلب

الزردة رمز لتلك الهدايا المسمومة التي يقدمها بعض المرشحين للضحك على البسطاء من أبناء الشعب .قبل الانقضاض على أرزاقهم.

2) الصورة الشعرية والايقاع:

 من المتعارف عليه أن الصورة الشعرية هي تركيب لغوي لتصوير معنى عقلي وعاطفي متخيل لوجود علاقة بين شيئين، وهي تبنى بأساليب متعددة من أهمها: المشابهة والتجسيد والتشخيص والتجريد. وتستند على مكونات ثلاث:

1) اللغة من خلال الألفاظ يوصل الشاعر المعنى

2) العاطفة وهي تعبير عما يخالج ذات الشاعر من أحاسيس

3) الخيال ويستند عليه الشاعر لنقل صور وتمثلات تتجاوز الواقع

ويجدر بنا التأكيد على أن هناك أيضا مُكوّنا التشبيه والاستعارة التي قد تكون صريحة أو مكنية وأصلها تشبيه حذف أحد طرفيه.

فإلى أي حد نجح شاعرنا في منح المتلقي صورا شعرية ماتعة؟

إن سبر أغوار نصوص الشاعر إدريس الطلبي يجعلنا نكتشف أنه اشتغل على تطوير الصور الشعري داخل النص حيث جعلها تتحرك وتُثري النص .فداخل هذه الصور الشعرية نجد توظيفه للتضاد والمقابلة لرصد تلك الحركة داخل النص وكذا المقابلة لخلق الجمال،ومنح المتلقي فرصا متعددة للتأويل والاستمتاع بتوهج هذه الصور ورفع درجة الوعي لديه بقيمة الكتابة الشعرية الزجلية،وهناك نماذج متعددة

القلم مني دواية

نغنيك وحدي

المداد بحر فيك دوايا

طرزني منك سطر

رشمني غناية

في صدر الوقت

نڭولك

مدي فيك جزر

مواجك فيا بحر

نغرق بك آية

لبسة مشطوحة

في كف البصر.

في هذا النموذج نكتشف الاشتغال القوي لسي إدريس على الصورة الشعرية،وتوسله بالتشبيه "المداد بحر" تشبيه بليغ وأيضا الاستعارة حيث تتجاوزمستواها الدلالي المتداول إلى المستوى الايحائي وذلك بتوظيف ألفاظ تتجاوز معناها الحقيقي لتؤدي معنى ثانيّاً في بعد مجازي"رشمني غناية في صدر الوقت،مواجك في بحر"

بالنسبة للايقاع: يقول ابن فارس المتوفي سنة 395م ميلادية: "إن أهل العروض مجمعون على أنه لا فرق بين صناعة العروض وصناعة الإيقاع، إلا أن صناعة الإيقاع تقسم الزمان بالنغم،وصناعة العروض تقسم الزمان بالحروف المسموعة" أما عند ابن طباطبا فيرتبط الإيقاع باعتدال الوزن وصواب المعنى.في حين عند المحدثين فإن الايقاع هو التتابع والتواتر ما بين حالتي الصمت والكلام؛ حيث تتراكب الأصوات مع الألفاظ والانتقال ما بين الخفة والثقل ليخلقا معًا فضاء الجمال.

والايقاع: داخلي يستند على الموازنة (يعني أن يكون البيت متعادلًا في الأوزان والألفاظ،) والتكرار(هو مجموعة من الوظائف من أبرزها لفت الانتباه والتأكيد على المعنى ونحو ذلك). وخارجي وهو العروض والقافية.

فألى أي حد نجح الشاعر إدريس الطالبي في تطويع نصوصه بشكل يخدم نسق التتابعات والإرجاعات ذاتِ الطابع الزمني والموسيقي، ليقوم بوظيفة جمالية مع غيره من عناصر تشكيل النص الشعري ؟وإلى أي حدّ نجح في صياغة شعره على النحو الموسيقي الذي يتناسب وخلجات نفسه ودفق مشاعره؟

والبارح خير وسلامة

شفت العدة ولات

في يد الهراب

والكلاب تحالاو

على رجلين الطلاب

والبارح خير وسلامة

شفت البلاد طالية الحنة

سالفها ساد عين القبلة

موسدة كف الريح

والبارح خير وسلامة

شفت البحربحال إلى مريض

ومغطي بدربالة

والبارح خير وسلامة

شفت برا عمية

مغنبرة بفليج

وتابعها مخيط عوج

والبارح خير وسلامة

شفت الحجامة

هازين رايات بلا لون

كيڭولو كلام زوين

فيه ريحة الند

والبارح خير وسلامة

شفت يد كبيرة

باردة بحال الثلج

كطفي النجوم

وكتهرس عروش الغنباز

والبارح خير وسلامة

شفت الوقت زعفان

كيبري على عكاز

في جيوب ليتامى

والبارح خير وسلامة

شفت الليل هاز شمعة طافية

وكيتسارى بين القبور

والبارح خير وسلامة

شفت وشفت وشفت

ومــــــــــــــــــا عقلت

في قصيدة خير سلامة نلمس جمالية الايقاع الداخلي من خلال تكرار لفظ "خير وسلامة" بشكل حقق الانسجام ما بين الألفاظ والمسموعات اللتان تؤديان معًا إلى تحقيق الغاية التركيبية التي تؤدي إلى الوصول إلى غاية البلاغة والبيان.

كما نلاحظ أن الطالبي استغل كل الإمكانيات الإيقاعية المتاحة لتحقيق تناغم موسيقي يخدم البنية الجوهرية للنص

خاتمة

لقد استطاع إدريس الطالبي كشاعر وفنان مسرحي متألق أن يفتح للمتلقي فجوات للرؤيا من خلال متن لغوي شعبي، يتضمن صورا شعرية متوهجة وايقاعا موسيقيا يمتح من العيوط والتراث الشعبي، ولغة لصيقة بالواقع اليومي، جمعت ما بين كل المحسنات اللغوية والعلاقات المتبادلة بين نص وأخر وهذا لعمري مدعاة لتقديم تهانينا شاعرنا القدير وتمنياتنا بطول العمر والصحة والعافية

***

محمد محضار

بلاغة اختصار الزمن

اذا كان هناك تاريخ  للتدوين قد ساير الثقافة الاسلامية منذ صيرورتها وتواصلها العام والخاص، لكان هناك قطب لا نختلف عليه لتلك الثقافة، وبافتقاد ذلك التدوين فقدنا قيم مهمة، حيث نحن نقر ونشهد بأن القرآن قد وحد اللهجات العربية المتعددة، ولم شمل تلك اللهجات التي فيها الكثير من الشواذ والدخائل الغريبة، وكذلك الاختلافات المتعددة في صيغ التعبيرات، وكذلك فقدان التنقيط كان ايضا احد الوجوه العصيبة، وما كانت سمة التأطير القرآني في وحدة لغوية بنظام صارم نشهد الى اليوم اثره، وكان يلزم ذلك ترجمة للمستوى البلاغي واللساني، وقد شهد القرآن قبيله البشري، وكان علي الانموذج اللغوي الخلاق، وكان بطاقة بلاغة جديرة أن يكون ابلغ قرين او قبيل للقرآن، حيث كانت بعض المفاهيم القرآنية تحتاج دليل ايضاح او اعادة انتاجها مفسرة بوضوح، وكان اعتزال علي ليكسب طاقة مضافة من الخطاب القرآني، وليس في حدود الحاجة الهابرماسية، بل لدى علي طاقة خلق، فكان القرآن المدون بلا نقاط، وتلك كانت احد المظاهر اللغوية الحساسة، حيث لولا جهود علي في اطار التنقيط لكانت لغتنا العريبة تشابه أي لغة من اللغات الاخرى، لكن جدارة علي اللسانية ومعرفته الخلاقة جعلت اللغة العربية ليس فقط تختلف في تلفظ بعض الحروف، بل شكل التنقيط احد اهم قيم اللغة العربية، ويرجع فيها الفضل الى علي حيث اوكل الامر الى تلميذه ابو الاسود بعد أن رسم له جميع الامور الدلة بوجه تام لا اشكال فيه .

اذا كان أهل المنهج المدرسي يعتبرون أن سوسير قد بلغ حدود مهمة تنظيرا في المظهر اللساني ومضمونه بحدود قصوى ازليا، ويعتبر سوسير الصيرورة في التفسير المنطقي والبعد النظري، وقد اصبح سوسير نظريا المثال وعداه هو درس من دروسه، وفعلا شهد التاريخ الحديث سطوة ابعد من حدود النظرية لسوسير لا يختلف عليها اثنان، ولن تجد عقلا عربيا فكر بأن لسانيات علي لا قبيل لها ولا نظير، لكن لابد من القول بأن أهل المعرفة الحرة قد اتصلوا كليا بعلي، كرس مختصر لتاريخ اللغة واللسانيات، وكانت هناك مطابقة فطرية من قبل علي واعية للتطورات التاريخية، وحكمة ومعرفة خلاقة ازلية خارج وداخل وحدة الزمن في أن، وقد أسست بلاغة علي منهجا للحكمة البليغة بعد اختصار منظومات فكرية كبرى وعليا وملاسة الاطر العلمية مباشرة، ليمسك خطاب علي اللساني بجهتي العلم والمعرفة على السواء، ومن يدقق في ثنايا خطاب علي يجد صحة ذلك مباشرة بوضوح .

إن المنطق العقلي يؤكد إلى حد ما لا يمكن الاستعاضة عن تاريخ من التدوين العلمي، لكن نحن قد حرفنا علي من موقعه العلمي المعرفي وبتحييد فطري وعاطفي الى منطقة الجدل والخلاف والمخاصمة،  وبذلك قد ضاع منا مؤسس علم اللسانيات الازلي وصاحب البلاغة الفوقية الاجدر، وسلطة خطاب علي هنا هي نوعية والكونية ايضا فقوله اللساني البليغ الذي يختصر افاق علم اللسانيات الرحبة - لولا أن الكلام يعاد لنفد -، وفي تفسير موضوعي توصيفي نجد علي قد اختصر علم اللسانيات بكل مستوياته بجملة واحدة لا غير، وصراحة تلك البلاغة الاستثناء، وقد انفرد بمنهجية بتلك الجملة واضح بعدها الكوني العام والخاص ،والذي يتوافق مع أي عصر، ولكن بعد تلك الجملة الفلسفي في مفردة الناقد الداعية للأطلاق التكوينية الصفة ولكن هنا صفة تدعم مغزى الأخرى وتلك الجملة المتصلة بالتاريخ الطويل هي صيرورة وتتحمل أن تكون سيرورة ايضا .

اذا كان سوسير قمة هرم نظرية علم اللسانيات فإن علي فوقه تلك الهالة التي لا يحتوي بلاغتها عصر معين ولا زمن ما، فعلي الوحيد الذي جعل اركان البلاغة تنصهر في بوتقة معرفته الخالصة، والتي هي قد اختصرت ايضا الزمن والتاريخ، وذلك ما تفرد به خطاب علي وبلاغته وحكمته الروحية، وعلي لك يرسم للبلاغة خطط اولية، فإنك تجد في كل جملة له ثمة جدارة متناسقة بلاغيا ومختصرة للزمن معرفيا، فهو غي صيغة الخطاب البلاغي يرى – البلاغة افصاح قول من حكمة مستغلقة، وابانة عن مشكل – وفي تفسير مضامين تلك الجمل لسانيا نجد لابد من تبويبات وخانات، فالإفصاح البلاغي يأخذ مدى واسعا الى حد ما، وقد يتطور بلا هوادة لولا اغلاق الحكمة، والتي هي هنا تشكل المعاد الموضوعي للمنطق العلمي، والمعرفة الخلاقة في خطاب علي الذي اختصر الزمن وجرد التاريخ من مقوماته، هناك جهة ضبط روحية له، وعلي لا يجعل الكلام يتيه عن مقاصده البلاغية،  فتمنيه لو كان يملك رقبة بعير ليمضغ الكلام، وتلك المسؤولية الموثقة بلاغيا كانت فطرية عند علي وهي جزء لا ينفصل عن كيانه، والمواقف كثيرة في تاريخ علي وافاق حياته الحزينة، وما استطاعت اجدر حالات الاستثناء وفي اصعب المواقف من تضييق الافق عليه، وهو الذي جعله واسعا ورحبا، وسؤال اليهودي لعلي عن اعداد صنفي الطيور فأحاله الى اجابة سريعة لا يملك غيره قدرة بلاغية تماثلها، وتلك البديهة والاستجابة لعلي هي اقرب لما نجده اليوم من ميزة الكترونية في الانترنت .

الكيفية التي يمكن تفسير بلاغة علي وكسر حدود اللغة معرفيا، تحتاج الى تأمل تلك البلاغة التي تمحورت في صيرورة، قد كانت للغة فيها أن تكون في صيغ تعبير هي خارج التصنيف العلمي، وجنس اللغة الادبي / الفلسفي بحكمة الغايات هو السائد في المضامين والتعابير، فتملكت اللغة طاقة مضافة، واصبحت بلاغة التوصيف بملكة تفرد، وقوام اللغة افقيا يمتد في كسب معاني تزيد من رصانة الحكمة، وعاموديا يكون امتداده نحو خلق المضمون المدهش، أي سيخرج اللسانيات من النطاق الى المبادرة المتنوعة الاستدلال، لكن بغاية وقصد محدد ومعين، والخطاب لا يدرج هنا في السائد والمتداول، بل ارث شاقولي ينتهي عند علي بعد استلامه من النبوة وبرجمته بشريا، ومن بعد تحيله النبوة التي هي مدينه العلم الى بابها، ليكون الخطاب كلمة السر، ومن ادراك كلمة السر تلك، في المضمون العرفان اللغوي الدخول في عالم الخطاب، ومن جانب الوجود هي تعريف متفرد على المضامين والجوهرية، بعد ذلك ينفتح عند التلقي على التعدد، ويكتسب الخطاب عضويا عبر التلقي قراءة، ويتقابل افق العرفان اللغوي مع افق الخطاب العضوي .

اذا كانت العرب قديما قد عرفت علم المعاني، فكان السبب الاساس هو توفر ذلك المناخ البلاغي النوعي، ولكن ذلك تم في ازدهار مباني اللغة من نحو الى معاني الى بلاغة، ومن المشار اليه لعب عبد القادر الجرجاني الدور المهم في نوع من الذوق النقدي، ولكن دور مؤسس علم الاصوات وايقاع اللغة كان دوره اكثر اهمية، بالرغم من عدم اكتساب قصد المضمون بشكل واسع، فالخليل اجتهد في انتاج علم الصوت من افق جانبي وليس بمباشر، لكن علي اوقفنا على صيرورة المنهج اللساني وعلم البلاغة، فالقول الفلسفي الذي حدد لنا معالم المنهج البلاغي الذي يرى فيه علي (البلاغة قول افصاح عن حكمة مستغلقة، وابانة عن مشكل)1، ولدينا في المنظور الفلسفي وحدات تقابل وتبادل، فالحكمة المستغلقة يستبدلها المشكل الفكري، والتقابل لتوسيع الفهم من الجهة المعرفية، ومن جهة التبادل يمكن أن يتكشف المشكل بالتدريج ويبان افق من افاقه يتيح للتلقي الوصول الى احد الغايات، لكن الفهم والتعرف لا يكون الا توافقيا في الجانب الإنساني، ولا يكون هناك أي اشتراط ايديولوجي من التلقي، فسيفسد او يضبب جهته ويفقدها الميزة الامثل للتلقي .

يشكل انكار أن النبي ورسول الله محمد مدينة علم، صراحة اسقاط للنبوة من جهة، ومن جهة اخرى الغاء للرسالة، فالمدينة هي مجموع المضامين العلمية وابواب الحكمة، والقانون الالهي المشرع، والسفر الوجودي لسيرورة متن التاريخ، وهنا ايضا قبل البدء في التحلي الشامل الوقوف على مسألة جدلية تخص ثقافة النبي، والتي اعتبرها البعض هي فقط سمعية، وهذا بدوره يجعل مدينة العلم خالية من الافق الوظيفي، فهي مرتبط بما يسمع النبي الاكرم ومن ثم يقوم بإبلاغه بوجه عام، ومن الطبيعي تكون هناك جهات تلقي مختلفة هنا، ومن طبيعة القول المنقول سمعيا التحول من افق الى اخر، والدين الرباني اذا قصر على حدود السمع، صراحة سيفقد اهم عناصر التداول، واعتقد ذلك من اهم الموجهات التي دفعت علي بن ابي طالب الى توثق القرآن وتدوينه، وذلك بحد ذاته يمنح علي بلاغة مضافة، فهناك معرفة مضافة تكون في تلقي ما تلقاه مسموعا في تلقيه مدونا، لكن غرضنا في تفسير ثقافة النبي بأنها ثقافة سماع وتدوين، ولدينا دليل عضوي، فلا احد من الفرق والمذاهب في أن النبي طلب ورقة وقلم في اللحظات الاخيرة من حياته ليكتب الوصية .

نحن نسعى بالقدر الممكن الى فصل الفكرة عن التاريخ السياسي للدين، والذي نعتقد قد بدأ بعد وفاة النبي التي اقفنا النص امامها بحيرة، ولا ندري امات او قتل، ولكن نؤمن بأن النبي مات جسديا ولكن قتل معنويا، ونجد سيرورة بلاغة علي ايضا سعت لتجاوز تلك العقبة، وتمكن من جعل البلاغة الديناميكية وسيلة لقهر النفس البشرية، وتمكن من اعادة صياغة اللغة وفق دراما الحكمة اذا جاز التوصيف، وتمكن علي من خلق عالم لغوي يوازي جوهره مظهره، وتلك اللسانيات المنفلتة من كل سياق الا افق المعرفة اللسانية، فهي تتصل به مباشرة، وهناك ما نسميه بالمثال الكمي للغة، والذي هو يدخل في حسابات المنهج اللساني المعرفي، على اعتبار أن اصل الفكرة ناتجة عنه، وأن كانت هي مثال واقعي بكل ابعاده، وحقيقتها مستمدها من اللغة الديناميكية، أي يشكل الكم الوجود البياني للغة من جهة، ومن جهة اخرى يتمحور هناك الدعم الموضوعي لحقيقة التفوق المعرفي المستمدة من الحقيقة الأولى للمعرفة اللسانية ، وكما علينا تقبل الأمر الفكرة بشكل تقليدي، فعنصر اللغة ذاته، ولا نسعى لتعقيد الأمر بوجهة نظر مقابلة، هي فقط متصورة من افكار ترى أنها مقنعة، وتقابل تلك الفكرة المستمدة من واقع اللغة الفلسفي والمعرفي والفكري، وهذا الكم يقابله مثيل له، لكن هذا المثيل يختلف موضوعيا، حيث افق الدلالة والمعنى والبلاغة اوسع بكثير .

اذا كان النبي مدينة للعلم، وفي سابق التاريخ عرفنا هناك باب يمكن من خلاله الدخول الى تلك المدينة والعلمية والمعرفية بذات الانية، فمدينة العلم لابد من مفتاح شفرة دخول في هذا العصر الالكتروني، فعلي كود تلك المدينة وشفرتها، وصراحة في التفسير الموضوعي نجد ثمة التباس واسع انتجته كتب الدين السياسي في العصر الاموي والعصر العباسي الذي تلاه، ونحن لسنا ازاء ذلك الجدل اساسا، لكن تلك منطقة معتمة وضبابية، وفيها العديد من الصور التي نرى المدينة من خلالها.

بوضع اخر، ولابد من اعتراض فلسفي او معرفي يعارض ذلك الانتاج المشوه لبلاغة النبي، وبالرغم من عدم التأثير على مقومات المدينة الاصيلة، لكن العقل البشري قد دخل في اوهام عدة، وسيقت حشود بشرية الى صورة ليست معدلة بل صنعت برعونة للنبي، ومن الطبيعي اذا تأثرت المدينة يتأثر الباب، والباب بما أنه النفس الخارجي للمدينة وافق الاستدلال المباشر، فهو اذا تشوه تشوهت المدينة ايضا، ولكن بالرغم من تتابع وتدفق الريح الاصفر الرعناء، يبقى الباب ذلك الرمز الجدير بالمقدرة ذاتها التي اتصفت بها المدينة، وبقي يمثل افق الاشهار الدال تماما على تماسك بنية المدينة، ومثلما قيل يعرف الكتاب من عنوانه، فكذلك ايضا يعرف البيت من بابه، وذلك الباب التعيد عتبة واعلان، ينجذب لنا النقاء الروحي وطموح التعرف النفسي وتنصرف عنها السذاجة والرعونة والجهل، ولسنا هنا ازاء مفارقة او افق فيلولوجي نقصد به المقارنة بيد دور واخر.

مشكلة العالم طيلة التاريخ هي تكمن في السعي الى اختصار وحدة الزمن، فنحن البشرية نتحرك في سيرورة زمن عضوي، وبحالة اختصار وحدة الزمن تلك الى حد مناسب سيتخلخل نظام الكون، وسنكون بلا حالة ثبات عامة، وسيتغير شكل الحياة الى صورة مدهشة ومثيرة، لذا فالوحدة الزمنية للزمن العضوي هي التي تحافظ على نظام الكون بهذه الصورة المعتادة تاريخيا، ونحن لسنا بصدد وحدة زمن البشرية، بل ضربنا ذلك المثال لندرك من خلاله تحول اللغة من وحدة زمن الى اخرى يجعلها تمر بتغيرات كبرى، وهنا ايضا تكون وحدة الزمن هي الفيصل الذي نفصل من خلاله ما بين وحدة زمن اللغة الاجتماعية ووحدة زمن اللغة الادبية، وكذلك نلك اللغة اللونية في اللوحات التشكيلية، والفصل ما بين جنس لغة واخر هو امر ليس بالهين، ونعتقد هناك صعوبة كبيرة امام المعرفة اللسانية في فصل لغة من اخرى داخل اطر الجدول اللساني للتعيين والتحديد، ونحن هنا ازاء جنس لغة علي بن ابن طالب، والتي هي بوحدة زمن من الصعب أن نضعها في مسمى اصطلاحي، ولكن وحدة الزمن تلك هي التي تأهلت بلاغة علي في خطابها من خلالها، وعبر تلك الطاقة الزمنية تفجرت انهر البلاغة  لتمس ذلك الظمأ البشري، ويلزم أن تدعم وحدة الزمن للبلوغ مناطق غير ساكنة الا مبدئيا، والوقوف على المسالة وتحليلها بعمق، وصراحة التفكير الافقي هو بعيد عن فكرتنا التي نطرحها هنا، فهي اعمق من حدود ذلك الافق، وهو لا يشكل تقدما في الوعي ليلامس الفكرة جوهريا، وعادة ما يعتمد على فكرة مسبقة هي مرتبطة بالأفق العام للمعنى، لكن ذلك ليس ازاء السعي المعرفي للغة، والهدف الى اكتشاف مضامين اخرى للمعنى ابعد مما وصل اليه الحقل النقدي، ونرى أن قيمة التفاضل تشكل اهمية في دراستها، وقد يلمس علم اللسانيات منطقة حساسة لم يبلغها سابقا.

إن قيم التوازي البنيوي بين مستوى وحدة زمن واخرى يسعى لتأكيد البرهنة بكل الوجوه الممكنة، وبين مستوى يهدف الى اثبات الخطاب بكل الميزات الممكنة، والسعي اللغوي في كل من الجهة الاولى هو سعي تداولي في اكثر من سياق وظيفي، وليس في سياق محدد، فالتفسير الموضوعي هنا يؤكد في اكثر من اتجاه في متطلبات اللغة للبرهنة على ذلك الوجه بالصيغة المثلى، واما في تأكيد الخطاب فتشتغل اللغة على المضامين اللغوية، لتكون بالتالي وجهة نظر احاطية، يكون فيها توازي البرهنة فيما بلغته من ضمانات لذلك، والخطاب الذي اهلته اللغة الى مضمون توافقي .

في تفسيرنا الموضوعي لعي ما بين الذات والخطاب، نجد ذلك الانزع البطين قد تفرد ببلاغة لا ضغوطات نفسية عليها، وتكون احيانا تلك اللاغة في صيغة رياضيات، وهذا ما يجعل علي احد اساب تطور مفهوم اللغة، فالقول ثلاث لا وجود لهن الا بثلاث، وتلك سمات من بلغ حد الانزع، فقد نزع عن نفسه كل اثر نفسي او انفعال ايديولوجي، وبل غ اقصى حدود المفهوم في النقاء، وكان الوعاء للمعاني والحكم والعبر، بل اوسع وعاء واجدر، ولم يكن يوازي علي مخلوق في كونه ليس بابا لمينة العلم بالصيغة التقليدية، بل تلك البوابة التي هي تمثل المظهر النوعي للمدينة، واذا قلنا مدينة العلمة يعني نحن ازاء الحقيقة الصافية تماما، ولا يمكن لغير تلك البوابة الموازي بالشكل لمضمون مدينة العلم، وبما أن اللغة مدينة العلم تحتاج الى وعاء مناسب لها، وعلي امتلك افضل مقدرة بل طاقة للتوافق لما تتطلب مدينة العلم، وليس هناك افق فربابة او نسب كان هو احد الاسباب الموجبة لذلك، فلا النبي محمد هو بنفس قبلي، ولا في نفس علي ذلك الغرض السياسي .

***

محمد يونس محمد

......................

1- علم المعاني بين الاصل النحوي والموروث البلاغي،  د. محمد حسين الصغير، الموسوعة الصغيرة دار الشؤون الثقافية – ص 13

المطلب الثاني: جماليات التشكيل الزمكاني للهيكل المعماري للرواية

يصوغ حامد فاضل أحداث روايته بسردٍ تقليدي ينمو ويتفاعل مع الأحداث والشخصيات وتنقلها في المكان، لكن سرده يأتي ممزوجًا بالشعر، فتغدو روايته ومضات شعرية يفيض فيها الدفق الشعري في بعض المفاصل بغزارة أكثر من السرد نفسه الذي يشكل جسد الرواية حتى تتحول في بعض فصولها البالغة (20) فصًلا إلى ملحمةٍ شعرية(1)، وهو حين يقيم شعره وسط الرواية لا يسعى إلى استعراض قدرتها الشعرية قدر تلمسه طريقة مناسبة لجعل الحياة الداخلية للرواية أكثر صدقًا وشاعرية ونبضًا بالحياة.

تظافرَ كلٌّ من السرد والحوار والوصف والسيرة الذاتية وتناسل الحكايات في تشكيل متخيل الرواية، فقد روى الكاتب سيرته الذاتية مع أخوته ووالديه من لحظة انتقالهم من منزلهم في منطقة العالية بمدينة الشامية إلى مدينة السماوة(2).

ومن أمثلة استخدامه لتقنية الحوار، حوراه مع الشيخ النوري عن نشأة السماوة وتاريخها(3).

نخلص مما سبق إلى أنَّ رواية بلدة في علبة لحامد فاضل، اتكأت على لغة شعرية ووصفية جميلة وتناص قرآني(4) ضمّنه روايته بكل حرفية، وصنعة فنية متقنة، استطاعت أنْ تمرر في أنساق ثقافية مضمرة تخفت وراء هذا الجمالي، كشفت عن مأساة الإنسان ومعاناته وبؤسه وفقره وقهره بصورة مستمرة، على مدى أربعة قرون.

زمكانية القهر والاستبداد والجوع والحرب والأمية:

لقد كشفت الرواية عن معاناة الشعب من دكتاتورية الحزب الواحد والحاكم الجبار، بمطاردة مَن يخالفه الرأي وسجنه أو إعدامه، ونزوح الكثير من أهالي البلدة، والحصار الخانق وتداعياته، حيث افتتح روايته بالحديث عن سنوات الفقر والفاقة يقول: "ضغطنا البطون بالأحزمة. رضينا بما قسمته لنا كف القدر، وحمدنا الذي لا يحمد على مكروه سواه.. انفرط عقد البلدة. سُجن من سُجن، قُتل مَن قُتل، مات من مات، هاجر من هاجر، وبقي الذي لا يملك ثمن الهجرة"(5).

ثم يروي لنا قصته الخاصة، حيث كان أبوه مصورًا فوتوغرافيًا ترّبى على الروح الوطنية منذ نعومة أظفاره، وشارك في كل الأشكال النضالية والجماهيرية؛ في المظاهرات والاضرابات والاعتصامات، وتوزيع المنشورات السياسية، والمشاركة في الفعاليات النضالية الأخرى، بما فيها المشاركة في فعاليات اتحاد الطلبة الذي انبثق تأسيسه خلال وثبة كانون، في ساحة السباع في بغداد، لكن هذه الروح المفعمة بالروح الوطنية بالنضال الجسور لا يمكن أنْ تكون بدون دفع ضريبة كبيرة فادحة، فقد فصل من مدرسته الثانوية، واعتقل وسجن وتعذب وتشرد، وعانى المعاناة القاهرة حتى اضطر تحت وطأة التهديد بالسجن والاعتقال، وتشديد الخناق والحصار عليه، أنْ يغادر هربًا مع عائلته إلى مدينة الشامية ولكن بعد ثورة 14 تموز عام 1958 رجع إلى مدينته الأصلية السماوة: "توقفت أمام بيتنا المتواضع في منطقة العالية بمدينة الشامية، سيارة خنساء استعار محركاها رغاء جمل، لتمضي بنا إلى مدينة السماوة. حيث قوّض أبي خيمة غربته بعد عام من قيام ثورة 14 تموز عام 1958 التي أتاحت له فرصة العودة إلى مسقط رأسه"(6)، ولكن هذه العودة تخللها صراع حياتي شرس، صراع من أجل توفير الحياة البسيطة والمتواضعة لعائلته وتوفير لقمة العيش، التي كانت تعاني الفقر والحرمان، ورحل عن الحياة، وترك العبء الثقيل والمرهق إلى ابنه لكنه ترك الأرشيف الثمين بالصور الفوتوغرافية في العلبة.

أصبح الابن معلمًا لكن كان يعاني شظف العيش المرهق بالراتب الضئيل الذي لا يكفي عائلته، إلا أيامًا معدودة، حتى اضطر إلى بيع جميع الأثاث الذي يوجد في منزله، يقول: "وتحت شعار (إلى أن يفرجها الله) بدأنا حملتنا بالفراش الزائد، والكماليات التي لم يعد لها مكان في زمن القحط والجوع والمرض.. أجهزنا على الأرائك... ولأن الكهرباء لم تعد تزورنا إلا على استحياء، فقد تخلينا عن المراوح السقفية، واستعضنا عنها بمهفات الخوص التي ازدهر سوقها في صيف بلا كهرباء،... "(7).

كما اضطر إلى العمل في بعض الأعمال الشاقة والمرهقة، إلى جانب وظيفته التعليمية، من عامل بناء إلى عامل فرن إلى أعمال مرهقة أخرى ليسد رمق الجوع والفقر، في ظل الحصار الدولي الخانق حتى اضطر أنْ يخبز خبز التنور ليبيع الخبز لكي يساعد زوجته المريضة، حتى فكّر في الرحيل إلى السعودية عبر البادية الصحراوية لكن محاولته فشلت، رغم أنه وصل إلى مشارف الحدود ليرجع إلى عائلته يصارع الحياة الشاقة والمتعبة، وقد عجز عن توفير الحليب لطفله الرضيع، وكانت مناجاته الأخيرة كالغريق الذي يتشبث بالقشة من الغرق، كان معينه الصور الفوتوغرافية لتسد رمق جوعه وفاقته وعوزه في وضعه المخيب بالخيبات المحبطة في حياته التي جفت فيها السنين بالجفاف العجاف(8).

ومن صور الاستبداد الفعل الذي يقوم به مدير المدرسة، حيث يشتم كل تلميذ لا يعجبه بلفظة (الزنديق)، بالإضافة إلى الانتهازية والنفاق الذي اتّصف به، يقول الكاتب عن مدير المدرسة: "وهو يقف أمامنا في الاصطفاف الصباحي ممسكًا بعصاه (العلوية) التي اقتطعها من السدرة الكبيرة الشامخة في حديقة المدرسة. يلوح بها هاتفًا بأعلى صوته ولثلاث مرت: "عاش الزعيم عبد الكريم قاسم" نردد بعده الهتاف زاعقين إلى أقصى مدى تسعفنا فيه حناجرنا الصيرة.. وأتذكر أيضًا حين أصبحت في الصف السادس كيف جاءنا المدير نفسه مهرولًا في أعقاب حركة 8 شباط 1963 ليأمرنا بإنزال صورة عبد الكريم وتمزيقها ناعتًا الزعيم بالزنديق"(9).

وفي حواره مع الشيخ يتحدث عن البلدية التي تهدم بيوت الفقراء (التجاوز القانوني)، ولا أحد يعترض عليها في وقت تعترض فيه على إسرائيل وهي تهدم بيوت الفلسطينيين، يقول: "كيف أنسى يا سيدي الشيخ ذلك الرجل الظريف كاتب العرائض المعروف لخطه الجيد وأسلوبه المميز، أليس هو مَن أجبر القائم مقام بعريضة واحدة على إيقاف هدم بيوت الطين الكائنة في مدخل المدينة بحجه تشويه المنظر.

أيدني الشيخ وأردف:

إي والله صحيح، تذكرت لقد كتب في تلك العريضة كيف يتسنى لنا أن نطالب المجتمع الدولي بمساندتنا لمنع البلديات الإسرائيلية من هدم بيوت العرب في فلسطين، وبلدياتنا تهدم بيوت المواطنين الفقراء، وأتذكر أن عاملًا بسيطًا من سكان تلك البيوت كان قد اشترى شجيرة زيتون وعاد بها فرحًا ليزرعها ففوجئ بالشفل وهو ينطح سياج بيته"(10). هذا هو حال الحكومة التي وصفها مردان سائق السيارة المعروفة بسفينة نوح، بقول الرصافي: "لا يخدعنك هتاف القوم بالوطن، فالقوم في السر غير القوم في العلن"(11).

وقد قدَّم فاضل في روايته موضوع الاستبداد السياسي في قطار الموت، وهي المجزرة الكبرى التي أعدها الفاشست للسجناء من أحرار العراق وخصوصًا من الشيوعيين وأصدقائهم، بنقلهم بقطار مغلق مبطن بالقير في حر تموز اللاهب من سجن رقم واحد في بغداد إلى سجن نقرة السلمان في السماوة، وقد كان الفاشست على يقين من أنَّ السجناء سيهلكون  خنقًا في الطريق، عندها هبت السماوة من جميع الشرائح والأجناس لنجدة هؤلاء السجناء وخلاصهم من براثن الموت المحقق(12). بالإضافة إلى الفساد والإهمال والحروب المتتالية التي عانت منها مدينة السماوة(13).

كما تفصح لنا الرواية عن محاربة الأنظمة السياسية للتعليم في السماوة، ففي حديثه مع الشيخ النوري يقول: "أكاد أجزم يا شيخي أنَّ السياسة والمذهبية والإفتاء تعاونت ولفترة طويلة على حرمان المدن الجنوبية من التعليم.. العثمانيون كانوا لا يحبذون تأهيل أهل الجنوب حتى لا يتبوؤن مناصبَ في الدوائر الرسمية، ورجال الدين يفتون بحرمة المدارس لأنها تعلم الناس أنَّ المطر من البخار.!

اعترض الشيخ:

ولكن العثمانيين أسسوا مدرسة ابتدائية في منطقة القشلة بالصوب الصغير.

ذكر أبي أن تلك المدرسة كانت خاصة لأبناء العصملية ولم تكن لأبناء الفقراء.

وماذا عن المدرسة التي أسست في الصوب الكبير؟

سرعان ما أغلقت يا شيخي.. فقد حدثني أبي أنَّ المتنفذين يريدون أنْ يبقى الناس غاطسين في مستنفع الأمية والجهل كي تسهل السيطرة عليهم..."(14).

زمكانية الثورة والنخوة الأصيلة:

نتوقف أمام حدثين بارزين في أرشيف مدينة السماوة، سجلت عبرهما صفحات من البطولة والمجد والوطنية في الملاحم البطولية؛ أولهما: قطار الموت، والثانية: صفحات المجد من بطولات جسورة التي أشعلت شرارة ثورة 1920، في مقارعة الاحتلال البريطاني وإجباره على التفاوض.

لا شكَّ أنَّ الملحمة البطولية الخالدة التي طبعت بصماتها بشكل بارز تاريخ العراق السياسي المعاصر، بأنها امتلكت تراثًا مجيدًا بطوليًا يشع بالأنوار الوطنية الحقة حين هبّت الجموع الغفيرة، رجالًا ونساءً وأطفالًا، في النخوة العراقية الأصيلة، في إنقاذ 500 سجين سياسي من براثن الموت في قطار الموت، وهم في أنفاسهم الأخيرة، الجريمة الرهيبة في وحشيتها التي أرادت ارتكابها سلطة الفاشست البعث، ولكن لولا يقظة وفطنة ووطنية سائق قطار الموت، الذي خالف الأوامر الصارمة بالسير البطيء، حتى يموتوا اختناقًا في صيف تموز اللاهب في الطريق، قبل وصولهم إلى مدينة السماوة، فقد انطلق بأقصى ما يستطيع من سرعة، وكسب أربع ساعات من عشر ساعات في الطريق، وكان في استقبال قطار الموت جموع غفيرة من الناس التي تجمهرت وتقاطرت في جموعها محطة القطار، في نجدة وإنقاذ حياة السجناء السياسيين، وهم بين الحياة والموت، فقد هبّ أهالي السماوة الأبطال، أهل الغيرة والشرف والنخوة والوطنية الأصيلة، هبة رجل واحد، وكسروا الأقفال الحديدية وأخرجوا السجناء، ومنعوا رجال الأمن والشرطة من الاقتراب منهم، وهم في حالة يرثى لها "شارفوا على الموت وأنزلوهم إلى رصيف المحطة، حيث تمددوا عراة واهنين، لا يستطيعون الحركة. كانوا يشيرون بأيديهم طالبين الماء، ويستنشقوا الهواء بعمق، وهم يطلقون الحشرجات، فأسرع الناس إليهم، بالماء والملح واللبن والخبز والرقي، ويمنعون رجال الشرطة والأمن من الوصول إليهم"(15).

والحدث الوطني الثاني الذي أشعل شرارة ثورة 1920، وتسجيل ملاحم بطولية مجيدة، برجالهم الأشداء وشيوخهم بالروح الوطنية الوثابة، وفي يوميات الثورة المجيدة، وهم يسطرون صور البسالة والبطولة في المقاومة الجسورة، حتى تكبيد العدو خسائر فادحة، وأجبر على الجلوس إلى طاولة المفاوضات.

ويعرض حامد كيف واجه الأجداد قوى الاستعمار وكبدوه خسائر فادحة، ويشير إلى أنَّ السمة العامة للعراق مع الاحتلال الإنجليزي له أوائل القرن العشرين هو الاضطراب وعدم الاستقرار، ودلالة هذا الأمر هو أنَّ الطرفين المستعمِر "بكسر الميم" والمستعمَر "بفتح الميم" لم يكونا قادرين على التعايش أو الاستمرار، بالتالي كان كل منهما يتربص بالآخر وينتظر الفرصة المناسبة للانقضاض عليهم، ورغم لجوء الإنجليز إلى جميع الأساليب لإدامة سيطرتهم بما في ذلك افتعال المعارك بين الفئات العراقية المختلفة إلا أنَّ الوعي الشعبي نجح في تجنب الانزلاق إلى الفخ الطائفي، غير أنَّ هذا المناخ لم يتواصل فيما بعد ثورة1958 ، حيث كان التحالف الذي قام به هشًا؛ مما أدى إلى تفجير الصراعات فيما بينها بسرعة، فضلًا عن أنَّ صيغة نظام الحزب الواحد أدت إلى عزلة النظام ونرجسيته، وبالتالي عدم قدرته على تجديد نفسه، وهو ما كان يسهل للقوى الخارجية أو المتضررة إسقاطه النظام.

ويخلص حامد إلى أنَّ ثورة العشرين رغم عفويتها وعدم وجود قيادة موحدة لها ورغم فارق السلاح ونوعيته بين الطرفين كانت أول ثورة عربية في الشرق تقوم ضد الاحتلال وقواته، وقد كبدت المحتلين خسائر قادته وغيّرت نظرتهم للكيفية التي يجب أنْ يحكم بها العراق، وهو ما تمثل في التخفي وراء واجهة وطنية؛ لأنَّ الحكم الاستعماري المباشر يستفز المواطنين ويؤلبهم ضد الغزاة في حين تكون المتاريس الوطنية قادرة في بعض الأحيان على امتصاص النقمة وتأجيل الانفجار المحتمل.

ثم يعرض قصة أشهر رجال الرميثة في حكاية الليرات العشر، وهما الشيخ شعلان أبو الجون، والذي أرسل من سجنه في سراي الرميثة تلك الرسالة التي خلدها التاريخ، والشيخ غثيث حرجان الذي استلم الرسالة وأحسن تفسيرهاـ، فكانت عود الثقاب الذي أشعل الشرارة الأولى للمستعمر الإنجليزي، حيث أرسل الإنجليز شرطيين ببلاغ استدعاء لحضور الشيخين، ولكنهما بعد المباصرة بينهما ظن الشيخ غثيث أنَّ الإنجليز نيتهم الغدر، فذهب الشيخ شعلان وبقي الشيخ غثيث، وحين وصل الشيخ شعلان إلى مركز الرميثة قبل ظهر الجمعة الموافق 29 حزيران 1920، كان الضابط الإنجليزي منزعجًا، ودار حوار ساخن بينهما، ثم اقتادوه إلى السجن، فقال الشيخ شعلان لجماعته "سلمولي على الشيخ غثيث، وكلوله يكول شعلان أريد ملابس، وعشر ليرات، كون يوصلن كبل ما يودوني باجر بالقطار لمواجهة الميجر ديلي حاكم لواء الديوانية"(16).

وحين سمع الرجال بالعشر ليرات تناخوا لجمعها، لكن الشيخ غثيث فهم مضمون الرسالة، واختار عشرة من خيرة الرجال، ثم اختار عشرين رجلًا آخرين، وأمرهم أن يكمنوا في محطة القطار مقابل الرميثة مقابل الحامية البريطانية ليقوموا بإسناد الرجال الذين سيهاجمون سراي، وانطلق الرجل عصر السبت وعند وصولهم بستان آل أسود القريب من الرميثة، وذهب حبشان كاطع إلى السجن لزيارة الشيخ شعلان فرفضوا إدخاله حينها رجع إلى جماعته وصوبوا بنادقهم ناحية السراي، واستنفر أهل الرميثة والعشائر المجاورة لها حتى طوقوا الحامية البريطانية من أربع جهات، واستولى الفلاحون على الباخرة، واندلعت الثورة في كل شبر من الرميثة والسماوة والخضر، حتى حدود النجف والديوانية، إلى أن أجبر الإنكليز على طلب الهدنة،ـ والقبول بالمفاوضات، وتوقيع الاتفاق في مدينة السماوة يوم 20 تشرين الثاني 1920(17).

التسامح الديني والاجتماعي:

كغيرها من المدن العراقية في جميع أنحاء العراق كانت جميع الديانات اليهودية والمسيحية والإيزيدية والصابئة والإسلامية، كما مختلف القوميات تعيش بسلام ومحبة وتضامن في السماوة، قبل أنْ تنتشر عدوى وباء العرقية والطائفية النتنة في زمن (الديمقراطية) الأمريكية.

وقد كان الكثير من أهل الديانات المختلفة يعملون في حقل التدريس يقول الشيخ النوراني في حوراه مع سلام: "عندك زيا اليهودي مثلًا كان معلمًا للحساب في مدرسة الرشيد، وقد غادر العراق إلى إسرائيل بعد إسقاط الجنسية في العام 1950 بقرار من نوري السعيد.. عندك الصابئي نسيم هو وابن عمه صبري درويش كانا معلمين في مدرسة المنصور، وكان هناك معلمين من المسيح أيضًا.

المسيح موجودون على هذه الأرض منذ القدم وما يزالون... أنا عندما كنت تلميذًا في الصف السادس في مدرسة المنصور الابتدائية، كان معلمنا في الرياضيات مسيحي اسمه يونان، يحبنا ونحبه؛ لأنه رجل فاهم، طيب، ومتواضع على العكس من معلم الرياضة الذي كان مغرورًا..."(18).

***

د. سحر ماهر أحمد

.......................

(1) انظر: بلدة في علبة، ص21،31، 90، 91، 176، 177، 178، 180، 242.

(2) بلدة في علبة، ص45.

(3) بلدة في علبة، ص27-44.

(4) انظر: بلدة في علبة، ص13، 23، 27، 29، 32.

(5) بلدة في علبة، ص13.

(6) بلدة في علبة، ص45.

(7) بلدة في علبة، ص14.

(8) انظر: بلدة في علبة، ص14 وما بعدها.

(9) بلدة في علبة، 71.

(10) بلدة في علبة، ص151.

(11) بلدة في علبة، ص152.

(12) بلدة في علبة، 196-200.

(13) بلدة في علبة، ص259.

(14) بلدة في علبة، ص82.

(15) بلدة في علبة، ص220.

(16) بلدة في علبة، ص238.

(17) بلدة في علبة، ص240- 248.

(18) بلدة في علبة، ص95-96.

تألقت النصوص الادبية (النثر والشعر) في حبكتها السردية في جمالية اللغة وايقاعها وانسيابها الشفاف، التي عبرت في ابداع عما يجيش في أعماق الوجدان والمشاعر الطافحة في مخزون الذاكرة في محطات قطار العمر قرابة أربعة عقود ونصف، أي منذ زمن البعث الى يومنا هذا، في تداعياتها التعبيرية والفكرية، على ضفاف لغةجميلة تغري القارئ وتدفعه بتأثيراتها الحسية الى التأمل والتفكير، في أحداث مرت على العراق، ورسمته بالشكل الواقعي والفعلي في مسيرة السيرة الحياتية، في ازمنة ومنعطفات مختلفة من المجازفات. ان النسيج اللغوي يشير بتألق على القدرة في امتلاك ناصية اللغة وجمالها الحسي في الاختيار المفردات، التي لها صدى ورنين مؤثر. وهذه الرحلة الطويلة هي جزء من تاريخ العراق المضطرب، في استنزاف قدرة المواطن على تحمل الأعباء والمعاناة بسبب الإرهاب الفكري والسياسي، في وطن انحرف عن جادة الصواب الى الطريق الوعر بلا عودة، وانتهج سلوك نهج الذل والخنوع للمواطن حتى يخلق الخيبة والإحباط، لذلك أصبحت الحياة والانسان لعبة شطرنجية، على ايقاع التيه والضياع بلا انتظار، حين تجهمت الاجواء بالغبار والسموم (غبار مشبع بسواد الغربان حط فوق المدن / شددنا الرحلَ... حملنا ما تبقى لنا من ضلوع دون وداع، / تهشم الزمن وانسكب) ص210. حتى لم يتدارك العمر أن يلتقط أنفاسه. لم يعط فرصة تنفس الصعداء بدون رحمة. كأنه الحكم بالقصاص الصارم، ان يترك كل شيء حتى يسابق الزمن الوحشي قبل أن يطبق مخالبه المفزعة. يترك كل شيء. الماضي بالضياع. ويجهز نفسه في الرحيل. نحو الدروب المجهولة، طريقها الوعر مليء بالمخاطر والمجازفات، فما على السنونو سوى أن يحمل الوطن الجاحد في أعماق قلبه، ويذهب في منعطفات الزمان بما تحمله الاقدار اللاحقة. هذا صيغة النصوص الأدبية، في لغتها العميقة وما تحمل من صدق المشاعر التي اكتوت بنار تداعيات الواقع ومجرياته المنحرفة، التي داس بانتهاك صلف على القيمة الإنسانية مرغها في الوحل، ووجد نفسه في خضم العواصف المجازفات على مراحل مختلفة من الازمنة. هكذا سكب مخزون الذاكرة، يسرد الاحداث بضمير المتكلم. الذي وجد نفسه بين المطرقة والسندان بدون خيار ولا رجعة (لو قيل لي أمامك خياران... لاخترت الثالث! / عساي أرتب النسيان... واتعلم من دروس عثراتي! / اوضب أحلامي بصورة مغايرة... / وانتقي بداية آخرى لولادتي، كيفما أشتهي أنا... / لا بطلاً، ولا قرباناً، ولا ديكاً عاطلاً يبحث عن كومة قمامة يعتليها! / فقد أقوى في ليل البردِ على البرد... / يصفعني صوت كأنه أتٍ من بئر جف ماءه / × هيهات إنك تطلب المستحيل... قد فات الاوان) ص13. وليس هناك سوى السير في طريق المحنة بجروحها التي لا تندمل، في معايير الزمن المقلوب، ربما جرذ يخرب حاسوب المطارات الدولية، لكن هناك ايضاً جرذ آخر يحكم دولة، ويدعي أنه حارس البوابة الشرقية للامة، ويطلق العنان لشن الحروب الداخلية والخارجية، يطلق العنان للقبضة الحديدية والارهاب الوحشي. يطلق العنان للخراب والدمار وإراقة سفك الدماء وخنق الارواح حتى بالسلاح الكيمياوي (رحماك يا سائس الزمان، قد فاض بنا الصب، فيما تسرق من لحظات تنقضي... / لحيظات خاوية استطالت دهراً / واخرى مكتنزة، خطفت مثل شهاب... / ترى أين تخبئها، وماذا تفعل بها؟! / إن خبأتها في بئر، نشتري دلواً... / وان خبأتها في مغارة، سيدلنا عبق الذكرى... تحرقها؟ / نلم رمادها، نعجنه، نصيره ايقونة تسلينا في ما سيأتي) ص99. إنها رحلة أوديسة (نسبة الى أوديسا الاغريقي) من منبع الطفولة الى مراحل العمر الاخرى، في رحلة الشك واليقين، كمن يبحث عن شهادة حسن السلوك في الوقت الضائع، طالما الوطن انحدر وتدحرج الى الهاوية، حين غزته غربان الشؤم. وخرج من رحمها اللصوص والقتلة، واصبحت الحياة عبارة عن بهلوان سيرك (قم، أترك السيرك، فلا مكان لك بين مهرجانات البهلوان، وألعاب القفز على الرقاب / هذا السيرك تضحك فيه حفنة على بقية الناس، وترضى أن تروض أمة على الغباء والنفاق.. / بالتساوي، توزع الشعارات بين الناس... / قم، يا هذا، فلن يكفكف دمع السماء أحد.. / قم فما زال في باطن العراق حجارة لم يقذفها الزلزال بعد.. / أفق، أنهم يتحايلون على الذاكرة.. / يرمون لها عظمة تتلهى بها) ص126. فما عليه سوى لملمة نفسه على عجل قبل فوات الاوان، فالغربان الوحشية تتربص في السماء والأرض، وتحسب كل شاردة وواردة، ليس هناك وقت تداوي الجروح و البرابرة على الابواب (سلاماً أيها الارق... / سلاماً أيها الوسن.. / الغفو يقرؤكما السلام براية بيضاء، / - لا سبيل الى سلم بيننا ومن أي نوع كان!، فقد خلقنا أعداء وكفى! / تمنيت ذات وهم أن أصل معهما، لو الى هدنة.. / أقبل حتى بمؤقتة، كي استرجع واصل الى احلامي / الزمن يجرجر عربته المتهالكة بخيول شمطاء / غربتي تطيش بي، معول أخرق يصادر فرحتي، فلا يبقى لي سوى الوحشة) ص110. من مهازل القدر السخيف أن يكون العراق لعبة تتقاذفها أقدام البرابرة والتتار الجدد في غزواتهم ويلبسون العراق وبغداد ثوب الحداد والحزن، ويتفتت الاحبة والاهل والاصدقاء، وتتحول مرابع الطفولة والشباب الى أماكن غريبة وموحشة، ويلف الظلام بعباءته على البيوت (هذا الغول الذي حول الناس الى كائنات تلوذ بظلام زوايا البيوت، تتفنن في اجتراح الحيل - المعجزات. للافلات من الموت بأي ثمن؟! / نموت عطشاً! هل يصدق العالم أن بلاد الرافدين وبغداد، التي كانت أم الدنيا طراً - تموت عطشاً) ص72. تدحرجت كرة الثلج ووصلت الى الاحتلال، وينفجر السؤال بالرأس: ماذا يريد المحتل من الوطن؟. وكيف تدير قمامته التي جلبها معه أدارة شؤون الناس؟ ولكن العجب!! (العجيب، ليس في الاحتلال الاجنبي، وانما تقهرني تلك العقول السائدة، التي تدعو الى الامتثال المداح لما يفرض علينا من سكينة القهر... أن نكون طيبين، طيعين ومتحضرين! / أن نفسح المجال للمحتل وزبالته بالتربع على أقدارنا ومستقبلنا) ص142. إنه وجع الناي والذاكرة من بشاعة التي تمشي على الارض و تكبر وتتمدد (فاجع، باطل... ما نراه اليوم! / كنا نمسك بهدب الحلم، ونؤمل النفس ان ما فات قد ولى... / وما سيجيء، لابد ان يكون أحسن لكن هيهات والف هيهات) ص206. وهذا يستدعي أن نفزز السؤال بعلقمة المر: منْ يحمل لوثة العقوق، نحن أم الوطن؟

***

جمعة عبد الله

 

لقد أصبحت قصيدة النثر، منذ مدة قصيرة، زهرة كبيرة في حديقة الأدب العربي، فاستقطبت أقلاما من مختلف الحساسيات الجديدة، وذلك بعد رفضها ومعارضتها في بداية نشوئها من طرف أعلام الشعر العربي ونقاده. لكنها نمت شيئا فشيئا حتى أصبحت تيارا شعريا بخصائصه الحالية، غير أن توهجها الحقيقي راجع إلى الإمكانات التعبيرية التي تتيحها للشاعر الرافض لقيود الوزن، سواء في الشعر العمودي أو شعر التفعيلة، بل رفض أيضا للأغراض الشعرية المبتذلة، لمعانقة الواقع بكل تموجاته وتناقضاته، وفي هذا السياق تأتي تجربة الشاعر الحبيب اعزيزي الذي نسائل ديوانه "رؤى بروكوست العجائبية" الصادر عن دار بصمة سنة 2022.

