دراسات وبحوث

دراسات وبحوث

أولا: الوحدة الإنسانية بين المسخ والاستنساخ البشري

إن التوافق حول مبدأ التوحد الجنسي المقارب والمناسب بين الذكر والأنثى لتحقيق التناسل قد يعتبر قاعدة فقهية وقضائية ملزمة عند المرافعات الاجتماعية،وذلك لكي لا يقع الخلل وتتدخل الإدعاءات وتدرأ الحدود بدعوى رفع الشبهات وملابسات الجن والشياطين ! إذ الإنسان يقابل الإنسان،أي الذكر والأنثى،عند التناسل وتتحدد طبيعته عند التقابل من حيث اعتبار  العنصرين المختلفين شكلا والمتحدين جوهرا، حتى يتم التزاوج الطبيعي الذي يؤدي إلى تأسيس أسرة سليمة، وبالتالي إلى تكون مجتمع متكامل العناصر والتكاتف من أجل تحقيق المصلحة العامة على سبيل اقتسام الأدوار والوظائف والمهام وتنوعها بحسب تنوع حاجيات وضرورات الإنسانية الثابتة والمتغيرة .

من هنا فالتناسل بين الذكر والذكر غير ممكن،كما أنه كذلك بين الأنثى والأنثى، وأيضا فالتوليد الذاتي غير ممكن ولا سليم بيولوجيا وأخلاقيا، كما قد يسمى بالاستنساخ البشري وهو عبارة عن عبث ودعاوى لا تثبت شرعيا وقضائيا عند الإدلاء بالبينة، رغم المزاعم الإعلامية والتمويه والتضخيمات المرصودة لإقحامها إيهاما في مجال البحث العلمي ونتائجه الواقعية .

فعلى فرض أن تلك النتائج المزعومة حول الاستنساخ من خلال الخلية الواحدة قد تكون صحيحة فإن هذا لا يفت في عضد القاعدة العامة التي أسسناها حول التناسل والتوالد السليم والعادي  وهو ما نصوغه بأنه :"عبارة عن تلاقح معين بين عنصرين متحدين جوهرا مختلفين شكلا "إذ الجزء الأول  من القاعدة يبقى قائما مهما استفرد أحد الجنسين بهذه العملية دون الآخر، سواء كان ذكرا أو أنثى، لأن كلا الجنسين يبقيان ذوي ارتباط جوهري ببعضهما إلى مستوى الذكورة والأنوثة، لأن كليهما يحمل عناصر الذكورة والأنوثة على مستوى الهرمونات والخلايا والمورثات .

فالمرأة في الأصل مخلوقة من الرجل، إذ هي جزء من كل وهو كل لجزء، وما عملية الاستنساخ إن تمت فعلا في ظل التضليل الإعلامي والخدع السينمائية ؛ وهو الذي ينحو بنا إلى التشكيك فيه، إلا عبارة عن عبث وسعي إلى تغيير خلق الله تعالى كاقتفاء لتغريرات الشيطان الرجيم الذي أبى إلا أن يسلخ البشرية من قاعدتها السليمة في النشوء والتكون، وتوريطها في مسخ خلقي  وأخلاقي وشكلي ووظيفي كما يقول الله تعالى مبينا أبعاد التغرير الشيطاني"لعنه الله وقال لأتخذن من عبادك نصيبا مفروضا ولأضلنهم و لأمنينهم و لآمرنهم فليبتكن آذان الأنعام ولآمرنهم فليغيرن خلق الله،ومن يتخذ الشيطان وليا دون الله فقد خسر خسرانا مبينا" .

فحسب ما يلخص به الاستنساخ المعبر عنه بالاستنساخ الجسدي –اللاجنسي- هو أنه"الذي يستغنى فيه عن الحيوانات المنوية للرجل ويكون بأخذ خلية من ثدي المرأة وتلقح بها بويضة منها أيضا،ويتم وضعها في الرحم لكي تنجب أنثى مشابهة لها تماما، وإذا كان المراد ذكرا فيكون ذلك بأخذ خلية من رجل وتلقح ببويضة امرأة وتوضع في الرحم فيأتي الجنين ذكرا مشابها تماما للرجل الذي أخذت منه الخلية".

هذا التلخيص يبقى في نظرنا مجرد دعوى لأن وجود الشبه بين شخصين ليس بالضرورة يعني أن عملية الاستنساخ بهذه الطريقة قد أدت إلى نتيجة ما،إذ يوجد من الشبه أربعون كما يروى، ومن هنا فمسألة الشبه غير قطعية في إثبات  نجاح الاستنساخ عن طريق الخلايا الجسدية دون الجنسية، كما أن العدالة مفقودة عند الممارسين لهذا الإجراء العبثي في تغيير خلق الله تعالى ؛وهي من شروط إثبات النسب في الشريعة الإسلامية سنعرض له في حينه، بل إن هذا  العمل الاستنساخي إن ثبتت نتائجه فعلا سيكون خروجا عن القاعدة البشرية الأصلية في التزاوج إلى غير جنسها،كما يقال عن تناسل الجن الأول فيما يحكيه ابن عربي بخصوص هذا الموضوع القريب من مآل الاستنساخ البشري " ويقال أنه  لم يفصل عين الموجود الأول من الجان نفسه فنكح بعضه ببعضه فولد مثل ذرية آدم ذكرانا وإناثا ثم نكح بعضهم بعضا فكان خلقه خنثى، وكذلك هم الجان من عالم البرزخ لهم شبه بالبشر وشبه بالملائكة كالخنثى يشبه  الذكر ويشبه الأنثى ".

هذا التعليل سواء صح أم مجرد خيال فإنه مع ذلك ذو ارتباط بالموضوع الذي نحن بصدد الحديث عنه حول مسألة الولادة   والاستنساخ الذي قد لا يأتي إلا شاذا ومرضيا ومحرفا للطبيعة البشرية السليمة .

فمن حيث إمكانه الذهني فالعقل لا يحيل وجوده،أما إذا ظهر في الواقع  فالحكم كما يقول الفقهاء للوجود فيما سنرى،لكن ليس كل ما هو موجود يعتبر مشروعا أو فيه مصلحة أو خير، لأن البلاء يكون بالشر والخير معا،والكل يتم بإرادة الله ومشيئته "و نبلوكم بالخير والشر فتنة " إلا أن المطلوب هو التزام المشروع الذي يضمن سلامة البشرية ومجتمعها، وبالتالي سلامة البيئة والحفاظ عليها من التلوث والعبثية .

من هنا فتبقى الولادة السليمة لكل عنصر من عناصر الكون بحسب جنسه المناسب والموافق له لا غير،كما هي القاعدة التي تعطي للخلف الحق للارتباط بالسلف حماية له من أن يتحول إلى قرد أو شيطان مارد،وهذا ما  دأب على ترسيخه وتأكيده النص القرآني والحديثي بصورة قطعية وبالدلالة الثابتة على أصل النشأة الإنسانية  واستمرارها بالتناسل المقنن والمضبوط شرعا، وذلك باعتبار آدم أب البشر وحواء بعد الفصل والتشكيل المناسب أمهم،وبالتالي تفرعت  الذرية من الشكلين المختلفين  عرضا  والجوهرين المتحدين أصلا إلى صور وأشكال لا تخرجهم عن الطبيعة الأصلية للتكوين الأولي للإنسانية .

هذا التفرع سيعرف بدوره إشكالا لدى بعض المتفرعين الواهمين و المغترين فلم يميزوا بين ما هو مشروع وما هو غير مشروع فكان بذلك محاولة اختراق المشروع من طرفهم والذي في حد ذاته اختراق للطبيعي والسليم الذي جعله الله تعالى سنة في خلقه،فكانت قصة قابيل وهابيل ومحاولة التطاول على ما لا يدخل في حكم الاستحقاق الشرعي الذي يضمن السليم للطبيعي والخلقي المتزن ويحمي الناتج ومن يصح له الانتساب من الفرع إلى الأصل .

ثانيا: المساواة بين الجنسين وأوهام الشبه الغريزي

إن ما قدمنا له من مسألة وحدة الجنس البشري وحمايته من الاختراقات الوهمية التي قد تخل بواقعه النوعي وارتباط  فروعه بأصوله لابد وأن يفرض علينا توسعا في التدقيق والتحليل وتبيين أحكام المساواة بين الجنسين المتحدين جوهرا والمختلفين شكلا،إذ مفهوم المساواة بين الجنسين قد أخذ بعدا غير سليم لدى كثير من  الفئات المجتمعية وأصبح ذريعة لتجاوز الحقوق وهدر الوحدة المؤسسة للتواصل بين الذكر والأنثى  من جنس واحد!

فالمساواة في نظرنا بين الرجل والمرأة قد تأخذ طابعا المعادلة الجدارية لتأسيس صرح قوي ومتماسك على المستوى الأسري والاجتماعي بصفة عامة، وذلك بتشبيه التداخل  الحقوقي بينهما على شكل الجدار المؤسس والمكون من لبنات قوية ومتداخلة فيما بينها،وهي مع ذلك مهيأة ومحققة للبناء الموحد القوي  الذي يؤهل للتعايش الإنساني السري في حضنه وتحت سقفه، وهذا ما  يقتضيه مفهوم التزاوج المؤدي إلى الولادة المضبوطة والمحصنة،بحيث يكون ما يعتبر حقا للرجل قد يصبح واجبا على المرأة وما يصير حقا للمرأة قد يعتبر واجبا على الرجل أو قد يتساويان في حق وواجب معا .

فبهذا التناوب في الحقوق والواجبات والتساوي المقيد  يتم التكامل والتواصل، وبالتالي التوحد والتولد الذي يكون حاملا للعنصرين معا وعلى مستويات في التشابه مع أحد الجنسين القريبين شكلا ونوعا،كما نقتبس هذا المعنى من الحديث النبوي الشريف لما سئل الرسول صلى الله عليه وسلم عن أسباب الشبه لدى الطفل فقال :" وأما الشبه في الولد فإن الرجل إذا غشي المرأة فسبقها ماؤه كان الشبه له،وإذا سبق ماؤها كان الشبه لها" .

إن هذا الحديث مؤسس لمبدأ الحقوق الجنسية للمرأة والرجل معا في ظل الحياة الزوجية، وكذلك لمبدأ التوافق الجنسي عند الجماع، ومبدأ توزيع الشبه بين الأب والأم معا،وهذا يقتضي مبدأ الأخلاق الجنسية في ظل الحياة الزوجية لتحقيق المساواة في الاستمتاع وبلوغ الغاية الغريزية من التواصل بين الرجل والمرأة.

فموضوع الشبه بين الأصل والفرع قد يأخذ أحكاما دقيقة وعميقة في الإسلام ؛وذلك بضبط قواعده التي تحققه وتحميه؛ وبالتالي تحمي الطفل وأمه معا،كم يروي البخاري عن أبي هريرة "أن  رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله :ولد لي غلام أسود.فقال:هل لك من إبل ؟.قال :نعم.قال:ما ألوانها؟قال:حمر.قال :هل فيها من أورق؟قال:نعم.قال:فأنى ذلك؟قال: لعله نزعه عرق.قال :فلعل ابنك هذا نزعه"  .

هذا الحديث يتضمن عدة أحكام ومواضيع علمية دقيقة تربط بين الواقع الاجتماعي والأسري وبين علم الأحياء والوراثة الجينية (البيولوجيا)وكذلك علم الأناسة (الأنتروبولوجيا). فهو من جهة يؤسس لمبدأ المساواة  بين الأجناس البشرية واختلافات ألوانها ويرفض العنصرية على أساس اللون والبشرة الخارجية،ومن جهة أخرى يؤسس لمبدأ الوراثة الجينية المتعاقبة في الخلية أو النطفة التي تنتقل بعناصرها وصورها عبر الأجيال من الأصول نحو الفروع،وبالتالي فالشبه لا يؤخذ من مجرد الأصل القريب وإنما قد يمتد إلى أجداد  ضاربين في عمق التاريخ .

إلى جانب هذا نجد حديثا يؤسس للشبه القريب وذلك عند التنازع وتبادل الاتهامات بين الزوج والزوجة  حول أصل  الولد ونوع نزوعه في الحالة غير الشرعية .

فعن ابن عباس أنه ذكر التلاعن عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال عاصم بن عدي في ذلك  قولا ثم انصرف،فأتاه رجل من قومه يشكو إليه أنه وجد مع امرأته رجلا فقال عاصم:ما ابتليت بهذا إلا لقولي !فذهب به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فاخبره الذي وجد عليه امرأته،وكان ذلك الرجل مصفرا قليل اللحم سبط الشعر،وكان الذي ادعى عليه أنه وجده عند أهله خدلا آدم كثير اللحم،فقال النبي صلى الله عليه وسلم :اللهم بين. فجاءت شبيها بالرجل الذي ذكر زوجها أنه وجده،فلاعن النبي صلى الله عليه وسلم بينهما ...قال رجل لابن عباس في المجلس هي التي قال النبي صلى الله عليه وسلم :لو رجمت أحدا بغير بينة رجمت هذه ,فقال:لا،تلك امرأة كانت تظهر السوء في الإسلام" .

ففي قول النبي صلى الله عليه وسلم "اللهم بين "دلالة على أن الشبه قد يبدو واضحا كل الوضوح، ولهذا فهو من جهة قد يكون مدعما للدعوى ومن جهة أخرى قد لا يعتبر حاسما عندها إلا ببينة شرعية قائمة على الإشهاد أو الإقرار.

من هنا فإن الولادة تبقى معطية للشبه قطعا وبنسب مختلفة من حيث الظهور والضمور،قد يدرك على مستوى الرؤية السطحية ويدرك بالتخصص، كما كان الشأن في بعض المناطق من الجزيرة العربية عند إدراك الشبه بالقيافة التي أقرها الإسلام وحكم بها عند التنازع أو وجود تشكيك وتشويش بغير بينة على واقع النسب بين الوالد والمولود من الناحية النسلية والوراثية.إذ ورد في الحديث النبوي عن عائشة رضي الله عنها" أن الرسول صلى الله عليه وسلم دخل عليها مسرورا تبرق أسارير وجهه فقال: ألم تسمعي ما قال المدلجي لزيد وأسامة و رأى أقدامهما؟إن  بعض هذه الأقدام من بعض" .

هذا الحديث مهم جدا في باب حماية الشبه بين الأصل والفرع وضبط  المواليد قضاء عند التنازع،إذ أن النسب الحقيقي والقطعي يحدده الفراش،أي الزواج الشرعي وما في حكمه مما يؤهل لشرعية التواصل الجنسي بين الرجل والمرأة،وهو في هذا الحديث قائم وثابت،ولا يستطيع أحد أن يؤثر فيه بإثارة الشبهات تحت مبرر اختلاف  اللون أو التباعد الشكلي  للصورة بين الأب والابن .

لكن، حيث أن المنافقين بدءوا يغمزون في نسب أسامة إلى أبيه زيد بسبب اختلاف بين لوني بشرتيهما فإن النبي صلى الله عليه وسلم استأنس بمبدأ القيافة رغم علمه القطعي بصحة النسب بينهما،لا لإثباته ابتداء وقضاء وإنما لدحض شبهة  يثيرها الخصوم بالرجوع إلى القواعد التي يسلمون بها في مقاضاتهم العرفي والتقليدية وعلى رأسها قاعدة القيافة،والتي كانت بمثابة موهبة أو خاصية تتمتع بها بعض المناطق العربية كبني مدلج خصوصا!والتي ستتحول فيما بعد  إلى مجال للتجربة العلمية وتكرار الإصابة،وسيشترط  في أهلها عناصر العدالة المستخلصة من أهلية الشهادة وهي:التكليف والحرية والإسلام،وعدم الإقدام على كبيرة والإصرارعلى صغيرة، مع اختلاف الفقهاء حول مسألة التوبة وعودة الأهلية...إلخ.

إذ كما يقول الغزالي عن شروط القائف بأنه :"هو كل مدلجي مجرب أهل للشهادة،وفي غير المدلجي إذا تعلم القيافة وجهان،وتجربته بأن يعرض ولد بين ثلاثة أصناف من النسوة ليس فيهن أمه ثم في صنف رابع فيهن أمه،فإن أصاب في الكل قبل قوله بعد ذلك والصحيح أن يشترط في القائف الذكورة والحرية،ولا يشترط العدل" .

كما قد يقترح تجارب على الرجال بمستويات متفاوتة في العدد بينهم لإدراج وجه الشبه بين الطفل وأبيه .

***

د. محمد بنيعيش - المغرب

" إن المسافة الكبيرة بين ما تظهره الرموز وما تحجبه وما تومئ إليه وما تستره، إلا أن ذلك التباعد ذاته هو ما يجعل عملية التأويل ممكنة وتلك المسافة وما تتطلبه من عنت وجهد ومن شك وتساؤل هي التي ترفع القراءة إلى مرتبة تجعلها فناً من الفنون" (1).

1- مقدمة:

تشكّل "التفاعليّة الرمزيّة" (symbolic-interactionist) أحد التيّارات السوسيولوجيّة الّتي فرضت نفسها نقيضاً مناظراً للاتّجاهات الكبرى في علم الاجتماع، مثل: البنيويّة والماركسيّة. وينظر معظم النقّاد اليوم إلى التفاعليّة الرمزيّة بوصفها نظريّة سوسيولوجيّة متكاملة الأركان رغم حداثتها نسبيّاً. وقد عكف روّاد هذه النظريّة على تحليل الظواهر الاجتماعيّة الصغرى (الميكروسوسيولوجيّ) سعياً إلى فهم العلاقات التفاعليّة الرمزيّة القائمة بين الأفراد في المجتمعات الإنسانيّة، ومحاولة لإدراك معانيها ودلالاتها ومغازيها. وقد ركّزوا على دراسة معطيات الحياة اليوميّة للأفراد وفعاليّاتهم السوسيولوجيّة القائمة في مدارات اتّصالهم، ومسارات تفاعلهم، واعتمدوا منهجيّاً على تحليل الرموز والمعاني والدلالات الّتي تعطي معنى للتجارب الاجتماعيّة في الحياة اليوميّة.

ويرى علماء الاجتماع أنّ نظريّة التفاعل الرمزيّ تشكّل إطاراً عامّاً للنظريّات الّتي تبحث في المجتمع بوصفه نتاجاً للتفاعلات الاجتماعيّة اليوميّة، وتدرس الكيفيّات الّتي تتمّ فيها التفاعلات الاجتماعيّة بين الأفراد الّذين يضفون المعاني والدلالات على الأشياء المحيطة بهم في مسار تفسير تفاعلاتهم مع الآخرين. ويعتمد هذا المنظور على فكرة أساسيّة مفادها أنّ الناس يفهمون عوالمهم الاجتماعيّة من خلال التواصل والتفاعل الاجتماعيّين، أي عبر تبادل المعنى من خلال الرموز واللغة. ويرى أصحاب هذه النظريّة أنّ المعنى الّذي ننسبه إلى العالم من حولنا يعتمد على تفاعلاتنا مع الناس والأفكار والأحداث، وأنّ فهمنا للعالم وكيفيّة تفاعلنا مع مجتمعاتنا يعتمد على ما نتعلّمه من تفاعلاتنا مع الآخرين بدلاً من الحقيقة الموضوعيّة. وعلى هذا الأساس يعتقد التفاعليّون الرمزيّون أنّ مجتمعاتنا مبنيّة على المعاني الّتي نضفيها على التفاعلات والأحداث الاجتماعيّة.

وتشكّل التفاعليّة الرمزيّة أحد أهمّ الاتّجاهات الرئيسيّة الكبرى في علم الاجتماع وعلم النفس الاجتماعيّ على حدّ سواء، ويشغل هذا الاتّجاه مكانة مهمّة في الفضاء الواسع للعلوم الإنسانيّة بحثاً في إشكاليّات الحياة الإنسانيّة وقضاياها الوجوديّة. ويشكل البحث في المستتر والغامض والكامن والخفيّ الرمزيّ المجال الرئيس للتفاعليّة الرمزيّة، كما أن التفاعليين الرمزيين يركزون في أبحاثهم على دراسة العلاقة الجدليّة القائمة بين المجتمع والفرد وفق معطيات الرمز والتفاعل الرمزيّ. ويتبنى أصحاب هذا الاتجاه توليفة متبلورة فكرية من العلوم الإنسانيّة في المجتمع والأدب واللغة وعلم النفس وعلم الاجتماع، ومن ثم يعتمدونها كأدوات للتحليل من أجل التوغّل في أعماق الحقيقة الاجتماعيّة وفق منهجيّات الاستقصاء الرمزيّ للوجود الاجتماعيّ، وهم في كل ذلك يركزون أهمية استكشاف الغامض والمبهم والخفيّ الرمزيّ الضارب في عمق الحياة الإنسانيّة. ويأخذ مفهوم "التفاعل الرمزيّ" صورة تواصل اجتماعيّ يقوم على التبادل التفاعليّ للرموز والدلالات والمعاني بالطريقة الّتي يتأثّر فيها الفرد، ويؤثّر في عقول الآخرين وتصوّراتهم ورغباتهم ووسائلهم في تحقيق أهدافهم، وفي ممارسة تكيّفاتهم الحيويّة داخل المجتمع(2).

فالرموز والمعاني والدلالات والتصوّرات والكلمات تشكّل في مجموعها أدوات التفاعل الاجتماعيّ، كما تشكّل في الوقت نفسه موضوع البحث والدراسة والتقصّي في مجال النشاط السوسيولوجيّ للتفاعليّة الرمزيّة. وتعمل على استكشاف الكيفيّات الاجتماعيّة الّتي توجد في أصل تكوّن النسيج الاجتماعيّ، وتحديد الفعاليّات الّتي يعتمدها المجتمع في تطوير ذاته، والمحافظة على وجوده من خلال التواتر المكثّف لنشاط الأفراد في سياقات تفاعلهم وتواصلهم عبر المعاني والرموز(3). ويمكن القول بصيغة أخرى، إنّ التفاعل الرمزيّ يشكّل إطار عمل للتفاعليّة الرمزيّة الّتي ترى المجتمع نتاجاً للتفاعلات اليوميّة للأفراد، وهي في أفضل أحوالها تشكل إطاراً مرجعيّاً منهجياً يمكّن الباحثين من فهم أفضل لكيفيّة تفاعل الأفراد مع بعضهم بعضاً ضمن فضاءات رمزيّة مُفعَمة بالمعاني والدلالات.

ويمكن تعريف التفاعليّة الرمزيّة أيضاً بأنّها اتّجاه فكريّ، أو مشروع نظريّة اجتماعيّة توظّف في وصف الكيفيّة الّتي يتمّ فيها بناء الحياة الاجتماعيّة، وفي فهم الطريقة الّتي يتمّ فيها تشكّل المجتمع كنتيجة للتفاعلات الرمزيّة القائمة بين أفراده. وتركّز نظريّة التفاعل الرمزيّ في المقام الأوّل على أهمّيّة الرموز بوصفها حمّالة للمعاني، وجميعها – أي الرموز والمعاني- تشكّل أداة للتفاعل الاجتماعيّ بين أفراد المجتمع، وهو عين التفاعل الّذي يشكّل لحمة المجتمع وجوهر تكوينه. وتأخذ النظريّة بأهمّيّة دراسة التفاعلات الرمزيّة داخل الجماعات الصغيرة، وهي تفاعلات تحدث بين الأفراد بصورة حسّيّة عيانيّة، أي وجهاً لوجه، وتسلّط الضوء على أهمّيّة الرموز كوسيلة للتواصل، ولا سيّما على المستوى الفرديّ دون النظر إلى تأثير المؤسّسات والظواهر الاجتماعيّة الكبرى.

ويمكن تعريفُ التّفاعل الرّمزيّ، مرة أخرى، بأنّه "صيغة تفاعل رمزيّ أصيل يقوم بين الأفراد، ضمن نسق مجتمعيّ معيّن، ويظهر ذلك التّفاعل في مجموعة من السلوكيّات الّتي يقوم بها فاعل ما، في علاقة بالسلوك الّذي يصدر عن الفاعل الآخر. فتصدر عن الذوات المتبادلة مجموعة من الأفعال وردود الأفعال في تماثل مع بنية المجتمع. وتتّخذ هذه الأفعال معاني ودلالات رمزيّة متنوّعة تستلزم الفهم والتأويل"(4).

وتعتمد نظريّة التفاعل الرمزيّ على مفهومين أساسيّين كما يبدو من تسميتها، هما: التّفاعل والرّمز. ويتوسّط هذين المفهومين مفهومُ الإنسان والهويّة الإنسانيّة. وتمثّل هذه النّظريّة إطاراً عامّاً لبناء التصوّرات السوسيولوجيّة الّتي ترى بأنّ المجتمع نتاج للتفاعلات الرمزيّة اليوميّة القائمة بين الأفراد في المجتمع. فتركّز على دور التفاعلات الاجتماعيّة في جعل الأشخاص يعيّنون معانيَ للأشياء من حولهم بناء على تفسير تفاعلاتهم مع الآخرين. وينطلق أصحابها وممثّلوها من فكرة أساسيّة قوامها أنّ الناس يفهمون عوالمهم الاجتماعيّة من خلال التّواصل والتّفاعل الاجتماعيّين القائمين على وسائطيّة التّبادل الرمزيّ إنتاجاً للمعاني والدّلالات. وبصيغة أكثر دقّة، يرون أنّ المعنى الّذي يُسبَغ على مكوّنات العالم من حولنا ينبثق من آليّات التّفاعل الرّمزيّ مع النّاس والأفكار والأحداث. وهذا يعني أنّ فهمنا للعالم والمجتمع الّذي نعيش فيه يعتمد على نواتج التّفاعل الرّمزيّ الاجتماعيّ.

ويشار غالباً إلى عالم الاجتماع البراغماتيّ الأمريكيّ جورج هربرت ميد (George Herbert Mead: 1863-1931) بوصفه الأب المؤسّس للتفاعليّة الرمزيّة، وهو الّذي رسم معالمها في كتابه المشهور "العقل والذات والمجتمع" (Mind, Self, Society) الّذي نشر عام 1934، أي بعد وفاته بثلاث سنوات(5).

ويعدّ عالم الاجتماع الأمريكيّ هربرت بلومر (Herbert Blumer: 1900 - 1987) أوّل من استخدم مصطلح "التفاعليّة الرمزيّة" (Symbolic Interactionism) في مقالة له بعنوان "علم النفس الاجتماعيّ" في عام 1937. ويعود إليه الفضل الكبير في تطوير جوانب هذا التيّار في مختلف مستوياته الفكريّة والنظريّة والمنهجيّة. ويعرّف هربرت بلومر في كتابه "التفاعليّة الرمزيّة" (Symbolic Interactionism)(6) "التفاعل الرمزيّ" بأنّه صيغة فريدة للتفاعل الاجتماعيّ بين الأفراد في المجتمع، والأفراد في سياق تفاعلهم يفسّرون أفعالهم، ويؤوّلونها تأسيساً على المعنى الّذي يسبغونه عليها"(7). ومن الواضح أنّ "التفاعل الرمزيّ" يشكّل أرومة عمليّة للتفاعل الاجتماعيّ ومضمونه، وهو نمط من التفاعل الّذي يتحقّق بالوسائط الرمزيّة الّتي تمكّن الأفراد من تحقيق التواصل الاجتماعيّ في معترك الحياة الاجتماعيّة، وهو التواصل الّذي ينتهي بتحقيق التكامل والتفاعل والاندماج الاجتماعيّ.

وعلى هذا الأساس، يأخذ التفاعل (Interaction) صورته بوصفه نسقاً متواتراً من التواصل الديناميّ المستمرّ بين أفراد المجتمع، فرداً لفرد، وفرداً لجماعة، وجماعة لجماعة أو لفرد، وينطوي هذا التفاعل بالضرورة على مخزون هائل من الرموز (Symbols) الّتي تشكّل أنساقاً متدافعة من إشارات رمزيّة يوظّفها الأفراد في عمليّة تفاعلهم مع الآخرين من أجل توليد التفاهم والتواصل الاجتماعيّ، كما تأخذ هذه الرموز هيئة لسانيّة لغويّة محمّلة بالمعاني ومتشبّعة بالدلالات والانطباعات الذهنيّة المتنوّعة.

والمجتمع، وفق التفاعليّة الرمزيّة، بوتقة يتفاعل فيها الأفراد فيما بينهم، وفيما بينهم وبين الوسط الّذي يحتضنهم، وهو المدار الّذي تتفاعل فيه الذوات الإنسانيّة، والإطار الّذي يزخر بالدلالات الاجتماعيّة والسيميائيّة. وإذا كان الفعل الإنسانيّ ينتج الرموز، ويبدع المعاني، ويبني الدلالات، فإنّ أصحاب هذا الاتّجاه يميّزون بين نمطين من الأفعال الإنسانيّة: أحدهما، إنسانيّ اجتماعيّ متشبّع بالدلالة؛ والآخر إنسانيّ عفويّ يقع خارج المعاني، ويفتقر إلى الدلالات، وهم في هذا السياق يعتقدون أنّ الأفعال الاجتماعيّة هي فقط هذه الّتي تحمل في ذاتها معاني ودلالات رمزيّة ومقاصد إنسانيّة في أثناء التفاعل الاجتماعيّ، أي: الأفعال الاجتماعيّة الحاملة للقيم والمعاني، وهي القيم والمعاني الرمزيّة الّتي ينهلها الفرد من المجتمع، ويشترك فيها مع الآخرين ضمن أنساق قيميّة وميول ومعايير يشاركهم فيها، ويعتمدها في التواصل معهم، لكي يكون قادراً على التنبّؤ بسلوكيّاتهم وبواعث تصرّفهم (8).

