دراسات وبحوث

دور المنطق في تجديد الخطاب العقدي عند الأشاعرة (9)

محمود محمد علينعود في هذا المقال التاسع ونكمل حديثا عن دور المنطق في تجديد الخطاب العقدي عند الأشاعرة؛ وذلك من خلال موقف الغزالي من قضية المنطق والفقه، وفي هذا نقول: وهكذا يؤول الغزالي الآيات التي ترد بها لفظة "الميزان" علي نحو يجعلها دالة علي ميزان المعرفة، ومعيار العلم، وهو ميزان إلهي وضعه الله تعالي، ليقوم الناس بالقسط ويزنوا به معارضهم .

ويبدأ الغزالي بتقسيم هذه الموازين إلي ثلاثة موازين رئيسية:

أولها: ميزان التعادل: وهو بدوره ينقسم إلي ميزان أكبر وأوسط وأصغر . وثانيهما: ميزان التلازم، وهو المعروف في المنطق اليوناني بالقياس الشرطي المتصل، وثالثهما: ميزان التعادل، وهو المعروف في المنطق اليوناني بالقياس الشرطي المنفصل .

وأساس التقييد في هذه الموازين، وأنها تعتمد في مقدمتها علي الأمور الحسية المشاهدة أو الأمور المجربة و خبر الرسول صلي الله عليه وسلم . وهذا دليل صدق المقدمات المأخوذة في كل قياس ليتبعها بالضرورة صدق النتيجة المترتبة عليها (. ويمكن أن نفصل القول في هذه الموازين علي النحو التالي:

1- ميزان التعادل

وأول هذه الموازين، هو ميزان التعادل، وينقسم كما ألمحنا سلفاً إلي أكبر، وأوسط، وأصغر، وسمي بالتعادل لتساوي كفته وتعادلها بين القائم المشترك وارتباطهما به من جانبيه .

ويصرح الغزالي بأن هذا الميزان، كان ميزاناً لسيدنا إبراهيم، حين حاجه (أو ناظره) الملك النمروذ في ربه؛ حيث قال تعالي في كتابه الغزير "ألم تر إلي الذي حاج إبراهيم في ربه أن أتاه الله الملك إذ قال إبراهيم ربي الذي يحيي ويميت . قال أنا أحيي وأميت .قال إبراهيم فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الذي كفر والله لا يهدي القوم الظالمين" . وباستقراء الأمثلة التي ذكرها لهذا الميزان نجدها كأنها أمثلة للشكل الأول من قياس أرسطو حيث يكون الحد الأوسط موضوعاً في الكبرى محمولاً في الصغرى . ويمثل له الغزالي بقوله:

كل من يقدر علي إطلاع الشمس يكون إلها

إلهي هو القادر علي اطلاع الشمس

إذن الهي هو الإله دونك .

ودليل صدق هذا القياس معلوم بالمشاهة، لأن خصمه عاجز عن إدلاع الشمس من المشرق، وهذا أمر محسوس، وصدق القضية الأولي معلوم بالاتفاق والقياس بهذه الصورة لا يتطرق إليه شك في لزوم النتيجة عن المقدمات، لا في هذا المثال ولا في غيره من المعارف الدنيوية، لأن" .. هذا البرهان قد كشف لنا عن هذه المعرفة لا لعينها، بل لأنها حقيقة من الحقائق، ومعني من المعاني، فنتأمل أنه لم لزمت منه هذه النتيجة ؟ ونأخذ المثال الخاص حتي ننتفع به حيث أردنا .

ففي مجال الفروع الفقهية نقول:

كل مسكر حرام

هذا سكر

إذن ..هذا حرام

فالقضية الأولي نعلم صدقها من الشرع، ونعلم صدق القضية الثانية من المشاهدة الحسية، ولزوم النتيجة عن المقدمتين معلوم بالحد الأوسط، وهو العامل المشترك، ومناط الحكم وعلته، وبذلك يكون صدق النتيجة لازماً عن مقدماتها .

أما الميزان الأوسط فيشرحه الغزالي مستلاً بالآية الكريمة:" وكذلك نري إبراهيم ملكوت السموات والأرض وليكون من الموقنين، فلما جن عليه الليل راي كوكبا . قال: قال هذا ربي، فلما أفل: قال لا أحب الأفلين . فلما رأي القمر بازغاً: قال هذا ربي، فلما أفل: قال لئن لم يهديني ربي لأكونن من القوم الضالين "، وصورة القياس في هذا الآية هكذا

القمر يأفل

الإله لا يأفل

إذن ..القمر ليس بالإله.

وأفول القمر معلوم بالمشاهدة الحسية، ومعلوم أن الإله ليس يأفل لأنه لا يتغير، لأ، كل متغير حادث، فثبت من هذين الصلين أن القمر لا يصلح أن يكون إلها، وكعادة الغزالي، فإنه يجرد هذا الشكل من القياس عن صورته في هذا المثال، ويستخدمه في أمثله أخري، ليبين أنه صالح لأنه توزن به ألوان مختلفة من المعارف الدينية والدنيوية معاً . وهذا الميزان لا يخرج عن الشكل الثاني في قياس أرسطو ؛ حيث يكون الحد الأوسط محمولاً في الكبرى والصغرى معاً .