الشعر صوت السماء، والنثر صوت الأرض، لكن القراءة الأولية للديوان، تسقط هذه المعادلة، وتجعل الشعر، في هذه التجربة، صوت الجحيم، صوت إن كان صوتا، أو لعله أنات وصرخات مدججة بالحمولة الثقافية والدينية لأساطير هندوسية مثل "شيفا"، وفرعونية مثل "الأنوبيس"، وإغريقية مثل "بروكوست"، علاوة على رموز مثل الكرسي الهربائي والسمام والعمال.... استراتيجية الشاعر في بناء نصه الشعري مختلفة ومغايرة، وهي التي تخلق تميزه وفرادته، يقول في قصيدته الأولى "النّظر بنصف عين":

وأَنظُرُ إليَّ

ولو بنصف عينٍ

من تحت الكرسيّ الكهربائيّ

غربَ الجحيمِ

هناكَ

تحت أحذيةِ الفيالقِ

فأنا أحبو في الشارعِ الرئيسيِّ

هنا

بين سرايا الخوذاتِ

العسكريةِ

ولم أجد وجهكَ المسروقَ

بين الأجسادِ التي

سقطت

صباح هذا الغروب

مقطع شعري يعكس القلق الوجودي العميق من الخسارة التي لا تعوض أبدا، والبحث الدائم عن المعنى في عالم اللامعقول، الذات الشاعرة القلقة تتخبط في السديم، ينتابها العجز والتيه، ينظر الشاعر إلى نفسه بنصف عين، فالضمير المتكلم، والهوية المتشظية، جعلته لسان إنسان يعيش شقاء الحداثة حيث يستحي المرء من النظر إلى نفسه/وطنه، أو النظر ربما إلى ما آلت إليه الأمور، وما آلت إليه الأمور هو الجحيم، الحياة جحيم، والشاعر مناضل يصور السقوط التراجيدي للمعنى، قتل رمزي للإنسان مع استحضار دلالات الكرسي الكهربائي، وسيلة الإعدام، ليرى غرب الجحيم، أحذية الفيالق والخوذات العسكرية، القبح الذي يحاصر الإنسان ويطفئ ابتسامته، فهناك في الحياة/الجحيم يقول: لم أجد وجهكَ المسروقَ، فالوجه هنا، يفتح آفاقا كبيرة للتأويل، الوجه/الوطن، الوجه/الحرية، الوجه/الحب، الوجه/العدل... لكن القلق الوجودي الذي رافق صوت الشاعر في جل قصائده، يهمس بين الفينة والأخرى باقتراب النهاية التراجيدية.

ديوان يحمل بين طياته مشاعر مشاعر الغضب والتيه والقلق، تقابلها مشاعر إنسانية نبيلة (الإخلاص، الوفاء، الكرامة...) ما فتئ شاعرنا يحفر لها لحدا تلو آخر، لتهيمن صورة القبح على الجمال، القبح الذي عبر عنه شاعرنا بلغة شعرية أضفت عليه سحنة شعرية وحمالية، وهذا ما قصدناه في العنوان "جماليات القبح...". تظهر في عالم القبح شخصية الشاعر/الإنسان/المناضل متأبطا صورا شعرية تجعل القبيح جميلا، فما فائدة الشعر إن لم يعبر عن انتكاساتنا وخيباتنا، يقول الشاعر:

أشمُّ رائحةَ جسدكَ

في هذا الزقاقِ

وأعرفُ

أنك لا تستطيعُ النداءَ

لا تستطيعُ

رفعَ الرأسِ يا وطنِي

خارجَ أسوارِ بيضةٍ

فارغةٍ من الآحِ

الوطن جسد يحترق، وتلك لعنة الشاعر المناضل، أن يعيش بؤسه وهو يفكر بالمدرجين بدماء القهر والفقر، يشم شاعرنا رائحة الوطن/الجسد في الزقاق، ويعرف أنه لا يستطيع النداء، حرقة الانتماء، وقلق وجودي ليس لمصير فرديّ، بل لوطن مثخن بالجراح، وكأن الديوان رثاء يملؤه الصراخ المتواصل في الجحيم، لاسيما في قصيدة "المثول بين يدي كلاب الجحيم" والتي يقول فيها:

اسمع زعيمَ الثورةِ النَّاعمةِ في اليسار

اسمع المناضلةَ التي توبخُ هذا الصباح زوجها الجذريّ الخائن

اسمع الدركيّ

اسمع الوزير الذي أعفيَ البارحة

استراتيجية انتقاد عوالم الجحيم/الواقع في قالب شعري سردي يقوم على التوازي وصنع عجائبية العالم، عجائبية تخلق شعرية دلالية موغلة في رمزيتها، يقول في قصيدة "بروكوست العجائبية":

اليومَ هاتفتُ بعض الملائكةِ

من هاتفي الخلوي طبعاً

*

أني أريد النوم رجاء ليوم كاملٍ

في هدوء جذري مثل حذاء مرميّ

مثل من ينتظر وصول كارثة

ها هو شاعرنا يطلب الخلاص، خلاص روح قلقة تبحث عن الارتماء في اللامعنى علها تستعيد توازنها في هذا العالم/الجحيم. والجحيم هنا ليس مكانا بل هو أقرب إلى الجحيم السارتري، الإنسان الجحيم. كما يبدو أن الشاعر أضناه القلق الإيديولوجي الثاوي بين أنفاسه الشعرية، لنلاحظ تغيرا في بعض قصائده التي تنزع إلى السخرية كأسلوب لمواجهة القبح، وهو ما صنع أسلوبا شعريا يجمع بين الصورة الشعرية الساخرة وبشاعة الواقع، يقول في قصيدة "المؤمنون بسماء ونصف":

لازلنا نبكي بأفواه باردة جدّا

تماما مثل سفينة مقلوبة في مرسَى

نكره النظر نحو الأسفلِ

والمساواة بين الجنسينِ

في الرأي والملكية العامة

في التخلص من معلبات الميتافيزيقا

الكوميديا السوداء، أو حين تصبح السخرية أسلوبا لمقاومة الألم والظلم والانتكاسة، أليس سخرية أن يبكي المرء بفاه بارد جدا مثل سفينة مقلوبة في مرسى؟ إنها شعرية الخراب، شعرية الجحيم الموغل في حميميته. هكذا يتسلح الشاعر بأسلوب السخرية كاستراتيجية لمواجهة التشوهات، ودمى أحدب نوتردام التي تسكن الإنسان الشرقي، راسما صورة كاريكاتورية عن أرضنا الجحيم، يقول:

الأرض تهرب

وتهرب ظلال الأشجار

المطر في أرضنا

مثل كلب تعرض لعقاب لا إنساني

يا للعجب

تستمر السخرية في قصيدة "الرباط أو انتظرني نصف صيف: تقول المدينة":

في مدينتي القديمة

ثلاث نسوة يحملن باقة ورد صغيرة

واحدة تسير في اتجاه موعد حب في الحظيرة

واحدة نحو الحفل التنكري

وأخرى في اتجاه المقبرة

يا له من حب، ويا لها من مواعدة، حيث يكون مكان اللقاء حظيرة والحفل التنكري ومقبرة، سخرية يوجه من خلالها الشاعر سهام النقد للمجتمع الغارق في تناقضاته. تستمر السخرية اللاذعة للعالم/الجحيم في قصيدة "الشعر أيضا كلب من الجحيم" والتي يقول فيها:

صديقي بابلو

تسألني اليوم عن الحب والزمن

عن الشعر والحريات

نحن شعب يعض على كم القميص كل مساء

ندرب ما تبقى من الأسنان تحت اللهى

على الرفع من درجة التأهب

إلى اللون البرتقالي

كما تمرن دور الحضانة النزلاء ضد التبول اللاإرادي

يمكن القول إن تجربة الشاعر الحبيب اعزيزي، تجربة تعكس حساسية جديدة، تجمع بين الإيديولوجيا الثورية التي اتخذت الشعر مطية لمخاطبة القراء/ الجماهير، واللغة الشعرية الزاخرة بالانزياحات الدلالية القائمة على صور شعرية مركبة تشكل عنصر الدهشة والعجائبية في خلق العالم الشعري، علاوة على أسلوب السخرية الذي لجأ إليه الشاعر لتقليص المسافة بين المشبه والمسبه به في التشبيه، والمستعار له والمستعار منه في الاستعارة، وكلما كانت المسافة كبيرة نبعت الشعرية العزيزية، إنها الفجوة مسافة التوتر بلغة كمال أبو ديب، والانزياح بلغة جون كوهين... كل هذا لخلق جمالية القبح طبعا.

***

عبيد لبروزيين

دراسة في عوالم روايات أحمد سعداوي.. تداعيات السرد في مواقع تعالقات الزمن الإيهامي، الفصل الخامس ـ المبحث (3)

توطئة: إن الأساس البنائي في مشروع ومحاور رواية (باب الطباشير) لأحمد سعداوي، تنتمي في مسار أفعالها وتفاصيل محبوكها السردي، على ذلك السياق من اللامتوقع، إلى جانب التوافر التقديري في الأعطية الوصولية إلى مغزى ما تكنه ملامح السرد من مداليل غاطسة في مدارية أحداث لها من الدقة وحسن الصوغ، ما يجعلها تبدو كرواية عازمة في ذاتها أن لا تمنح مواقفها الأحوالية بذلك اليسر والتماثل الخطي المتفق حوله في أغلب الأنماط الروائية الصادرة حديثا..وفي ذات الوقت عندما نتابع خطوات المحكي في السرد، تباشرنا تخمينات شتى بأن سعداوي في مشروع رواياته، يطرح لنا ذلك الواقع المحفوف بالتداعيات والعلامات الإيهامية والتوغل في أوجه متنكرة من تعالقات أزمنة متعارف عليها وأخرى أضحت وكأنها حوادث في الممارسات الأكثر مراجعة في ما قبل النص أو إعادة الأفعال الشخوصية بأدوار عكسية من الارتباط والإدراك الحسي لها والذي غدا بدوره أي المقروء النصي، متخذا لذاته هوية صراعية في الإجراءات الوظائفية في محاور ووحدات النص.وبعبارة موجزة نقول أن المواقع المتقدمة من رواية (باب الطباشير) أخذت تهم بقلب الأدوار والأغراض العاملية، وذلك في حصرها أو تعطيل زمنها داخل أعطيات مشفرة من التعاقب في مرتبة عكسية في مستوى خاص من تأويلات الممارسة السردية .

ـ الغيبوبة السردية في دائرة الأزمنة الطباشيرية:

1ـ ارتداد الزمن أو تعطيل الحدود الزمنية الواصلة:

إن الاعتقاد الراسخ لدى القارىء بأن مجمل علاقات تفاصيل الرواية، تتبين في مستوى تمثيلات خطية في الأداء والفعل الزمني، ولكننا كلما تقدمنا في معاينات الأدوار العاملية الفعلية في المحبوك السردي، لاحظنا بأن أغلب أدلة الوجود التعاقبي في السرد، يكشف لنا عن نسخة ذلك الموقف الذي تعرض فيه الشخصية علي ناجي إلى ذلك الطلق الناري من جهة غير محددة.أما بخصوص الزمن الذي ورد قبل هذه الحادثة، فيظهر لنا كحالات رابطة قريبة من الأفعال المباشرة أواللا مباشرة، أي أن الشخصية غدا يسترجعها وكأنها تنضوي عبر علاقة إيهامية ما، كحادثة موت الدكتور واصف وذلك الدفتر المحمل بأشكال رمزية من لغات سومرية مطلسمة..إلى جانب كل هذا وذاك نلاحظ بأن نقطة حياة الشخصية علي ناجي بدا عليها التغير والتحول بين مواجيد العوالم الإيهامية، بفرض أن حالة الغيبوبة هي من أدخلته في توليدات تلك الأزمنة التي أحجم فيها اللاوعي الباطن لدى الشخصية ليعايش أحداثا هي خارج موضوعة العلاقات المنصوصة في أهداف الرواية، لذا وجدنا علي ناجي أصبح حالة متزامنة بين غيبوبة الاطلاقة النارية، وبين العودة إلى حياته الجديدة التي تجسدها الأزمنة التعويذية في ذلك الدفتر الذي تسلمه من الدكتور واصف، والذي أطلع على بعض تعويذاته ذلك الممرض العجوز محمد سدخان، وها قد أرتحل بالفعل عبر بوابة عوالم الطباشير..تلك الحياة الثانية، في حين كان علي ناجي يغط في تداعيات اللاوعي ومجمل تفاصيل كانت أغلبها ترجيعات من العقل الباطن.

2ـ آليات الحياة الأخرى:

إن أغلب وظائف ودلالات الفصول الصاعدة من الرواية، كان يعتمدها سعداوي في الكشف عن المصادفة التي سمحت بعدم موت علي ناجي، بعد ما كانت إصابته بذلك الطلق الناري مجرد إصابة سطحية غير مؤثرة: (لكن صدمة الإطلاقة النارية وحرارتها هو ما تسبب في إغماءته لأسبوعين./ ص104 الرواية) ومن هذا القبيل أصبحت مؤولات الحادثة تقع في نقطة مخاوف شقيقه عمار، ما جعله يسارع في نقل شقيقه الأكبر إلى موضع غرفته في المنزل العائلي القديم.وفي ظل هذه الأجواء الجديدة من عيش علي ناجي في غرفته غدا خاضعا إلى قيود سلوكيات شقيقه التي تمتاز بالورع والتقيد بهالة من اللوازم التدينية لشقيقه عمار.وعلى هذا الحال بقي علي ناجي دون خيارات ممارسة حياته مع معاقرة الخمر، لأن ذلك هو من التابوات لدى شقيقه عمار والذي كان يسعى إلى خلق تراتيبية جديدة في حياة الشقيق الأكبر، بالمزامنة مع الكوابيس والأحلام التي راودت علي ناجي في عوالم غيبوبته: (عبورا إلى عوالم، وأحاديث عن تأهيل القصر الجمهوري ، لإعادة تشكيل الحكومة ./ص106 الرواية)هكذا تتضح للقاري حالات الشخصية علي ناجي وهو يسترجع بقايا ذاكرة متعلقة بأحداث عقدوية غابرة تحكمها انثيالات أزمنة مترسبة في اللاوعي الشخوص لديه، كذلك ما حاول استذكاره أيضا من خلال عمله الإذاعي وما كان يبثه من تعاويذ وطلاسم، كان قد عثر عليها في ذلك الدفتر الأسود الذي تسلمه من الدكتور واصف: (خلال هذه السنوات كلها، لم يفكر كثيرا بمصير صديقه العجوز السابق، لقد مات على ما يبدو./ص109 الرواية)ومن الجدير بالذكر ما يكشفه لنا السارد العليم، بأن الشخصية العجوز لم يتوفاه الأجل، بل إنه فقد سلامته النفسية والعقلية: (كانت الحالة الصحية للدكتور واصف سيئة، مع سبعة أمراض صار يتغنى بها./ص110 الرواية) ويكشف لنا السارد عن سيرة حياة العجوز (ص112 ـ ص113 ـ ص114 ـ ص115 ـ ص116 ـ ص117 ./الرواية) مع شقيقه رافد عبر أحداث ومواقف انتهت بالعجوز إلى الاستقرار في بيت العائلة القديم فيما يظل يكرس ذاته بالعناية بأجواء عزلته المتوحدة مع براعم الحديقة وكيفية وصوله إلى علي ناجي الذي كان قد سمع صوتا في الإذاعة الكردية الناطقة بالعربية يشابه صوته: (هل يكون هو نفسه علي ناجي ؟ ./ص117 الرواية) .

3 ـ حكاية الموظف المتخفي ونقوش الجرة السومرية:

إن القيمة السردية التي تظهرها أحداث رواية (باب الطباشير)تتلخص في كون الروائي، لا يقدم أفعال سرده بروح عفوية دون خلفية مدروسة إلى ما يقوم بإنشاءه من مصادقات ومواقف مختلفة في محاور السرد.فهو وبطريقة مؤولة صار يجسد خيوط الربط بالصور والمواقف والأفعال التي تخدم تمثيلات أنساقه الدلالية.لذا فإن سقوط علي ناجي في حادث إصابته بالعيار الناري، وزمن وقوعه في الغيبوبة ما هي إلا أدلة ممنتجة تدعم ديمومة عرض التفاصيل لكل شخصية في مسار فعلها ودورها في الرواية.وهذه الأفعال الناتجة من هذه الشخصية كالدكتور واصف مثالا لها العلاقة المتممة لأوضاع العامل الشخوصي المتمثل بعلي ناجي، أي أن عمليات الارتداد والإعادة في المنتج السردي تصب إلى حدود أولية أو لنقل توسطية حدوثها من ذي قبل ، إذ لا يجسد هذا الأمر سوى حضورا خاصا بالشخصية ومحاورها المتنقلة، أما فيما يتعلق وروابطها التركيزية كحال سيرتها الحياتية كما حدث الأمر مع الدكتور واصف وشقيقه ، فلم تكن من إطار التحقيق التفصيلي في أوليات ظهور الشخصية.وعندما حان دور الرابط الذي يؤشر على تحقق زمن كيفية تبيان ظهور الدكتور واصف كشخصية اقترن ظهور خليفة سيرته مع كيفية وصول تلك الجرة السومرية إليه من خلال ذلك الموظف في المتحف.هنا أحاول أنا شخصيا ليس بالحديث عن حكاية الأحداث في الرواية ، بقدر ما أحاول تشخيص قدرة الروائي على ربط وترتيب وسبك مؤشرات أحداثه السردية في محاور زمنها الموضوعي المتقن، وذلك بربط كل سيرة لشخصية مع نمو علاقاتها بالخطاب الزمني والأحوالي من دلالات التداخل بين (السابق ـ اللاحق)وعلى صعيد هذا البناء نتعرف على كيفية عثور الشخصية واصف من خلال باطن تلك الجرة على تلك التعاويذ التي قام بنقلها إلى ذلك الدفتر الأسود الغلاف، والذي أصبح أخيرا يذاع بواسطة علي ناجي على شبكة الأثير.

ـ العوالم الطبشورية وإزاحة الأبواب المطلسمة:

علاوة على ما أطلعنا عليه في مباحث دراستنا أعلاه، حيث وجدنا جملة مختلفة من صيغة الأحداث والأفعال والحركة الشخوصية، لذا لاحظنا جميعها تتركز على حياة المحاور الأكثر توغلا في صيغة التضمين للأبعاد الإيهامية من الأحداث المعاشة عبر الصيغة الزمنية والسردية.

1 ـ مقتضيات المفتاح التعويذي:

لعلنا عبر هذه المخصوصيات من أنساق العنوانات المبحثية الفرعية، نسعى إلى مقاربة الفضاء المحدد ـ تجسيدا وتحليلا وتمثيلا ـ ولا غاية من خطابنا النقدي هنا، دون الإيغال في التفكير والمراجعة والتقويم، حتى وإن كان مقصدنا هنا بدا أكثر تسجيلا وحدود آليات الموصوف السردي.أقول أن من أهم مميزات رواية (باب الطباشير) صيغة الحكي فيها على صعيد بنائي واسلوبي ودلالي، ما يدعونا إلى مقاربة الأثر النصي من ناحية المكونين (الحكائي ـ السردي ) وعلى هذا الأساس واجهنا جملة من الاحتمالات في وظائف الزمن (التوافقي ـ المغاير ـ المتعالق ـ الظاهراتي ـ التجاوزي ـ المزامن) وهذه الوظائف في الأبعاد المنظورة في وظيفة الزمن تنساب كشبكة محددات من الوحدات السردية، التي خلقت لنفسها سمات نوعية في النقلة المركزية من مرحلة إلى أخرى من السرد في الرواية.ففي دلالة الجرة السومرية وأحوال النقوش الطلسمية في باطن الجرة، ثمة تعازيم تقود قارئها إلى عوالم محتملة من الزمن الارتدادي والاستباقي، وإلى ذلك النوع من الزمن المعطل: (لم يحدث الكثير منذ أن أخبره الصوت الضاحك عبر الهاتف أن حياته قد تغيرت.لقد أنتقل عبر الباب الطباشيري من عالمه الأول إلى آخر جديد ومختلف - يحدث هذا الأمر تحديدا خلال النوم..بعد أن تكون قد قرأت التعويذات السومرية ./ص129 الرواية) ولكن ما أخبرنا به السارد في سياق الرواية، بأن علي ناجي هو ممن قرأ تلك التعاويذ في البرنامج عدة مرات، ولكن من سوء حظ علي ناجي إنه أصيب في رأسه في غضون زمن تلك القراءات التعويذية، فلم تباشره أية متغيرات ما في شوارع حياته المنصرمة من بعد حادثة الغيبوبة، وهنا يحق لنا أن نتساءل رويدا:هل ما حدث لعلي ناجي من تداعيات حلمية أثناء غيبوبته هي المراد بها من حالات الكشف إلى العوالم اللاسترجاعية أو اللامرئية مثلا؟أم أن سعداوي أراد من وراء هذه التداعيات بالزمن المخاتل سردا إظهار المادة المحكية ارتباطا بمساعي التقطع والتعالق الذاتي والموضوعي؟.لاحظنا في أكثر من رواية لأحمد سعداوي نفسه، حيث ترجح في آلياتها السردية ذلك المتقن من عملية (سرد المخاتلة) فالمادة الحكائية وتباعا لمكوناتها من شخوص وزمن ومكان وخطيات حقيقة أو متخيلة، منقادة إلى ذلك اللازمن الخطي في سير الأحداث، فيما نجد الفضاء وأحواله خاضعا لتراتيبية انقطاعية ـ مخاتلة، أي أن حكاية السرد تبقى في دائرة الانقطاع الخطي.وفي مثل هذا النوع من السياقات في روايات سعداوي ، واجهتنا تحديدا رواية (باب الطباشير) ومسار أفعال شخوصها المتحركة ضمن زمن (المخاتلة السردية) والتجاوز بالأحداث نحو نقاط ومواقع استباقية واسترجاعية، حيث يتبين بالأخير منها تفاصيل أثار حكايات مفصلة تتفرع وتبزغ من انفلات تقدمات تداخل النسيج السردي وتفكيكه إلى عدة وحدات من التشعب في سرديات النص.

1 ـ الترهين التبئيري في مداليل رؤية الحدث الروائي:

إذا تأملنا سير عملية الخطاب السردي في بعض فصول رواية (باب الطباشير) لتوصلنا إلى حقيقة تنظيرية مفادها أن الخطاب السردي في النص يحتوي على صيغة تقنية تشمل انطلاقة الموضوعة الروائية بكافة مستوياتها ومحتوياتها من نقطة تموقع السارد في الجهات الشخوصية ، التي يمكن الإحاطة فيها بصورة زمنية استجابية ومؤثرة.فالراوي يمكنه أن يحكي الأحداث بعد وقوعها بصيغة الآخر الشخوصي ومستحدثات موقعه من السرد، سواء كان حاضرا أو مرصودا من أفعال ما قبلية، كما الحال في هذه المسافة من تموقع الشخصية علي ناجي: (الشيء الذي فاجأ علي أكثر أن وجه الضابط المرتبك ذي الشارب السميك كان مألوفا..أنه صديقه القديم عبد العظيم حامد..يبدو أكبر بهيئة متعبة وجسد ممتلىء، ولكنه هو ./ص134 الرواية) فالراوي هنا هو أداة يتم من خلالها إدراك (الموقع ـ الجهة ـ المسافة) فيما تبدو شخصية علي ناجي بمثابة الموقع الزمني بين زمن الاستعادة وفعل المشاهدة.ذلك أيضا ما حدث مع علي ناجي وهو يتعامل مع المتغيرات في أحوال الشخصية واصف: (قال الدكتور واصف: أنت في الحياة السابقة دخلت في غيبوبة، ولم تنم.التعويذات السبع، تفتح لك بابا داخل الحلم تدخل منه لتنتقل إلى عالم آخر./ص140 الرواية) وبهذا المعنى الفنتازي فإن أغلب أحداث حياة رؤية السرد مبنية على حوادث (مخاتلة ـ إيهام) وحتى باقي مجريات الوقائع يحددها الفاعل الذاتي كفاعلية حلمية يشكلها برؤياه الذاتية وعبر زوايا نظر مستحدثة في أفعال الشخوص والزمن والمكان ومنظور تفاصيل تجربة روائية (داخلية ـ خارجية) تتناقلها تحولات الاختلاف والتجريب والحلمية والإيهام والمخاتلة في رؤى الفضاء الروائي.

ـ تعليق القراءة:

يمارس الروائي والشاعر أحمد سعداوي في أوجه تجربة رواية ( باب الطباشير) أدوات تحاكي طبيعة النصوص الميتاحداثوية وعلاقاتها المشروطة في حدود بنيات مقصدية ذات دلالات ومداليل تظهر لنا القيمة الروائية، كتجربة تفاصيل فاصلة وواصلة في مجمل تمثيلاتها الإشارية والإيحائية والوصفية والإخبارية.وعلى هذا النحو بدت لنا تمظهرات الأفعال الشخوصية في متن النص، وكأنها توقعات في اللامتوقع، كما وتبدو الموضوعة من جهة ما صنيعة مخيلة ترتكز في الملازمة مع الأحداث في صورتها الواقعية أو اللاواقعية عندما يسعى مؤلفها في جعل الذوات كإيهامات متحركة داخل بنية نسيج سردي مخاتل في الوظيفة ومؤشرات الزمنية المحفوفة بصيغة الميتاروائية.يمكننا القول إجمالا أن مستويات رواية (باب الطباشير) عبارة عن شواغل ذلك الراوي الذي يلتزم بالمنظور الشخوصي النفسي عبر مسافة فاصلة وواصلة بالوقفة والوصف والديمومة بالمكونات التقانية التي توفر جملة من العلاقات الزمنية والأحوالية إلى جانب ذلك الانطباع بأن الخطاب الروائي يختص بالعلامات المخاتلة في الرؤية والأحداث والأفعال في تمثيلات السرد الروائي: (لدينا ما يكفي من الهم بعالمنا الواقعي، كي يشغلنا عن مصائر أخرى، يمكن أن نعيشها في حيوات غيرها، ولدينا من الأوهام المتشابكة مع الحقائق، ما يكفي لشغلنا لوقت طويل بمهمة فك غزلها المتداخل./ص213 الرواية) من هنا وهناك ..ومن رواية إلى أخرى تتمثل أمامنا عوالم روايات سعداوي عبر سيروراتها بزمام (التخييل ـ زمن العوالم الأخرى ـ الحلم بالمقابل المختلف) فمثل هكذا سرود روائية تم توظيفها بصور من قابلية (المخاتلة السردية) تتكفل بإنشاء تلك العوالم الانزياحية في موضوعة الاشتغال والاستجلاء والبلوغ القرائي نحو ذلك المراد المغاير في الرؤية والسياق والمعنى المخاتل في المقروء المفترض بالامتداد والانتهاء والمفتوح والمغلق في أوجه خواصية التجريب الممتدة عبر أفضية النوع الروائي المختبر .

***

حيدر عبد الرضا

في ديوان "الحديقة التي رَسمت" للشاعر محمد الجباري

يرسم الشاعر المغربي محمد الجباري، في ديوانه "الحديقة التي رسمت"1، عالمين متجاورين متصارعين يَصِحّ أن نسميَ أولها عالمَ النفس الشاعرة الحالمة (أو العيش داخل الحديقة)، وأن نسمي ثانيهما عالم البشر والحجر (أو خارج الحديقة)، وبين العالمين تذهب رؤى الشاعر وتجيء باحثة عن سبيل للحفاظ على العالم الأول حيا طريا وحمايته من أن تزحف عليه كائناتٌ من خارجه فتُحيله هباءً وخواء.

1- داخل الحديقة:

في إيجاز وتكثيف يرسم الشاعر عالما من كلمات تطرزها أحلام، وذكريات، ورؤى محلقة في سماء الحق والخير والجمال. يؤسس حديقة تشتهيها كل نفس ترنو إلى سماء لا يكدر صفوَها شيء، ولا تَشينُها لطخة حزن:

في الحديقة التي رسمتُ

كلُّ العشب كان أخضر

السماء زرقاء

صافية حتى من غَيمةٍ بيضاء

لا يُسمع فيها سوى خرير مِياهٍ

تنحتُ الحجرَ أشكالاً

تَليقُ بالـمَعنى..

كان الوردُ بكل ألوانه الممكنة

الطيورُ جوقةُ عازفينَ

والفراشاتُ

راقصاتُ باليه

يُلقينَ بمَناديل الحزنِ

خارجَ الصَّحو

(الحديقة التي رسمت، ص09- 10).

خُضرةُ عُشبٍ، وزرقةُ سماء، وخريرُ مياه، ووردٌ بألوان شتى، وطيورٌ عازفة، وفراشاتٌ راقصة...عالمٌ من جمال لا سبيل إليه إلا بالسفر في أعماق النفس التي لم تُحِلْها مدنُ الإسمنت جُثةً تسير إلى قبرها لاهية ساهية. هكذا يصوغ الشاعر عالمه الأثير، فيسمع ما لا يسمعه الكثيرون، أو يسمع في قوة ما يَصِلُ أسماعَ الغير خافتاً مهموسا:

هذا الخريرُ

أرهَقهُ الحَجرُ

في رحلةِ النَّهرِ

حتى لا يكادُ

يُسمعُ له صوتٌ

لكنَّ صَخَبَهُ

يغمُر شَرايينَ الذّاكرةِ

كأنه معزوفةٌ

تُرصِّعُ

جَبينَ السِّنين الجَريحة

 (خرير، ص32).

في الذاكرة المزهرة والنفسِ الشاعرة يُسمَع واضحا ما أرهقَ الحَجَرُ مسيره، وأحالَ صوتَه خفيضا..فيها يُسمعُ خريرُ النهر، هديرُ الموج، تغريدُ البلبل، زقزقة العصفور...معزوفة تضمد جراح السنين، وتُغرق النفسَ الظمأى للفرح في نهر من الطمأنينة المشتهاة.4870 محمد الجباري

2- خارج الحديقة:

لكن الشاعر كائنٌ من لحم ودم، يأكلُ الطعامَ ويمشي في الأسواق، وهو مضطر إلى الخروج من حدائق الفرح، والنزول من سماء الصفو إلى أرض الأحزان.

في حركة الخروج هاته يكتوي الشاعر بنار حياةٍ فقَدَتْ معناها الإنساني، فيشكو خواءَ الأفعال من دلالاتها، ويبكي فراقَ الأسماء لمقاصدها، وينوءُ بما يتراءى أمامه من صور العذاب، فيقول في حسرة:

هذه رأسي

أمشي بها عاريةً

تحتَ مظلاتٍ مثقوبةٍ

رأسي التي لا تحتملُ

كلَّ هذا السَّيْلِ

منَ القُبلات المغشوشةِ

وزحفَ الأدخنةِ

وثرثرةَ الجَماجِم

(تحت مظلات مثقوبة، ص05).

هي رأسٌ/ ذاتٌ أصيلةٌ حالمة داخلَ واقع يَحْتلُّه الزَّيف.. ذاتٌ يُحزنها بُعْدُ الشُّقَّة بينها وبين سَيْلٍ من الذوات النقيضة كما يتضح من التقابلات الضدية التي يكشفها المضمَر في هذا المقطع الشعري:

هذه رأسي  وتلك رؤوس مغايرة

أمشي بها عارية خلافا لأكثر الرؤوس

رأسي التي لا تحتمل [الزيف] لى العكس من الرؤوس التي تحتمله..

ويبلغ التقابل الضدّي أوْجَه بالموازنة بين "الرأس"، في مطلع القصيدة، وبين "الجماجم" بعدها بأسطر، فـ"الرأس" حيةٌ، عاقلة، مفكرة، يَقِظة، صريحة، واضحة، عارية، أما "الجماجم" فميتة لا تنتج سوى ثرثرة لا طائل من ورائها.

على أن "الرأس" في النص تُشير، كذلك، إلى القلب الحي النقي، لذلك نراها تَضيق بـ"القبلات المغشوشة" وتنفر من"زحف الأدخنة"، وتَزوَرُّ عن "ثرثرة الجماجم" ازْوِرارا. إنها رأسٌ غارقة في بحر من المعاناة والألم؛ وذلك لأنها تواجه فريدةً وحيدةً سَيْلاً من مظاهر الحياة الزائفة.

ولأن الزيف شقيقُ التفاهة فإنه يسعى لأن يتسلل رويدا رويدا إلى حديقة الشاعر/ الإنسان، ليَعيثَ  في أحلامه وصفائه ورؤاه، فلا يملك الشاعر - وهو الذي لا سلاح له إلا الكلمات - سوى أن يقول مستفهما:

في الحديقة التي لم أرسم لها بابا

كلُّ المنافذ الـمُحْتمَلة كانت مُغلقَةً

لم يَكن في الأمر سوءُ تقدير

أو شططٌ في استعمال الفُرشاة

فمِنْ أين تسَلّل الذُّبول إلى وُرَيْقات العُشب

وانتصبتِ الحُفَرُ بعِنايةٍ

في الممَرّات؟

(الحديقة التي رسمت، ص11).

إنه استفهامُ حيرةٍ واتّهام، فـ"الحُفَر انتصبتْ في الممرات بعنايةٍ" وتخطيطٍ لإفساد الحديقة الفاتنة، ولم تنشأ بفعل عوادي الزمن!

ومع حزن الشاعر لما أصاب حديقته، فإنه لا ينكفئ على نفسه، وأنّى له أن ينكفئ وهو يحمل هموم الإنسان، ويستشرف عالما يسعد فيه الجميع؟ من أجل ذلك رأيناه يُحذّر، ويُنذر، ويشكو افتقاد الأماكن للحميمية، والنقاء، وخفقات الأفئدة، ورعشات النفوس، فيقول في لغة قريبة من مدارك الكثيرين:

ليس ثَمَّةَ أكثرُ عَبَثا

من أن تستيقظي الآن

فليس الصباحُ على ما يُرام

ولا الأمكنة الحَميمةُ

نَفضتِ الغُبارَ

حتى مَواعيدُ المساءِ

بلا رَعَشات

(ليس الصباح على ما يرام، ص08).

ليس الصباح على ما يرام مع أنه زمن الإشراق والضياء، فامكثي بعيدا عن هذا الخراب، ما استطعت إلى ذلك سبيلا، أيتها النفس المنجذبة إلى النور.

3- ملاذ النفس الحالمة:

كيف السبيل إذاً إلى إنقاذ النفس من هذا الخراب المحيط بها من كل ناحية؟

ما أحوجنا إلى أن نتأمل فلسفة الأطفال وهم ينسجون عالما من الفرح والسعادة في بساطة آسرة:

الطفلُ

في باحة الدار

لا يحتاج لأكثر

من خيوط الشمس

يغزل منها

قبعة الأحلام..

ولا لأكثر من سُحبٍ عابرةٍ

يعصر منها

عطرَ الأسرار 

(طفل الباحة، ص21).

من وحي الاستغناء يُفجّر الطفل أنهار الانتشاء، مكتفيا  بخيوط الشمس والسحب العابرة "في باحة الدار" حيث لا سَقفَ يحول بينه وبين مناجاة السماء وتَنزُّل الضياء.

وإلى جانب "صوفية الطفولة" يسلك الشاعر شِعْبا مفضيا إلى عالم الطبيعة حيث تلتقي النفس بأصلها التكويني (التراب) فتَذكُر فطرتها، وتستلذ هذا اللقاء الذي لا تجود به مدن الإسمنت والضوضاء:

رائحةُ التراب

عِطرٌ

لا هو مُتاحٌ

في مُدن الإسمنت

ولا في أروقة المَتاجر

عطرُ التراب

لَذةٌ

أثرٌ لا يمَّحي

(عطر التراب، ص62)

ولا ينسى صاحبُ الحديقة، وهو يقول حَيَّ على الطفولة والطبيعة، أن يُؤذّن في الإنسان أن انظر إلى نفسك، وتأملها، فثمة مواطن الجمال في دواخلها غطّتها "أهوال" الحياة المعاصرة التي تُدني المرءَ مما حَوْلَه، وتُبعده عن أعماقه ودواخله؛ إن النظر إلى الأعماق وصَقْلَها مدخل إلى النور. يقول الشاعر في مقطع من نصوص المجموعة:

" قد تغربُ الشمسُ

قبلَ موعدها

فمَن يُضيءُ الأرضَ

سوى النور الذي

في قلبك"

(يا أنت، ص 28)

نعم إذا استنار القلبُ أضاءَ الكونَ من نوره! فهل إلى استنارة القلوب من سبيل!؟

ذاك سؤال النفس الشاعرة التي تبحث عن خلاص للإنسان من ظلمة العيش الرتيب.

***

أبو الخير الناصري

.....................

سليكي أخوين، طنجة، ط01، 2020م. 

على الرغم من أنَّ الفيلسوف الفرنسي (فولتير Voltaire، -1787) يُصنَّف، في أدبيَّات الثقافة العقديَّة، على أنَّه ملحِد، أو كان، على أقلِّ احتمال، شاكًّا غير متألِّهٍ، فإنَّ ما في قِصَّته "صادق أو القَدَرZadig Ou La Destinnée "من تصوير الإيمانٍ بالقضاء والقَدَر، وبالقُوَّة الإلهيَّة الخارقة- التي تتحكَّم في مصائر البَشَر والأشياء، والتي كانت المِحْوَر الأساس للقِصَّة- يحمل إشاراتٍ تَشِيْ بحالٍ ذهنيَّةٍ مغايرةٍ لما عُرِف عن فِكْره واعتقاده.  وربما كان هذا بتأثُّرٍ بما اطَّلَع عليه من التراث الشرقي، ومنه قصص "ألف ليلة وليلة"، التي كثيرًا ما تتمركز حول هذا المِحْوَر.

ومثلما كان التشابه بين "ألف ليلة وليلة" وقِصَّة "صادق" في (فِكرة القَدَر)، كان التشابه بينهما في موضوعة (المرأة والعِشْق).  فقد كانت المرأة محرِّكًا للأحداث القصصيَّة في الليالي العربيَّة، وهي تلعب الدَّور نفسه في قِصَّة "صادق"؛ من حيث إنَّ النِّساء في النصَّين أكثر من الرِّجال، وأفعالهن أكبر شأنًا في الأحداث غالبًا، وهنَّ مِحورٌ يدور حوله الصِّراع، في أغلب الأحيان.  والنِّساء، في النصَّين معًا، منهنَّ المَلِكات والأميرات ومنهنَّ الإماء والجواري.

وكذا فإنَّ العِشق الذي تدور حوله معظم الليالي العَرَبيَّة، له المكانة نفسها في قِصَّة "صادق".  فالمرأة إمَّا عاشقة أو معشوقة.  والحُبُّ يأتي من أوَّل نظرة، كما حدث بين (صادق) والمَلِكة (أستارتيه)، فيما هو شبيهٌ بالعبارة كثيرة الترداد في الليالي العَرَبيَّة: "فنظرَ إليها نظرةً أعقبتْه ألف حسرة".  ليأتي، بعد شهقة الحُبِّ الأُولَى، الفِراقُ والأَلَم، الذي قد يتعدَّد ويتشعَّب، إلى أنْ يسنح اللِّقاءُ مرَّةً أخرى، مثلما في قِصَّة "قمر الزمان بن المَلِك شهرمان"، وغيرها من قصص الليالي. 

ومواقف الفِراق والرحيل متشاهبة هنا وهناك. مثل فِراق (صادق) أرضَ العَرَب إلى (سرنديب)، إذ جعل يقول في نفسه: ""وا حسرتاه!  أَيَجِب أنْ أُمعِن في السَّفَر حتى أجعل بين (أستارتيه) وبيني أبعد الآماد!  ولكن يجب أن أخدِم مَن أحسنوا إليَّ."  قال ذلك، ثمَّ بكَى، ثمَّ ارتحل." (1)

أضِف إلى ذاك تلك المبالغات المجنَّحة في وصف العواطف.  كقوله: "ومضَى هذا الهارب العظيم، حتى إذا بلغ تَلًّا مُشْرِفًا على (بابل)، التفتَ إلى قَصر المَلِكَة، ثمَّ أُغمِيَ عليه، ولم يُفِق من إغمائه إلَّا ليسفح الدمع ويَتَمنَّى الموت... ثمَّ صاح قائلًا: "ما حياة الناس إذن؟..."."(2)  فهذه الإغماءات ليست بفرنسيَّة خالصة، بل هي عربيَّةٌ مألوفةٌ في قصص الليالي العَرَبيَّة، كأنْ تقرأ في (الليلة 326): "لمَّا سمِعَ شِعر الجارية، صرخَ صرخةً عظيمة، وشَقَّ ما عليه من الثياب، وخَرَّ مغشيًّا عليه...".(3)  ومثلها في "صادق" قوله: "فلمَّا نُمِيَ إليه هذا الخبر، خَرَّ مغشيًّا عليه، وانتهى به الألم إلى حافَّة القبر..."(4)، في وصفٍ لما انتابه من وقْع الخبر عن زواج (أوركان) بـ(سمير).  ومثل هذا كثير.

ومن هذا القبيل المبالغةُ في وصف جمال المرأة، كأن يقول: "ولم يرَ الناس قَطُّ قَلبًا أشدَّ تأثُّرًا من قَلب (سمير)، ولا رأى الناس قَطُّ فـمًا أشدَّ سِحرًا، يُعْرِب عن شعورٍ ساحرٍ، بألفاظٍ من نارٍ، يُمليها الاعتراف بالجميل."(5)

ومن أوجه الشَّبَه بين "صادق" و"ألف ليلة وليلة"، في وصف المرأة، ذلك الوصف الحِسِّي وتشبيهاته الذي كتبه (فولتير) عن الشابَّة العَرَبيَّة (المُنَى)، مجسِّدًا جمالها أمام الكاهن الشيخ.(6) هذا إلى جانب اتِّخاذ الإغراء الجِنسي سلاحًا في بعض المواقف لمواجهة الأعداء، كما في احتيال (المُنَى) على رئيس الكهنة وأتْباعه، من أجل عفوهم عن (صادق).  وهو ما تنبثُّ نظائره في "ألف ليلة وليلة". 

وفي مقال الأسبوع المقبل نتتبَّع محاور أخرى تتوازى بين قِصَّة (فولتير) و"ألف ليلة وليلة"، بالإضافة إلى علاقتها بقِصَّة "السندباد البحري".

***

أ. د. عبد الله بن أحمد الفَيفي

....................

(1)  فولتير، (1979)، القَدَر، قِصَّة نقلها إلى العَرَبيَّة: طه حسين، (بيروت: دار العِلم الملايين)، 81. 

(2)  م.ن، 55- 56.

(3)  (1981)، ألف ليلة وليلة، (بيروت: دار التوفيق)، 4: 619.

(4)  فولتير، 18.  وكذا يُقارَن ما فيه، 103- 104، بـ"ألف ليلة وليلة"، 4: 598.

(5)  فولتير، 17.

(6)  يُنظَر: م.ن، 78- 79. 

 

قراءة في القصة القصيرة تحت عنوان "النورس" للكاتب سعيد عثمان

قصة رائعة باستثنائيتها الإبداعية. العنوان أثار وجود كائن فارض نفسه على حياة الشواطئ. إنه النورس. في كلمة واحدة عنون الكاتب نصه بدون أن يفضح رسالته، باعثا لنا معان ودلالات جذابة، ومثيرا في نفس الآن انتباه القارئ داعيا إياه للاستعداد بما يكفي من اليقظة للتأمل في الكلمات المتبقية. النص له عقدة متسلطة عامة ومحورية ومعاشة اتخذت شكل معادلة في الرياضيات يصعب حلها. تقابل متعة الروح مع تطورات الواقع المتعبة شد القارئ من البداية وبقوة. تفرعت هذه العقدة بأبعادها في باقي فقرات النص واتخذت أشكالا متنوعة ولدت كل واحدة منها نفس السؤال المحير: "هل ساعات أيامنا تستحق اسم حياة؟".

مفهوم الحياة في القصة يستأسد على ذوات مجتمعاتنا، فيمقت تراكم أحداثها. حتى الكتابة والإبداع الأدبي والإعلامي اعتبرهما الكاتب تكرارا قد يكون أقل جودة من انتاجات الماضي. العودة التأملية أمام المرآة المهترئة التي طالها الصدأ، تُذَكِّر البطل بتكرار التفاهة القاتلة للمتعة وتضعه بين براثن الروتين المضني. عاد أماما ثم عاد وتشبث بتكرار العودة محملقا سطحها إلى أن خاطبته التجاعيد وتسلط المشيب بفقدان معنى الحياة. مصمصةُ الشفاه والتهكم بهز الكتف ودوران الرأس كتعبير عن انفعاله على واقع مرفوض لم يهدئ من روعه: "لا شيء اليوم بجديد .. لا شيء كل يوم بجديد!  ومثل كل يوم قبل الغروب، ومع شح الوحدة والاغتراب وغياب الجليس والأنيس".

حتى الهروب إلى الأدب والإبداع الفني أصبح لا فائدة من ورائه ما دام الواقع يجسد لوحات الدراما والأحزان الإنسانية الجارحة للقلوب الوائدة للإرادات:"أعرف كم يُرهقني صوت الزحام ونباح الكلاب وتسارع الجموع نحو الفراغ".

الحياة بجوار الشواطئ قد تخلق الفجوات التي تساعد على استعادة الأمل، لكن للأسف الشديد تستبد أحداث ساعات الواقع فيكون مصير التجديد الضعف والهوان: "تعلو أصوات ارتطام الأمواج المتزايدة بالصخرة القريبة، أهب فزعا وانتفض مثل فارس عجوز يشحذ سيفا ثلم نصله واهترأ غمده؛ اشتد جذعي وانتصب....". يمكن لحياة الشاطئ بكائناتها الحيوانية أن تساعد القلم على نقر الكلمات...: "تستكين الجوانح؛ يشرد الذهن ويتحرر الخيال...".

البطل يتشبث بانبعاث الأمل في خلق سعادة لحظات حياته ...لا تكاد تمر لحظة واحدة دون أن تداعب فكرة ما خياله أو يتبلور في وجدانه عنوان مقال جديد أو مشروع رواية لم تخطر ببال بشر، أو نبتة قصة تطل بأنفاسها بين الظلال .. تتداخل حياته مع حياة النوارس الطليقة، فيحلق بمخيلته عاليا حول الشراع والسفين، فيحلم بالنهر والبيت والسماء والمطر، ويتأمل خضرة الحقول ودخان المصانع، ويرسم عرق الزّراع والصّناع .. وضحكات النساء والرضا المرسوم فوق وجوه الكادحين ..". يصطدم بالوجوه البائسة المعتدى على كينونتها، فيهاجمه الأسى من جديد... لا يرى شيء .. لا شيء، سوى الرمال الشاحبة وهدير الأمواج في انتظار اكتمال تسلل الظلام.

في نهاية المطاف يجد السارد نفسه يدور في فراغ حلقاته المتشابكة، يجتر ذكريات جيل التعاسة، جيل هزمه واقعه. مرت سبعون خريفا وسبعون شتاء، ليجد نفسه وسط الغيوم ينظر في صفحاته الفارغة......

إنها حياة لا تتجبر لتحافظ على دفئها. انتفاضة على الذوات بهالة العظماء لا يقابلها إلا نفسية العاجزين. هي درس حياة للبحث عن سعادة ومتعة اللحظات في مجتمعات الجنوب. فلنقل لأرائكنا ومناضدنا التي ملت من وجودنا ولم تعد تتحمل خمولنا واستكانتنا: "اطمئني... سنكسر المرايا المهترئة المخيفة....."

***

الحسين بوخرطة

.............................

النورس / سعيد عثمان

 ليست المرة الأولى التي ألاحظ فيها كم سحقتها السنين وطالها الصدأ، تلك المرآة الضبابية القديمة التي تتململ على سطحها ملامحي، وأنا أتأمل غزو التجاعيد وتسلط المشيب .. عقود مضت وأنا أمصمص الشفاه في دهشة كل مرة، أهزّ الكتف ثم أدير الرأس وأهمس ساخرا وأنا أبتعد: - لا شيء اليوم بجديد .. لا شيء كل يوم بجديد! ومثل كل يوم قبل الغروب، ومع شح الوحدة والاغتراب وغياب الجليس والأنيس؛ أصطحب قلمي ووريقاتي وأزحف متهالكا نحو ركني المعتاد في شرفة منزلي، وأمام بريق اللون الأرجواني على صفحة المياه وخفقات جناحات النوارس حول السفن الرابضة؛ أسند الرأس، ألتقط الأنفاس للحظات، وبنصف وعي أنتظر المغيب وفرار أخر شعاع منهزم  أعرف كم يُرهقني صوت الزحام ونباح الكلاب وتسارع الجموع نحو الفراغ، وأعرف أيضا كم أتململ ضجرا للحظات؛ لكن من بعد طول اعتياد، سرعان ما يتسلل الانفصا. أغمض العينين قليلا، أغيب عن المكان .. تشتد صرخات النوارس تقتسم فتات الغنيمة الأخيرة لهذا النهار، وتعلو أصوات ارتطام الأمواج المتزايدة بالصخرة القريبة، أهب فزعا وانتفض مثل فارس عجوز يشحذ سيفا ثلم نصله و اهترأ غمده؛ اشتد جذعي وانتصب، أخذت أصفُّ كومة الأوراق بهمة مفتعلة، أتحوْصَل حول نفسي، وأتظاهر بتواتر الإلهام وأنا أنقر بالقلم في رتابة فوق حرف طاولة البامبو العتيقة. حين تستكين الجوانح؛ يشرد الذهن ويتحرر الخيال، كعادتي في مقعدي الأثير، لا تكاد تمر لحظة واحدة دون أن تداعب فكرة ما خيالي، عنوان مقال جديد .. مشروع رواية لم تخطر ببال بشر .. نبتة قصة تطل بأنفاسها بين الظلال .. وعقب الرشفة الأخيرة ها أنذا أدع فنجان قهوتي جانبا وأغوص من جديد في مقعدي، أنحني قليلا، أمسك بالورقة والقلم. للحظات وجدتني أغفو قليلا وأختفي عن الوجود، مثل نورس طليق أحلق عاليا حول الشراع والسفين، أحلم بالنهر والبيت والسماء والمطر، أتأمل خضرة الحقول ودخان المصانع، أرسم عرق الزّراع والصّناع .. وضحكات النساء والرضا المرسوم فوق وجوه الكادحين .. أتأمل هرولة التلاميذ بحقائبهم الثقيلة، وأسمع كلمات غزل لشاب اشتم نسمات أريج يشِعّ خلف ابتسامة فتاة  مثل كل مرة، لا أعلم تحديدا كم استغرقني الأمر، لكنني فجأة شعرت بالبرد يتغلغل في جسدي، ودبيب التنميل يقتحم أطرافي. انتفضت .. نفضت ذلك الخدر الذي اجتاح رأسي .. نظرت أمامي ومن حولي.. لا شيء .. لا شيء، سوى الرمال الشاحبة وهدير الأمواج في انتظار اكتمال تسلل الظلام. تغوص الشمس أكثر وأكثر في الأفق، تشهق روحي وأنا أراها تحتضر، أحدق في تسلل الظلام في الفراغ .. لفحتني هبة ريح باردة، أنكمش، ينتابني اليأس، أفقد الأمل، أنظر مرة أخرى في أوراقي المتساقطة، أكتشف أنني كنت طوال الوقت أحدق ساكنا في الفراغ، وأن أقلامي جافة وصفحاتي خاوية، وأكتشف - مثل كل مرة - أنني طوال الوقت لم أكن أفعل شيئا، سوى أنني - مثل كل مرة أيضا - كنت أدور وأدور في فراغ حلقاتي المتشابكة، أقتات خوفي، وأجتر ذكريات جيلنا التعس، جيل هزمه واقعه. سبعون خريفا انقضت، سبعون شتاء ولّت لياليهم وأدبرت، وها أنذا وسط الغيوم ما زلت أنظر في صفحاتي الفارغة.. أجلس في نفس المكان، أغوص في اللاشيء، أراقب هجيع كل نورس جريح، وشهقة كل سفين راحلة .. ومن بين ثنايا الذاكرة أستعيد رجيع بعض هتافات آمال غابرة، ألثغ يائسا بالدعاء لكل غريق طوته فورة كل موجة عاتية. مثل نورس عجوز فاتته وليمته؛ عدت أدراجي متثاقل الخطى، وجدتني أتوقف قبالة مرآتي القديمة، أصارع الضباب والغيوم والصدأ، أتصنع الابتسام، أحدق فيها، أخاطبها. هذه المرة خلتها تصرخ في أذني: 'أيها الأحمق الموتور، علامَ الشقاء والحزَن؟ أي خير يُرتجى من رسم حرف جديد ؟ كل الحكايات مروية، كل اِلروايات مسرودة، ما ظلت الآذان صماء مصمتة. على غير قناعة هدأت جوانحي، وضعت وريقاتي وأقلامي في مكانها المعتاد،وانتظرت.. مثل كل مرة، غروب شمس يوم جديد. .....

***

 

(للبيع حذاء لطفل، لم يلبس قط) يقال بأن هذه أول قصة قصيرة جدا وهي للكاتب الأمريكي أرنست هيمنجواي كتبت عام 1925 وقد عدها أعظم ما كتبه خلال تاريخه الإبداعي.وهناك من قال بأن القصة القصيرة جدا ولدت بشكلها الفني في مستهل القرن الرابع عشر عندما كتب جيوفاني بوكاشيو الديكاميرون وتعني عشرة أيام بالإيطالية. أما في الوطن العربي فقد كانت بداياتها منتصف القرن العشرين.

القصة القصيرة جدا هي لون من ألوان الأدب الحديث. وقد جاءت كنتاج للتغييرات التي أصابت العالم، وقد تعرضت لعمليات إجهاض كثيرة في بداية تكوينها.لكن ما يشاهده الراصد لهذا الفن سيجد بأن الساحة الفنية تشهد نموا مضطردا في مجالها.