وفي هذا السياق يرى فيكتور تيرنر (Victor Turner) أحد روّاد التفاعليّة الرمزيّة "بأنّ علاقتنا بالأشياء المحيطة بنا تعتمد على تقييمنا لها عن طريق تحويلها إلى رموز، وهذه الرموز قد تكون إيجابيّة أو سلبيّة بالنسبة لنا اعتماداً على خبراتنا وتجربتنا معها، فإذا كانت إيجابيّة، تفاعلنا معها بقوّة"(9). ويتجلّى هذا التأكيد على الطابع الرمزيّ للوجود الإنسانيّ بقوله المشهور: إنّ" الإنسان محاط بغابة من الرموز، فالرمز يأخذ حيّزاً كبيراً في حياتنا اليوميّة، فهو يحضر باستمرار في كلّ تفاعلاتنا الاجتماعيّة وفي مختلف ممارساتنا الطقوسيّة الواقعيّة منها والافتراضيّة التي تتميز بأنها متّخمة بمنظومات رمزيّة تتحدّد كبنيّة لإنتاج الاجتماعيّ، وكآليّة صميميّة لإعادة إنتاجه وبنائه مجدّداً"(10).

واستناداً إلى ما تقدّم يمكن القول: إنّ التفاعل الرمزيّ يشكّل إطاراً نظريّاً لنمط من السوسيولوجيا الّتي تبحث في الطبيعة الرمزيّة للحياة الاجتماعيّة، وتتحرّى الطريقة الّتي يتمّ بها التفاعل الاجتماعيّ من خلال الرموز القائمة في الثقافة الاجتماعيّة السائدة (11).

2- التفاعليّة الرمزيّة في التربية:

يقصر التفاعليّون الرمزيّون تحليلهم للتعليم على ما يلاحظونه مباشرة في الفصل الدراسيّ. ويركّزون على كيفيّة تأثير توقّعات المعلّمين في أداء طلبتهم وفي تشكيل تصوّراتهم ومواقفهم، ويهتمّون بالديناميّات النفسيّة الاجتماعيّة لتفاعل الأفراد في الفصول الدراسيّة، وهم يركّزون أيضا على الرموز الّتي توظّف في تشكيل العقول والمعرفة عند الطلبة من خلال عمليّة التفاعل الرمزيّ في الفصول، وفي داخل الأسرة أيضاً. وغالباً ما يرون أنّ مشاعر الطلبة وهويّتهم وأحاسيسهم وشعورهم بذواتهم يشكّلها التفاعل الرمزيّ في سياق العمليّة التربويّة، وقد لا يبالغون في القول بأنّ تشكيل صورة الذات (Self-Concept) يتمّ من خلال كيفيّة تفاعل الأفراد مع أقرانهم في الوسط الاجتماعيّ والمدرسيّ. كما يؤكّدون على أهمّيّة الرموز ودورها في عمليّة التفاعل التربويّ، إذ الرموز – سواء كانت كلمات أو رموزا غير لفظيّة – لها معان مشتركة بين الأفراد، وتعمل كوسيلة للتواصل والتفاهم بينهم. وعندما يستخدم رمز معيّن ينشأ تفاعل بين المرسل والمرسل إليه فيتمّ تبادل المعاني والمفاهيم الرمزيّة. ويؤدّي هذا التفاعل إلى تكوين معنى مشترك بين الطرفين. فعلى سبيل المثال، عندما تستخدم كلمة "شكراً"، يُدعى لها معنى مشترك معروف لدى الأفراد مثل التقدير والامتنان.

وتعتمد النظريّة التفاعليّة الرمزيّة على فكرة أنّ الرموز لا تحمل معانيَ ثابتة ومحدّدة، بل هي تتغيّر وتتطوّر مع الزمن ومع تطور الثقافة وتغير السياق الاجتماعيّ. لذلك، قد تكون للرموز معان مختلفة لدى أفراد مختلفين، أو في سياقات مختلفة.

وفي المستوى التربوي يقوم التفاعليّون الرمزيّون بتحليل عمليّات التفاعل الرمزيّ بين التلامذة من جهة والمدرّسين من جهة أخرى، كما يركّزون على التفاعل الشامل بين مختلف مكوّنات العمليّة التربويّة في المدرسة (بين الطلبة والطلبة كما بين المعلّمين والطلبة والإداريّين) ويعتمدون في تحليلهم على المنهج السوسيولوجيّ المصغّر أو ما يمكن أن يطلق عليه الماكروسوسيولوجيّ (Macro-sociology) أي المجموعات المصغّرة.

وتشكّل المدرسة عندهم فضاء رمزيّاً للتفاعل بين مكوناتها: طلبة ومعلّمين وإداريّين ومناهج تعليميّة ومضامين ثقافيّة، ويرون بأنّ هذا التفاعل هو البوتقة الّتي يتشكّل فيها التلامذة نفسيّاً وروحيّاً ومعرفيّاً واجتماعيّاً، ويعني هذا أنّ التفاعل القائم على الرموز والمعاني يعطي القوّة الّتي تشكّل الأفراد وتمنحهم هويّتهم وشخصيّتهم الاجتماعيّة. فهم يتشكّلون في عمق التفاعل الرمزيّ، وفي سياق تحوّلاته وديناميّاته المستمرّة.

ويتكوّن الفضاء المدرسيّ من أنساق لا متناهية من الرموز؛ أفعالاً وإشارات وتلميحات وصوراً وألواناً ولغة، كما أنّ المناهج والدروس والمقرّرات تصاغ في رموز، وهذه الرموز حمّالة للمعاني والدلالات الفاعلة في تشكيل الإنسان بوصفه كائناً رمزيّاً. والمدرسة كما العائلة هي أكثر الفضاءات الرمزيّة قدرة على تشكيل هويّة الفرد وعقله ونظرته إلى نفسه وإلى غيره، وتعطيه المعنى لوجوده وحياته.

وقد ركّز الرمزيّون على طبيعة التفاعل بين المعلّمين والتلاميذ، ووجدوا أنّ هذه العلاقة تشكّل المنطلق في نظرة التلميذ إلى نفسه، وفي الصورة الّتي يجب أن يكون عليها. فالمعلّمون يشكّلون المرآة الّتي تحدّد مصير الطالب علميّاً وفكريّاً وثقافيّاً. فأحكام المعلّمين وتصنيفاتهم وتقييماتهم وتوقّعاتهم وتوصيفاتهم للتلامذة أو الطلبة تؤدّي دوراً خطيراً في تشكيل هويّة الطالب علميّاً وإنسانيّاً؛ إنّها تؤثّر في مستوى تحصيلهم، وفي نظرتهم إلى أنفسهم، وفي مسيرتهم العلميّة. فالتوقّعات المنخفضة والأحكام السلبيّة تؤدّي إلى نتائج سلبيّة في سلوك الطلبة، وفي إدراكهم لأنفسهم. وعلى خلاف ذلك عندما تكون أحكام المعلّمين وتوقّعاتهم إيجابيّة، فإنّها تؤدّي دوراً إيجابيّاً في مستويات أداء الطلبة، وفي نفسيّاتهم. ويؤكد أصحاب هذا الاتجاه أن بيئة الفصل الدراسيّ مليئة بالأنشطة والرموز والأشياء والأحداث، ويجب على المعلّمين الربط بين هذه الرموز ومعانيها والعمل على تطويرها وتعديلها وتغييرها بمراعاة الظروف الاجتماعيّة القائمة.

3- أسطورة بيغماليون – النبوءة المحققة لذاتها:

بيغامليون نحات أسطوري إغريقي فاقت شهرته الآفاق، نحت تمثالا لامرأة فائقة الجمال تدعى غالاتيا، فوجد نفسه أمام آية فنية رائعة الجمال، فصعق بجمالها ووقع في في حبها وهام بها عشقا، ولما أضناه الحب ونال منه جنون العشق، أشفقت عليه إفروديت Aphrodite إلهة الحب والجمال فوهبت محبوبته الحجرية نسغ الحياة، ليتزوجها وينهل من حبها إلى الأبد.

هذه الأسطورة السحرية شكلت موضوعا أثار اهتمام المفكرين وعلماء الاجتماع، وقد تفتق هذا الاهتمام عن تساؤل جوهري حول القيمة الواقعية لما يعتقده الإنسان ولما يفترضه، وعن إمكانية تحويل الطموحات والأحلام والتوقعات الإنسانية إلى وقائع وحوادث وفعاليات ترتسم في نسق الحياة وتستقيم على دروبها.

وقد اثارت هذه الفكرة الأسطورية اهتمام المفكر وعالم الاجتماع المعروف روبيرت ميلتون Robert MELTON الذي أطلق على هذه الظاهرة النبوءة المتحققة ذاتيا (prophétie auto-réalisatrice) واستحضر حدثا واقعيا يتعلق بإفلاس أحد البنوك في عام 1932 على اثر إشاعة مغرضة لي لها أساس من الصحة.

وتتمثل الدلالة التربوية لمعادلة بيغاميليون Pygmalion في تحقيق نتائج تربوية تستند إلى مجرد توقعات وتكهنات تتعلق بالمستقبل التربوي للتلاميذ حيث يتحول الافتراض إلى حقيقة تفرض نفسها في مجال الواقع التربوي. فالإنسان يحاول دائما أن يتجلى على منوال الصورة التي يرسمها الآخرون حوله، وتصورات الآخرين قد تفعل فعلها المكين في نفوسنا وعقولنا، فآراء الآخرين حولنا يمكن أن تدمي قلوبنا ويمكن أن تحيينا، وإذا كان الأمر على هذه الدرجة من الأهمية فكيف يمكن أن يكون الأمر بالنسبة لأطفال على مقاعد الدراسة في مواجهة أحكام المعلمين وتقديراتهم التي قد تكون مفرغة من حكمة الصواب. فأحكام المعلم ونواهيه حول المتعلم تمتلك قدرة سحرية تؤثر في شخصية التلميذ وقد تدفعه إلى تحقيق النجاح أو إلى كارثة العدم التربوي إذا كانت مجحفة وقاسية. وما تأثير بيغاميليون إلا صورة لهذه العلاقة التربوية المتشبعة بالأحكام التي يطلقها المعلم على تلامذته وطلابه في داخل الفصل وفي خارجه.

4- دراسة روزنتال وليونور جاكوبسون:

لقد بينت التجربة في المجال المدرسي أن التنبؤ المدرسي للمعلمين يتحقق بصورة عفوية وذاتية: ففي الصفوف المدرسية التي تكون فيها توقعات المعلمين إيجابية حول مسيرة بعض الطلاب فإن هذه التوقعات غالبا ما تتحقق هذا الأمر وغالبا ما يحقق التلامذة المعنيون بهذه التوقعات الإيجابية نجاحا كبيرا وملحوظا يوازي توقعات معلميهم. وهذا ما أفادت به الدراسة التجريبية التي أجراها طل من روبرت روزنتال ولينور جاكوبسون (12) في مدرسة أويك الحكومية الابتدائية. حيث تم توزيع التلاميذ في هذه المدرسة إلى ثلاثة مجموعات صنفت وفقا لثلاثة تقديرات من الذكاء: مرتفعو الذكاء، متوسطو الذكاء، ضعيفو الذكاء.

استخدم فريق روزنتال البحثي اختبارا نفسيا لقياس ذكاء التلاميذ في المدرسة، وقد أخفى الباحثون الغرض الأساسي لدراستهم الخاص بعملية اختبار تأثير بيغامليون، وزعموا أنهم يختبرون تقنية جديدة تتعلق بتحسين بقياس معدلات الذكاء لدى الأطفال وعلاقة ذلك بمستوى نجاحهم في المدرسة.

في البداية قام الباحثان بتطبيق اختبار الذكاء الأولي القبلي مع بداية العام الدراسي على جميع التلاميذ في جميع الصفوف المدرسية في مدرسة أويك. وكان الهدف من هذه التجربة العلمية قياس معدلات ذكاء الأطفال من جهة واختبار ما أطلق عليه تأثير بيغامليون من جهة أخرى.

وعندما أنجز الباحثون اختبار معدل الذكاء الأولي أو القبلي قاموا بانتخاب 20% من عدد التلاميذ عن طريق القرعة زُعم الباحثون أنهم حققوا نتائج عالية في معدلات ذكائهم، وقدمت لائحة بأسمائهم إلى معلميهم. وهنا يجب أن نؤكد بأن أسماء هؤلاء التلاميذ قد اختيرت بطريقة القرعة بصورة عشوائية وليس بناء على أي اختبار حقيقي لذكائهم. وقد شكلت الجماعة التجريبية للطلاب مزعومي الذكاء (وفقا للقرعة) نسبة 20% من عدد الطلاب في المدرسة، أما الجماعة الضابطة فهي ما تبقى من الطلاب في المدرسة حيث لم تقدم اية معلومات عن مستوى ذكائهم وفقا للاختبار. وقد طبق اختبار الذكاء نفسه البعدي في نهاية العام الدراسي الأول وفي نهاية العام الدراسي الثاني أي بعد أن تغير المعلمون الذين شاركوا بالتجربة دون دراية منهم بأغراضها الحقيقية.

ومن المهم الإشارة والتكرار أيضا أنه في العام الدراسي الثاني قد تغير معلمو التلاميذ المعنيين بالتجربة وهذا سيسمح بالتعرف على ما إذا كانت الأحكام المسبقة للمعلمين قد فقدت تأثيرها في مستوى تحصيل التلاميذ المتفوقين حسب القرعة. وأخيرا تمّ حساب الفروق في الدرجات بين الاختبار الأول وبين الاختبار الثاني بالنسبة للجماعة التجريبية والجماعة الضابطة.

لقد بينت التجربة أن طلاب المجموعة التجريبية (الطلاب الذين صنفوا بالقرعة على أنهم أذكياء) قد حققوا تقدما كبيرا في مستوى ذكائهم ونجاحهم المدرسي على طلاب المجموعة الضابطة وذلك في نهاية العام الدراسي الأول. وبعد مضي عامين أي في نهاية العام الثاني بين الاختبار الثاني أن تلامذة المجموعة التجريبية قد خسروا تقدمهم مع انقطاع علاقتهم بمعلميهم الذين كانو يحملون تصورا إيجابيا عنهم.

ويتعين علينا في مستوى التحليل أن نتساءل ما إذا كان التقدم الذي حققه أطفال المجموعة التجريبية في معدلات الذكاء قد تحقق على حساب المجموعة الضابطة؟ وهنا يمكن التصور بأن المعلمين كانوا قد اعطوا مزيدا من الاهتمام والعناية بالتلاميذ الذين قدمو على أنهم مبدعين وأذكياء بالمقارنة مع الآخرين. وهذا يعني أن التقدم الذي حققه الأطفال في المجموعة التجريبية لم يكن مفاجئا وكان نتيجة طبيعية لاهتمام المتعلمين المتزايد بهم.

ولكن روزنتال يستبعد هذا الاحتمال ويرى بأن المعلمين وعلى عكس ما هو متوقع منهم كرسوا وقتا أقل لتلاميذ المجموعة التجريبية، وعلى خلاف ما هو متوقع أيضا يرى روزنتال بأن تلامذة المجموعة الضابطة قد استفادوا من تقدم زملائهم في المجموعة التجريبية: ففي الصفوف التي حقق فيها أطفال المجموعة التجريبية أعلى مستويات التقدم في التحصيل المدرسي حقق أطفال المجموعة الضابطة أيضا ما يوازي هذا التقدم في اختبار الذكاء. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا كيف يستطيع المعلمون إستنهاض مستوى ذكاء الطلاب استنادا إلى توقعهم بحدوث هذا التقدم. ومما لا شك فيه الموقف يلعب دورا هاما ومركزيا في هذه العملية، فموقفنا وسلوكنا إزاء الآخر يتحدد بالصورة التي نمتلكها عنه وبعلاقتنا به. وهنا يفترض في مدرسة إويك أن المعلمين قد تصرفوا بطريقة ودية مع الأطفال الذين حققوا تقدما في معدلات ذكائهم (أطفال المجموعة التجريبية) وبالتالي فإن هذا الموقف أحدث آثارا إيجابية فيما يتعلق بنشاط الطلاب ومستوى تقدمهم. وضمن هذا الافتراض فإن المعلمين وجهوا مزيدا من عنايتهم واهتمامهم إلى التلامذة المتوقع منهم تحقيق تقدم في التحصيل والذكاء. ووفقا لهذا التصور فإن المعلمين كانوا أكثر اهتماما بالمبادرات الإيجابية لهؤلاء الأطفال وأكثر نزوعا إلى تعزيز استجاباتهم وتشجيعهم بالمقارنة مع الوضعية العادية.

ولأن المعلمين قد تلقوا إشارة بأن هؤلاء الأطفال (المجموعة التجريبية) سيكونون متألقين أكثر من الآخرين فإن المعلمين أعطوا لهذه الفئة من التلاميذ اهتماما خاصا حيث عملوا على تعزيز مسار تحصيلهم وتفوقهم ومن ثم المواظبة على تقييمهم إيجابيا بطريقة تؤدي إلى تحسين مستوى التطور العقلي لديهم. وبالتالي فإن التفاعل الإيجابي بين المعلمين وطلابهم من المجموعة التجريبية قد شكل عاملا أساسيا من عوامل تقدم طلابهم ذهنيا عقليا.

لقد تعرضت تجربة روزنتال للنقد الحاد من قبل ثورندايك Thorndike وسنو Snow في الولايات المتحدة الأمريكية ومن قبل كارلييه Carlier و كودستيينر Gottesdiener في فرنسا. وقد تمركز النقد حول نوع الاختبار الذي لم يكن مكيفا لقياس مستوى ذكاء الأطفال، وأن هذا الاختبار قد أعطى نتائج خاطئة. ويرى كارلييه في هذا السياق بأن روزنتال لم يقدم برهانا منهجيا على مصداقية تحليله لأبعاد هذه الظاهرة المدروسة. وقد أعرب عن خشيته من تأثر منهجية الباحثين برغبتهم في إثبات الحقيقة التي تدور في رؤوسهم عن تأثير بيغامليون، ويلاحظ بالتالي بأن هذه الرؤية لم تتحقق مصداقيتها إلا فيما يتعلق بمجموعة صغيرة من التلاميذ. فتأثير بيغامليون يمكن ملاحظته في المدرسة من خلال عملية التمييز الاجتماعي التي تتم بين جدران المدرسة، وفي هذا السياق يلاحظ بأن صفوف التقوية التي أنشئت كمعابر مدرسية للطلاب الضعفاء تتحول في النهاية إلى صفوف تكرس الإخفاق والتراجع المدرسي حيث تتنامى الهوة بين الأقوياء والضعفاء. وهذا يعزى جزئيا أو كليا إلى تقديرات المعلمين الذين يعرفون جيدا المستوى العام للصف الذي يقومون بتدريسه. وعلى أساس معطيات دراسة روزنتال ظهرت مقالات كثيرة في الصحافة الشعبية لتطرح عددا من الأفكار خارج السياق لدراسة روزنتال، حيث ذهب كتاب هذه المقالات إلى القول بأن الطفل الذي لا يستطيع القراءة بشكل جيد نتاج لإهمال وتقييم سلبي من قبل المعلم.

5- دراسة راي ريست:

أجرى راي ريست (Ray Rist) بحثًا مشابهًا لدراسة Rosenthal ‐ Jacobson في عام 1970. في فصل رياض الأطفال حيث كان كل من الطلاب والمعلمين أمريكيين من أصل أفريقي، قام المعلم بتعيين الطلاب على طاولات بناءً على القدرة؛ جلس الطلاب "الأفضل" على طاولة قريبة منها، وجلس الطلاب "المتوسطون" على الطاولة التالية، وجلس الطلاب "الأضعف" على الطاولة الأبعد. اكتشف ريست أن المعلم خصص الطلاب لقاعدة طاولة على تصور المعلم لمستويات مهارات الطلاب في اليوم الثامن من الفصل، دون أي شكل من أشكال الاختبار للتحقق من التنسيب. كما وجد ريست أن الطلاب الذين ينظر إليهم المعلم على أنهم متعلمون "أفضل" جاءوا من طبقات اجتماعية أعلى، في حين أن الطلاب "الضعفاء" كانوا من طبقات اجتماعية أقل.

من خلال مراقبة الطلاب خلال العام، وجد ريست أن الطلاب الأقرب إلى المعلم تلقوا قدرا أكبر من الاهتمام وكان أداؤهم أفضل. ولاحظوا أنه كلما جلس الطالب بعيدًا عن المعلم كان أداؤه أقل وأضعف.

بعد السنة الأولى، واصل ريست مراقبة هذه المجموعة من الطلاب أثناء تقدمهم في المدرسة. تبعتهم سمعة الأطفال إلى الصف الثاني، حيث راجعت معلمة أخرى درجاتهم وقسمت فصلها أيضًا إلى ثلاث مجموعات، "النمور" و "الكاردينالات" و "المهرجون". تم تشكيل هذه المجموعات بالطريقة نفسها بالضبط، وبنفس التقسيم، مثل الجداول الأول والثاني والثالث. من هذا البحث، توصل ريست إلى نتيجة مذهلة مفادها أن رحلة كل طفل في المدرسة قد تم تحديدها بحلول اليوم الثامن من الروضة. وفقًا لريست، فإن التسميات التي أعطاها معلمو رياض الأطفال للأطفال تضعهم في مسار عمل يمكن أن يؤثر على بقية حياتهم.

من خلال مراقبة الطلاب على مدار العام، وجد ريست أن الطلاب الأقرب إلى المعلم حصلوا على أكبر قدر من الاهتمام وكان أداؤهم أفضل. كلما جلس الطالب بعيدًا عن المعلم، كان أداء الطالب أضعف. واصل ريست دراسته خلال السنوات العديدة التالية، ووجد أن التسميات المخصصة للطلاب في اليوم الثامن من روضة الأطفال اتبعتهم طوال فترة دراستهم.

6- دراسة جيرمي إيفرسون:

ويقدّم لنا جيريمي إيفرسون (Jeremy Iverson) تحليلاً عميقاً وطريفاً لمسائل التصنيفات والحكّام الّتي يوظّفها المعلّم في توصيف طلبته والحكم على قدراتهم، ويسرد لنا في كتابه الموسوم "المدرسة الثانويّة" (High School) تجربته النادرة في الانتساب متنكّراً كطالب في مدرسة ثانويّة في كاليفورنيا مع أنّه كان قد تخرّج من جامعة ستانفورد الشهيرة. ومن المشكلات الّتي حدّدها في بحثه مشكلة المعلّمين الّذين يطلقون أحكامهم وتصنيفاتهم وتقييماتهم على الطلبة، وقد وجد بأنّ هذه الأحكام السلبيّة تؤدّي دوراً تدميريّاً في حياة الطالب، وتبقى ملازمة له على مدى الحياة. ومن الطرائف العجيبة والنوادر المضحكة أنّ أحد المدرّسين أفاده بأنّه لن يحقّق أيّ نجاح، وأنّ إمكاناته المعرفيّة والعقليّة متدنّية، دون أن يدري أنّه خرّيج لامع من إحدى الجامعات المرموقة في أمريكا. ومن الواضح أنّ إيفرسون لم يأخذ التقييم الخاطئ لهذا المعلّم على محمل الجدّ، إذ يرى أنّ مثل هذه الأحكام السلبيّة قد تكون قاتلة ومدمّرة بالنسبة إلى الطلبة الجدد المبتدئين الّذي يكونون عادة في مقتبل العمر، والّذين يرون في معلّميهم القدوة، ويعتقدون أنّهم أهل الحكمة والمعرفة، وأنّ تقديراتهم وأحكامهم لا بدّ أن تكون صحيحة لا يداخلها أيّ شكّ أو ريبة.

7- تأثير التوقعات التربوية:

لقد كشف كل بروكوفير في عام 1982 وكوبر في عام 1984 وكودون في عام 1987 عن مجموعة من العوامل والمتغيرات التي تؤثر في موقف المعلمين من التلاميذ وتدفعهم إلى تشكيل توقعات محددة حول مستواهم التحصيلي، ومن هذه العوامل يشار إلى متغير جنس التلاميذ فعلى سبيل المثال لا يضع المعلمون توقعات جيدة للإناث في هذا المقرر ولاسيما للطالبات الأكبر من حيث العمر. وهناك متغيرات أخرى مؤثرة في عملية بناء التوقعات مثل: الوضع الاقتصادي والاجتماعي للتلميذ، متغير الانتماء إلى جماعة إثنية، نمط المدرسة ومكانها، مظهر الطالب والطريقة التي يرتدي بها ملابسه، اللغة التي يستخدمها التلميذ ولاسيما عندما يكون المستوى اللغوي للطفل محدودا أو ضعيفا، طريقة الطالب في تنظيم شؤونه، نزعة المبادرة لدى التلميذ، فعدم نضج الطفل أو ضعف خبرته قد تتشاكل مع قدرته على التعلم وبالتالي فإن هذا المتغير يؤثر على تقدير المعلم وتوقعه بمستوى تحصيل الطفل ومن العوامل الأخرى المؤثرة يشار أيضا إلى: الانطباع العام للمعلم: بعض المعلمين يعممون بعض التصورات العامة حول التلميذ وهي تصورات قلما تستند إلى معطيات واقعية وحقيقية تتعلق بإمكانيات التلميذ وقدراته وإمكانياته الحقيقية، ثم متغير مكان جلوس الطالب في الأمام أو في الخلف أو في الوسط، متغير التعليقات السلبية التي توجه إلى التلميذ، متغير تصنيف التلميذ في مجموعات جيدة أو ضعيفة يمكنها أن تجر توقعات سلبية أو إيجابية لدى المعلم. تلك هي المعايير والمتعيرات التي يعتمدها المعلمون بطريقة عفوية لبناء توقعاتهم وتصوراتهم المتعلقة بمستوى نجاح التلميذ ومستوى تحصيله المدرسي. وهنا تبذل الجهود لمساعدة المعلمين على تجنب هذه النمط من الأحكام المسبقة حيث يتم العمل على تبصير المعلمين بخطورة هذه الأحكام المسبقة والتوقعات الأولية وكيفية تأثيرها لا شعوريا في علاقة المعلم بالأطفال والتلاميذ. في هذا السياق يعتقد روزنتا أن هذا المنطق السلبي يمكن أن يفهم بصورة خاطئة إذا اعتقد المعلم بأن الأحكام المسبقة والتوقعات الإيجابية أو السلبية التي تتعلق بالتلميذ يمكن أن تجعل منه ما يتوافق مع توقعاته بصورة عفوية.

وينوه الباحثون في هذا السياق أن إعطاء مصادر المعلومات أهمية كبيرة مثل نتائج الاختبارات والملفات المدرسية يمكنها أن تؤدي إلى نتائج غير مرغوبة. وهم يعلنون بأن هذه المعلومات المتعلقة بالتلاميذ يجب ألا تؤخذ على أنها حقيقة نهائية مطلقة بل يجب أن ينظر إلها وأن يستفاد منها في مسار اتخاذ القرارات المستقبلية التي تتعلق بالتلميذ. وهنا يجب علينا أن نأخذ بعين الاعتبار كيف يمكن للتلاميذ أن يتفاعلوا مع تقديرات وتوقعات عالية المستوى من قبل معلميهم.

ويرى الباحثون أن التوقعات الكبيرة والتقديرات العالية للتلاميذ تشكل عنصرا أساسيا في المكونات الضرورية لتحقيق نجاح أكبر في المدرسة. وهذا العامل يجب أن يتضافر مع عوامل أخرى مثل العناية الإدارية، والمناخ المدرسي المنظم الآمن، والتقويم المستمر لمستوى الطالب. وهذا العوامل يجب أن تتكامل أيضا مع عوامل أسرية منها ما يتصل بأوضاع التلميذ في المنزل ومواظبته على الدراسة وحصوله على الدعم الأبوي والعائلي حيث يجب على الأبوين أن يسمحا للطفل بالمشاركة في النشاطات الخارجية ولاسيما التلاميذ الذين يحتاجون إلى دروس تقوية تهدف إلى رفع سويتهم العلمية.

وغالبا ما يعزى انخفاض المستوى التحصيلي للتلاميذ إلى ضعف مستوى التلاميذ أنفسهم، وقلما يعزى هذا الضعف في التحصيل إلى الممارسة التربوية نفسها في المدرسة. ومن يتأمل في الأمر يجد أحيانا بأن المعلمين غالبا ما يضعون توقعات متدنية للتلاميذ وهذه التوقعات تؤثر في خفض مستوى تحصيلهم. فالأطفال الذين يصنفون ضعفاء في صفوفهم يتلقون معرفة واهتماما أقل إثارة والمعلمون لا ينتظرون شيئا مهما من قبل هؤلاء التلاميذ. ومن الطبيعي أن يتلقى هؤلاء الأطفال عددا كبيرا من الإشارات والتلميحات السلبية غير المباشرة التي تخفض لديهم دافعية العمل والإنجاز المدرسي وبالتالي فإن نتائجهم تكون على منوال التوقعات التي يرسمها معلموهم بصورة مسبقة.

وتجدر الإشارة هنا إلى أهمية العلاقة التي تربط بين المعلم والطالب حيث تكون هذه العلاقة في منتهى الخطورة والأهمية من حيث تأثيرها في مستوى نجاح الطالب أو مدى تحصيله المدرسي. فالعلاقة بين المعلم والتلميذ قد تكون حاسمة في تحديد مسار نجاح التلميذ، لأن هذه العلاقة تنطوي على جوانب ذاتية متنوعة ومتعددة تتجاوز حدود التجربة المدرسية ذاتها. فالعلاقة الإيجابية مع المعلم تمكن الطفل من أن يثق بنفسه وأن ينطلق وأن يشعر بالأمن التربوي وأن يشعر بالقدرة على المواظبة. وعلى خلاف ذلك إذا كانت هذه العلاقة سلبية فقد تؤدي إلى نتائج مدمرة في شخصية الطفل ومسار حياته المدرسية برمتها. وفي هذا السياق يلاحظ أن المعلم غالبا ما يبني علاقات أقوى وأعمق مع التلاميذ الذين يبدون مشاركين وفاعلين وواعدين وأن هذه العلاقة غالبا ما تكون سلبية مع الطلاب ذوي المستويات التحصيلة المتدنية.