والميزان الأصغر يمثل له الغزالي بالرد علي المشركين حين قالوا " ما أنزل الله علي بشر، قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسي نوراً وهدي للناس" .

وصورة هذا القياس:

موسي بشر

موسي نزل عليه الوحي

إذن .. بعض البشر ينزل عليه الوحي .

وبذلك تبطل دعوي المشركين، بأن الوحي لا ينزل علي البشر، وصدق القضية الأولي معلوم بالمشاهدة الحسية، وصدق الثانية معلوم بإقرار المشركين واعترافهم، وبذلك يظهر صدق النتيجة، وهذا الميزان هو صورة للشكل الثالث في قياس أرسطو، حيث يكون الحد الأوسط موضوعاً في الكبرى والصغرى معاً.

2- ميزان التلازم:

فيمثل له الغزالي بأمثلة القياس الشرطي المتصل من قياس أرسطو وقول إنه استفاده من القرآن الكريم كذلك في قوله تعالي:" لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا ". وقوله " لوكان معه آلهة كما يقولون إذ لابتغوا إلي ذي العرش سبيلا " . وصورته:

أ- لو كان معه آلهة لابتغوا إليه سبيلا.

ومعلوم أنهم لم يبتغوا إليه سبيلا.

إذن .. ليس معه آلهة كما يقولون.

ب- لو كان للعالم إلهان لفسد العالم.

ومعلوم أنهم لم يبتغوا إليه سبيلا.

إذن .. ليس للعالم إلا إله واحد .

ثم يستخدم الغزالي مبدا النظر في القضية وما فيها من آيات الحكمة والقدرة، ليصف بها صانعا معتمدا علي قوله تعالي:" فأنظر إلي آثار رحمة ربك " وغيرها من الآيات القرآنية .

3- ميزان التعاند:

فيقول الغزالي أنه تعلمها من قوله تعالي:" قل من يرزقكم من السموات والأرض . قل الله،وأنا أو إياكم لعلي هدي أو في ضلال مبين " .

وصورته أن يقال:

إنا أو إياكم لعلي هدي أو في ضلال مبين

لكنا لسنا في ضلال

إذن .. أنتم الضالون.

ومعلوم أن هذا هو القياس الشرطي المنفصل الذي قاله الرواقيون .

ولقد هاجم الفقهاء دعوة الغزالي في أه تعلم هذه الموازين من القرآن الكريم، فنجد ابن تيمية يقول:" وأعجب من ذلك أن الغزالي وضع كتاباً سماه القسطاس المستقيم . ونسبه إلي أنه تعلمه من الأنبياء، وإنما تعلمه من ابن سينا وهو (أي ابن سينا ) تعلمه من كتب أرسطو .

ولكي يتخلص الغزالي من هذا المأزق نجده يدفعه مسبقاً بقوله:" إن القدماء قد أخذوا هذه الموازين من صحف إبراهيم وموسي "، وهو لم يدع السبق في كشف هذه الموازين، وإن كان هو صاحب السبق في تسميتها بذلك واستخراجها من القرآن الكريم، وفي ذلك يقول الغزالي:" أما هذه الأسامي فإني ابتدعتها، واما الموازين، فإني استخرجتها من القرآن الكريم، لكن أهل هذه الموازين، قد سبقت إلي استخراجها ولها عند مستخرجها من المتأخرين أسماء أخري سوي ما ذكرته، وعند بعض الأمم السابقة علي بعثة سيدنا محمد صلي الله عليه وسلم وعيسي عليه السلام وأسامي أخري كانوا قد تعلموها من صحف إبراهيم وموسي.

إن موضوعية الغزالي تلزمه هنا أن يشير إلي أرسطو وغيره ممن اهتدوا إلي استخراج هذه الموازين، أو إن شئت فقل الشكال القياسية، وأنه ليس وحده صاحب الفضل في الكشف عن هذه الموازين وأن أصلها موجود في الكتب السماوية، ويرجع الفضل إلي الغزالي في استخراجها من القرآن الكريم بالذات، وهذا يدل علي وثاقة هذه البراهين لدي الغزالي، ومدي تمسكه بها في مواجهة الرأي والتقليد.

ومن هنا يتضح لنا مدي أهمية المنطق عند الغزالي، ومدي أهمية المزج الذي أفاد منه من القرآن الكريم والفقه الإسلامي، وهو أمر إن دل علي شئ فإنه يدل علي أن الغزالي يعد بحق أكبر أشعري دعم وطور عملية مزج المنطق بالفقه بعد الجويني وابن جزم........... وللحديث بقية

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل بجامعة أسيوط

 

في المثقف اليوم