تعتمد ال ق ق ج تقنيات تتميز بها عن غيرها من الفنون الأدبية وهي استلهام التراث (التناص)، الاقتصاد اللغوي، التكثيف والمفارقة. وقد ارتأيت دراسة تقنية المفارقة وذلك لأن مجموعة وخزات نازفة زاخرة بها.

والمفارقة تستخدم في ال ق ق ج كتقنية قصصية بهدف الابتعاد عن السرد، كما أنها تبعث الإثارة والحماس في نفس المتلقي. وتسهم في منح النص القوة والعمق وذلك عن طريق محاورة الأضداد بطريقة توحي بعدم الاتساق كي يدرك المتلقي حجم التناقض في الواقع المعيش.

والمتلقي لوخزات هاني أبو انعيم يلاحظ أنه حاول أن يسلط الضوء في العديد منها على تلك المتناقضات والمفارقات التي التقطها من الواقع والتي تحفل بها حياتنا كبشر.

ففي القصة الموسومة ب وظيفة (حاضر بالفضيلة، وغادر يلعب القمار). نلاحظ بأن القاص بنى قصته على المفارقة في السلوك لشخصية وجدت توازنها في القيام بالفعل ونقيضه دون أدنى شعور بالحرج. كما ويهيمن التقابل على مكونات القصة فالفضيلة التي حاضر بها مقابل لعب القمار الذي قام بفعله.

فهذا التناقض يصنع لدى المتلقي مفارقة عجيبة حينما تخالف أقوال الشخصية أفعالها، فهذه القصة تعكس واقعا ديدنه النفاق والكذب.

وفي القصة الموسومة ب تمرين (تبرعت بقرنية لزوجها، ظل يحدق بالممرضة) وفيها نجد الكاتب قد طرح نوع من أشكال المفارقات الخفية وهي التي تعتمد على الألفاظ الموحية غير المباشرة والتي تفتح باب التأويل. فبعد أن ضحت الزوجة بنصف بصرها وتبرعت له بقرنيتها كانت ردة فعله التحديق بالممرضة. وهنا تكمن المفارقة فبدلا من حفظ المعروف من طرف الزوج للزوجة قابله بالنكران. كما نجد نفس المفارقة في القصة الموسومة بتماد (حمله على كتفيه احتفاء، تمخط بقلنسوته).

وفي القصة الموسومة ب إيمان (حمله الجوع على زيارة بيوت أبنائه، وجد الجميع صياما) وهنا نجد القاص وقد نسب إلى الأبناء فعل الصيام وأراد أن يقول شيئا آخر وهو أن الأبناء لم يقدموا على تقديم الطعام لأبيهم الجائع.وفعل الصيام يقابله الإيمان وفعل الأبناء لم يكن من الإيمان وهنا تأتي المفارقة التي تم طرحها كقضية وجدانية عن طريق موقف قاس وهو موقف ألأبناء من أبيهم وقد سببت صدمة ودهشة للمتلقي.

كما نلحظ استخدام الكاتب للكوميديا السوداء وهي من أهم منتجات المفارقة في ال ق ق ج وقد تجلت في القصة الموسمة ب فرض كفاية (دعاهم إلى الجهاد، وأوصى سائقه بإيصالهم) وتبدو المفارقة هنا بذلك الشخص الذي ينصح ثم لا يطبق نصائحه على نفسه، فبطل القصة الذي يدعو الناس إلى الجهاد تخلى عنه وأوصى سائقه بإيصال المتطوعين منهم.

وفي القصة الموسومة ب قناع (سترت كامل عريها، وخلعت برقع الحياء) وتكمن هنا المفارقة السلوكية فالمرأة بالرغم من سترها لكامل جسدها إلا أنها تعرت أخلاقيا فكان لباسها قناع تخدع به المجتمع وتظهر عفافها بينما هي في الحقيقة غير طاهرة.

وفي القصة الموسومة ب ذاكرة (حملته في أحشائها مغتبطة، وافته في قصره تجهم) وهنا نجد المفارقة الوصفية قد برزت، فالأم التي حملت جنينها طيلة شهور الحمل وكانت مغتبطه بهذا الحمل وكان رحمها البيت الذي يحميه ويمده بالغذاء على حساب صحتها ثم سهرت وربت وحينما كبر وانفصل في بيته غضب حينما زارته، فهذه القصة تعكس حالة إنسانية واقعية تكثر في مجتمعاتنا وهي جحود الأبناء لفضل الآباء.

ونجد المفارقة الحركية وقد تجلت في هبوط(ارتقى على أكتاف الناس.وسقط من عيونهم) فالارتقاء هو ضد السقوط وهذه المفارقة كانت وظيفتها تعرية الأمراض المجتمعية التي تنمو وتتغول عند البعض فبعد أن منحوه مركزه أشاح عنهم ولم بنظر إلى مشاكلهم فسقط من عيونهم.

بقي أن نقول بأن هاني أبو انعيم قد استخدم في وخزات نازفة أساليب بلاغية وأسلوبية في كتابة مجموعته مثل التكثيف، التلميح، الإيجاز، التناص، السخرية والرمزية. كما أنه حاول انتقاء مفردات ذات رمزية وإيحاء لعناوين ومضاته القصصية. وقد نجح في سبر أغوار حالات إنسانية شتى بلغة ناقدة وساخرة

الكتاب: من إصدارات دار فلاور للنشر والطبع والتوزيع/2014

***

قراءة: بديعة النعيمي

 

دراسة في عوالم أقاصيص إدغار ألن بو.. الزمن القصصي بين المجرد التمثيلي والمحسوس الشواهدي

توطئة:

أن القارىء إلى تجربة أقاصيص الكاتب الأمريكي إدغار ألن بو، في بعض نماذجها، يعاين بأن هناك حالات خاصة من تمظهرات أوجه الأشياء المنصوصة في نسيج وفضاء النصوص القصصية، لعلها بدت منجهة أخرى كمفاهيم حسية ـ تصورية، من حدود زمن (تراكيبي ـ التصاقا بالمجرد) ولهذا النص أزمنة (إظهارية ـ معلنة) ولكن من المتعذر على قارئها الإهتداء إلى جملة متتاليات دلالاتها التمثيلية، إلا في صيغة معينة من احتمالات المعنى الآخر من تأويلات المعنى النصي المقابل أو المتوارى.فالزمن إذن مظهر تلفظي وملفوظي في حيز ممارسة خاصة من (النفسي ـ السيكولوجي ـ المحسوس الشاهد) فيما تبقى غايات زمن القص ممزوجة بذاتية الشخصية الحكائية التي بوصفها المجال الإجرائي من صوت السارد العليم عبر منظوره المبئر في الرؤية السردية.

ـ قصة: جزيرة الجنية .. فضاءات الوحدة كصوت سردي.

من خلال العلاقة القائمة بين (المبئر ـ المبأر) تتوزع ظرفيات المحور الشخوصي في حكاية اتخذت لذاتها من عنصر المكان ـ الطبيعة، الممارسة الكاملة في بث تفاصيل أكثر توصيفا من حال (السارد / الناظم الخارجي) وصولا إلى رؤية ووعي شخصية هائمة في أوج لغة اللحظة العفوية من (الأنا ـ العالم) وفي إطار صيغة الوصف في محمول خطاب النص، نكتشف بأن التفاعل الضمائري للمسرود راح ينحو بالحكاية إلى تصورات إيهامية تتصل عبر محاور ثلاثية القطب (الناظم ـ الخطاب القصصي ـ المرسل إليه بلا حدود) كما أن الناظم الخارجي العليم قام في إطار هذه الوحدات من القص، بخلق نوع من التماهي بين لغة الأحوال في الطبيعة إلى عمليتي التبئير والسرد في مفاصل زواية الرؤية في فضاء النص التخومي.

ـ قصة: القلب الذي كشف السر.. الفاعل الذاتي وهستيريا جوانية القلق.

في الكثير من الأحيان يقدم لنا ألن بو نصه القصصي ومحوره الناظم من خلال تعالي الصوت الضمني عبر الرؤية في دمجية علاقة ملحوظة ـ إذا استثنينا من ذلك صوت الناظم المركزي ـ بأعتبار أن دوره مقتصر على بناء (الأفضية ـ رصد الزمكانية ـ صوت المتكلم) مما يفسح المجال أمام مسرحة الأحداث الحوارية والأفعال الشخوصية في مهمة رؤى ذات حصيلة ثيماتية وتأملية بالتطلع إلى التمازج بين (السارد ـ المبئر) أي بين الذي يتكلم والذي يرى، وقد ينفصل الحال، فيقوم الناظم الضمائري بسرد الأحداث من منظور أحوال الفاعل الشخوصي.من خلال قصة (القلب الذي كشف السر) تواجهنا اضطرابات صوت الناظم الذي غدا بالنيابة معبرا عن حال الشخصية رغم وجودها التمثيلي في الحكي عاملا وذاتا.فالمستوى في رؤية هذا النص يتكرس عبر وصف المكان من خلال تبئير المتكلم إلى تبئير فضاء الحادثة السردية، أيضا تواجهنا حالة هستيرية من الفاعل المتكلم، وهو يسعى إلى فعل قتل ذلك الرجل العجوز صاحب العين الزرقاء، دون أدنى عرض لأبسط المداليل التي دفعته إلى قتل ذلك الرجل.وإذا راجعنا بداية النص، سوف تتبين لنا الرؤية الخاصة في محاورات هذا الفاعل المتكلم: (صحيح ! ـ إنني عصبي جدا، عصبي بشكل مرعب ـ كنت دائما، لكن لماذا تزعمون أنني مجنون؟لقد شحذ المرض حواسي ـ لكن لم يهدمها ـ لم يفل من حدتها ـ صارت حاسة سمعي أكثر إرهافا من حواسي الأخرى./ص118 النص القصصي) إننا هنا أمام فكرة توحي لنا بالاعتقاد الجازم بأن هذه الشخصية مصابة بلوثة نفسية متجلية تحققا في إدراك طابع من نوبات الوساوس القهرية.لذا فهو عبر وحدات النص، يظهر لنا بأنه يتسلل ليلا إلى غرفة ذلك العجوز صاحب العين الزرقاء إلى محاولة قتله، ولكنه كان في الوقت نفسه يخشى من رفع لهيب فتيل الفانوس حتى لا يقوم ذلك العجوز بمباغتته بين لحظة أو أخرى. وبعد أن تظهر لنا الأحداث بأن الشخصية قد قام فعلا بانتزاع حياة العجوز أخيرا، ودفن جسده تحت بلاطات خشبية من ذات غرفة المجنى عليه، تبقى هناك الوحدة التي لم يتمكن من القضاء عليها وهي نبضات قلب العجوز، بل صوت تلك النبضات قد تحولت إلى دوي مفجع داخل جدران الغرفة والأرضية وبعض الأشياء، فيما تبقى الصورة المفجعة الأكثر مفارقة في النص أن أحد جيران منزل العجوز قد تنبه ليلة مقتله إلى صدور صرخة ما أفزعته، ما دفعه الأمر إلى الاتصال بالشرطة، وهكذا يعطي وجود رجال الشرطة داخل منزل الرجل المقتول انطباعا للقاتل بأن هناك ثمة نبضات يسمعها هو وحده دون رجال الشرطة، وعند عملية استبداد حالة القلق والوساوس في قلبه ، راح يكشف للشرطة بأمر موضع النبضات الحية أسفل بلاطات الغرفة ذاتها للمجنى عليه.وعلى هذا النحو من النهاية المفارقة تنتهي أحداث القصة، وهي ترسم في أذهاننا المرتقبة ذلك الاحتقان الدلالي بأن إدغار ألن بو لم يسع في مكونات قصته إلى خلق المفارقة، بقدر ما أراد إظهار بأن فاعله القصصي كان يعاني من وساوس القلق القهري، وربما هو حتى لم يقم بقتل العجوز بل هي أوهامه القهرية التي دفعت به إلى صحبة كونه قاتلا للعجوز الذي لم يكن مقتولا موجودا إلا في مخيلة الفاعل الشخوصي.

- قصة: موريلا.. النموذج الشخوصي وتوليفة نبوءة الزوجة

1ـ روحانية الحلم المحتمل وانعقاد واقع الحلم:

إذا عاينا من جهة غاية في الأهمية أن زمن السارد هو زمن الحكاية، متحركين بوصفهما ـ عنصرا مركبا ـ يجعل من هوية الشخصية في النص مجرد ـ زمنا وسائطيا ـ تحققيا، ويمكننا الجزم بأن الصورة السردية في مجال القصة القصيرة، من الممكن أن تتمحور في أوجه ارتباطات العامل الشخوصي كآلية مؤدية، ولكنها تبقى في الوقت نفسه مع موجهات السارد العليم الميثاق الأولي والأخير في تحريك آليات النص إجمالا.توافينا موقعية السارد في ملامح وتقاسيم حكاية (موريلا) عن طريق موازاة زمنية بين أحداث وقعت وأحداثا سوف تعتمد اللحظة الأكثر اختبارا وهوية الأدلة السردية في دلالات موضوعة القصة.فهذا بدءا صوت السارد العليم الذي أتخذ من الشخصية في القص، كأداة واقعة لأحداث غير مألوفة وغير متوقعة الحدوث إطلاق: (كانت موريلا على ثقافة واسعة..لم تكن مواهبها عادية، وكانت طاقتها الروحية هائلة ..أدركت ذلك وأصبحت مريدها في مناسبات عديدة..وسرعان ما أتضح لي أن موريلا، لدراستها في بريسبورغ، كانت تعرض أمامي عددا كبيرا من هذه الكتب الروحية المعتبرة بشكل عام ـ ولئن أصبحت مع الزمن موضوع دراستي أنا أيضا، فذلك عائد إلى تأثير القدوة والعادة./ص123 النص القصصي) أن آلية التراتب المنصوص في حكاية النص، ينطلق كما هو واضح في الظاهر الأول من القص، تحديدا من نقطة الانطلاق الصفرية حيث حدوث بعض الأشياء المتعلقة بالقيل من التعريف الملامحي بالحكاية أو الظروف التي جعلت من شخصية موريلا تختار عقد الزواج بالسارد الشخوصي.ولا يهم لدينا أية بوادر تتعلق بفكرة الحب أو الزواج، ولكن يهمنا فهم مدى الحب أو المقابل بالحب عن حب الزوجة لزوجها، فهو في سياق المستهل أي ـ السارد الشخصية ـ أوضح لنا في هذه الجمل التي يرد لنا عرضها من قبل: (لم أكن أظهر أي تعلق بها ـ ولم أتحدث عن الحب) أي أن هناك حالة من الحب الأحادي أو من الطرف الواحد كما يقال دارجا:ولكن أن لم يكن هناك مشاعر حب كيف وصف موريلا بأنها أحدثت نارا في كيانه بادىء ذي بدء؟وما وجه المحفز من التركيز للسارد الشخصية حول تلك الكتب الروحانية التي انتقلت بالعدوى في حب قراءتها واقتناءها من قبل الشخصية؟ في حين أنه ذكر لنا بأنه لم يكن حبا جادا لموريلا؟. ولعل نظرة متقدمة في متتاليات القص والأحداث، نلاحظ السرعة التي تتحول بها موريلا إلى فتاة تجد لذاتها العزلة والوحدة: ( حينما كنت أغوص في الصفحات الملعونة وأشعر بالفكر الرجيم يتأجج في داخلي..كانت موريلا تأتي، وتضع يدها الباردة على يدي وتجمع من رماد فلسفة ميتة بضع كلمات غريبة مهيبة كانت تنحفر، بمعناها الغريب في ذاكرتي.إذاك، كنت أستلقي إلى جانبها طوال ساعات، حالما ، وأغيب في موسيقى صوتها./ص123 النص القصصي) لإسباغ صفة الزمانية استخدام السارد ـ الشخصية، هذه العبارة (في ذاكرتي:شعور الألفة ـ الذات الطفولية ـ / الذاكرة = الخيال = الذات المتنقلة عبر الزمن) كما وتتحدد لفظتي (أغيب = حالما) بما يماثل (الكارثة ـ البراءة) ومجموع هذه الوحدات في النص، لها مجالا ومفعولا ساحرا في التوهم أو اللاإمكان، لأن الواقع لا يغيب حتى ولو بلغ جميع المحتملات التخييلية فهو الواقع بالبقاء الكينوني، لا البقاء الهيرمينوطيقا.وعلى هذا النحو يمكننا معاينة دلالتي (أغيب / أحلم) ضمن واقعها النصي والشخوصي، على إنها دليل اللامباشرة من ناحية كون الشخصية قد غاب في غيبوبة إيحائية، ومن هذا الباب يمكننا تصور أن الشخصية صار يحلم ومنذ أول زمن تفاعله مع زوجته مع هذا المشروع الروحاني في كتب التنجيم.

2ـ غربال التأويل وممكنات آفاق الحلم النصي:

أن المسار التوليدي في قصة (جزيرة الجنية) هي ضمن مرحلة القص الحلمي، الذي راح منه الشخصية يعاين جمال الطبيعة ولغة الجداول وتساقط الأوراق عن الأشجار وانحسارات الضوء عن أخاديد الصخور السوداء، كأنها أشباح جنيات في مواقع سطوح الأنهر والشلالات: (تابعت، حالما: الدورة التي أكملتها الآن الجنية هي دورة سنة قصيرة من حياتها، لقد أجتازت شتاءها وصيفها، واقتربت سنة من الموت، ورأيت جيدا، وهي تدخل الظلام./ص117 قصة: جزيرة الجنية) ناهيك عن أن الأمر ينطبق أيضا على ملامح الحلم أو الدخول في اللاواقع عند مرور الشخصية إلى غرفة العجوز ذا العين الزرقاء في قصة (القلب الذي كشف السر): أتصور، أنني هناك أفتح الباب رويدا رويدا، وأنه لم يكن يحلم حتى بما أفعله./ص119 .الملاحظ أن الأمر في كلتا القصتين يعاود ذات الشفرة من الملفوظ الحبكوي، حيث بدت العلاقة ما بين الشخصية في قصة (جزيرة الجنية) وقصة (القلب الذي كشف السر) والقصة (موريلا) ذات العلاقة الترسيمية في إحالات الذات الحالمة، إذ تكون التقييدات الدلالية مقصورة في مستوى المعادل الوظائفي تحديدا، وليس هناك أية متغيرات في لعبة الحبكة وتحولاتها الاختبارية للقارىء.أن الأمر الذي بات واضحا من خلال الزوجة موريلا التي كانت تماثل علاقة روحية في ذات زوجها، ليس لكونها كزوجة حبيبة ، لا أبدا وإنما لكونها: (حتى يسري الرعب أخيرا في هذا الصوت، ويسقط الظل فوق روحي./ص 124 قصة: موريلا) لعل القارىء النبه أو اللبيب إذا جاز لنا القول، إذا تمعن في مجال إمكانية النمو السردي في حياة الشخصية الزوجة، لربما يجدها كعلاقة بين (الفاعل المنفذ ـ المغزى الحكائي) ولأجل الحصول على عملية التحول نعاين ما راح يشعر به الشخصية الزوج: (موريلا لم تكن سوى امرأة، وكانت تذوي يوما بعد يوم ـ هل أقول إنني كنت أتطلع بلهفة ضاربة إلى لحظة موت موريلا./ص124) لعل من المثير القول منا بأن أغلب عوالم أقاصيص ألن بو ما يتم توظيفها في حدود آفاق معالجة ذات أهداف تصب في اللامتوقع أو ما يصح تسميته (التفارق الذروي) فالقاص ومنذ قصته (القط الأسود) وهو يسعى إلى تخليد المتمثل الشخوصي في حالة صراعية من اللامسمى أو المجرد أو الملامتوقع.والحال مع الزوجة موريلا لم تتم في حدود اعتباطية أن لم نقل اختلافية في جملتها الواسعة والمفيدة.حاول من جهة الشخصية السارد، توضيح أن الفارق في مسألة اللاإنسجام في مكنون علاقته الزوجية مع موريلا، كانت بمفعول قوى روحانية ـ شيطانية، على حد ظنون الشخصية، ولكن حتى بعد فعل موتها، نكتشف بأن السياق السردي لم يوضح لنا ذلك، ولو بإشارة عابرة، حتى نلمس لاحقا بما قالته الزوجة قبيل موتها وكأنها نبوءة ما لا يجوز الإفصاح بها إلا عند فلول صاحبها: (قبلت جبينها وتابعت: ـ سأموت، مع ذلك سأحيا؟ ـ أكرر أنني سأموت، لكن في أحشائي شهادة لهذه العاطفة..وحينما ستذهب روجي سيعيش الطفل، طفلك، طفلي أنا، موريلا.. لكن أيامك ستكون مليئة بالكآبة ـ الكآبة التي هي أكثر الانفعالات بقاء./ص125) .

3ـ ملحمة تناسخ الأرواح ومقاليد أسطرة الروح الحلمية:

لاشك إن من أبرز كتاب الحقبة الأكثر غرائبية ذاتيا وموضوعيا، ما شهدتها أقاصيص إدغار ألن بو، من مسار به مضمونية وشكلية ترجح الوجود الغرائبي كصفة رمزية واسلوبية ودلالية من نوع خاص ومبطن بأسمى أوجه جماليات الصياغة ومعايير الصنعة الهادفة في دليلها البنائي.وعلى هذا النحو وجدنا مختارات (القط الأسود) التي قامت بنقلها إلى العربية الأستاذة الناقدة القديرة خالدة سعيد، ملاذا لمعاينة عوالم أقاصيص هذا القاص العالمي الفذ.أعود مجددا إلى أجواء قصة (موريلا) لأقول أن الصراع مع الموت والولادة، هي من مشروطيات كتابة بو القصصية، فلا نعجب من كون الأرواح تتلاقح عند موتها اعتقادا وتخييلا وتوهما ، ذلك لأن ألن بو يوسم مضامين نصوصه، بتلك الأوجه من الغرائبية والسوداوية المدقعة، ولكنها غرائبية حلت في حدود مؤهلات خاصة من الصياغة والرؤى والأفكار والبناء الذي يخولها قبولا وتصديقا وابداعا وتأملا واعيا.ولو عدنا إلى متن الأحداث، لواجهتنا تلك الفتاة التي عاشت بعد موت أمها لسنين عدة تتجاوز العشرة أعوام وهي دون أسما ولا حتى اختلاطا مع الناس..عاشت الفتاة حياة أمها شكلا وموضوعا ودالا وخاتمة: (لكن موريلا حملتها بيدي الأثنين إلى القبر، ثم ضحكت بمرارة وأنا أضع الثانية في الضريح حين لم أجد فيه أثرا لموريلا الأولى./ص127 النص القصصي ـ انتهت) .

ـ تعليق القراءة:

ختاما يتضح لنا أن الاعتقادات تغلب أحيانا على ذائقة الكاتب مهما كان نصه مشروعا تصوريا مؤثرا.ولكننا نعود إلى وجهة نظرنا النقدية لنقول أن الشخصية موريلا لا تتوفر في نسختها الأولى والثانية على أبنتها المطابقة لها، بل أن ما هو صائبا أن الشخصية موريلا هي ذاتها في الأولى والأخيرة، وما حدث فعلا هو أن الشخصية كان متماثلا في غيابه الحلمي الذي أفقدته الأجواء الروحانية في تلك المجلدات إحساسه بالزمن والمكان وهوية الآخر,ورغم هذا التقدير أو سواه، تبقى قصة (موريلا) بوصفها الزمن القصصي المجرد والتمثيلي والمحسوس بمقرونية كون الشاهد الوحيد على حقيقة النص هو ذلك الناظم الأوحد الذي خلق لنا منظورا مبئرا كفاعلية شاهدة على تفاصيل الرؤية السردية الإطارية البرانية عبر مظهرها الدال في محورها الداخلي الأكثر عمقا وتدليلا في المستوى الشكلي والمضموني التفردي في بناء محتملات وخيارات ووسائط المؤول القصصي.

***

حيدر عبد الرضا

للشاعرة الحزائرية فائزة أحمد خمقاني في مجموعة نرد

عن دار كلاما للنشر والتوزيع صدر للزميلة فائزة احمد مجموعتها الشعرية (نرد) عام 2022 - الجزائر - وهي تجمع بين طياتها باقة من القصائد التي تستمد خاماتها الشعرية، من معطيات الواقع وافرازاته الدالة في عمق الاحساس الصادق، كي تكشف لنا صيرورة الواقع بظواهره المحسوسة واللامحسوسة، بمعنى آخر هي مجموعة صور لتشظيات مرآتها وانعكاسها في متخيلها الشعري الذي قام بإعادة تشكيلها وفق رؤية جدلية بين الذات الشاعرة والآخر، وحيث تتبدى وشائج وعلاقات تجعل من الشاعرة أن تطمح إلى كل ما هو جميل في هذا العالم.

تسعى هذه الدراسة الى رصد التحولات التي طالت الذات الشعرية للشاعرة فائزة من خلال نردها الذي يعكس لنا في كل رمية صورة جديدة لما تحمله ذاتها من الضجيج اليومي والقلق والوجع النفسي الذي يعتصر ذاتها فتراءى لي أوجه النرد على شكل مرايا تجسد الصورة الحقيقية.

ولكون عالم المرايا عالم مدهش و جميل و مخيف، فمرآتها تعيش معها في مجموعتها هذه كي تحاورها عندما يتعلق الأمر بتجسيد صورها الرقيقة والمتحركة كي تعبر من خلال دلالة متخيلها الشعري الى دلالة الواقع كونه مرتبط به عضوياً.

فالمرآة عند الشاعرة فائزة تعددت انعكاساتها الصورية مثلما تتعدد أوجه حجرة النرد، كونها (المرآة) تتقمط شخصية الشاعرة لتعكس ملامحها من خلال رمي حجرة النرد ففي كل رمية تطرح صورة جديدة وكأنها رمزا وعلامة تحقن الأضداد بالمجاز. فأستخدمت الشاعرة حجرة النرد ووظفتها بشكلها الصريح فجاءت الصورة لديها متعددة السمات والصفات وهي تبحث عن الذات والهوية، ولكن ليست بمفهومها الأثني أو الديني أو السياسي بل هويتها الانسانية وكما تقول في نصها (هوية):  

أنا ابنةُ المَاءْ.

لا يعْنِينِي الظَمَأُ الرَابِضُ فِي القلُوبْ

و أنا مُوسِيقَى الصّباح

لا شَأْنَ لِي بِنَشِيجِ الأرجُوحَةِ المَعْطُوبَةِ فِي مَساءٍ بَارِدْ

أنا الضِّدَانِ اجتَمعَا في وجهِ المَجَازِ فأرْبَكَاهْ

لي غَمزةُ الشَّمسِ أرَاها ...

لا يَرَاهَا سِوَايْ

إذن هويتها مرتبطة بمعالم الطبيعة، الماء، الموسيقى، المتناقضان - بمعنى الخير والشر) فصورتها مرتبطة بكل ما هو جميل كأشراقة الشمس، فلا شأن لها بعطب الأرجوحة وبكائها.

في قصيدتها هذه تكشف لنا الشاعرة شكل هويتها فتارة هي ابنة الماء وفي الاخرى هي موسيقى الصباح و... إلا أن صورتها هذه تجمع بين دفتيها ضدان متناقضان مجتمعان في صورة واحدة (الخير والشر، المادي والروحي، ما تحلم به والواقع، ..).

إلا أنها كأي فتاة تحلم ان تكون لها وحدها غمزة الشمس ودفئها ونورها و... إلا أن صورة الواقع أحيانا مغايرة وهذا مرتبط برمية نردها (الحظ) والصورة التي تعكسها وجه النرد، لذا نجد مخيلتها قادرة على التلاعب بتشظيات نردها لتصنع لنا أشكالاً عدة ولكل شكل مراكز التبئير لرؤاها والتي من خلالها تقوم بإنتاج الرؤى التي تربطها بواقعها كمعطى موضوعي يتجسد، ويتشكل عبر المتخيل، ويكتسب دلالات جديدة فتارة تعكس مرآة وجهها صورة المقام، الموسيقى) كي تجعلها ترقص وتتمتع بالحياة وتبني لنفسها معبداً وجنة ووطناً، وفي الأخرى تعكس صورة صلابتها وقوتها في مواجهة المصاعب من خلال اعادة ترميم الوجه الذي يتراءى لك حزينا وتلملم كل ما يجعلك تراه خراباً في جمال الطبيعة، وتعيد قلبها الى مكانه كي ينبض بالحياة بعد أن يجمع أوراق الخريف الصفراء من وجه الارض... وفي صورة أخرى تجسد صورة رمل الشاطئ الذي جمع بين أحضانه ذكريات جميلة وفي صورة أخرى (قصيدة) ترسم لنا صورة لشعاع شمس كان قد عانق طفولتها و...

من هنا نقول كان اختيار الشاعرة لعنونة مجموعتها موفقة كقراءة أولية للمتن، فالنرد هذه اللعبة البسيطة والتي تعتمد على الحظ من جهة وفي فن الرمي من جهة أخرى جعلت منها الشاعرة المنصة التي تتكئ عليها لجمع تشظي مراياها وتعقب انعكاساتها في مخيلتها كي ترسم لنا صورة شعرية بانورامية تتحرك أمامك كلما سرت خلفها... ولأن للنرد أوجه عدة هكذا تكون لصورها أوجه عدة فصورها الشعرية هي من نوع التي ترسمها لنا المرآة المحدبة وليست المسطحة كون صورها في حركة مستمر تجعلك تسير خلفها بتلهف كي تصطاد لؤلؤها وكما في قصيدتها (لستُ حزِينَة):

لست حزينة

أنا فقطْ أُرتِّقُ الرُوْحَ بماء السَّمَاءْ،

أُلَمْلِمُ خَيبَتِيْ... وأدسُّها في خَاصِرةِ اللَّحظَة،

و أغِيبُ عَنِّي فِيَّ

أُخْفِي كلَّ هذا الخراب عَنِ العُيون الَّتِي حَاصرَتْ بزوغ الشمس في عيني...

أتوهُ داخلِي

أتلمَّسُ حَوافَ النورِ

فأحترقْ

حيث تراها في قصيدتها هذه وكغيرها من قصائد المجموعة تتلاعب في تشظيات مخيلتها الشعرية فتسيل منها صورا عدة من خلال انعكاسات مرايا حجرة نردها المتشظية والمكونة لعناصر اللوحة التي يرسمها خيالها، حيث غاصت مخيلتها في عمق ذاتها المحملة بتجربة إنسانية فأستطاعت أن تستثمر مزايا النرد والمرآة بكل ما فيهما من رموز عكست لنا صورة الأنا في ذاتها لنرى فيها الآخر المتحد مع أناها مكونا بذلك الأنا الجمعية، كي تصبح صوتا داخليا يحث القارئ للسير قدما في قراءة نصوصها الأخرى، لذا تراها تكرر المفردة، لست حزينة) للتخفيف من شدَّةِ غلواء الصراع الداخلي الذي تعيشه الشاعرة، والتقليل من آثار جيشانِ إرهاصاتها النفسيَّة واحتدام تداعياتها الشعورية التي تواجهها كأي إمرأة في حياتها الشخصية سواءٌ أكانت تتعلّق بواقعها الذاتي الاجتماعي أم بواقعها المحيطي البيئي والجمعي في الوقت الراهن لذا تراها تكرر وتقول:

... لستُ حزِينـــة ولكن في رأسِي قطة انتهتْ من حَرْبٍ طويــــــلة...لستُ حزينة. أنا فقطْ مُحَاصرَةٌ بالذكرَى.. لستُ حزينة ولكن قلبي غادَرْ يلاحقُ ورقَةً صفْراءَ تــــاهتْ... لستُ حزينة ولكن القلبَ الذي غادَرْ ارْتَطَم بِطَريقٍ منْ جمرْ... لستُ حزينة ولكنّي أحبُّ الصمتَ...)

نجد إفرازات مخيلة الشاعرة وتشظياتها تجعلك تجري وراء لوحتها المتشظية كي تنقلك من مكان لآخر، وهذه التشضيات هي صور لصراعاتها الداخلية والقلق النفسي الذي يعاني منه الانسان والمرأة بصور خاصة وكما تقول في قصيدتها هذه:

لستُ حزِينـــة

ولكن في رأسِي قطة

انتهتْ من حَرْبٍ طويــــــلة

قطة تلعقُ جراحَها في صمت

تنزوي بعيدا عن أطفال الحيِّ المُشاكسين

تبرقُ في عينيها رغبةُ انتقام

ثم تخْمدُ عندَ أوَّل خُطوةٍ مِنْ قَدَمٍ مَكْسُورة.

وهكذا في قصيدتها، حضور) حيث تطرح عدة أوجه لحضورها من خلال انعكاسات الصور التي رسمها الرمل في مخيلتها وكما تقول:

(سلامٌ على الرملِ يعرفُ سرَّ الحِكاية ويعرفُ لونَ العُيونِ التي نَــامتْ على سَفْحٍ من دمُوع... سلامٌ على الرملِ يعرفُ لونَ الصَّباح ويرسمُ في الأفقِ بَحَّة ريْحِ صديقَــة... سلامٌ على الرملِ يعرفُ وجهَ القَصِيدة ويغفرُ لَها وَجَعَ الغيــابْ، ...)

الشاعرة تستخدم التكرار لتؤكد على أن الصورة هي انعكاس لذاتها وصراعها...

إن دراسة دلالة الصور التي تعكسها مراياها ما هي إلا توثيق للحظات فرحها وتوترها وقلقها، لما ينتابها من هاجس النزوع الى الزمن الجميل الذي ترسمه لنا من خلال ما تحلم به كاشفة لنا عن مآزق التصدع والانشراخ في ذاتها التي تحلم دائماً بعالم جميل خالٍ من كل وجه قبيح.

إنَّ الكتابةَ بلغةِ الحُلم والرؤية قد يُثري البنية العميقة من الدّلالاتِ الخفيَّة، ذلك لأنّ الشّاعرةُ تسعى إلى تعديلِ المُهشّم في نفسها من خلال طرحها لأوجه عدة لصورتها المتشظية عبر المرآة، وهي تدعوك إلى البحثِ والتأمل عن ذّاتِها الحقيقيّةِ التّي تسعى إلى تكوينها، وكأنها تعيش حلمها الإبداعيّ؛ لذا فإنّ التّعبير بلغة المرايا، قابلٌ للتماهي مع العوالم الخياليَّة التي تنتجها مخيلتها، من أجل خلقِ توازنًا نفسيًّا للذّاتِ، من خلال اللّجوءِ إلى حجر النرد والصور التي تعكسها مرآتها مكوناً صور عدة تُحقّقُ فيه رغبتَها الجامحة وكما تقول في قصيدتها، للاحتمال مزاج يقين):

لِنَتَفِقْ مُنْذُ البِدَايَة

أَنَّنِي لَا أكْتُبُ لَكَ

و أنَّكَ هَامِشٌ لِكُلِّ مَتْنٍ أَنْحَتهُ

مِنْ بُخَارِ الرُّوح

لِنَتَفِق أَنَّكَ لَمْ تَكُنْ يَوْماً هُنَا

و أَنَّنِي لا أَجْتَهِدُ أبَدَا في جَعْلِكَ صِفْراً

بَائِساً يَسَارَ كُل الأرْقَام الّتِي أَكْتُبُهَا

علَى خَطِ الوَجَع.

وفي قصيدتها (ورطة) وغيرها من القصائد تلعب السردية دورها لتجعل من قصيدتها هذه وكما في قصائدها الأخرى سيرة ذاتية تفصح الشاعرة من خلالهم عن مكنونها الداخلي لما يحمله مفهومها النصي من إيحاءات نفسيَّة مُثيرة وطاقات إيجابية تعبيرية تترك خلفها إيقاعية موسيقية قادرة على دغدغة نفسية المتلقِّي، لذا كانت وقائع تردها مرآةً عاكسةً لِمَا في الرُّوح الذاتية للشاعرة الظاهرة المتجلِّية والخفيَّة المُضمرة. إنها مرآة واقعها في الماضي والحاضر، واستشراف الغد المستقبلي الآتي لتقول لنا:

بين النُور و بيني ورطَة

تشبهُ الحُبَّ...

تُشبِهُ حُلما لذيــذا تسرّب خِلسَة

إلى القلبْ

نلاحظ القلق الشعري والإنساني حاضر في نصوصها التي وشحتها بأسلوب سلس وبصور جميلة مفعمة بالعديد من الأسئلة الغير مباشرة والمحيرة، بين رغبتها في تقمط جمال الحياة والطبيعة وما يقف في الاتجاه المعاكس لشل حركتها، لقد جاء النرد في قصائد الشاعرة فائزة بدلالات متشظية طبقا لما تعكسه مرآتها الداخلية معبرة عن الصراع والضياع فكانت لمراياها وظيفة سردية وتعبيرية معبرة عن الصورة الشعرية وهي توسع دائرتها لتنقل اِنعكاساتها الى أنا القارئ مثلما تتوسع دوائر الحجرة المرمية في مياه البحر وهي تحاول اِقتحام الشواطئ والأمواج.

ومن الجدير بالذكر أن الشاعرة اختارت عنونة مجموعتها من خلال تناصها على قصيدتها (أوشام على خاصرة الخيبة – مقام الغياب) والتي تقول فيها :

تلك الحفرة السوداء التي يسمونها

حظ

سَتسْحَب قلبَك

نحو

هاوية لعينة

يسمونها مجازا:

حُبْ !!!

وختاما أقول:

اِحتلت الصورة الشعرية مكانا أساسيا في تكوين شعرية نصوص الشاعرة فائزة أحمد خمقاني في مجموعتها هذه، لقدرة الصورة الشعرية على رفد اللغة بالدلالات العميقة، وخاصة عندما يكون الخيال الشعري هو البؤرة المركزية لكل نص شعري.

الشاعرة استثمرت بكفاءة العناصر الحسية في الطبيعة البشرية للقيام بإعادة تشكيلها وفق ما ترسمه لها مخيلتها من معان ودلالات فرسمت لنا بكلماتها الجميلة والرقيقة صور لمظاهر محسوسة عن طريق الاستعارة فمنحت المشهد سيلاً من الصور المتدفقة والجميلة وهي تشحنها بالمشاعر والأحاسيس والدلالات من خلال مزج رؤياها بالواقع مزجاً تخيلياً عميقاً.

فالمتخيل الشعري لديها يسعى إلى لملمة الصور التي تعكسها مرايا نردها فتتشظى داخل ذاتها وحيث تتصارع لديها كلا القوتين المتناقضتين، المادي والروحي) من أجل رسم صورة الأنسان الجميلة بما يتوافق مع تصورات ذاتها الداخلية، الأنا) مستعينة بمرايا نردها ففيها ما يوحي بالالتصاق بين رؤيتها الشاعرة وذاتها لذا جاءت نصوصها الشعرية محملة بالرقة والجمال وموفقة للتعبير عن أناها .

***

نزار حنا الديراني

يوحي للقارئ منذ الوهلة الأولى الى عنوان الكتاب او الرواية ان هنالك بعداً فلسفياً يتماهى مع العنوان، أو يتوارى خلف هذا العنوان بعداً درامياً مليء بالصراع الإنساني، أو كأن هنالك شيء يلامس القلب حال مطالعة العنوان، وهذا ما نجده في بعض الروايات او الكتب، ولكن في القليل منها.

تعتبر رواية بلد العميان للروائي البريطاني هربرت جورج ويلز الذي كتبها في عام 1904 هي واحدة من الروايات العالمية التي ظلت ترسم في الآفاق صدىً لا يزال يطفق على عالمنا السياسي والاجتماعي، والذي عُرف بكتاباته عن الخيال العلمي، ولا شك فأن روايته المشهورة (آلة الزمن) التي كتبها عام 1895، شكلت انعطافاً كبيراً في أدب الخيال العلمي حين صدورها.

إن جزءً من أسرار هذه الرواية، يسعى في النظر بين زوايا الانسان المخفية، التي تتصارع داخل الانسان في كل عصر وزمان، فتكون نتائج هذه الصراعات، ارهاصات تخرج لنا بتجربة إنسانية، هي من تراكم معرفي او نظري ليحدد شكل العالم الافتراضي، الذي ربما نعيشه في يوم ما، او كرؤية مستقبلية يحدد ملامحها المبدع في كتاباته، وإذا ما سرحنا في أغوار النص الروائي، لاكتشفنا في أبطالها شخصيات تماهي الواقع أو ما نعيشه اليوم في عصرنا الراهن.

إن رواية بلد العميان، التي ركز فيها جورج ويلز على عالم بطله (نيونز) الذي رماه قدره ان يقع بين مهاجرين تعرضوا الى طغيان الأسبان فهربوا منهم بحثاً عن الخلاص، إلا أنهم وخلال هروبهم ومسيرتهم الجماعية، تعرضوا الى انهيارات جبلية حجرية، مما عزلتهم عن عالم البشر، في واد عميق مجهول، في رؤية خيالية صنعها الكاتب الذي عرفناه في كتابته السابقة بأسلوبه المتقن في الخيال العلمي، ومن جراء ذلك، أصاب هؤلاء المهاجرين مرض وهو نوع من العمى ظلوا يتوارثونه جيلاً بعد جيل، ولأكثر من خمسة عشر جيل من الزمن، فيكتشف بطل الرواية (نيونز) فيما بعد إن هذه الأقوام غريبة الأطوار والعيش والتعامل مع طبيعة الحياة والتقاليد في كل تفاصيل حياتها، ولا يعرفون شيئاً عن نعمة البصر، وعندما يرميه القدر في العيش أو طلب الزواج منهم فيما بعد، وبين اقناعهم بالحياة وبهجتها، وإن هنالك شيء أسمه البصر او العين البشرية، إلا انه يفشل بأقناعهم فشلاً كبيراً.

لقد أراد هربرت جورج ويلز ان يمنح رؤيته العبقرية الى أهمية العقل وسموه في التعامل مع البشر مقارنة بالعين البشرية، لقد أراد ان يرمي بإسقاطاته على روايته، فهو يريد ان يقول عندما تكون انت العاقل في زمن يراك الآخرون مجنوناً او ان تكون صاحب البصر والبصيرة في مجتمع جاهل أعمى.

فهو يسعى لتكريم العقل البشري وقدسيته ليعطينا دلالة واسعة وواضحة بقدرته واهميته الذي من خلاله يفرق الانسان بين الخير والشر، والحقيقة والخيال، والخطأ والصواب،.. هنا يحاول الكاتب بتوظيف عالٍ الدقة والصياغة الفنية، ان يسقط أفكاره المستقاة من الكتب السماوية التوراة والانجيل والقرآن، عن الأقوام التي تعرضت الى غضب إلهي، ولكن بتحوير في بناء النص الروائي، وهنا يكمن التحوير التقني الدرامي بين أسطر البناء الروائي ليعطي بعداً لحبكة الصراع وذروته كلما تقدمنا في ثيمة النص.

فيمنح بطله (نيونز) في الرواية الذي عاش صراعاً داخلياً بين ان يظل على قناعته بقبول الواقع الذي يفرضه عليه بالتخلي عن بصره بين هؤلاء القوم من العميان، الذين ولدوا من سلالة من أجيال متعاقبة عُميان، أم ينصاع إليهم لما أرادوا منه بقلع عينيه مقابل الزواج من (مدينا ساروته) التي أحبها.

فالعمق الدلالي الذي يقتنصه الكاتب في شخصية الانسان الذي يعيش بين عالم غير طبيعي او غير مألوف وخارج عن قياسات الزمن، وعالمه الحقيقي الذي هو عاشه، إنما يسعى للوصول الى المعادل الموضوعي مع الحياة الحديثة التي يعيشها الانسان، فيعطي لنا صور مقاربة لما نصارعه نحن في حياتنا المعاصرة.

فالرواية تبحث بعمقها الفني والدراماتيكي عن أشياء تتشابه أو تكاد تتطابق مع ما يعيشه الفرد اليوم في مجتمعاتنا على كوكب هذه الأرض، لقد سعى جورج ويلز أن يغوص في رمزية ابطاله ويحاول ان يؤول الواقع الذي كان ينظر اليه نظرةً متشائمة، وهو الذي عاصر أكبر حربين عالميتين الأولى والثاني في تأريخنا المعاصر.

فإذا أردنا اسقاطها على واقعنا الاجتماعي، لنجدها تعبر عن ضعف الحق أمام الباطل، عندما لم يجد الحق من ينصره في عصرنا الراهن، وما تعيشه مجتمعاتنا اليوم من اضطرابات تفرض عليها بالإكراه كما هو الحال مع بطل رواية بلد العميان.

فهي رواية الفلسفة التي تبحث في صراع الحياة، وليس المشكلة بالعمى الذي يصيب العيون، إنما العمى الذي يصيب القلوب والنفوس، وبالتالي فهو نتيجة الجهل الاجتماعي الذي يتقبل الخطأ على أنه هو الصواب بعينه، أو عندما يجد الجهل الأرض الخصبة التي تمنحه النمو والانتشار السريع وتقبله العقول الجوفاء.

فالجهل هو من يقود للتيه بالمجتمعات، إذا ما تخلت عن عقولها وهي تجري وراء اللامعقول، لقد أراد الكاتب ان يبعث فكرة رائدة الى كل مجتمع جاهل ومتخلف وتسوده الفوضى والفساد السياسي، فضلا عن انتشار العنف والطائفية والقبلية فيه.

بلد العميان هو كل مجتمع يسوده الجهل والفوضى والفساد والتخلف والفقر والعنف والتعصب بسبب أفكار مدمرة وهدامة، ومُهيمنة عليه، أو دعوة تنويرية تواجه برفض وريبة وعنف.

إن الأسلوب الذي قدمه هربرت جورج ويلز في هذه الثنائية العالية بين العمى ونعمة البصر ومنحهما قوة أدبية في جسد الرواية، إنما لتعبر عن النزاع القيمي والثقافة الإنسانية، فالكاتب يخفي وراء النص الروائي بعداً آخر، ألا وهو ان الانسان الأبيض الذي يعنيه بالرجل الأوربي، هو منقذ البشرية على كوكب الأرض، وهو القادر بحكم تمكنه (كما يرسمه لنا الكاتب) من قدرات تتفوق على الجنس الآخر من البشر، وهو يستطيع التغلب على معظم الصعاب كما هو الحال في الرجل السوبرمان وغيره.

لقد لعب كتاب كثيرون على هذه اللعبة بتورية فنية، توزعت بين الرواية او القصة او الدراسات الفلسفية والإنسانية، بتوظيف قيم غربية، وبسط مفاهيم القدرة العقلية من الذكاء على بقية الشعوب الأخرى بدول العالم الثالث..

ورغم ما يقدمه الكتّاب بكل الفنون الإبداعية، لابد من الأخذ بعين الاعتبار، إن الفن والادب كثيرا ما يوازي في طروحاتهم بعداً فلسفياً يتوارى بين دفتي الرواية، لكن ما أراد هربرت ويلز أيضاً، ان يرمي على روايته ليقول: عندما تكون انت العاقل في زمن يراك الآخرون مجنوناً أو ان تكون صاحب البصر والبصيرة في مجتمع جاهل أعمى، فهي أسقاط على واقعنا الاجتماعي الذي يعيشه عالمنا المعاصر، فليس العمى عمى العين، إنما هو العمى عمى القلوب، وبالتالي يجعل الانسان جاهلاً فيضيع المجتمع حينذاك بجهله وفوضاه.

***

د. عصام البرّام

 

يعتبر موضوع المراة من أبرز الموضوعات التي اهتم بها الأدب العربي ومن هنا كانت القصة وخصوصا الواقعية الأقدر على رسم شخصيات تعكس صور المرأة بحيث تكون أقرب من الحقيقة ومن الواقع الإجتماعي.

ومن هنا فقد تطرقت مجموعة وداد أبو شنب، من إصدارات الآن ناشرون وموزعون/2021،  إلى إثارة قضايا متعددة تخص المرأة بدءا من موضوع الأسرة وانطلاقا من الزواج مرورا برصد العلاقة بين الزوجين والأبناء وانتهاء إلى ما قد تؤول إليه هذه العلاقة من انفصال وغيره. كما عرضت موضوعات أخرى تخص المرأة مثل العنوسة ،الخيانة ،تعدد الزوجات ،كبت حريتها بأغلال العادات البائدة. وبالرغم من أن المتلقي يلمس من الكاتبة تعاطفا ضمنيا مع المرأة إلا أنها جعلت لصوت الرجل حقا ففردت له مساحة ضمن مجموعتها لسنا بصدد الحديث عنها في القراءة التي بين أيدينا.

وقد تعددت صور المرأة في هذه المجموعة فجاءت لتلامس وتحاكي الواقع. فأظهرت من خلال تلك الصور مواطن معاناة المرأة كالأرملة والمطلقة والوحيدة والمستسلمة العاقر وغيرها الكثير من الصور نستعرض بعضها في هذه القراءة.

جسدت وداد أبو شنب صورة الزوجة الباهتة المستكينة والمغلوبة على أمرها في شخصية أم علقم في القصة الموسومة ب (أم علقم) فعلى لسان الساردة عن أم علقم التي كانت مثالا للمرأة الشرقية التقليدية ص101( كانت تخفي قهرها العائلي عن الجميع بابتسامتها البسيطة ،وإن ظهرت أحيانا أمشاج الحزن التي تغلغت مع العمر وأصبحت جزءا من تجاعيد وجهها). فأم علقم ذات شخصية مستسلمة لواقعها لا تحاول التمرد حيث الزوج ميسور الحال يكدس أمواله تاركا إياه لتعمل في بيوت الناس قانعة بحرمانها. إلى صورة المراة المهشمة من طرف الزوج حيث أنها ليست من ضمن دائرة اهتمامه وقد جسدتها في شخصية بطلة القصة الموسومة ب (الحلم الأخير) التي لم تمنحها الكاتبة اسما ربما لتعمم القضية. فعلى لسان الساردة عن البطلة وهي تتوجه بصحن الفاكهة حيث يجلس زوجها فتتمنى منه كلمة حلوة أو لمسة يد تشعرها بحنانه ص21( أخذ التفاح من يدها بصمت ،ودون أن يلتفت إليها....قررت النوم واللجوء إلى أحلامها حيث تلتقي زوجها الحنون...حققت كل ما أرادته ورحلت في هدوء،دون جلبة ودون اعتراض). فإهمال الزوج وبروده مع زوجته وعدم مبالاته بها صنع عندها فجوة عاطفية جعلتها تلجأ إلى الهروب من الواقع إلى النوم من أجل أن تعيش الحلم. فتسبب بموتها. وقد ذكرت الكاتبة إلى طريقة رحيلها التي كانت صامتة ودون اعتراض فكانت بمثابة دعوة للمرأة أن ترفض هذا الإهمال فتعترض وتتمرد.

كما جسدت ألوان الاستبداد والتعاسة التي تعانيها المرأة في بيئة تحكمها التقاليد القديمة فصورت لنا الكاتبة صورة المرأة المسلوبة الإرادة التي فقدت حريتها أمام مظاهر التسلط الذكوري من اختيار شريك حياتها. فالبطلة حياة في القصة الموسومة ب(حياة؟!) التي تعيش في أسرة، الأخوات فيها خادمات للأخوة الذكور. أسرة ترفض التنوع في الزواج. فتعشق زميلها البدوي في الجامعة وتعلن تمردها بالرفض بعد أن يقرر الأب تزويجها قسرا لتنتهي القصة ص104(شعرت حياة بشر قادم،أو بخير عارم،لا خير بعده وشربت الكأس كلها وهي مدركة تمام الإدراك أنها آخر ما تشربه في هذه الدنيا..). وبهذا الاستسلام من طرف البطلة المسكونة بالحلم يأتي الموت لينتزع منها فرصة الحياة التي حلمت بها.وهنا تتجلى لنا صورة البطلة الحالمة المتمردة ثم المستسلمة التي تقبلت الموت وهي تعلم، حيث تعلن الكاتبة إخفاق حياة في إسماع المجتمع صوت قلبها واختيارها لأنها تحمل استعدادا مسبقا للخضوع.

كما رصدت لنا الكاتبة صورة المراة المكتئبة في القصة الموسومة ب(اكتئاب ما بعد الولادة) فالبطلة تصاب باكتئاب ما بعد الولادة وسط واقع يرفض هذه الحالة ولا يتقبل أعراضها التي تصاب بها المرأة من قلق وخوف. فبطلة القصة تنفر طفلها مرة ثم تبالغ في اهتمامها به وسط انتقاد الزوج والحماة ويتضح هذا ص56 عن البطلة على لسان الساردة (خوف من الرضيع وعليه كان يقودها إلى قمة الجنون.جعلت الجميع ينفر منها).

وتأخذنا إيفا إلى الأم العجوز التي أخبرت بطلة القصة الموسومة ب (بالعكس..عابرة سبيل) والتي اجتمعت بها في عيادة الأسنان بعد حوار دار بينهما أنها تبدد وحدتها في عيادات الأطباء وصالونات التجميل. فهذه الأم التي أنجبت وربت ولها أبناء وأحفاد وأفنت صحتها وحرمت نفسها من الملذات من أجل الأبناء باتت تعاني الوحدة وتخافها ويتجلى هذا بما أفصحت عنه للبطلة بقولها ص43( كان بودي أن أمررك قبلي أيتها العابرة،لكنني أخاف البقاء وحيدة في فراغ قاعة كبيرة).وفي نفس القصة يتجلى عالم المرأة الإبداعي حيث جعلت من البطلة كاتبة لتفسح المجال لحروفها بأن تتفجر من بواطنها فتخرج كالماء الزلال الذي يشفي من الآلام فتكون الكتابة هنا بمثابة العلاج من تلك الآلام التي تضعفها كأنثى لتنطلق كأقوى عنقاء.

وإيفا متنوعة متجددة كتنوع وتجدد المرأة لذلك نجدها تعري المرأة من ضعفها وخنوعها وتأخذ بيدها لترفض الخنوع لواقع يسلبها كرامتها وحقها في الاستمتاع بالحياة فنجدها في القصة الموسومة ب (كعكة الطلاق) تلك المرأة القوية التي تتمرد على التقاليد فتصنع كعكة الطلاق ثم تهاتف طليقها ليأخذ أغراضه ففي ص32 على لسان الزوجة لطليقها بعد أن أحضرت جرة من المطبخ (الله معك! وكسرت الجرة خلفه لتخلق بداخله رعبا وذلا يسمانه ما عاش على هذه الأرض...أغلقت الباب ونادت أطفالها وقالت فلنحتفل بكعكة الحرية). وهنا نجد البطلة وقد تخففت من ذلك الزوج الذي كان يسلبها حريتها بالتمرد على المجتمع وتقاليده.