وغالباً ما يخمّن الطلبة توقّعات معلّميهم المتعلّقة بهم، ويتمثّلونها ثمّ يتماهون مع أحكامهم وتصوّراتهم، وعلى هذه الصورة يكون المعلّم المرآة الّتي يجد فيها الطالب صورة نفسه، فيعمل على محاكاتها. وهو ما يعني أنّ كلّ الأحكام والتصوّرات والتصنيفات والتقييمات المسبقة الّتي يعتمدها المعلّمون تتحوّل إلى قوّة فاعلة في تشكيل هويّة الطلبة ومستويات أدائهم، ويطلق على هذه العمليّة: النبوءة ذاتيّة التحقّق أي الّتي تتحقّق ذاتيّاً (Self-Fulfilling prophecy)، ومثال ذلك الطالب الّذي يكون عرضة للأحكام والتقييمات السلبيّة من قبل المعلّم كأن يوحي له بأنّه فاشل وكسول، وغير قادر على النجاح، وعندها نجد أنّ الطالب يتمثّل هذه الفكرة عن ذاته، ويشعر بالضعف، ويطغى عليه إحساس بالقصور والعجز، فيتكاسل ويصاب بالإحباط، ولا يبذل أيّ جهد في سبيل النجاح. وعلى خلاف ذلك عندما يبدي المعلّم أحكاماً إيجابيّة بشأن طالب آخر كأن يصفه بالذكيّ والناجح، ويتوقّع له النجاح والتفوّق، فإنّ الطالب المعنيّ سيبذل قصارى جهده ليؤكّد صورته الإيجابيّة الّتي رسمها المعلّم على نحو مسبق.

وغالباً ما يصنّف الأطفال في المدرسة ضمن مستويات علميّة قد تأخذ أبعاداً سيكولوجيّة، كأن نصنّف الطلبة في الفصل إلى ثلاثة مستويات: المستوى الأوّل الّذي يتضمّن التلاميذ الأضعف في مستوى التحصيل، ويتضمّن المستوى الثاني الأطفال الّذين يوصفون بأنّ تحصيلهم متوسّط، وفي المستوى الثالث يوضع الطلبة الأكثر نجاحاً وتفوّقاً. وقد لاحظ الباحثون أنّ هذه التصنيفات تعزّز إيجابيّاً الطلبة الأقوياء، وتزيد في ضعف الأطفال الضعفاء. ووجدوا أيضاً أنّ هذه التصنيفات تضرّ ببعض التلامذة، وترفع من معنويّات الآخرين، كما وجدوا أنّ هذه التصنيفات والأحكام تؤثّر في البنية النفسيّة للأطفال. فالأطفال في المستوى الأوّل أي الضعفاء ينتابهم شعور بأنّهم أغبياء ومقصّرون، وهذا يؤثّر في صورتهم الذاتيّة عن أنفسهم؛ ومن ثمّ يتمثّلون هذه الصورة الغبيّة لوجودهم مع استمرار هذا النمط من التصنيف.

وفي سياق آخر، عندما يقلّد التلاميذ مراكز قياديّة في الصفّ أو في الملعب، فإنّ هؤلاء الطلبة يمتلكهم شعور الثقة بالنفس والقدرة على ممارسة الفعل القياديّ بتفوّق ونجاح، وذلك على خلاف التلامذة الّذين يحرمون من أداء هذه الأدوار القياديّة في الصفوف وفي الملاعب، وفي نهاية المطاف، فإنّ الطفل الّذي لا يمنح هذه الفرص القياديّة سيكون عادة أقلّ قدرة على القيادة من الأطفال الآخرين الّذين يمنحون مثل هذه الفرصة، حتّى لو كانت قدرات الجميع الفطريّة متساوية.

وفي سياق آخر وجد بعض الباحثين المعلّمين يمارسون دوراً خطيراً في التأثير في ذهنيّة الطالب وقدراته، وقد لاحظوا أنّ المعلّمين يميلون إلى الانتظار لفترة أطول للحصول على إجابات من الطلبة الّذين يعتقدون أنّهم متفوّقون في الإنجازات، وهم أكثر استعداداً لمنح هؤلاء الطلبة فرصاً متعدّدة، وهم بالمقابل يضنّون بالفرص على الطلبة الّذين يعتقدون أنّهم أقلّ إنجازاً ونجاحاً. وقد أثبتت الأبحاث أنّ هذا لا ينطبق فقط على الموادّ الأكاديميّة الّتي تتطلّب مهارات وقدرات عقليّة، بل يغطي الموضوعات الّتي تتطلب قدرات بدنيّة وعقليّة وأخلاقيّة أيضاً.

8- دروس مستفادة:

وفي مقابل هذه الجوانب السّلبيّة الموجودة في الممارسة يمكن أن نرى أنّ التفاعليّة الرمزيّة تُعدّ منهجيّة حديثة تستخدم على نطاق واسع في التعليم، إذ يمكن توظيفها في عمليّة تحسين جودة التعليم وزيادة فاعليّته، كما في تسريع إدماج الطلبة جميعهم. وهي تقدّم العديد من الفوائد الهامّة في التعليم ومنها:

1- تعزيز التفاعل بين المتعلّم والمحتوى التعليميّ: يمكن للتفاعل الرمزيّ العمل على تعزيز التعلّم التعاونيّ بين الطلبة؛ إذ يمكن للطلبة التواصل والتعاون فيما بينهم من خلال الأدوات والمنصّات التفاعليّة التي تساعدهم كثيرا في هذا المجال.

2- تحفيز الطلبة على المشاركة والتفاعل في العمليّة التعليميّة: يمكن للتفاعليّة الرمزيّة أن تسهم في زيادة مستوى المشاركة والتفاعل في الصفّ. ويمكن للطلبة الآن أن يشاركوا في نقاشات جماعيّة، ويتعاونوا في حلّ المشكلات وتعزيز التعلّم المتبادل.

3- زيادة تركيز الطلبة وتحفيزهم على الاستمرار في التعلّم وزيادة التشويق والاهتمام: يمكن أن تجذب انتباه الطلبة، وتزيد شغفهم واهتمامهم بالموضوعات المعرفيّة. فعندما يشارك الطلبة في العمليّة التعليميّة بنشاط يصبحون أكثر استعداداً للتعلّم والمشاركة. كما يساعد هذا على إثراء المحتوى التعليميّ وجعله أكثر تنوّعاً وتشويقاً.

4- تحسين التركيز والانتباه: يمكن استخدام التفاعلات الرمزيّة لجذب انتباه المتعلّمين وتحفيزهم على المشاركة في التعلّم وتحسين التركيز والانتباه. كما يمكن توظيفه في تعزيز الذاكرة والتفكير الناقد وتحسين المهارات الإبداعيّة للطلبة.

5- توفير بيئة تعليميّة تفاعليّة وممتعة للطلبة، وتعزيز التعلّم التشاركيّ: تساعد التّفاعليّة الرمزيّة على تعزيز التعلّم التشاركيّ، وذلك من خلال السماح للمتعلّمين بالتواصل فيما بينهم وتبادل الأفكار والمعرفة.

6- تعزيز التفكير النقديّ والإبداع: يمكن للطلبة – من خلال استخدام التّفاعليّة الرمزيّة – أن يطرحوا أسئلة، ويحلّلوا المعلومات ويفكّروا على نحو نقديّ.

7- تعزيز التعلّم الذاتيّ: يمكن للتفاعليّة الرمزيّة أن تساعد الطلبة على تطوير مهارات التعلّم الذاتيّ، فتتيح لهم الوصول إلى الموارد والمعلومات بسهولة والعمل على نحو مستقلّ في وقتهم الخاصّ ووفقاً لوتيرتهم الخاصّة.

8- استثارة ردود فعل فوريّة: يمكن للتفاعليّة الرمزيّة أن توفّر ردود فعل فوريّة للطلبة، بما يساعدهم على معرفة مدى تقدّمهم وفهمهم. ويمكن للطلبة من ثمّ ضبط أدائهم وتحسينه وفقاً للملاحظات المتسلمة من التفاعليّة الرمزيّة.

9- تعزيز التفاعل الاجتماعيّ: يمكن للتفاعلات الرمزيّة أن تساعد على تعزيز التفاعل الاجتماعيّ بين المتعلّمين، والّذي يمكن أن يؤدّي إلى تحسين تجربة التعليم.

10- تقديم تجربة تعليميّة شاملة: يمكن استخدام التفاعلات الرمزيّة لتعزيز تجربة التعليم الشاملة، إذ يمكنها توفير العديد من المصادر والأدوات التعليميّة المتنوّعة الّتي تساعد على تحقيق أهداف التعلّم.

11- تشجيع الإبداع: يمكن للتفاعلات الرمزيّة أن تشجّع الإبداع، وتحفّز المتعلّمين للتفكير خارج الصندوق والقوالب الجامدة، من أجل العثور على حلول جديدة ومبتكرة للمشكلات.

12- تحسين مهارات الاتّصال: يمكن استخدام التفاعلات الرمزيّة في تحسين مهارات الاتّصال لدى المتعلّمين، وذلك من خلال السماح لهم بالتعبير عن أفكارهم وآرائهم بطريقة فعّالة وجذّابة.

ومن ناحية أخرى، يرى مناصرو هذا التّيّار أنّ التفاعل الرمزيّ يساعد على تطوير التعليم في المؤسّسات التعليميّة على النحو الآتي:

1- تحليل النتائج: يتمّ تحليل النتائج المتحصّل عليها من استخدام التفاعليّة الرمزيّة في التعلّم ومقارنتها بالنتائج التقليديّة لتحديد ما إذا كانت التفاعليّة الرمزيّة أكثر فعّاليّة في تعزيز المفاهيم والمهارات المطلوبة.

2- ملاحظة الطلبة: يمكن للمعلّمين ملاحظة تجاوب الطلبة مع التفاعليّة الرمزيّة وتقييم إجاباتهم وتطبيق المهارات المكتسبة من خلال الأنشطة التفاعليّة.

3- تقييم الطلبة: يمكن استخدام الاختبارات والتقييمات لقياس نجاعة التفاعليّة الرمزيّة في تعلّم الطلبة. ويمكن تقييم النتائج لتحديد ما إذا كان الطلبة يتمتّعون بمهارات التفكير الناقد وحلّ المشكلات والتواصل الفعّال على نحو أفضل.

4- مراجعة التفاعل بملاحظات الأطراف المعنيّة: يمكن الحصول على ملاحظات من المعلّمين والطلبة والعائلات والمستخدمين الآخرين حول جدوى التفاعليّة الرمزيّة في التعلّم. كما يمكن التحقّق من مدى رضا الطلبة والمعلّمين عن التفاعل الرمزيّ، ومعرفة ما إذا كان يحقّق المنافع التعليميّة المرجوّة.

ومن التوصيات الّتي يجب مراعاتها في التعلّم داخل الفصل الدراسيّ لتحسين الأداء التربويّ:

1- يجب على المعلّمين الحذر من إطلاق الأحكام على عواهنها، ويفضّل أن تكون أحكامهم إيجابيّة لا سلبيّة، وهذا ما يؤكّده كلّ من روزنتال وجاكوبسون (1980)(13) في نظريّتهما حول النبوءة المحقّقة لذاتها. وتكمن الخطورة في أنّ التصنيفات والأحكام السلبيّة تؤدّي إلى تشويه فكرة الهويّة الذاتيّة عند المتعلّمين (14).

2- يجب على المعلّمين تأكيد الالتزام بالقيم الثقافيّة دون تحيّزات شخصيّة، ويعني هذا أنّه يُنتظر من العمليّة التربويّة أن تعكس القيم والفضائل الثقافيّة في المجتمع، وأن يبتعد المعلّم عن الأحكام الشخصيّة والذاتيّة الّتي يطلقها حول المتعلّم، وفي الأحوال كلّها يجب على المعلّم تجنّب الإشارات السلبيّة والأحكام الأخلاقيّة كما يجب عليه تجنّب إطلاق أحكام على القدرات النفسيّة والسيكولوجيّة عند التلامذة.

3- عدم اللجوء إلى العنف: يرفض كثير من التفاعليّين الاستبداد السائد في المدارس، ويرون أنّه يعيق عمليّة التعلّم، ويشجّع على السلوك غير الديمقراطيّ في المستقبل.

4-أهمية التفاهم: التعلّم وفقاً لأنصار التفاعليّة الرمزيّة نتاج للتفاهم والتفاعل الإيجابيّين داخل الصفوف، ويرى أصحاب هذا التوجّه أنّ التفاعل الاجتماعيّ الإيجابيّ يعزّز قدرة التلاميذ على التحصيل، ويدعم تكوينهم، ويُحسن إعدادَهم لخوض الحياة العمليّة.

9- خاتمة:

لقد بينت أعمال روزنتال وجاكوبسون بأن التوقعات التي يرسمها المعلمون حول المسار الدراسي للتلاميذ مؤثرة جدا، وغالبا ما تُتَرْجم هذه التوقعات إلى واقع مدرسي. ومن الواضح أن تأثير بيغامليون يشكل إطارا منهجيا لتحليل وتفسير الجوانب المختلفة للحياة التربوية التي تتعلق بالتحصيل المدرسي للتلميذ. فالتقييم المدرسي الذي يجريه المعلم وتوقعاته حول مستوى التلميذ يلعب دورا كبيرا في عملية توجيه المسار المدرسي للطفل. ويجب علينا أن نأخذ بعين الاعتبار أن تأثير بيغامليون يبقى نتاجا لفكرة أسطورية في الأصل والجوهر، وهي فكرة يمكن اعتمادها في تفسير وتطوير الفعاليات المدرسية المتعلقة بعملية التنبؤ والتوقع والتطوير في مجال التحصيل المدرسي.

ومهما يكن الأمر فإن البعد التربوي للتفاعل الرمزي يمكنه أن يوظف فعليا في توجيه السلوك التربوي للمربي الذي يجب عليه أن ينطلق في عمله من الإيمان بأهمية التعزيز الإيجابي للطفل عبر توقعات إيجابية، فالتوقعات السلبية والصورة السلبية غالبا ما تكون كارثية على التلميذ، وهذا يعني أنه يجب علينا أن نعمل تربويا وفقا للحكمة التي تقول توسموا الخير تجدوه، أو هذه التي تقول كن جميلا ترى الكون جميلا، فكم يجب علينا أن نتوسم خيرا بأطفالنا وتلامذتنا من أجل خيرهم ومستقبلهم، وكم يتوجب علينا أن ننظر بعيون جميلة إلى أطفالنا وفلذات أكبادنا ليتألق الجمال لوحة أصيلة في قلوبهم وعقولهم.

***

أ. د. علي أسعد وطفة

جامعة الكويت – كلية التربية

....................

مراجع الدراسة وهوامشها:

(1) عبد العزيز العيادي: ميشال فوكو، المعرفة والسلطة، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر، بيروت 1994. ص7.

(2)- غي روشيه، علم الاجتماع الأمريكي: دراسة لأعمال تالكوت بارسونز، ترجمة: محمد الجوهري وأحمد زايد القاهرة، دار المعارف، 1081، ص 13- 14.

(3)- M. J. Carter & C. Fuller, Symbolic interactionism. Sociopedia. ISA, 1(1), 1- 17, 2015.

(4)- جميل حمداوي، نظريات علم الاجتماع، الألوكة، الطبعة الأولى، 2015ص 92.

(5)- G. H. Mead, Mind, Self and Society, Chicago, University of Chicago Press, 1984.

(6)- H. Blumer, Symbolic interpretationism: Perspective and method. Englewood Cliff N. J. Prentice- Hall, 1969.

(7)- فاطمة الزهراء كشرود،والعربي بو عمامة، نظرية التفاعلية الرمزية ونظرية الحتمية القيمية حدود الانتقاء ونقاط الالتقاء، مجلة الحكمة للدراسات الإعلامية والاتصالية، العدد 24، (2021) صص 154- 167. ص 157.

(8)- جميل حمداوي، نظريات علم الاجتماع، الألوكة، مرجع سابق . ص 93.

(9)- نقلا عن: كشرود، فاطمة الزهراء وبو عمامة العربي، نظرية التفاعلية الرمزية، مرجع سابق، ص 163.

(10)- عبد الرحيم العطري، سوسيولوجيا الحياة اليومية: الرمزي أفقا للتفكير، دفاتر العلوم الإنسانية، الرباط، الطبعة الأولى، 2018. ص11.

(11)- Nilgun Aksan, Buket Kısac, Mufit Aydın, & Sumeyra Demirbuken, Symbolic Interaction Theory, Procedia, Social and Behavioral Sciences 1(1):902- 4, 2009.

(12) - Rosenthal, E & Jacobson, R.L. (1980). Life in classroom. New York: Holt Rinehart Winston.

(13)- Nilgun Aksan, Symbolic Interaction Theory, Ibid.

(14)- M. Haralambos & H. Heald, Sociology: Themes and perspective: London: University Tutorial Press, 1980.

 

أعتقد أننا في حاجة لتأمل دلالة مصطلح المدينة الفاضلة في الثقافتيّن الغربيّة ثم العربيّة قبل الشروع في مناقشة بنيّة مضمونه والمحاولات الجادة لتصوره على اعتبار أنه مشروع مستقبليّ أو واقع يجب إصطناعه أو تطبيقه في الحياة والثقافة المعيشة. وقد دفعني إلى ذلك في سيّاق حديثي عن فلسفة “الطاهر بن عاشور” هو تأثره الواضح بالمحاولات السابقة على مناقشته فكرة (الكمال الإنساني) وكيفيّة بناء المدينة الفاضلة في الثقافة العربيّة الإسلاميّة الحديثة، أي أنه أنطلق من مراجعات نقديّة للتصورات الغربيّة للمدن الفاضلة بدايةً من الطور الكلاسيكي إلى الطوّر اللاهوتي المسيحي وإنتهاءً بعصر النهضة، ثم أنتقل إلى الفكر العربي من منابت الفكرة حيث أحلام الشعراء ثم تصورات الفلاسفة وإنتهى به الأمر إلى مقاصد الشريعة الإسلاميّة التي استنبط منها دعوته الجادة لتقديم النموذج الإسلامي في تطبيق ذلك التصور الغائب على أرض الواقع مُقتديّاً بعصر النبؤة ومدينة رسول الله صلوات الله وسلامه عليه، وذلك للبرهنة على إمكانيّة تَحقُقّ ذلك المثال الذي طالما وُصف بأنه الفردوّس المفقود في زمان ومكان ومجتمع وحكومة ورئاسة وكيان اقتصادي وسياسي واجتماعي وأخلاقي وعقديّ وسط عالم من الأغيار الشاغل بالممالك المتبايّنة بالمعنى الحديث.

فقد عبرت الكتابات الغربيّة عن إستشراف الأدباء للعالم المثالي إنطلاقاً من شعور جمعي بتراجع قيمة الخيّر، السلم، العدالة، المساواة، الكرامة الإنسانيّة، الحُبّ، التعاون وغير ذلك من القيّم التي شعر بها الإنسان على أنها حقوق قد سُلبت منه أو حُرم منها رغم وجودها، وظهر ذلك في صور عديدة أبسطها القَصص والملاحم والأشعار التي تُعبر عن الشعور بالإغتراب ورفض الواقع المعيش أو الثورة على الأوضاع القائمة.

أمّا مصطلح (يوتوبيّا) فهو يُرد إلى أصل لاتيني يرجع إلى كلمتيّن إغرقيتيّن هما (Utopia) (أُو) و (طُوبوس) ويُقصد بهما مكان غير موجود (أي خيالي) وقد أُستخدم في المعاجم العربيّة بمعنى (مدينة أُسطوريّة) وعُبر عنه بـ (الطوباويّة أو أوطوبيّا أو الفردوّس)، أمّا في العصر الحديث فيُعد “توماس مور ١٤٧٨م – ١٥٣٥م ” أول من استخدمه في مطلع القرن السادس عشر بمعنى مدينة خياليّة نموذجيّة.

ويُعد “أفلاطون” أول من وضع تصوراً لبنيّة المدينة الفاضلة، باعتبارها المدينة المثاليّة في بنائها وبنيّة سكانها من كل النواحي المعيشيّة وذلك في (محاورة الجمهوريّة)، ثم هذبها في (محاورة القوانين) ولم يُحاكي هذا النموذج من الفلاسفة في الثقافة الغربيّة – على حد معرفتنا – سوى “القديس أوغسطين ٣٥٤ م – ٤٣٠ م” الذي ينتمي تصوره إلى الثقافة الرومانيّة، وذلك في كتابه (مدينة الله نحو ٤٢٦م) ثم جاء “توماس مور” وذلك في كتابه (يوتوبيّا ١٥١٦م)، وتلاه “توماس كامبنيلا ١٥٦٨ م – ١٦٣٩ م” في كتابه (مدينة الشمس ١٦٢٣م)، ويُعد “فرانسيس بيكون (١٥٦١ م – ١٦٢٦ م) آخر الفلاسفة المُحدثيّن الذين حاكوا المدينة الفاضلة الأفلوطنيّة، من حيث هي مجتمع يسعى إلى تحقيق السعادة والكمال لمواطنيه، وقد أستبدل مؤلفه المزحة الفلسفيّة المثاليّة التي أنتحلها “أفلاطون” والنَحلّة اللاهوتيّة التي أنتحلها “القديس أوغسطين”؛ والوجهة الإصلاحيّة الأخلاقيّة والسياسيّة التي أنتهجها “توماس مور”، و” توماس كامبنيلا” بوجهة علميّة لا سُلطة فيها إلا للعلم والواقع التجريبي والحياة المنطقيّة التي تُحقق السعادة الأرضيّة، وذلك في روايته الغير مُكتملة (أطلانطا الجديدة  ١٦٢٧م)، ولا غَروّ في أن “ابن عاشور” قد أطلع على هذا التراث الغربي وقد كشفت كتاباته الموسوعيّة عن ذلك.

أمّا بنيّة مصطلح المدينة الفاضلة في الثقافة العربيّة فقد ظهر في صورة ثورة من المُستغربين والمُتمردين والرافضين للجُوّر الذي يلاقونه من مجتمعاتهم، وقد عبرت أشعار إمرؤ القيّس (٥٠١ م – ٥٤٤م) وحديثه عن (مملكة كِندة) المُتوّهمة التي يسودها الحب والعدالة والمساواة والخير والتسامح بين قبائلها، ثم في حكايات “أُميّة بن أبي الصَلتّ، المتوفى (عام ٦٢٦م) الذي تخيّل مدينته تَنعّم بالسلم والأمان والرحمة والتآخي في ظل (الديّانة الحنيفيّة) بمنئ عن الفُحشّ وعبادة الأوثان والإنحطاط الأخلاقي والظلم الإجتماعي،كما نَلمحّ تَصوّر تلك المدينة الخياليّة في أشعار زُهير بن أبي سُلمى (٥٢٠م – ٦٠٩م ) حيث المجتمع المثالي والفضائل الأخلاقيّة التي تُشكل دستور المواطنين في تلك المدينة.

أمّا أشعار الصعاليك التي انتشرت في الثقافة العربيّة نحو مطلع القرن السادس الميلادي فلم تخلُ هي الأخرى من الحديث عن الروح الثوريّة والصرخات النقديّة المُتمردة على إهدار حقوق الإنسان الوجوديّة في الحياة الكريمة المُطمئنة والمُطالبة بالعدالة والمساواة والحريّة من قيّد العبوديّة.

أمّا الأعمال ذات الطابع الفلسفيّ التي تأثرت بطريق مباشر أو غير مباشر بالتصور الأفلاطوني فنجدها عند (وهب بن منبه ٦٥٥م – ٧٣٨م ) في كتابه (المُلوك المُتوجّة من حميّر وأخبارهم وقصصهم وقبورهم وأشعارهم) وقد انصبت حكمه وأقاصيصه وأمثاله وحكاياته حول أخلاقيّات تلك الممالك وعوائدهم ونُظمهم ومُعتقداتهم التي تُشكل مجتمعاتهم تَصوّراً للمدن الفاضلة.

أمّا أبو نصر الفارابي (٨٧٠ م – ٩٥٠ م) هو أول فلاسفة الحضارة العربيّة الإسلاميّة الذين حاولوا الجمع بين الرؤيّة الفلسفيّة والمدينة الفاضلة التي يرأسها الفيلسوف ويحكُمها العلماء في (جمهوريّة أفلاطون) والمدينة الإسلاميّة التي تَدينّ بالولاء والطاعة للنبيّ (صلى الله عليه وسلم) ثم من يَحذُوا حذوه ويسير على دربه من الحُكماء والعلماء والأتقيّاء، وقد حاول فيها الجمع بين كل محاسن المعقول الفلسفي بجانب المنقول الإسلامي الذي ينقل التصور من طوّر أحلام الفلاسفة إلى المدينة الإسلاميّة التي يَحكُمَها الدستور السماويّ، وسار على نهجه أبو العلاء المَعريّ (٩٧٣ م – ١٠٥٧ م) في (رسالة الغفران نحو ١٠٣٣م ) ثم “ابن سينا (٩٨٠ م – ١٠٣٧ م) في قصة (حيّ بن يقظان) التي كتبها في سنين الشباب، متأثراً بكتابٍ يونانيٍ مغمورٍ بعنوان (إيمن ذريس أي حافظ الناس) ويحويّ حكايات ومواعظ شعبيّة، ويبدو فيه ثقافة مؤلفه الجامعة لثقافتي الأفلوطنيّة والهرمسيّة، ثم “ابن طفيل حوالي (١١٠٥م – ١١٨٥م ) وقصته المعروفة (حي بن يقظان) وقد حاكى كلاهما (مدينة الفارابي) من حيّث تقديم الورّع على العلم والجمع بين الحكمة العقليّة والشريعة السماويّة.

ولعلّ الجامع بين الكتابات الفلسفيّة في الثقافة الإسلاميّة هو العنايّة ببناء الإنسان وقيّمه، وإعادة تشكيل عقله على نحو نقدي يُمكَنّه من السيّر وفق مشاعره الإيمانيّة وإستدلالته العقليّة وإحتياجته الماديّة، وجعل كُتاب المدن الفاضلة (الإنسان الكامل) على رأس المدينة التي تنشُد العدالة بأوسع معانيها والسلم بين سكانها وجيرانها، وتسعى للخيّر الأعم وتحقيق السعادة الأرضيّة والنعيم والخيّر الأبقى في الحياة الأُخرويّة.

وإذا انتقلنا إلى العصر الحديث لا نكاد نلمح من بين رواد النهضة العربيّة الإسلاميّة من تأثر بفكر “الفارابي” في اختلاق مدينة فاضلة تُعبر عن إغترابه الذي يُعاني من غيّبة الحريّة والعدالة والإنصاف والمساواة، فضلاً عن القيّم الأخلاقيّة والروحيّة سوى عمليّن كُتباً تحت مظلة الرمزية الأدبيّة أو إن شئت قُل فلسفة المقاومة أو الأحاديث المسكوت عنها بالتصريح، فأرتكنت إلى التلميح وإرتداء ثوب أدبي يخفي أغراضها أو مقاصدها الحقيقيّة، والعمليّن هما (مغامرات تِليماك ١٦٩٩م) لمؤلف فرنسي هو القس فينيلون (١٦٥١م – ١٧١٥م )، وقد عَربها رفاعة الطهطاوي (١٨٠١م – ١٨٧٣م) بين (١٨٥١م – ١٨٥٤م) أثناء نفيّة في السودان، وقد غيّر عنوانها إلي (مواقع الأفلاك في وقائع تِليماك) إمعاناً منه في الإخفاء والتعميّة حتى لا يُفطن المتربصون به لمِا تحتويه من أفكار وآراء ثوريّة ناقمة على سياسة الخديوي عباس حلمي الأول (١٨١٣م – ١٨٥٤م) وسكب فيها دوافع إغترابه وإنتقاداته للواقع المعيش في مجتمعه وأحلامه بِغَدٍ أفضل يَنعّم فيه البشر بالعدالة والإنصاف.

ومن أقوال “رفاعة” المسكوت عنها في هذا السيّاق: (إنه دوَّن كل كتاب مشحون بأركان الآداب، ومشتمل على ما به كسب أخلاق النفوس الملكيّة، وتدابير السياسات الملكيّة.. وعن الآداب اليونانيّة التي أنتجت هذه الملحمة يقول: أن الميثولوجيّا عند اليونان إنّما هي على بعض الآراء لها ظواهر وبواطن، فربما اشتملت على بعض إشارات ورموز.. وفيها من المعاني الحَسنّة مما هو نصايّح للسلاطين والملوك، وبها لساير الناس تحسين السلوك، تارة بالتصريح والتوضيح وأخرى بالرمز والتلويح.. وإن كان بحر جواهر ألفاظ هذا الكتاب لا يُدرك له في لغته الأصليّة قراراً إلا أنه معلوم عند أهل الصناعة أن بحر اللغة العربيّة يقطع على محيط بحار اللغات الأخرى التيّار، وإنه لدررها ولأليها غواص، ولسماء غيثها مدرار ولأدابها ومعارفها ميزان ومعيار، وكل شيء عنده بمقدار.. وليس كل من غَربّ أعربَ وأغربَ وأورد النفوس الزكيّة أعذب مشرب).

وإذا ما انتقلنا للعمل الثاني الذي حاك اليوتوبيّات الغربيّة في الإلغاز والرمزيّة والتعميّة والتعبير عن النقود التي عجز الكاتب عن البوّح بها هو عمل أدبيّ كتبه أحد تلاميذ “رفاعة الطهطاوي” وهو “عبد الله فكري ١٨٣٤م – ١٨٨٩م ” بعنوان (المقامة الفكريّة في المملكة الباطنيّة ١٨٧٢م) وهو عمل مُعرَّب أيضاً عن التركيّة لمؤلف مجهول ومضمونها غير معروف، وما جاء به ليس له مسئول – وذلك على حد تعبير المُعرب – وقد جاء فيها مضمونها أن المؤلف قد ساح وراح يتجوّل في مملكة في الواقع الإفتراضي يحكمها العقل الواعي المستنير وتدين بالأخلاق والدستور الروحي الورّع والمَكيّن، وقد صَوّر القيّم الماديّة والروحيّة في صورة بشريّة جمعها العقل الذي يُمثل حاكم المدينة للتشاور في تسييّس المدينة؛ وذلك لتبدو في صورة كاملة وفاضلة.

وحسبنا أن لا نستفيض في شرح هذيّن النموذجيّن فقد أفردنا له في مؤلفاتنا المكان المناسب، وذلك في كتاب (خطابات فلسفيّة في ثياب أدبيّة ٢٠١٩م ).

فالذي يعنينا من ذِكر المحاولات الرائدة لكتابة اليوتوبيّات أو المُدن الفاضلة في الثقافتيّن الغربيّة والعربيّة هو تأثر مُفكرنا “الطاهر بن عاشور” بنهوجها في صيّاغته لما أبدعه في هذا السيّاق.

فقد وضع “ابن عاشور” تصوراً للمدينة الفاضلة الإسلاميّة، فبدأ حديثه عنها بالإنسان وسماته وخِصاله وإستند في ذلك إلى ما ورد عن المُصطفى (صلى الله عليه وسلم) مُبيّناً أن أولى سمات هذا (الإنسان الكامل) الذي يستوطن المدينة الفاضلة هو المُستقيم الخالي من العوّج والإنحراف في سلوكه وأخلاقه أي برانيّه وجوانيّه، وهي الفِطرة التي جَبَلّ الله الأخيّار عليها، وأوائل المُصطفيين من البشر هم الرُسل الذين توالت بعثاتهم لأقوامهم مُرشدين وهادييّن ومُقومِين ما فسد ومُصلحين ما تلف، ومُبيّنين السبيل للتوبة والإستقامة بعد عصيان ونسيان؛ فالرجوع عن المعصيّة من أزكى خصال الفضلاء، وعليه يؤكد مُفكرنا أن المُؤمنين الطاعييّن هم المُزكون دوماً لسُكنّة المدن الفاضلة.

ولا يُنقص مُفكرنا من فضل الأنبيّاء والرُسل الذين اجتهدوا في تربيّة إنسان هذه المدن وجدانياً وأخلاقياً، ثم تهذيب سلوكه وتحليّة عوائده وتخليّة أعرافه من عَطب مُحاكاة الحيوانيّة والجَهَالة، وذلك كله بقدر طاقة الدُعاة وإستجابة المُكلفين.

والجدير بالإشارة في هذا السيّاق أن “ابن عاشور” قد وضع العلماء والفلاسفة في مصاف الأنبيّاء والمُصلحين، فذكر “هرميس (إدريس النبيّ) حوالي الألفيّة الرابعة قبل الميلاد”، و الحكيم اليوناني “بيّاس حوالي (٦٠٠ ق م – ٥٣٠ ق م ) الذي أُشتهر بالورعّ والإنتصار للحق، و”سولون حوالي (٦٤٠ ق م – ٥٦٠ ق م ) الأثيني صاحب التشريعات الشهير الذي يُرد إليه القواعد القانونيّة الغربيّة العادلة ونظام الشورى، ومن الفلاسفة الأكابر “سقراط” وتلميذه أفلاطون.

وقد صرح مُفكرنا بأنه قد حاكَ في ذلك الإنتقاء ما إرتائه “يحيي السهرورديّ (١١٥٤م – ١١٩١م )، و “قُطّب الدين الشيرازي (١٢٣٦م – ١٣١١م) في كتابتهم عن أفاضل الحكماء والعلماء، ولم يجد في ذلك حرجاً إستناداً على وصف الله للحكماء والعلماء بأنهم ورثة الأنبيّاء، ونستنبط من ذلك أن مُفكرنا قد رَغِب عن النموذج الثيوقراطي الذي جعله كهنة اليهود وقساوسة المسيحيّة نموذجاً للمدينة الفاضلة أي أنه رفض النموذج (الأوغسطيني) وفضل عليه عالم المُثل البشري (الأفلاطوني) الذي تحدث عنه في محاوراتي (الجمهوريّة والقوانين).

ثم يعود “ابن عاشور” ويؤكد أنه مع إعترافه بعِظم إجتهاد أولئك المُصلحين من أنبيّاء وعلماء وحُكماء في إيجاد المدينة الفاضلة على النحوّ الذي يليق بالمقاصد الإلهيّة من خلق البشر، فيرى مع ذلك أن جميعهم قد أخفق لصلف وقسوة قلوب عُمار المدن الذين حاولوا هدايتهم فكذبوهم وآذوهم ونسيّ القليل منهم ما تَعَلَمُه من الأتقيّاء والمُصلحين وراق لبعضهم تجديف شِرعة الله وتحريف رسالاته ومن ثم ضاع الدستور الحاكم لذلك (الإنسان الكامل) المرجو إعداده لتكوين مجتمع المدينة الفاضلة، ومن أقواله في ذلك (بقيّت المدينة الفاضلة مُرتسمة في خيّال الحكماء، فلم يزالوا يدعون إليها ويبتغون تأسيسها، ولكنهم لم يحصلوا على حاجاتهم المنشودة، ذلك أن المدينة الفاضلة يُلزم أن يكون رئيسها حكيماً صالحاً عارفاً وأن يكون أصحابه – أهل الحَلّ والعقّد فيها – حكماء مثل رئيسهم، وأن يكون سكانها أفاضل قابلين لسيّاسة الحكيم مُطيعين له، غير مُفسدين لما يُصلحه.. وإضطرب العالم عقب ذلك إضطرابات عامة في كل مكان، فلم يتأت إيجاد المدينة الفاضلة حتى جاء الإسلام).

وحسبي أن أوضح أن “ابن عاشور” لم يكن مُتحيّزاً للنبيّ الخاتم إذ وصف إياه بأنه ذلك النبيّ الحكيم الكامل الذي قَدَرّ بإجتهاده في تأسيس عُمد المدينة الفاضلة، وبدأ بإجتذاب الأتباع في أول الدعوة بمكة ثم أرسل من يحمل رسالته إلى جيرانه الذين مالت قلوبهم إلى دعوته، ولما تهيأت الظروف انتقل إليها وإعتَليّ مكانة الحكيم المُصلح الهادي، الذي أقنع بكمال حكمته عقول مؤيديه وطَبع في قلوبهم حبه وإخلاصهم له، لجميل طباعه ورحمة خصاله، فتأسست بذلك اللَبنّة الأولى لتلك المدينة الفاضلة المرجوّة التي تأسس دستورها على البِرّ والتعاون وإحترام القانون الإلهي الذي تَنَزّل في آياته بوحيّ يمتنع بطبيعته عن التبديل والتحريف، ومبدأ الشُورة الذي رَدّ لمواطن تلك المدينة حقه في البوّح والإختيّار والتقويم؛ وذلك ليتمكن من حمل الرسالة من بعده بوصفه مواطناً مُسلماً في خيّر أمة أُخرجت للناس فعالاً للبِرّ والمعروف دوماً وراغِب عن المُنكر والشرور بإرادة حُرة وبإلتزام جُوانيَّ وبإلزام عادل في قرآن محفوظ، وكيف لا وقد عُنيّ رسول الله بتربيّة البشر وتقويم خصالهم وتثقيف أفعالهم قبل تدبير الحَجّر و بناء الأسوار وتشييّد الحصون، فلم تكن عنايته بتصوّر مدينة بعيّنها، بل إيجاد أمة حريصة على حمايّة الحُبّ في قلوب أفرادها أكثر من حُب القوة الذي يُمكنّها من حمايّة الممتلكات والحدود.

وللحديث بقيّة عن تَصوّر “ابن عاشور” للمدينة الفاضلة الإسلاميّة الحديثة.

***

بقلم: د. عصمت نصَّار

 

أولا: سر وحدة الشخصية في مركب الثنائية العنصرية

حينما نقرأ القرآن الكريم والأحاديث النبوية نجد أن النصوص المحددة لطبيعة الشخصية الإنسانية قد تنحو إلى اعتبار الإنسان كائنا مركبا من عنصرين مختلفين في طبيعتهما: أحدهما يغلب عليه الارتقاء والتطلع إلى الآفاق، بل إن وجوده قد تم علويا في عالم ليس من جنس عالم الحس والمرئي من الكائنات الدنيوية، وهذا هو الذي يسمى بالروح.

أما العنصر الثاني: والمسمى بالجسد فهو ذلك الذي يغلب عليه طابع التثاقل إلى الأرض والركون نحو الأسفل ارتباطا بمادتها وانجذابا نحو عنصرها، لأنه مخلوق منها ولا يستطيع مبارحتها إلا عرضا وبواسطة تطلع العنصر الأول الذي من طبعه التطلع إلى الأعلى، ولهذا يلاحظ عند مفارقة الروح للجسد بالموت أن هذا الأخير قد يتشبث بالأرض التصاقا بل تحللا وذوبانا بعناصرها.

ولقد صرح القرآن الكريم بثلاث صور يمكن أن نعتبرها عناصر أساسية لتحديد مناهج معرفة النفس: وهي عنصر الروح وعنصر الجسد، وعنصر الروح متصلا بالجسد.

فالعنصر الأول وهو اعتبار الجوهر الإنساني المعبر عنه بالروح، قد يدخل في حكم استحالة أو صعوبة معرفته من جهة ماهيته، وذلك للإضافة الخاصة التي يتميز بها وجوده وخلقه.

ويتجلى هذا الحكم في قول الله تعالى: " وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا "1. وكذلك قوله تعالى: " مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا "2 .

فالآية الأولى كما يروي البخاري عن أسباب نزولها في صحيحه: "عن علقمة عن عبد الله قال: بينما أنا أمشي مع النبي صلى الله عليه وسلم في خربة المدينة وهو يتوكأ على عسيب معه، فمر بنفر من اليهود، فقال بعضهم لبعض سلوه عن الروح، وقال بعضهم لا تسألوه لا يجيء بشيء تكرهونه، فقال بعضهم: لنسأله.فقام رجل منهم فقال: يا أبا القاسم: ما الروح ؟ فسكت فقلت: إنه يوحى إليه، فقمت. فلما انجلى عنه فقال: "ويسألونك عن الروح، قل الروح من أمر ربي وما أوتوا من العلم إلا قليلا" قال الأعمش هكذا في قراءتنا "3 .

وهذا الحديث المبين لأسباب نزول الآية يحدد لنا المقصد منها وبعدها، إذ أن السؤال الذي طرحه اليهود عن الروح قد جاء في معرض الاستفزاز والتعجيز بأسئلة ليست من جنس التعريف اللغوي والصياغة اللفظية، وذلك لأنهم سألوا معرفة الماهية الروحية، إذ استعملوا "ما "كأداة استفهام، ومعلوم أن الماهية قد يسأل عنها في غالب الأحيان بما، وإذا كانت (ما) تفيدها فسيكون من اللازم توصيلها إلى المستفسر، وهذا يتطلب الاندماج بالماهية اندماجا ذاتيا قد يصير معها المدرِك هو عين المدرَك!وهذا لا يتم إلا إذا كانت الذات المدركة مستقلة عن أية إضافة أو تركيب أو ما إلى ذلك.

وبما أن الروح مركبة مع البدن بالعطف والإضافة، وبما أنها محدثة بالإضافة العليا وهي قول الله تعالى: "قل الروح من أمر ربي" فإن إدراكها لا يتم إلا عن طريق الإضافة العليا -أي بإلهام من الله تعالى وتحقيق منه مباشرة-أو عن طريق قنوات الجسد الحسية والعقلية والتي هي دون مستوى الإدراك الروحي الأرقى والأدق!.

ولهذا فقد جاء الخطاب صريحا ليبين هذا الافتقار الذاتي للإنسان إلى تحصيل العلم بالماهية، لأنه مفتقر أصلا إلى تعليم من الله تعالى الواهب للإدراك والمعرفة الصحيحة، كما أنه إذا وكل الإنسان إلى ذاته المركبة بالإضافة والعطف، حيث يمتزج فيها الروحي بالجسدي، فإن قنوات الإدراك عنده لن تكون على مستوى التجريد الذي يفسح المجال للروح بأن تدرك ماهية ذاتها بذاتها.

ولهذا فلو كانت الروح مدركة لماهية ذاتها لما كان هناك سؤال في الماهية أصلا، فيكون أن تحصيل العلم بها يبقى من اختصاص الله تعالى الذي يهب علمه لمن يشاء بحسب استعداده له وتأهله لتقبله "وما أوتيتم من العلم إلا قليلا".

ثانيا: التكوين الإنساني ومراحل الشعور بالذات

هذا الافتقار إلى تحصيل إدراك ماهية الذات ستبينه الآية الثانية في قول الله تعالى، "ما أشهدتهم خلق السموات والأرض ولا خلق أنفسهم وما كنت متخذ المضلين عضدا"، والتي فيها الدليل القاطع على أن الإنسان لا يمكن أن يسبر حقيقة ذاته إلا بأمر من الله تعالى وإذن منه لأنه أعلم بخلقه " أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ".

كما أن الآية ستركز أساسا على واقع الإنسان الوجودي والتكويني لأنه في الحقيقة لم يدرك مراحل تطوره ولا متى تكونت الخلية الأولى لذاته الجسدية بله عنصره الروحي الوارد بالأمر الإلهي المباشر!

وبما أنه قد كان غائبا وجوديا شعوريا وإدراكيا عن مراحل تكوينه فإنه سيكون عاجزا عن معرفة كنه ذاته وتقلباتها في مراحل النمو والتذكر والنسيان وما إلى ذلك، ولهذا فالمرحلة ما بعد وعيه تبقى دائما خاضعة لما قبله في عدة أشياء وقد تتحكم في سلوكه لا شعوريا سواء روحيا أو جسديا، لكنه مع ذلك قد يكون مسئولا عن نتائجه للخصوصية الإدراكية النسبية التي وهبها الله للإنسان في طوره العادي.

وكصورة لهذه المراحل التي لا يعرف الإنسان منها شيئا سوى ما يقرره الشرع من حقائق، سيكتشف بعضا منها فيما بعد، ما يدل عليها قول الله تعالى: " وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آَخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14) "4 .

وكذلك ما نجده في الحديث الذي رواه البخاري عن عبد الله (بن مسعود) قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق قال: "إن أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوما ثم علقه مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث الله ملكا فيؤمر بأربع: برزقه وأجله، وشقي أو سعيد، ثم ينفخ فيه الروح فوالله إن أحدكم -أو الرجل- ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها غير باع أو ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها غير ذراعين أو ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها "5.

فالمراحل التكوينية المتضمنة في القرآن والحديث لا يدرك الإنسان أثناءها شيئا، فهو من حيث تكوين بدنه لم يعرف كيف جمع في بطن أمه أربعين يوما، ثم صار علقة ثم مضغة مثل ذلك.

أما تكوينه الروحي فالنفخة هي بدورها سر لا يعلمه إلا الله تعالى، وظاهر النص الحديثي يشير إلى أن الوجود الجسدي هو المفتقر إلى الوجود الروحي وليس العكس، لأن تكوين الجسد قد تم على مراحل مركبة خاضعة للزمان والمكان، بينما التكوين الروحي ليس فيه سوى مرحلة واحدة قد تمثلت في نفخ الروح، الله أعلم بسره .

وأمام هذا التقرير القرآني والحديثي عن مراحل التكوين الإنساني يطرح سؤال وهو: أيهما أسبق إلى الوجود هل الروح أم الجسد؟ ثم هل الروح يمكن أن توجد مستقلة عن الجسد مع احتفاظها بالإدراك والشعور أم العكس، أي: هل يمكن للجسد أن يستمر في الحياة مع غياب الروح ؟.

ففيما يخص الجسد نجد الدلائل قطعية على أنه لا استمرارية لحياة جسد دون روح، بدليل وجود الموت الذي يلاحق كل المخلوقات الحية بما فيها الإنسان المركب من روح وجسد.

فالجسد قد يكون موجودا بكل عناصره المؤهلة له للحياة، غير أنه لا يستطيع أن يقوم بوظائفه إلا بوجود الروح، مصداقا لقول الله تعالى: " إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ (71) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (72)"6 .

فلا قيمة لجسد رغم ما يحتويه من أعضاء وغرائز وظيفية إلا بوجود الروح المعطي الرئيسي للشعور بوحدة الذات وبالإنِّية المصرفة للبدن .

وحينما نقول بوحدة الذات ففيه الإشارة إلى عدم قابلية التركيب في الماهية الروحية المجردة، وبهذا تخالف طبيعة الروح طبيعة الجسد الذي تم خلقه على مراحل مضافة ومتراكبة .

فقد يبتر عضو جسدي من الإنسان ومع ذلك يبقى الإنسان ذاتا واحدة لا ينقص من شعورها بذاتها شيء، بينما الجسد من حيث النظر يكون قد بتر.

أما فيما يخص الروح، فإننا نجد الأدلة القرآنية والحديثية تبين، حسب ما يفهم من ظاهر نصوصها، أن الأرواح قد تعرف وجودا مستقلا عن الجسد قبله وبعده.بحيث يستمر بقاء الروح رغم تلاشي أعضاء الجسد وتحلله إلى تراب ورفات.

ومن بين هذه الأدلة القرآنية التي تشير في ظاهرها إلى أن الأرواح قد وجدت قبل الأجساد وكمال تكوينها ما نجده في قول الله تعالى: " وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آَدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (172) أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آَبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (173) وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (174)"7.

فوجود هذه الأرواح وطريقة أخذها من الظهور تبقى في حكم الغيب الذي يختص النص الديني بتقرير حقائقه، لكنه مع ذلك سيفتح المجال في الفكر الإسلامي للاستدلال عليه ومحاولة ملامسة حجبه بدقة علمية موضوعية كمعرفة جزئية لأبعاد هذه العملية وارتباط السلوك الإنساني وخلفياته بها، معتمدين في ذلك على ما عرضه القرآن والحديث من ظواهر نفسية ترتبط وجدانيا وسلوكيا بهذه المرحلة السابقة في تكوين الإنسان .

ولهذا فمعرفة النفس في الإسلام ومناهجها قد ترتكز أساسا على تحديد طبيعة الكينونة الإنسانية أولا وذلك من خلال تحديد مناطق الفصل بين عناصرها، والتدليل على خصوصية كل عنصر فيها لكي يتسنى تحديد السلوك بحسب انتمائه إلى هذا أو ذاك.

لأنه إذا كان السلوك ذا طابع روحي محض فإن التجاوب معه يبقى في إطاره الروحي لا غير ويعالج بالأدوات الروحية.

أما إذا كان السلوك ذا طابع يغلب عليه الجانب المادي في أهدافه وغاياته فإن التعامل معه يكون أيضا من جنس عنصره، أي يعالج بالوسائل المادية، غير أن الجانب المادي في الإنسان لا يمكن أن يكون ذا طابع حركي وإدراكي إلا بوجود العنصر الروحي.

ولهذا فالعمل المادي عند الإنسان لا يستطيع أن ينفصل عن العمل الروحي مهما غالى في الانغماس والارتباط بالمادة تلبسا كليا، وسيلة وهدفا وغاية .

***

الدكتور محمد بنيعيش

أستاذ الفكر الإسلامي والحضارة

........................

1- سورة الإسراء آية85

2- سورة الكهف آية 51

3- رواه البخاري في كتاب الإيمان

4- سورة المؤمنون آية 12-14

5- رواه البخاري

6- سورة ص آية 71-72

7- سورة الأعراف آية 172-173

 

1 - المجتمع الإسلامي مجتمع النسب و الصلة والرحمة والمحبة، مجتمع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، مجتمع الولاية والحماية، مجتمع التزكية والطهارة، مجتمع الوحدة والتوحيد، ومن هنا كانت أمة الإسلام خير أمة أخرجت للناس. فالنسب في الإسلام هو محور هذه الفضائل وهو المؤسس والمعطي لها أبدا، لأنه رمز الاستمرارية والحفاظ على صحة الهوية والمحقق للعصبية التي يكون بها التعاضد والتكاتف والإمارة والملك.

وحينما يقع خلل في هذا العمود المركزي، للمجتمع أيا كان، فإنه قد ينذر بالأفول والتقاطع و التدابر حتما، ويؤدي لا محالة إلى صدامات لا سبيل إلى إيقاف زحفها أو التقليل منها، لأنه يكون قد دخل في مرحلة اختلاط الأنساب وشيوعها وانقطاعها وهي في مكانها وزمانها، لكنها مجهولة عند تحديد أصلها، على نمط الجمهورية الوهمية الفاسدة التي خطط لها أفلاطون، وانتحلها الغرب المعاصر باسم العلمانية والحرية والديمقراطية وما إلى ذالك من المصطلحات البراقة والمهلكة للمجتمع الإنساني، مآلا عند التأمل في الواقع وتحليل مساره وتسلسل انحداره.

فلا مجال إذن، وواقعا، للتواصل والتعاضد على قواعد ثابتة وموضوعية بين مجتمعات حالها شيوعية الأطفال والنساء في التداول والانتساب، ولا أمل لها في تبادل المنافع أو اجتناب المضار على قاعدة الشعور المشترك ونكران الذات من أجل الآخر باعتباره صورة لها وامتدادا لقوتها وحياتها، وإنما سيصبح مجتمعا أنانيا لا يهمه سوى نفسه ولا يطمح إلا إلى رغباته الذاتية وإشباعها الغريزي الحيواني المحض أو ذات التحليل الشيطاني الماكر، لاقتناصها على حساب الآخر المغرر به سواء كان يبدو قريبا أم بعيدا، متحدا جوهرا و مختلفا شكلا، وإنما حاله العام هرع وجزع وهروب ونفور، وترقب وترصد واحتكار واحتقار، واستدراج  وخداع وانتهازية واستغلال، إلى غير ذلك من المظاهر السلبية السلوكية التي بدأت تظهر على المجتمعات الإنسانية منذ زمن بعيد واستشرت في زماننا، منذرة بقيام الساعة قبل أوانها كما يقول الله عز وجل عن مصير الإنسانية في يوم الجزع :

"ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون، فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون"1.

في حين قد كان الأصل بخصوص النسب هو المنة والفضل من الله تعالى الذي خص به البشرية لتحقيق الامتداد في التواصل حتى يوم الفزع الأكبر وما بعده من خلال قوله تعالى "وهو الذي خلق من الماء بشرا وجعل منه نسبا وصهرا، وكان ربك قديرا"2.

كما نجد في نفس السورة الدعوة إلى التواصل الأسري بين الأب والأم والطفل على قاعدة النسب و خصائص المحبة في ظله عند عباد الرحمان " الذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا و ذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماما"3 "والذين آمنوا واتبعتهم ذريا تهم بإحسان ألحقنا بهم ذريا تهم وما ألتناهم من عملهم من شيء، كل امرئ بما كسب رهين"4.

2-  من هذه الثوابت الرئيسية المحددة لقيمة النسب في الإسلام وأبعاده في تحقيق سعادة الإنسان  على امتداد لانهائي كان لابد من التركيز المكثف على هذا الموضوع،  دراسة وتحليلا علميا لبيان قيمة هذا الركن من المجتمع الإنساني عموما، والتذكير بمحوريته قبل الإسلام وعند مجيئه وذلك بإرسائه لقواعده و كماله وضمانه لاستمرار يته قبله وعنده، وبالتالي سد الأبواب على المتلاعبين والمتهاونين بأمره لأن المسالة ليست قضية أسرية محضة أو اجتماعية وسياسية، وإنما هي ذات ارتباط بالسنن الكونية في وحدة تواصلها وذات أسس عقدية تضمن الاستمرارية والتكامل بين عناصر الوجود الكوني والإنساني على وثيرة متناغمة ومتناسبة تتضمن عندها الحقوق والواجبات وتحدد بها المصالح والمضار ويستأمن بها المآل والمصير.

ولقد كثرت الآراء والنظريات والمشاريع لحماية الطفولة والأمومة تحت أبواق التكافل الوهمي الاجتماعي وبوسائل هي نفسها الممهدة لإهدار الأنساب والإضرار بالحقوق، لأنها من جهة غير نقية ولا صافية المصدر والمنبع والنوايا، ومن جهة لا تحل المشكل من جذوره وأعماقه، وكيف يستدرك الدواء بعين الداء والمسبب له؟ كمن يريد أن يبيض الورقة المسودة بيد ملطخة بالزفت أو الفحم المحترق !خاصة وقد استشرت مظاهر الإفساد الأخلاقي بوازع الثقافة والإعلام والحداثة والحرية المضللة بوهم الأثرة الشخصية، كما كثرت مظاهر الأطفال المتخلى عنهم واللقطاء ومنقطعي النسب بشتى الأسباب والدوافع، منها السلوكية والنفسية، ومنها المادية والاقتصادية والسياسية والعسكرية، ومنها العقدية والمنحرفة، لغاية أن دولت هذه المظاهر وأصبحت تقض مضجع الإنسانية عموما سواء منها المتدينة وغير المتدينة، الإسلامية وغير الإسلامية، ومن ثم هرع الجميع إلى التشبث بمواثيق وهمية مصاغة في أروقة مؤسسة مختلة في أصلها وكينونتها، ألا وهي منظمة الأمم المتحدة والمتفرقة في آن واحد، لأنها مبنية على الهيمنة والإرهاب بالقوة وصياغة الفضيلة المزاجية وإرغام الضعفاء على اتباعها والوقوع في شبهاتها وتناقضاتها بالتوقيع على معاهداتهاً، فكانت بذلك بئس المرضعة و بئس الفاطمة.

ومن هنا فمهما غيرت المدونات أو عدلت القوانين جزئيا أو ظرفيا، فإنها تبقى قاصرة عن حل المشكلات الأسرية المعاصرة في ظل هذه التبعيات العمياء والمكرهة للواقع المصطنع والغريب عن بيئة المسلمين، وكذلك المناقضة للأصول والنصوص الدينية المحددة لنسبهم وضوابطه الشرعية والكونية، طالما لم تؤخذ بعين الاعتبار كل الجوانب المتكاملة والمتعاضدة بين النص والواقع وتغيرات الزمان والمكان والحاضر والمستقبل، وطرق الوعظ والتأديب والزجر والترغيب...إلخ.

***

الدكتور محمد بنيعيش - وجدة، المغرب

...........................

1- سورة المؤمنون آية  102

2- سورة الفرقان آية   45

3- سورة الفرقان آية  74

4- سورة الطور آية  19

 

بقلم: جافين إيفانز

ترجمة: د.محمد عبدالحليم غنيم

***

كيف يمكن لزعيم طائفة أن يجذب الحشود، ويلهم التفاني، ويموت مصلوبا دون أن يترك أي أثر في السجلات المعاصرة؟

يتفق معظم علماء العهد الجديد على أنه منذ حوالي 2000 عام، تم إعدام واعظ يهودي متجول من الجليل على يد الرومان بعد عام أو أكثر من التحدث إلى أتباعه عن هذا العالم والعالم الآتي/الآخر. هذا قول أغلب العلماء، وليس كلهم.

لكن دعونا نلتزم بالتيار السائد في الوقت الحالي: مؤرخو الكتاب المقدس الذين ليس لديهم أدنى شك في أن حذاء يشوع بن يوسف ترك بالفعل أثرًا بين الناصرة والقدس في أوائل العصر الميلادي. وهم ينقسمون بشكل كبير إلى ثلاث مجموعات، أكبرها تضم اللاهوتيين المسيحيين الذين يخلطون بين يسوع العقيدة والشخصية التاريخية، مما يعني عادة أنهم يقبلون الولادة العذراوية، والمعجزات، والقيامة؛ على الرغم من أن القليل منهم، مثل سيمون جاثركول، الأستاذ في جامعة كامبريدج والإنجيلي المحافظ، يتعاملون بجدية مع الأدلة التاريخية.

ويأتي بعد ذلك المسيحيون الليبراليون الذين يفصلون الإيمان عن التاريخ، وهم على استعداد للذهاب إلى أي مكان تقوده الأدلة، حتى لو كان ذلك يتعارض مع المعتقدات التقليدية. وممثلهم الأعلى صوتًا هو جون بارتون، وهو رجل دين أنجليكاني وباحث في جامعة أكسفورد، والذي يقبل أن معظم أسفار الكتاب المقدس كتبها مؤلفون متعددون،غالبًا على مدى قرون، وأنها تختلف عن التاريخ.

وهناك مجموعة ثالثة، ليست بعيدة عن آراء بارتون، وهم علماء علمانيون يرفضون العناصر المعجزية في العهد الجديد بينما يعترفون بأن يسوع كان مع ذلك شخصية متجذرة في التاريخ: فهم يزعمون أن الأناجيل تقدم دليلاً على الدوافع الأساسية لحياته الوعظية. العديد من أعضاء هذه المجموعة، بما في ذلك العضو الأكثر إنتاجًا، بارت إيرمان، مؤرخ الكتاب المقدس في جامعة نورث كارولينا، هم ملحدون خرجوا من المسيحية الإنجيلية. من أجل الوضوح الكامل ، يجب أن أضيف أن وجهة نظري الخاصة مشابهة لوجهة نظر ايرمان: لقد نشأت في عائلة مسيحية إنجيلية، ابن لأسقف أنجليكاني يهودي المولد، "مولود من جديد" ويتكلم اللسان؛ ولكن منذ أن كنت في السابعة عشرة من عمري، بدأت أشك في كل ما كنت أؤمن به. ورغم أنني بقيت مفتونًا بالديانات الإبراهيمية، إلا أن اهتمامي بها لم يكن كافيًا ليمنعني من الانجراف نحو الإلحاد من خلال اللاأدرية.

هناك أيضًا مجموعة رابعة أصغر تهدد الخلافات السلمية إلى حد كبير بين الملحدين والربوبيين والمسيحيين الأكثر تشددًا من خلال الإصرار على أن الأدلة على وجود يسوع التاريخي واهية للغاية لدرجة أنها تلقي بظلال من الشك على وجوده الأرضي بالكامل. تشير هذه المجموعة - التي تضم نصيبها من المسيحيين غير المؤمنين - إلى أن يسوع ربما كان شخصية أسطورية، مثل رومولوس في الأسطورة الرومانية، سُجلت لاحقًا.

ولكن ما هو الدليل على وجود يسوع؟ وما مدى قوته وفقًا للمعايير التي قد ينشرها المؤرخون - وهذا يعني: ما مقدار قصة الإنجيل التي يمكن الاعتماد عليها كحقيقة؟ إن الإجابات لها آثار هائلة، ليس فقط بالنسبة للكنيسة الكاثوليكية والدول المهووسة بالإيمان مثل الولايات المتحدة، ولكن بالنسبة للمليارات من الأفراد الذين نشأوا مع الصورة المطمئنة ليسوع المحب في قلوبهم. وحتى بالنسبة للأشخاص من أمثالي، الذين تخطوا الحديث عن الله والروح والجنة والجحيم، فإن فكرة أن هذا الشكل من الإخلاص في مرحلة الطفولة لم يكن من الممكن أن يكون موجودًا، أو، إذا كان موجودًا، فقد نعرف القليل جدًا عنه، تحتاج إلى بعض القبول. فهو ينطوي على خسارة مؤلمة ــ وهو ما ربما يفسر السبب وراء احتدام المناقشة، حتى بين العلماء العلمانيين.