ثم تنطلق بنا إيفا إلى قصة (همس القواقع) لتكشف لنا عن صورة المرأة الحالمة العاشقة والمحبة التي سرعان ما تدمجنا معها لنرافقها في أحلامها وعشقها فنتوه في همس قواقعها كما تتوه هي ومنها تنقلنا إيفا إلى صورة المرأة الباحثة عن الذات فنجدها في قصة (مفهوم خاطئ) لتقول لمن مارس عليها سطوته الذكورية بعد أن ظنها انساقت له فكان المدار الذي قيدها ولن تخرج عنه يوما ص90 (أنا الكوكب الدري، أنا مداري).

لقد رصدت وداد أبو شنب الكثير والكثير من صور المرأة في قصص واقعية كل واحدة منها تحتاج إلى قراءة كاملة منفردة.

بقي أن نقول بأن إيفا كشفت عن مرجعية ثقافية غنية بالمعرفة الخلفية الزاخرة بكم معرفي أدبي،فني وعلمي استطاعت وداد أبو شنب أن تصهرها في مجموعة سردية موحية أبدعت في كتابتها بقصد إيصالها كرسالة مهمة للمجتمع.

***

قراءة بديعة النعيمي

تَقديـمٌ: إذا كان  الشِّعر العربي التراثي القديم يُشكلُّ الشغلَ الشاغلَ لنفوسِ كثير من جمهور النَّاسِ؛ كونه (ديوانَ العربِ)، وسجلهم الأدبي المالئ لِمِساحة حياتهم اليومية، فضلاً عن أنَّ العَرب أُمَّةَ خطابٍ بلاغيٍ مكين، فإنَّ المقابل لهذا الشَّاغل الكبير لفكر المتلقِّي حديثاً في هذا العصر هو السرد النثري. أي عصر السرديات بمختلف أجناسها اللَّونية، وعلى وجه التحديد الرِّواية والقصة القصيرة جدَّاً التي تتطَّلب من كاتبها العليم حذاقةً فنيَّةً شديدةً وتقنياتٍ إنتاجية عاليةً ذكيةً في الإبداع والإمتاع.

فهذا هو عصر الرِّواية، عصرُ التَّحوِّلات الأدبية الإبداعية والمتغيِّرات الفنيَّة السريعة التي تلامس بحقٍّ حياة الإنسان العربي المعاصر، وتلبِّي جزءاً من احتياجاته الفكرية والجمالية المُلحَّة وهمومه. مثلُ هذا الاهتمام اللَّافت بالسَّردياتِ، ولا سِيَّما القصة القصيرة مكَّن كُتُّابها ومبدعيها إلى التَّفَنُّنِ في التنوِّع بأساليب كتابتها، فـ (الأسلوبُ هو الرَّجلُ)، أي الكاتبُ، كما يصفه الفرنسي جورج بوفون.

وعلى وفق نسق هذا التأسيس الجمالي الإبداعي فقد تعدَّدت أساليب الكُتَّاب في السرد القصصي إلى أربعة أساليب رئيسةٍ بالغة الأهمية: أسلوبٌ غنائي ذاتي وجداني، وأسلوبٌ ساخرٌ تَهَكُّمي، وأسلوبٌ سِيرِي ذاتي أدبي عُرِف بمصطلح (اليوغرافيا)، وأسلوبي دَراميٌّ بَصَريٍ أقرب في مفارقاته الحدثية إلى التمثيل بوقع محاكاته الفعليَّة وحركية شخوصه الفواعلية المرتبطة بوحدتي الزمان والمكان التي حدَّدها رولان بارت عناصرَ رئيسةً للسَّرد الحِكائي، خاصَّةً في كتابة الرّوايات السَّرديَّة.

1- الأُسلوبُ الغِنائي الوجدَاني:

الأسلوب في الحدث السردي الطويل، ولا سِيَّما في (الأدب الوجيز)، أدب القصة القصيرة جداً يشكلُّ فنيَّاً مهمازاً ضوئياً لافتاً من خلال فضاءات بنيته اللُّغوية التي تكاد تتميَّز بأنَّها بنيةٌ شعرية تقترب كثيراً في سيرورة خطابها الموضوعي السَّردي إلى الغنائية في دلالتها الذاتية الوجدانية. وعلى الرُّغم من أنَّ شِعرية الصيغ الغنائية تحتلُّ أهميةً بالغةً في التَّحكُّم بِلغةِ النسيج السَّردي القصصي، فإنَّها لا تقع في حبائل شباكها الشعريَّة الغنائية الوجدانية البحتة المعروفة أدبيات الشعر العربي القديم الحديث على حساب سردية النصِّ الحكائي الحدثي الفعلي للقصة أو الروايَّة.

وهذا المشترك الأُسلوبي الفنِّي يجعل من القصِّ الذاتي القصير الذي يعتمد على تجارب ذاتية في أغلبه، يلتقي في بؤرته الغنائية وثقل مادته الرئيسة بعناصره المشروطة، وأعني بذلك، التكثيف، والاختزال أو ما يُعرف بالاقتصاد اللُّغوي، والاختيار، والإيحاء، والترميز، وتقنية الانزياح اللُّغوي الدلالي النصِّي التعبيري، والمفارقة الإدهاشية الماتعة، وجماليةُ حُسْنِ قفل خاتمةِ النهاية الصادمة.

وإنَّ الاحتفاء بالذات القصصية يندرج فنيَّاً في النقدية السردية الحديثة تحت ما يسمَّى بالأسلوب الغنائي الوجداني الذي يمنح الذات السرديَّة قدراً كبيراً ومُهمَّاً من جماليات الروح مع نظيرها الآخر. ويرى الدكتور صلاح فضل أنَّ الأسلوب ذا الطابع الغنائي، "تُصبِحُ الغلبة فيه للمادة المُقدَّمة في السرد حيث تتَّسق أجزاؤها في نمطٍ أُحادي يخلو من توتر الصراع، ثُمَّ يعقبها في الأهمية المنظور والإيقاع" (1). ومعنى ذلك أنَّ الذات السَّردية الوجدانية مصدر صناعة الحدث وموئله هي الصراع الذاتي الداخلي بعينه، وأسلوبية الإيقاع الفنَّي التعبيري للوحدات السردية الموضوعية.4844 مجموعة كتب

ومن النماذج القصصية الهائلة الأكثر نضجاً وإمتاعاً في التدليل على نسق غنائية الأسلوب الوجداني في التعبير عن وقع فعليتها الحدثية الذاتية نصًّ قصة(هَزيمةٌ) للكاتب الرائد القاصِّ  حنون مجيد الذي تغنَّى بواقعة هزيمة بطله في هذه الأسطرة التي شَعَّرَ فيها لغةَ السَّردِ تشعيراً ورسمَ حدودَ تلك الهزيمة على خريطة مجسَّاتها الغنائية، فترجمَ صراعها الذاتي بهذه الزفرات السَّردية المتنامية:

" تَمتدُ صَحرَاؤُهُ بِلَا حُدُودٍ..

عَلَى يَمِينِهِ خَلَاءٌ مُوحِشٌ كَئِيبٌ..

وَعَلَى يَسَارِهِ جِدَارٌ مَشرُوخٌ آيلٌ لِلسُقُوطِ؛

تَتَقاومُ عِندَ قَاعِدَتِهِ ظِلالٌ آخذَةٌ فِي الاِنحِسَارِ.

لَا مَهرَبَ مِنْ شَمسٍ مُحْرِقَةٍ تَشتَدُّ حَرَارَتُهَا وَتَلْهَبُ جَسَدَهُ كُلِّ آنٍ..

لَا مَلَاذَ وَلَو إلَى حِينٍ .. قَالَ:

ضَمَّ رَأسَهُ بَينَ يَدَيهِ..

وَاِرتَمَى تَحتَ الجِدَارِ ! (2) "

فالقاص حنون مجيد لا يسعى جاهداً في انثيالاته السردية إلى تتابع الوعي الحدثي لبطل قصته بهذا المنظور الغنائي الوجداني فحسب، بل  يهبُ محيطه الخارجي وعالمه المتحرك بهذا التوصيف الحكائي القصي المتنامي في تصاعد الحدث وارتباطه بقوى الطبيعة المتحركة في الخفاء والتجلِّي.

ونذهب إلى رائد آخر من روَّاد القصة العراقية القصيرة الحديثة، ذلك هو القاص البصري العتيد محمَّد خضيِّر ونستغور أعماق أسلوبيته الوجدانية في قصته (حكايةُ المُوقدِ) التي هي إحدى مدوَّنات مجموعته الأثيرة (المملكة السوداء) الدالة بعتبتها النصية على ثيمة رمزية نصَّها الموازي للواقعة الحدثية. وبالتحديد نستدل بمفتتح هذه الحكاية التي جعل الكاتب ختامها دليلاً تعضيدياً لمطلعها لمن يودُّ جواباً متسائلاً في سماع حكاية موقد أخرى. فلنبحر في يمِّ  أسلوب خضيرالغنائي الانزياحي:

" لِكُلِّ مَساءٍ حِكايةٌ. حِكايةٌ وَاحدةٌ. فِي أَولِ المَسَاءِ -عِندَمَا تَسكِتُ عَصافيرُ البَردِ عَلَى سِدرَةِ البَيتِ، وَتَكفُّ طُيُورُ (الدَّرَّاجِ) فِي أَحرَاشِ الحَلْفَاءِ خَلفَ البَيتِ عَنِ النَّداءِ المُنَغَّمِ- تَأتي الجَارةُ المُقوسَةُ الظَّهرِ، الَّتي تَحملُ نُدبَةَ (خُزَامَةِ) فِي أَرنبةِ أَنفِها اليُمنَى، وَتَدْلِي قَصيبَةٌ رَخوةٌ بَيضاءُ مِنْ طَرَفِ فُوطتهِا، تَرتَخي بَشرةُ وَجهِهَا، وَقَدْ انمحَى حَاجبَاهَا (يَا لِجنياتُ الجَنوبِ! أَيُّ وَجهٍ رَقيقٍ بِلونِ التُّرابِ تَمِلكُ!)، وَلَو كَشَفتْ عَنْ أُذنِهَا اليُسرَى ؟ لَأصبحَ فِي الإمْكَانِ مُلاحظةُ الفَجوةِ الَّتي تَركَهَا القِرطُ الثَّقيلُ فِي شَحمَتَهَا (قَالتِ الجَارةُ: فِي مَساءٍ مَا، بِأنَّها كَانتْ تَضعُ قِرطينِ مِنَ الفِضةِ العَتِيقةِ، وَأنَّ أَحدَ القِرطينِ  كَانَ ثَقِيلاً فَاقتَطَعَ جُزءَاً مِنْ أُذُنِهَا حِينَ سَقَطَ فِي (الشَّريعَةِ) الَّتي كَانتْ تَغَسِلُ فِيهَا حَضَائنَ اِبنِ مَخْدُومِها الضَابطَ العِثمانِيِّ (3)".

هكذا يمضي القاص البصري الجنوبي محمَّد خضير بنسغ أسلوبه الوجداني الصوري الذاتي الساحر في وضع اللَّمسات السردية والتقنيات الفنيّة والجمالية لحكاية شخصية بطلة قصته الخادمة المرأة العجوز التي منحها منقبة جنيات الجنوب في إظهار شخصيتها وديمومة حركتها في جٍّو معماري بيئي يزدان بعناصر الطبيعة الجنوبية البَصْرِيَّةِ الغنَّاء. والتي أرَّخ ارتباط مكانها وزمانها إبانَّ العهد العثماني من خلال الشخصية الهامشية الضابط العثماني المتولي لأمر المدينة الجنوبية.

فالقاص البصري حين يقول في مفتتح مدونته القصية: (لكلِّ مساءٍ حِكايةُ. حكايةٌ واحدةٌ في أول المساء)، وتحديدا للزمن في بدء المساء، فهكذا تقصيص محدَّد يُحيلنا إلى أجواء تراث (ألف ليلة وليلة)وسحر تأثيرها على مخيال الكاتب، وبالذات حين يكون المؤثِّر إشارةً إلى مثيولوجيا شهريار وحكاياته الليلية الأسطورية مع شهرزاد بطلة الألفية، وإن اختلفت رؤى المضمون السردي لكلتا الحكايتين، لكنْ لكل مساءٍ أو ليلةٍ حكايةٌ، وأيَّةُ حكاية عذبة تنماز عن وقع مثيلتها السردية الأخرى؟

وللتدليل على فاعلية الأسلوب الغنائي، نقرأ بتأمُّلٍ ما كتبته القاصَّة الكربلائية المثابرة أمل حمزة خضير نصَّ قصتها (مُعاناةٌ) التي وردت ضمن مجموعتها القصصية (نَحيبُ المَقصَلَةِ) الدالة على  ثيمة عتبتها العنوانية الفنيَّة. ذلك النصِّ الذي هيمنت فيه ترانيمُ النّبرةِ الشعريَّة الأنوية على وقع خطى الّسَّرديَّة بأسلوبها الغنائي، والذي وظَّفت الكاتبة حكايته الواقعية على لسان فتاة تُعاني الوجع الإنساني الكبير. فجاء الخطاب النصِّي التسريدي مُعبِّراً عن تجلِّيات عتبته العنوانية الدالة على وظائفه الأربع التي وضعها (جيرار جينيت) له بمدونته، وهي:(التعينية، والوصفية، والدلالية الضمنية المُصاحبة، والإغرائية). فلننظر إلى ما تُسطِّرهُ هذه القاصة الواعدة بِجدَّة القصِّ القصير:

"خَرَجَتْ تَحتَ عَبَاءَةِ اللَّيلِ، تَوَجَّهتْ نَحوَ بَيتِ أَحدِ وُجَهَاءِ الحَيِّ وَأَغنِيَائِهِ،

وَانْتَظرَتْ طَوِيلَاً حَتَّى اِنطَفَأَتِ الأَنوَارُ وَأُسدَلَ الظَّلَامُ سَتاَئِرَهُ؛

أَسرَعَتْ لِمِكَبٍّ النِّفايَاتِ لِتَجمَعَ بَقَايَا طَعَامٍ تَسُدُّ بِهِ رَمَقَ أَيتَامِهَا (4)".

إنَّ ما يميز الأسلوبية الوجدانية لقصة (معاناة) أنَّ بطلتها امرأة من الوسط الاجتماعي الذي يعاني آثار الفقر والفاقة والحرمان الدائم. فهي على الرغم من ذلك العوز الطبقي تُغضي حياءً ومهابة خشية أن يفضح سرها الحالي ضوء النهار وتتكشف حقيقتها الإنسانية في شعورها بالعدم  وحاجتها في جمع النفايات من أجل أن تحيي بها آيتامها الذين ينتظرون عودتها لسدِّ رمقهم إثر الجُوع الكافر.

2- الأُسلوبُ الساخرُ المكينُ:

إيجاباً قد تنحرف بوصلة الأُسلوبيَّة القصصية المعاصرة عن حركة مسارها الإبداعي المألوف إلى خطِّ نَجْدٍ أسلوبي آخر أكثر نضجاً وتقدُّماً وجمالاً وبلاغةً في منظور الخطاب السردي؛ كون لأسلوب الانزياحي الدلالي الجديد يعتمد في بنيته النصيَّة الحدثية على فنِّ السخرية اللَّاذعة المُرَّة ولُغة التَّفكيهِ والانتقاد الحادِّ الذي يُشخِّص بدقةٍ غيِر مُباشرةٍ مواطنَ الخللِ البائن، وبواطن المقموع والمسكوت عنه من التابو السِّياسي أو الاجتماعي أو الاقتصادي أو الدِّيني للواقع المعاش. كما ويستحضر فقاعات تمظهراته المُنتفخة، ويستجلي آثارَ سَقمِ عُيوبه المرضية المتفشية غير السَّويَّة.

تلك هي المصادر والأنساق الظاهرة والخفيَّة التي استأثرت باهتمام عين المبدع الثالثة وألقت بظلالها القصصية المثيرة على مرآة تفكيره العاكسة لصورها. مما كان لها في وعيه الثقافي وحسِّه الأدبي نصيبٌ وافرٌ وحظٌّ من صور الاستهجان والسخرية والتحقير والتصغير والرفض والاحتجاج في بلاغة خطابه السَّردي عبر أثير مجسَّات قصِّه اللَّاذع؛ لتتصيَّر صوراً كاريكاتوريةً و(إيموجية) حركية قصيَّة معبِّرة عن رفض هُويَّة الواقع المعيش، ومُعَرِّيَةً حقيقتهُ للخروج من عنق الزجاجة المقيَّد إلى واقع جديد حُرٍّ مُغاير في مِساحته التعبيرية لِجَلدِ ذاته الآيدلوجية المعطوبة بهذا الساخر.

فمثل هذا التسريد المائز عذوبةً في تركيبه اللُّغوي المكين يُسمَّى بالأسلوب الساخر في واقعيته السحرية، والذي يعشقه الكاتب النابه ويتبنَّاه موقفاً دفاعياً وسلاحاً هجومياً ناجعاً؛ كونه أسلوباً جزئياً نابعاً من شخصيته الوجودية التي تقدِّسُ الحريَّة والتَّحرُّرَ والاستقلالية. التي وجدت في هذا الأسلوب الفنِّي وسيلةً صوريةً نقديةً لاذعةً من خلال صناعة الضحك والاستهزاء المبطن لعيوب الواقع المُشين.

أسلوب السُّخرية، أحدُ أساليب العصرنة السردية الهادفة غير المباشرة التي تُظهر بأيقوناتها المعايب والهنَّات الأخلاقية والسلوكية المُستهلكة لحركة المجتمع وسير الأنظمة السيادية الحاكمة. واعتمدَت سخرية النسق القصصي على أسلوبيَّة المُحاكاة في معالجة الأمور المستعظمة الكبيرة، والتعريف بها من خلال آليات الأُسلوب الفنِّي الكاريكاتوري الذي يصل كثيراً إلى حدٍّ المبالغة والتسخيف والإذلال في إظهار صور المنق في إظهار صور المذموم أو المنقود بالصفات السلبية.

وقد يتَّخذ الحدث الموضوعي الأسلوبي القصصي الساخر من التَّنَدُّر وسيلةً من خلال التَّلاعب بالألفاظ وإناطتها معانٍ غير معانيها الأصيلة للنَيلِ من جوهر الحقيقة المغيَّبة والمسكوت عنها عمداً. ويحدث هذا كلُّه عبرَ إيجاز الفكرة وتكثيفها أو الإضاءة إليها، مما يُخرجها عن هدف موضوعها الحقيقي لمعناها الأصلي؛ لغرضٍ إصلاحها أو ترميمها عبر تسريد آليات الذمُ أو الهجاء المُقذِع بِها.

ومن نماذج مختاراتنا القصصية القصيرة الدالة بجمالياتها اللُّغوية السردية على فنيَّة هذا الأسلوب التهكمي الساخر قصة (مُحلِّلُ سياسي)، لِضَاري الغَضبان الذي يرصد فيها صورة عقابيل الواقع السياسي المعيش المرتهن بطريقةٍ ساخرةٍ مُؤثِّرةٍ ومستهجنةٍ، والذي وصل فيه هرم الفساد إلى رأس المُحلِّل السياسي نفسه، أي كاشفُ أُسَ الفسادِ فاسدٌ تحت مظلَّة المَستور المغيَّب. فلنتأمَّل التقاطات عدسة عين الغَضبان البَصريَّة وما تحكيه من مفارقات صورية عجيبة تُلامس حركة الحياة الجديدة:

" ظَهَرَ المُحلِّلُ الاِستراتِيجِي عَبرَ الشَّاشةِ عَلَى الهَواءِ مُباشِرَةً، وَهوَ أَنيقٌ بِبدلتهِ وَرَبطةِ عُنُقٍ حَمرَاءَ، وَقَميصٍ بَنفسجيٍ، وَكَانَ يَنتقِي كَلماتِهِ بِدِقَةٍ، وَخَلفهُ سِتَارَةٌ بِأَزرَارٍ جَميلةٍ بَراقَةٍ... تَكَلَّمَ عَنِ الاِستراتيجِيةِ وَالتَّكتيكِ، وَتَلاقِي الحَضَارَاتِ، وَتَلَاقُحِ الأَفكارِ، وَأَزمَاتِ المَاءِ وَالبِترولِ، وَنَبَّهَ لِمستقبلٍ غَامضٍ، وَحَذَّرَ مِنْ مَغَبَّةِ عَدَمِ الاِنتباهِ لِرُؤاهِ...

قِطَّةٌ مَلعونَةٌ سَوداءُ دَخَلَتْ مِن  خَلفِ المُحلِّلِ، فِي البَدءِ أَهملَهَا وَأَكمَلَ تِلاوَةَ رُؤاهِ التَّحليليةِ السِّياسيَّةِ؛ لَكنَّهَا دَارَتْ وَتَكَرَّرتْ حَركَتُهَا المُقلِقَةُ لَهُ، وَيَبدُو بِأنَّهَا تُطَاِردُ فَأْرَاً، فَأَزعجتُهُ بِتَحريكِ السِّتارَةِ، وَلَمْ تَنفعْ مُحاولاتُهُ بِمِسكِ السِّتارَةِ بِيَدِهِ، فَسَقَطَتْ وَبَانَ كُومُ القُمَامَةِ خَلفَهُ! فَاِرَتَبَكَ وَتَحَرَّكتْ الكَامِيرَا؛ فَظَهَرَ الرَّجُلُ دُونَ بِنطَالٍ ! وَبِلَا مَلابسَ دَاخليةٍ (5)".

ولا أدلُّ على فنيَّة التعبير الأسلوبي السردي الساخر المكين ما كتبه القاصَّ الساخر بامتياز محمَّد سيِّد كرم الموسوي في نصِّه القصصي الموسوم  بـ(تَبعيَّةٌ)، الذي تماهى فيه مُتندِّرَاً بأسلوبه الساحر الرصين مع واقعة الاقتصاد الوطني المحلِّي الذي لم يتحرَّر من قيود تبعيته الأجنبية الدَّوليَّة، والمقصودة موحياته السيميولوجية بتدمير بنيته الداخلية وتعطيلها من خلال عجز مدخلاته الداخلية، وربطه خارجيَّاً بتبعية مخرجاته. فلننظر بإمعانٍ إلى ما تقوله إضاءةُ السيِّد كرم الساخرة ونقرؤها:

" بَعدَ أَنْ أَكمَلَ الخَبِيرُ الاِقتصادي مُحاضَرَتَهُ، دُعِيَ إِلَى وَلَيمَةٍ، كُلُّ مَا فِيهَا مُستورَدٌ، بَعدَ سَاعَاتٍ أَخرجهَا مِنْ جُوفهِ صِناعَةً مَحليّةً بِامتيِازٍ (6)".

بهذه الروح الإنسانية الساخرة يؤطِّر السيِّد كرم ألفاظه ومعانيه الدلالية بصبغة انتقادية لاذعة في كسر توقُّع خطوط المألوف الاعتباري؛ لينتج منه رؤاه السردية لا لغرض الإمتاع والدهشة فحسب، بل لإصلاح منظومة الفساد وعرضها على المتلقِّي الواعي لمحاربة آفة الواقع المعطوب واجتثاثه. ولنأخذ صورة أخرى من صوره السروديَّة الماتعة، نصَّهُ(أولياءُ الخُبزِ)الذي حَمِلَ اسمَ المجموعةِ:

"يَوَم سَقَطَتِ الدَّولةُ بِضَربَةٍ جَويَّةٍ مَاحِقَةٍ، كَانَ يُشَاهِدُ النَّهبَ بِعَينٍ بَاكِيَةٍ وَيُردِّدُ: تَبَّاً لَكُم مِنْ لُصُوصٍ، لَدَى عَودتِهِ إِلَى البَيتِ، تَخَيُّلُهَ فَرَحَ أَطفَالِهِ بِرائِحَةِ شُواءِ الخُبزِ هَوَّنَ عَلَيِه ثِقلَ كِيسِ الدَّقيقِ عَلَى ظَهرِهِ(7).

3- الأُسلوبُ الدَّرامِي:

ومن أساليب القصِّ السَّردية الجديدة في أدبيات القصة العراقية المعاصرة الأسلوب الدرامي الذي لجأ إليه ثلَّةٌ من كُتَّاب الدَّراما المَهرةِ السيناريست، وغيرهم من أدباء القصَّة القصيرة ممن يجدون في هذا اللون من القصِّ مُفارقاتٍ كبيرةً ماتعةً. وذلك كونُ الأُسلوبُ الدِّرامي؛ هوَ أُسلوب تعبيري عن حقيقة (أدب المفارقات) القصصية التي هي أبرز المزايا الشعريَّة في السَّرد، والذي تكون فيه المقدِّمات أو مطالع العمل الأدبي القصصي تُخالف خواتيم النهايات في ثيمة العمل القصِّي الدرامي.

تلك النقطة الضوئية الصادمة التي تجعل من المتلقِّي أو القارئ للعمل الأدبي في  حيرةٍ من أمره حيال تلك الشخصيات القصصية الفواعلية المتحركة، الأمر المُحيِّر الذي يُلجِئ المتلقِّي إلى التفكير أو المشاركة الفاعلة بما ستؤول إليه الأحداث في العمل، وكيف تنتهي. ولذلك فإنَّ لفظة (الدراما) التي أخذت جذورها وأصولها الحقيقية من اللُّغة الإغريقية اللاتينية القديمة، تعني (الفِعْلَ) أو(العَمَلَ) الأدبي السردي القصصي المملوء فضاءً بشحنةِ التناقضاتِ الكثيرةِ التي تكتنفه فنَّاً إبداعياً جميلاً.

وتأتي أهمية الأسلوب الدرامي  من كون (الدراما) كفعلٍ حدثيٍ مؤثِّر تُمثِّل بؤرة الحدث القصصي المضيئة ومركز نواته الحقيقية اللَّافتة التي عرفتها شعوب الحضارات الإنسانية القديمة. على الرُّغم من أنَّها لم تضعها ضمن إطار فِّني مُعيَّنٍ بذاته؛ ولكن الأهمَّ في ذلك أنَّ الأسلوب الدرامي الذي ينتهجه القاصُّ بلغته الماتعة يهتمُّ اهتماماً كبيراً بالتفاعل الإنساني على أرض الواقع سواءٌ أكان ذلك التفاعل القصصي الدرامي كوميدياً (إيجابياً أم سلبياً)، وكما هو حاصل –إجرائياً- في الأعمال الدَّرامية التَّمثيلية والسينمائية لأشهر الأدباء السَّردة من القصاصين وكُتَّباب الدراما السيناريست.

ويؤكِّد الدكتور صلاح فضل أنَّ ما يعطي الأهميةً بميزةَ الأُسلوب الدرامي، هو ما أنْ "يُسيطر فيه الإيقاع بمستوياته المتعدِّدة من زمانيةٍ ومكانيةٍ مُنظمةٍ، ثُمَّ يَعقبهُ في الأهمية المنظور وتأتي بعده المادة (8)". ويضيف فضل في الوقت نفسه "أنَّه لا توجد حدود فاصلة بين هذه الأساليب، إذ تتداخل بعض عناصرها في كثير من الأحيان (9)". وأنَّ هذا التداخل الأسلوبي المتشابك هو ما يمكن أن نسلط عليه الأضواء الإجرائية الكاشفة لرؤاه الفنية والجمالية من خلال التطبيق العملي لنصوص الأسلوب الدرامي الذي أبدع في تقصيص تسريده ثلةُ من الكُتَّاب المائزين.

ومن نافلة القول التبصيري، أنَّ ما يُميِّز أساليب السرد الأربعة في القصِّة العراقية القصيرة، أنَّها فعلاً أساليب مُتجدِّدة ذاتَ بنىً لغويةٍ غيرِ ثابتةٍ، وغيرِ نمطيةٍ في تخليقها السردي الحكائي، فهي تتبَأورُ في بوصلتها الاتجاهية مُنفحةً تارةً على الشعر في غنائيتها الذاتية، وتارةً أُخرى تنصرف في تجلياتها الأسلوبية إلى الفنِّ البَصَرِي الحركي الدرامي التمثيلي، وتارةً ثالثةً تظهر في أدبيتها الإنسانية السيرة الذاتية لبطلها الحقيقي الأديب الكاتب أو بطلها الرمزي الراوي العليم في تحاكيه وتشاكله الوجداني مع المروي له، وتارة رابعةً تلتحم في أسلوبيتها الإنتاجية السردية اللَّاذعة مع فنيَّة التعبير التهكمي الساخر المحبَّب إلى النفس وسيلةً وغايةً في كشف آفاق عقابيل المحجوب من المستور عن هُوية الآخر السلبي الذي يشكل بؤرة الحدث الساخر بطريقةٍ فنيَّةٍ سلسةٍ وغير مباشرةٍ في التصدِّي لجذامير آفة الفساد الذي يَمخرُ عُباب الحياة المجتمعية.

ومن يتأمَّل نصَّ القاص السومري إبراهيم دكس الغراوي (بيتُ الوجعِ) الدالة موحياته الإشارية على متن نصِّه الموازي الرئيس، والذي جاء ضمن مجموعته القصصية السومريَّة(سفنٌ ورياحٌ)، سيلحظ فنيَّاً تمظهرات الأسلوب الدرامي بصور مختلفةً وبشكلٍ مُتجلٍ في مفارقاته الفاعلية والفعلية ووحدته الزمكانية المحدَّدة بزمانٍ ومكانٍ مُعينٍ ما كما يحلو لـ(رولان بارت) أن يُسميها في تنظيره. تلك المفارقات الحركية التي كانت أكثر تأثيراً وتجلِّياً في خاتمة قصته التي اخترنا سطورها الآتية:

"رَفَعَ رَأسَهُ قَلِيلَاً، لَملَمَ أَذيَالَ ثَوبِهَ، سَكَتَ وَأطَالَ السُّكُوتَ، تَلَقَّفنَا فُرصةَ سُكُوتِهِ لاِستذكَارِ مَا أَسقطَهُ القَلَمُ مِنِ الكَلَامِ سَهوَاً. ولكنَّ آهةَ الرَّجُلِ الَّتي خَتَمَ بِهَا ذَيلَ لَوحَةِ أَقوالِهِ شَدَّتنَا إِليهِ ثَانِيَةً لِنُكمِلَ مَا قَدْ يُضيفُ قَالَ: -الشَّيءُ الَّذي يُرعُبُنِي يَا سَادةُ أَنَّ أَحفادِي الأيتَامَ، وَلِحَدِّ الآنَ يَتَعَامَلُونَ فَيمَا بَينَهُم كَأَضدَادٍ رُغمَ أَنَّهُم تَحتَ سَقفٍ وَاحِدِ...(10)".

والرائي بعين ثالثة لدلالات هذا التقصيص الختامي، سَيجسُّ ما وظَّفه الغراوي من تناقض فنِّي عجيب بين تصرقات هؤلاء الأحفاد الحدثية، وموقفهم الشعوري المتضاد حيال بعضهم، على الرُّغم من  أنَّهم يَقبعونَ تحتَ مظلةِ خيمةٍ، وهذا يشي بأنَّ الخلاف مهما كانت حركته الدَّرامية لا تمنع من تعدُّد الآراء وتباين المواقف، وكأنَّهم طيفٌ من الأجناس الإثنية والمذهبية يجمعهم وحبُّ طنهم الكبيرٌ العراق الواحدٌ.

ونذهب إلى بصمة كاتب آخر للبحث عن وقع تجلِّيات أسلوبية القصِّ الدرامي وجماليات تناقضاته الفنيَّة المؤثِّرة عند القاص البَصْري جابر خليفة جابر في مشاهد قصته (الحِصانُ قَائدُ العَرَبَةِ)، والتي جاءت ضمن مجموعته الفكرية الفلسفية (زَيْدُ النَّارِ) التي جسَّد فيها واقعة الحدث الدرامي تجسيداً حركياً متنامياً في مشاهده التصويرية التي تبعث على التأمل والاستغراق المعرفي لرؤى المفارقة:

" قَذَفَتنِي الصَّدمَةُ بَعِيدَاً عَنِ الحُوذِي وَعَنِ الخِزَانةِ الخَشبيَّةِ الَّتي رَأيتُهَا تَتَدَحرَجُ مُتَهَشِّمَةً مَعَ العَرَبَةِ والحِصَانِ وَأعدادٍ مِنْ حَيوانَاتِ السَّيركِ وِالأحصنَةِ الصَّغِيرةِ تَتَساقطُ مِنْهَا مُتدَحرِجَةً عَلَى المُنحدَرِ، بَينَمَا شَرَعَتُ رُغمَ آلَامِي وَرُضوضِي فِي صُعودِ السَّدَّةِ ثَانِيَّةً، وَفِي نِيَتِي شَرِاءِ خِزَانَةٍ للتَّخَلُّص مِنْ مَلَابِسِي(11)".

فجابر كان حريصاً في تقفيله الختامي المماهي لواقعة الحدث السحريَّة على تخليق مفارقة تناقضية درامية تشدُّ المتلقي للتفاعل معها، وكأنكَ أمامَ مشاهدَ مسرحية تتحرك فيها الفواعل الشَّخصية والفعليات.

وللأسلوب الدرامي حركته الفعلية الحدثية النابضة بالإثارة، وأثره التوقُّعي التعبيري الفنِّي التصويري الشاعري الذي يُضفي على حركية التمثيل في الخطاب السَّري قوةً سحريةً وجماليةً مذهلةً تلقي بظلالها الوارفة تأثيراً إبداعياً مباشراً في نفس القارئ والمتلقِّي وتحمله على التواصل البصري والرؤيوي في الإمتاع والمؤانسة والأبداع والإتباع.

وهذا الأفق الجمالي الدرامي نجد انثيالاته الأسلوبية في نصِّ قِصَّةِ(لصُّ الأبواب المواَرِبَةِ) للقاص والكاتب والسيناريست الجنوبي الميساني ضاري الغضبان، وتحديداً في مجموعته الواقعية الساخرة (نَادِي الُحفَاةِ) التي تمثِّل أُنموذجاً واقعياً لرؤيا المدينة الفاضلة، الفائزة بالجائزة الثانية في مسابقة الطيِّب صالح الدولية العالمية للكتابة عام 2021م في السودان، فلنقرأ خاتمة هذه القصة الماتعة:

" وَمَعَ بَرقٍ شَدِيدٍ أَمطَرَتِ السَّمَاءُ، وَهوَ يَبتَعَدُ أَكثرَ نَحوَ ضَوءِ الفَجرِ الَّذِي يُقَاوِمُ حُلُوكِ الغُيُومِ، بَدَأَ يَتَبَلَّلُ، بَينَمَا اِنحَدَرَتِ المَفَاتِيحُ مِنْ تَحتَ المِعطَفِ تَتَسَاقطُ عَلَى الرَّصِيفِ بِالتَتَابُعِ، وَلَمْ يَتوقَّفْ لِجِمعِهَا؛ بَلْ اِبتَعَدَ مُبَللاً وَمَفَاتِيحُ فَتحِ الأَبوابِ المُغلَقَةِ تَتَناَثرُ خَلفَهُ وَيُغَطِّيهَا المَطَرُ المِدْرَارُ(12)".

هكذا يُصوِّر ضاري الغضبان –درامياً- ضبط إيقاع مشاهد شخصيته بطله اللِّصِ ويرسم مسار حركته، ويهبها أرفع صورة درامية جمالية مغايرة لنسق نظائره اللُّصوص الأُخر. فهو لصٌّ موسوم بعلامة الأبواب الموَارِبَة لا المُغلقة المؤصدة. واللَّافت أنَّه ينمازُ بخصالٍ وقيمٍ أخلاقيةٍ وسلوكيةٍ لصوصيةٍ فيها من الالتزام المبدئي المُغاير، حيثُ المروءةُ والإقدامُ والإحجامُ والبسالةُ والتأثُّر، على الرُغم من سلبيته اللصوصية الممقوتة.

4- الأُسلوبُ السِّيري الذَّاتي:

من بين الأساليب الأدبية المهمَّة التي هيمنتْ إبداعياً بفضاء تمظهراتها الفنيَّة الرائدة على فن السرد النثري، الأسلوب السِّيري ذو الطابع الأدبي الحكائي القصصي أو الروائي الذاتي. وإنَّ هذا الأسلوب هو الذي يقترب فيه الكاتب أو (السارد) كثيراً إلى ما يسمَّى بـ(اليوغرافيا الذاتية)، والتي تُعنى بفن سرديَّات الكاتب أو الشخص لسيرة حياته الأدبيَّة كاملةً أو اقتطاع جزء منها بشكلٍ فنَّي يوظَّف فيه آلياتات وشرائط وتقنيات وعناصر الفن القصصي أو الروائي الحديث الذي يلفت الأنظار بجماليات تسريده الحكائي المُتقن وسحر تأثير لغته المحبَّبة إلى نفس القارئ والمتلقي النابه العليم.

فإذا كان الأُسلوب في القياس اللُّغوي المُعجمي يعني معناه، الطريقة أو السُّنَّة أو المذهب أو المنهج الإبداعي اللُّغوي الذي ينتهجه الكاتب في الحياة الأدبيَّة، فإنَّ مصطلح (السِّيري الذاتي) في واقع الأمر يصعب وضع أو تحديد تعريفٍ اصطلاحيٍ دقيقٍ أو ثابتٍ لهذا اللُّون الأدبي السردي؛ لكونه أكثرَ الألوان أو الأساليب الأدبيَّة مرونةً وشفافيةً وتأثيراً من الأساليب الثلاثة الأخرى، وأقلَّها وضوحاً وبياناً. فهو في الأعمِّ الأغلب إمَّا أن يتراوح -طوليَّاً وعُرضيَّاً- ما بين تقنُّع الكاتب أو السارد أو الراوي العليم للحكاية بسرد للأجزاء الخاصَّة بحياته الذاتية والأدبيَّة، أو بعرض وتوظيف وتوثيق كُلِّي ليومياته الشخصية أو اعترافاته الأوغسطينية ذات الطابع الشخصي البَاتِّ للمروي له.

والكاتب القاصُّ أو الروائيّ في هذا النوع الكتابي الأدبي الذي يجمع في مكنوناته السرديَّة بين مدخلات الإيجابي والسَّلبي قد يعترف بمدوناته القصصيَّة التسريديَّة بجملةٍ من الأخطاء والهنّاَت أو الهفوات التي ارتكبها في مرحلةٍ ما، أو مراحل حياته الزمنيَّة. والتي أخذت منه مأخذاً نفسياً كبيراً في توجيه بوصلة مسيرة حياته الذاتية نتيجة عوامل داخلية وخارجية مؤثِّرةٍ كبيرةٍ كان لها الوقع المباشر في بناء وتأسيس أو هدم شخصيته الوجودية الذاتية، (أكون أو لا أكون) في حلبة التحدِّي.

وحين نبحث عن أصول مصطلح فنِّ( السيرة الذاتي) في أبجديات اللغة الإنكليزيَّة، نجدُ أثر أصوله الحقيقية تُشيرُ إلى اليونانية أو اللَّاتينية، والتي تعني في أقرب معنىً لها، هو مفردات المعنى (الذاتي أو الحياتي أو الكتابي)، والتي أشرنا لها مسبقاً بكيفيَّة سرد الكاتب أو الأديب أو الشخص لجوانب مختلفة من قصَّة حياته. ولعلَّ مثل هذه الأصول تُحيلنا إلى الإشارة إلى أنَّ أوّل من عكف على استخدام وتوظيف مصطلح السيرة الذاتية تطبيقاً، هو الكاتب والسفير الدبلوماسي والعسكري الأمريكي المعروف في الأوساط الدَّوليَّة(وِليام بي. تَايلور جُونيور). والذي كان قائداً عسكرياً  في جيش الولايات المتحدة الأمريكية إبّاَن حرب فيتنام، والحائز على وسام النَّجمة الذهبية لهذه الحرب الدَّولية كما تشير وقائع سيرته التعريفية والمهنية الدبلوماسية في مواقع شبكة المعلوماتية.

وعلى الرغم من كلِّ ذلك، فإنَّ استخدام مفهوم مصطلح (السِّيرة الذاتية) مسجَّلٌ كما تُشير  الدوريات الأنكليزية بواسطة الكاتب( روبرت ساوذي) عام 1809م بمعناها الحالي المعروف الذي أخذ اسمها فقط في بدايات القرن التاسع عشر. وتُشير صحائف المرويات والأخبار التاريخية إلى أنَّ أوَّل شخصٍ كتب سيرته الذاتية مدونةً تعود زمنياً وجذرياً إلى أُس العصور التاريخيَّة القديمة.

وعلى وفق تلك الأصول التأسيسيَّة، فإنَّ مفهوم مصطلح السيرة الذاتية تطوَّر تطوِّراً كبيراً في أبجديَّات الفنِّ الكتابي من مفهوم محتواه الأصلي إلى المحتوى السَّردي الأدبي القصصي الأكثر نضوجاً واتساعاً فنَّاً وبلاغةً في عملية الإبداع والابتداع الكتابي النوعي.

والفرق كبير بين اللَّونين، أنَّ الأُسلوب السيري الذاتي يستعرض حياة كاتبه الأدبي بشكلٍ لافتٍ مُنذ لحظة التكوين الوجودي الأول لخليقته الذاتية على الأرض. في حين يعتمد كاتب السيرة الذاتية بشكلٍّ عامٍ في مدخلاته ومخرجاته السِّيرية الفنيَّة على مجموعة كبيرة من الوثائق والمستندات وعلى بيانات وجهات النظر. كما ويعتمد كذلك على أفق ذاكرته الفكرية في تدوين وتوثيق سيرته الأدبية الذاتية، كمال هو الحال في مذكَّرات عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين الأدبية في كتابه المجَزَّأ بأجزاءٍ مُتعدِّدة (الأيام). وقد تكون السيرة الذاتية اعترافات محضةٌ مثل اعترافات القديس أوغسطين.

ويبدو لي أنَّ هذا اللون الكتابي من المذكرات السِّيريَّة، والذي يرتبط ارتباطاً كبيراً بفنِّ السِّيرة الذاتية يُركِّز كثيراً على هُويَّة الآخر المَروي عنه، في حين يقلُّ تركيزه السِّيري على بؤرة الذات خلال استعراضه التوثيقي لآفاق مسيرة حياته الشخصية. في الوقت الذي يبذل فيه الكاتب أو الرائي السردي جهداً كبيراً في تواتر قصِّه الحكائي، ويتوخَّى فيه الدقة الموضوعية لواقعة الحدث السردية.

وقد يكون توظيف الذات السيرية بشكلٍ مغاير فيه من إشارات التمويه الفنِّي والتعمية الرمزية والتقنُّع الإشاري في الارتباط بواقعه التاريخي والاجتماعي والثقافي والزمني؛ وذلك من خلال تتابع فنيَّة الاستباقات والتأخيرات الهندسية لوحدة الحدث في كتابة التسريد الذاتي أو ما يُسمَّى بتقنية (الاستقدامات والاسترجاعات)التي يتناول فيها الكاتب إنتاجه السردي عبر أثير تلك التقنيات الحديثة التي توجز جانبا ً مهمَّا ً وكبيراً من أثر حياته السِّيرية المُتراتبة إلى أحضان القارئ والمُتتبع لنتاجه.

هذا هو التباين السردي الواضح بين المفهومين، الذي جعل الفرق جليَّاً وكبيراً بين الأُسلوب الأدبي لفن السيرة الذاتية وفن كتابة المذكَّرات. والأسلوب السيري الذاتي يركِّز في مروياته الحكائية القصصيَّة على حياة الكاتب، ويُسلِّط الضوء ارتباطياً على زمكانية العصر الذي عاش وترعرع فيه جذريَّاً ووجوديَّاً؛ كونه المنبت الأصلي لتاريخه الحياتي الأدبي. في الوقت الذي نجد فيه أسلوب سرد المُذكِّرات النثري أقلَّ تركيزاً؛ ولكنْ أفقه الكتابي أكثر اتساعاً وحميميةً في توظيف سريان مذكَّراته وسهولة جريان مشاعره وأحاسيسه وخلجاته وحرارة دفء تدفق عواطفه الذاتية بِيُسرٍ وتساوقٍ فنِّي.

ومن بين النماذج الإبداعية الجميلة للتدليل على خاصية وقع الأُسلوب السِّيري الذاتي مجموعة (وطن عيار 7.62 ملم) القصصية للكاتب والإعلامي والقاصِّ المثابر محمَّد الكاظم الحائز فيها على جائزة الطيِّب صالح  العالمية للإبداع الكتابي عام 2013م في السودان. فلنقرأ بإمتاع شديد أولى بواكير هذه المجموعة قصته التي وسمها بالعنوان اللَّافت والمثير بتركيبه السردي للتفكير والتأمُّل، (سيرةٌ غيرُ ذاتيةٍ لِمؤلِّفِ الكِتَابِ وقُرَّائهِ)، والتي ينشرُ فيها الضوء مضيئاً على جانب كبير من محطَّات حياته الشخصية المحتدمة، وينقل فيها معاناة شعبه الآسر وفوران وطنه الجريح العراق بلغة الراوي بضمير المتكلِّم المباشر على غرار ما يتحفنا به الجاحظ في بيانه وتبينه،(إنَّ الكلمةَ إذَا خَرجَتْ مِن القَلبِ وَقَعتْ فِي القَلبِ، وَإذَا خَرَجَتْ مِنَ اللِّسانِ لَم تَتَجاوزْ الأُذنينِ). فلنرى ما يقول:

" اِثنَا عَشَرَ بَلَدَاً حَمَلْتُ حَقَائِبِي إِليهَا بِرَغبَةٍ مِنِّي أَحيَانَاً، وَبُدونَ رَغبَةٍ أَحيَانَاً أُخرَى، كَانَ الوَطَنُ يُرافِقنِي فِيهَا مِثلُ عُيُونِ أُمِّي، لَكِنَهُ لَيسَ الوَطنَ الَّذِي تَركتهُ يَرتَدِي ثِيَابَ الخَاكِي ، وَيَتَنَاوَلُ صَمُّونَ الجَيشِ والبَارودَ وَالبَيَانَاتِ العَسكريَّةَ عَلَى الفُطُورِ، َويَأكُلُ لَحم َالمُوتَى عَلَى الغَدَاءِ. وَيتَعَشَّى بِمَا تَبَقَّى مِنْ جَسَدِ الوَطَن (13)".

على الرُّغم من اللغة الشاعرية الرصينة التي كُتِبتْ بها سطور هذه الدفقة السيرية الأثيرة، فإنَّ ما يلفت النظر في توصيف سرد الكاظم القصصي التوثيقي طيَّات سطوره الوطنية النارية الملتهبة غلياناً وحنقاً، والنازفة ألماً ويأساً ومرارةً وارتكاساً ونكوصاً على ما آل إليه واقع الشعب الاعتباري المُعاش. ذلك الجرح الذي اختلط فيه الهمُّ الذاتي الفردي الخاص بأنَّات الوجع الجمعي الوطني العام، وامتزجت فيه مشاعر الهجس الجزئي الذاتي بالحال الشعبي الكُلِّي الوطني. فأيُّ وطنٍ هذا العراق؟!

فكانت التقاطات عدسة القاص الصورية صادقة الرؤى في التعبير عن مشاهد وصور عسكرة المجتمع العراقي إسبارطياً في حقبة زمانية ما، تعدُّ من أصعب حقب تاريخ العراق المعاصر والحديث دمويةً من حكم النظام البعثي البائد الذي تسيَّد البلد ثلاثة عقودٍ ونيفٍ من السنين العجاف الخاليات من الفرح. سنون الوجع التي يشعر فيها المواطن بعدمية وجوده الإنساني المسيَّر لا الحُّرِّ الذي مضى حياته أسيراً حَسيراً كسيراً يعيش دوامة نفقٍ مظلمٍ في بلدٍ ليس فيه بوادر الرخاء والأمل المنشود سوى الموت وجعجعة الحروب. ورغم كلِّ ذلك يبقى الوطن رفيقاً للدرب كعيون الأُّمِّ حُنُواً.

وفي جانب قصصيِّ سيري أخر لِهمِّ الذات من التقاطات محمد الكاظم الصورية عن آثار وجع الحصار الاقتصادي الأمريكي الذي ضرب الاقتصاد الوطني العراقي وجوَّعَ أبناء الشعب إبَّان حكم النظام الجائر. الأمر الذي أودى بانهيار منظومة القيم والأخلاق وتفتيت وحدته المجتمعية المتماسكة وحمل المواطن على أن يتنازل عن بعض مبادئه السامية، ويُضحِّي بقيم ِعرضهِ وشرفه وعزة نفسه من أجل أن يسدًّ رمق جوعه وعوزه وفقره؛ لأنَّ الجوع ظالم لا يعرف المبادئ والقيم والأخلاق. وحكاية الحصار التي استمرت أكثر من عقد من الزمن تتحدث عنها قصَّة محمد الكاظم الدالة على عنوان رمزيتها السِّيريَّة العميقة،(من أين يأتي الموزُ يا تشيكيتا ؟)، والتي يجسِّد فيها الصور سارداً:

"اِفتَرَسَتْ وَجهَهَا الصَّغيرَ عَلامَاتُ اِنكِسَارٍ ذَليلَةٌ وَبَدَأتْ تُرَدِّدُ كَلماتٍ مُبَعثَرَةً مُتَلَعثِمَةً اِستطَعتُ أَنْ أَفهَمَ مِنْهَا إِنَّها مُسْتَعِدَّةٌ لَأَنْ تَنَامَ مَعِي مُقَابلَ عِشَاءِ الأَولادِ. وَفَهِمْتُ أَنَّ لَونَ بَابَ بِيتِهَا أَزرِقٌ مَكتُوبٌ عَلَيهِ يَا اللهُ (14)".

ونفهم من عبارات الكاظم السردية التي تحبس الأنفاس حياءً، وتُقطِّع نياطَ القلب مَهابةً وتُدْمِي علائقه الروحية وجعاً، تلك التي يتحدث فيها عن حال لسان بطلته المرأة العجوز رائياً سردياً  حكيماً شاهداً على جور العصر، وَراوياً سِيرياً عليماً بسيرته لقرائه. ونفهم منه بجلاءٍ في تفكيكنا الدلالي الفني لشفرات مرموزاته السِّيرية أنَّ (الافتراس) صفة دلالية وحشية اختصت بها المخلوقات الحيوانية البهائم لا الإنسان العاقل الذي تظهر عليه أُمارات التشظي والتبعثر والتلعثم نتيجة الشعور بالحياء والخوف والتردُّد من أمر جللٍ يداهمه بغتةً أو قصداً. وأنَّ الجمع التوحُّدي بين ثنائية التضاد في الصفات العقلانية وخلافها البوهيمية أمر ليس بالسهل اليسير، وما يُلقَّاه إلَّا قاصٌّ سيريٌّ مكينٌ.

ونفهم من دالة (النوم) مقابل ثمن عشاء مع الآخر الفاسد الفاجر، انتهاكٌ للشرف الرفيع وعدوان على حرمة التابو المقدَّس للمرأة الحَصَان. ونفهم من دالة اللون (الأزرق) أنَّه لون سماوي محبَّب من ألوان الطبيعة المتحركة والثابتة. ونفهم من دالة لفظ الجلالة (الله) أنَّ البيت تحفُّه رعاية الله وتحرسه ملائكة الذات الإلهية العظيمة، فكيف يُدنَّس بالعار القميء والذُّل والانكسار وينتهك الشرف العزيز؟! بهذه اللغة الحكائية القصصية الجميلة والأُسلوب البلاغي الرفيع تُصنع السِّير الذاتية الفردية والجمعية وتنتج أدبياً وفنياً لينتفع بها القارئ ويتمتَّع المتلقي بمحتواها الدلالي الفنِّي الجمالي.

وبأسلوب سيري صادق التعبير، وحسٍّ إنساني ذاتي عالٍ كبير التقدير ينقل لنا في سِفرِ مجموعته القصصية (الثلاثيةُ الأولى) القاص والروائي العراقي المغترب جُمْعَة اللَّامي شذراتٍ ضوئية متفرقة من تاريخ حياة سيرته الذاتية. تلك الدفقات الروحية الشخصيَّة التي يُصوِّر فيها مشاهد من انتمائه الفلاحي الطبقي الجنوبي في قصبةٍ من قصبات نشأت طفولته الأولى قضاء الكحلاء التابعة لمدينة العمارة السومريَّة. حيث مرابع  الوطن الصغير والأهل والأحبَّة وأصدقاء العمر والرفقة الخلَّان.

ويستحضر اللَّامي حكائياً تأثيرات مرابع أطلال منبت صباه على طفولته النقيَّة البيضاء حين يوثّق بحبٍّ أجزاء مبثوثة من سيرته الطفولية الأولى متماهياً مع عناصر الطبيعة الريفية الساحرة لهذه القصبة الصغيرة ومدوناً لمرويته الرمزية شخصية أخته (مريم بنت مطر) التي كانت حاضنته الطفولية مثل والدته الفقيدة، فيرسم فنيَّاً وجماليَّاً في معمار هندسة أقانيم قصته صورَ الأُمِّ الرؤوم الشفوق العطوف الدائم. ويكتب بشغف الملهوف عنها بلغة الراوي العليم بأسرار قصته السيرية نثاً:

"ضَمّتنِي مَريمُ بِنتُ مَطَرٍ إِلَى صَدرِهَا، فَاستَروَحتُ عِطرَ أَزاهِيرِ الهُورِ، وَسَمِعتُ صَمتَ مَاءِ الكَحلاءِ، وَنَادتنِي قُبرَاتُ حُقُولِ الحِنطةِ، وَالتصقَ فِيَّ عُمقُ قَلبِي حَنينِ النِّياقِ، بَينمَا كَانتِ الأَرضُ صَفراءَ مِثلَ ذَهبِ جَداتِنَا، وَالسَّماءُ زَرقاءَ صَافيةُ مِثلَ قُلُوبِ عَذرَاواتِنَا. مَريمُ بِنتٌ مَطرٍ، هيَ أُمِّي. وَإذْ أستعيدُهَا الآنَ مِنْ حَضرةِ المَوتِ، لَأتحدَثَ عَنهَا – يَا شَقيقةَ رُوحِي- فِي حضرتِكِ فَلأنَّ رُوحَهَا حَلَّتْ فِيكِ، فَأنتِ الآنَّ- أُمِّي وَحَبيبتِي وَأُختِي، وَأَنتِ سَمَائِي الَّتي ألتحفُ، وَأَرضي الطَّهورُ الَّتي أتوسَدُ، وَأَنتِ بَساتينُ الرِّضَا وَغَاباتُ الشَّوقِ الَّتي لَا تَفْنَى(15)".