333

عندما ناقشت هذا المقال مع أشخاص نشأوا كملحدين أو ينتمون إلى ديانات أخرى، كان السؤال المطروح دائمًا كالتالي: لماذا من المهم جدًا بالنسبة للمسيحيين أن يعيش يسوع على الأرض؟ ما هو على المحك هنا هو الجانب الفريد من إيمانهم – وهو الشيء الذي يميزه. لأكثر من 1900 عام، حافظت المسيحية على اقتناعها بأن الله أرسل ابنه إلى الأرض ليعاني من الصلب البشع ليخلصنا من خطايانا ويمنحنا الحياة الأبدية. إن ميلاد يسوع على الأرض، وحياته، وخاصة موته، الذي بشر بالفداء، هو أساس إيمانهم.إن هذه الآراء راسخة بعمق، حتى بالنسبة لأولئك الذين خففوا قبضة الإيمان، فإن فكرة أنه ربما لم يكن "حقيقيًا" يصعب استيعابها.

قد تعتقد أن زعيم الطائفة الذي اجتذب الحشود وألهم الأتباع المخلصين وتم إعدامه بأمر من الحاكم الروماني سيترك بعض المسافة البادئة في السجلات المعاصرة. كتب الأباطرة فيسباسيان وتيطس والمؤرخون سينيكا الأكبر والأصغر الكثير عن يهودا في القرن الأول دون ذكر يسوع على الإطلاق. قد يعني هذا ببساطة أنه كان ممثلًا أقل أهمية مما يريدنا الكتاب المقدس أن نعتقده. ولكن، على الرغم من حجم السجلات التي بقيت من ذلك الوقت، لا يوجد أيضًا أية إشارة إلى الوفاة (كما كان هناك، على سبيل المثال، 6000 من العبيد الموالين لسبارتاكوس الذين صلبوا على طول طريق أبيان في 71 قبل الميلاد)، ولا يوجد ذكر في أي من هذه السجلات ،أو في أي وثيقة:  تقرير رسمي أو رسالة خاصة أو شعر أو مسرحية باقية.

قارن ذلك بسقراط، على سبيل المثال. على الرغم من عدم وجود أي من الأفكار المنسوبة إليه مكتوبة، إلا أننا نعرف أنه عاش (470-399 قبل الميلاد) لأن العديد من تلاميذه والنقاد المعاصرين كتبوا عنه كتبًا ومسرحيات لكن مع يسوع هناك صمت من جانب أولئك الذين كان من الممكن أن يروه شخصيًا، وهو أمر غير مريح للتاريخيين مثل إيرمان؛ وكتب في عام 1999: "على الرغم من أن الأمر قد يبدو غريبًا، إلا أنه لم يُذكر اسم يسوع في أي من هذه المجموعة الهائلة من الكتابات الباقية". في الواقع، هناك ثلاثة مصادر فقط للأدلة المفترضة للحياة. - جميعها بعد الوفاة: الأناجيل، ورسائل بولس، والأدلة التاريخية من خارج الكتاب المقدس.

يبني المؤرخون المسيحيون ادعاءاتهم بوجود يسوع تاريخيًا على إشارات ضئيلة للمسيحيين الأوائل من قبل السياسيين الرومان بليني الأصغر وتاسيتوس ( اللذان يكتبان عن المسيحيين الذين أجريا مقابلات معهم في أوائل القرن الثاني - في حالة بليني، الشماسة المعذبة - جميع أتباع "الطريق" الذين تحدثوا عن يسوع) وبواسطة فلافيوس جوزيفوس، مؤرخ يهودي روماني. يحتوي كتاب يوسيفوس المكون من 20 مجلدًا بعنوان "آثار اليهود"، والذي كتب حوالي عام 94 م، في عهد دوميتيان، على إشارتين إلى يسوع، بما في ذلك إحداهما تدعي أنه المسيح المصلوب على يد بيلاطس البنطي. سيكون لهذا بعض الوزن إذا كتبه يوسيفوس بالفعل؛ لكن الخبراء، بما في ذلك الإنجيليين مثل جاثركول، يتفقون على أن هذه الإشارة ربما تم تزويرها من قبل الجدلي المسيحي في القرن الرابع يوسابيوس. والإشارة الأخرى هي "أخ يسوع الذي يدعى المسيح واسمه يعقوب". يقول بعض العلماء أن الجزء "المسمى المسيح" كان إضافة لاحقة، ولكن لا يهم كثيرًا عندما اعتمد يوسيفوس على القصص التي رواها المسيحيون بعد أكثر من ستة عقود من صلب يسوع.

إذا كان الصلب متنبأً به، فكيف يمكن أن يكون الأمر محرجًا؟

أقرب دليل على وجود شخصية تاريخية لا يأتي من السجلات المعاصرة، ولكن من رسائل بولس، التي يرجع تاريخها عمومًا إلى ما بين 50 و 58 م (من بين الرسائل الـ 14 المنسوبة في الأصل إلى بولس، يعتبر نصفها فقط الآن من كتاباته بشكل أساسي، أما الباقي يعتقد أنه قد كتب في وقت ما القرن الثاني). مشكلة بولس بالنسبة للباحثين عن الإثبات هي قلة ما يقوله عن يسوع. إذا عاش يسوع ومات في حياة بولس، فقد تتوقع أنه سيشير إلى خدمة يسوع على الأرض - إلى أمثاله ومواعظه وصلواته -وأن قراءه سيرغبون في الحصول على قصة الحياة الحاسمة هذه. لكن بولس لا يقدم شيئًا عن يسوع الحي، مثل القصص أو الأقوال التي تظهر لاحقًا في الأناجيل، ولا يقدم أي معلومات من مصادر بشرية، مشيرًا فقط إلى التواصل الرؤيوي مع يسوع وإلى الاقتباسات المسيانية من العهد القديم.

وهذا يقودنا إلى الأناجيل المكتوبة لاحقًا، وليس بواسطة أولئك الذين تحمل أسماءهم (وهذه أضيفت في القرنين الثاني والثالث). إنجيل مرقس، المقتبس من بولس، جاء أولاً وشكل نموذجًا للأناجيل التي تلته (متى يستند إلى 600 آية من آيات مرقس البالغ عددها 661 آية، في حين أن 65% من آيات لوقا مبنية على مرقس ومتى). النسخة الأولى من مرقس يرجع تاريخها إلى ما بين 53 و70 قبل الميلاد، عندما تم تدمير الهيكل الثاني، وهو الحدث الذي يذكره. أما الإنجيل الأخير، يوحنا، الذي يحتوي على لاهوت وقصص مختلفة تتناقض مع الأناجيل الثلاثة "الإزائية"، فيعود تاريخه إلى حوالي عام 100 ميلادي. تتضمن الأناجيل الأربعة أقسامًا مكتوبة في القرن الثاني (من بينها روايتان مختلفتان عن ميلاد العذراء في متى ولوقا)، ويضع بعض العلماء الآيات الـ 12 الأخيرة من مرقس في القرن الثالث. يفترض العديد من المؤرخين أن متى ولوقا كان لديهما مصدر سابق يسمونه Q. ومع ذلك، لم يتم العثور على Q مطلقًا ولا توجد إشارات إليه في أي مكان آخر. يقترح بارتون أن الإيمان بـ Q قد يخدم "أجندة دينية محافظة" لأن القول بأن هذه الأناجيل مستمدة من مصدر سابق "هو إنكار ضمني أنهما اختلقا أيًا منها بأنفسهما".

ماذا يمكن أن تقول لنا الأناجيل مجتمعة عن يسوع التاريخي؟ يتفق العلماء العلمانيون على أن الكثير من محتواها خيالي، ويشيرون، كما يقول إيرمان، إلى أن "هذه الأصوات غالبًا ما تكون على خلاف مع بعضها البعض، وتتناقض مع بعضها البعض في التفاصيل الدقيقة وفي القضايا الكبرى". ومع ذلك فإن إيرمان مقتنع بوجود يسوع؛ ويؤكد أن كتبة الأناجيل سمعوا تقارير عن يسوع و"قرروا كتابة نسخهم الخاصة". بعض الحقائق الأساسية، مثل تواريخ ميلاد يسوع ووفاته (المستمدة من ذكر حكام مختلفين)، مقبولة على نطاق واسع، ويقال إن العديد من أقوال يسوع قريبة من كلماته الحقيقية. ولفصل القمح الحقيقي عن التبن الخيالي، يستخدمون "معايير الأصالة" - القصص والكلمات الحقيقية. المعايير الثلاثة الرئيسية هي: الإحراج (هل هذه التفاصيل لا تتماشى مع اليهودية في القرن الأول، وإذا كان الأمر كذلك، فلماذا يخترع كتبة الأناجيل أشياء من شأنها أن تسبب مشاكل؟)؛ عمليات التحقق المتعددة (كلما زاد عدد المصادر، كان ذلك أفضل)؛ والتماسك (هل التفاصيل متسقة مع ما نعرفه؟)

ومع ذلك، هناك سبب وجيه للتشكيك في هذا النهج. فيما يتعلق بمعايير المصادر المتعددة والتماسك/ السياق، فنحن نعلم أن كتبة الأناجيل استعاروا من بعضهم البعض، لذلك نتوقع منهم أن يتضمنوا نفس الأشياء. على سبيل المثال، استعار إنجيل لوقا عبارة متى "تأمل زنابق الحقل"، ولكن إذا كانت قصة متى ملفقة، فإن تكرار لوقا لا يضيف مصداقية. بالإضافة إلى ذلك، يعتمد "معيار الإحراج"* على معرفتنا لما حدث عكس التيار. لكن الكنيسة كانت متنوعة عندما كتبت الأناجيل، ولا يمكننا التأكد مما قد يحرج مؤلفيها. على سبيل المثال، غالبًا ما يُزعم أن الإنجيل ذهب إلى حد إظهار أن الصلب تم التنبؤ به في الكتب المقدسة العبرية من أجل جعله مستساغًا لجمهور مقتنع بأنه لا يمكن إذلال أي مسيح حقيقي. لكن هذه الحجة يمكن أن تنقلب رأساً على عقب إذا قبلنا أن قصة الصلب قد أدرجت لأن كتبة الأناجيل – بدءاً ببولس – شعروا أنها ضرورية لتحقيق النبوءة. إذا كان الصلب قد تم التنبؤ به، فكيف يمكن أن يكون محرجا؟

فيما يتعلق بالصلب، تجدر الإشارة إلى أنه في حين أن الأناجيل الأربعة المقبولة قد حكمت على يسوع بالموت من قبل بيلاطس البنطي، فإن هيرودس أنتيباس في إنجيل بطرس غير القانوني هو الذي قام بهذا الفعل. لكن في إنجيل توما، لا يوجد ذكر لموت يسوع أو قيامته أو ألوهيته. ووفقًا لللاهوتي أبيفانيوس الذي عاش في القرن الرابع، يعتقد المسيحيون الناصريون الملتزمون بالتوراة (يُعتقد أنهم ينحدرون من المجموعة الأولى من المؤمنين) أن يسوع عاش ومات في عهد الملك ألكسندر جانيوس (10-76 قبل الميلاد) - قرن من الزمان.قبل بيلاطس البنطي. ويوافق التلمود البابلي على ذلك، مشيرًا إلى أن يسوع أُعدم رجمًا و"شنقًا" في مدينة اللد (وليس القدس) بتهمة "الفجور والشعوذة وعبادة الأوثان". ولذلك، حتى عندما يتم استيفاء "معايير الأصالة"، فمن الصعب التوصل إلى إجماع تاريخي.

بدأت المحاولات الأكثر تضافراً لفصل الحقيقة عن الخيال في عام 1985، عندما جمع عالم اللاهوت الكاثوليكي الراحل بوب فانك مجموعة من الباحثين العلمانيين في أغلبهم. حيث تجتمع "ندوة يسوع" لفانك مرتين سنويًا لمدة 20 عامًا "للبحث عن يسوع التاريخي". عند إطلاقها، قال فونك إن المجموعة "ستقوم ببساطة وبدقة بالتحقيق في صوت يسوع وما قاله حقًا". استخدم هؤلاء العلماء (الذين بلغ عددهم أكثر من 200) "معايير الأصالة" لتقييم أفعال يسوع وكلماته كما رويت في الأناجيل.وبعد العديد من الندوات، وبعد الكثير من النقاش، خلصوا إلى أن يسوع كان واعظًا يهوديًا هلينستيًا متمردًا، والذي روى القصص في الأمثال وتحدث ضد الظلم؛ أنه كان لديه أبوان أرضيان؛ وأنه لم يصنع معجزات، ولم يمت من أجل خطايا الناس، ولم يقم من بين الأموات. تم تحديد صحة أقواله وأفعاله من خلال تصويت جماعي. تمت دعوة العلماء لوضع خرزات بلاستيكية في صندوق: حمراء (ثلاث نقاط) إذا قالها يسوع؛ الوردي (نقطتان) إذا كان من المرجح أن يقول ذلك؛ الرمادي (نقطة واحدة) إذا لم يفعل ذلك، لكنه يعكس أفكاره؛ أسود (صفر) إذا تم اختراعه. وعند حسابها، كانت هناك خرزات سوداء أو رمادية تمثل 82% من أقوال يسوع الكتابية، و84% من أفعاله.

تعتبر هذه الأساليب غريبة في أحسن الأحوال من قبل العلماء الذين يبحثون عن شخصيات تاريخية غير كتابية. أحد الأشخاص الذين أجريت معهم مقابلات كانت كاثرين إدواردز، أستاذة التاريخ القديم والكلاسيكي في بيركبيك، جامعة لندن، التي قالت إن بعض مؤرخي العالم القديم يميلون نحو الشك: - "على سبيل المثال، لا يمكننا أن نعرف حقًا أي شيء عن المرحلة الأولى من التاريخ الروماني بما يتجاوز ما تم استخلاصه من الأدلة الأثرية" - بينما يميل آخرون نحو "المصداقية القصوى". ولكن، حتى بين تلك المعايير، فإن "معايير الأصالة" ليست أداة مألوفة. وأضاف أن أسلوب الخرز الملون "يبدو ساذجًا وساذجًا إلى أقصى حد حيث يضع العلماء افتراضات حول شخصية فرد قديم معين وعلى هذا الأساس يقررون ما يعتقدون أنه (دائمًا) ربما قاله أو لم يقله".

قال هيو بودين، أستاذ التاريخ القديم في كلية كينغز كوليدج في لندن، إن هناك أدلة على وجود سقراط وبريكليس أكثر من وجود يسوع، ولكن "هناك أدلة أقل بكثير". إن التركيز على يسوع التاريخي "ليس له نظير حقيقي في مجالات أخرى، لأنه متجذر في المفاهيم الطائفية المسبقة (المسيحية المبكرة مهمة لأن المسيحية الحديثة مهمة) حتى عندما يدعي العلماء أنهم لا يتأثرون بالمعتقدات الدينية الشخصية". لن يجد المؤرخون في المجالات الأخرى هذا السؤال مهمًا جدًا.

يعتقد المتشككون أن يسوع كان شخصية أسطورية تم تأريخها فيما بعد إذا استبعدنا هذه المفاهيم المسبقة، فيبدو من الحكمة أن نتعامل مع تاريخ الأناجيل بحذر وندع الشك يوجه تساؤلاتنا. بدأ الإنجيل الأول، إنجيل مرقس، بعد ما يقرب من نصف قرن من خدمة يسوع (وآياته الأخيرة بعد ذلك بكثير). ربما كان أتباع يسوع الناطقون بالآرامية أميين، ولم يكن هناك مراسلون يدونون الملاحظات. إن احتمال أن تكون كلمات يسوع قد دُوّنت بدقة من قبل كتاب لم يلتقوا به قط والذين ألفوا قصصًا خيالية بشكل متزايد مع مرور العقود تبدو بعيدة.

أحد العلماء الذين حضروا ندوة يسوع ومع ذلك كانت لديه مثل هذه الشكوك هو روبرت برايس، وهو أستاذ محترم للعهد الجديد وحاصل على دكتوراه في "لاهوت النظام" وقس معمداني سابق تحول إلى ملحد. شكك برايس في المنهجية المستخدمة في إثبات التاريخ، مما دفعه إلى التساؤل عما إذا كان يسوع قد عاش على الإطلاق. وقال: "إذا كان هناك يسوع تاريخي، فهو لم يعد موجودًا"، وكتب لاحقًا، "ربما كانت هناك شخصية حقيقية هناك، ولكن لم تعد هناك طريقة للتأكد بعد الآن".

أصبح برايس رمزًا لمجموعة هامشية من المتشككين في "أسطورة المسيح" - المؤرخين الذين يقترحون أن المسيحيين الأوائل، بما في ذلك بولس، آمنوا بمسيح سماوي، وأنه تم وضعه في التاريخ من قبل كتبة الأناجيل في الجيل التالي. لذلك، في حين أن معظم المائتين يعتقدون أن يسوع كان شخصية تاريخية أسطورية من قبل كتبة الأناجيل، فإن المتشككين يعتقدون عكس ذلك: لقد كان شخصية أسطورية تم تأريخها لاحقًا.

كانت مثل هذه الأفكار موجودة منذ قرون. كان توماس باين من أوائل المتبنين لهذه النظرية، لكن الفيلسوف الألماني برونو باور في القرن التاسع عشر هو الذي قدم النظرية بأكبر قدر من الجدية. اعترف باور، وهو ملحد، بأن موضوعات الإنجيل هي أدبية وليست تاريخية، بحجة أن المسيحية لها جذور وثنية وأن يسوع كان مخلوقًا أسطوريًا.

في العقود الأخيرة، أصبح من المقبول على نطاق واسع من قبل العلماء العلمانيين أن الكتاب المقدس العبري (العهد القديم) هو أسطورة أكثر منه تاريخ. على وجه الخصوص، كتب عالم الآثار الإسرائيلي إسرائيل فينكلستين وزميله الأمريكي نيل آشر سيلبرمان في كتابهما "كشف الكتاب المقدس" (2002) أنه لم يكن أي من البطاركة، من موسى ويشوع إلى الوراء، موجودًا كشخصيات تاريخية؛ وأنه لا يوجد سجل عن استعباد اليهود في مصر (بدلاً من ذلك، ينحدرون من الكنعانيين)؛ وأن داود وسليمان كانا أمراء حرب وليسا ملوكًا؛ وأن الهيكل الأول بني بعد سليمان بثلاثة قرون. ولكن الرأي القائل بأن الكتاب المقدس المسيحي يفتقر على نحو مماثل إلى المصداقية كان، حتى وقت قريب، موضع خنق من قِبَل أولئك الذين يدعمون يسوع من لحم ودم. قد يكون أحد أسباب جوقة الإجماع مرتبطًا بحقيقة أن المناصب الثابتة في الأقسام التي تتعامل مع تاريخ الكتاب المقدس لا يتم تقديمها لأولئك الذين يشككون في أن يسوع كان حقيقيًا. ومن ثم فإن إحياء معسكر "الشك" يدين بالكثير إلى شبكة الإنترنت، فضلاً عن الحماسة التبشيرية التي يتمتع بها مؤيدوه الأساسيون.

بدأ الزخم يتكاثف في التسعينيات مع سلسلة كتب لإيرل دوهرتي، وهو مؤلف كندي أصبح مهتمًا بالكتاب المقدس أثناء دراسته للتاريخ القديم واللغات الكلاسيكية. جادل دوهرتي بأن بولس وغيره من الكتاب المسيحيين الأوائل آمنوا بيسوع ليس كشخصية أرضية، بل ككائن سماوي صلبته الشياطين في العوالم السفلية من السماء ثم قام الله بإحيائه. تم رفض وجهات نظره (ومن المفارقات أنها كانت الأكثر دينية في الظاهر لأنها كانت روحانية تمامًا) من قبل علماء يسوع التاريخيين الذين زعموا أن دوهرتي يفتقر إلى الفطنة الأكاديمية لفهم النصوص القديمة. لكن الموجة التالية، والتي شملت برايس، كانت أكثر رسوخًا في الأوساط الأكاديمية.

يعتقد برايس أن المسيحية المبكرة تأثرت بأساطير الشرق الأوسط حول الموت وقيام الآلهة التي نجت حتى العصرين اليوناني والروماني.إحداها كانت أسطورة سومرية، "نزول إنانا"، والتي تحكي عن حضور ملكة السماء جنازة في العالم السفلي، ليتم قتلها على يد الشياطين وتعليقها على خطاف مثل قطعة اللحم. ولكن بعد ثلاثة أيام، تم إنقاذها، وقامت من بين الأموات، وعادت إلى أرض الأحياء.

بالنسبة لعلماء "أسطورة المسيح"، فإن قصة يسوع تناسب الخطوط العريضة للنموذج الأصلي للبطل الأسطوري.

والأخرى هي الأسطورة المصرية عن الملك الإله أوزوريس المقتول. وجدت زوجته إيزيس جسده، وأعادته إلى الحياة، ومن خلال وميض البرق في إحدى النسخ، حملت بابنه حورس الذي يخلفه. يستمر أوزوريس في حكم الموتى. في النسخة اليونانية لبلوتارخ، تم خداع أوزوريس ليقع في تابوت يطفو في البحر قبل أن يجرفه الماء في مدينة جبيل. وهناك تقوم إيزيس بإزالة جسد أوزوريس من الشجرة وإعادته إلى الحياة.

عززت العديد من النصوص اليهودية المتداولة في ذلك الوقت الجوانب المسيحانية لهذه الروايات. على سبيل المثال، يشير سفر أخنوخ الأول (كتاب كتب بشكل رئيسي في القرن الثاني قبل الميلاد، ويحظى باحترام كبير بين الأسينيين، ويعتبر مسؤولاً عن مخطوطات البحر الميت) إلى "ابن الإنسان" (عبارة تستخدم للإشارة إلى يسوع في الإنجيل) والذي سيبقى اسمه وهويته سراً لمنع الأشرار من معرفته حتى الوقت المحدد.

المصدر المفضل لأسطورة المسيح هو صعود إشعياء، المكتوب في أجزاء في القرنين الأول والثاني. يتضمن قسمًا يتناول رحلة عبر السماوات السبع ليسوع غير البشري الذي صلب في سماء سفلى على يد الشيطان و"آرشون" الشيطانيين اللذين يحكمان هذا العالم ولا يعرفان بعد من هو. ومرة أخرى تنتهي القصة بقيامة يسوع من بين الأموات.

يعتقد علماء "أسطورة المسيح" أن الروايات القديمة عن الموت والقيامة أثرت على مؤلفي الأناجيل، الذين استعاروا أيضًا من هوميروس ويوريبيدس والكتاب المقدس العبري. بالنسبة لهم، تناسب قصة يسوع النموذج الأصلي للبطل الأسطوري في ذلك الوقت: المنقذ الروحي الذي قتل على يد "آرشون" قبل أن يقوم منتصرًا. ويزعمون أن المسيحيين اللاحقين أعادوا كتابة يسوع كشخصية تاريخية عانت على أيدي الحكام.

يتمتع  نجم الروك المتشكك ريتشارد كاريير- وهو باحث في الكتاب المقدس - بقدرة حديثة للغاية في استخدام وسائل التواصل الاجتماعي (بعض مقاطع الفيديو الطويلة على موقع يوتيوب اجتذبت أكثر من مليون مشاهد). ويدخل في مناظرات ساخنة مع منافسيه، ويلقي محاضرات ويؤلف كتباً حادة وسريرية ومليئة بالحقائق. وعلى الرغم من  حصوله على درجة الدكتوراه في التاريخ القديم من جامعة كولومبيا وسجله الحافل بالنشر في المجلات الأكاديمية، فإن رفض أوراق اعتماده أقل سهولة من رفض أوراق اعتماد دوهرتي. على سبيل المثال، يدرك إيرمان أن كاريير وبرايس هما باحثان جادان في العهد الجديد.

في وقت من الأوقات، قبل كاريير تاريخية يسوع، لكنه أصبح يحتقر الموقف السائد بسبب ما اعتبره الحالة العلمية السيئة التي تدعمه. استخدم هو ومؤرخ الكتاب المقدس الأسترالي رافائيل لاتاستر نظرية بايز، التي تأخذ في الاعتبار الاحتمالات التاريخية بناءً على توقعات معقولة (مقارنة الأدلة وربط الاحتمالات الرياضية بها)، للتوصل إلى أنه "من المحتمل" أن يسوع لم يوجد أبدًا كشخص تاريخي. على الرغم من أنه "معقول" أنه وجد.

يحصل المدافعون عن "أسطورة يسوع" على قدر كبير من البث، لكن التسمية الهامشية ظلت عالقة، وليس فقط لأن أقسام الدراسات الدينية جمدتهم. وقد تعرضت منهجيتهم الخاصة للانتقادات، وليس أقلها استخدامهم للطرق البايزية ومن الغريب أن كارير قدم ترجيحات لقرائه، وخلص إلى أن احتمال وجود يسوع في الحياة الحقيقية لم يكن أفضل من 33 في المائة. (وربما تصل إلى 0.0008 في المائة) اعتمادًا على التقديرات المستخدمة في الحساب، مما يوضح مدى صعوبة هذا الاستخدام لنظرية بايز.

يقوم كارير ورفاقه بعمل جيد في إحداث ثغرات في أساليب التاريخيين، لكن ما يقدمونه في المقابل يبدو ضئيلًا. وعلى وجه الخصوص، لم يجدوا أي دليل واضح من العقود التي سبقت الأناجيل على أن أي شخص يعتقد أن يسوع ليس إنسانًا. يمكن تفسير كل إشارة في الرسائل على أنها تشير إلى مخلص سماوي، لكن الأمر برمته يبدو وكأنه مبالغ فيه بعض الشيء. يشير بولس كثيرًا إلى الصلب ويقول إن يسوع "وُلد من امرأة" و"جُعِل من نطفة داود حسب الجسد". ويشير أيضًا إلى يعقوب "أخ المسيح". باستخدام هذه الأمثلة، يقول إيرمان أن هناك "دليل جيد على أن بولس فهم يسوع كشخصية تاريخية". وهذا بالتأكيد هو رأي كاتب/كتاب مرقس، وهو إنجيل بدأ بعد أقل من عقدين من كتابة رسائل بولس.

مثل حبة الرمل التي أنجبت روبن هود، طورت قصة يسوع طبقات جديدة مع مرور الوقت

إذا قبلنا هذا الاستنتاج، ولكننا قبلنا أيضًا أن الأناجيل هي سيرة ذاتية غير موثوقة، فإن ما يتبقى لنا هو قشرة تاريخية باهتة لا يمكن تمييزها. إذا كان يسوع قد عاش في الوقت المقبول عمومًا (من 7 إلى 3 قبل الميلاد إلى 26 إلى 30 م) وليس قبل قرن من الزمان كما يعتقد بعض المسيحيين الأوائل، فيمكننا أن نفترض أنه بدأ حياته في الجليل، واجتذب أتباعًا بوصفه واعظا ثم أُعدم. وكل ما عد ذلك  هو اختراع أو غير مؤكد. بمعنى آخر، إذا كان يسوع موجودًا، فإننا لا نعرف عنه شيئًا تقريبًا.

إحدى الطرق للنظر إلى الأمر هي أن نتخيل لؤلؤة تبدأ كحبة رمل، تتشكل حولها طبقات من كربونات الكالسيوم كاستجابة مناعية للمهيج، حتى لا تعود اللؤلؤة تشبه الحبة التي خلقتها. وقد تطورت العديد من الأساطير بهذه الطريقة، بدءًا من أسطورة الشاعر الأعمى هوميروس.

لقد غُرم اللص الخارج عن القانون روبرت هود عام 1225 لعدم مثوله أمام المحكمة في يورك، وبعد مرور عام ظهر مرة أخرى في سجلات المحكمة، وهو لا يزال طليقًا. قد تكون هذه هي حبة الرمل التي أنجبت روبن هود، الذي افترض الكثير من الناس أنه شخصية تاريخية نمت أسطورتها على مر القرون. بدأ روبن كعامل في الغابة لكنه تحول إلى رجل نبيل. تم إدراجه لاحقًا في تاريخ القرن الثاني عشر مع الملك ريتشارد قلب الأسد والأمير جون (الإصدارات السابقة كانت تحتوي على إدوارد الأول)، جنبًا إلى جنب مع مجموعته المتزايدة باستمرار من الخارجين عن القانون. بحلول القرن السادس عشر، كان هو ورجاله المرحون قد تحولوا من الأوغاد المحبوبين إلى المتمردين بقضية "تأخذ من الأغنياء لتعطي للفقراء".

وبالمثل، تطورت قصة يسوع بطبقات جديدة مع مرور الوقت.في بداية العصر الميلادي، ربما كان هناك العديد من الدعاة اليهود المتمردين، وواجه أحدهم الرومان فقتلوه. وسرعان ما نمت أسطورته.نُسبت إليه سمات ووجهات نظر جديدة حتى أصبح أخيرًا الشخصية البطولية للمسيح وابن الله مع مجموعته المكونة من 12 رجلاً غير مرحين. إن حبة الرمل الأصلية أقل أهمية مما يفترضه معظم الناس. المثير للاهتمام هو كيف نمت.

***

.......................

الكاتب: جافين إيفانز/Gavin Evans  كاتب مقيم في لندن، نُشرت أعماله الأخيرة في صحف The Guardian وDie Zeit وThe Conversation وThe New Internationalist وغيرها. تشمل كتبه قراء الخرائط ومهام متعددة: الرجال والنساء والطبيعة والتنشئة (2016)، وقصة اللون (2017)، وعمق الجلد: رحلات في علم العرق المثير للخلاف (2019) وأحدث كتاب له، التفوق الأبيض: من تحسين النسل إلى "الاستبدال العظيم" سيتم نشره هذا العام.

* معيار الإحراج أداة يستعملها علماء الكتاب المقدس للمساعدة على تحديد ما إذا كانت أقوال وأفعال معينة ليسوع في العهد الجديد قد صدرت منه أو من الكنيسة اللاحقة.

ولد جافين إيفانز في لندن لكنه نشأ بشكل رئيسي في كيب تاون. وبعد عام من الدراسة في تكساس، عاد إلى جنوب أفريقيا لينخرط بشكل مكثف في النضال ضد الفصل العنصري في مناصب مختلفة. وعلى طول الطريق، درس التاريخ الاقتصادي والقانون قبل أن يحصل على درجة الدكتوراه. في الدراسات السياسية. عمل كصحفي في العديد من صحف جنوب إفريقيا ومراسلًا أجنبيًا لوكالة أنباء مقرها روما. على مدار الخمسة عشر عامًا الماضية، ألقى محاضرات في قانون الإعلام ونظرية الإعلام والصحافة في قسم الثقافة والإعلام في كلية بيركبيك بجامعة كارديف وفي كلية لندن للصحافة.

 

أو "مقوّمات العيش المشترك" من خلال النص القرآني

يمثل النص القرآني بالتأكيد نصّا كونيا يتجه إلى الإنسانية جمعاء ويخاطب الإنسان في كل أحواله، وحتى إن قصد في بعض آياته فئة المؤمنين، فإنّه يقصدهم كبشر لا يميزهم عن غيرهم سوى الموقف " الإيماني"(وإن كان أصلا لأفضلية قيمية في منطوق النص) ولا يختلفون في البشرية عن غيرهم في شيء. من هنا فإنّ المطلب الأسمى للنص القرآني هو مستمع كوني، هو الإنسان في كليته. يخترق النصَّ القرآني إذن تصور للإنسان أو رؤية " إنسانوية" تتحدّد معالمها في النص ككلّ. ويمكن أن نتقصّى هذه الرؤية من خلال فكرة ناظمة هي " الاستخلاف. يتحدّث النص القرآني عن الإنسان بوصفه " خليفة في الأرض" (" إني جاعل في الأرض خليفة" الآية 30- البقرة) ويقرن "الاستخلاف " بالإنسان في جميع مستويات وجوده. محدّدا شروط هذا الوجود وغاياته ومسار تحقّقه .

ماذا يعني الاستخلاف؟

الاستخلاف لغة " الوكالة والنيابة " أي " إقامة الغير مقامه ليقوم بعمله نيابة عنه.". أما اصطلاحا فهو:" إظهار الإنسان لربوبية الله تعالى في الأرض بالعبودية والعبادة، يقول الماتريدي في تأويلات أهل السنة ج1 "ّوجائز أن يكونوا خلفاء في إظهار أحكام الله ودينه". (صبري محمد خليل" الأبعاد السياسية لمفهوم الاستخلاف).

مقومات الاستخلاف وشروطه:

لا يستقيم الاستخلاف في الأرض إلا وفق شروط. وهو ما يعني أنه ليس مجرّد " الوجود" أو حدثا أنطولوجيا فحسب، بل هو" تكليف" أو " مسؤولية" تلقى على عاتق الإنسان، أو كما جاء في القرآن " أمانة " تودع لدى الإنسان أو يُحمّلها الإنسان، ليضطلع بها بوصفه كائنا ليس قادرا على ذلك فحسب، بل جديرا به. من هنا كان الاستخلاف " مهمّة" أو " مشروعا " أعدّ الإنسان " لأجله، ويفترض مسلمات ويقتضي بحكم كونه " مبنيا منشأ لا " معطى" شروط إمكان وأسبابا كي يتحقّق وهي:

- كمال القدرة و المعرفة للمُستخلِف:

" إنّي جاعل في الأرض خليفة.." الآية): إرادة المُستخلِف المطلقة في " إيجاد " الإنسان خليفة في الأرض. وتمام معرفته بالاستخلاف (كنها ومعنى وغاية) و بحقيقة الإنسان المستخلَف (ماهية وقدرة). جاءت الآية " إني جاعل في الأرض خليفة" بصيغة تقريرية. لتثبت حقيقة الاستخلاف كأمر إلهي نابع من إرادته اللامتناهية ومن معرفته التامّة. فالاستخلاف قول إلهي مطلق وقول إنجازيّ كينوني " كن". ولذا ورد القول الإلهي للملائكة("وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل ..") في صيغة الإخبار بـ"القرار" الإلهي المطلق. تنبيها إلى لزوم الامتثال للأمر وترجمته بالسجود " فخروّا له ساجدين"، اعترافا بالربوبية، وتكريما للخلق الإلهي، "الإنسان" بعضا من روح الإله " ونفخت فيه من روحي "..(الآية 29 سورة " الحجر: ").

- جدارة الإنسان المستخلَف بالخلافة (الإنسان كقيمة):

الاستخلاف أمر إلهي نابع من أصل مقدّس للتشريع أو التأسيس، لتأسيس الوجود والقيمة، وجود المستخلف ولجدارته بالاستخلاف. وهذا يعني أن الإنسان/ الخليفة جدير بالخلافة في معرفة الله التامة . فهو أعلم بمن خلق.("ألم أقل لكم إني أعلم غيب السماوات والأرض." الآية 33 البقرة) ولا يصدر عن كامل إلاّ ما تجدر نسبته إليه. ولا يكون المستخلَفُ إلاّ قيمة من صنع المستخلِفِ. الإنسان بوصفه خليفة، قيمة في حد ذاته وهو بالتالي غاية قصوى للاستخلاف. يستتبع هذا سموّ المنزلة الإنسانية عن سائر الموجودات. واعتبار الاستخلاف تشريفا و تكليفا للإنسان في آن واحد. بموجب كونه وسيلة وغاية في ذات الوقت.

- امتلاك المستخلَف مؤهلات الاستخلاف أو شروطه: العقل (الوعي) والحرية:

استحقاق الخلافة تقوم على امتلاك الإنسان العقل كقدرة على الاستكشاف وإرادة امتلاك الحقيقة والمعرفة. امتلاك العقل، تحمّل الإنسان مسؤولية " المعرفة" بوصفها أصلا للقدرة على الفعل والإنجاز وبالتالي على " تحقّق "الاستخلاف واستكماله. لا يكون الاستخلاف إلا لعاقل قادر على المعرفة والفعل والقول حتى يستطيع إعمار واستعمار الكون والتصرف فيما استخلف فيه، وهو قادر على السيطرة على " الموجودات"، لأنّه بامتلاكه العقل يقدر على " التسمية"، أي تمثّل الأشياء وكل الموجودات بالاستعاضة عن وجودها الحسي المباشر بـ"أسماء"، هي علامات ورموز، وحده الإنسان قادر على ابتكارها لامتلاكه " القدرة على التخيّل " وهي إحدى ملكات " العقل" (" وعلم آدم الأسماء كلها " الآية 31 البقرة). غير أنه لا يمكن أن يكون العاقل قادرا على الفعل والإنجاز إلاّ إذا سلمنا بحريته بوصفها امتلاك الإنسان إرادة الفعل أو عدمه والقدرة على إنجازه أو الامتناع عنه. فالمستخلَف بالضرورة واع وحرّ. ويشكّل الوعي (أو العقل) والحرية مقوّمَا "إنسانيته الاستخلافية" والأصل الإنساني في استحقاقه الخلافة في الكون. يفترض الاستخلاف استئمان الإنسان على العقل والحرية وبالتالي على ماهية" الإنساني" فيه كإنسان. فالإنسان أمانة نفسه وهو مسؤوليته التامّة التي قَبِل تحمّلها وبها تميّز عن سائر الخلق " إنا عرضنا الأمانة على الأرض والجبال فأبين أن يحملنها وحملها الإنسان .." (الآية 72 الأحزاب.).من هنا فإنّ ماهية الإنسان أو الإنساني في الإنسان يتمثّل في " استخلافيته". إن تحقق الإنسانيّ واستكماله إذن، يطابق تحقّق و استكمال خلافته في الأرض. يعني الاستخلاف بهذا، مسؤولية العمل و " السعي " والكدح" (" أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه " الآية 6 الانشقاق)، و" أن ليس للإنسان إلا ما سعى " الآية 39 النجم)، وأنّ تاريخ الإنسان على " الأرض" ليس سوى مسار استخلافه فيها. مسارا تتحدّد بدايته ونهايته من جهة " الاستخلاف"، بوصفهما بداية تجسد الاستخلاف و استكماله (نهاية التاريخ الإنساني). يبني الإنسان إذن بالعقل والحرية مسار استخلافه أي مسار تاريخه ككائن إلهي الأصل أو ككلمة إلهية نافذة لإرادته المطلقة. " إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون" (الآية.40 النحل). ولا ينفي الاستخلاف للإنسان مسؤوليته التاريخية في " الوجود في العالم" ككائن قادر على الفعل والتغيير فيه على الوجه الذي يجعله مستكملا لإنسانيته كخليفة جديرا بما حمل من أمانة العقل والحرية. فضلا عن أنّ استئمان الإنسان على نفسه والعالم إذ يفترض وعيا وحرية، فإنّه يحتمل إمكان " خيانة المؤتمن" بقدر ما يحتمل أداءه لحقها." قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء " (الآية 30 البقرة). ومن هنا كانت مسؤولية الاستخلاف ومشروعية " الحساب"، أي تقدير نتيجة المسار التاريخي للإنسان كخليفة في الأرض ممّن كان الأصل في الاستخلاف للإنسان و" استحقاقه" لذلك، وممن يمتلك بالتالي جدارة " المحاسبة" أي المستخلِفُ. جاء في القرآن قوله تعالى:" ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون" (الآية 129 من الأعراف) وهو ما يفيد أن الاستخلاف امتحان للإنسان، " هبة " وفرصة " رهانها إثبات جدارة الإنسان "بالخلافة " على الأرض.

- مجال استخلاف: "الأرض" بوصفها فضاء الاستخلاف وشرط إمكانه " المادّي" " إني جاعل في الأرض خليفة" (الآية).

وتتحدّد الأرض هنا بوصفها " العالم الكوسمولوجي الفيزيائي" الذي اختاره المستخلِف عالم حضور للإنسان ومجال تجسيد " الخلافة" . إنّ اختيار " الأرض" تعيين للمقوّم المادّي للفعل، الفعل في الأرض " وإذا ضربتم في الأرض.."(الآية 101 النساء)، أي سافرتم أو انشغلتم بما يفيد تعمير الأرض وتغييرها على نحو يجسد فيه الإنسان قدرته كذات وبالتالي جدارته كخليفة، ويجعل " الأرض" عالما ملائما" للعيش" والبقاء ضمن حدّي المكان والزمان بوصفهما شرطين فيزيائيين للوجود الحسّي. وكون " الأرض" فضاء للاستخلاف، يفترض أنها " مهيأة " بخلق إلهي مسبق لاحتوائها أو لاستقبالها حضور هذا "الخليفة". مهيأة في معنى كونها تتضمن الشروط الحيوية للبقاء المادّي للإنسان وقابليتها لاحتواء الفعل والتغيير والخلق والابتكار بوصفها موضوع "تسخير"، موضوع "ائتمان" لدى كائن مريد وواع يملك القدرة على التصرّف فيها وفق ما لديه من ملكات ذهنية وجسدية ووجدانية. جاء في القرآن: " وهو الذي أنشأكم في الأرض واستعمركم فيها " (الآية 61 هود)،" هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا فامشوا في مناكبها" (الآية 15 الملك) ينتج عن هذا ضرورة أن تكون "الأرض" بمعنيين: " الأرض" بوصفها العالم الكوسمولوجي، شرطا ماديا للاستخلاف، و" الأرض" بوصفها " العالم الإنساني " أي " عالم تحقّق الاستخلاف" (" الأرض" كفضاء لصنع الإنسان وابتكاراته من " الأشكال الرمزية" المتعدّدة والمتنوّعة، والتي " يعيش ضمنها وبها، بوصفه " إنسانا" ويحضر من خلالها حضورا متميّزا عن سائر " الموجودات "(من حيوان ونبات الخ) التي تشاركه الوجود في العالم ولكن لا " تسكنه"، أي لا تحضر فيه حضورا رمزيا ذي دلالة. تشير الأرض" إلى العالم في ازدواجيته: عالما نوجد فيه وعالما " نعيش فيه"، عالما حسيّا نحسّه ونفعل فيه وننفعل به وعالما رمزيا نتذهّنه ونقيم فيه (عالم الثقافة والحضارة). إنّ " الأرض" هي (العالم) محل إقامة الإنسان " الخليفة"، فيها يجسّد " إنسانيته" في أبعادها " الوجودية والمعرفية والعملية والنفسية الخ وفيها يحقّق رمزيا حضور " المستخلِفِ" ويتحقّق معنى الاستخلاف عبر ما يصنعه هذا الإنسان بوصفه " إلهيّ" الأصل و إلهي المنتهى " أيها الإنسان إنك كادح إلى رب كدحا فملاقيه" . (الآية). يستتبع هذا، أي اعتبار الأرض مستقرّا للمُستخلف:

- عرضية الاستخلاف أي كونه منته، ينتهي بانتهاء موجباته ويزول بزوال شروط تحقّه:

حلول الساعة، حيث تطوى الأرض طيا، ويصير عاليها سافلها، أي حينما تبدل الأرض غير الأرض وينتهي التاريخ ويحلّ موعد " الحساب" أي التقييم لمسار الاستخلاف ومسؤولية الإنسان فيه.

- فسح المجال للأبدية:

الوجود المطلق والمقام الأبدي (جنة الخلد أو الجحيم الأبدي) وهو ما يعني العود إلى " الله"، الوكيل صاحب قرار الاستخلاف.

- مضمون رسالة الاستخلاف:

 الاستخلاف مهمّة الإنسان في العالم ورسالة عليه أداءها بتجسيد مضمونها أي مقاصدها بما هي:

- إعمار الأرض، إقامة " العمران البشري" وصناعة التاريخ الإنساني: إثباتا لاستحقاقية الإنسان للاستخلاف ونفاذ الإرادة الإلهية في الوجود بتجسيدها عبر الفعل البشري في العالم .أي تغيير وجه الأرض إلى الأفضل، أي على نحو يجعلها " مقاما حسنا للإنسان ولسائر الخلق" وذلك بالتصّرف فيما تهيّأ فيها من خلق وفق سنن الكون وعلى أساس ما استكشفه الإنسان منها وما حصّله من معارف عنها وعن نفسه.

- العبادة: في مستوى علاقة المستخلِف بالمستخلَفِ (الإنسان بالإله):عبادة الإله " وما أمروا إلاّ ليعبدوا الله مخلصين له الدين" (الآية 5 البيّنة) " وما خلقت الجن والإنس إلاّ ليعبدون" (الآية 56 الذاريات) . وتعني العبادة هنا اعتراف المخلوق للإله الخالق بكمال قدرته ومعرفته وتكريمه الإنسان وتشريفه وتكليفه بمهمّة الاستخلاف. وترجمة هذا الاعتراف بطاعته.(بعبادته).

- التعارف: بما هو مقصد الاستخلاف في مستوى علاقة الإنسان بالإنسان: " يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا" (الآية 13 الحجرات). ويعني التعارف " لقاء الإنسان بالإنسان " على صعيد المشترك وهو " الإنسانيّ" بوصفه ماهية أو كليةّ أو كونية جامعة تصل الإنسان بالإنسان بغضّ النظر عن اختلافه وتنوّعه. يعني التعارف بهذا المعنى تواصلا إنسانيا على جميع الأصعدة " الأنطولوجية والثقافية والنفسية والمعرفية الخ، أي على جميع أصعدة الإنساني . يقتضي التعارف اعترافا أي قبول الإنسان لشبيهه في الإنسانية وقبوله " اختلافه عنه" وربما غرابته أو بالأحرى " غيريّته" . ومعنى القبول هنا (التعارف) هو " التسامح" مع الآخر المختلف والمغاير.

- الارتقاء بالإنساني قيميا وروحيا: " إنّ أكرمكم عند الله أتقاكم" (الآية 13 الحجرات) وهو ما يعني تحقيق " الكرامة الإنسانية " كقيمة على أساس " التقوى" أي " خشية الله" والتقرب إليه بـ"العبادة" ووجه التقرب هنا لا ينحصر في أداء " الفرائض" (من صلاة وغيرها..)، بل يتعدّاه إلى " الإحسان" لخلق الله (من سائر الموجودات) أو " الاستقامة"، "إن الذين قالوا رّبنا الله ثمّ استقاموا.." (الآية30 فصلت). وتعني الاستقامة التصرّف (مع الذات وسائر الخلق) وفق ما تقتضيه الفطرة التي فطر الله الناس عليها، أي وفق " مستطاع" البشر وما يحفظ "كرامتهم" كبشر، أي وفق " قيم" إنسانية، هي على وجه العموم " الحقّ والعدل والخير " (أسس الكرامة الإنسانية) وما يتفرّع عنها أو يدور في فلكها من قيم جامعة هي غايات قصوى للفعل البشري(من قبيل المساواة و الإحسان والإخاء الخ)، يرتقي بها الإنسان إلى " الإلهي" ويحصّل بمقتضاها " جدارته كخليفة في الأرض" وكمخلوق إلهي.

-  الحفاظ على " النوع البشري"، بل الحفاظ على سائر " المخلوقات" (" تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوّا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين" (الآية 83 القصص) " ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها" (الآية 85 الأعراف) ..وهذا يعني " احترام" " الموجودات، " الكائن الحيّ" (نباتا وحيوانا) وتقديس " الحياة" على الأرض على أساس " اعتبار الوجود أو الخلق أو الكون " فضلا إلهيا أو " نعمة" على الإنسان خاصّة، تستوجب " الشكر" على وجه " التمتّع" بها بقدرٍ لا يلحق فيه أذى للذات والآخرين، بل يحفظ البقاء ويحسّنه ("وأما بنعمة ربك فحدّث " الآية 11 الضحى)، والحفاظ عليها ورعايتها، (على وجه الأمانة) اعترافا بعلوّ مانحها وقدسيته والخشية من " نقمته" على العابث بها (كفرا بالنعمة وظلما لصاحبها) .

الاستخلاف والاختلاف:

لا يستقيم القول بالاستخلاف دون التسليم بالاختلاف مقوّما رئيسيا له. فالاختلاف خاصية الخلق " يا أيها الناس إنا خلقناكم ..." الآية " وقوله:" ولو شاء ربك لجعل الناس أمّة واحدة ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم". (الآية 118- 119 هود) . ولما كان الاستخلاف يفترض وجود المستخلَف، مخلوقا مؤهّلا بخلقه بالذات على هيئة مخصوصة، وفق ما شاء خالقه، لاستخلافه على الأرض، كانت العلاقة بين الاستخلاف والاختلاف علاقة " تأسيسيّة"، علاقة الشرط بالنتيجة. فلأنّ الإنسان كائن متكثّر، مختلف " في اللون واللسان" (واختلاف ألسنتكم وألوانكم.. الآية)، اختلافا فيزيولوجيا وثقافيا أو طبيعيا وثقافيا، كان بالإمكان أن يُستخلف على الأرض التي يفترض ضرورة أن تكون هي الأخرى مناسبة لهذه المهمّة باختلاف وتنوع خلقها ... أي فضاء أو مجالا يتميّز بالتنوّع الكوسمولوجي والفيزيائي أو الطبيعي مهيئا على نحو يمكنه من أن يستقبل الاختلاف والتنوّع البشري فيتحقّق شرط إمكان الاستخلاف. تحكم العلاقة بين الاستخلاف والاختلاف إذن معقولية أو منطق خاص، منطق توافق الغاية والوسيلة أو منطق تطابق الوجود والمعنى. فالاختلاف بوصفه خاصية الخلق أو سمة الموجود الأرضي وغيره الحامل للمعنى. " ربنا ما خلقت هذا عبثا" (الآية 191 آل عمران). وهذا يعني أن الاختلاف ليس غاية في ذاته، من جهة الوجود، بل هو شرط للاستخلاف. والمشاركة لغويا، للاختلاف والاستخلاف " في جذر " خَلَفَ"، دليل على وحدة الانتماء المفهومي (للاستخلاف والاختلاف) إلى حقل مشترك ضمن مفاهيم أخرى مجاورة كالتنوع والخصوصية والكثرة الخ ومفاهيم أخرى نقيض كالوحدة والتماثل والتطابق والتماهي الخ. وقد جاء في القرآن استخدام اشتقاقات الجذر " خَلَفَ " في صيغ عديدة بحسب السياقات: بصيغة الفعل " خلف" واسم الفاعل والمفعول، فردا وجمعا الخ (خَلَف واستخلف ومستخلف وخليفة وخلْف خلائف ومستخلفين الخ). بدلالات مختلفة حسب السياق.غير أن جميعها يعني الإنسان بوصفه الكائن الوحيد (الواعي والحرّ) و" المكلّف" الذي ينطبق عليه " معنى الاستخلاف" بما هو "تكليف".

يبدو الاختلاف إذن شرط إمكان الاستخلاف. من حيث هو خاصية " الخلق". فالمخلوق متكثّر مختلف بالضرورة قبالة " الخالق" واحدا أحدا. فمن " الواحد" يصدر المتعدّد المختلف. والإنسان مخلوق كسائر المخلوقات متكثر متعدّد بحكم أنه خلق إلهي، خلق الواحد". وإذا كان الإنسان قد بدأ " فردا"، "وحدة"(آدم)، فقد كان " وحدة متكثّرة"، يحمل في ذاته تعدّده "وهو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها (أي النفس) زوجها (التعدّد)"(الآية 89 الأعراف). " وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا" (الآية 19 يونس). من هنا فالأصل في الإنسان كونه وحدة " متفرّدة" تتعدّد وتختلف تتماثل وتتشابه (الزوج: آدم وحواء ثم البشرية أزواجا متكثرة، متنوعة متشابهة متفردة الخ). هي الوحدة والتماثل إذن و التعدّد والاختلاف.. في علاقة جدلية، "مركّبة" تجعل الوحدة متكثرة والمتكثّر وحدة. ولأنّ الأصل في الخلق البشري الاختلاف والتنوّع كان " التوحيد " مطلب الإنسان. لكن، لا توحيدا بمعنى " تجميعا" بل بمعنى " مشاركة" على أساس " التجانس" في الخلق (الانتماء إلى الجنس الواحد، الجنس البشري)، والتجانس الثقافي (الانتماء إلى خصوصية ثقافية، إلى ثقافة مشتركة: لغة ودين ومعرفة ...). يقوم " التوحيد" على معنى " الاختلاف"، توحيد " المختلف، المتعدّد والمتكثّر، ويشرط " الاختلاف إذن فعل " المشاركة" و" التقاسم"، تقاسم " المشترك" الذي لن يكون ممكنا إلا بما هو فعل كائن مختلف بالضرورة. وإلاّ كانت الوحدة المطلقة والثبات المطلق وهي صفة " الواحد"، مطلق الوحدة وهو " الإله"، الذي لا يُشارك ولا يشترك ولا يقبل أن يشرك به. أمّا الإنسان، مخلوقا يتسم بالاختلاف والتنوّع والتعدّد، فلن يكون إنسانا، ومن باب أولى لن يكون " إلهي النسبة"، إلا " بالمشاركة"، مشاركة " الإنسانيّ أي ما يميّزه كإنسان. ذلك أنّه يحمل في ذاته كفرد، "كوحدة" أو هوّية، وحدة بيولوجية (نظام عضوي") ووحدة نفسية (بنية نفسية) ووحدة " أنطولجية (موجودا وكيانا ومنزلة خاصّة) ووحدة اجتماعية (فردا، عنصرا ضمن جماعة) ووحدة ثقافية (هوية ثقافية فردية)الخ ...، فردا يحمل في ذاته موجب " المشاركة" أو " الحاجة" إليها وهو " النقصان": متمثّلا في " الرغبة" والحاجة وفي " الميل إلى " والنزوع إلى " أو الهوى ...أي عناصر غريزية " طبيعية"، تعبّر عن " الجسد "، جسد الفرد " الواعي"، يعقل ويتعقّل ويتحكّم بعقله وإرادته في هذه " العناصر"، التي " تقاوم " بدورها، جهده" هذا بفعاليتها الذاتية التي تستمدّها من نظامها الغريزي الخاص. بهذا المعنى ينكشف الإنسان كائنا يتّسم " بالقصور" والمحدودية، بالنقصان". ولأجل هذا يسعى " لكماله"، أو بالأحرى " لاكتماله "، على صعيد " منزلته الإنسانية " من جهة الفكر والقول والفعل والوجود والقيمة. غير أنّه لن ينال هذا " الاكتمال " بمفرده، مهما كانت قدرته واستعداداته، بحكم عدم التناسب مبدئيا بين " النقصان والكمال"، وبحكم كون " الفردية " هي مسار " تفرّد " لا محدود هو " دوما في حاجة إلى ..الآخر، فلئن كانت  الفردية "وحدة" كما أسلفنا، فهي تحمل في ذاتها " ميلا" إلى الانقسام والتكثّر وبالتالي، ميلا " إلى " آخر غيرها، إلى الآخرين. في هذا المعنى قيل عن الإنسان " بأنه مدني بالطبع" (أرسطو). يميل إلى الاجتماع بغيره، إلى الأنس والتآنس والعيش مع الآخرين وبالتالي إلى " المشاركة "، سعيا إلى تحقيق، لا " حاجته" المادية فحسب بل اكتماله " الأخلاقي "، أي " إنسانيته " بأبعادها المادية والروحية . من هنا، كانت العلاقة بين " الاختلاف" و" المشاركة" وبالتالي بين " بين " الاستخلاف " و" المشاركة": فلا يستقيم " الاستخلاف" دون " مشاركة " المستخلفين فيما استخلفوا "عليه" و" فيه "، أي دون " تقاسم" المشترك بينهم جميعا وهو " الأرض" أو الفضاء أو المُقام آو " الكون" بما فيه من "موجودات "، ثم " المشترك" الإنساني" ممّا يملكه الإنسان بوصفه " موجودا" ذي خصوصية يختلف بموجبها " ذاتياّ " ويتنوع في" ذاته"(ويتعدّد كفردية ..) ويختلف عمّا دونه من سائر المخلوقات. تتحدّد المشاركة بوصفها مقصدَ" الاستخلاف" أو غايته، أي بوصفها شرط تحقّق الدلالة الإنسانية للاستخلاف، من حيث هي " الجهد في العيش معا" أو في " التعايش" (التعارف في الآية)، أي في السعي إلى جعل " الاختلاف" "رحمة" كما جاء في القرآن والسنة " ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربّك" (هود. الآية 118 -119) (" اختلاف أمتي رحمة" – حديث) . وتتجسّد "الرحمة" هنا أوّلا في حفظ " النوع الإنساني" على الأرض بتحريم " قتل النفس" والدعوة إلى " الفعل والسعي والجهد والحركة .." أي الجهد في حفظ الكائن لوجوده "، إلى " الحياة " التي لن تكون ممكنة إلاّ بما هي " اختلاف" يجهد في أن يدرك " التوحيد" بفعل " المشاركة " و" التقاسم" الخ. كما تتجسّد " الرحمة " ثانيا في "خلق شروط تحقق " الإنساني" والحفاظ عليها ورعايتها وهي " التعارف" و" التقوى": - التعارف بين البشر ("يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا" الآية) . والتعارف كما أسلفنا يعني التقاء الإنسان بالإنسان في اختلافه الثقافي والحضاري؛ التقاء لن يكون ممكنا إلاّ بالاعتراف " بالاختلاف" واقعا وحقّا وحاجة إنسانية بالذات. وانتفاء هذا الاعتراف الذي يعني تحوّل " الاختلاف " إلى " خلاف"، إلى نزاع، إلى علاقة عنف تقصي " الحق" وتحل محلّه " القوّة" أو بالأحرى العنف كعلاقة بين البشر وخاصّة " كمعيار " أو أساس " للحق"، ليصبح " الحقّ للأقوى". حينها تنتفي أسباب " التعايش " و " التعارف" واللقاء عبر " الحوار " والتعاطف الخ. أي تنتفي شروط إمكان تحقّق " الاستخلاف" بوصفه " مقوّما " لتحقّق الإنساني الكوني، أي انتهاج سبيل" الفساد" أو الإفساد في الأرض الذي أشارت إليه الملائكة (قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء .." الآية) – أما التقوى: فتعني " الوقاية" والتوقّي " مما يسلب الإنسان إنسانيته " فيحوّله إلى ما دونه " أي شيئا" أو " حيوانا"..(إنهم كالأنعام..."الآية44 الفرقان) . وذلك بتجسيد " الاعتراف " أو بالأحرى " الشهادة" ّ بوحدانية الخالق وربوبيته عبر " العبادة" سلوكا أو فعلا (أي " الإيمان والعمل ") دون التأكيد على شكل" الطقوس" كممارسة تجسّد هذا " الاعتراف"، مادام يعني " إقامة علاقة بين الإنسان والإنسان وبين الإنسان وسائر المخلوقات على أساس هذا الاعتراف والشهادة؛ علاقة ترد " الاختلاف" إلى " الواحد "، إلى " الخالق" (أيها الناس إنّا خلقناكم... الآية)، إلى أصل واحد للوجود و " للشرعية " والجدارة والحكم بمعنى التقييم ..(فإن تنازعتم في شيء فردّوه إلى الله والرسول..." الآية 59 النساء). هذا المعنى الجامع "للتقوى" لا يجعلها بالضرورة مقتصرة " على العبادة في دلالتها الدينية " فحسب، (فهذا معنى جزئي) بل يتعدى إلى دلالة كونية كلية تعني " الإحسان" في كلّ شيء، أو إن شئنا " فعل الخير" الذي لا يقدر عليه سوى الإنسان ولن يكون إنسانا بدونه . من هنا كان شرطا " لكرامته"، لحرمته الذاتية كإنسان (إن "أكرمكم عند الله أتقاكم" الآية). فالتقوى معيار الكرامة، أي لا يكون الإنسان كائنا جديرا بالانتماء إلى الإنسانية كقيمة إلاّ بقدر جهده في حفظ " الخلق" والحفاظ على " ما استخلف فيه وعليه " أو بجهده في إثراءه وتنميته وحسن بقاءه لا مجرد بقاءه فحسب.أي في النهاية في " الامتثال " للإلهي والاعتراف به لا من جهة ما استقر في القلب أو الإيمان فحسب بل من جهة ما يصدقه الفعل، أي من جهة تجسيد الاعتراف عبر " الإحسان للخلق" ومن باب أولى " للإنسان" الذي تميّز وتفاضل في الخلق والمشقة في ذلك(" لقد خلقنا الإنسان في كبد " الآية 4 البلد) وكان بالتالي الأجدر " بالخير " والإحسان . وهذا هو جوهر " التقوى".