فجمعة اللَّامي في تلابيب قصته هذه يجمع في نصِّ محتواها الَتقنُّعي البسيط بين حميمية ثنائية لأسلوبين الغنائي الوجداني، والسيري الرمزي الذاتي كلَّ عناصر الجمال الفني وتقنياته السردية. فالإيجاز اللغوي، والتكثيف الاقتصادي الدال على جلال المعنى، ورمزية موحياته القريبة والبعيدة، وعنصر الدهشة والإمتاع، وإنسيابية شعرية عذوبة الأسلوب، وعمق وحدة الحدث الموضوعية المرتبطة شخوصه بزمان ومكان محدَّد ما، كلُّها عناصر أساسية مهمَّة التزم بها الكاتب لكي يمنح قصَّ السرد الحكائي السيري جاذبية القبول، وحسن الرضا لدى المتلقِّي الواعي أكان قارئاً أم ناقداً؟

ولم تقتصر إضاءات الكاتب السيرية في توثيقه الواقعي لمراحل من حياته الشخصية عن جذور سنين طفولته الذاتية فقط، بل تحدَّث راوياً من خلال شخصيات أبطال الرئيسة والثانوية والهامشية  عن مدينته الأُمِّ العمارة وعن أحداث متفرقة في بغداد الأزل وفي معتقل السلمان بالسماوة، وعن الرمادي الغربية وخارج حدود الوطن الكبير، لبنان وسوريا ومدن وعواصم كبيروت ودمشق الشام.

وَنُحَلِّقُ في تأملاتنا الفكرية ممعنين النظر مليَّاً في قصة (وحيداً في ليلة النسيان) للقاص والروائي حسين محمَّد شريف، والتي حملت عنوان المجموعة القصصية ذاتها، يُحاول الكاتب في دهاليز هذه القصة الدالة على سمة عنوانها الدلالي أنّ يجمع بين الواقع والمخيال السردي الأسطوري. ويسعى بوضوح إلى أن يتعرَّف القارئ على أشياء كانت مبهمةً غامضةً في مسيرة حياته. وفي مثل هذا اللون يمكن للقارئ أنْ يُميِّز من الذي كتب السيرة القصصية الأدبية، هل هو الكاتب ذاته أمْ بطل قصته المحكي(الرمزي)؟ومثل هذا النموذج  نقرؤه للقاصِّ في ثنايا سطور قصته هذه مُجسِّداً القول:

" كَانَ رُكوبُ الحَافلَةِ بِلَا نَوافِذَ أَيسرَ مِنْ هَذَا الرُّكُوبِ الَّذي كَادَ أَنْ يُوقِفَ قُلُوبَنَا فِي وَسَطِ بَحرٍ مُتَلاطمٍ هَائِجٍ، وَمَعَ آلافِ القَوارِبِ عَلَينَا الوُصُولُ إِلَى اَللَّا أَينَ، وَكَانَ القَائِدُ مَسؤولَاً أَمامَ المَلَأِ هُناكَ عَنْ الإخفاقِ بِالوصُولِ؛ لِأنَّهُ لَو صَارَ ذَلِكَ لِتَعَيَّنَ عَلَى القَائدِ العَودةُ إِلى السَّاحلِ مِنْ جَديدٍ لِقِيادةِ قَاربٍ آخرَ حَتَّى يَصلَ دُونَ فُقدانِ أَيِّ مِنْ زُمَلَاءِ الرِّحلةِ.الأنَ فَهِمتُ لِمَاذَا رَفَضَ الشَّيخُ قِيادةَ القَاربِ ؟ وَقَدْ فَهِمتُ أَيضاً بِأنَّهُ ذُو خِبرَةٍ بِهَذَا المَكَانِ بِناًءً عَلَى رُدُودِ أَفعالِهِ تُجاهِ كُلِّ شَيءٍ هُنَا (16)".

إنَّ موحيات هذا التسريد السيري الأدبي التي يرويها بطل هذه القصة والتي يقف وراءَها مُتَقَنِّعَاً بِماسكِ التَّمويهِ والتَّغطيةِ العمياء الكاتبُ نفسُهُ الذي ركب البحر برحلة المجهول نحو التِّيهِ، والتي رمز لها بالوصول إلى نقطة (اللا أينَ)، بؤرة التلاشي والضياع أمام ثُلة من المُهرِّبينَ محترفي الطريق في المخادعة والنصب والاحتيال المادي الذي راح ضحيته آلاف المهاجرين الفارين من  جحيم جور حكَّام بلادهم، ومثل هذا القصِّ التسريدي ما هو إلَّا أجزاء من محطَّات سيريَّة واضحة.

ونخلص القول في الخروج إلى نافلته في الإشارة إلى أنَّ الأدبيات الأسلوبية لكتابة فن السيرة الذاتية الأدبي تؤكد بجلاء منقطع النظير أنَّ كاتب السيرة الذاتية في مدوَّناته القصصية الجمعية قد يجمع فيها أكثر من أسلوب سيري هادف المحتوى الحكائي والفنِّي، على الرغم من أنَّ لكلِّ كاتب أوقاصٍ أو روائيٍ مبدعٍ أسلوبهُ الفنِّي التعبيري النثري الذي يُميز خاصية معجمه السردي الذي عُرِفَ بهِ عن نظائره الآخرين من الكُتَّابِ والأُدباء المبدعين في حداثة المشهد السردي المحلي والدولي. وأنَّ التعددية الأسلوبية الموضوعية في الكتابة ليس عيباً أو وصماً مخلَّاً ينال من شخصية الكاتب الأدبية المعروفة، وإنَّما هي دليل فكري  وإبداعي يوشم مقدرة المبدع الأمكن عن العاجز.

ووفقا لما تقدّم من قراءات تأملية في نقد أساليب سرديات القصة العراقية الحديثة، ولا سيَّما القصة القصيرة، والقصيرة جدَّاً أس حداثة الأدب الوجيز نثراً وشعراً يبقى الأسلوب الذاتي للكاتب سواء أكان معجمه السردي وجدانياً غنائياً أو تهكُميَّاً سَاخراً أو درامياً تمثيلياً بَصريَّاً أو سيرياً أدبياً، هو العلامة الفارقة في الحكم على المُبدع، وهو الموجِّه الفنِّي الإبداعي والشاخص الأميز للكاتب.

وتبقى في الوقت ذاته قدرة الكاتب الرائي التعبيرية وامتلاكه لأدواته اللُّغوية الثرَّة التي هيَ سلاحه الأسلوبي في مستوياته المعرفية الابستمولوجية في بناء تراكيبه الجُملية السليمة وتدفق عباراته النظمية القويمة،هي الفيصل الحقيقي للمنتج السارد الذي يُمسك بتلابيب النص وينسج خيوط عباءته.

***

د. جبَّار ماجد البَهادلي

........................

هَوامشُ الدِّراسة

1- د. صلاح فضل، أساليبُ السَّردِ فِي الِّروايةِ العربيَّةِ، دار المدى للثقافة والنشر، دمشق سورية، ط 1، 2003م، ص 9.

2- حنون مجيد، وَردةٌ لِهذا الفُطُورِ، دار ضفاف للطباعة والنشر والتوزيع، بغداد- العراق، ط2، 2019م، ص 58.

3- محمَّد خضير، المملكة السوداء، وزارة الثقافة والإعلام، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد- العراق، ط2، 1986، ص 113.

4- أمل حمزة خضير، نحيبُ المَقصلةِ، دار الوارث للطباعة والنشر، كربلاء- العراق، ط 1، 2020م، ص 31.

5- ضاري الغضبان: رهانُ العقابيلِ، منشورات الاتحاد العام للأدباء والكُتَّاب في العراق، بغداد- العراق، ط 1، 2022م، ص 22.

6- محمَّد سيِّد كرم الموسوي: أولياءُ الخبزِ،، منشورات اتَّحاد أُدباء وكُتَّاب ميسان، مطبعة أشرف وخلدون، العمارة- العراق ، ط 1، 2022م، ص 54.

7- المصدر السابق نفسه، ص 7.

8- د. صلاح فضل: أساليبُ السَّردِ فِي الِّروايةِ العربيَّةِ، دار المدى للثقافة والنشر، دمشق سورية، ط 1، 2003م، ص 9.

9- المصدر السابق نفسه، ص 10.

10- إبراهيم دكس الغراوي: رياحٌ وسفن، مطبعة سراج، النجف الأشرف-  العراق، ط2، 2019م، ص 111.

10- جابر خليفة جابر: زَيدُ النَّارِ، المكتبة الأهلية للنشر والتوزيع، البصرة- العراق، (ب ط)، 2017،  ص 61، 62.

11- ضاري الغضبان: نادي الحُفاة، الشركة السودانية للهاتف السيَّار(زين)، مطابع الهناء، الخرطوم- السودان، ط1، 2021م، ص 212.

12- محمَّد الكاظم: وطن عيار 7.62ملم، بيت الكتاب السوري، ط 1، 2020م، ص 15.

13- المصدر نفسه، ص59.

14- جمعة اللَّامي: الثلاثية الأولى، مؤسسة عمون للنشر والتوزيع، عّمّان- الأردن، ط1،

2000م، ص 46، 47.

15- حسين محمّد شريف: وحيداً في ليلة النسيان، منشورات الاتحاد العام للأدباء والكُتَّاب في العراق، بغداد، ط1، 2021م، ص 33، 34.

ثَبْتُ المَصادرِ والمَراجعِ

* إبراهيم دكس الغراوي، رياحٌ وسفن، مطبعة سراج، النجف الأشرف-  العراق، ط2، 2019م.  

* أمل حمزة خضير، نحيبُ المقصلةِ، دار الوارث للطباعة والنشر، كربلاء- العراق، ط 1، 2020م.

* جابر خليفة جابر، زَيدُ النَّارِ، المكتبة الأهلية للنشر والتوزيع، البصرة- العراق، (ب ط)، 2017م.

* جمعة الَّامي، الثلاثية الأولى، مؤسسة عمون للنشر والتوزيع، عَمَّان –الأردن، ط!، 2000م. 

* حسين محمَّد شريف، وحيداً في ليلة النسيان، منشورات الاتَّحاد العام للأدباء والكُتَّاب في العراق، بغداد-   العراق، ط1، 2021م.

* حنون مجيد، وردةٌ لهذا الفُطورِ، دار ضفاف للطباعة والنشر والتوزيع، بغداد- العراق، ط2، 2019 م.

* د. صلاح فضل، أساليبُ السَّردِ فِي الِّروايةِ العربيَّةِ، دار المدى للثقافة والنشر، دمشق- سورية، ط 1،  2003م.

* ضاري الغضبان، - رهانُ العقابيلِ، منشورات الاتحاد العام للأدباء والكُتَّاب في العراق، بغداد- العراق، ط 1، 2022م.

- نادي الحُفاةِ، الشركة السودانية للهاتف السيَّار(زين)، مطابع الهناء الخرطوم- السودان، ط1، 2021م.

* محمَّد خضيِّر، المملكة السوداء، وزارة الثقافة، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد – العراق، ط2، 1986م.

* محمَّد سيِّد كرم الموسوي، أولياءُ الخبزِ، منشورات اتَّحاد أُدباء وكُتَّاب ميسان، مطبعة أشرف وخلدون، العمارة- العراق،  ط 1، 2022م.

* محمد الكاظم، وطن عيار 7. 62ملم، بيت الكتاب السوري، دمشق- سورية، ط1، 2020م.

نحاول في قراءتنا لهذه الرواية إبراز الرؤية الذهنية للروائية دينا سليم، داخل التعالق الذي رسمته بين القلوب والمدن من خلال البناء المشهدي وقصدية التعبير على  المستويين التاريخي والحاضر، من خلال سردها لمشاهدها بأفعال من أجل تحقيق الذات، بموجب منظور إيديولوجي تعتمده الكاتبة متكئة على ثلاثة مكونات تتشكل من خلالها الأحداث وهي "الشخوص، والفضاء الزمكاني والحوار.

تبدأ الرواية بتعرض عائلة داليا الى مضايقات من خلال سجن الاب المسلم والام اليهودية بسبب التفجير الذي حصل لباص إسرائيلي وحيث راح ضحيته مجموعة من العمال. وبعد خروج الام من السجن تهاجر مع ولديها الى كندا، وبعد وفات الام تحن داليا (بعد ان تطلقت من زوجها اليهودي) الى مدينتها القدس لاعادة بناء التواصل مع الزمن الذي انقطع ولتلتحق بشقيقها المقاتل بالجيش الاسرائيلي كما تقول في ص125:

(ضيعنا البلاد عندما كانت تفترشنا بزهر الياسمين، ولم نعد نجد خطانا بل ظلت خطايانا تلاحقنا، سنوات طويلة من الغربة والتعاسة).

إلا أنها وجدت نفسها وكأنها غريبة في وطنها فتعود من جديد الى وطنها الثاني (كندا). وتكون بهذا قد نجحت الكاتبة للتعبير عن ذوات كل مهاجر  يعيش القلق والحيرة بين البقاء والعودة الى الوطن (الأم) وهو يعرف إن الوطن (الأم) لم يتخلص بعد من تلك العقد التي جعلته يتخلى عنه وهذا ما دعاها للعودة الى كندا.

في روايتها هذه تسلط الكاتبة عدستها الكبيرة كي تسجل مجرى الأحداث على الأرض، سواء كانت في موطنها الثاني كندا أو في مسقط رأسها فلسطين. لتتأكد جميع المدن سواسية فيما يخص قلق الأنسان.

  أرادت الكاتبة أن تقول لنا المجتمع البسيط يكون دائماً خالي من التطرف من خلال عينة من بلدتها القدس وحيث يجتمعن الجارات من مختلف الأديان والأثنيات، تدردشن بصفاء القلب تارة وفي الأخرى يقترب النقاش من التطرف الا أن الكاتبة لم تجعله يستمر فسرعان ما تعود المياه الى مجاريها الطبيعية لتستمر السهرة بالمحبة إلا أن الكاتبة في ص244-245  لم تكن بطلتها (داليا) (والتي من خلالها تعبر عن ذاتها – أعني الكاتبة) موفقة في إخماد نار التطرف وكأنها كانت غائبة حين حاولت الجارات الفلسطينيات طرد الجارة اليهودية التي دعتها داليا بالدخول فاكتفت بالتفرج، لذا فالسكوت أو قول نعم ليس حلا لوأد الفتنة والتطرف.

من هنا نرى أن دلالة العنوان بوصفه عتبة نصية دالة ومؤثرة جاء بمثابة مرآة كاشفة لما يدور في القلب من جهة وفي المدن التي لا تخلوا من الصراع من جهة أخرى.

جاء العنوان بمثابة الألكترون المتحرك الذي يعكس صورة النواة (المتن) والتي بحد ذاتها هي ذات وفكر الكاتبة.

يتكون العنوان من نصين متناقضين فعتبة النص الأولى هو عنوان تناقضي للنص الثاني وهما يحملان هموم وآلام سكان هذه المدن ومن خلاله يفتح الباب للصراع بين متناقضين كمدخل للقراءة...

فمنذ الوهلة الأولى (العتبة) تجد نفسك أمام متناقضين (قلب / الحب) و(المدن / قلق - والفكر المضطرب). فالقلب هو مصدر الحب، بمعنى الحياة، والقلق هو نتاج الفكر وحتى لو قلبنا المعادلة وكما قال الاستاذ توفيق أبو شومر (مدن لقلوب قلقة) على أعتبار المدن  هي من الثوابت والسكان هم القلوب أي  المتغيرات..  لذا سنكون أمام أول سؤال هل دائما الفكر والحب (القلب) متناقضان وللاجابة عليه يلزمنا الغوص في متن الكتاب ومسايرة الاحداث والصراع النفسي أو القلق الفكري الذي يلازمنا دوما بسبب مجموعة عقد (مفاهيم دينية واجتماعية وأيدلوجية) تقف دائما بالضد من ايماننا... وجاءت لوحة الغلاف معبرة للعنوان من خلال تشظيات القلب بسبب القلق النفسي.

من خلال بطلتها (داليا) والتي سجن والداها، فحال تحرر والدتها سافرت الى كندا فمخيلة (داليا/ الروائية دينا سليم) تعج بأمكنة وذكريات جميلة والتي ستحاول بين حين لآخر عكسها في نصها للمتلقي لأهميتها ودورها في احتضان بعض المكوناته السردية كي تفتح الطريق للمتلقي لتتبع مسار النص من بدايته وحتى نهايته من خلال المواقف والأحداث التي تزخر بها الرواية.

تستهل الروائية دينا سليم روايتها " قلوب لمدن قلقة" من خلال سرد ذاتي عبر بطلتها (داليا) وهي تسير على خطين متوازيين، قلبها المفعم بالحب ومدنها التي تعج بالقلق فأجادت فيه الكاتبة منذ الخطوة الأولى في رسم الصورة  التي تربط المتناقضين من خلال تحرك الرواية بين مستويين زمنيين: مستوى الحاضر الذي يمثله سرد حياة بطلة الرواية (داليا) والزمن التاريخي والذي يمتد من فترة الاحتلال، ويتحرك هذان العالمان بتعالق داخلي من خلال الاتكاء على إستنطاق الصراع القائم بين إرث الماضي التاريخي بتداعياته والحاضر المشتت بقلقه. ومن أجل ذلك وظفت الكاتبة المكان والحوار لخلق التشوق في القراءة، وحبث تبوأ المكان منزلة مهمة لدى الروائية كونه يحمل دلالات وعلاقات مختلفة تربطها بوطنها الأم فمن خلاله تتنفس طفولتها الفلسطينية لذا فحضوره مرهون باحساسها وصراعاتها في العالم الجديد فتسلط عدستها في ص199 لتصف لنا المكان:

(.. دخلت من البوابة العملاقة المقوسة، المدعومة ببرجين عملاقين. المشهد القديم يتكرر. في الواجهة محل صرافة، ونساء يتربعن على الأرض يعرضن بضائعهن، أوراق العنب، وأوراق اللسان والتين، والجبن...).

وفي ص 37 تقول:

(... لا أزال أحتفظ بصورة لـ (وادي الباذان) وصورة أخرى لمقهى قد بني على مرتفع ما في الطريق، يشرف على وادي عميق، وهذا الوادي قريب من نابلس. أذكر المدينة جيداً بنيت على عدة مرتفعات، وأذكر مركز المدينة والاسواق الجميلة... حيث زرت قريتكم التي اشتهرت بكثرة المناشير، حيث زاول أهلها مهمة دق الحجر وتحضيره للبناء...).

ولأن المكان مرتبط بالأحداث التي تولد القلق للانسان لذا تراها في ص63  تكشف لنا ما يجعل هذا المكان متحرك بأحداثه وانعكاساته لولادة القلق لأصحاب القلوب المفعمة بالحب وكما في الاعمال الفدائية من خلال قولها:

(ألقي القبض على والدي وأصدقاء له بعد أن خططوا ونفذوا معاً عملية تفجير حافلة في إحدى المدن الرئيسية... أعتقل بسببها الكثير من الشباب المتورطين وغير المتورطين، وحكم عليه حينها بالسجن المؤيد، كما حكم علينا نحن بالنفي المؤبد...).

في روايتها هذه نجحت الروائية في خلق العديد من الشخصيات الرئيسية والثانوية كي تجسد إتجاهات وشرائح المجتمع الذي تعيش فيه، وقد ساعدها على ذلك منصة التواصل الاجتماعي والتي من خلاله تتكون العلاقات الاجتماعية والعاطفية خلال الفترة الخصبة التي اختارتها، وهي في الغالب تترابط عضوياً أي لا تبدو زائدة أو مقحمة.

تحشد الروائية دينا روايتها بالعديد من الحبكات والثيمات المترابطة والمتشابكة مثلما تحشدها بالعديد من الشخصيات والتي من خلالهم تدعم الحبكة الرئيسة للرواية وهي الصراع الذاتي (الذي يوَلِد القلق) كي تجعل الذاكرة متوهجة بأنماط الشخصيات الانسانية الموجودة في المجتمع وهي تترابط عضوياً من أجل كسر الرتابة في السرد وحيث الرواية تتكون من 375 صفحة.

وتسرد الكاتبة مسيرتها الى ان تصل ص56 النقطة التي سترتكز عليها لتتسلق خطها البياني لتضرب على الوتر الحساس الذي يكون من بين الأسباب لولادة القلق، فهي تقول:

(دارت داخلي أفكار صاخبة، البعد الجعرافي، أنا في في قارة وهو في قارة أخرى بعيدة ومن المستحيلات اللقاء، ثم المعتقد الديني، والطائفي والمذهبي فقد كانت المعوقات أكثر ما يتحمله عقل أو أي تفسير...).

وفي ص58 تكشف الستار عن هذه المعتقدات فتقول:

(الحب مقابل الاستقرار في البيت الزوجية، الحب الاول وهو الثبات، الحب معناه الالتزام، الحب هو اقامة عائلة، وزفة عريس، وفرح، وطعام وأهل... ومهر وكتب كتاب؟ هذا هو الحب الفاني)

وتكون بهذا قد شخصت الكاتبة بعض أسباب التناقض بين القلب والقلق..

وفي ص76 تقتحم الكاتبة المسافة التي تفصل بين القلوب والمدن القلقة لتكشف لنا من خلال رفع الغطاء الذي يلف الصراع لتقول ان السبب يكمن في التطرف الديني:

(حرب مستمرة لا نهاية لها. حرب وعرب. عرب وحرب. الكبار يخدمون العقيدة وشبابهم يتأهلون للصلاة، والآخرون يقاتلون، صلاة وقتل. قتل وصلاة. لا شئ آخر. صراعات لا تنتهي يا لغباوة البشرية!).

استطاعت الكاتبة من عرض عدة صور للقلق الذي ينتاب الانسان في روايتها هذه منها، قلق المرأة التي تتخذ قراراتها بغير ارادتها الحقيقية وبالنتيجة تندم وتقلق وتدفع ثمناً باهضا كقولها في ص80:

 (خلقنا نحن النساء كي نعيش التعاسة، فنملك أدوات نعي أنفسنا فتبدو دموعنا أحياناً كدموع التماسيح).

وتسير العبثية بخط متوازي مع المحور الأفقي للرواية (القلق)، فمثلا بطلتها داليا اختارت بملئ ارادتها زوجها اليهودي إلا أنها سرعان ما أرادت التخلص منه، أحبت محمد بكل جوارحها إلا أنها سكرت الباب في وجهه وحين تركها انتابها القلق، كانت تشعر بحب مخفي تجاه حبيب إلا أنها لم تفسح المجال له  و....

كقولها في ص113:

(... بحثت عن أسمه، وكبست على كبسة تمنعه من التواصل معي، كبسة جديرة بأن تعيق اتصاله بي فهكذا أتخلص منه نهائيا،... لكن تمردي لم يطل. دخلت مجدداً. بحثت عن اسمه، وأزلت إشارة المنع.)

لذا تراها دائما تضع إشارة المنع الى الدخول الى صفحتها ولكن سرعان ما تعود لإلغاءه...  وكذلك جارتها (أم أنوار) التي دخلت عليها لنؤنبها وتدعوها لترك الحي كونها لم تكشف لهم عن كونها يهودية  إلا أنها حين وصلت باب الخروج قالت في ص292:

(داليا ابنتي أراك بخير...) 

وفي ص175 تفصح الكاتبة عن حقيقة عبثيتنا وقلقنا كوننا تائهين ولا نعرف من أي إتجاه نبدأ كما في حوارها مع العازف الضرير:

(- كم أنت جميلة يا مارلين مونرو؟

- كيف تراني وأنت لا ترى؟ هل تسخر منا فتتقمص شخصية الضرير؟

- إننا متشابهين!

- كيف؟ أنا لا أفهمكَ.

- لأننا نحن الأثنين تائهين!) 

وفي مكان آخر من الصفحة تقول:

(بدأت عين الحاضر تدوي وتعوي داخلي. تجردت مما أعرفه، وتناسيت لقاء والدتي. أفرغت ذهني من تذكر الاشخاص، لا أريد أن أتذكر أحد أعرفه. لا أحد يهمني. لن يهمني أحد بعد اليوم).

وفي الختام: لا بد لنا ان نتساءل من جديد هل المدن هي قلقة أم القلوب؟ فجميع شخوصها ينتابهم القلق لذا تراها تقول في ص304:

(... جميعهم يريدون تهريب وتسريب أحلامهم الى الآخر، اقتصدوا بأحلامهم، جمدوا طموحاتهم، وبدؤوا يسلمونها الى الطرف البعيد، لأنهم انتظروا كثيراً، وانتظارهم يطول....

وبهذا نقول تمتلك الروائية دينا سليم رؤية ناضجة في الصياغة الفنية ومنصات التعبير في الرؤية الفكرية، التي تستخلصها من خلال استدعاء الواقع الاجتماعي، وصياغته، من خلال تجربتها في الممارسة الأدبية التي أكسبتها خبرة ومهارة في كيفية اِستخدام الأشكال السّرديّة وتقنياتها، التي تعطي القوة التّعبيريّة في طرحها وتشخيصها.  كي تضفى على القارئ عمقاً إنسانياً من خلال كشف فداحة القهر الداخليّ والخارجيّ معاً والذى يعاني منه أبناء هذا الجيل الذى أُهدرت أحلامه، وتعمّق إحساسه بالخيبة والاغتراب كونه لا يزال يعيش ماضيه.

***

نزار حنا الديراني

يعرّف التعايش في علم الإجتماع على أنه قبول رأي وسلوك الآخر القائم على مبدأ الإختلاف واحترام حرية الآخر وطرق تفكيره وسلوكه وآرائه. فهو وجود مشترك لفئتين مختلفتين يتعارض مع مفهوم التسلط والأحادية والقهر والعنف لأي منهما للآخر. وهو من القيم الإنسانية العليا المشتركة بين جميع الشعوب التي تُعدّ ضرورة من ضروريات العيش بسلام.

وفي الرواية التي بين أيدينا لصنع الله ابراهيم، من مطبوعات القاهرة ربيع 1982، نجد الكاتب وقد رصد لنا التقابل الجدلي المتمثل بين الأنا والآخر وما صنعه من أجواء سلبية لأسباب ذات قيمة فكرية وسياسية واجتماعية حيث تصارعت هذه القيم لتفرز للمتلقي جوا تسوده علاقة التوتر والخوف والكراهية والقهر بين الأنا والآخر. وقد وضعنا الكاتب أمام فئتين مختلفين في الفكر.

 وحيث أن أهم القيم الداعمة لمبدأ التعايش قيمة الحوار لأنه عنوان التعايش والتعبير الأسمى عن دلالته. ولأنه بالحوار يمكننا استطلاع آراء المتحاورين وتقييمها وتطويرها باستمرار عبر الفكر والرأي والرأي الآخر أي أن العلاقة بين الحوار والتعايش علاقة شرطية يقتضي وجود إحداهما وجود الأخرى. وقد انهارت قيمة التعايش منذ البداية ويتوضح لنا ذلك من خلال حالة الإرتباك التي عانى منها البطل وهو يقف أمام اللجنة بالرغم من أنه قضى عاما كاملا في الاستعداد لهذه المقابلة فعلى لسان البطل ص12 (بلعت ريقي ثم شرعت أتكلم. وخرج صوتي خافتا). وهذا الموقف يعكس لنا صورة مسبقة بأن الحوار لن يكون كأي حوار حضاري، فالبطل الذي وقف أمام لجنة مجهولة الهوية بعض أعضائها وصفهم الكاتب بالعسكريين شعر بخوف لم يظهره حين خاطبه أحدهم بلهجة عدائية منذ البداية (أنا لا أستطيع أن أفهمك. فأنت فيما يبدو قطعت شوطا بعيدا . وها أنت في هذه السن تسعى وراء بداية جديدة. ألا تظن أن الوقت قد فات؟). فالحوار الذي اتسم بالتوتر والخوف من قبل البطل والعدائية من جهة اللجنة لا يعكس وجود تعايشا بين الأنا والآخر بالإضافة إلى ان الحوار قد خرج عن محاوره المعتادة إلى التدخل الصارخ من جهة اللجنة في خصوصية البطل وعدم احترامه كإنسان. ويتضح لنا هذا في عدة مواقف وردت في الرواية نذكر منها موقف السيدة العجوز عندما وجهت له سؤالا فيه إهانة وتحقير للبطل ص14 (سألتني: هل تعرف الرقص؟. سألته: أي أنواع الرقص؟) وقد لمسنا سخرية وتحد بين البطل واللجنة عندما أخبره أحد الأعضاء بأن اللجنة تمتلك ملفا يتضمن كل شئ عنه، وهذا فيه استفزاز واحتقار من قبل اللجنة لذات البطل.

كما أن العجوز رئيس اللجنة لجأ إلى استخدام أسلوب النفي المفعم بالسخرية والتهكم تظهر في عبارة وجهها للبطل ص12 (إني لا أسمع جيدا بإحدى أذني. . فهل لك أن ترفع صوتك).

ومن معوقات التعايش التي تناولها الكاتب انتهاك حقوق المرأة . وقد تناول الكاتب هذا الموضوع عندما قرر البطل ركوب باص صناعة أمريكية من أجل دراسة مواصفات صناعته فلمح رجلا عملاقا يتحرش بامرأة وسط صمت الركاب خوفا من بطش العملاق. ففي ص 143على لسان البطل (وهو ما أثار استنكاري في مسلك العملاق مع السيدة بعد أن أبدت أكثر من مرة وبجلاء ووضوح تامين نفورها من المشروع الذي عرضه عليها بلمسات متكررة من ساقه).

ومن أجل تطبيق قيمة التعايش في أي مجتمع يجب على كل طرف من الطرفين الأنا والآخر احترام حقوق الآخر ومن هذه الحقوق يتحتم على كل من الطرفين عدم التدخل التعسفي في الحياة الخاصة. والمتلقي لرواية اللجنة سوف يلحظ ما فعلته اللجنة من مواقف لاغية لهذه القيمة. ومنها تدخلها في قدرات البطل الجنسية ويتضح هذا ص17(لكن لدينا هنا تقريرا أنك لم تتمكن من ممارسة الجنس مع سيدة معينة).

وعلى لسان العضو القصير في نفس الصفحة (ربما كان عنينا).

 وحينما أرادوا التأكد من مدى صلاحيته الجنسية أفرطوا في امتهان إنسانيته حين طلب صاحب الشعر الأشقر من البطل أن يخلع سرواله ص17( أشار إلي صاحب الشعر الأشقر أن أقترب بحيث أقف أمامه، ثم أمرني أن أخلع بنطلوني، ففعلت). وفي نفس الصفحة (فمددت يدي إلى سروالي الداخلي متسائلا: وهذا أيضا؟، أومأ الأشقر برأسه فخلعت السروال فوق البنطلون بينما استقرت أنظار أعضاء اللجنة عى الجزء العاري من جسدي يتأملون باهتمام). وفي صفحة18 (لم يلبث الأشقر أن طلب مني أن أستدير. ثم أمرني أن أنحني. وشعرت بيده على أليتي. وأمرني أن أسعل. وعندئذ شعرت بأصبعه داخل جسدي). وهذا التدخل في حياته الخاصة قادهم إلى إهانته كإنسان بعد تعريه أمامهم بالكامل بل وتفحص أعضاءه الداخلية.

وهنا يتضح لنا بأن الحوار تعدى كونه حوارا حضاريا في مقابله شريفة إلى فعل مشين من قبل أعضاء اللجنة. فانهارت قيمة من قيم التعايش.

ومن القيم الداعمة للتعايش أيضا حرية الرأي والتعبير. وهذه القيمة انتفت أيضا حينما طلبت اللجنة من البطل تغيير شخصية الدكتور. فبعد انتهاء المقابلة بعثت له اللجنة أن يكتب عن شخصية لامعة في الوطن العربي. وخلال هذه المدة التي انشغل بها في البحث عن تلك الشخصية. اكتشف خلال بحثه أمورا خطيرة تخص هذه الشخصية. وقد نقلها الكاتب خلال سرد الأحداث عن طريق الشخصيات وبث للمتلقي مجموعة من الحقائق في تلك الفترة والتي لم يكتشفها البطل إلا من خلال الرجوع إلى الصحف القديمة المحدودة الانتشار التي لم تنتبه لها الرقابة وهي تبيض صفحة الدكتور وتلمعها أمام العامة حال أي فاسد في الوطن العربي حينما يصبح صاحب قرار ومسؤول. فعلى لسان البطل ص46 (فتحت الملف بأصابع مرتعشة من الإنفعال فطالعتني ورقة بيضاء في أعلاها تاريخ يعود إلى الخمسينات ولا شئ عدا ذلك) وفي صفحة أخرى (انتابني الشك في أمر الفقرات المقتطعة.. في اليوم التالي فوجئت بصدور تعليمات تحظر استخدام المكتبة على غير العاملين بالصحيفة). ويتضح لنا هنا أسلوب القمع الذي تمارسه السلطة من أجل التغطية على التاريخ الأسود لتلك الشخصية اللامعة.

وعادت اللجنة لتمتهن حرية البطل عندما اقتحمت بيته وضيقت الخيارات عليه حين طلبت منه تغيير الشخصية اللامعة أو تبديل ما جاء في الدراسة التي توصل إليها البطل من خلال صيغة جديدة ملائمة ففي ص65 (ودلفوا إلى مسكني الصغير، فانتشروا في أرجائه على الفور). وفي ص68 على لسان القصير (يمكنك أن تقرر لنفسك الآن، ما إذا كنت ستستمر في هذا الموضوع أو تنتقل إلى غيره، فنحن لا نقس أحدا على شئ). وهذه العبارة تنم عن أن ما تبطنه اللجنة من مصير ينتظر البطل، فهي لن تتركه بحاله إن ظل متمسكا برأيه. وهنا يظهر تدخل اللجنة في حياة البطل الشخصية عندما أبقت على القصير في الشقة إلى أن يستقر رأي البطل بشأن الدراسة. وهذا الخرق الواضح لخصوصية البطل بحيث أنه عاجز عن التصرف في شقته كما يريد كان من معوقات قيمة التعايش التي انهارت بهذا الفعل، وانهارت أكثر عندما قرر القصير أن يكون كظل للبطل لدرجة أنه لم يتركه يغيب عن ناظريه حتى داخل الحمام وعند قضاء الحاجة ففي ص92 على لسان البطل (تطلع إلي مستهزئا: هل نسيت أني رأيت مؤخرتك العارية في وضع أقل وقارا من قضاء الحاجة؟ قلت: لم أنس لكن هذه العادة جرت أن ينفرد الإنسان بنفسه في هذه الأمور فهذه لحظة خاصة جدا. . قال بشراسة: إن من يتصدى للأمور العامة يفقد حقه في كل خصوصية). وهذا المشهد إنما يلخص لنا السياسة التي تمارسها السلطة في قمع حرية التفكير والرأي لكل من يخالفها بأشد الطرق بعدا عن الإنسانية.

وتنتفي قيمة التعايش بسبب انهيار القيم التي من المفترض أن تكون بين الطرفين الأنا والآخر عندما يقدم البطل على قتل القصير بهدف التخلص من امتهانه له بذلك الشكل الذي أذله. ففي ص117 على لسان البطل وهو ماثل أمام اللجنة يدافع عن نفسه أمام الجريمة التي ارتكبها بحق القصير (قلت: هذا صحيح. لكنه كان يحمل مسدسا. ولهذا فاستخدام العنف كان ورادا منذ البداية. ومن المؤكد أني لو لم أبادر بالقضاء عليه فإنه ما كان سيتركني في سلام.. وما أبغيه هو أن تضعوا في تقديركم حالتي النفسية والعصبية، وكوني لم أنم على الإطلاق أثناء وجوده معي، فضلا عن الحصار الذي فرضه علي).

وما من مشهد يصف انهيار قيمة التعايش مثل مشهد البطل الذي بدأ يأكل نفسه والذي رمز له الكاتب بكل حرفية إلى العجز عن تغيير الواقع ما دامت السلطة تقتل، تقمع، تكمم وصوتها يعلو كل صوت.

كما أن الكاتب بث الكثير من التشوهات الإجتماعية والفكرية والثقافية الناتجة عن الأوضاع السياسية والاقتصادية المضطربة في الفترة التي كُتبت بها الرواية، وتفرعت منه إلى أحداث ثانوية متعددة. رواية اللجنة تشعر المتلقي عند قراءتها بأنها تلك التي تصلح لأي زمان ومكان في العالم العربي.

وأخيرا فإنه ومن المؤكد بأن رواية كاللجنة لصنع الله ابراهيم ينبني موضوعها على صراع بين السلطة والشعب لن تصمد فيها قيمة مهمة كالتي ناقشناها وهي قيمة التعايش، فأي تعايش سيكون بين فئتين إحداهما السلطة التي تعمل بكل طاقاتها على استغلال شعوبها واضطهادها سيايا واجتماعيا وثقافيا واقتصاديا؟.

***

قراءة بديعة النعيمي

أشرنا في المقالات السابقة إلى أنَّ قِصَّة "صادق أو القَدَرZadig Ou La Destinnée "، للفيلسوف الفرنسي (فولتير Voltaire، -1787) قِصَّةٌ شرقيَّةٌ، على نحوٍ ما، بل هي أُسطورةٌ بابليَّةٌ قديمة، ويُذكَر في مستهلِّ هذه القِصَّة- في رسالة إهداءٍ إلى السُّلطانة (شعرا)، من (سَعْدي)(1)، مؤرَّخة في الثامن عشر من شهر شوَّال سنة 837 هجريَّة- أنَّ هذه القِصَّة كُتِبت أوَّل الأمر باللُّغة الكلدانيَّة، ثمَّ تُرجِمت إلى العَرَبيَّة ليتلهَّى بها السُّلطان (أولوج بوب)، وكان ذلك في الوقت الذي أخذ العَرَب والفُرس فيه يكتبون "ألف ليلة وليلة" و"ألف نهار ونهار".(2)  ومن هذا يُستشفُّ أنَّ علاقةً ما قد لوحِظت قديمًا بين هذه القِصَّة و"ألف ليلة وليلة".  لكنَّ ما يعنينا هنا تلك العلاقة الملتبسة بين النَّصَّين؛ من حيث إنَّ فولتير قد أخذ قِصَّةً، أو قصصًا، قديمةً فصاغها بطريقته وأسلوبه، وربما حوَّر فيها؛ ليَصحَّ القول: إنها قد أصبحت قِصَّةً فولتيريَّة، كأيَّة قِصَّةٍ أخرى تُنسَب إلى (فولتير).

أما وقد سبق في مقالات الأسابيع الماضية عرض علاقة (فولتير) بالشَّرق، وبـ"ألف ليلة وليلة" خاصَّة، فأين آثار ذلك في قِصَّته "صادق أو القَدَر"؟

إنَّ أوَّل ما يُلحَظ أنَّ الجَوَّ العامَ في قِصَّة "صادق" شبيهٌ، إلى حدٍّ كبيرٍ، بالجَوِّ العامِّ في "ألف ليلة وليلة".  فهناك، مثلًا، وصفٌ للهجوم الذي شنَّه الفتَى (أوركان) على (سمير)، حبيبة (صادق)، ليخطفها، وما صاحبه، في بيئة الحدث، من مَشاهد سيوفٍ، وسِهامٍ، ونخيلٍ، ومن خِصيانٍ، ورقيق.  وكذلك تجد في الوصف الذي ساقه (فولتير) لسمير قوله: "وأسالوا بذلك دم حسناء، كان منظرها وحده خليقًا أن يُشيع الحنان في (أنمار)، جبل (إيمايوس)، وكانت تشقُّ السماء بصيحات الشكاة"(3).  ومثل ذلك تلك الصورة عن بطولة صادق في الدفاع عن معشوقته، وما استتبعته من عواطف.  وكلُّ ذلك يُذكِّرنا ببصماتٍ من أساليب السَّرد في الليالي العَرَبيَّة.

ثمَّ هناك صورة القَصر الملَكي بـ(بابل)، بكلِّ أجوائه، ووصف الحُبِّ الذي نشأ بين (صادق) والمَلِكة (أستارتيه)، والمواقف التي كانت تحدث بينهما، من نحو قوله:

"وكانت (أستارتيه) أروع جمالًا وأبرع حُسنًا من (سمير)، تلك التي كانت تكره العَوَر، ومن تلك المرأة التي كادت تجدع أنف زوجها. وما هي إلَّا أن يثير تبسُّط أستارتيه مع (زديج)(4)، وحديثها الرقيق الذي أخذ يُسبِغ على وجهها شيئًا من حُمرة، ولـحْظها الذي كانت تريد أن تحوِّله، ولكنَّه كان يستقرُّ على لـحْظه هو فيذكي في قلبه نارًا دَهِشَ لها دَهَشًا شديدًا... وكان إذا لقي المَلِكَة غَشيتْ عينَيه سحابةٌ، وتقطَّع حديثه واختلط، فكان يغضُّ بَصَره، فإذا تحوَّل لـحْظُه على رغمه نحو المَلِكَة، رأى عينيها يبلِّلهما الدمع، وتنطلق منهما في الوقت نفسه سهامٌ من نار." (5)

ثمَّ بعد هذا نلحظ طريقةَ معرفة المَلِك بما بينهما، وطريقة فرارهما.(6)  فهذا كلُّه من الصُّوَر المتكرِّرة في "ألف ليلة وليلة".  ولا حاجة للتدليل عليه؛ فـ"ألف ليلة وليلة" كلُّها عليه مثال.

وتَصِف قِصَّةُ (صادق) الرقيقَ، وسُوقَ النخاسة في (مِصْر) وفي غيرها، في صُوَرٍ "ألف ليليَّة".  ولا شكَّ في أنَّ (فولتير) قد عرفَ كثيرًا عن هذه الأسواق، وعن تجارة الرقيق فيها، وعن عادات الشَّرق وتقاليده، من خلال قراءته لترجمات "ألف ليلة وليلة"، التي تَشيع فيها مثل هذه الأجواء.

وصُوَر الترحال، والشتات، وصروف القَدَر العجيبة، والتقلُّب في الأرض، ودوران الأحداث المتباينة في أصقاع متباعدة ولظروفٍ شتَّى، كلُّ أولاء تمثِّل جوانب من الجَوِّ العامِّ، الذي تتحرَّك فيه أحداث قِصَّة "القَدَر" و"ألف ليلة وليلة".  وإلى هذا فإنَّ جوَّ الحُبِّ الملتهب، الذي ينتشر في تضاعيف قِصَّة "صادق"، تنتثر له مواردُ متعدِّدةٌ من الليالي العَرَبيَّة.

وكذا فإنَّ عنصرَي المفاجأة الغريبة، والمصادفة المدهشة، هما من أخصِّ ما تمتاز به الليالي العَرَبيَّة.  ويظهران في قِصَّة "صادق" في مواضع عِدَّة.  منها، على سبيل المثال: مصادفة المرأة المضروبة، التي عثرَ فيها حين كان متَّجِهًا إلى (مِصْر).  ووقوعه في يدِ قاطع الطريق (أربوجاد).  ثمَّ المفاجأة الكُبرَى، المتمثِّلة في التقائه بعشيقته الملِكة (أستارتيه)، بلا انتظارٍ أو توقُّع.

وفي مقال الأسبوع المقبل نتتبَّع المحاور المتوازية بين هذا النصِّ و"ألف ليلة وليلة"، مثل فكرة القدر، وعنصر المرأة والعشق، والفروسيَّة، وعلاقة نصِّ (فولتير) هذا بقِصَّة «السندباد البحري»، بنحوٍ خاص.

***

أ. د. عبدالله بن أحمد الفَيفي

.......................

(1)  (سَعْدي) و(شعرا): شخصيَّتان فارسيَّتان.  فسَعْدي: إشارة إلى الشاعر المشهور (سَعْدي الشيرازي).  له "بستان الورد". (يُنظَر: غصوب، يوسف، (1961)، مقدِّمة ترجمته لـ"صادق أو القَدَر" لـ(فولتير)، (بيروت: اللجنة الدوليَّة لترجمة الروائع)، 25).  وهناك من يزعم أن الكلمة هي: "شهرا Sherra"، وأنها إشارة إلى (شهرزاد)، بطلة "ألف ليلة وليلة" المشهورة. (يُنظَر: عصماني، نورية؛ حكيمة مجاهدي، (2013)، أثر الحضارة العَرَبيَّة الإسلاميَّة في الأدب الأوربي: ألف ليلة وليلة، نموذجًا، (مخطوط رسالة ماجستير، بإشراف: أ.د. عبدالعالي بشير)، (تلمسان- الجزائر: جامعة تلمسان، كليَّة الآداب واللُّغات، قِسم اللُّغة والأدب العَرَبي)، 64- 65).

(2)  يُنظَر: فولتير، 12.

(3)  م.ن، 16.

(4)  كذا!  لأنَّ المعرِّب قد آثر الاحتفاظ باللفظ الفرنسي للاسم. (يُنظَر: فولتير، (1979)، القَدَر، قِصَّة نقلها إلى العَرَبيَّة: طه حسين، (بيروت: دار العِلم الملايين)، 8). على الرغم من أنَّ الاسم معناه: "صادق"، أو "صالح"، إنْ في الفرنسيَّة، أو غيرها. وزعمَ الزاعمون أنَّ كلمة Zadig منحدرةٌ عن (العِبريَّة). (See: Fox, Margalit, (2018), Conan Doyle for the Defense, (New York: Penguin Random House), B.2, Ch.5, p.71.).  ذلك لأنهم لا يعرفون العَرَبيَّة، أو لا يريدون أن يعترفوا بها! ومهما يكن من تأصيل،  فلا وجاهة لاحتفاظ المعرِّب باللفظ الفرنسي، ما دام في مقام التعريب، فضلًا عن أنَّ الاسم ذو جذرٍ عَرَبي- أو سامي، إذا أبعدنا الشُّقَّة- كما هي قِصَّة (فولتير) برُمَّتها.

(5)  فولتير، 51.

(6)  يُنظَر: م.ن، الفصل الثامن عشر (الباسليك)، 102- 112.

 

رواية الأرملة للكاتبين ديمة السمّان وجميل السلحوت، الصادرة عن مكتبة كلّ شيء-الحيفاوية- تُعالج موضوع الترمّل لدى النساء وما يعترضهنّ من صعوبات وعوائق، وتحديداً النظرة للأرملة من قبل الذين يحيطون بها، وكثرة الهمز واللمز كلّما مرّت مطلّقة أو أرملة، لأنّها وبحسب ما ترسّخ في العقول القاصرة "صارت مشاعاً" وكأنّ الذي كان يردعها ويدفعها لاحترام كيانها وإنسانيّتها وجسدها غشاء أواسم رجل تُلحَق به.

اللافت في هذه الرواية، وكأنّ المرأة ضُربت من بيت أبيها، بمعنى أنّ نظرة الخوف أو الرفض للأرملة، أتت بصورة أكثر إيذاءً من بنات جنسها، فها هُنّ سلفات المسكينة خديجة الأحمد هاجمنَها بالهراوات، على كلّ أجزاء جسمها، لأنهنّ يخفنَ على أزواجهنّ منها، وكلّ منهنّ تخاف أن يتزوّجها زوجها ليرعى أبناء أخيه.

تتطرّق الرواية إلى النظرة المختلفة للمرأة الأرملة وإعتبارها من المخلّفات، وانطلاقاً من هذه النظرة، نجد أنّ زميل وردة الأرملة الأستاذ شادي، ومن باب نيله الثواب على حدّ زعمه، يخاطبها بالقول: "لا حياء في الدّين، أنا أعرض عليك الزواج فإن وافقت سأطلبك من والدك، وسأشترط أن تبقي مقيمة في بيت والديك، وأن لا تنجبي، فلديك طفلان يشبعان غريزة الأمومة عندك" وكأنّه بهذا الطرح المغلّف بغلاف دينيّ، يريدها محظيّة أكثر منها زوجة كاملة الأوصاف والحقوق. وعندما رفضت عرضه المشبوه أبدى استهجانه وأردف قائلا: خيراً تعمل شرّاً تلقى. وكأنّه هو صاحب الفضل والمُضحّي. وكأنّ رجال هذا الزّمن يطمعون في الأرامل والمطلّقات ويريدونهنّ خليلات دون زواج – كما تقول إحدى زميلات وردة في المدرسة- 36.

وإمعاناً في هذه النظرة للمرأة الأرملة واعتبارها نوعاً من أنواع الخردة، تأتي زميلة وردة بعرض لها بزواج غير متكافىء من ابن عمّها الذي يعمل ”ميكانيكي“ سيارات، توفّيت زوجته قبل ثلاثة أسابيع، وله ثلاثة أولاد وبنت، أكبرهم في الخامسة عشرة من عمره، ويبحث عن زوجة جديدة، وعندما جوبِهت برفض وردة، أجابتها ساخرة "إبن عمّي سيتزوّج فتاة عذراء أجمل وأصغر عمراً منك، وعجرفتك هذه ستكون وبالاً عليك".

إن حالة الرفض والاستنكار لمن يريد الإرتباط بأرملة، تكاد تكون شائعة لدى فئات المجتمع كافة، وغالباً ما يتأتّى هذا الرفض من قبل الأمّ، وللمفارقة فهي إمرأة أيضا، فعندما أبدى المهندس سامر رغبته بالاقتران بالأرملة وردة، جاء الرفض على لسان والدته بعبارات أقرب إلى الحطّ من إنسانيّة وكماليّة المرأة الأرملة، إذ ضربت والدته كفّاً على كفّ.وسألته من هي؟ هل هي وردة؟ هل تقصد أرملة عودة؟97 يا خيبتك يا هيام أنتِ وإبنك الذي انتظرته طويلاً، لتفرحي بزفافه هل انقطعت البنات؟ ماذا ينقصك حتّى تتزوّج أرملة؟. لديك زهور بنت خالتك تتميّزعلى بنات جيلها، فهي طبيبة تعمل في مستشفى المقاصد.

وكما هو شائع في بعض المجتمعات والبيئات فإنّ الأرملة قد تُعتبر في بعض الأحيان من الميراث الذي يتركه الزوج المتوفّي لعائلته، ولذا نجد في الكثير من الحالات إصرار أهل المتوفّي على تزويج أرملته من أحد أشقّائه، إدّعاءّ منهم بحرصهم على عدم تشتيت شمل الأسرة وضماناً لرعاية أيتامه. وهذا ما أفصح عنه والد المتوفّي عودة لإمام المسجد "أخطّط أن أزوّج وردة بعد انتهاء عدّتها لولدي عمر ليرعى طفلَيّ شقيقه41. وغالباً ما يلقى هذا الطرح القبول من أهل الطرفين دون الالتفات للمشاعر الإنسانيّة والعاطفيّة للأرملة، وما إذا كانت توافق أم لا، معتمدين على المثل القائل: «جمل مطرح جمل بَرَخ«.

في جانب آخر وقد يكون الأهم والأكثر إيذاءً للمرأة الأرملة، يكمن في حال التوّجُس من التعامل معها ومصادقتها خاصّة من قبل النساء أنفسهنّ، واتّهامها بسوء السلوك، تقول إحداهنّ عن المرأة الأرملة "ما دامت أرملة فمن المؤكّد أنها عملت السّبعة وذمّتها لأنّها تعوّدت على ممارسة الحبّ، ولا تستطيع الإستغناء عنه، خصوصا وأنّه لا يوجد لديها ما تخاف عليه. أما جارة الأرملة ندى فهي تحذّر جارتها الأخرى أمّ العارف من كثرة اهتمام زوجها بالأرملة ندى، وتقول لها "لم أرَ أجهل منك يا أمّ عارف، أنت تضعين البنزين بجانب النّار، ندى لا زالت شابّة جميلة، وكلّنا نلحظ اهتمام أبي عارف بها وبأبنائها. صدّقيني، لن يطول الأمر وسيأتي بها ضّرة لك.139.

كما انّ الأرملة ندى لاحظت ابتعاد النسوة عنها بعد ترمّلها، تقول لابنتها براء : لم أعد أحتمل يا براء، كلّ من أتعامل معه ويعرف أنّني أرملة، إمّا أن يتعامل معي بشفقة جارحة، أو إذا كان رجلا أشعر انّه ينتظر فرصة ليتجاوز حدوده معي. أما النساء المتزوّجات فأشعر أنّهنّ يتجنّبنَني ولا يتحمّسنَ لبناء علاقة صداقة معي. كما أنّها في إحدى المرّات بعد أن اتّصلت بوالد أحد الأطفال في الروضة التي تديرها لتعلّمه بحالة ابنه الصحّيّة، تعرّضت للتوبيخ من زوجته بحجّة انّه يوجد في الإدارة رقمان: رقمي ورقم زوجي. كُفّي عن أساليبك هذه. اذهبي يا امرأة وابحثي لك عن رجل آخر غير زوجي.

كما تتطرّق الرواية إلى بعض الممارسات الشاذّة والمستنكرة التي تطال المرأة الأرملة، والتي تصل في بعض الأحيان إلى ما يُسمّى زوراً جرائم الشرف، ناهيك عن كمّيّة الشائعات التي تلاحقها، فعندما قتلت وضحا غدراً، وهي أمّ لِ أربعة أطفال على يد أخيها وعلى خلفية شرف العائلة، ومع أنّ نساء القرية أصِبنَ بالهلع من هول الجريمة، إلا أنّهن لم يتورّعن عن إطلاق إشاعات الرّذيلة عن وضحا المغدورة، فمَن تُفرّط بشرفها تستحقّ الموت".