الاستخلاف والتآنس والحاجة إلى العيش المشترك:

لقد أشرنا إلى كون " التعايش " غاية " الاستخلاف" في معنى أن" التعارف" بين البشر هو ما من أجله " استخلفوا " في الأرض (" ...وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا" الآية). وهذا يفضي بالضرورة إلى تناسب وتلاؤم بين شروط أو مقوّمات الاستخلاف كما عددنا وبين شروط التعايش. فما يجعل الاستخلاف ممكنا هو ما يمكن البشر من التعايش. ذلك أن " قبول " الاختلاف" بين الناس والاعتراف في ذات الوقت بوحدة وكونية " المشترك الإنساني"، هو ما سيفضي إلى تجسيد إمكان " التعايش " بينهم . إنّ قبول " الاختلاف"، اختلاف" الرحمة لا " النقمة " أي الاختلاف لا " الخلاف"، أي الحوار لا النزاع، الحوار الذي لا ينفي " التفاعل " و" التدافع" بل والصراع " بوصفه احتكاك القوى "الإنسانية" المتضادة و المختلفة أصلا، بل يؤكّده بما هو عنصر حركيتها ونموّها وتقدّمها وبالتالي شرط إدراكها مبتغاها في أقصى وجوهه، وهو " تجسيد الاستخلاف واكتماله" على الوجه الذي " أراده المستخلِف وفي حدود مستطاع " المستخلَفِ" (" لا يكلف الله نفسا إلاّ وسعها" الآية 286 البقرة). إن قبول الاختلاف يعني " التسامح" ويعني " العفو " والصفح" (في مستوى علاقة المستخلفين ببعضهم بعضا، أي على صعيد " إيتيقي") عمّا يمكن أن يحدثه هذا التدافع والصراع، في مسار التحقق التاريخي لرهانات الاستخلاف، من ضررٍ و تأذية الإنسان للإنسان عن قصد وعن سوء استخدام لآليات " الصراع" الإيجابي من فكر وقول وفعل الخ ... ولا يستقيم التسامح طبعا دون اعتراف بكرامة الإنسان وعلوّ مقامه بين الموجودات، بوصفه غاية الغايات وبالتالي مراعاة " العدل " في معاملته، بضمان " حقوقه" كإنسان (من حرية ومساواة وعمل الخ...)، في ذات الوقت الذي يلتزم فيه الجميع بمراعاة " الحدود" والمقتضيات أو الإلزامات أو " القوانين " والقواعد التي تضعها " الجماعة " على صعيد حياتها " المدنية " السياسية والاجتماعية و الاقتصادية والأخلاقية... بغرض ضمان " العيش المشترك " وتنمية جهد الإنسان من أجل اكتمال وجوده الاجتماعي والأخلاقي. تعبّر الفلسفة (الفلسفة التعاقدية بالذات) عن هذا الذي أسميناه هنا بالاعتراف وقبول الآخر، المغاير، بفكرة " التعاقد" وهي فكرة لم تغب عن النص القرآني الذي عبّر عنها فيما أرى بـ" الكلمة السواء". فقد جاء في القرآن قوله تعالى:" قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله و لا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضا أربابا من دون الله." (آل عمران الآية 64). وبين هنا أن الدعوة إلى " الكلمة السواء" هي دعوة إلى " الحوار" (تعالوا إلى ...)، حوارا يقوم على " المشترك بين البشر " وحدة الأصل" البشري (سواء بيننا وبينكم) وهو " الكلمة" وتعني هنا فيما أرى " كلمة الله" وهي " الكتاب" بوصفه لا نصّا جامعا بحكم وحدة " منزّله" (بعبارة القرآن) فحسب، بل بوصفه " رسالة " جامعة تشترك برغم تنوّعها (كتب وألواح ومزامير الخ .." قل يا أهل الكتاب.." (الآية) وتعدد الرسل المكلفين بتبليغها، في كونها " كلمة الله (" وكلمة الله هي العليا " الآية 40 التوبة) أي فوق " الاختلاف"، أي " المتعالي" الذي يتجه صوبه الجميع) . هذه الكلمة التي تلزم " الجميع والمعبّر عنها " بـشهادة " و" اعتراف " بالوحدانية " (" ألاّ نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا.." الآية). هذه الشهادة المعبّر عنها في " كوجيتو" كوني، وقول جامع يشهد بوحدانية الربّ: " أشهد أن لا إله إلاّ الله"، مقترنة بشهادة بوحدة " الرسالة " والرسل (على تعددهم وتنوع رسالاتهم): وأن محمّد رسول الله" (رسولا خاتما مكمّلا (" اليوم أكملت لكم دينكم..." الآية) . هذه " الكلمة السواء " هي مضمون " التعاقد" في صيغته " الكونية " بين البشر على اختلافهم، تعاقدا من أجل " وحدة الإنسان بالإنسان وبالتالي بالألوهي " وإذن " وحدة الإنساني " في " الألوهي". تعاقدا يمكّن البشر من " الإنصات "(كمستمع كوني) لمتكلّم جامع واحد والامتثال لأوامره ونواهيه وتجنّب " الخلاف والجدال و النزاع والخصومة والحرب..." حول ما هو " مشترك"، الأصل فيه أن " يجمع "لا أن يفرّق وأن يوحّد لا أن يشتّت، ولكن شريطة أن يقع تقاسمه، فيكون " سواء" بين الجميع. يبدو أن "شهادة الإيمان" بوصفها " اعترافا" بوحدانية الخالق، الربّ "سيدا" مطلقا ("أن لا يجعل بعضنا بعضا أربابا من دون الله" (الآية)، أي رفض تعدد الإلهي وتشظّي " السيادة " (أربابا ..) واستبدالها بربوبية بشرية متعددة، هو مقوم " التعاقد " بين البشر، بما هو " الاتفاق على " العودة إلى المشترك في كل حال والاحتكام إليه عند الخلاف أو التنازع.(فإن تنازعتم في شيء فردّوه إلى الله والرسول " الآية) وفي حال رفض هذا "التعاقد " الكوني الإنساني، فإن " اختيار " النزاع والفرقة .." هو المصير لا محالة . وهو مصير يتحمّل الإنسان مسؤوليته كاملة بحكم " قرار " الاختيار الذي يفترض " الحرية " طبعا(" فإن تولّوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون .." الآية 64 آل عمران.) " وسابقية " الإنذار"،وبالتالي مسؤولية المعرفة (.."قد تبين الرشد من الغيّ " الآية256 البقرة)، وقوله تعالي: (قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء"... (الآية). مسؤولية يتحمّلها الإنسان في كل حال، منذ بدء الخلق (مسؤولية آدم في عصيان كلمة الرب (" فعصى آدم ربّه وغوى ..." الآية.121 طه) و(" ناداهما ربهما ألم أنهكما عن تلكم الشجرة .." الآية 22 الأعراف) ثم مسؤولية البشر جميعا وقد حمّلوا " أمانة العقل" ومسؤولية "الاستخلاف " في الأرض ولم يتركوا لشأنهم بل حمّلوا العقل قدرة على التمييز، وحمّل بعضهم مسؤولية " المنذر " و"المعلّم"، والمرشد" الخ، وهم الرسل والأنبياء والشخصيات الممتازة حتى من العلماء والعارفين الخ، كي يرشدوا البشر بما أوتوا من المعرفة والحكمة .. إلى سبيل الحق البيّن في أصله لمن حكّم عقله (" إنّا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا" الآية 3 الإنسان). وإذا كان هذا التعاقد الذي أشرنا إليه كوني المعنى(تعاقد بين ملل ونحل)، فإنه نموذج لكلّ " تعاقد " بشري، اجتماعي وسياسي الخ . وهو ما يعني أن " التعاقد" مبدأ " للتعايش بين البشر". يمكننا إذن أن نقيم الصلة دون وجل بين " فكرة الاستخلاف" والاختلاف من جهة وبين فكرة الاستخلاف والتعاقد، وبالتالي بين الاستخلاف والتعايش أو"التآنس" أو إرادة العيش المشترك ومبدأ التعاقد من حيث أن " التعاقد" هو شرط إمكان "التعايش" وانه بالتالي آلية لتجسيد " الاستخلاف". وهو ما يعني أنّ النص القرآني يتضمّن الدعوة إلى التعايش" وقبول " الاختلاف " ويقترح " التعاقد" آلية لذلك، ويجعل "الاستخلاف " مبدأ جامعا لكل ذلك. إذ لا معنى للتعايش و"الاتفاق" (التعاقد) بين البشر على قبول بعضهم بعضا إلاّ من حيث هم " خلفاء " في الأرض، أي بشرا "مكلفين " بمهمّة تحقيق إنسانيتهم بوصفها " خلقا " إلهيا ومسؤولية إنسانية، وهو " المشترك بينهم" .

غير أنّ الدعوة إلى " قبول الاختلاف" وإرادة التعايش" بين البشر لا تكفي لوحدها لضمان تحققه فعلا كأساس للحقّ والمشروعية. إذ لابدّ من معاضدته بعنصر " القوّة" المادية التي لم يغفل النص القرآني عن الإشارة إليها بل وتفصيل القول فيها في مواضع كثيرة وعلى عدة أصعدة:

أ - الصعيد السياسي:

قوّة " السلطة" ممثلة في كيان سياسي هو " الدولة" أو السيادة العليا التي تحتكم إلى " قوة القانون" (الحكم) ("وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل .. الآية"58 النساء). يؤكّد النص القرآني على معنى " العدل" غاية " للحكم ومعيارا لجدارته. ولتحقيق هذا نبه إلى معنى " المشاركة" التي يقتضيها " الاستخلاف"، أي المشاركة في " الحكم" ("وأمرهم شورى بينهم " الآية 38 الشورى) و" شاورهم في الأمر" الآية 159 آل عمران). وترك للناس ابتكار أشكال تحقيق هذا المبدأ الجوهري للفعل السياسي. وهنا قد تطرح فكرة " التعاقد" (الكلمة السواء") أحد أشكال تجسيد هذا المقصد (التعاقد الاجتماعي بالدلالة التي فصلها فلاسفة التعاقد" " كفكرة"،مثلا). وللتأكيد على خطورة غائية الفعل السياسي بما هي العدل والحقّ والحرية، نبّه إلى ضرورة تجنب ما يحول دون تحقيقها أعني " الظلم والاستبداد أو الطغيان.." أي التعدّي على الحقّ، على المشترك أو " المتعاقد عليه " والتفرد به دون " الآخرين" والتصرف فيما استخلف فيه الإنسان عموما على وجه " الاستئثار"، وهو معنى " الاستبداد والظلم.

- الاحتكام إلى " المشترك" أو الجامع في حال " الخلاف" أو النزاع:

" وإذا تنازعتم في شيء فردوه إلى الله و الرسول ..." الآية). والتأكيد على أهمية " القضاء " والحاجة إلى التقاضي في حال " النزاع " على الحقّ ضمانا للعدالة:(" فاحكم بيننا بالحق ولا ُتْشِطْط"..الآية 22 سورة "ص")،(" .. فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها " الآية 35 النساء).، ("وليشهد بينهما حاكم بالعدل " الآية 282 البقرة) .

- التأكيد على مبدأ الحقّ " الإنساني " وبالأساس حق الحرية في الاعتقاد والتفكير والممارسة:

(" أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين" الآية 99 يونس) "، (" لا إكراه في الدين .." الآية 256 البقرة)،(" لكم دينكم ولي دين " الآية 6 الكافرون)، (" لنا أعمالنا ولكم أعمالكم " الآية 55 القصص)، "وان ليس للإنسان إلاّ ما سعى " الآية 39 النجم" الآية) . .

- التأكيد على مبدأ " الواجب"، واجب " الطاعة "والالتزام والامتثال للقانون"

(يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله والرسول وأولي الأمر منكم" الآية 59 النساء)، إذا ما كان " القانون" تجسيدا لمبدأ " التعاقد" ولم يخالف " الحق" و" الفطرة" و" الإرادة العامة" ...

- ب- الصعيد الاقتصادي: - قوّة الثروة أو المال: الدعوة إلى التصرّف في الثروة (حتى وإن كانت إنتاجا بشريا) على معنى أنّها " أمانة" أو" وديعة " أو " رزق" أو " موضوع استخلاف أو وكالة"، أو " هبة إلهية" للبشر خاصّتها التنوّع التفاوت والتقدير " والله فّضل بعضكم على بعض في الرزق" (الآية 71 النحل) واعتبار هذا التفاوت معطى يردّ إلى " خاصية الاختلاف والتنوّع " كميزة للواقع البشري. ثم الدعوة إلى استغلال القوّة " الذاتية" للثروة والمال كأداة لا كغاية في تحسين " العيش" الفردي والجماعي، الخاص والعام، أي الدعوة إلى الإنفاق مبدئيا وعدم احتكار الثروة أو تكنيزها أو مَرْكزتها لدى فئة دون أخرى " وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه" الآية 7 . الحديد)، و(" وأنفقوا مما رزقناكم" الآية 10 المنافقون) ثم تثمين الجهد في كسب الثروة وتنميتها وحسن التصرّف فيها على أساس" إيتيقي":

- تثمين الجهد والمجاهدة والكدح في العمل والكسب واعتباره قيمة:

(وأن ليس للإنسان إلاّ ما سعى " الآية، " تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم" الآية 141 البقرة) .وبالتالي جعل الجزاء من جنس العمل وبقدره. أي التلازم بين العمل والثروة، بين العمل وملكية الثروة. اعتبار العمل قيمة ومنتجا للقيم.

- إحكام التصرف في الثروة بالاحتكام أوّلا إلى " ترشيد عقلاني" للتدبير:

(" ولا تأتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما" الآية 5 النساء)، " وأحسنوا إن الله يحبّ المحسنين" الآية 195 البقرة)، (" إنّ الله لا يحبّ المسرفين" الآية 31 الأعراف)، والاستئناس بالخبرة في هذا الباب كحاصل للعلم والمعرفة وتداول الثروة. وبالاحتكام ثانيا إلى حسّ أخلاقي قيمي:" الأمانة " وحفظ الثروة، و" الخوف" من العقاب أو التقوى عموما... ("قال اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم " الآية 55 يوسف).

- ترشيد أخلاقي للتصرف في الثروة في اكتسابها وإنفاقها

على أساس اعتبارها وسيلة، غايتها " الإنسان" كقيمة، أو غاية قصوى. والتنبيه إلى خطورة الانقياد إلى الأهواء والميولات والرغبات في العلاقة بالمال والثروة عموما (" والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها.." الخ الآية 34 التوبة ")، و(" ألهاكم التكاثر حتى زرتم المقابر " الآية 1و2 التكاثر)،)"وتحبون المال حبا جمّا " الآية 20 الفجر) والدعوة في المقابل إلى الإحسان في الإنفاق (" وأنفقوا من طيبات ما رزقناكم" الآية 267 البقرة)، و(" وأما بنعمة ربّك فحدّث" الآية 11 الضحى) والدعوة إلى القناعة والرضا والقبول بما قدّر من رزق:(" لينفق ذو سعة من سعته ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما أتاه الله" (الآية 7 الطلاق) وهو ما يعني التنبيه إلى تجنب التبذير(الإنفاق بمقدار) والسرقة والفساد المالي وغيره بحكم الحاجة أو الفقر...

- تنويع وجوه الإنفاق وتوجيهه عموما إلى تحسين اٌلإقامة في العالم أو الاستخلاف"

 لا على صعيد بناء " الحياة المشتركة " بالإعمار وتنمية العمران على جميع الأصعدة فحسب، بل بتقليص الفوارق بين البشر وتجنيب الإنسان " البؤس وذلّ الحاجة . وذلك بالحثّ على " الصدقة وإنفاق المال في وجوه كثيرة من الإحسان، كتأدية الدين عن المدين وإطعام أبناء السبيل والفقير والمسكين ومساعدة ذوي الحاجات الخ ..(خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها .."الآية103 التوبة)

- جعل " الزكاة" كباب من أبواب الإنفاق للمال والثروة واجبا أو ركنا من أركان الإيمان لا يستقيم بدونه

وهو ما يعني جوهرية العلاقة مع المال(كقيمة تداولية) وأهميتها في تحقيق مشروع الاستخلاف . فالثروة أو المال شرط مادّي لتحقيق " خلافة " الإنسان في الأرض . وهو " قيمة " على المستخلف " تقديرها" وحسن " تداولها " على أساس قيمة " العدل " وتجنب " الظلم في التعامل المالي أو الاقتصادي (" لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقا من أموال الناس بالإثم .." الآية 188 البقرة)،(" لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم "(الآية 29 النساء). من هنا نفهم تفصيل القول في القرآن في المعاملات المالية والتجارية وغيرها باعتباره جانبا من جوانب علاقة الإنسان بالإنسان، نصطلح عليها بالعلاقة الاقتصادية التي يستقيم بها وجود البشر وينمو ويحسن ويرتقي.

على الصعيد الاجتماعي:

- الدعوة عموما إلى حسن معاملة الآخرين:(وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان" الآية 2 المائدة)، (وافعلوا الخير لعلكم ترحمون " الآية 77 الحج) وتجنبّ الظلم وإساءة للآخر (" من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها وما ربّك بظلام للعبيد" الآية 46 فصلت)، و(" ولا تحسبنّ الله غافلا عما يعمل الظالمون .." الآية 42 ابراهيم).

- التضامن والتعاون والتكافل الاجتماعي ("فلا اقتحم العقبة وما أدراك ما العقبة فكّ رقبة أو إطعام في يوم ذي مسغبة يتيما ذا مقربة أو مسكينا ذا متربة " الآية 10 البلد)

- التنافس في الفعل الخير والتراحم والعيش من أجل الآخرين (" لكل وجهة هو مولّيها فاستبقوا الخيرات .." الآية 148 البقرة)، (إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبا ورهبا.." الآية 90 الأنبياء)،("أشداء على الكفار رحماء بينهم ".. الآية 29 الفتح) ...

- حفظ النفس والحياة والتآزر والمحافظة على وحد ة الجماعة على أساس مبدأ التآخي والتعاطف والتنافس والمشاركة..: (" لا تقتلوا أوالدكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم " الآية 31 الإسراء) (" ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق"الآية 33 الإسراء)،(" ولكم في القصاص حياة " الآية 179 البقرة)، (" ولا نازعوا فتفشل ريحكم " الآية 46 الأنفال)، " إنما المؤمنون إخوة" الآية 10 الحجرات).

- التعامل مع الآخر المغاير في السياق الاجتماعي على أساس المساواة و " الجدارة " القيمية لا على أساس الجنس أو اللون أو المنزلة (" إن أكرمكم عند الله اتقاكم " الآية) (" يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكنّ خيرا منهنّ، ولا تلمزوا نافسكم ولا تنابزوا بالألقاب.." الآية11 الحجرات) ..

- تقدير الحاجة إلى الآخر وتثمين العلاقة الاجتماعية بين البشر(بين الجنسين على وجه الخصوص) على أساس الحاجة والرغبة، علاقة محبّة ورحمة: (" ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودّة ورحمة " (الآية 21 الروم)، (" وانكحوا ما طاب لكم من النساء.." الآية 3 النساء)، (" فلا تبغون عليهنّ سبيلا ..." الآية 34 النساء)، و(" ولا تخرجوهنّ من بيوتهنّ إلاّ أن يأتين بفاحشة مبينة " الآية 1 الطلاق)،(" وعاشروهن بالمعروف ..." الآية 19 النساء).

- تثمين علاقة القوة وعلاقة " الرهبة" بين البشر(لا العنف بوصفه إفراطا في استخدام القوة) والصراع الإيجابي بينهم:" ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض.. " الآية40 الحجّ). (" ما مكني فيه ربي خير فأعينوني بقوّة ..." الآية95 الكهف) - ("يا يحي خذ الكتاب بقوّة " الآية12 مريم). على أن تفهم " القوّة" هنا وسيلة " إيجابية " للإعمار والإصلاح وحتى للتعلّم .. " وبالتالي " للرحمة".

- الإقرار بمبدأ الرحمة بين البشر والاعتراف بالفضل في مستوى العلاقة بين الآباء والأبناء، في التربية وغيرها: (" وبالوالدين إحسانا." الآية 23 الاسراء)، ("وقال ربي أوزعني أن أشكر نعمتك عليّ وعلى والدي وأن أعمل صالحا ترضاه وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين " الآية 19 النمل)، (" واخفض لهما جناح الذلّ من الرحمة وقل ربي ارحمهما كما ربياني صغيرا" الآية 24 الاسراء)...

- الإقرار بمبدأ الطاعة والصبر وتقدير الفضل في مستوى علاقة التعلّم بين المعلم والمتعلّم و في تحصيل المعارف والمهارات والكسب عموما: (" هل أتبعك على أن تعلمني مما علمت رشدا، قال لا تسألني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكرا " ا؟لآية 66 الكهف)..(".قال ستجدني إن شاء الله صابرا ولا أعصي لك أمرا (69 الكهف)... (" ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبرا... " الآية 75 الكهف)، (" قال ما مكني فيه ربي خير فأعينوني بقوة.".. الآية 95 الكهف ") (" رب اشرح لي صدري ويسّر لي أمري واحلل عقدة من لساني يفقه قولي واجعل لي وزيرا من أهلي..." الآية 24 -28 طه).

- الدعوة إلى الصفح والعفو والتسامح مع الآخرين:" وإن تعفوا وتصفحوا وتغفروا فإن الله غفور رحيم..." الآية 14 التغابن) والدعوة إلى السلم ونبذ العنف:(" فإن جنحوا إلى السلم فاجنح لها "(الآية61 الأنفال). لكن مع توخّي مبدأ الشدّة لا التشدّد في التعامل مع كل من يسعى إلى الإفساد في الأرض ويهدّد بالتالي إمكان العيش المشترك باعتراضه أو نكرانه لكمال المعرفة والقدرة الإلهية، ورفضه " المتعالي الإلهي " مبدأ للوحدة بين البشر من جهة الأصل وما ينتج عن ذلك من بسط ونفاذ الإرادة الإلهية في واقع البشر على وجوه عدة: تفاوت في القسمة بينهم، في الرزق، أو في العافية والمال وغير ذلك من" النعم " و الخيرات: (" نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ..." الآية 32 الزخرف)، و(" والله فضل بعضكم على بعض في الرزق .." الآية 71 النحل)، (" يهب من يشاء إناثا ويهب من يشاء الذكور ويجعل من يشاء عقيما " الآية 50 الشورى).

لكن لا تأخذ هذه الشروط السياسية والاجتماعية والاقتصادية للتعايش وبالتالي لإمكان تحقيق الاستخلاف (بوصفه مسؤولية الإنسان الكليّ) معناها الحقيقيّ وقيمتها، إلاّ في إطار مبدأ " الشهادة" بوصفها " اعترافا بالألوهية " لا إنكارا لها، أي" إيمانا " بالإله لا إلحادا فيه أو إشراكا له في الربوبية وبالتالي "إعلان الطاعة والامتثال والاستعداد لأداء " الأمانة " والاضطلاع بمسؤولية الاستخلاف في الأرض. (" وعباد الرحمان الذين يمشون على الأرض هونا ..." الآية63 الفرقان)، " إن عبادي ليس لك عليهم سلطان، إلا من اتبعك من الغاوين " الآية 42 الحجر)، و (" أما من ظلم نفسه فسوف نعذّبه ثم يردّ إلى ربّه فيعذّبه عذابا نكرا" الآية 87 الكهف.). يفترض " الاستخلاف" في القرآن إذن الإقرار بوحدانية الإله على صعيد الاعتقاد والعمل على تجسيد هذا الإقرار بالفعل والعمل والكدح والجهد والمجاهدة وقبول الآخر والسعي إلى " التعايش والتآنس ورفض العنف. كلّ ذلك في حدود " وجود " محدث ومسار معيشي للإنسان له بداية ونهاية نصطلح عليه بالتاريخ.

***

عبد الوهاب البراهمي

تمهيد: لكُلِّ سلوك أشكالٌ وتجلياتٌ وتمظهرات؛ وقد تكون لتلك الأشكال دوافعها البيولوجية أو السيكولوجية، الشعورية منها واللاشعورية؛ وتجلياتها هي الكيفيات التي يتحقق السلوك من خلالها. فالسياسة فعل؛ وهي الأخرى لها مُحدداتها وتجلياتها على ما يقول  المفكر المغربي محمد عابد الجابري. إن أشكال السلوك السياسي وأفكاره ومظاهره وتداخلاته الاجتماعية الطابع وتطبيقاته وأنساق أبنيته من العقول المختلفة، كل ذلك يُشكِّل ما يُطلَقُ عليه (العقل السياسي)؛ ونسميه "عقلاً" لأن السلوك السياسي يخضع لجملة عوامل وأنساق بيئية واجتماعية وأفكار داخل منطق يُحدِّد ويَحكم تفاصيل هذه العلاقة، ونصف ذلك العقل بأنه "سياسي" لأنه ليس مُنتِجاً للمعرفة، إنما مُمارسٌ للسّلطة والحُكم أو معنيٌّ ببيان ممارستها.

يُراد لهذه الورقة (الأولى) في سلسة أبحاثنا عن العقل السّياسي السّوداني، أن تكون محاولةً لطرح أسئلة مقصيّة من الحقل  السياسي في السودان؛ رغم أنها تقع في عمق الفكر السياسي. وليست في نية الورقة ادّعاء الشمول فيما تدرسه؛ فهي تستند على عدة حقول معرفية في قراءتها للعقل السياسي، وفي دراستها المُحدَّدة عن سيكولوجية الشخصية السياسية (عنوان الورقة). تشمل هذه الحقول المعرفية (السوسيولوجيا والأنثربولوجيا وعلم النفس / السياسي والأثنوغرافيا)، وهذه الحقول تتعالق وتتداخل هنا وهناك. ومع نُدرة الدراسات  السودانية حول الأمر، وأحياناً غيابها تماماً، فالمهمة عسيرة؛ إذ إن أبحاث ودراساتٍ كهذه تستلزم جهداً وزمناً وفريقاً من الباحثين وتمويلاً لإجراء الأبحاث الإمبريقية، وهو ما لا يتوافر لكاتب هذه الورقة، فذلك يعد من أعمال المؤسسات المعرفية من جامعات ومراكز بحوث إضافة إلى الدولة نفسها.

 فوق ذلك، تُعاني مكتبتنا السودانية نقصاً فاضحاً في الدراسات المعنيّة بعلم النّفس السّياسي، ودراسة شخصية المُجتمعات السودانية (علم النفس الاجتماعي). وهنا أشير إلى دراسة د. محمد عبد العزيز الطالب، الموسومة بـ(الشخصية السودانية – دراسة أنثربولوجية نفسية) عن دار عزة للنشر 2014، وهو عمل مُهم – في تقديري - ويُعدُّ مدخلاً للبحث في هكذا قضايا. وتنبع أهمية هذين المبحثين (علم النفس السياسي/ الاجتماعي)،  من كونهما مفتاحين رئيسَيْن لفهم حالة الخلل العُضال الذي أصاب، وظل يصيب، الدولة السودانية من فشل بناء المشروع الوطني، وتعرُّض مجتمعاتنا لعُنفٍ مُنظّم وإفقارٍ وفشل تعليمي، ونشوء أنظمة دكتاتورية وانقلابات عسكرية، وفشل للثورات، والتي هي  بطبيعة الحال محصلة ونتاج مباشر لخلل شخصية مجتمعاتنا ونظام المعرفة الذي يشكل طرقها وآلياتها للتعاطي والتفكير في شؤونها العامة. ونظام المعرفة الذي أعنيه؛ هو ذلك النظام الذي نشأت شخصياتنا عليه، ويشمل العادات والتقاليد والتّوجهات الثقافية وأنساقها  ونظرتنا لأنفسنا وللآخر والعكس، ومجمل تصوراتنا عن الكون. فدراسة الشخصية السودانية، هي من الأهمية بمكان في أي مشروع نهضوي قادم، إذ أن الإنسان هو المحور الرئيسي لأي مشروع يبغي رفعته.

ويكاد المرء أن يجزم أنه لا يمكن فهم الظواهر السّياسية، ومن ضمنها  حرب الخامس عشر من أبريل 2023، باعتبارها حراكاً سياسياً؛ دون  دراسة  ومعرفة العوامل والأبعاد السيكولوجية للشخصية السياسية،  ولفضائها الكُلّي، وكيف صارت الحربُ مُمارسةً مُستمرَّةً منذ تمرُّد توريت 1955. وقد حاولت  مدرسة التحليل النفسي قراءة السلوك السياسي بطريقة غير مباشرة، حين أشارت إلى أن الصراعات السياسية قد تكون ناتجة عن الحرمان النفسي المُرتبط بصراعات مرحلة الطفولة. ومع ما للطفولة من أهمية كبيرة في تكوين شخصية الفرد وسلوكه المستقبلي، وهو ما يتطلب فهم الأبعاد النفسية لمعرفة السلوك السياسي؛ فإن هذا لا يعني أن البُعد النفسي هو البُعد الوحيد في السّلوك السياسي، فللظاهرة السياسية في السودان أبعاد أخرى، لكن يظل البُعد النفسي مقصيّاً من دائرة الاهتمام والدراسة والملاحظة، ويكتسب أهميته من  أن "السياسي" قبل أن يكون سياسياً فهو كائن بشري.