ولم تغفِل الرواية الإشارة الى الدراما العربية التي تسيء للمرأة بشكل عام، وللمطلّقة والأرملة بشكل خاص. لأنّ ما تقدّمه هذه الدراما من مسلسلات بهذه الخفّة، فإنّها ترسّخ المعتقدات البالية عند المجتمع وتثبّتها في عقول المشاهدين، بدلاً من أن تقدَّم الأرملة كبطلة تتصدّى لكلّ العقبات وتتغلّب على جميع التّحديات لتسجّل قصّة نجاحها.

السلطة الذكوريّة كانت حاضرة في هذه الرواية من خلال شخصيّة صخر والد براء، الذي أوسعها ضرباً فقط لظنّه أنّها التقت دون علمه بالشابّ أمير الذي تقدّم لخطبتها، وإمعاناً في تسلّطه، طرد هذا الشاب ولوّح لإبنته بعقاب تمثّل بقراره بأنّه سيزوّجها لجارهم الأرمل الستينيّ أبو الفضل.

يبقى أن نشير الى أنّ عدم تقبّل الزواج الثاني للأرملة الأمّ، غالباً ما يأتي من قبل الأبناء أيضاً بغضّ النظر عن المستوى التعليميّ لهم، فهذه براء الجامعيّة إبنة ندى، لم تتقبّل فكرة زواج أمّها من صديق العائلة عنان، فعلى الرغم من العلاقة المضطربة التي كانت تربطها بأبيها جرّاء سوء سلوكه ومعاملته لهم، إلا أنّها لا تستوعب أن يكون غيره سيّداً للبيت. وفي هذا إشارة إلى أنّ أنانيّة بعض الأولاد قد تسبّب الأذى للأهل دون قصدهم.

لم تخلُ الرواية من بعض الطرائف التي تصبّ في خانة أحقيّة المرأة الأرملة بالزواج، فعندما التقى الشيخ بأحد الأبناء الذي يصطحب أمّه لعرضها على الطبيب، قال له الشيخ آمرا: دبّر لها زوجاً وستشفى. استغرب الابن ما قاله الشّيخ وأجابه مستنكراً اتّق الله يا رجل، فلا مجال للمزاح بهكذا أمور، فهل امرأة عجوز مريضة كأمّي بحاجة إلى زوج؟ فلكزته والدته على مؤخّرة رأسه وقالت له: اخرس ولا تتذاكى، واسمع كلام الشيخ الحكيم.

نشير إلى أنّ الرواية تطرح بعض الأسئلة التي تحتاج لأجوبة شافية ومقنعة ومن هذه الأسئلة نعرض ما يلي:

- هل تكون في بعض الأحيان وفاة الزوج رحمة للزوجة، فبعض الأزواج وجودهم لعنة في حياة زوجاتهم، والخلاص منهم غنيمة فالعزوبيّة ولا الزّيجة الرديّة.

- كيف ستستمرّ حياة الأرملة والمطلّقة بسعادة وهناء خصوصا وأنّ الرجال يعزفون عن الزواج منهما؟36

- هل نجحت براء إبنة ندى بالإجابة عل هذين السؤالين عندما قالت لأمها:" أمّي، لا أحد يستطيع أن يحمي أيّ امرأة إن لم تكن قويّة من الداخل، لا أب ولا أخ، ولا ابن عمّ، عليها أن تؤمن بدورها وطاقتها، وتستمرّ في عطائها".

لا بدّ من التنويه أنّه وبالرغم من كون الرواية تعالج موضوعاً اجتماعيّاً وهو حالة الترمّل، إلّا أنّ الكاتبين قدّما لنا جرعة تذكيريّة لبعض معاناة الشعب الفلسطيني جرّاء الإحتلال، وأيضاً تُعرِّج الرواية على ذكر بعض الأماكن التاريخيّة في فلسطين وتحديداً في مدينة القدس والجوار، فتذكر مثلاً مسجد المئذنة الحمراء، الذي هو مسجد أثريّ يعود تاريخه للحقبة العثمانيّة، ويقع داخل أسوار البلدة القديمة لمدينة القدس، وتشير إلى كثرة المساجد في حارات القدس القديمة، لتسهيل الأمرعلى المسنّين الذين لا يقوون على الوصول إلى المسجد الأقصى. كما تستذكر الرواية من خلال الإشارة إلى البناء القديم الذي كان يسكنه الحاج ّ أمين الحسيني مفتي القدس والدّيار الفلسطينيّة زمن الإنتداب البريطانيّ. ومن ممارسات الاحتلال التي لا تتوقّف، تعيدنا الرواية الى ذلك اليوم الذي استشهد فيه القائد عبدالقادر الحسيني في معركة القسطل، كما تذكرأيضا مذبحة دير ياسين وكيف أتى القتلة بعدد من نساء القرية في شاحنة وألقوا بهنّ في شارع المصرارة أمام باب العامود.

وتستمر ممارسات الاحتلال الذي لا يراعي حتى حرمة الموت، وأحياناً كان يصرّ على إنزال الجثمان لتفتيشه. كما تلفت الى تعسّف الإجراءات وعمليّات التضييق على المواطنين لناحية عرقلة تنقّلاتهم لدرجة أن المعزّون من خارج المدينة العتيقة لا يستطيعون الوصول إلى بيت العزاء، حتّى أسرة وردة، لم تستطع المشاركة لتقديم العزاء بالمرحوم عودة وهو صهرهم، رغم أنّهم يسكنون في شعفاط على بعد أقلّ من كيلومرتين.

وعن استمرار عمليّات الإعتقال التعسّفي تشير الرواية إلى ما تعرض له عنان عندما وجد ثلاثة من جنود الاحتلال يضربون فتى مقدسيّا، لا يزيد عمره عن ثلاثة عشر عاماً، وأمّه تصرخ مستنجدة بمن حولها لإنقاذ ولدها. فاندفع محاولاً تخليص الفتى من بين أيدي الجنود وانتشل الفتى، فرفع الجنود السّلاح نحو عنان وكبّلوا يديه واقتادوه نحو خارج البلدة القديمة، وتركوا الفتى.

وفي إشارة الى رفض عمليّة التهويد وتزوير التاريخ، تتطرّق الرواية الى ليلة 25 سبتمر 1996 التي توصف بالسوداء بكلّ المقاييس، عندما افتتح المحتلّون نفقاً يمتدّ تحت المسجد الأقصى من حائط البراق إلى طريق الآلام قريبا من المدرسة العمريّة. وهم يسمّونه نفق ”هحشمانوئيم“، وقد خرج المقدسيّون دفاعاً عن مسجدهم المبارك. لأنّ ”القدس معتقد دينيّ لا مجال للمساومة عليه أو تغييره مهما حاول الطرف الآخر تزوير التاريخ والحقائق والآثار، كما حاول الإدّعاء بأنّ حجارة القصورالأمويّة هي حجارة الهيكل. وللدلالة على وحدة الصفّ الفلسطينيّ وتعاضد أبنائه بمختلف طوائفهم، تذكر الرواية كيف أنّ بطاركة ومطارنة القدس أصدروا بياناً دعَوا فيه إلى احترام دور العبادة في القدس، وأكّدوا أنّ المسجد الأقصى هو مكان عبادة مقدّس للمسلمين، ويجب احترام ذلك. كما قاموا بزيارة تضامنيّة للهيئة العلميّة الإسلاميّة، واجتمعوا مع عدد من رجالات الدين المسلمين.

وتأكيداً على هويّة القدس، أدرجت الرواية قيام كلّ من ندى ووردة بتأسيس روضة أطفال لحاجة القدس إلى رياض أطفال ومدارس وطنيّة تلتزم بالمنهاج الفلسطينيّ، الذي يحاربه الاحتلال الإسرائيلي، ويعمل جاهداً على فرض مناهجه المزوّرة للتّاريخ والمروّجة لروايتهم الصّهيونية التي تخدم أهدافهم الاحتلاليّة.167

بالرغم من أن الرواية قاربت حالة الترمل عند النساء في بعض جوانبها، إلا أنني كنت أتمنى لو توغلت أكثر في يوميات المرأة الأرملة وما يواجهها من صعوبات، مما قد يعزز عنصر التشويق والإثارة لدى القارىء فمثلا:

- لم نشهد مضايقات حسيّة إعترضت الأرملة في حياتها العملية، كحالات تحرش أو محاولة استغلال من قبل رب العمل أو الزملاء الذي يجعل الأرملة في وضع وظيفي غير مستقر ويضطرها للتنقل من عمل لآخر صوناً لكرامتها وعفّتها، بل ما رأيناه هو عكس ذلك تماما شهدنا استقرار وظيفي في حياة وردة وندى وأكثر من ذلك تقدماَ في العمل فوردة انتقلت من كونها مُدرسة لتصبح صاحبة روضة من رياض الأطفال بالاشتراك مع الأرملة الأخرى ندى التي بعد وفاة زوجها أكملت دراستها الجامعية.

- لم يتم التركيز على تمسك أهل المتوفي عودة بضرورة زواج أرملته من أخيه لضمان رعاية أيتامه، ولم نرَ على سبيل المثال تهديدهم لها بحضانة الأطفال إذا لم توافق لأنهم يرفضون أن يعيش اولادهم في كنف رجل غريب.

- لم تظهر الرواية بشكل صريح عزوف الرجال عن الارتباط بالمرأة الأرملة، بل أن المهندس سامر عاند رغبة أمه وأصرّ على الزواج بوردة، وأيضا عنان أبدى رغبته بالزواج من ندى.

- انتظار سامر لوردة سبع سنوات على أمل الارتباط بها فيه نوعا من المبالغة.وأيضا علاقة الصداقة التي ربطت الشاب الجامعي عنان بالمتهور المشاغب صخر قد تكون غير مقنعة.

وهذا يدفعنا للسؤال هل أنّ الأعمال الكتابيّة المشتركة تخضع لمعايير مختلفة عن الكتابة المنفردة، بمعنى هل الكتابة المشتركة تخضع لتسويات معيّنة تفرض على كلّ من الكاتبين التنازلَ ولو بشكل بسيط عن بعض قناعاته للتوصّل الى لغة مشتركة تجمعهما. ختاماً، نبارك للأديبَين الصديقَين الأستاذة ديما السّمان والشيخ جميل السّلحوت على نتاجهما المشترك.

***

بقلم: عفيف قاووق – لبنـان

وقفة مع (كتاب فاس)، الفصل الثاني ـ المبحث (1): سيرة الوثيقة المرجعية وحكاية الصياغة الروائية

توطئة: تناولت الدراسات النقدية للرواية التأريخية ـ المرجعية، بشيء من الأحجام والضيق والتضييق، فراحت منها ما تهتم بتلميع السير ذاتي ـ المرجعي، ومنها الآخر ما راح يختزل وقائع التحليل في العلاقة الواقعة بين (المرجع ـ التخييل) في حدود نظرة تجزيئية خالية من الالتفات الكامل إلى معاينة الأثر المرجعي في الحدود الكاملة في عملية المعالجة التخييلية، لذات بدت أغلبها نمطي، تجزيئية، هامشية، في التوافر المدروس بين مرحلة وسيرة الوثيقة ومعالجات سرد الوقائع المتخيلة، استكمالا لرحلة الدراسة العضوية النقدية التي توظف أدق مجساتها المعيارية والمفهومية من خلال مستويات منجزة من التمثيل الإجرائي في النصوص المرجعية.

ـ الاستدلالات المقاربة في واقعة حكايا الرحيل

من الضروري والضرورة أن نعاين ما فاتنا من وقفات مؤشرة على مراحل ومشاهد وتقاويم حبكة (عام المهرجان) حيث من خلاله تتحدد مشاهد وصلية بالامتداد نحو (عام الرحيل) من كتاب فاس، ومن خلال وقفات هذا الفصل المتأنية بمشاهده المؤثرة، نلاحظ ذلك الإطار الدال الذي هو عبارة عن وحدات مجملة بالمحسوس السير ذاتي للشخصية المحورية ليون أو حسن الوزان.وبناء على ما جاءت به وحدات المستهل الافتتاحي لهذا الفصل من آخر كتاب لغرناطة، ينصرف صوت المسرود بما تلقى من مشاهد الأفعال بالتجربة السير ذاتية للمكان والزمن والشخوص ذاتهم، لذا بدا لنا صوت المروي عبر صيغة المباشرة بالضمير المضارع الحاكي، يلفت الانتباه إلى حلقات ترابطية من عناصر (سيرة الوثيقة المرجعية) وذلك ما تحدد به هذه التمثيلات مثالا: (لم أجرؤ قط منذ ذلك العام على أن اتلفظ أمام أبي بكلمة ـ مهرجان ـ لفرط ما كانت تفرقه في ألم الذكريات، وما كانت أسرتي لتحتفل بعد ذلك بهذا العام./ص84 عام المهرجان ـ كتاب غرناطة/ الرواية) ربما المعنى السيري للوثيقة التأريخية هنا في متممات هذا الفصل، بدت لها أكثر إيغالا في الشواهد ذات الصلة وطبيعة العوامل الأدائية الكامنة في رؤية الأثر المرجعي، ولكننا عندما نطيل المتابعة لأدق التفاصيل الإشارية في مقاربات الوثيقة، نلاحظ استقدام المعالجة التخييلية المرتهنة في تحريك البناء الروائي نحو لغة الخيال المتواصل في عملية المسرود وخصائصه التي تبدو مرشحة في مكونات استدعائية غالبة على مسودة الوثيقة: (وربما كان علي بالحري أن أقول في ذكرى القديس يوحنا في الرابع والعشرين من شهر حزيران ـ يونيه ـ. لأنه لم يكن يحتفل بالمهرجان بحسب العام الهجري، وإنما تبعا للتقويم المسيحي.فذلك اليوم يمثل منقلب الصيف الذي يحدد مدار الشمس، فلا وجود له في سنتنا القمرية./ص84 الرواية) من هنا نعاين بأن أمين معلوف راح يشكل من خلال محوره الشخوصي جملة محددات تتعلق أولا بحدود سيرة مرجعية، إلا أنه أضاف بالإيقاع التقويمي وفعالية مؤشراته الزمنية المتفاوتة، إلى القيمة الملحوظة عبر فضاء توليد السارد والمسرود بهذه الصيغة إذ غدا الأمر تأطيرا في التفسير الخلاصي الذي مبعثه الأرجح هو الانطباعات الحسية والصور والتواترات وعمليات قمع القشتاليين، وبكل هذا وذاك تنكشف حقيقة المسودة الوثائقية المروجة دون شك، بالشكل المعطى من حياة (الفاعل المروي) وإذا استتبعنا فاعلية الحياة الفعلية للمتخيل، لوجدنا أن أغلب نقاط التحول بين (سيرة وثيقة ـ وقائع سرد روائي) تستكملها طبيعة الشخصيات المنظورة بالمسار المتخيل، وليس بالعامل الحقيقي الخاص من سيرة الواقع المرجعي.لذلك فأن التفكير في منظور المروي لدى الشخصية الضمائرية بالمسرود، هي متحولة بالسيرة المرجعية للوثيقة، طالما هناك فاعلية متواترة بالأحداث المحكية ومتابعة سردها من خلال أداة ذاتية موغلة في تفاصيل النمو الروائي الموافق والمنطلق من حدود مرجعية، غير أن نقطة التحول والاستبدال في الشكل المسبوغ، بدت من مهام عوامل تخييلية في الانشغال الإمكاني للمحفوظ المرجعي.

1ـ الفضاء المرجعي وزمن الوقائع المسرودة:

ولو حاولنا إبراز كيفية الأشكال الفضائية في متواليات وتمظهرات المستوى المرجعي في الكتابة الروائية، لوجدناها تمتاز في تجليات خطاب (الراوي المتناوب) إي بمعنى ما أن علامات المروى إليه تتم من خلال (الراوي ـ المروى إليه ساردا ـ تناوبية الرواة) وهذا الفضاء من الرواة والمرويات تسند إلى جملة الذات الناظمة والمتمثلة ب (ليون) ارتباطا بالشخصيات والأحداث والحالات الأكثر ثنائية بين (الراوي ـ المروى إليه) وعلى هذا النحو أضحى مستوى الكتابة الروائية ـ المرجعية، كعلامة تلاقحية يراد من خلالها تقديم الخطاب المروى إليه، كوظيفة متمحورة العلاقة بين (الفضاء المرجعي ـ معالجات التخييل) كتقنيات في الرؤية السردية التي لا يبارحها زمن البناء الفعال في علاقته المباشرة أو اللامباشرة ومسودة الوثيقة (السيرتأريخية).ولو دققنا في بعض الوحدات المسرودة، لواجهتنا إشكاليات عسيرة من المستويات في الأخبار والأوصاف والاستطلاعات ذات النكهة المروية إلى درجة الإجناس الرحلاتي: (لقد انضم إلى أولئك الرعاع في تلك السنة مئات الجنود القشتاليين، فاجتاحوا منذ الصباح الحانات الكثيرة التي فتحت بعد سقوط المدينة./ص86 الرواية). كما أن الأساس البنائي في مسرود الأحداث ينتمي إلى مواصلة الروي ـ اهتماما ملحوظا ـ لأجل دعم الإمكانية الفعالة في شواهد الوثيقة السيرتأريخية، ذلك لأن الهدف والمراد الأول من مهام هذا النص الروائي، هو الإفراط في طرح تقاويم ووجوه ومسميات وزمكانيات نستشعر من خلالها مدى حقيقة الوقائع في حساسية الوثيقة المرجعية، إلى جانب توفر خواص وخصوصية التلاعب بالشخصية وملامحها الحسية والدرامية مع اختلاف توقعاتنا في مؤثرات درجة الخلق الروائي عن الوثيقة النقلية كشاهدة حديثة ذا وجود تأريخي محنط بالتقاويم وغبار حوافر الخيول وهمسات حوارية المروى إليه راويا.

2ـ فرضية المسرود حضورا في مفارقة الأحداث:

ربما من الجدل البديهي أن نقول: أن الرواية التأريخية لا تقدم فرضيات البناء الحقيقي للنص الروائي غالبا، فهي أحيانا تبدو لنا إعادة إنتاج أو معالجة سردية إلى حقيقة مرجعية، كما الحال في روايات تأريخية عديدة.غير أننا في رواية (ليون الأفريقي) قد نصادف حقيقة الوقائع في أبعادها السير تاريخية، ولكن ليس بالضرورة أن تحمل الكينونة الروائية للنص المرجعي، كل الحقائق المنقولة من أسماء الشخوص وأشكال الحوارات والمسرودات وبعض الأفعال المشتملة على الأستلهام التخييلي.إن رواية (ليون الأفريقي) تقدم باختصار ما يتفرد به أستلهامات الدليل الروائي من دلالات وأدوار وتوزيع ووظائف عاملية، وليس كما هو مرجحا في الوثيقة للمصادر التأريخية المتشدقة حول حوادث غرناطة وسقوطها على أيدي القشتاليين.هناك في رواية أمين معلوف، كينونات إشارية وعلاماتية وإحالية ووصفية، ناهيك عن صياغة المشروع الروائي في أوجه تتجلى كوحدات اختلافية عن إطارية نموذجها المرجعي.يمكننا القول في هذا الصدد، بأن تراتيبية الأحداث المسرودة، ذات الأفق التحولي في مسارية وقائع متغيرة، إذ نلاحظ ما في هذه الاقتباسات من المسرود، ما يجعل المسار السردي أحداثا مستندة على ما يحدث وعلى ما لم يكن متوقعا: (كان أبي يمشي في الطليعة ممسكا بيد مريم من جهة وبيدي من الجهة الأخرى ـ كانت أمي على بعد خطوتين خلفه تتبعها عن كثب وردة عندما صاحت بغتة:جوان !وجمدت في مكانها ـ توقف على يميننا جندي شاب ذو شاربين مطلقا صيحة مخمور خفيفة وهو يجهد في التعرف إلى المرأة المحجبة التي نادته على هذا النحو./ص86.ص87 الرواية) عبر هذه الهيئة من الحس اللامتوقع بوقوع هذه المناداة، تتجسد المداخلة المشهدية، وتبرز من خلالها خيارات التفاصيل الأكثر نذيرا بالشئم.من الواضح أن الكاتب معلوف يتوفر في سرده عنصر المباغتة بما لا يكون متصلا في مجال الاحتفاظ بما تحمله الواقعة التسجيلية في حذافيرها المنقولة.وربما من هنا تكمن مظاهر الوظيفة الروائية وتبديد صورة اللحظة التاريخية.أقول للأسف وحتى بعد انصرام عقود عظيمة من تجربة الرواية التأريخية، والى الآن هناك روائيون لم يستوعبوا كيفية أن تكون عليه أدوات وصياغة ومسوغات النص الروائي التأريخي، فهي ليست سيرة ذاتية لأزمنة ماضوية يعاد نقلها من خلال صفة إعادة المادة في صورة جديدة من الإسهاب الإنشائي، بقدر ما هي تجربة تحول في المشاهد ومظاهر الذاكرة المرجعية، إلى صعيد ممارسة ممكنة في ملمح الانطباع للمقروء في الوثيقة التأريخية، أي جعل إمكانية واقع المرجع إلى هوية ذات أصداء وملامح مغايرة ليس في معيارية الحقيقية، بل في مساحات ملاعبات حبكة التخييل.إذا تأملنا عن كثب الضمير المروى إليه في شخصية سلمى أو الأب محمد الوزان أو في الشخصية ليون ذاته، لوجدنا أن دلالة المادة النقلية في المسرود إليه، ما هي إلا حلقات من الوصل في الإيحاء بأن الشخصية ليون هو من يتكلم وينقل، وما هذه الوسائط في الرواة إلا استجابات في المحكي الزمني الذي كان فيه المحور المركزي طفلا أو صبيا.أقصد من وراء كلامي هذا، أن القيمة التأليفية للنص الروائي تتوزعها مراحل من الرواة والمتن الحكائي ثم ذلك الزمن بالنهوض بالخطاب كقيمة تتجاوز ملابسات أعباء إعادة الإنتاج للمادة المرجعية.

3 ـ الفاعل المروى إليه وعوائق السابق باللاحق الزمني:

ويمكننا في حال الإحاطة بالأفعال المسرودة، فهم أوجه الأسباب الإعاقية في إحالات (الفاعل المروى إليه) عندما كان يحمل أو يقاد من قبل شخصية الأب محمد الوزان إزاء حادثة مناداة الزوجة الرومية وردة إلى شقيقها جوان، حيث تتضح سمات الإعاقة البادية على وضع الأب الوزان من جراء المتعلقات الإشكالية بين السابق الفعلي من الأحداث وما كان لاحقا بها من التصاعد الزمني: (شعر أبي على التو بالخطر وقفز خطوة نحو أم ولده وأمسك بمرفقها بقوة وهو يقول بصوت خافت:لنعد إلى البيت يا وردة!لنعد بحق عيسى المسيح؟كانت نبرته متوسلة لأنه يحيط بالمدعو جوان أربعة جنود قشتاليين ثملين ومسلحين ـ هتفت للشاب الذي ظل ذاهلا:جوان، أنا إسمرلدا، أختك./ص87 الرواية) تتبين لنا من خلال تقلبات المشهد، أن شخصية الأب تخشى في ذاتها من فقدان الزوجة وردة، بعد إحاطة شقيقها جوان بوجودها تتمخض عنه مدى استنزاف شخصية محمد الوزان الذي راح لا يقوى على مواجهة أهالي الحي بأسره، بأعتبار أنه غدا مطعونا في كرامته كرجلا تسلب زوجته من أمامه فلا قوة له ولا حول على استعادتها إليه مجددا.من جهة أخرى نلاحظ مقدار المقصدية في كلام الشخصية ليون، ومدى تحديدها للزمن في نطاق مقاربة التصور والتقدير كقوله: (وأما أنا فلم أكن أفقه بالطبع شيئا من المأساة الدائرة أمام عيني الطفل الذي كنته./ص87 الرواية) كل هذا يزيد من تأكيد أن الفاعل الذاتي كان ساردا إلى مرسل إليه ما، بعد أن كان هو ذاته في موقع المرسل إليه، ولكن اللعبة في مواقع الرواة أو المروى إليهم أخذت مع نمو الأحداث الروائية، تتركز أحيانا في الكشف عن ليون راويا إلى جهة المقروء الإجمالي في سياق التلقي أو ربما أن تقاوم الزمن التصاعدي في النص ليكشف لنا المقصدية بوسائل أكثر تدليلا ودلالة.

ـ محاور ترسيمة الرحيل وسياقية الحكاية المرجعية

توافينا دلالات الفصل (عام الرحيل) في جملة تمظهرات حدثية في عملية الانتقال من غرناطة إلى ألمرية، حيث الأجواء في غرناطة أصبحت غير منسجمة مع المسلمين من أهالي المدينة ذاتها، وما كان على رأس الحث في حركة الهجرة التي قامت بها العوائل المسلمة هو الشيخ ـ أستغفر الله ـ هذا الرجل المتظاهر في التدين بالحيلة والغل من القشتاليين في الضمير الفردي وبالجمعي والأخذ بالأحساس المسؤولية إزاء بقاء بعض المسلمين فوق أرض أصبحت ملكا صرفا إلى جيوش الكفر: (ـ أرحلو، هاجروا..دعوا الله يسدد خطاكم لأنكم إذا رضيتم بالعيش في الخضوع والذل.. إذا رضيتم بالعيش في بلد تنتهك فيه تعاليم الدين الحنيف/كانت كلمات ـ أستغفر الله ـ ترن على وقع سبحة العنبر التي كانت أصابعه الهزيلة الورعة تفرق حباتها بلا كلل./ص94 الرواية).

1 ـ قلق الهوية: استلاب ذاتية الإنتماء:

يعد الحديث عن فكرة الهوية وهو من الموضوعات المثارة في فصول رواية (ليون الأفريقي) حيث انقلاب منظومة العلاقات والخطاب القومي والعقائدي والعرقي إلى حلقات طويلة من المساجلات التي تناقلتها الألسن عبر العيش في موطن أصبح لا يتحلى إلا بالتسقيط الكامل إلى العقائد والقومية المخالفة للمسيحية القشتالينية: (فحسب اتفاق التسليم كان أمامنا حتى بداية 1495 المسيحي للتقرير، بيد أنه لما كان اجتياز البحر إلى المغرب محفوفا بالريب منذ شهر تشرين الأول ـ أكتوبر ـ / وسرعان ما الصق بمن رغب في البقاء النعت الذي سبق إطلاقه على المسلم القاطن أرضا مسيحية ـ مدجن ـ وهي كلمة حرفها القشتاليون إلى ـ مديجار ـ وعلى الرغم من هذه التسمية الشائنة فإن كثيرا من الغرناطيين كانوا مترددين./ص95 الرواية) وتتبين من خلال سياق الأحداث والأفعال بأن هناك كان من يعقد ذلك الاجتماع السري في حديقة ـ بألبيسان ـ بيد أن الشخصية ـ أستغفر الله ـ كان يحضر حينما يكون متاحا له الحضور..وقد نلاحظ من جهة خاصة بأن هذه الشخصية له الكلمة العليا، وأن كان يقولها غالبا بصوت هامس.ذلك للدلالة على أنه صار مذاك في بلد معاد، وكان يبادر بدوره إلى زمام القول إنه إذا لم يكن قد سلك حتى الآن طريق المنفى فذلك فقط لثني المترددين عند درب الهلاك.وتخبرنا الأحداث السياقية في المسرود الروائي، بأن أعداد المترددين ممن كانوا حاضرين بالقليل، بدءا بمحمد الوزان: (أبي الذي لم يكن قد فقد الرجاء في العثور على وردة وابنتها؟) كان محمد الوزان عندئذ قد أقسم أن لا يرحل من غير أن يصطحبها وابنتها مع زوجته سلمى وليون ـ حسن محمد الوزان ـ وبعد زمن بحثه الدؤوب واتصاله بالشخصية حامد الفكاك قد أفلح أخيرا في تكليف تاجر جنوي أسمه ـ برتولوميه ـ ممن يقيمون منذ أمد طويل في غرناطة، وكان هذا الرجل يكسب المال الكثير عن طريق التنسيق في إطلاق الأسرى مقابل مبلغ مالي.

2 ـ مذكرات الراوي في تمفصلات المسرود إليه:

إذا كانت كل أنماط المسرود في تمظهرات دلالات رواية (ليون الأفريقي) تبدأ بمذكرات أطروحة يكون خطابها وفق آليات (الراوي ـ المروى إليه) فذلك تمثلا إلى المكونات التي تمتاز بها بنية ودلالة ومنظور الرواية.

ـ تعليق القراءة:

وعلى هذا النحو تواجهنا العديد من مجريات الأحداث المروية والتي تنحدر من (حديث الراوي ـ المبئر المتكلم ـ ذاتية النقل ـ تأزم المصير).وتبعا لهذا وذاك تتابع الأحداث في فصل (عام الرحيل) وفصل (عام الفنادق) كمسرحة المسرود عبر (زمن الرواة ـ المروى إليه) في سياقات حدثية وفعلية من فضاءات (المتكلم: الفاعل الذاتي) وصولا إلى تفاصيل مشبعة أوصالها الافعالية بكافة الاسترجاعات المتحققة من فكرة ورؤية (سيرة الوثيقة المرجعية) ـ اقترانا ـ لها بمشاهد وقائع آليات الخطاب الروائي الذي غدا مطروحا في آلية الوعي كمؤطرا لسيرة المرواتية (داخليا ـ خارجيا) إذ تتراءى منهما مسحات منظور المتكلمين وبحدود تتناسب مع كيفيات المبئر الأحوالية والأدوارية والعاملية وفي تفاصيل كفيلة بالإحاطة بمسيرة الفصول والوقفات والتقاويم الهجرية المتمثلة في رؤية مؤدلجة وتوليفية من وجهة نظر الروائي وتبئيرات الرواة من الآباء والامهات والأبناء بمن فيهم هو الناظم الأوحد: (وكان علينا التأكد من عدم الوقوع في أحد تلك الأمكنة السيئة السمعة، أن نبحث عن فندق بجوار جامع القرويين.. فهنا كان ينزل الأثرياء من المسافرين التجار./ص118، عام الفنادق / الرواية) هكذا بدت لنا مساحة الحكي تتخللها الأصوات لجملة الرواة بين الفينة والأخرى.. مساحات من أصوات الرواة والمرويات المتناوبة في آليات حركة المسرود والسرد والأوصاف والأخبار والزمكانيات المنزوعة الوظائف وذات الوظائف المقترنة في تماثلات الأحوال الشخوصية اختزالا في مدارات أفق الذوات والمدن ووقائعها الوثائقية والتخييلية والحسية واصطداماتها الحجاجية في مغزى تخليد النص الروائي كقيمة إمكانية عبر شرنقات (المرجع النصي) وكتجربة إبداعية في تصورات المخيلة والتخييل والانحيازية بالدليل الوظائفي إلى تقنيات البناء الروائي الارتدادي.

***

حيدر عبد الرضا

قصص قصيرة للكاتب السعودي حسن الشيخ، إصدار دار ريادة للنشر والتوزيع/2023 .

يعيش العالم العربي كثيرا من التناقضات التي أنتجت العديد من الأزمات سواء على المستوى الاجتماعي أو الفكري أو النفسي. ولم يكن الأدباء يوما إلا جزءا من هذا العالم حيث أدت تلك الأزمات إلى تعرضهم لصدمة انعكست على تجربتهم الأدبية. وكلما ازدادت التحولات الحضارية تعقيدا وازدادت الأنظمة السياسية تعددا وتضاربا كلما انعكس ذلك على الإنسان بشكل عام فأصبح أكثر ميلا إلى الاضطراب والتمزق الداخلي وعلى الأديب بشكل خاص حيث انعدمت ثقتة بالواقع، فأفرزت معاناته على مستويات متعددة من الاغتراب. والاغتراب ظاهرة انعكست على كتاباته حتى غدا موضوعا بارزا فيها. فنجده يعمل على نقل رؤيته وأثر التحولات المحيطة في بنيته النفسية والفكرية من خلال نصوصه.

وتعتبر القصة من أكثر الأشكال الأدبية اقتناصا لقضايا الواقع.من حيث أنها تمتلك القدرة على إعادة بناء تلك القضايا على نحو حيوي ومركز ومكثف يقوم على اختزال اللغة والفضاء زمانا ومكانا وشخوصا ثم نتيجة لذلك اختزال الموقف والرؤية الفنية المطروحة. ومن هنا نجد أن حسن الشيخ في كحل مريم قد توجه إلى عالم الغرابة والخيال والعجائبي لفهم الواقع ورصده ثم رفضه.حيث سعى من خلال أبطاله إلى تغييره والتحرر منه وإحلال واقع جديد أكثر حرية وكرامة.وقد يكون النزوع عنده إلى ذلك العالم للتعويض عن الشعور بالنقص الناتج عن القيودالمفروضه على الكاتب سياسيا واجتماعيا وثقافيا.

وقد جسد الكاتب فكرة الاغتراب من خلال أبطال قصصه.فنجده وقد رسمها بدقة ليطرح من خلالها مشكلات نفسية بوحدتها وقلقها ويأسها وقد ظهرت صور الاغتراب بأنواعها الجسدي والذاتي وغيره من الأنواع في كحل مريم.

ويتضح للمتلقي في القصة الموسومة ب أنا خنثى مظهر من مظاهر الاغتراب الجسدي على لسان البطل زكي أو البطلة زكية (هواجسي مشتتة، مبعثرة، أحاول لملمتها فيفضحني جسدي، أنا متعب من حمل هذا الجسد) ونلاحظ من خلال هذا الهاجس على لسان البطل/البطلة مقدار المسافة التي تزداد بين الذات والجسد. وانطلاقا من هذا نجد أن الذات تحاول أن تحط من قيمة الجسد الذي كان سبب اغترابها وآلامها فعلى لسان زكي/زكية (أتمنى أن أعيش هادئا، ساكنا، مثل دودة صغيرة في بلور ملحي منسية منذ سنين). وإحساس الشخصية بالتقزز من جسد يجعلها تبحث عن الإنفصال عما حولها (في قارورتي الزجاجية تلك سجنت نفسي، كانت حدودي الآمنة من الآخرين).

وفي القصة الموسومة ب رجل المستنقع نجد الصراع بين الذات والجسد يؤدي إلى انفصال الذات عن الجسد ومحاولة الخروج منه إلى جسد آخر لا يشبهه (الآن أشعر أن هذا المستنقع بدأ يتسع لي، إلا أنني أصبحت رخوا، لينا، قد بهت لون بشرتي واخضرّ، بدأت أفقد شكل ساقيّ شيئا فشيئا، فإذا هما تشبهان ساقيّ ضفدع عجوز....وعندما صرخت بأعلى صوتي لم يخرج من شفتيّ غير النقيق).وهنا يتضح لنا بأن البطل عندما تحول إلى ضفدع وخروجه من جسده الأصلي إلى جسد آخر نفى عنه أسباب الاغتراب التي أفقدته حريته. فكان التحول طريقه للإنطلاق بحثا عن ذاته الحقيقية (الآن أشعر بالرضا وكفى، وهذا المستنقع هو رحمي الأول الذي حملني قبل أن تلدني أمي هناك).

وفي القصة الموسومة ب أنا أطير تتضح ملامح الاغتراب الذاتي حيث نجد البطل يعيش في الأوهام ويخلط بين الواقع والحلم. ويتضح هذا للمتلقي عندما يقرأ ما جاء على لسان البطل(ربما أنت تحلم، هكذا قيل لي، إلا أنني متأكد من أنني أعيش الواقع لا الحلم، لا يهم ما يقوله الآخرون عني، فأنا أرسم واقعي لا تخيلاتي......أنكمش إلى داخل ذاتي، أتكور، أدور على نفسي لآلاف المرات، مخافة تسرب الحلم من يدي).فالبطل يستغرق في الحلم بإرادته ويتمسك به خوفا من فقدانه، لأنه يزيد من عزلتة ويفقده التواصل مع العالم من حوله. فكل شئ حوله يطير والطيران يرمز إلى الإنعتاق من قيود الواقع والحصول على الحرية التي تتوق ذاته إليها وربما تتوق لها ذات الكاتب.

وقد سعى حسن الشيخ عبر أبطاله العجائبيين إلى إعادة إنتاج معاني وقوانين بديلة للواقع المستبد وكشف ما هو مضمر تحت سطح السرد وفي نفس الوقت الكشف عن حجم الاغتراب والفشل في تحقيق الذات عبر الواقع. ويتضح هذا في القصة الموسومة ب الصراخ بلغات مختلفة حيث نجد مجموعة غريبة من الناس أوصافهم غريبة تلاحق البطل وتسعى إلى إنزال عقاب ما فيه على ذنب لم يقترفه (أجسامهم قصيرة جدا، كأنهم عشيرة من الأقزام التي تعيش في القارات البعيدة إلا أن أيديهم طويلة جدا يلوحون بها أمامي) وبالرغم من اعتراف البطل بذنب لم يرتكبه إلا أن المجموعة لا تكف عن ملاحقته إلى أن تتسبب في سقوطه في مجاري المدينة الموحشة. وهذه القصة فيها إشارة إلى العجز عن تغيير الواقع المستبد. وهذه القصة كما الكثير من قصص المجموعة تحمل إشارات سياسية أعلنت عن ما هو مسكوت عنه.كما أن اللجوء إلى تقنية الاسترجاع باستعادة الماضي المفقود وتكراره يجعل البطل ينفصل عن واقعه الذي يشعر فيه بالاغتراب النفسي ويستعيد نفسه من خلال الماضي البعيد ويتضح لنا هذا في القصة الموسومة ب لا أستطيع البقاء حيث البطل أحمد الذي يسير في شوارع المدينة بلا هدى يجتر ماضيه ويغمض عينيه لكي لا يرى سواه(تذكر آمنة التي يحملها جثة هامدة في داخله. تذكر ضحكتها التي تندلع بصخب هادئ من بين شفتيها الغليظتين المثيرتين، تطلع إلى الشوارع المزدحمة، والناس المسرعين والمباني الشاهقة....ثم أغمض عينيه كي يحتفظ في ذاكرته بما تبقى من رسمها الذي كسرته الأيام).

ومن مظاهر الإغتراب لجوء الكاتب إلى توظيف السريالية أو ما وراء الطبيعة حيث ينعكس العالم الغريب لدى البطل على كينونته الداخلية وحالته النفسية والذهنية فيلجأ إلى تجاوز المنطق وتوظيف كل ما هو غريب لا ينتمي إلى الواقع ويقدمه على أنه واقع حقيقي عن طريق صنع العوالم الغريبة بالخيال والاستيهام بلغة تقترب من لغة الحياة اليومية المألوفة ليشاكل بين الواقع واللاواقع فيجعل اللاواقعي واقعي والعكس.وويتمثل هذا في القصة الموسومة ب كحل مريم حيث مريم تمتلك مكحلة سحرية ما أن تكتحل بكحلها حتى ترى تفاصيل المجهول والأحداث(ضاعت منها ابنتها مريم، فخرجت تبحث عنها..وقف أمامها عفريت من عفاريت الجن..فاخذها العفريت إلى أحد الكهوف الجبلية، وإذا بمريم نائمة فيه..وأهداها العفريت مكحلة، قال لها إنها من خزائن سليمان.. اكتحلت بها مريم فرأت البعيد ..استطاعت أن تعرف نوايا الناس). وقد وظف الكاتب السريالية في أكثر من قصة في مجموعته القصصية لينقل للمتلقي مظاهر الإغتراب التي يعاني منها أبطاله.

إذن فقد ارتبطت الغرابة في قصص حسن الشيخ بالوحشة وهي حالة من الشعور بالعزلة والخوف والإفتقار إلى الأمن التي نتجت عن علاقته بالآخر الذي يشاطره المكان فتعمل الوحشة عملها فتزداد الوساوس والآمال لذلك نجد الكاتب يلجأ إلى كل ما هو غريب وعجيب إلى ما وراء الواقع ليحول خوف أبطاله إلى طمأنينة ووحشتهم إلى أنس.

بقي أن نقول بأن حسن الشيخ قاص وروائي سعودي من الأحساء عمل في الصحافة الثقافية واشتغل في الإعلام المرئي وهو أستاذ جامعي له العديد من الأعمال الإبداعية المنشورة.

***

قراءة: بديعة النعيمي

منذ مطلع القرن المنصرم والنصوص الأدبية، التي تهتم بالرحلة للغرب، في تزايد، لكن الخط في تلك الأعمال ليس واحدا. ولا بد من التمييز بين أدب الترحل الفني ومثاله العجيلي وسهيل إدريس وآخرين، وأدب الرحلات التثقيفي الذي يتحرك بغرض الاستطلاع ثم تقديم الدروس والعظات. وإذا كان على رأس هؤلاء شيخ النهضة والتنوير الطهطاوي، فلا يمكن استثناء الحشد الذي تركه السفراء والموظفون الحكوميون والرحالة بشكل عام. ولو حصرنا الحديث في النصوص الفنية فقط، سوف نصل حقا لمشكلة لقاح الشرق والغرب ومسألة التجنيس والسوسيولوجيا التي تغذيها مجموعة من العقد وشرائح من المكبوت، وعلى رأسها المثاقفة، وهو هم حضاري، والمغامرة الجنسية ذات العلاقة بالغرائز والتربية والحالة الاجتماعية. ويرى جورج طرابيشي، في أطروحته عن سوسيولوجيا الذكورة والأنوثة، أن المسألة تعبر عن ضياع الفحولة الشرقية، هباء منثورا، في أحضان التأنيث الغربي. وهو يعتقد باختصار: أن ابن المشرق لن يكتب له التوفيق والنجاح، في أية مواجهة عسكرية، ولا ثقافية مع الغرب، لذلك لم يجد غير أسلوب واحد، وهو إشهار سيف ذكورته، وتحويل الغرب إلى مجرد فرج. وهكذا كان يساوره الشعور بالزهو كلما ركب فتاة أوروبية، وكأنه يركب أوروبا بكاملها (ص15). ولئن حشد طرابيشي لإثبات أطروحته جملة من الأعمال الهامة المعروفة، منها "الحي اللاتيني" لسهيل إدريس و"عصفور من الشرق" لتوفيق الحكيم و"أحلام يولاند" لفؤاد الشايب، فقد نسي عمدا أو لدواعي عدم الوقوع في التكرار بعض الأمثلة النمطية، ومن الأجدى التذكير بها. وفي المقدمة "الظمأ والينبوع" لفاضل السباعي و"نهم" لشكيب الجابري.. ويمكنني التأكيد أن نصوص الجابري كانت أقرب للهم المعرفي باعتبار أنها ربطت الجنوسة بالدواعي العرقية. وهذا هو شأن السباعي.

ولا أقصد بالعرق عقدة التفوق التي يتبناها اليمين الشوفيني، وإنما مشكلة العجز أو الشعور بالدونية حيال الغرب المستعمر (انظر "نهم")، والشعور بالنقص والهزيمة حيال الغزاة (انظر "هكذا سنقاتلكم في فلسطين")،  وهو برقع الشرف والعفاف الذي نستر به حقيقة الخصاء والعنة ( في مثال السباعي).

وبرأيي كان الحب العذري اختراعا بطريركيا يصل لمشارف الأسطورة، وذلك للمناورة حول مشاعر الكبرياء، ولتلافي أية مواجهة مع الحواجز الاجتماعية؟. وبهذه الطريقة ينقل الكاتب رسالته، ومضمونها الصراع، لما وراء خطوط العزل. فالبحث عن شرط الاستقلال يعقبه البحث عن جوهر التحرر. وفي هذه الحالة لم يختلف الهم، لكن تبدلت الأسماء. وطبعا لحق بذلك تبدل لا بد منه، وهو أهم عناصر الخيال الفني، ومجاله الفترة الزمنية والمكان. وفي هذا السياق أصبح من المجدي أن نتعامل مع المشكلة على أنها متابعة ومؤازرة. فالمغلوب (وهو ابن حضارة المشرق) ينقل المعركة لأرض الغالب (وهو في معظم الأوقات من الجنس المؤنث). وهنا تبدأ المشكلة.

فطرابيشي بعتقد أن ابن المشرق يريد الانتقام لجراحه ولكرامته عن طريق الغزو الجنسي. ولئن خسرنا المعركة على الأرض نكون قد كسبناها على السرير. لكن هذا الوهم القروسطي والقبائلي الذي يعكس شيئا من العنجهية غير المبررة يجد ما يحد من عنفوانه.

أولا - الذات الفنية. فهي غالبا منبهرة بحضارة الغرب ودائما هنالك ما يعجز اللسان عن الاستطراد بمدحه لدرجة التأليه. حتى أن عاصمة الخلافة العثمانية، وهي من معاقل المشرق، تبدو في أعمال أدبائنا الرحالة صورة ثانية من الميتروبول. حتى أنني لم أجد أي فرق بين بيه أوغلو في "خرائط منتصف الليل" لعلي بدر والصورة الفريدة لأحياء سوهو في "ضياع في سوهو" لكولن ويلسون. وكانت روح الضياع والتشرد، التي قادت خطوات علي بدر في أجزاء مدينة اسطنبول القديمة، هي نفسها الليبيدو السريالي الذي فتح نافذة على لاشعور الأجزاء الليلية المستهترة من وسط مدينة لندن. وهذا دليل لا يقبل الشك أن بدر ما زال تحت التأثير المعتاد للقاء الشرق بالغرب.

ثانيا- حدود النوع. نعلم أن الرواية بدأت في بواكيرها على شكل قصص متفرقة يجمعها خيط واحد، وهو التسلية والترفيه في "الديكاميرون" لبوكاتشيو وإرادة البقاء والحياة في "ألف ليلة وليلة". وبالنظر للأعمال الجديدة التي تنتسب لهذا الشكل النمطي من الخيال يلفت الانتباه أنها مدينة لحكمة وفلسفة بوكاتشيو اللاتينية، وليس لفلسفة الشرق وغرائبيته وميوله نحو السحر والخرافة كما في ألف ليلة. وبالتقليب في صفحات "أخبار آخر الهجرات" لبرهان الخطيب، دائما، بمقدور القارىء أن يتابع الشخصيات، وهي تتصرف بمنطق وحذر، ودائما هي في مواقف محرجة الغاية منها الحاجة للتأقلم والاستيعاب وليس روح التحدي. ولئن سجلت بعض المواقف شيئا من الأنفة والتذمر سرعان ما تذوب في دائرة من الرغبات المتصارعة، لكن المحسوسة، التي تختار الإلغاء والنفي على حساب العودة. والعودة للوطن في هذا العمل، لو وزناها بميزان الفكرة الروائية، تبدو أشبه بخسارة أو فاجع.

وباعتقادي لا توجد في "أخبار آخر الهجرات" تلك الوسائل السحرية والمعجزات التي هي جزء لا يتجزأ من العقل الشرقي، فلا مصباح علاء الدين موجود، ولا البساط السحري ولا صولجان ملك الملوك. ولا يستعين أبطال هذا العالم، المجزأ والمفكك والمصدوم بصعوبات الواقع ومرارته، إلا بالبداهة والفطرة. وآخر سهم في الجعبة هو الصمت أو اللجوء لعالم من الأحلام الذهبية، وهو نفسه الشرط الفني الذي صعد عليه بوكاتشيو ليتغلب على أزمة الطاعون الفتاك. فقد لجأ للترفيه كي يتغلب على الرضة النفسية. وبإلقاء القصص التي تستند لمواعظ ودروس في الأخلاق الرفيعة حاربت شخصيات بوكاتشيو الألم والمرض وأسباب التدهور الذي لحق بالبنيان المتماسك للمجتمع. ولعل برهان الخطيب فعل مثله. فقد حاول أن يغض الطرف عن هزائمنا في المعرفة والحضارة بواسطة نقل خطوط العزل وتبديل الاتجاه. وساعده مثل هذا التحويل في كسب الوقت، ولذلك فإن غراميات أبطاله ليست انتقاما فرضته الحضارة الجريحة، لكنه نوع من الهروب، أقله تأجيل للمواجهة.

ثالثا- يمكن قول الشيء نفسه عن تحديد الجنس. فالغرب يبدو بصورة مؤنثة، في أغلب الأحوال، لكنه في الواقع هو المذكر دلاليا.

وهذه الأعمال، على ما أرى، ليست درسا في التشريح. والمؤنث في العلوم الطبيعية قد ينطوي على قدر لا يستهان به من الذكورة في التحليل النفسي.  ومن المعروف أن كل بنية دائرية لها مفعول أنوثي، وكل بنية خطية لها دلالة رجولية أو دلالة تذكير. ومثل هذا الوعي النفسي تراه من غير مكياج في أعمال بعض الروائيات.  وإنه حتى بالنسبة للرواد كان المهاجر ابن المشرق هدفا لأحابيل وجاذبية الغرب المؤنث. وهذا يسجل هزيمة مزدوجة ومضاعفة. فهو العنصر المكتسب والمتلقي الذي يتعرض للتلقيح وبأسلوب الحضارة المضيفة. وهو الأرض التي يمهدها ويحرثها حديد الحضارة الغربية. ويبدو ذلك بوضوح في "أخبار آخر الهجرات" ابتداء من طريقة الغزل المادي والمكشوف، وانتهاء باللسان المتكلم الذي يستعمل لغة أجنبية وراءها زوادة من المعارف. ولا شك، دلاليا، وكما يقول بيير داكو (في سيكلوجيا الأعماق): الرجل هو المرسل والمرأة هي التي تستلم الرسالة.  وعليه يمكن الجزم أن تلك الروايات (من حيث لا تدري) هي ضحية التحويل الفرويدي المعكوس، حيث أنه لدى المرأة قضيب - شبح ghost limb من نكاح سابق، بينما الرجل يلمس عيب النساء لأول مرة. وذلك تعبير مجازي طريف عن الطريقة التي استولى بها الغرب على غشاء البكارة المشرقي. وهذا الغشاء، كما أرى، هو اختراع حضاراتنا الجريحة، التي وجدت ما تقتات عليه من خلال التمسك بالأخلاق والشرف.

***

صالح الرزوق

توطئة: "ان الخطر بالنسبة لاي كاتب هوالاستبعاد قبل الاستشكال".

(اديب طه حسين هو المثقف المغترب المتردد بين النبوغ والجنون، الذي يخفق في كل مساعيه فلا ينفع نفسه ولا ينفع امته .او ليس لانه اديب واديب فقط ؟ ماساة مصر التاريخية من حلال ميل ثقافي ونفساني)... عبد الله العروي: من التاريخ الى الحب

(1)

عن دار النشر المتوسط بايطاليا صدرت الرواية الجديدة للاستاذ حسن اوريد " الموتشو" والحق انني لم اكن متحمسا لقراءة الرواية اولا، لان قراءتي في مجال الرواية تقلص كثيرا واخر رواية قراتها للاستاذ حسن كانت روايته "رباط المتنبي" و اعجبني كتابه السردي رواء مكة..

اما روايته الاخيرة ما يهمني فيها هو ما ورد فيها عن الاستاذ العروي واثار بعض الاستهجان على صفحات التواصل..

ونظرا لاهتمامي بفكر الاستاذ العروي كان لا بد من الاطلاع على ما ورد في الرواية حول العروي وضمن اي سياق جاء ذكره..

والجدير بالذكر ان الرواية مليئة باسماء كتاب ومؤلفين اقحمت اسماؤهم في السرد الروائي من غير رابط يربطهم بالنسيج الروائي..، فقد اقحمهم السارد اطنابا وحشوا مما اخل بالبناء الفني للرواية .. وغني عن البيان ان غياب التصويرالفني، أفقد السرد مسحته الفنية وأصبح مجرد كلام مباشر فاقد للشحنة الفنية..

ولست بصدد تقويم نقدي للرواية فذلك يتطلب قراءة فاحصة ومدققة..

وما اريد ان اتوقوف عنده ينحصر في ابداء ملاحظات على السياق الذي تطرق فيه للاستاذ العروي من خلال ربطه بالرؤية السردية بقصد فهم مراد السارد من اقحام اسم احد اعلام الفكر النقدي الحداثي في خطابه السردي..

(2)

لعل اول ما يشد قارئ الرواية شخصية بطل الرواية.. (أمين).

من هو "أمين"..الشخصية الرئيسية التي حولها نسج المؤلف الخيوط العنكبوتية لاحداث روايته المؤلفة من جزئين الاول من ص7 الى ص299والجزء الثاني من ص303 الى ص429).

ولست هنا بصدد تقديم قراءة نقدية حول البنية الفنية للرواية هذا أمر اتركه للنقاد المتمرسين من فن النقد الادبي والسردي ..

وما يهمني الوقوف عنده هو تجلية بعض الملامح والمعالم للشخصية الرئيسة للرواية التي من خلالها اطلق المؤلف احكامه المبتسرة التي اثث بها مجمل صفحات روايته.. فمن خلال بطل الرواية اقحم السارد الكلام الموجه للاستاذ العروي..

وقبل ان نعرض لما ورد بهذا الصدد وتحديد سياقه.. نود التعرف على الملامح التي رسمها السارد لبطل روايته ومن خلاله اطلق احكامه الجزافية والفجة على الاحداث والافكار والتوجهات والاشخاص تلميحا وتصريحا ..

(3)

من هو اذن امين البطل الرئيسي لرواية الموتشو.؟

 ان اسم " امين" يحيل الى "امين الكوهن" استاذ التاريخ اليهودي في المغرب بجامعة الحسن الثاني (بن مسيك/ الدار البيضاء)..وقد اختار المؤلف الاسم لتأكيد على الأصول اليهودية لبطل الرواية..

ويصفه المؤلف بانه "فتى" في الثلاثينيات من عمره يلقبه صديقه "بنيس" وهو احد شخصيات الرواية "بالموتشو" تدللا او تحببا..

وكلمة الموتشو التي عنون بها المؤلف روايته تعني (ايها الشاب او الولد او الصبي..) والمقابل الفرنسي للكلمة الاسبانية:( gars /gamin/ garçon)

وتجدر الاشارة بان هناك قصة بنفس العنوان(mutchacho) للرسام الفرنسي امانويل لباج صدرت في 2006..

شخصية "امين" كما رسمها المؤلف وقدمها في فصول روايته شخصية مركبة غريبة الاطوار رافضة ماجنة .. ينحدر من اسرة محافظة متدينة مسلمة من اصول يهودية ضاربة في القدم ..

ويسعى السارد الى ان يجعل من الاصول العرقية روابط هوياتية يهودية ثاوية في اعماق الشخصية..

حصل "امين الكوهن على " دكتوراه من الجامعة الفرنسية تخصص التاريخ حول اليهود المهاجرين بعد سقوط قرناطة 1492 رغم انه درس التاريخ كان له اهتمام بالفلسفة..

يتقن اللغة الفرنسية والانجليزية ويقوم بالترجمة من اللغتين الى اللغة العربية.. يقول بان توجهه السياسي يندرج في دعم (حرية/عدالة/كرامة).

هل كان حاملا لرؤية ومسلحا بزاد معرفي ومنظومة قيمية؟

جاء على لسان بطل الرواية (ص46) " ان اسمه امين كوهن ( كوهن عربي مسلم .. ( مسلم يعنيune façon de parler) أي

لا يريد الحديث في القضيا المعقدة..( الهوية او التاريخ او الايديولوجيا؟)

 قضايا كبرى وسرديات مجلجلة ورسالات مهدوية..هذا مكر التاريخ يصوغ القضايا الكبرى او الاوهام الكبرى..

يرى ان الصراع العربي الاسرائلي نزاع تغلب فيه العاطفة الجياشة..وهو نزاع من اجل الوجود.. المنتصر فيه يجهز على الخصم الاخر ..

يشعر بانه يعاني من التهميش كمثقف و هذا ينعكس على مواقفه وتفكيره..

هذه بعض ملامح بطل رواية الموتشو ورغم ان البطل شخصية حقيقية الا ان السارد نزع عنها صفتها الواقعية والبسها لباس التخيل الروائي الفني ..

فشخصية امين في الرواية وكل ما نسجه السارد حولها هو من بنات فكر المؤلف وهذه مسالة فنية بالغة تحتاج الى بحث وتشريح لا يندرج في اهتمامنا .. وقد توقفنا عند الشخصية الرئيسية للرواية كتوطئة لعرض الكلام الذي اقحم في الرواية عن الاستاذ العروي ..وسيكون الخاتمة التي نختم بها ملا حظتنا المقتضبة حول الرواية ..

 (4)

من نافل القول ان القصة لون من فنون الادب ولون من الوان الحياة.. ولكل قصة طريقة تصلح لادائها وتبلغ اثرها وفحواها وما يتخللها من شعور وفكرة فاذا احسن المؤلف فهي حسنة واذا اساء واسف فهي اسوأ المكتوبات وادناها الى الضعة..

والقصة ليست مجرد رسم لحوادث او لشخصيات بل هي قبل ذلك الاسلوب الفني وترتيب الحوادث في موضعها وتحرك الشخصيات في مجالها.. وليس المهم نوع الحادثة وضخامتها ولا لون الشخصية وعظمتها.. وانما المهم هو طريقة تناول الموضوع بحيث يؤدي الى رسم صورة معينة للحياة .. لكي تكشف لنا عن اكبر قدر من خصائصها وتعبر عن مشاعرنا بعبارات والفاظ تتناسق مع الجو والسياق والشخصيات ..

والقصة عمل ادبي واعي ..بمعنى ان التعبير في القصة يتم في حالة وعي كامل..

فهل ينطبق كل ما ذكرناه على رواية حسن اوريد الموتشو ..

تقديري انها تفتقد الى التنسيق الفني او التصوير الفني الجمالي الذي يجعل من القصة تعبيرا عن التجربة الشعورية اي تعبيرا عن الحياة في تفاصيلها وحوادثها الجارية في الزمن وكل غاية مرتبطة بغاية اعظم ..

وعندما ينعدم التنسيق الفني تصبح الرواية مجرد حشد من الخواطر والانفعالات والصور بلا ترتيب ولا تنسيق، محشوة بحكايات متناقضة.. لا رابطة بين الحوادث والاشخاص ومن هنا جاء التنافر بين فصول الرواية و بين شخصيات الرواية واحداث الرواية وزمانها ومكانها وبدت وكانها شخصيات هلامية فوق الواقع وفوق الخيال يختفي السارد خلفها ليصدر احكاما في كل اتجاه باعتباره الحكم الذي يصدرحكمه على ما يجري في المجتمع من منظور انه فوق الاشخاص وفوق الحوادث ..وضمن هذا السياق يندرج الكلام الذي ورد فيه ذكر الاستاذ العروي دون رابط سابق ولا لاحق ..

(5)

العمل الادبي تعبير عن التجربة الشعورية.. والتعبير في اللغة يشمل كل صورة لفظية ذات دلالة .. والقصد رسم صورة مثيرة للانفعال الوجداني لدى الاخرين وهذا هو شرط العمل الادبي وغايته.. وليست غاية العمل الادبي ان يعرض لنا حقائق عقلية او فلسفية..

من هذا المنطلق يمكن القول ان ما يسم فصول رواية "الموتشو" انها حاطبة من كل فن بطرف ومحشوة بحكايات واشارات وظواهر شاذة واحالات الى كتب وذكر اسماء بارزة .. من اجل الاثارة..

ويستتبع هذا ان شخصيات الرواية هي مزيج من الواقع والخيال..

ضمن هذا السياق الجامع بين الاضداد و الذي تضافر فيه السرد والوصف والاحداث والشخصيات جاء ذكر اسم المفكر عبد الله العروي بشكل عرضي في ديباجة الفصل(13) من الرواية..

 نص هذا الفصل من صفحة(107 الى صفحة(115).ورد فيها ذكر العروي في اسفل الصفحة(109 وبدايةالصفحة110).

ان قراءة هذا الفصل ستبين لنا انه لا توجد لازمة او رابطة بين الكلام الذي جاء فيه ذكر العروي والخطاب السردي للرواية اي الربط بين السرد والسارد والمسرود اليه او المتلقي..

فالسارد هو شخصية محورية في الرواية يتوسل بها الكاتب لنسج عالمه الحكائي والقصصي وتمرير خطابه الايديولوجي..

ان البحث في علاقة السارد بالشخصيات من حيث العلاقة التي يقيمها بمتنه الحكائي او بمخاطبه..

فالروائي يعرض وجهة نظر معينة من المنظور السردي..قد تعني فلسفة الروائي او موقفه الاجتماعي والسياسي..

فهل يندرج ما ذكره حول العروي ضمن موقف الروائي السياسي وليس نقدا للمشروع الفكري للعروي..

وهنا لا بد من التذكير بان الأستاذ العروي مؤرج ومفكر نقدي واديب منشئ ومترجم.. وفوق هذا وذاك يتسم بسداد النظر ووضوح التفكير والجرأة في الرأي والتقد..

(6)

الرواية فن ادبي واسلوب تعبيري، في صورة موحية عن الحياة، في تفاصيلها وحوادثها الاجتماعية والنفسية..

والغاية من العمل الادبي الفني الهادف ليس الامتاع الغريزي، او الاثارة العاطفية.. بل وسيلة لطرح مشكلة من مشاكل الحياة يمتزج فيها الواقع بالخيال.. بحيث لابد ان تحدث او تقبل الحدوث ..

فالغاية من الرواية هي ربط الفن بالحياة حيث يتداخلان فينتج عنهما تجديد عميق في حياتنا الروحية والفكرية... فالتجديد هو الفهم العميق..، وكل فهم صحيح يعتبر تملك للمفهوم..

فكل ادب لا يجدد الفكر انما هو مجرد تعبير نرجسي وكلام مرسل لا طائل من ورائه.. يندرج ضمن العبث بالافكار..

والادب الحي بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة هو الادب الذي يأخذ ويعطي..

ان ما اردناه من هذا الاستطراد هو التنبيه الى ما حفلت به فصول رواية الموتشو من تنافر وحشو و عدم تناغم و قدح واغراب والتكلف الثقيل المعيب..

في الفصل (13) الذي ورد فيه ذكر المفكر العروي يتحدث بطل الرواية عن الصحافة والجامعة ( والفهم والادراك) وان الجامعة هي مكان الفهم ..لكن الجامعة شاخت واصبحت تنقل مصطلحات من دون محتوى..وتحول سلم القيم .. ويقول السارد ان بطل الرواية تقدم بطلب للالتحاق بالجامعة وان طلبه رفض من طرف اللجنة التي وصفها باشتع الاوصاف و سخر متها سخرية هجائية سوداء ونعتها نعتا كاركاتوريا كما طعن في الجامعة وبخس من اساتذتها..

ضمن هذا السياق جائت الاشارة المقحمة في الفصل عن الاستاذ العروي..

 (7)

بعد حديثه في ذم الجامعة وتبخيس مؤسساتها ووصف اساتذتها باشنع الاوصاف ..(ص=108/109) يستدرك السارد بالاسناد الى بطل الرواية"امين"

انه لا ينكر وجود اشخاص متميزين بعضهم استقطبته مراكز بحث اجنبية.اومجانين يحلمون ويجرون وراء السراب.. معتمدين على امكاناتهم الذاتية.. ثم يضيف لم تعد هناك لحمة تشد الاجيال الى ذاكرة..او رؤية مستقبلية. وان دور النشر اغلبها مؤسسات ربحية تقوم على الاحتيال..

الكاتب عامل برولوتاري يمني النفس بالحصول على جائزة ويكتب تحت الطلب ليروق للجنة المانحة .. اغلب اعضاء اللجنة لم يبدعوا شيئا يذكر ولكنهم حاذقون في العلاقات العامة..

بعد هذا الاستطراد الممل والكلام المرسل المباشر..اردف الى اقحام ذكر الالاستاذ العروي( كان مثقف مغربي قد كتب في السبعينات كتابا جيدا عن ازمة المثقفين العرب والايديولوجية العربية المعاصرة.. وكان بحق مثقفا جيدا يتحلى بالصرا مة العلمية ..ولوانه اضحى هو نفسه في خريف عمره معبرا عن الازمة لانه لم يعد يقول شيئا سوى اوان فارغة في تعبير الشاعر الفرنسي ما لارميه "Des bibelots d'ananité sonore" مما استعمله سارتر عن الكاتب الذي لا يقول شيئا.)(ص109/110) وينهي السارد كلامه عن العروي بتعليق نرجسي يحيل الى الكاتب الذي هو في الحقيقة البطل الحقيقي للرواية بدليل ما ورد في الفصل الاخير من الرواية(ص428) :" لم تكن رواية انما قصة حقيقية انعكست في حياة امين في تبادل ادوار بينه وبين الضمير المستتر." والضمير المستتر هو المؤلف نفسه حسن اوريد ..

اذن يقول بعد وصفه للعروي بانه اصبح في خريف عمره مجرد اناء فارغ له رنين(او طبل اجوف..) وكاتب لم يعد يقول شيئا.. في هذا الحال فان الضمير المستتر اذا قدر له ان يكتب عن ازمة الثقافة العربية سيذكر انها لم تعد ترتبط بمشروع سياسي ولا فكري و لاسردية تستحثها ولا طموحا جماعيا يلم شعثها. والدليل ان جل الكتابات الفكرية مترجم ترجمة رديئة ..

اما الاسلاميون فلا ينتجون فكرا.." (ص110)

والرادكاليون يوظفون الدين مما يؤدي الى وحشنة الدين المقابل الفرنسي لكلمة

 ( l' ensauvagement).

هذا مجمل ما ورد في الفصل الذي تناول فيه مؤلف الرواية المفكر عبد الله العروي..

ان العروي الذي يصفه صاحب الرواية بانه اصبح طبلا اجوفا.. (أي اناء فارغا..) هو نفسه الذي يقول عنه نفس المؤلف لموقع طنجة انفو(3غشت2018) عند صدور كتابه "من اجل ثورة ثقافية بالمغرب؟).

" يقول ما اقصده بالثورة الثقافية هو تغيير البنية الذهنية للمجتمع وان التحديث والمعاصرة ليست اكتساب مهارات او تقنيات على أهميتها بل لا بد ان يتم تغيير البنية الذهينية للمجتمع..ثم يضيف ان فكرة الثورة الثقافية ليست حديثة فقد صدرت منذ خمسين سنة واول من استعملها من المفكرين المغاربة هو عبد الله العروي في كتابه الايد يولوجيا العربية المعاصرة معتبرا ان العرب لن ينتقلوا الى طور التحديث ما لم يقوموا بثورة ثقافية والثورة الثقافية لن تتحقق الا بتغيير البنية الذهنية من خلال التربية ..

يبدو ان مؤلف الرواية نسى انه اخذ فكرة كتابه "من اجل ثورة ثقافية.." من كتاب الأيديولوجيا العربيةا المعاصرة الذي صدر سنة1967 وما زال مرجعا يلهم الكثيرين..

واجمالا فان الأستاذ العروي صاحب ملكة عقلية رفيعة بوأته المقام الأول في الاعتبار ..

يمكن ان تخالفه في بعض ارائه او في مبادئه السياسية.. ولا تكون المخالفة الانظرة حيث تقترب الأفكار والاراء..

وصدق الفقيه الفيلسوف ابن حزم اذ يقول " من حقق النظر راض نفسه على السكون الى الحقائق وانما آلمتها لاول صدمة وكان اغتباطه بذم الناس إياه اشد واكبر من مدحهم إياه.''..

الخاتمة : ان الملاحظات السالفة تندرج ضمن تجلي الحقيقة واستضاح الراي..من موقع النقد والتعقيب،بغرض الفهم و النفاذ الى لمضامين الخطاب السردي وطبيعة العمل الذي يصوره والتجربة الشعورية التي يعبر عنها..

فكان لا بد ان نتوقف عند معنى الرواية، باعتبارها ملحمة في عالم تضطرب فيه علاقات المعنى والقيمة..،وتختل فيه الانساق الكبرى، وتنهار المطلقات..

ان ما يميز الكتابة الروائية هو انها تبحث عن أشياء خارج المضامين المعقلنة عند الفلاسفة والمؤرخين..

ليس من مهمة الرواية ان تصنع ثورة او تغير مجرى الاحداث في العالم..، انها أداة للمعرفة والمتعة، تجعلنا اكثر إدراكا واحساسا لكل ما حولنا..

الرواية مرآة عاكسة لسجل الأفكار والامال والاحلام..، وهدف الرواية الجراة والصدق في الرؤية، والتعامل مع الحقائق والأساليب..، والهدف هوقضية الموضوع..

وعمل الاديب صورة لشخصيته وموقفه من الحياة..

وحيثما يوجد ادب تصويري للعواطف والمشاعر، يصبح من الصعب ان نفصل ما هو ترجمة داتية، عما هو عمل فني موضوعي خارج عن ذات الفنان او المبدع..، فصاحب العمل الفني لا يعطينا ترجمة ذاتية حقيقية حتى وان تطابقت الوقائع والشخصيات والطباع مع مانعرفه عنه وعن من حوله..،وهو في نفس الوقت لا يعطينا عملا منفصلا عن ذاته تمما..، بل يقدم عجينة او طبخة تمتزج فيها وقائع حقيقية مع وقائع متخيلة..

واذا طغى التوصيف الاسلوبي المباشر على الخطاب السردي، وقع التطابق بين السارد والكاتب، فيترتب عن ذلك اسقاط السارد لمواقف الكاتب النظرية على العمل التخيلي..، فيصبح العمل عبارة عن اشتات مجتمعات ومقابسات من عالم الأسماء والاعلام وعالم الأفكار والمعاني والاحاسيس..

فالرواية الفنية هي التي تترجم الحدث وتعبر عن التجربة الشعورية للأشخاص، وتحيل السرد الى مرآة عاكسة لمظاهر الحياة وعلاقة الانسان بالكون..

فالرواية رحلة استكشافية مفتوحة على المجهول ..والكون كله مرآة تنكس فيه أشياء كثيرة..

اما روية الموتشو فقد تخللها خلط كثير يمزج الاسرائليات وطروحاتها المختزلة بالدعاية الصهيونية التي تكرس الأكاذيب المقررة حول علاقة الصهيونية السياسية بالعصبية الدنية .. ولا فرق بين الصهيونية الدنية والصهيونية السياسية في النتيجة الواقعة..

ان الاله عند العبرانيين يسمى اله إسرائيل ويخص من أبناء إبراهيم ذرية يعقوب دون سائر الخلائق..كما ان طبقة الهيكل موقوفة على سلالة هارون( واليها ينسب طبقة الكهان.).

ويقول عالم النفس الشهير "فرويد" في كتابه موسى والتوحيد" ان اليهود لديهم فكرة عالية عن انفسهم ويعتقدون انهم انبل من غيرهم وعلى مستوى ارفع..ويضيف ان سبب هذا الاعتزاز هو تصديقهم بانهم شعب الله وابناؤه الذي اختارهم واصطفاهم على العالمين.." ويطمئن بنو إسرائيل لهذا الزعم حتى وان لم يستحقوه بولاء او ايمان ..والاسرائلي يعتبر نفسه سيد العالم بحق الهه..

واليهود اشتات وقبائل ومذاهب ..كل طائفة لها مذهبها حسب المجمع الذي تنتمي اليه..

والعقيدة الدينية لا تقاس بالنظر الى الأصول العرقية ..وانما تقاس الأديان بما تودعه من القيم والحوافز التي تزيد حرية الضمير .. والامل في الصلاح وفي طلب الكمال..

وقد خلت كتب بني إسرائيل من ذكر البعث واليوم الاخر..فلا مناص في العقيدة باي معنى من معاني الاعتقاد من خير وراء أيام الفناء..

لقد جعلوا من العقيدة الإلهية مشيخة قبلية ومن النبوة ضربا من التنجيم ومن المسؤولية الإنسانية ضربا من العصبية الجهلاء لغير سبب ولا فضيلة..

من الأمور اللافتة للنظر في عصرنا بث الأكاذيب المقررة من تدليس وتمويه وقلب للحقائق من اجل استهواء البصائر وسحر القلوب وابهار العقول ودفع الناس على التهافت كما يتهافت الفراش على النار..

لمواجهة الأكاذيب المقررة حض الامام الغزالي على النظر لان من لم ينظر لم يبصر ومن لم يبصر يبقى في العمى والضلال..

يجب ان نحرر الفكر من الأوهام الزائفة وذلك بنقد الأفكار نقدا يميز صحيحها من باطلها..

***

احمد بابانا العلوي

رأينا في المقال العاشر من هذه السلسلة الدراسيَّة في قِصَّة "صادق أو القَدَرZadig Ou La Destinnée "، للفيلسوف الفرنسي (فولتير Voltaire، -1787)(1)، حكاية البطل مع ذلك الناسك الغريب الأطوار.  وقلنا: إنَّ قِصَّة (صادق) مع الناسك واضحة الشَّبَه بقِصَّة النبيِّ (مُوسَى) مع (الخِضْر)، التي قصَّها "القُرآن" في "سورة الكهف".  ولَحَظْنا أنَّ (فولتير) قد صاغ القِصَّة كما هي في "القُرآن"، مع بعض التغييرات.  ومن ذاك أنه تصرَّف في القِصَّة القُرآنيَّة؛ فجعلَ حَرْق دار الفيلسوف الفاضل بدل بناء الجدار المنقضِّ في الآيات القُرآنيَّة.  على أنَّ السبب واحدٌ في القِصَّتَين، وهو وجود كنزٍ تحت دار الفيلسوف وتحت الجدار.  غير أنَّ الناسك أراد كشف الكنز لصاحبه، والخِضْر أراد إخفاءه وحِفظه لصاحبَيه، حتى إذا بلغا أشُدَّهما استخرجا كنزهما.

وتُقابِل فكرةُ "قتل الغلام" في قِصَّة (فولتير) فكرةَ "قتل الغلام" في القِصَّة القُرآنيَّة.  كما أنَّ تعليل الناسك العجيبَ لعمله المنكَر يُشبِه تعليل (الخِضْر) العجيبَ لعمله المنكَر: بـ"أنَّ هذا الفتَى، الذي قتلتْه القُدرة الإلهيَّة، لو عاش، لقتلَ عمَّته بعد عام، ولقتلكَ أنت بعد عامَين."(2)  وفي "القُرآن": ﴿وَأَمَّا الْغُلَامُ، فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ؛ فَخَشِينَا أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا. فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَـهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا.﴾

ويُشبِه بناء القِصَّة عند (فولتير) بناءها في "القُرآن" جِدًّا.  فقد عاهد (صادق) الناسكَ على الإذعان، وعدم السؤال مهما رأى، وكذلك فعل (مُوسَى) مع (الخِضْر).  وفي كلتا القِصَّتَين ينطلق المسافران من بلدٍ إلى آخَر، ليقوم الناسك أو الخِضْر بعملٍ يَدْهَش له صاحبُه؛ فلا يُقاوِم نفسه وعقله، ولا يصبر على ما عاهد عليه من عدم السؤال، بل يتجاوز السؤال إلى الإنكار الشديد.  ويستمرُّ الاثنان على هذه الحال، حتى إذا بلغ الأوَّلُ من الآخَر عُذرًا؛ فلم يصبر على ما يراه من عظائم الأمور، التي لا يُدرِك لها سببًا أو تفسيرًا بمنطق العقل والحق والخير، أنبأه بتأويل ما لم يَسْطِع عليه صبرًا.

وإضافة إلى هذا فإنَّ رسم الشخصيَّتَين في كلتا القِصَّتَين واحد، فشخصيَّة (صادق) هي شخصيَّة (مُوسَى)، بكلِّ ملامحها المعنويَّة، وكذلك شخصيَّة الناسك هي شخصيَّة (الخِضْر)، بكلِّ ملامحها المعنويَّة والسُّلوكيَّة.

يجدر بالإشارة أنَّ قِصَّة (مُوسَى والخِضْر)، الواردة في "القُرآن"، قد تناولها الكُتَّاب القصصيُّون في الغرب والشرق خلال القرون الوُسطَى، كُلٌّ بطريقته الخاصَّة.  ومِن الذين تناولوها، مع (فولتير)، الشاعرُ الإيرلنديُّ (توماس بارنل Thomas Parnell، -1718).(3)  وتُعَدُّ هذه القِصَّة من ذلك النَّوع من القَصِّ الاعتباري، الذي ليس المقصود فيه بلازم معانيه الحرفيَّة.  من حيث تصبح للبناء الوظيفيِّ أوَّلويَّةٌ على البناء الفنِّي، وكذلك على منطق الواقع.  ذاك أنَّ هذا الضَّرب من القَصِّ ما هو إلَّا وسيلةٌ تعبيريَّةٌ عن رسالةٍ دعويَّةٍ ما، وليس بغايةٍ في ذاته.  ولذا يأتي مرتبطًا بالغَيب، و"الما وراء"، والمفارِق للواقع والمألوف.  ومن ثَمَّ لا يُنتظر فيه احتفالٌ بمِصداق القَصِّ من الوجهة الواقعيَّة، بما أنَّ الهدف لا يعدو إيصال رسالةٍ تأثيريَّةٍ إيمانيَّةٍ إلى المتلقِّين، مهما تجافت، آخِرَ المطاف، عن منطق الواقع والإقناع العقلاني.(4) 

وفي مقال الأسبوع المقبل سنستقرئ العلاقة بين قِصَّة (فولتير) تلك و"ألف ليلة وليلة". مركزين على العلاقة الملتبسة بين النَّصَّين؛ من حيث إنَّ الكاتب قد أخذ قِصَّةً، أو قصصًا، قديمةً فصاغها بطريقته وأسلوبه، وربما حوَّر فيها؛ ليَصحَّ القول: إنها قد أصبحت قِصَّةً فولتيريَّة، كأيَّة قِصَّةٍ أخرى تُنسَب إلى فولتير.

أ. دز عبد الله بن أحمد الفَيفي

..........................

(1) يُنظَر: فولتير، (1979)، القَدَر، قِصَّة نقلها إلى العَرَبيَّة: طه حسين، (بيروت: دار العِلم الملايين).

(2) م.ن، 126.

(3) غصوب، يوسف، (1961)، مقدِّمة ترجمته لـ"صادق أو القَدَر" لـ(فولتير)، (بيروت: اللجنة الدوليَّة لترجمة الروائع)، 94- 95.

(4)  حول خصائص (النصِّ الاعتباري)، يُنظر بحثنا: (1999)، "في بِـنْـيَـة النصِّ الاعتباريِّ (قراءة جيولوجيَّة في نبأ حيِّ بن يقظان: نموذجًا)"، (مجلَّة "أبحاث ‏اليرموك"، (جامعة اليرموك)، الأردن، المجلَّد 17، العدد 1، ص 9- 52).

لفترة طويلة ارتبطت أسطورة لوريس Loris البالغة من العمر ستة عشر عاماً، والتي جسدت بامتياز اليأس بهروبها الجمالي من الحياة في معبد الجمال، لمعاناتها من الأخلاقيات السائدة فيما يتعلق بـ "الحرية والمساواة" بين الرجل والمرأة. وعبادة الجمال آنذاك، لم يكن بأي حال من الأحوال غير مبال، إنما "دورة التربية السياسية الراديكالية"، يتم النظر إليه من خلال موضوعات التفاعل الاجتماعي - والاجتماعي التاريخي للمجتمعات وطبائعها وعاداتها وتقاليدها العامة. قد يكون ذلك مثيراً، لكنه في الفضاء العام "آلية" لا تعبر عن فلسفة الحياة، الجمالية والشاعرية، ليس عند البشر فحسب، إنما الواقع الأدبي لمفهوم "النقد"، عكس الأفعال التي ظلت مخفية عن الوعي لأنها لم تصبح عامة.

المراجعات النقدية إلى ما قبل عصر التنوير، كانت بشكل أساسي أفكار شمولية "سلبية أو إيجابية"، وهي بالكاد تكون موضوع بحث أدبي. لكن هناك إجماع عام، ونحن هنا نتحدث على وجه الخصوص عن ما يتعلق بالثقافات الغربية في أواخر القرن الثامن عشر ـ على أن "النقد" قد تجاوز الدور الثانوي من الرأي المنغلق. لذلك تضع الدراسات العصرية أهمية "النقد" بأشكاله المتنوعة، في المقدمة، والأخذ بنظر الاعتبار حقيقة: إن "النقد" يشكل نمطاً جدلياً من الأنماط التي تتيح للمؤلف مراجعة صياغة أفكاره بشكل غير تقليدي.

مفهومنا نحن العرب، لأدب النقد، في أغلب الأحيان نصبح "جلادين"، ننحاز إلى صراعات اجتماعية ـ سياسية أو عقائدية، وفي العموم على أساس المجاملات وليس المهنية. الكتابات النقدية عندنا في أغلب الأحيان (ولا أعمم) لا تعتمد الموضوعية، حينما تتناول مبدعا أو كاتباً ما. ولا تتناول مؤلفات المؤلفين الشعرية أو الروائية أو الفكرية وحتى في شأن السينما والمسرح والفنون التشكيلية، من زاويا حرفية حيادية، يقوم بها، الكاتب أو الشاعر أو الفنان الناقد المتخصص، الذي يعتمد في مراجعته النقدية القيمية الجمالية والانطباعية والشاعرية، ولا يجد صعوبة في فهمها وإحاطتها بالأحكام التعبيرية واللغوية والفلسفية.. من خلال متابعتنا لاساليب النقد لدى الثقافات الغربية، الأوروبية تحديداً، وبغض النظر عن مدى شيوع كتابة النقد في مواضيع مختلفة وبمساحات واسعة، نفهم أن القاعدة العامة لا تقبل "نقداً" يتعرض لشخص المثقف، أو لا يتواءم مع المفاهيم واللياقة الأدبية. يعود السبب كما يبدو لاعتبارات أخلاقية ترتبط بفلسفة الإنتماء لإرث ثقافي وحضاري يُعتز به، كما يَعتبر المثقف جزءاً من تلك الحضارة ومكمل لثقافتها، وبالتالي يجسد ذلك احترامه لموروثه الوطني ـ الثقافي المترامي الأبعاد..غير أن ما يقع تحت أيدينا من "كتابات نقدية عربية" في مجالات متنوعة، يختلف تماماً، بالشكل والمضمون، عن ما نعرفه في "أدب النقد" لدى الثقافات الأخرى. إلى حد كبير يتسم اسلوب "النقد" عندنا كحكايات تجريم، غالبا ما تكون رهن رؤى وإنفعالات شخصية. ليس في مظاهرها الجمالية والشاعرية وحسب، إنما حتى في عدم إلتزام "الناقد" على الأقل بشروط وحدود وأفاق ما يكتبه ومدى تأثير ذلك على الحياة الثقافية في بلده.. أعتقد ينبغي على الناقد العربي أن يكتب كما هو في الثقافات الغربية، نقداً موضوعيا، ينسجم مع عصر حاضره: لأن أي فن أو رواية أو قصيدة لا تريد أن تتعرض لـ "عمل نقدي" زائف. ومن ناحية أخرى، نجد الكثير من الذين يمارسون النقد في وسائل الإعلام، غير مؤهل للتناغم مع أي حدث أدبي أو فني بشكل كافٍ أو بسياق حرفي.

في مقالته بعنوان "الفن الوطني الديني الألماني الجديد" كتب غوته Goethe، الناقد للارتباك وحتى الخلط بين المجالات الدينية والجمالية، حول انسكاب الكاتب الألماني وأحد مؤسسي الرومانسية في القرن الثامن عشر فاكنرودر Wackenroder على الرسومات الدينية والتأملات والقصص التي أثرت على تدفقات القلب لأخ الدير المحب للفن:» طالب المؤلف ببلاغة ملحة للعشق الدافئ لكبار السن، كما لو أنه الهدف الأعلى للفن، وأن قواعد المغازلة لدى كبار السن ليست لعبة فارغة، وأنهم لا يمتلكون باستمرار الصفات العاطفية، لذلك يُنظر إليهم على أنهم غير متفوقين على الأحدث وبالتالي يتطلب حماساً ورعاً ومشاعر دينية، لا غنى عنها للقدرة الفنية فيما ينظر النقد على أنه شر وتأثيره على الدين والدين عليه غير محدد تماماً. مع ذلك، كان على المعايير النقدية "التي تفترض مسبقاً على الأقل بعض الانتظام النسبي"، تقييم مثل هذه الأفكار بشفافية، بقدر ما هي مشروطة اجتماعياً وتاريخيا... ما تسميه تافها، على سبيل المثال، يمكن أن يكون دقيقاً وعميقاً في سياق مختلف، أمام قصة مختلفة، أمام ثقافة مختلفة، حتى الأفراد، فقط، اعتماداً على متطلباتهم لهم غاياتهم المحددة«.

يقول ألفريد كير Alfred Kerr: (النقد هو الأهم في هذا العالم إذا كان أيضاً فناً. لسوء الحظ، الأمر ليس بهذه البساطة. من هنا فإن الناقد هو الخالق المضاد الذي يقف في أحيانٍ كثيرة في الطرف الآخر من الكون)... الكاتب عندما يخلو بنفسه للكتابة حول موضوع ما، يشعر بنشوة سمو باردة، أعظم من فرائد العصر. فقط الضجة اللغوية؟ تجعل من كتاباته أمرا ممكناً في مكان ضيق، لكن بفضل جلدة النقد كما يقول ألفريد: (لم يعد أي ناقد يعتبر نفسه ديوس سيكوندوسdeus secundus الإفلات من العقاب وسط مسرح مليء بالأحكام)... ألفريد كير، المصاب بجنون العظمة، ساوى بين النقد، لا: نقده، لكنه ذهب أبعد: (إلى أن النقد أفضل من الشعر). لديه أيضاً تشبيه ديني جميل: (الفنانون يتبعون خالق السماء والأرض كمبدعين أرضيين يتخيلون أولاً ما سيكون). ويصف الناقد الذي لا يقف في نهاية سلسلة الاستغلال، بل السلسلة الكونية للخلق نفسه ب (المبدعين الذين يفسرون الوجود من خلال تعريفهم الفكرة وأشكال النص وأنواعه بابتسامة متسامحة تاريخياً) بالإشارة إلى أعمال المشاهير الأربعة جوته وشيلر وويلاند وهيردر.

استفاد عصر التنوير المعروف باسم "عصر المنطق" وهو حركة فكرية وفلسفية هيمنت على الأفكار في القارة الأوروبية خلال القرن الثامن عشر، من الأنماط القديمة لعصر النهضة بين القرن الرابع عشر والقرن السابع عشر، لمعالجة فكرة التنوير أدبياً. وكان في المقام الأول تركيز النداء الأدبي على تصميم توازن متناغم بين العقل والشعور، يكون نموذجا للفترة الكلاسيكية الجديدة. لم يكن الأمر يتعلق بتصوير الواقع أو التنديد بالمظالم الاجتماعية بداية، بل أراد تقديم أنماط لتحديد الهوية التي يجب أن تثقف الناس ليكونوا أخلاقياً. أخذ لاحقا مجموعة متنوعة من النماذج النقدية للأوضاع التي تعاني منها المجتمعات، مع انتقاد كبير للنسبية الثقافية واستخدام استعارات ما بعد الحداثة لشرح جميع الظواهر الجيوسياسية الحديثة غير العادلة في الغرب، بما في ذلك قضايا العرق والطبقة والسلطة الأبوية وآثار الرأسمالية الراديكالية والقمع السياسي... تناول الناقد الأدبي الأمريكي والمنظر السياسي الماركسي، فريدريك جيمسون Frederic Jamesonهذه الظاهرة بالقول: إن ما بعد الحداثة (أو ما بعد البنيوية) لا تريد أن ترتبط بنقد خطاب الرأسمالية والعولمة باعتباره "المنطق الثقافي للرأسمالية المتأخرة" الذي يسهر على مصالحها.

يتشارك نقد ما بعد الحداثة، على اختلاف تنوعه الفكري، في وجهة النظر القائلة بأنها تفتقر إلى التماسك وإنها معادية لمفهوم المطلق والحقيقة. على وجه الخصوص، يُعتقد أن "ما بعد الحداثة" يمكن أن تكون بلا معنى، وتشجع الظلامية، وتستخدم النسبية (في الثقافة، والأخلاق، والمعرفة) إلى الحد الذي تشل فيه معظم الأحكام... غالباً ما يشير مفهوم ما بعد الحداثة إلى بعض الفروع، مثل فلسفة ما بعد الحداثة وعمارة ما بعد الحداثة وأدب ما بعد الحداثة. وأحياناً على ما بعد البنيوية، والنسبية الثقافية، و"النظرية" دون معالجة المخزون الكامل لمشاريع ما بعد الحداثة المختلفة. لذلك، فإن نقدا ما بعد الحداثة، ككل يكشف الغموض في تعريف ما هو عليه في الواقع... لنقد ما من شأنه إنهاء هذا الجدل، يقول اللغوي والمفكر نعوم تشومسكي: بأن ما بعد الحداثة لا معنى لها لأنها لا تضيف أي شيء إلى المعرفة التحليلية أو التجريبية أسأل لماذا لا يتفاعل مثقفو ما بعد الحداثة مثل الناس في المجالات الأخرى عندما يُسألون على محمل الجد ما هي مبادئ نظرياتهم، وما هي الأدلة التي تستند إليها، وما الذي يشرحونه والذي لم يكن واضحاً بالفعل، وما إلى ذلك؟، هذه متطلبات قيمة. إذا لم يتم الوفاء بالجواب عليها، في ظرف غير عادل، سألجأ إلى نصيحة هيوم Humes: بكم إلى ألسنة اللهب!. النقد في العموم، والأدبي بشكل خاص، من أهم هيئات الوساطة بين المؤلف والقارئ. يتشابك مع النظم الحديثة المتمايزة للتواصل الأدبي والاجتماعي، ويشكل جزءا لا يتجزأ من ماهية الأدب، وكيف يمكن أن يكون أو على الأقل يجب أن يكون!.

اذن ما هو "أدب النقد" في الواقع؟ للجواب على السؤال، لا بد من الإضاءة على أن نشأة مصطلح النقد الأدبي، والذي يستخدم كأمر طبيعي اليوم، بمثابة نهج لموضوع التحقيق. هذا المصطلح له أصله الاشتقاقي من الفعل اليوناني  krino  والذي ترجم "فراق، منفصل، قرار أو حكم". في القرن السابع عشر، أخذ مصطلح "النقد" عن اللاتينية criticus (القاضي الناقد)، إلى اللغة الألمانية kritischer Beurteiler "مقيّم متشدد" فيما بعد Kritiker "ناقد". عموماً يعني في الأساس شيئاً مختلفاً عن مفهوم النقد الأدبي في اللغة الإنجليزية أو النقد الأدبي بالفرنسية. على النقيض من الألمانية، مصطلح "النقد" في اللغة الإنجليزية يشمل مراجعة الأدبيات والنظريات في الدراسات الأدبية. في اللغة الفرنسية، Critique litteraire "النقد الأدبي" ويُصنف على أنه فرع من الدراسات الأدبية، بينما يدور في ألمانيا الجدل حول ما إذا كان يجب فصله عن الدراسات الأدبية على الإطلاق، وبالتالي، فإن الفهم الألماني للنقد الأدبي هو مفهوم صحفي أكثر منه أدبيا، أو إلى حدٍّ كبير يشبه التعريف الفرنسي critique mondaine "الناقد الاجتماعي"، الذي ظهر عالمياً في القرن السابع عشر كنموذج مضاد "للناقد المثقف" الذي يجسد النموذج الكلي، ناقداً مهذباً تتوجه نظرته نحو جمهور عريض من القراء.

يتناول وينديلين دينجلر Wendelin Dengler المراجعات النقدية بشكلها الأكاديمي في الخطاب الإعلامي بالقول: "النقد الأدبي، هو مجموع المواجهة مع النصوص التي تمارس في وسائل الإعلام، حول الآراء والكتب الأدبية والدراسات الفلسفية والفكرية والفنية، وكيفية مشاركة معظم النقاد حول فكرة أساسية أكثر أهمية. ومن جانب آخر يعتبر النقد، وسيلة رعوية للجمهور الثقافي والحياة الثقافية، ومن أهم هيئات الوساطة بين الأدب والقراء من جهة، والمؤلفين والناشرين من جهة أخرى". إذن، النظام الأدبي، يشمل مؤسسات الإنتاج والتوزيع، وهي جزء من مؤسسة التواصل حول الأدب، الذي يشمل التربية التوعوية التي تتفاعل مع الأفراد والمجموعات، تؤثر عليهم وتتأثر بدورهم بها... في القرن السابع عشر، على سبيل المثال، ساهم النقد الأدبي في حقيقة أن المزيد والمزيد من الطبقات قد تطورت وبالتالي أصبحت قادرة على نقل ما هو ضروري بشكل تعليمي والمشاركة في النظام الأدبي في الحياة الثقافية نفسها... ببيانه "النقد ليس غاية في حد ذاته، ولكنه يؤدي مهمة يسهل تعريفها أساسيات مشتركة" يقول ويرنر إيرو Werner Irro: (يجب أن يتحدث النقد إلى القراء، على الرغم من أن هذا المطلب الاختزالي لا ينجح في تحديد النطاق الكامل لوظائف النقد الأدبي، إلا أنه يشحذ وجهة نظر ما تعتبر الحد الأدنى من الإجماع على وظائف النقد)... ويقول توماس آنز Thomas Anz (منذ ظهور "المراجعات النقدية" في زمن حركة التنوير الأوروبية في القرن السابع عشر، لاتزال هناك وظائف عديدة تواجه "أدب النقد" ومواصفاته، ولكن، يجب على النقاد تقديم معلومات حول محتوى الكتاب وحول أي شيء آخر قد يكون مثيراً للاهتمام- على سبيل المثال، الإشارات الموضوعية إلى الحاضر، والزخارف التاريخية، والنصوص المتداخلة. وفي وقت تزايد حاجة القراء للمعرفة المكتسبة، فعلى "الناقد" أن يؤدي وظيفة التوجيه المعرفي الإعلامي بقدر ما يمنح المهتمون بالأدب، نظرة عامة، يبقيها محدثة، وبالتالي يعزز التحسينات في إنتاج الكتب القيمة في المستقبل. من ناحية أخرى، سيستفيد القراء من حيث فهمهم للمعايير المطبقة عند تقييم العمل، ومقارنتها بمعاييرهم الشخصية).

***

عصام الياسري

الحدث الروائي يضع نفسه في المواجهة الصريحة، في كشف عورات وعيوب المجتمع تجاه المسحوقين والمهمشين في المجتمع، فقراء العشوائيات الذين يعيشون على هامش الحياة بالسخرية والاستهجان والاستغلال، وحياتهم معرضة الى شتى أنواع الانتهاك والظلم والحرمان ببساطة تامة، دون سؤال ومساءلة، هذه الفئة المظلومة من المجتمع في الأخص في عاداته وتقاليده تكون القاسية عليهم ذو حدين. وتميز المتن الروائي في عرض الصورة الفعلية لنيران المجتمع تجاههم، برع الأديب طارق الكناني غن يقدم، في الفن الروائي السردي وتقنياته الحديثة في الابتكار، أن يطرح جملة من المفاهيم بما يخص هذه الشريحة المهشمة بالرؤية الفكرية الهادفة والرصينة. أن يضع حروفه السردية على جرح العلة. وكذلك كشف واقع المرأة في مجتمع يمتلك ازدواجية المعايير، التساهل مع الرجل، والصرامة القاسية مع المرأة، تأخذ حصتها الكاملة في الظلم والانتهاك ومسخ حقوقها، أي واقع المرأة تقع ضحية في معايير المجتمع الاجتماعية، واستغلالها لتكون سلعة لشهوة والمتعة الجنسية، وكذلك الازدواجية في مفاهيم الدين، هذه المشاكل لا يمكن حجبها، كما يحجب ضياء الشمس بالغربال، فأن اطروحات المرجعية للحدث السردي الروائي تكشف في خطابها، حقيقة مرايا المجتمع في عاداته وتقاليده المجحفة في الواقع الاجتماعي الذي يميل الى التزييف وازدواجية المعايير، وكذلك الواقع السياسي في التحزب والتعصب الحزبي. ولكن الشيء المضيء في الحبكة السردية، يسلط الضوء على الارادة والعزيمة والاصرار، هي القوة الفعلية في المواصلة الى الهدف المنشود للسعي الى بر الامان، وتمزيق الصعاب والمعوقات في الوصول الى المرام. تكشف احداث الروائية هذه الخصال الإيجابية، في طريقة روائية تتجاوز الأطر التقليدية في المنظور الروائي في الطرح. حتى يدلل بالبرهان الساطع، بأن لابد من تغيير وتبديل المفاهيم الاجتماعية الخاطئة، ولابد أن تتخلص المفاهيم الدينية من الشوائب والعيوب التي لا تخدم انسانية الدين. في التعاطي بازدواجية المعايير. ان الحدث السردي بتقنياته الحديثة يشد اهتمام القارئ بتلهف ويثير في ذهنه جملة من التساؤلات في المفاهيم العامة، ويدرك ان لابد من إصلاح المجتمع من عيوبه، يملك الاديب براعة ابداعية في الطرح الفكري، بأسلوب السرد داخل السرد. أي أن هناك صوتين في التقنية السردية الحديثة، صوت الكاتب الذي وجد في دفتر اليوميات في الصندوق لبيت تعرض الى الحرق والنيران، ولم يبق منه سوى الصندوق اليوميات، والصوت الثاني وهو الطاغي في سرد الأحداث بما جاء من تدوين في دفتر المذكرات (يوميات مچاري) وكلمة مچاري تطلق على الشخص الذي يقوم بكراء حيواناته لنقل البضائع، وجرت العادة في مناداة (ابن مچاري) وعلى زملائه (المچارية) للاستخفاف والإهانة والتحقير، أي أنها شتيمة ومسبة، رغم أنها مصدر رزق للفقراء المسحوقين في المدينة.

- احداث المتن الروائي:

يتحدث عن صاحب دفتر اليوميات (كريم) من عائلة فقيرة معدمة مصدر رزقها الحمار، وهو ارث من أبيه المتوفى. رغم صغر سنه عمل عليه بجهد، لكي تعيش عائلته منه، كان مثابراً في عمله، رغم التعب والإرهاق، في إيصال البضائع من اجل سد كفاف المعيشة لعائلته (الام وشقيقته شهلة)، ولم ينقطع عن الدراسة والمدرسة، بل يصر على المثابرة والجهد حتى يصل الى ما يربو إليه، بالاجتهاد الدؤوب ووصل الى مرحلة المدرسة الاعدادية، فكان يشتغل على حماره في الصباح الباكر، ويذهب في المساء الى المدرسة الاعدادية، حتى دخل كلية الحقوق، ووجد عملاً في المساء بمساعدة الأصدقاء ويذهب صباحاً الى الكلية (كان العمل المسائي ينهكني وذهابي المبكر الى الكلية، وكثيراً ما كنت أغفو على المدرج ويوقظني زملائي) ص48. فكان بعيداً عن السياسة والحزبية، وكان متعلقاً بشغف وحب بشقيقته الصغيرة (شهلة) لأنها تشبه بالضبط أمها (حورية) عمته، وكان يكن الحب والاحترام والشغف تجاهها. لكن عمته (حورية) وقعت في حبائل الخداع من قبل الأغا، وكانت خادمة في بيته، استطاع أن يخدعها بالوعد بالزواج وحصل على رغبته وشهوته الجنسية ونكث بوعده وحملت منه بجنين، وحاول والد (كريم) ان يتفادى الورطة والفضيحة بين الناس، وخوفاً من شقيقه (قاسم) وجه الشر، حاول بكل وسيلة أن يقنع الاغا بالزواج الشرعي ثم يطلقها بعد ذلك، فخضع للأمر، وتم الزواج الشرعي والطلاق بعد ذلك، لكن شقيقه (قاسم) لم يقتنع بالزواج والطلاق، وارتكب جريمة القتل بحقها بدوافع الشرف وغسلاً للعار، وربت ام (كريم) طفلتها (شهلة) باعتبار انها ابنتها من ضلعها، حتى صدق (كريم) بذلك وكان يعتبرها شقيقته من أمه، وكانت (شهلة) ذكية ومثابرة في دراستها بالاجتهاد المثابر، وكانت محل مشورة لعقلها النير، حتى وصلت الى المدرسة الاعدادية فرع العلمي بتفوق متميز، وأنهت الاعدادية بمعدل يؤهلها الدخول في كلية الطب ودخلت في الكلية الطب وأصبحت دكتورة. وقبيل وفاة أم (كريم)، افشت سر (شهلة) الى أبنها كريم، فاعترفت بأن (شهلة) هي بنت عمته (حورية) التي قتلها عمه (قاسم) وليس شقيقته، وعمه (قاسم) ارتكب جريمة القتل و وسأل لماذا قتلها، فقالت (كانت عمتك تعمل في بيت هذا الأغا، ومن قبلها في البستان (طواشة) وانت تعلم كم هي هي جميلة، ومرحة، وبريئة، لقد لفتت انتباه الأغا الى جمالها ومرحها فأخذها عنده في البيت لتعمل كخادمة لزوجته المريضة) ص89، وخدعها بالكلام المعسول بالوعد بالزواج. فأخذ رغبته الجنسية بالاغتصاب وتماطل بالزواج، لكن محاولات ابيه نجحت في اقناع الاغا، لكن عمه لم يقتنع بعقد بالزواج الشرعي فقتلها. صدم كريم من هذا السر المخفي (كان هذا الاعتراف مثابة صاعقة نزلت على رأسي، يومها بكيت بحرقة لم اعهدها من قبل. بل اعتقد اني قد فقدت كل دموعي في ذلك اليوم الذي لم أبك بعده سوى مرة واحدة عند فراق والدتي) ص90. وتمت خطوبة وزواج (شهلة) من ابن شقيق الأغا. وعندما حضر الاغا حفلة الخطوبة، اصابته المفاجأة والدهشة غير المتوقعة بأن (شهلة) تشبه امها (حورية) التي أجرم بحقها في الاغتصاب وبقتلها من قبل شقيقها (قاسم). فتدهورت حالته الصحية في تأنيب الضمير حين عرف القصة الكاملة بأن (شهلة) هي ابنته الشرعية، فلم يتحمل ثقل الذنب الذي ارتكبه، وقبيل وفاته، كتب وصية بأن كل ما يملك من أموال وسندات وعقارات سجلها باسم ابنته (شهلة) وسلمها الى المحامي وهذا بدوره سلم الوصية الى (كريم) لان شقيقته خارج العراق مع زوجها الدكتور (محمود)، فقال المحامي موجهاً كلامه الى كريم (- أستاذ أقرأ وانت تفهم في الاوراق، بدأت بقراءة الأوراق كانت عبارة عن سندات ملكية العقارات وعمارتين في مركز المدينة ودفتر بمبلغ كبير جداً من بنك الرافدين بأسم شهلة) ص121.

وتعرف (كريم) بواسطة شقيقته (شهلة) على المعلمة المطلقة (سارة) من عائلة ثرية ومعروفة في المدينة بسمعتها الطيبة، ارتبط معها في علاقة حب، وكانت متزنة وهادئة وقبل عقد الخطوبة، صارحها (كريم) بحالته الاجتماعية السابقة بأنه كان (ابن المچاري) بقوله (- سارة هل تعرفين أنني من أسرة فقيرة جداً، كنا نسكن تلك الاكواخ التي احترقت قبل سنوات، هل تذكريها ؟

- نعم اذكرها.

- كنت لا املك من ارث أبي سوى حمارة وجحش ماتا في الحريق) ص86، فرحبت بصراحته، وهي بدورها كشفت عن زواجها وسبب طلاقها، لانها اكتشفت بالجرم المشهود بأن زوجها كان يمارس الشذوذ الجنسي، وارادت فضحه بهذا العار المخزي، لكن رد عليها ببرود، بأنه سوف يتهمها الى العلن بأنه ضبطها على فراش الزوجية تمارس الخيانة مع عشيقها، فأفضل الحل السكوت (أنتِ أش واني اش)فقالت له:

(- بماذا أنت تتهمني ؟ قال:

- سأتهمكِ بأني ضبطتك على فراش الزوجية بصحبة عشيقكِ، وتخيلي مقدار الفضيحة التي سأسببها لكِ ولعائلتك ِ) ص84. فسكتت على مضض، ولكن المشكلة التي اقلقتها بأنها رغم فترة زواجها لم تحبل، وأجريت الفحوص والتحليلات اللازمة، كشفت بأنها سليمة وقادرة على الإنجاب، وعلة تكمن في العقم بزوجها الشاذ (العنين) ولم يعد طريقاً للمواصلة الحالة الزوجية سوى الطلاق، والمصيبة بأن زوجها الشاذ جنسياً، يزيح مشكلة عدم الانجاب بزوجته بأنها عاقر.

وبعد زواجها من (كريم) رزقت بجنين وكانت فرحة كبيرة لعائلتها.

وبعد نهاية الحرب في الخليج الثانية المدمرة التي حطمت العراق، ساد الاضطراب والفوضى والانفلات الامني، فقام بعض الشبان بحرق بيت قاضي التحقيق (كريم) بذريعة انه من ازلام النظام، ولم تبق النيران التي أحرقت داره سوى الصندوق وفي داخلة دفتر المذكرات، وجاء الى بيته المحروق يفتش عن الصندوق، فقام الكاتب في إعطائه دفتر اليوميات، ليسدل الستار على خاتمة السرد كأنه شريط سينمائي كامل المواصفات.

× الكتاب: رواية. يوميات مچاري

× المؤلف: طارق الكناني

× سنة الاصدار: عام 2023

× إصدار: مؤسسة المثقف العربي سدني / استراليا

× لوحة الغلاف: أ. د. مصدق الحبيب

× عدد الصفحات: 137 صفحة

***

جمعة عبد الله

هناك تجاذبًا بين الفقر والمصائب، يتعانقان بشدّة، يشبه تجاذب الفساد والثراء الفاحش الغامض، هذه المعادلة التي توصل إليها آدم والتي رغب في تغييرها وقلبها، ليحقق معادلته الخاصة وهي ان ينعم بالثّراء النّابض بالشّعور، الثّراء المحمود الّذي ينصت إلى أنين الأشقياء بشغف، الثّراء الّذي يمسح دمعة بائس.

رواية منارة الموت للكاتبة هناء عبيد، تُمثل رحلة آدم وتصميمه على إنتشال نفسه من بؤرة الفقر والعوز متسلحًا بالأمل والقدرة على التغيير إذا توفرت الإرادة، وأيضا يُبيّن لنا زّيف الاقنعة التي تساقطت عن الوجوه وفضح ممارسات أصحابها.

تتطرق الكاتبة في روايتها منارة الموت إلى مسألة التنمر، من خلال كيفية تعامل الصّبية مع آدم الذي يعاني إعاقة في إحدى رجليه، فكانوا يسخرون منه وينادونه بأبو رجل مسلوخة، يقول آدم لم أسلم من أذى الصّبية، طلبوا منّي أن أركل الكرة، لم أستطع أن احتفظ بتوازني سقطت على الأرض وانغمس وجهي بالطّين، هذا التنمر لم يكن مقتصرا  على الصّبية أو الصغار بل نجده أيضا  لدى الكبار الذين يروا  في أنفسهم ما يميزهم عن بقيّة البشر كوالد نُوى الذي كان يأمر آدم وأمه بالجلوس على الأرض، ويقول لزوجته الأرض موقع هؤلاء، لا يجب أن يتطاولوا يومًا على أسيادهم وإلّا تمرّدوا.

تبين لنا الرواية أيضا شخصية آدم المشحونة بالتحدي والأمل ورغبته في تغيير واقعه نحو الافضل، يخاطب نفسه قائلًا: الانكسار تعافه نفسي، لن أنكسر يوما أمام أي أحد، واليوم الذي سأنتقم فيه من كلّ من مرّغ أنفي في الوحل سيأتي حتمًا، كما انه عندما شاهد الصورة التي تجمعه بنُوى الذي يحمل الكرة وهو يحمل سلّة الغسيل، عاهد نفسه انه سيستبدل هذه الصورة يوما بأخرى يحمل فيها الكرة وسلّة فاكهة ليوزّعها على أطفال القرية المساكين.

لم يتقبل آدم ان يكون عبئًا على غيره، فيسأل نفسه "ما الّذي يجعلني أنتظر صدقة من آخرين وأنا لدّي القدرة على العمل؟ لا أحبّ صدقة أحد، ما أبشع الظّروف الّتي تجبرنا على قبول ما لا نرغب فيه". ولأجل تحصيل رزقه عمل صبي قهوة وضاعف مدخوله بصناعة عقود الياسمين ثم عمل صبي فندق، وعاود إكمال دراسته الجامعية وتخرجة من كلية الطب. كما ان إعتزازه بنفسه  جعله يرفض الخضوع والطاعة العمياء  فالجميع متساوون في نظره، من هنا فهو يرفض الانحناء لصورة الرئيس سواء رئيس البلاد او رئيس المصنع، ويتساءل عن رئيس البلاد "من يكون هذا الرّجل؟ أهو مبعوث الله من السّماء أم مخلوقٌ من معدن ذهب"..ويقول حينما تنحني لشخص وأنت تعلم أنّه يأكل قوت يومك ويسرق حليب أطفالك فأنت شريكه في السرقة، فالخنوع إجرام والذّل ذنب.

قدمت الرواية آدم بشخصية المُحب والعطوف الذي يسعى جاهدا لمساعدة الآخر ليستحق بجدارة لقب صانع البسمة كما سماه صديقه أبو الأحزان. حاول آدم إدخال البهجة على الطفل سام وهو من ذوي الإحتياجات الخاصة وعمل على تأمين المساعدة والرعاية الاجتماعية له.. وفي الشأن الأسري نلحظ العلاقة الوثيقة بين آدم  ووالدته جودي التي يخاطبها بالقول: "جودي يا نورًا  تسرّب من بين الغيوم وأشرق دنيانا، سأعود يومًا لأجعلك سيّدة الأرض"  وأيضا فهو شديد التعلق بأخته الصغيرة وحرصه على مساعدتها وإدخال البهجة الى نفسها. إلا ان ما نقف عنده هو علاقته المضطربة مع والده  خصوصا والرجل عموما، مثلايقول عن والده " مسكين أبي، أسدٌ علينا وفأرٌ أمام الآخرين" وأيضا عندما تكلم عن جده لأمه جودي يصفه بالكسول المشبع بالنذالة لإنه اختار ابنته جودي لتتحمّل المسؤوليّة قبل اشتداد عودها. ومن ناحية أخرى تبرز الرواية أمانة وأخلاق آدم التي منعته من الإحتفاظ بسوار الماس الذي وجده واعاده لصاحبته، كما تشير إلى حسن المعاملة والتصرف مع الفتاة شمس.

ظاهرة تكاد تكون شائعة في معظم مجتمعاتنا وهي ما يسمى بالجمعيات الخيرية التي تقوم بتوزيع المساعدات المجانية على المحتاجين، ولكن المتتبع لنشاط هذه الجمعيات يكتشف انها تمارس أعمال التجارة وجني الارباح بصورة مواربة وهذا ما تقوم به شركة الاخوين كاربنتر من خلال شاحنة محملة بالمساعدات يفترض أن توزّع على الفقراء مجّانًا، ولكن ما يحدث هو توزيع الجزء الأقل منها مجّانا وتحويل الباقي إلى المحال التجارية المملوكة أصلا من الشركة حيث يلاحظ وجود مثل أنواع هذه المساعدات في المحال التجارية التي تبيعها بأسعار عالية للمواطنين. كما ان رئيس البلدية يستحوذ على قسم من هذه المساعدات ليعاود توزيعها باسمه خلال فترة ترشحه للإنتخابات.

كما تشير الرواية إلى ظاهرة الفساد والمتاجرة بصحة المواطن من قبل شركة كاربنتر والتي تشكل فرعا من فروع مافيا الدواء حيث تقوم بترويج أدوية منتهية الصلاحية وفاسدة، أودت بحياة الكثيرين ومنهم والدة جورج وابنة ريّان بعد تناولهما أدوية توزعها شركة كاربنتر، ولم يقف استهتار شركة كاربنتر عند حياة المواطنين بل وصل إلى الاستخفاف حتى بحياة موظفيها عندما انزلقت رجل الموظف رمزي خلال تأديته عمله  ورفض مديره طلب الإسعاف ومعالجته على نفقة الشركة، بل تم الاستغناء عنه دون أية تعويضات، ولم تكتف الشركة بهذا الاجراء التعسفي بحقه بل عمدت إلى خطفه ولا يعلم عنه شيئًا واختفت معه كل الاوراق والمستندات التي كان يجمعها لتسليمها للمحامي لرفع قضية على المصنع. بعد أن حاول فضح ممارساتها عبر منشوراته على صفحة الفايسبوك. وكذلك فعلت الشركة مع زميليه جورج الذي كان يحارب بقلمه وأسس مجموعة من العمال للإعتراض على ما يحدث فكان نصيبه رصاصة أودت يحياته.وهي حال زميله ريّان أيضا والذي إختفى بعد محاولته كشف سر الشاحنة الليلية المحملة بمواد مشبوهة.

في جانب آخر تظهر الرواية أيضا وجهة نظر هانا في تخليها عن حبها لآدم وبحثها عن فارس أحلام يحقق لها طموحاتها فتقول :"بقي آدم صبيًا لا يغري طموح أيّة أنثى. ولم أحلم يومًا بأن أعيش كما أمّي بثيابها الممزّقة، أريد أن أمسك شعاعات الشّمس بيديّ، العتمة تقتلني والفقر يقرصني لا أريد أن تختبىء بسمتي خلف حرمان. قسوت كثيرًا على آدم، عشت صراعا تغلّب فيه حلمي بمرافقة أمير ساندريلا على حبّي لصبّي المقهى. لا أدري إن كنت أنانيّة أم عقلانية.

كما لم تغفل الكاتبة الإشارة الى الادمان على إستعمال وسائل التواصل الاجتماعي التي أدخلت الفرد في عالم الجنون والسحر بجهاز يصله مع كلّ سكّان الأرض لكنّه يعزله  تمامًا ليعيش في قوقعة وأوهام هلاميّة وبشخصيّة لا تشبههُ. ناهيك عن بعض النتائج الكارثية أحيانا نتيجة هذا فتشير الرواية إلى انّ احد تلامذة المدرسة دفع عمره لهذا الجهاز، بينما كان يمشي  في طريقه كان يضع السّماعات على أذنيه فإذا بالقطار يطرحه صريعًا.

ختاما يبقى السؤال قائما كيف سنواجه هل المواجهة تكون  كما يقول آدم "ستكون البسمة سلاحي الوحيد حينما أنشرها على شفاه البؤساء، لتكون السّكين في خاصرة الطّغاة الذين يغتالون الحياة من الوليد في مهده، ويسرقون زجاجة الحليب من فم الرضيع ويقتلون الحلم قبل ولادته. أم اننا ننحاز إلى وجهة نظر زميله جورج القائلة بأنّ الظّلم لا يعرف البسمة، العنف لا يقاوم بشفاه تكشف عن أسنانها ببلاهة، العنف يُقاوم بالعنف والحقّ يؤخذ بالقوّة

لا بد للقارىء من التوقف عند بعض العبارت الجميلة والمعبرة التي احتوتها الرواية ومن هذه العبارت نذكر ما يلي:

1- كلّي يقين أنّ ظهرك المحدّب قد يكون ملاذًا أكثر قوة منّي، حينما يُمَكِّن الحجارة الموجّهة الى وجهك بالانزلاق عنه 12

2- خشيت أن يتلوَّث البلاط اللّامع من انعكاس وجهي عليه.14

3- أم نوى تبدو لامعة بثوبها الزّهريّ المزيّن بالرّيش، وأمي يلتصق بثوبها ريش الدّجاج المتطاير من قفص دجاجات أمّ هانا.14

4- أجد صعوبة بداية الأمر في الجلوس على الكرسيّ لتناول الطّعام، فقد تعوّدت وأسرتي الأكل على الأرض.24

5- لو أستطيع ركله (والد نُوى) بحذائي المتّسخ الّذي أراه أكثر نظافةً من وجهه القبيح.25.

***

عفيف قاووق

مقدمة: الرّواية جِنسٌ أدبيّ حظّى بالقراءةِ والنقدِ، وتفوّق على الأجناسِ الأدبيةِ الأخرى مُنذ النّصفِ الثاني من القرنِ العِشرين، ذلك القرن الذي شهد ثورات عظيمة أسهمت في رسم المشهد الروائي، فأصبحت الرواية أكثر الكتب رواجًا وأقربها لروح القارئ، بينما كانت في الماضي وسيلة للتسلية، وإشباعًا سهلًا للعاطفة والمخيلة، ولسعة توزيعها تمثل اليوم من الناحية الاجتماعية أداة الاتصال الأدبي بين الجماهير المتفاوتة فيما بينها(1).

يشكل الروائي الراحل حامد فاضل(2) ظاهرة أدبية تستحق التأمل، إذ اجتمعت له خصائص شكلته روائيًا مجيدًا، وكاتبًا مرموقًا، منها قوة الوصف وجماليته، وأنسنة المكان، والخيال الخصب، والأسلوب المرموق، والنسيج الروائي المحكم الصنع، إضافة إلى أنه روائي شغلته قضايا وطنه، والتمسك بالمبادئ والأخلاق، والحفاظ على تأريخ مدينته والحضارات التي مرّت عليها، وتخليد ذكريات قرون مضت، عبر لغة شعرية ووصفية تأريخية سلسة، لذلك ارتأت الدراسة أنْ تختار الروائي حامد فاضل لتتوقف أمام عمل من أعماله الروائية (رواية بلدة في علبة)، مستقرئةً التشكيل الزمكاني للخطاب الروائي عنده؛ ولأجل ذلك قمت بتقسيم الدراسة إلى مبحثين، يقفوهما خاتمة تضمنت أهم نتائج الدراسة.

المبحث الأول: قراءة زمكانية في معمارية الرواية

المطلب الأول: جماليات التشكيل الزمكاني للعتبات النصية

المطلب الثاني: جماليات التشكيل الزمكاني للهيكل المعماري للرواية

المبحث الثاني: تحليل زمكانية العمل الروائي

المطلب الأول: زمكانية الأمكنة المغلقة

المطلب الثاني: زمكانية الأمكنة المفتوحة

تمهيد: مفهوم الزمكانية:

في الحقيقة إنَّ مصطلح الزمكان، وإنْ كان مركبًا مزجيًا منحوتًا من مصطلحي الزمان، والمكان(3)، فهو مصطلح غربي في الأساس، استعمله ميخائيل باختين(4) في مصطلح الكرونوتوب، في نطاق حديثه عن الأنساق القصصية في تطورها من العصر الإغريقي حتى العصور الحديثة، وقد وجد في مصطلح الكرونوتوب وسيلة يجمع فيها بين عنصرين قصصيين، هما: الكرونوس Cronos (الزمان)، والتوبوس Topos (المكان)(5).

وقد "نحته باختين عن وعي علمي، ودافع نقدي يبحث عن دفع الخلط، وتجاوز تقنيات الفكر التقليدي الذي يؤمن بمطلقية الزمن وانفصاله عن الفضاء/ المكان"(6).

إنَّ اصطلاح الزمكان يدل دلالة واضحة على "العلاقات الجوهرية المتبادلة بين الزمان والمكان المستوعبة في الأدب استيعابًا فنيًا"(7).

ويرى باختين أنَّ ما يحدث في الزمكان الفني هو اتحاد وانصهار علاقات الزمان والمكان في كل واحدٍ ندركه فنيًا، ويجعل للزمان والمكان أهمية جنسية جوهرية، إذ يوضح أنّ الجنس الأدبي وأنواعه يتم تحديدها من خلال الزمكان بالذات(8).

قارب باختين مفهوم الزمان من خلال ارتباطه بالمكان ولم ينظر إلى هذا الأخير بوصفه "طرفًا في علاقة ثنائية طرفها الآخر هو الزمان"(9)، فاستخدم مصطلح زمكانية ورآه أنسب للتعبير عن علاقة الترابط الوثيق بينهما.

إذن؛ نستنتج أنَّ باخيتن قصد من وراء هذا المصطلح أنه لا يمكن أن نفصل الزمان عن المكان، فهما شكل واحد، في بوتقة واحدة وفي رحاهما تدور باقي مكونات السرد الأخرى.

يقول عمر عاشور في كتابه البنية السردية: "الكرونوتوب هو مصطلح قصد به تواجد الزمن مخزنًا في المكان، وبما أنَّ للزمن صلات بالمكونات الأخرى للحكاية من حدث وشخصيات، فمن الضروري أنْ تكون لها هي الأخرى صلات بالمكان، وهي صلات يشتغل بعضها علنًا وبعضها يشتغل ضمنيًا، أي أنها علاقة بين عناصر حضورية وأخرى غيابية، كما يرى الناقد تودورف، وهذه العلاقات تتقاطع وتتفاعل بكيفيات معقدة لما يعطي الرواية بنيتها الشكلية والدلالية"(10).

ومن خلال ما سبق تعرف الزمكانية بأنَّها الوحدة الفنية للعمل الأدبي والرابط العضوي لجميع عناصر السرد.

زمكانية العنوان:

يحتل العنوان المركز الأول في أي عمل فني، فهو بمنزلة الثريا التي تحتل بعدًا مكانيًا عاليًا تعكس إشعاعها على النص، فهو مؤشر أولي مهم يستقطب داخله آفاق البنية الدلالية المركزية التي يقوم عليها البناء.

وعادةً ما يصبح العنوان رغم فقره اللُّغوي "مرجعًا بداخله العلاقة والرمز وتكثيف المعنى، بحيث يحاول المؤلف أنْ يثبت فيه مقصده برمته، أي أنَّه النواة المتحركة التي يخيط المؤلف عليها نسيج النص"(11)، فالعنوان هو المفتاح الأول من المفاتيح المهمة لقراءة الرواية، فهو نص ابتدائي ينشئه المؤلف، وهو خطاب منتج للنص يتبعه أو يسبقه.

لذا؛ فهو علامة سيميائية ترتبط بمضمون النص، وقد تحيل إلى الحدث الرئيس الذي يهيمن على الرواية، فهو بوابةٌ لاقتحام عالمه الداخلي.

يعكس العنوان حمولات دلالية مكثفة داخل بنية النص الروائي؛ كونه العلامة اللسانية الأولى التي يقاربها القارئ على سطح الغلاف، حيث تتشابك أمامه وتتداخل مختلف الدلالات السيميائية والرمزية المحيلة إلى عوالم لا تستقيم بالضرورة أمام القارئ التقليدي، بل تحتاج إلى قارئ نخبوي لا يمارس تقانات التأويل إلا وهو متمرس بخبايا النص وسياقاته. لهذا أصبحت دراسة العنوان ومقاربته لعبة ممنهجة ضمن كتلة النصوص الموازية، وضمن السياق الإنتاجي للرواية كسلعة تجارية.

وفيما يخص رواية بلدة في علبة، فقد جاء هذا العنوان في شكل مركب اسمي مكون من جزأين؛ الأول: بلدة، وجمعها بلدان، وهي الأرض المتسعة تستوطنها جماعة ما، لها مدن وقرى وحدود معينة.

والثاني: شبه الجملة الجار والمجرور (في علبة)، والعلبة هي وعاء من خشب أو ورق أو صفيح معدني يحفظ فيه الشيء.

وهو عنوان غائر في الإحالة الدلالية والرمزية؛ فالبلدة أولًا جاءت بصيغة النكرة، فأي بلدة يقصد الروائي، وما اسمها، أما كون البلدة في علبة، فهذا تأكيد على المعنى الأول (كون البلدة عنصر مجهول)، فضلًا عن أنَّ العلبة ذات حيز مكاني ضيق جدًا، مغلق على ذاته.

كما أنَّ العنوان يدل على الغياب الكبير لمعالم البلدة وأشكال العنف والضغينة، يشعر القارئ أنه أمام رواية مسكونة بالأسرار والخفايا المؤلمة التي حصرت وبقيت حبيسة مكانها، إذن نستنتج أنَّ ثمة شيء ما في العلبة يتعلق بالبلدة.

فعتبة النص الأولى هو عنوان تناقضي يفتح الباب بدايةً للتناقض كمدخل للقراءة، فكيف تكون بلدة بالحجم الكبير في علبة صغيرة ومغلقة، وهي غرابة سرعان ما تتبدد حينما نعرف أنَّ العلبة تحتوي على صور للمدينة وحاراتها وشوارعها وبيوتها ومدارسها ومقاهيها وأسواقها، ومن خلالها يرجع بنا الروائي إلى أحداث أو قصة كل صورة.

وبما أنَّ العنوان لا يمكن إدراكه إلا كوظيفة دالة فاعلة، تقوم بتوليد الدلالات الممكن تأويلها، حيث يستقطب داخله آفاق البنية الدلالية المركزية أو الأساسية التي يقوم عليها البناء الروائي كله(12)، فإنَّ العنوان (بلدة في علبة) يحمل على كتفه هموم وآلام سكان هذه البلدة التي قاست وعانت صنوفًا من أنواع العذاب والقهر السياسي والاقتصادي والاجتماعي.

ولمّا كانت الشخصيات في الرواية تعاني من الحصار والفقر والحرب في فضاء البلدة، فهي بالتالي مقيدة الحريات ومحاصرة من كل زاوية كزوايا العلبة، فعنوان الرواية يوحي بمضمونها.

ورغم طغيان المظهر المكاني المباشر على العنوان، إلا أنَّه يتضمن الزمن في سياق الدلالة نفسها بصفة مضمرة ومستترة، فالأحداث والشخصيات لا يمكنها أنْ تنمو وتتحرك إلا في إطارها الزمكاني، ثم إنَّ العلاقة الزمنية المضمرة للعنوان يمكن استجلاؤها بوضوح في زاوية أخرى، فالصور الموجودة في العلبة تحمل قصصًا من الزمان البعيد والحاضر لمدينة السماوة.

وهذا يفسر إسناد المفرد (بلدة) إلى شبه الجملة (في علبة)؛ ليبين أنَّ البلدة مغلقة على نفسها، تعاني من القهر والاستبداد.

إنَّ اختيار حامد فاضل لعنوان الرواية (بلدة في علبة) ليس عبثًا، إنما جاء نصًا مختزلًا ومختصرًا في الوقت ذاته مليئًا بالدلالات والمعاني، فعنوان الرواية دال يتوافق ويتظافر كثيرًا مع مدلول النص وما يحتويه من المعنى الداخلي.

إذن؛ فعنوان الرواية تربطه علاقة تكاملية بالنص الداخلي، فهو بمنزلة الدال الإشاري للنص، وحامد فاضل ربما حاول الربط بين الرواية وواقعه وكل ما يتصل به من مؤثرات، فأنتج هذه الرواية التي حاول من خلالها أنْ يصف عالم مدينة السماوة، ويصف عالم صحرائها وما فيه من أساطير وخرافات... والتبحر من خلال هذه الصور في التاريخ القديم والحضارات والفلسفات القديمة حتى استدعاء الأساطير وبعض الخرافات كالسلعوة(13)، وحكايا الجن(14).

والعنوان بنية صغرى، تؤلِّف مع محتوى الرواية وحدة متكاملة تسهم في إنتاج الدلالة، ولا يمكن أنْ تتحقق هذه الوظيفة بمعزل عن النص الروائي، وهذا ما نجده في متن الرواية في حديث الروائي عن بلدة السماوة التي اختزن ذكرياتها في علبة صور، كل صورة منها تحكي عن حادثة معينة، يتبادل فيها النقاش مع الشيخ النوراني الذي وجده في الغرفة.

وبعد هذا؛ فإنَّ العنوان هو الصورة المتكاملة التي يستحضرها القارئ أثناء التلقي والتفاعل مع جمالية النص الروائي.

من هنا يتضح؛ أنَّ العنوان (بلدة في علبة) اختزل في داخله زمكانية واضحة جدًا نراها من بداية الرواية حتى نهايتها، في العلبة التي تحمل صور المدينة وحاراتها وأناسها وحكاياتها، فكل صورة كنز من الحكايات التاريخية.

تذكرنا الرواية بالصندوق في رواية الأديب الفلسطيني غسان كنفاني (موت سرير رقم 12)، فهو صندوق مفعم بالرموز، وهو علامة سيميائية، والعلبة في هذه الرواية (بلدة في علبة)، ذكرى ما لا تعيه الذاكرة من الزمن، والمحتويات هي عبارة عن صور باللونين الأبيض والأسود، وتم تلوينها عبر الخيال، وقد ورد ذكر الصندوق (العلبة) في أكثر من موضع في الرواية، وعلى أشكال عدة، وهي: صندوق جدي(15)، صندوق الطفولة(16)، صندوق قطار الموت(17).

زمكانية الإهداء:

في رواية بلدة في علبة، نجد أنَّ الإهداء جاء وجيزًا في كلمتين، ذكر فيها المهدى إليه، بقوله: "إلى السماوة"، وسرعان ما تبدد الغطاء عن اسم البلدة، وهي بلدة السماوة.

زمكانية الاستهلال أو التصدير النثري والشعري:

يعد الخطاب المقدماتي من أهم العتبات النصية التي يعتمدها الروائي المعاصر في رسم استراتيجيات النص والتصدير له عند المتلقي بوصفه القارئ المفعل للدلالات الوسيطة بينه وبين المعنى المضمر، الذي يحاول القبض عليه من خلال تلك اللواحق النصية الموجِه تارة والمتسلطة تارة أخرى، فالخطاب المقدماتي – في تقديري - لا يخرج عن دائرة التوجيه الفكري والأيديولوجي، إنَّه "خطاب موجه نحو النص والقارئ، قَصْد بناء أو تحديد نمط القراءة المتوخاة، وهذه الوظيفة التوجيهية جزء من استراتيجيات المقدِم في تحديد علاقة النص بالقارئ"(18).

يصدر الروائي روايته بهذا التصدير الشعري للشاعر رياض الغريب(19):

خاتمي ذو الحجر الأزرق

الذي ورثته عن أبي

ظل

طوال الطريق

إلى السوق

يحدثني

الحصار سينتهي

الأولاد سيكبرون

ماذا تبقي

لابنك إن بعتني

مَن يقول

هذا

ورثته عن أبي

هذا بقايا العائلة

جاء الروائي بهذه الأسطر الشعرية والتي كأنها رسالة من رياض الغريب إلى كل مواطن فَقَد أباه وورث منه شيئًا بأنْ يحافظ عليه، وهذا النص الشعري إشارة إلى العلبة الصندوق التي ورثها الابن عن أبيه، وبداخله كنز من كنوز مدينته الجميلة وذكرياتها.

زمكانية العناوين الداخلية:

تتألف الرواية من عشرين فصلًا، تحمل عناوين دالة، ترسم المنحى التسلسلي الذي اتخذته مأساة مدينة السماوة، ينفتح الفصل الأول على "نوافذ مظللة"، ثم "سليلة الوركاء"، "خيمة الحكايات"، "السمين والضعيف"، "مسلحة أليس"، "السماور"، "قلعة الهيس"، "دار السيِّد"، "البجعة والجمل"، "الجسر العتيق"، "الأرجوحة والمنبر"، "قطار الموت"، "قبلة سبارتاكوس"، "مقهى النقائض"، "النهر العليل"، الليرات العشر"، "الملك الشاب"، "عمامة سدارة"، "عقال طربوش سروال خوذة"، وينتهي بالفصل الأخير (20) "نوافذ مفتوحة".

افتتح الروائي حامد فاضل روايته بالفصل الأول المعنون بـ "نوافذ مظللة"، وأنهى روايته بـ "نوافذ مفتوحة"، مفتوحة على حياة تبشر بمستقبل واعد لا يقتطف وإنما يتوصل إليه على جسر من التعب، ففي نهاية كل نفق مظلم قبس من نور.

زمكانية الغلاف:

يعد الغلاف من ضمن العتبات الأولى التي يقف عليها القارئ، وتلفت انتباهه فيقف وقفة تمحيص.

وفيما يتعلق بتقسيم الصورة البصرية للغلاف، فقد قسّمت إلى قسمين؛ الأول: هو الجزء العلوي من الرواية، حيث فصل بين الجزء السفلي بخط برتقالي واسم الروائي فوقه بخط أبيض، وأخذ حيز ثلثي الغلاف، وتحته عنوان الرواية في الثلث الأخير، وقد كتب الخط بلون أصفر فاقع بحجم خط كبير، وله تفسير فلربما دلّ الخط على الحد الفاصل بين التاريخ القديم والتاريخ الحديث للمدينة، وهو الجزء الأكبر من الغلاف.

الباب مغلق والكف المعصورة الخارجة من الحائط غير الموجود، وكأنها عصرت داخل الحائط، ولا شيء واضح خلف الباب، والحذاء أمام عتبة الباب، وكأنَّ رجلًا دخل وحاول الخروج ولكنه لم يستطع.

إنَّ الكف المحصورة على صفحة الغلاف داخل فضاء متعدد الألوان والأبعاد والدلالات يضع الخطاب الروائي في قلب عالم كله صراع ومواجهة وتحولات، حتى السماء المحيط بها يلازمها لون الغيوم السوداء الذي يبعث على الخوف والقلق والاضطراب، ولكن الأمل موجود بالومضة البيضاء في تحسن الحال قليلًا.

سواد الغلاف يوازي نوافذ مظللة، وانفتاح اللون بعد أنْ كان غامقًا في الغلاف الأخير يوازي نوافذ مفتوحة.

الغراب والصخرة وسيلان الحبر من كلمة (Allone)، والغراب ينظر باتجاه الباب التي كانت بالكتابة اللاتينية (الساعة السابعة إلا عشر دقائق)، أهو صباح أم مساء من هذه الغيوم الملبدة في الجو؛ لربما هو المساء ومظلم كلما أضاء البرق سلكت الطريق، وهو يدل على أنَّ ساعات النور قليلة في هذه الرواية وهي عبارة عن ومضات، حيث يدل على ذلك انطفاء الشمعة التي تقع تحت الساعة المحفورة في الصخرة، وكأنَّ قوة كبيرة دفعتها للانطفاء.

والسؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح هو: لماذا وقع اختيار الكاتب على اليد اليسرى دون اليمنى؟

لا شكَّ أن اليسار كان يمثل طيلة العهود القديمة وحتى عهد قريب قيمًا سلبية في نظر الكثير من الديانات والثقافات. وقد أدت هذه التمثيلات دورًا مهمًا في تشكيل متخيل إنساني يقوم على مركزية اليمين وهامشية اليسار، لكن الحداثة التي قلبت موازين القوى السياسية والثقافية والأدبية والحضارية، أعادت الاعتبار لليسار الذي أضحى رمزًا للتحرر والتجديد والإبداع.

وعندما نقرأ الرواية نلاحظ فصلًا يحمل عنوان "قطار الموت"، ويتحدث فيه الكاتب عن المكيدة التي دبرت لليسار والشيوعيين لقتلهم، وربما هذا ما يفسر اختيار الكاتب لليد اليسرى.

الغلاف الأخير يحيى السماوي – وهو شاعر مغترب- ما كان ليغترب لولا ما حدث في وطنه، وصورة الروائي حامد فاضل وهو يتأمل شيئًا ما يوشي بأمل جديد بالانتظار.

دلالة الألوان:

تؤدي الألوان دورًا أساسيًا في التواصل بين الأفراد، ويبدو أنَّ دلالة الألوان لصيقة بالثقافة والحضارة، فلا توجد ثوابت عالمية في هذا المجال، إذ غالبًا ما تتحدد شيفرات الألوان بالانتماءات الثقافية والمرجعيات الحضارية والسياقات التاريخية، وما يهمنا هنا هو حقيقة الألوان الموظفة في الغلاف وعلاقتها بالمنظومة الثقافية العربية واستراتيجية الكتابة الروائية.

نلقي الآن نظرة على الألوان في واجهة الرواية، ودلالاتها الموحية في ظل هندسة حامد فاضل لفضائه الروائي، وما له من تعالقات مع غلاف الرواية.

نلاحظ بداية أنَّ حامد فاضل اختار لواجهة روايته "بلدة في علبة" اللون الأسود الممزوج بالرمادي والأبيض، ويجدر بنا أنْ نشير إلى أنَّ هذا اللون له وقع خاص في النفس، فهو يشير إلى الإحباط والخوف والذعر والحرمان والقهر.

وعندما اختار حامد الواجهة باللون الأسود، فإنه يسعى إلى رسم عالم يوحي بالحزن والتوتر والاستبداد، كما يشير إلى حالة شخصيات الرواية التي تتطلع إلى التحرر من الأزمات والنكبات، كما يرتبط الأسود بالحزن والوحدة، والإحساس بالوحشة لهذا كان اللون الأسود الأقرب لتجربة القهر والاستبداد.

إنَّ قيمة اللون لا تكمن في ذاته بوصفه كائنًا مستقلًا قائمًا بذاته، بمعزل عن الألوان الأخرى بل في تفاعله الكيميائي والدلالي مع الألوان الأخرى، إنه بمنزلة الكلمة التي تتعالق مع الكلمات الأخرى داخل نسيج متماسك ومترابط لإنتاج جمل ووحدات دلالية صغرى، تكون بمنزلة مرتكزات الخطابات والوحدات الكبرى.

لذلك؛ نرى أنَّ التقاء الرمادي الغامق بالأسود له مفعول سيكولوجي داخل الاقتصاد الكلي للبناء الدرامي، فإنْ كان هناك سبق للون الأسود فإنَّ المراد هو العذاب والحزن والذعر.

يأتي عنوان المؤلف بخط أبيض في الثلث الأخير من أسفل الصفحة، ويفصل بينه وبين عنوان الرواية خط برتقالي ثم اسم الرواية بلون أصفر فاقع كبير، وهو يحيل إلى العزلة والانفصال عن الآخرين، كما يعكس العنوان وضعيات الشخصيات المأزومة في الرواية، التي تعاني من المصاعب.

ثم تأتي كلمة (رواية) في يسار الغلاف باللون الأبيض في ثالث موقع لتضيف لبنة جديدة إلى معمارية الدلالة وتوجه الفعل القرائي إلى أفق جديد، فيتعدى بذلك كونه مجرد فضاء لوني إلى موضوع دلالي مشبع بالرمزية، ويأتي بعدها اسم دار النشر (سطور).

إنَّ الأشكال والرسومات والألوان المتفاعلة داخل فضاء الغلاف تمثل فسيفساء دلالية وجمالية تنهض بفعل إنجاز البرنامج الإبداعي الكلي على مستوى الدفق المبدئي والبرمجة المفتاحية، ولكي تكتمل الصورة وتتناغم المكونات مع بعضها البعض، لجأ الكاتب إلى خط اسمه (حامد فاضل) باللون الأبيض، وهو رمز للطهر والنقاء والصفاء، إنه شهادة الميلاد التي تعلن عن ميلاد أسطورة أدبية.

تلك هي بعض الأفكار التي أوحت بها دراسة الغلاف والعنوان من منطلقات تحليلية سيميائية زمكانية، وقد بيّنت الدراسة أنَّ مغامرة الكتابة الإبداعية النصية ما هي إلا نتاج وتكاثر النواة المجهرية التي يمثلها العنوان، والتي تختزل الطاقات الدلالية اللانهائية.

يستحق العنوان ولوحة الغلاف وقفة مطولة، بل هما جديران بدراسة موسّعة تثبت العلاقة الجدلية القوية بين الأحداث وبين العنوان، وما يتعلق به، ما يؤكد رؤية جيرار جينيت أنّ العنوان هو "النص الموازي"، وهو ما ينطبق فعلًا على لوحة الغلاف التي تأخذنا إلى أجواء الخوف والذعر والتغيرات السياسية والحروب والنزاع في تاريخ مدينة السماوة الحافل.

***

د. سحر ماهر احمد

........................

(1) ينظر: ماتز، تطور الرواية الحديثة، ص15.

(2) هو حامد فاضل حاشوش الغزي كاتب وروائي ومسرحي وصحفي عراقي, ولد في مدينة الرميثة بالعراق عام 1950، وحصل على بكالوريوس اللغة الإنجليزية وآدابها، وعمل في مجال التدريس, وعمل مراسلًا لجريدة «الزمان» من عام 2003 إلى عام 2005، ومراسلًا لجريدة «الأديب» الثقافية من عام 2004 إلى عام 2013، ومراسلًا لوكالة رويترز للأنباء من عام 2003 إلى عام 2008، وعمل مندوبًا لمعهد المرأة القيادية من عام 2004 إلى عام 2009، كما قام بإعداد الصفحة الثقافية لجريدة السماوة. رحل عن عمر يناهز الـ71 عامًا يوم الثلاثاء 15 يونيو 2021م.

(3) عبد الملك مرتاض. تحليل الخطاب السردي: معالجة تفكيكية سيميائية مركبة لرواية "زقاق المدق"، ديوان المطبوعات الجامعية، الجزائر، (د.ط)، 1995م، ص227.

(4) ميخائيل باختين:)1895-1975م) فيلسوف ولغوي ومنظر أدبي روسي سوفييتي، ولد في مدينة أريول، درس فقه اللغة وتخرج عام 1918م، وعمل في سلك التعليم وأسس "حلقة باختين" النقدية عام 1921م.

(5) انظر: محمد القاضي وآخرون. معجم السرديات، دار محمد علي للنشر، تونس، ط1، 2010م، ص344؛ وأيضًا: فيصل الأحمر. المكان ودلالته في الرواية العربية الجزائرية، رسالة ماجستير غير منشورة، جامعة منتوري قسنطينة، الجزائر، (د.ت)، ص227.

(6) شعيب حليفي. شعرية الرواية الفانتستيكية، ص182.

(7) ميخائيل باختين. أشكال الزمان والمكان في الرواية، ترجمة: يوسف الحلاق، منشورات وزارة الثقافة، دمشق، (د.ط)، 1990م، ص5.

(8) انظر: المرجع السابق، ص6.

(9) يمنى العيد. أضواء على الكرونوتوب والنسق الدلالي في نظرية باختين للرواية ضمن كتاب: في مفاهيم النقد وحركة الثقافة العربية، دار الفارابي، بيروت - لبنان، ط8، (د.ت)، ص65.

(10) عمر عاشور. البنية الزمنية والمكانية في موسم الهجرة إلى الشمال، دار هومة للطباعة والنشر والتوزيع، الجزائر، (د.ط)، 2010م، ص31.

(11) ناصر يعقوب. اللغة الشعرية وتجلياتها في الرواية العربية (1970-2000)، المؤسسة العربية للدراسات، لبنان، (د.ط)، 2004م، ص110.

(12) عثمان بدري. وظيفة اللغة في الخطاب الروائي الواقعي عند نجيب محفوظ: دراسة تطبيقية، ص50.

(13) حامد فاضل، بلدة في علبة، ص57.

(14) السابق، ص107-108.

(15) بلدة في علبة، حامد فاضل، ص246.

(16) السابق، ص87، 133، 264.

(17) السابق، ص96، 197.

(18) أحمد المنادي. النص الموازي: آفاق المعنى خارج النص، مجلة علامات في النقد، النادي الأدبي بجدة، ج(61)، مج(16)، 2007م، ص145.

(19) حامد فاضل، بلدة في علبة، ص6.

 

 

(عربة ماركس المنسية) انموذجاً

انطلاقا من كون سرديات الحداثة تعتمد على التجريب والتجريب بحد ذاته نوع من انواع التمرد وما يقع وان الساحة التي يعمل فيها الادب التجريبي بانه يعمل في حقل الالفاظ واللغة وانتهاك قواعدها واللامألوف في تقنيات السرد تمردا فكرياً ورؤيوياً وجمالياً عبر القصص التي تأتي بالملامح التي تدل على التمرد والخروج عن المعتاد هذا ما نلمسه في تجربة القاص والروائي شوقي كريم في مسروداته التي جاءت مزيجا من ادراك ذاته الابداعية لواقعها الاجتماعي وقوانينه الفاعل كون الابداع يتولد من تجادل الذات مع موضوعها والحركة الفاعلة بينهما بحيث يؤثر كل منهما في الاخر والتي تنعكس آثارها على ابداعه السردي والتي تمثل شكلا من ادراك الواقع الاجتماعي ومحاولة في تغييره .

استهل القاص شوقي كريم مسروداته القصصية بالإهداء الى والده كريم حسن شهاب الذي علمه كيف يواجه الظلم والتحرر من العبودية في كل مستوياتها كون الانسان هو الكائن الاسمى. الاهداء من المناصات المهمة ونصا موازيا يمثل تواصلا حميميا بين الكاتب والمهدى اليه حيث جاء اهداء الكاتب ملمحا يحمل في طياته قيماً اخلاقية واجتماعية وايديولوجية.

الاهداء/ كريم حسن شهاب.. الذي علمّني أن مواجهة الظلم مهمّة انسانية، شريطة ألا تكون مرتبطة بمصالح شخصية ضيّقة الافق، وأوصاني، ذات غضب .." مجنون ٌ من تسيّره أوهامٌ محالٌ تحقيقها"14784 شوقي كريم

الزمن وتفتيت اللحظة

ونحن نطالع المجموعة القصصية (عربة ماركس النسية) انموذجا لمسرودات شوقي كريم الذي جاء عنوان استنباطي من أحد عناوين المجموعة والذي عودنا ان لا يقدم العنونة على طبق من ذهب الى المتلقي في مسروداته المتعددة الاخرى في القصة (عراقوش، ليلة المرقد، قطار أحمر الشفاه،...) وفي رواياته شروكية، قنزة ونزة، ثغيب، لبابة السر، ...) وانما يأتي من باب التعريض لا التصريح دال على كون العنوان لا يهب نفسه للقارئ ولا يبوح بسره والذي من خلاله يشد انتباه القارئ ويغريه للولوج لعالم مسروداته وانما يتحلى بالغموض ولا يكشف عن المضمون وهذا ما ينطبق على العنونة الفرعية في المجموعة التي نحن بصددها البالغ عددها العشرون، (وهم البدايات، حصى، قوافل الشط، موت أصابع الجكليت، هوامش السندباد، فلك طرّك، نهار ابيض بلون الخطيئة، مشواف الهندس، خاصرة القنفذ، مدافن النايات، وهنا يقوم القارئ النموذجي ملأ الفراغات واعادة انتاج معناه عبر التفاعل بين دلالات النص ودلالات القراءة، يتضح لنا عبر تقنيات السرد وآلياته وحضورها الفاعل في تكثيف الزمن وتفتيت اللحظة الحاضرة وتأكيد على وجود الذات في الزمن

 "قيل لي ذات ليلة مجنونة صاخبة ٍ، كنت أود وأنا أعيش تفاصيلها بكل خبل، ألا ألجُ أبواب الواعظ والحكم والوصايا"2

تفتت الحدث وتوزعه بين ثنايا النص والتحرر من التقيد بزمن الحدث فنرى الاحداث تظهر على شكل افكار أو افعال او حركات الشخصية، تبعثرت الاحداث تجسيداً لرؤية الكاتب للحياة فهي لا تنمو ولا تترابط بل تجلت على شكل قفزات وانتقالات من حدث الى تعليق الى وصف لتعكس واقعا يهيمن عليه السوداوية.

وأول ما تحس به وانت تقرأ هذه المجموعة الانسجام الكبير او التجانس الموضوعي في رؤيتها وانه يواصل نفس التجربة المضمونية بأبعاد ومستويات متجددة في جميع مسروداته وكأنه يحمل اسِفاراً كثيرة ويقدمه لنا سفراً أثر سفر فيه من المتعة واللذة برغم ما تحمله من أحزان وويلات وهموم العراقيين من جراء الحروب والفساد والظلم

شوقي كريم مسكون بثقل الهموم في حياة يصعب أن ينال الفرد حقه من الفرح وحتى الحلم وهو قاص يمتلك ادوات القص الرائعة ولديه رؤى بعيدة تصل الى الفلسفة، والتي لمسناها من العتبة الاولى للمجموعة ومشتملا تناصا فكريا فلسفيا من شخصية (ماركس) الذي كان معروفا بصفته فيلسوفا بقدر ما هو معروف كثوري..

وقد نجد القاص يبحث عن الحقيقة وعن تفسيرات فلسفية لمعاني الحياة، اهتم بالواقع السياسي والاجتماعي والمسائل الانسانية العامة والقضايا الفكرية والفلسفية باسلوب التفاعل النصي مع نصوص غيره او التناص غير المباشر الذي يشمل تناص الافكار أو المقروء الثقافي، او الذاكرة التاريخية التي تستحضر تناصاتها بروحها او بمعناها أو لغتها نلمس في بعض قصصه روح وجودية وتداخلا نصياً صوفياً والتي تحفل بالعديد من التعبيرات التي اتخذها الصوفيون  (يبحث سالكوها عن لذة/ كلي الوجود/ خبايا اسرار صيرورة الوجود/ انهتاك الستر/ مباهج اليقين/

يتجلى ذلك من استخدام الشخصيات كأقنعة برموز فكرية وفلسفية نلمس فيه تارة مسحة العارف واخرى المحب العاشق وتارة اخرى الصامت المنصت وهي تشبه الى حد ما" حقيقة الصوفي هي التقلب من حال الى حال"3 ففي مسروداته نلمس (الاغتراب، والحب، والانصات والحكاية)  كما نستشفه في قصته (نهار ابيض بلون الخطيئة) ص68

"قيل مرة، وكان يرسم بطرف قصبة، كانت قبل محو نغماتها ناياً يرسل آهات الارامين أنفسهم بين أحضان الخديعة والوجع، خرائط جرداء يبحث سالكوها عن لذة قطرة من الماء حتى وان كانت ملحا اجاجاً، وطلاسم راكدة المعاني، قيل ان سليمان علمها عبيده من المردة والجن"

وان اهتمامه بتلك القضايا لما يسود العالم من زيف وتعقيد وتصنع، لجأ نحو الموروث القديم بتقنية التضمين الحكائي كما في قصة المنقرض الذي يعتبر مصدراً من مصادر تكوينه الثقافي معتمدا على الصلة الوثيقة بين الادب والواقع وان ما يقدمه من نتاج ادبي الذي يتكون من عناصر اولها ذاته المبدعة وثانيها صورة الحياة التي يطرحها الواقع وموقفه كقاص او روائي من الواقع ورؤيته ما رواه الاجداد

" بحسب مارواه الاجداد انه مستودع للجندرمة العصملية ودفن في باحته القائد " مصطفى اوغلو" الذي صار مزارا مهما يؤمه اصحاب الحاجات" ص134

وفي قصة بعنوان (قال ....!! )

"افادنا" حسان بن ابراهيم " بما اورده من أحاديث، انصت اليها وعاش بعضها، ودونها حين كان كاتباً مقرباً من (الواثق بأمر الله) حتى غدت ارثاً لا يستهان به " ص126

نلمس في المقطع اعلاه اعتمد القاص اسلوب التداخل النصي التاريخي او الديني وحتى على مستوى التداخل اللفظي او توظيف المثل الشعبي كما في قصة (مشواف الهندس) " يقال ان الذي لا تشوفه العين ينساه القلب" ص100 وعن طريق التضمين الحكائي والتي تأتي منسجمة ومتلائمة مع السياق القصصي والتي تؤدي غرضا فكرياً أو فنياً

ينشئ القاص شوقي كريم عالماً واقعيا في مفرداته لكنه يعمد الى اكساب هذا الواقع صفة رمزية ذات دلالات موحية ومستوى تعبيري يشي عن الفكرة ويشير الى المعاني الكامنة خلف النص:

"تفحص الوجوه التي ارتدت مسوح الرهبان وحملت صلبان التقوى والقرب من الرب، كأنه عرف حقيقتهم للتو، بهدوء انتقلت نظراته الزائغة غير المسقرة، الى وجه جاريته (درة الملك) العارفة بالسر، والتي أحبها دون أن يعرف لذلك سبباً معقولا كلما تعتعته الخمرة، يقف فوق اعلى الامكنة وأخطرها منشداً: ابنة الروم سبتني بلحاظ شركسية سرقت مني فؤادي ورمتني في البرية" ص 76

وبذكاء سردي يخلق لنا شوقي كريم جو قصصي مقنع فيها من الطرافة والايحاء الدال على الشيء الكثير.

***

طالب عمران المعموري

.....................

المصادر

1- شوقي كريم حسن، عربة ماركس المنسية، مسرودات قصصية، وزارة الثقافة والسياحة والاثار، دار الشؤون الثقافية، بغداد، 2023 .

2- نفس المصدر ص5

3- عبد الحق منصف، ابعاد التجربة الصوفية، دار افريقيا الشرق، المغرب،2007 .

إنَّ موضوعة ميتافيزيقيا الوجود لاتقتصر على جنس بشري بعينه دون غيره، ولا عصر من العصور فقط، ولا على دين من الأديان السماوية، ولا على دراسة من الدراسات العلمية أو الأدبية،ولاسيما الدراسات النقدية، ولعلنا حين نقرأ الإنسان من خلال نتاجاته الشعرية نتحسس الروح في عالمها الميتافيزيقي، وهي تعبر عما يعتمل دواخل الأديب الشاعر، نرى أنَّ روحه حين تكابد نسج أحلامها الفنية بصيغ وتشكيلات متنوعة مضاءة بكشوفات الشعر وتجلياته؛ يشعرنا أنَّ وراء كل دفقة شعورية إحساس بحتمية الوجود الذاتي والموضوعي وكلاهما يتغذيان من بعضهما، فلا حياة للإنسان إلا بوجود ما حوله، ولا وجود للأشياء إلا ويكون الإنسان منظِّماً لها؛ ما يجعل لغة الأدب واقعاً، تنتظم الأشياء وتتعافى عند الحجر والبحر والشجر والبشر وجميعها تؤول إلى لغة مشتركة يتوق لها الجميع، ولاسيما الأنبياء والمتصوفة والشعراء والفلاسفة بوصفها تتغذى من عالمٍ ميتافيزيقي الرؤى.

ولما كان الشاعر يعبر عن ذاته بانعكاس موضوع ما يثير إحساسه نراه يعيش "في بيت الحقيقة... يحاول النفاذ إليها من خلال التخلي عن الطرق العادية إلى طرق المجاز؛ ليصف ما يدهمه من عناء تجاه قضاياه...للبعد الذي يمثل الحقيقة خارج اللغة؛ لأن الشاعر هو الأكثر ابتعاداً عن الطرق العادية؛ كونه يستشعر دواخل الذات الشعورية؛ ليعبر عنها بلغة لايمكن أن تكون عادية بوصف الشعور عالم الحقيقة المطلق يترجم مايستشعره منه بلغة تنسجم مع ما يتآلف مع الواقع المجامل لأحداثه، ما يجعل حقيقة الذات هي ما تنبثق من شعوره"(1)، ويبدو أنَّ للحدوس والاستبصارات التي يمتلكها الشاعر من قدحة عقله المستمدة من قوة قلبه هي ما تخترق الظاهر؛ لتنفذ إلى ماهية الأشياء؛ معبِّرة بلغة خاصة بما يطلق عليها لغة الانزياح أو اللغة الشعرية.

وشاعرتنا الفتية (آسيا ال ربيعة) تلفت إدهاشنا بلغتها التي حاولت أن تجعل منها محمولاً مادياً ينير طريق النص حين تضيء لنا بما يختلج إحساسها من شعور تجاه الإنسان والكون والوجود، إذ نراها تقول في قصيدتها إحساس:

إﺣساﺱ يتأجج بحدائق آمالي

يرمي إليَّ فساتينَ نقائه.

ﻳﺨﺒﺮﻧﻲ أنَّ شموعا ﺗﺸﺘﺎﻕ؛

لتعزف في قلبي لحن غواء.

إﺣﺴاﺱ ﻳﺨﺒﺮﻧﻲ أنَّ العمرَ يتعدى الأحلام.

مسافاتٌ حيرى ﺗراقب خُطانا

عسانا نسقي الورد بيدينا.

هذا الإحساس الذي يتأجج بحدائق آمالها، في إشارة منها لرؤية المستقبل الوضاء بقرينة (الحدائق، والفساتين، والشموع، والعزف، فضلاً عن لفظة الإغواء الذي يمثل أسباب الحياة، ثم لفظة الأحلام، و الورد الذي يسقياه بيديهما)، وجميع ما أوردته من ألفاظ تمثل رموزاً، إذ إنَّ الرمز يعدُّ لازمة للتفكير اللاشعوري الفردي والجمعي فـ "طبيعة التجربة الشعورية التي يمر بها الفنان والتي أصبحت أكثر تكثيفاً وأكثر عمقاً؛ مما دعا الشعراء يعتمدون الرمز وسيلة نقل لما له من قدرة كبيرة على التكثيف والعمق" (2)؛ للتعبير عما يعتملهم من إحساس.

والشاعرة نراها تصرح من أنَّها لايمكنها أن تتكهن بتفسير هذا الشعور الذي يكتنف روحها بوصفه غريباً عليها، فتقول:

شعورٌ ﻏﺮﻳﺐٌ

يهدهدُ أشواقي

لا أﻋﻠﻢ ﻛﻴﻒ ﺃﺻﻔَﻪُ

يا أنتَ: أتعلم،

لم يفهم هاجسه سوى صمتٍ

ﺩقاﺕُ القلب تستشعر ما يغرس في دنياي.

وعداً تراقصه الأضواء.

ﻛﻴﻒ، ﻭﺃﻧﺎ لا ﺃﺳﻤﻊ سوى ﺩﻗاﺕ القلب

وتحار أنْ تقرأ ما فوق الأهداب

ﻳﺴﻜﻦ عبق في أنفاسي !

ﻛﻴﻒ ﺑإﻣﻜﺎﻧﻲ ﺗﺠاﻫل موسيقاه

وهي تسافر عبر فضاء الوله السابح

في أزمنتي.

فالشعور هو من عوالم الميتافيزيقاً الذي لايمكن استشعاره إلا بالحدوس، ولعل الشعر هو تعبير عن رقي الإنسان فحين يغترف من عوالم ميتافيزيقية يستشط في إلباس ما يتجلى في مخيلته بنمارق من الأردية الفنية، إذ إنَّ "مهمة الفن في السمو على الواقع بصفاته العينية يحفزنا على إصلاحه.. الخضوع للشكل الجمالي... يتطور بتطور الوعي، وتنامي المعرفة في وجدان المتلقي الذي يتأمل، ويحاور، ويستقصي، ويستنتج لغة الأشكال التي انبنتْ على نظام من الرموز وبإنشائية تركيبية المنحى، أضفت نظاماً دلالياً انفعالي التأثير"(3) فنرى الشاعرة (ال ربيعة) تستعين بمن تناديه: (يا أنت) أن يعاونها بفك لغز شعورها، كونه صدرَ عن المجهول. ذلك الشعور مثل لها هاجساً من عوالم المجهول، لكنها لم تتجاهل أثره، فقد صار القلب صامتاً حال حلوله ضيفاً عليه يستمع لأنغام موسيقاه التي ما فتئت تسافر عبر فضاء الوله السابح في أزمنتها، إشارة إلى هَيمانها في هذا العالم المُرفل بالأناقة الخميلة عبر أزمنتها.

إنَّ في ميدان النقد الأدبي عبر مناهجه الحديثة استعمال "لفظة الميتافيزيقيا في وصف كلِّ أمر عميق مُبهَم... والميتافيزيقيا علم الوجود بما هو موجود، ويبدو أنَّ موضوعها الأساس الجوهر في حين جوهر الشعر هو عالم المطلق"(4) ما أباح للفنانين تصوراتهم فيه استيعاب" شتى المواقف المحتملة كصلة الإنسان بالطبيعة، وكثيراً ما أحالوا الطبيعة الكونية الجامدة إلى نبضة حية حينما أنسنوا الطبيعة وأشياءها،وحين حاوروها وعرضوا على لسانها سرَّ جبروتها وعظمتها" (5).

إنَّ ما استدعى الشاعرة (آسيا ال ربيعية) أن تغترف من مناهل الوجود رموزها للتعبير عن إحساسها المتقن الذي تستشعر من عوالم ميتافيزيقية انعكاساته. فحين يستبد شعور ما في الإنسان الشاعر يعبر عنه بصياغات إشارية يمكن للمتفحص للنص فهمها حسب قدراته التخيلية والذهنية وذائقته الشعرية؛ ليتغذى منها روحياً وذهنيا معرفياً. فنجد في المقطع الأخير من القصيدة ما نستوضحه من طريق قراءتنا مراد النص وما يحمله إلى متلقيها، فهي تقول:

لكن لا أعلم كيف المرء يجهل

ما تأنس فيه طيور الله.

شعور يغريني ببهجته

وضَّاء كالأقمار....

فما أفعلهُ أدعو للقادم بالبركات؛

لتعلو حكايانا؛

فنشعل شموعَ الحبِّ

بعالمنا، وحاضرنا

يا من تشرق بالأضواء.

فهي تطلق عنان خيالها، حين دخلت عوالم الميتافيزيقيا؛ معبِّرة عن رحمة الخالق حين تأنس طيور الله في مرابعه ذلك المكان الأثير الذي يلوح في تأملاتها، إشارة إلى نقاء المقصد، وحسن التدبير للتحليق في فضاءاته المرجوة. عالم وضَّاء كالأقمار؛ لذا تدعو للقادم بالبركات، إشارة إلى عمق تفاؤلها به، وما الحكايا التي تعلو إلا حكايا خير وأمان واطمئنان، يتأتى ذلك في إشعال شموع حبٍّ وفرح في المكان والزمان الذي تعيش في أروقتهما، إشارة إلى سعادتها بالقادم الجميل، ثم تسدد صوب الحبيب القادم الذي بثَّ ذلك الشعور في عوالمها فأشرقت بالأضواء.

***

بقلم د. رحيم الغرباوي

....................

الهوامش:

(1) الكون الشعري وفضاءات الرؤيا سياحة في تجربة يحيى السماوي الشعرية، د. رحيم الغرباوي: 107.

(2) الرمز في الشعر الفلسطيني الحديث والمعاصر، د. غسان غنيم: 33.

(3) الوعي الجمالي، د. هيلا شهيد: 248.

(4) الكون الشعري: 63.

(5) الرؤيا والتشكيل في الشعر العربي المعاصر، سلام الأوسي: 192.

 

في المثقف اليوم