ستبني هذه الورقة رؤيتها وقراءتها على ثلاث مقدمات نظرية، أولها: التكوين السياسي  أو النشأة السياسية. وسنرى أن العناصر الأساسية التي اخترنا دراستها في التكوين السياسي هي: النشاط الطلابي كمدخل للعمل السياسي وكعنصر تكويني للسّياسي السوداني، إضافة إلى السياسي القادم من الطائفية والعقل الطائفي, وسنستخدم مصطلح (الطائفية) بمعناه الواسع المتداخل (دينياً واجتماعياً وسياسياً وثقافياً وإثنياً)؛ وأثر القبيلة في الشخصية السياسية. أما ثاني المقدمات النظرية، فهي اللاشعور السياسي  وسنستلف هذا المفهوم من المفكر (ريجيس دوبريه)* لنُسقطه على فضائنا السياسي في مقاربة مع ما  نظّر له المفكر المغربي (محمد عابد الجابري)**  ومع ما يشابه واقعنا، أما الخطوة الثالثة، فهي دراسة ما نتج عنهما في شكل الممارسة السياسية المعاصرة، التي كونت سلوك العقل السياسي في حيزه الضيق والمُتعارَف عليه كمسرح سياسي ومشهد يمكننا تسميته بالفضاء السائد في تعاطي العمل السياسي، أي ما يمكن الإشارة إليه بـ(هكذا هي السياسة السودانية..!) وهي إشارة جوهرية إلى عقلها السياسي. 

تبني الورقة نسقها، وتستقي معلوماتها من الواقع السوادني؛ فهي تقوم منهجياً على الملاحظة والتحليل النفسي الاجتماعي لشخصية السياسي السوداني. وبطبيعة الحال لا ينطبق تحليلها على الكل، فهنالك خصائص نوعية في كل حالة، تحمل سيادة نموذج معين من التكوين النفسي.

إن اندلاع الحرب الحالية – 15 أبريل - في السودان والأشكال التي اتخذتها والقوى والعوامل المُحرّكة لها؛ تُعد فرصة كبيرة في كشف ما يعتمل داخل مجتمعاتنا. وكما أسلفت، فإن الورقة خليط ما بين علم النفس الاجتماعي العيادي الذي يُعنى بدراسة الظواهر الاجتماعية بالطريقة العيادية، والفكر الاجتماعي  السياسي؛ ولأنها لا تستند إلى أبحاث ميدانية أو إمبريقية فقد يشوبها الشك في بعض ما سيرد فيها حول درجة اليقين؛ لكن الغاية من هذه القراءة لسيكولوجية الشخصية السياسية السودانية عبر دراسة العقل السياسي، هي محاولة اقتحام نوع من الحقول المهمة التي أُقصيت وتُركت على الهامش في  دراسات الفكر  السياسي والاجتماعي، وبالتالي لم يُنتَبه لها.

هدفي من هذه المحاولة، إثارة الأسئلة، ولفت الانتباه أكثر طرحها والإجابة عنها. وبإمكاننا أن نعد الورقة محاولة أو مدخلاً أوّلياً لقراءة منتجات العقل السياسي من مشاريع فاشلة ودولة هشة وأحزاب سياسية مُصابة بأعطابٍ وأخلالٍ اجتماعية. عقل قضى على أحلام شعوبنا وتوقها إلى التطور والرقي، بل ساهم في إفقار المخيال بصورة فاضحة، وفي سيرورته هذه أنتج صيرورة الفشل المزمن، الذي لا يبدو بأي حال أن هنالك من يحاول الانعتاق من براثنه. تعتقد هذه الورقة أن شخصية السياسي الحالية مصابة بأعطاب عدة، كالتخوين والإقصاء وأنها ذات بنية ذهنية تآمرية، ما يجعلها بعيدة عن العقل النقدي ومتكلسةً الفكر، إذ أن بنية تفكيرها ماضوية، ويتناقض خطابها مع سلوكها والعكس صحي؛ شخصية تتربّص بالآخر المُختلف عنها، وتمارس الكذب والتضليل والخداع؛ وهي العنصر الأول في فشل كل مشاريعنا الوطنية. لقد قضى العديد من الباحثين ردحاً من الزمان في قراءة المشاريع السياسية  والحراكات بمعزل عن شخصياتها الفاعلة وبنية مجموع العقل الكلي؛ فكان أن حُظينا بدراسات مهمة، ولكن تنقصها  دراسة الفاعل الأساسي نفسه؛ والفاعل مهم في أي عملية نهضوية أو تنموية.

وباختصار، فإن الورقة تدرس العقل السياسي  من منتجه (الشخصية السياسية)،  وعقوله الجانبية وتعرّفه بما يتبدّى في السلوك السياسي.

لا تضع الورقة التي نحن بصددها، تعريفاً مسبقاً تشتغل عليه؛ فالعقل يُعرَف بما ينتجهُ؛ ونتائجه مبنية على أنساقه وتكوينه (نظام المعرفة). والسياسة بما هي ممارسة سلطة أو بيان ممارستها، تتجلى في الحراكات والأنساق والأبنية السياسية. وحين يتعالق الاثنان (العقل والسياسة) تتداخل أنظمة المعرفة وأنساقها الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والبيداغوجية....الخ مع التكوين النفسي للشخصية وطرق تلقيها لهذه الأنساق وما يتمظهر في سلوكها. وهكذا نرى أن المسألة تُصبح أعقد حين نقوم بدراسة تجزيئية لهذه القضايا التي تتعالق وتتفرق وتترابط بطبيعة الحال، إذْ لا مناص من هذا التداخل.

1- التكوين والتّنشئة السياسية:

 التّنشئة السّياسية هي إحدى العمليات ذات الطابع الاجتماعي، التي تُلقّن الفرد القيم السياسية والاتجاهات التي تربط وتتعلَّق بالنّسق السياسي لمُجتمع ما. وتمارس التنشأة السياسية ثلاثة أدوار مهمة: نقل الثقافة السّياسية من جيل إلى آخر، وتكوين الثقافة السياسية، وتغيير هذه الثقافة وفقاً للمتغيرات الموضوعية والذاتية معاً. ولأن تكوين السّلوك السياسي وتمظهراته المختلفة يرتبط بمدى فاعلية مؤسسات التنشئة السياسية من الأسرة إلى  المدارس والجامعات والمؤسسات الرسمية وغير الرسمية، لأنها تعمل على تلقين وتكوين وتشكيل الاتجاهات السياسية للفرد؛ لذلك تكمن القضية حول قدرتنا على مساءلة هذه المؤسسات مساءلة نقدية، وفحص أطرها وعناصرها، وتبيين أوجه الخلل والنقص في أبنيتها ومستوى ونوع التربية التي تُكسِبها للفرد.

إن مفهوم التّكوين السياسي، هو مقاربة اصطلاحية لما يمكن أن ندعوه أحد أبنية العقل السياسي؛ وما ندعوه العقل السياسي نقصد به نظام المعرفة الذي شكَّل وكوَّن الشخصية السياسية المُحدَّدة. يرتبط العقل السياسي بالنظام المعرفي، والذي يحكم عملية التفكير بما هو عقل، لا بما هو سياسي، لجهة إخضاع العقلي لمصلحة السياسي، أي إنه براغماتي، يستدعي العقلي المعرفي ليوظفه سياسيّاً. وقد لاحظ علماء النفس أن ثمة سلوكاً يقوم به الفرد دون شعور به، وهو يختلف عن ردود الفعل العادية، أُطلق عليه اللاشعور السياسي (سنتناوله له لاحقاً)، كونه يسعى إلى تحقيق غايات مُعيَّنة لا تخضع لمراقبة الأنا، وسنرى كيف أن اللاشعور السياسي يؤدي أدواراً كبيرة في الشخصية السياسية.

1-1 النشاط الطلابي بوصفه مدخلاً للسّياسة:

لا يمكن فهم ودوافع وتصرّف الشخصية السّياسية السودانية المُعاصِرة، وما يتبدى منها سلوكاً وانفعالاتٍ في تعاطيها للسياسة، دون فهم حركة النشاط الطلابي في الجامعات السودانية، وفهم كيف يعمل العقل الطلابي، وتأثير ذلك الحراك على العمل السياسي، سواء في فضائه الضيق أو الحياة العامة. ويعتبر الحراك الطلابي أحد أهم روافد وآليات إنتاج السياسي السوداني المُعاصر فهو الشجرة (الحركة الطلابية) التي أنتجت هذه الثمرة (الشخصية السياسية).

شكَّلت الحركة الطلابية رافداً رئيساً للمُتعاطين والمشتغلن بالسياسة إلى يومنا هذا، ورفدت المؤسسات السياسية (الأحزاب – منظمات المجتمع المدني – النقابات.. إلخ) بالسياسيين، وأدت أدواراً كبيرة وأخفقت في أخرى كبيرة نعايش نتائجها الآن.

عانت الحركة الطلابية وما تزال تعاني من خلل فاضح لازمها منذ التكوين، فقد ورثت قمع الاستعمار وعقليته في صناعة التفرقة؛ وصراعات الطائفية والإدارات الأهلية وجماعات المثقفين واستبداد الدولة ودكتاتورية أنظمتها العسكرية، واستبداد الأحزاب السياسية نفسها؛ إضافة إلى الانقسام في المجتمع السوداني القبلي. إن الحركة الطلابية كظاهرة اجتماعية تبرز وتتضح وتؤثر، أو تبقى كامنة، تبعاً لتوافر أو عدم توافر الديمقراطية في كل مجتمع. ففي مجتمع لا تُفرض فيه قيودٌ على التفاعل الحر بين الناس، تنشأ الظواهر الاجتماعية وتنمو طبقاً للقوانين الاجتماعية التي تحكم التطور الاجتماعي، وبقدر حاجة هذا التطور للظاهرة ذاتها؛ ولكن متى مدت الديكتاتورية ظلالها في أي مجتمع، فإنها ستعوق حركة التطور الاجتماعي، وتحاول شل قوانينه الاجتماعية بما تفرضه من قوانين وضعية، فلا تكون الظواهر الاجتماعية واضحة الوجود. وكان أن أضحت الحركة الطلابية ضحية للأبنية التي شكلت الأنساق أو أطر الممارسة السياسية، بل وضحية لنسق التفكير العام في مؤسسات تعليمية، يُحاجُّ الفرد فيها بأنها مركز للتنوير والعقلنة. فالجامعة في الأساس مركز لإنتاج المعرفة والقيم، وأيضاً لتخريج النخب، وبالتالي هي فضاء لصناعة مستقبل الشعوب.

أحد أبنية الخلل في سياسي الحركة الطلابية، أنهم لم يتخطّوا هذه المرحلة حتى الآن؛ إذ ما تزال سمة التآمر والتخوين والإقصاء تلازمهم، بجانب عقلية الطالب الطوباوية وعدم تقبل النقد وممارسة العنف المادي والرمزي كعنصر أساسي في السياسة، مع قلة الخبرة بالشأن العام، إذ إن الهوة بين الطالب والجماهير شاسعة نسبة لفضاء الجامعة الضيق. أضف إلى ذلك، غياب العقل النقدي والكسل المعرفي والوثوقية في الأحكام والأفكار، لتطغى  في مثل ذلك الجو  فكرة "الحقيقة المطلقة وما سواها باطل". يمكن تحليل الحراك الطلابي وأثره في الشخصية السياسية المعاصرة نفسياً، باعتباره منتجاً ساهم فيه الأفراد المختلفون في توجهاتهم بصياغة ما يمكن أن يُطلق عليه (مفهوم السياسة) وطريقة الاشتغال عليها، منتجين بذلك أيضاً الفضاء السياسي واللاشعور السياسي أيضاً.

وبكل ما ينطوي عليه الحراك الطلابي من العنف وقمع السلطات والمنع والاعتقال والتعذيب، فقد ساهمت هذه الأفعال بشكل كبير في إعطائنا هذه الشخصية الموجودة الآن؛ شخصية هي نتاج العنف: من عنفٍ للسلطة والمجتمع والأسرة، والكبت المتمثل في قمع الغرائز والرغبات سواء من قبل السلطة أو المجتمع نفسه، والحرمان بكل أنماطه، ليكون الفرد عارياً من أي حماية أو تعاطف.

أفرزت هذه الإشكالات شخصيةً سياسيةً لا تستطيع أن تجد مدخلاً لأي حوار يؤدي إلى توافق؛ فهي شخصية لا تنمو إلا وسط الصراعات والانقسامات والانتصارات الشخصية لخطابها وتفكيرها وما تظن أنه الحقيقة، فهي لا تدرك نفسها إلا وسط هذه الأشكال من السلوك. ولا مجال للحوار الجاد وتقديم التنازلات حتى إذا جلس الناس للحوار، لأنها شخصية نرجسية، فهي نتاج أزمات كبيرة ولا تُري إلا ما ترى. أنتج الحراك الطلابي أيضاً معطى يظل يؤدي دوراً رئيساً في تفتيت أي وحدة محتملة، وهي شخصنة القضايا العامة والتاريخ في أمثلة ذلك مبذول. ونتيجة ذلك ظهرت (الشلّة).

1-2 الشلليّة – قطيع داخل قطيع:

عرّف قاموس المعاني الجامع كلمة (شِلّة) والجمع شلاّت وشلل بأنها جماعة من الأصدقاء ذات ميول واحدة. وكجزء من إفرازات الممارسة السياسة يتحلق أفراد من الانتهازيين (انتهازية واعية) حول شخصية يستطيع هو من خلالهم تحقيق أهدافه، ويستطيعون هم تحقيق أهدافهم أيضاً، على حساب المشاريع والقضايا. وهذه الشللية في غالبيتها تنشأ للتآمر على القطيع الكبير والسيطرة على كل شيء من الموارد واتخاذ القرار..الخ. وتذخر مؤسساتنا بهذه النوعية، فالشلّة توجد في المؤسسات السياسية كلها دون استثناء، وفي المؤسسات الخدمية في الصحة والتعليم والمصالح الحكومية والمنظومة الأمنية، وكذلك في الوسط الثقافي، وأخشى أن تطرق أبواب أسرنا أيضاً كظاهرة خطيرة جداً.

"الشلة" دائماً صغيرة في مجموع الأفراد، ولكنها نافذة، وهي البذرة الأولى لأي انشقاقات، ولأي شلة أخرى جديدة. صعدت الشلة السياسية وامتطت الفضاء السياسي؛ وأقول الشلة وليست النخبة، فهي ظاهرة لا تُعبِّر عن المفهوم التاريخي للنخبة ودورها في الحياة العامة، بل العكس فإن المجتمع السوداني بعقليته هذه؛ عاجز عن إنتاج نخب قادرة على العمل بموازاة المؤسسات، وتعبر عن عجز آخر يتجلى في كون المؤسسات التقليدية عاجزة عن إنتاج أدوات ديمقراطية للمشاركة. حدث ذلك في مجتمعاتنا التي يمكن وصفها بمجتمعات الانتقال الطويل؛ وهي المجتمعات التي تتحدث كثيراً عن المشاركة بدون مشاركة فعلية؛ وتتحدث عن الرأي العام وفي الأغلب تعجز عن إنتاج رأي عام أو توافق عام، فيما تحاول الشلل السياسية وارتباطاتها الإعلامية تصنيع الرأي الذي تريده والتعبير عنه، وكأنها هي من يمثل الرأي العام وهذا الأقسى فيما يحدث. لم تظهر الشلة السياسية مع قيام الحركة الطلابية، ولكن الحراك الطلابي عمّقها ووضع أسسها، فنحن نرى أن تأثير الشلة الطلابية على العمل السياسي الحالي ما يزال مزدهراً، ويمكن رؤية السياسيين الذين ما يزالون مأسورين بـ(الدفعة). وتعتبر الشلة وزمالة الدراسة  مهمةً في الالتحاق بالقطيع الصغير الذي يقود السياسة ويتذرع باحترافيتها مقصياً الآخرين؛ والشلة آلية لتوفير سياق يمكن من خلاله تأسيس علاقات شخصية وثيقة داخل العمل السياسي، بما يضمن عملية التبادل وضمان الولاءات.

1-3: كيف يفكر العقل الطلابي؟

الدولة المستبدة لضمان استمرارها تلجأ لاستئصال المخالفين والمعارضين والسيطرة على المجال الجغرافي والفضاء الاجتماعي، والسيطرة على مواطنيها من أجل الاستقرار الداخلي، وهذا هو منهج عمل الدولة في بلادنا وكذلك الحركة الطلابية، فالحراك الطلابي في جامعاتنا يفكر بعقل الدولة المستبدة، ويعتبر أسوار الجامعة حدودَ دولته، وبالتالي فعليه حماية الحدود من الأخطار الداخلية والخارجية المُتمثلة في التيارات المخالفة في المرجعية والتوجه السياسي، والمتمثلة أيضاً في الدولة نفسها، وأيضاً السيطرة على فضاء الجامعة لمواجهة أي فعل طلابي يمكن أن يشكل خطراً أو يعبر عن رأي يخالف رأي الجماعة الحاكمة، ويمكن رؤية ذلك في (أركان النقاش) التي غالباً ما تنتهي بعنف مادي أو رمزي. إن التفكير بهذه العقلية (عقلية الدولة)، أنتج لنا إشكالية أخرى وهي إشكالية الصراع الأفقي أو تغليب الصراع الأفقي (الطلابي طلابي)، حيث انتقلت الحركة الطلابية، من حركة متصارعة ضد قوى الاستعمار آنذاك، إلى حركة متصارعة فيما بينها، إلى أحزاب سياسية تتصارع، وإلى قادة أحزاب يتصارعون ويتلاسنون كل يوم على ما نشهد في وسائط الإعلام.

وقعت الحركة الطلابية في إشكالية الانفصال، الانفصال أولاً عن مجتمعها، فهي حركة مُسوَّرة داخل أطرها الجامعية، ولم تخرج من هذه الأسوار إلا لماماً. ثم إن أشكال الانفصال عن المجتمع ومعاركه من أجل التحرر، في اعتقادنا قد نتج عن إشكال أكبر نسميه بإشكال استبداد التاريخ؛ ففي كثير من الأحيان عِوض أن يكون التاريخ دافعاً للعطاء والتقدم، يصير نفسه كابحاً لهذا العطاء وذاك التقدم، حينما نجعل منه مرجعية نهائية؛ وقمة ما يمكن أن يصل إليه العقل، وحينما نسقط في تمجيد بل حتى تقديس ذلك التاريخ وصانعيه، فيصبح التاريخ هو المُحدد لفكرنا وسلوكنا عوض أن يكون من المحددات فقط، وهذا بالضبط ما وقع فيه العديد من سياسيي الحركة الطلابية، إذ لم يستطيعوا  الخروج من تاريخها، أو قل من تاريخها الذي صنعه جيل غير جيلها الآن، فالصراع الذي أطر أجيال الحركة الطلابية سابقاً ما يزال نفسه الذي يُؤطر العمل السياسي الحالي.

ورث سياسيو الحركة الطلابية تراثَ صراعٍ وأخطاء جيلٍ سابق ومفارق لها في الواقع والزمان، في غير مقدرة على القيام بعملية نقد ذاتي لذلك التاريخ، لإخراج غثه من سمينه، والتحرك بأكثر برؤية واقعية وفاعلية، والانتفاضة على عقلية “هذا ما وجدنا عليه آبائنا وإنا على آثارهم لمقتدون”، وحيث حينها سنعطي للتاريخ حقه الذي يستحق دون إفراط ولا تفريط، من خلال تنسيب صوابيته، الشيء الذي سيقودنا أيضاً إلى تنسيب قناعاتنا وسلوكنا وإخضاعهما لثنائية الصواب والخطأ التي تميز الإنسان وحركته.

يمكن إيجاز خلل الحركة الطلابية في جامعاتنا، وما أنتجته من سياسيين في الآتي:

 أولاً: استبداد التاريخ؛ فسياسيو الحركة الطلابية مأسورون في الزمن الماضوي فكراً وسلوكاً، وهي إشكالية ينبغي أن تُعالج بقراءة نقدية للتاريخ الطلابي وتفحص أنساقه والاستفادة منه في معرفة الأخطاء وتجاوزه.

ثانياً الاحتجاج: إذا كان الاحتجاج هو السمة التي ميزت مسار الحركة الطلابية منذ عقود، حتى أصبح مُحدِّداً من محددات الهُوية عندها، نرى وجوب المزاوجة بين الاحتجاج والإنتاج، فإذا كان طبع الشباب هو الاحتجاج فطبع الجامعة هو الإنتاج، والمقصود بالإنتاج هنا، هو تقديم المقترحات والرؤى، من أجل إصلاح التعليم وتجاوز أعطابه، فالاحتجاج لا يكفي لكي نعبر عن ذواتنا، إذ لا بد حتى يكتمل التعبير ويكون في أبهى صوره من الإنتاج. 

ثالثاً: الأزمة الهوياتية؛ وكما نعرف فإن أزمة الهوية في بلادنا قد سال فيها حبر كثير؛ ولكن  يبدو  أن طالب الجامعة يتعرّف على معضلة الهوية التي يعيشها مجتمعه في حرم الجامعة بعمق وتكثيف عالٍ وممارسة واضحة لأشكال العنصرية إلى درجة أن تُؤسس روابط عرقية وقبلية داخل مؤسسات المعرفة، ويؤخذ هذا الإشكال إلى سوح العمل العام.

 وبكل هذه المعضلات والإشكالات التي رأيناها آنفاً، فقد شكلت أجزاء كبيرة منها، وطبعت عقل السياسي، وتمظهر ذلك في سلوكه وكيفية ممارسته للسياسة.

2- السياسة والقبيلة والسلطة:

جانب آخر من جوانب التكوين والتنشئة السياسية، يأتي من الدور الذي تمارسه القبيلة سياسياً؛ ولعلّ دراسة بنى السّلطة في المُجتمع الرأسمالي الصناعي تتطلّب بشكل عام؛ دراسة علاقات الإنتاج والصراع الطبقي. ولكن تختلف مجتمعاتنا حين تُطرح مسائل بنى السّلطة فيها؛ فهي دراسة لعلاقات القرابة وكيفية انتقال السّلطة من نصاب رئاسة إلى نصاب رئاسة آخر بحسب المفكر الاجتماعي عبد الرحمن ابن خلدون.

ولا تطمح ورقتنا في دراسة سوسيولوجية معمّقة لعلاقات القرابة في القبيلة، كإطار رسمي لها ومفهومها وكينونتها وتأثيراتها على علاقات السلطة وأبنيتها وصوغ خطابها، إذ الورقة لا تسمح بذلك، إنما اعتمدت على المقاربة لمحاولة فهم خطاب القبيلة وخطاب الدولة، وكيف وظفت الدولة القبيلة في خطابها واستغلّ زعماء القبائل هذا التوظيف لمكاسب وامتيازات على حساب مفهوم المواطنة، والذي هو جوهر مؤسسات وبناء الدولة الحديثة.

فالقبيلة في تكوينها تنظيم مغلق؛ يستقبل الأفراد لكنه لا يقبل خروجهم منها؛ مما يعني أنها في نشأتها وفي تكوينها لا تستطيع أن تستوعب إلا شكلاً واحداً ونوعاً واحداً من الأعضاء، وحتى إن اعتبرناها دولة مصغرة؛ فطبيعة قراراتها لا يمكن أن تسري على أناس خارج نظامها العرفي والمكاني، فقراراتها تمس الأفراد المنتمين إليها ولا تسري على أفراد خارج نطاقها الإثني والمكاني. وإذ اعتبرنا عاملَي القوة والإكراه اللذين كانت تستعملهما القبيلة في وقت سابق لبسط نفوذها وحكمها، وقد اتفقت القبائل على هذه الأساليب؛ ففي الوقت الحاضر لا يُولِّد هذا الخيار إلا الحقد السياسي والعنف والذي يطال المؤسسات الدستورية والسياسية وحتى الأفراد في كثير من الأحيان الذين يصبحون ضحايا لقبائلهم (نموذج حرب 15 أبريل).

في تعريف حديث عرّفت القبيلة بأنها "جماعة من الناس ينتمون حقيقة أو وهماً إلى أصل مشترك"، ويُميِّز القبيلة وحدة اللغة والثقافة المشتركة لدى جميع أفرادها؛ إضافة إلى رابطة الدم والنسب، وهو عامل تجانس أساسي يُضاف إليه الموقع الجغرافي بحدوده المعلومة. أكثر ما يُميِّز القبيلة هو ذوبان الفرد في الجماعة والجماعة في الفرد، وهنالك دائماً ميل قويٌّ إلى الاستقلال وعدم الخضوع لسلطة الدولة، والميل إلى الحرية المطلقة داخل هذا الفضاء المُغلق، وهو ما يمكن التدليل عليه بأن كلمة زعيم القبيلة داخل هذا الفضاء أقوى من كل مؤسسات الدولة.

داخل هذا الإطار المذكور آنفاً؛ ينشأ خطاب القبيلة وفق عناصر رئيسة؛ تتمثل في توفيرها للعصبية، وتمثل عقلية عامة تحكم جميع أشكال العلاقات السياسية من خلال تخصيب الذاكرة الجماعية للمجموعة؛ وفي خطابها هذا تتصف القبيلة ببساطة السلطة السياسية داخلها وسهولة الاتصال السياسي بين زعيم القبيلة وأفرادها وهنالك الولاء المطلق للقبيلة. يصف علم الاجتماع السياسي القبيلة كمفهوم إقصائي بامتياز، ولا يمكن الانضمام إليها في أي وقت، وإنما ننضم إليها مجبرين ومكرهين منذ ولادتنا، ولا نملك الاختيار في ذلك مما يجعلك أمام خيارين لا ثالث لهما، إما الالتزام والانصياع للقبيلة وقراراتها أو أن تتبرأ منك وتصبح منفياً خارجها، وهو ما يعني الاستبداد المطلق القبلي في منظور علم الاجتماع السياسي.

تبني القبيلة خطابها في فضائها المغلق على أسس إعلاء مقام الـ «أنا» وانتقاص قيمة «الآخر»، وهو خطاب يُفضي في محصلته النهائية إلى تكريس صيغ مديح الذات وهجاء الآخرين بلا مواربة. ولم تستطع النصوص الدينية المقدسة المؤثرة عادة في الوجدان في تحجيم هذا الخطاب؛ بل إنّ خطابها الموغل في إبراز الأنا قد تجاوز النص الديني في قوله (إنا جعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا)، وهو ما يُفسّر قدرة القبيلة على إبادة مجموعات قبلية أخرى دون أي وازع سوى خطابها.

خطاب القبيلة المبني على مديح الذات وإعلاء شأنها وهجاء الآخر، هو خطاب يُؤرَّخ له؛ حينما كانت القبيلة تكتلاً بشرياً صغيراً قائماً بذاته، يرى في تكتّله القدرة على مقاومة التكتلات الأخرى التي تُشكِّل خطراً عليه، فكان لا بد من العمل على بث الشعور بالتفوق، والعمل في الوقت نفسه على تعزيز خطاب العلو والتفوق وتضخيمه ومقاومة نصوص المساواة وتهميشها. لكنه صار فيها بعد خطاب الخصومة والعداوة الذي يجعل القبيلة تقف دائماً في موقف الخصم من كل قبيلة مجاورة لها أو بعيدة عنها، بل يجعلها في موقف الخصومة أيضاً مع بعض الطارئين عليها الذين لا يستحقون الانتماء الكامل إلى دمها الصافي النقي؛ وفي المحصلة فإن خطاب القبيلة هو خطاب إبعاد ونفي لكل ما سواها.

ديسمبر وفتح الأضابير:

فتحت حراكات ديسمبر؛ المجال أمام إعادة النّظر في طبيعة العقد الاجتماعي - الذي ينظم العلاقة بين الفرد والدّولة، وبين المجتمع والدولة. لقد وضع الحراك الذي اندلع في نهاية العام 2018 مفهوم الدّولة العميقة، القائمة على تشابك مصالح الفساد مع مصالح المؤسسة الأمنية، وعلى حرمان المُجتمع من أي قدرة على الحركة المستقلة أو الحُرية أمام الطّاولة لإسقاطها. لكنها طرحت إشكالية أخرى تتعلق بشكل الدولة وطبيعتها التي تروم إعادة بنائها، وما يتعلق بها من مسائل مثل المواطنة وإنهاء قضايا التمييز بين المجتمعات - وشكل الحقوق والواجبات؛ وقد برزت القضايا المذكورة آنفاً بشكل صارخ تبدّى عبر المُمارسة في الفضاء السياسي الذي تحول إلى فضاءٍ للعنف مع تحولاتٍ كثيرة نشهدها في تنامي ظواهر مثل الشرخ الاجتماعي والعنف والتّكتل القبلي والصّراعات السياسية (حرب 15 أبريل)، التي تأخذ أطرها ومرجعيتها من الأحلاف القبلية وكلما ضعفت سلطة الدولة ونظامها انتعشت القبائل.

إن الكُتل والكيانات الاجتماعية صوتها أعلى وأقوى من ذي قبل؛ في المشهد السيّاسي. ولا أبالغ حين نقول إن تأثير الكيانات الإثنية في بلادنا أضحى أكبر من أي تأثير آخر سواء كانت أحزاباً سياسية أو ائتلافاً سياسياً أو منظمات المجتمع المدنية أو نقابات. إن القبائل ما تزال تتمتّع بسيادةٍ ما على نفسها، وعلى مواردها، وتواصل حكم نفسها بنفسها في كثير من المجالات بحسب قوانينها أو تقاليدها الخاصة، وهذا يفرض بعض التساؤلات؛ منها كيف يجري تقاسم السيادة بين القبيلة والدولة من دون إلغاء هذا أو ذاك من الفريقين؟ فكانت أن أضحت القبيلة؛ عقبة أو تحدياً لتشكّل وقيام الدولة الوطنية في ظل سيطرة النّظم القبلية والصراعات المتكررة في الأقاليم والأطراف.

يتميّزُ تاريخنا السوداني بالعديد من التناقضات الفجّة؛ ففي مشهدنا السّياسي الذي أضحى مختبراً  لتجريب كل الأيديولوجيات  التي أثبتت فشلها المريع من اليمين إلى اليسار؛ كانت القبيلة هي (الأيديولوجيا/ البيولوجيا) الوحيدة المستقرة التي لا تتغيّر أبداً والتي يلجأ إليها كل المهزومين من النخب / الشلة السياسية والمثقفين والإدارات الأهلية، باعتبارها البيت والحاضنة الرئيسة التي تؤمّن الفرد من غوائل الآخر؛ وسرعان ما يتم التخلي عن الأيديولوجيا والفكر لصالح الكيانات الإثنية.

يبدو  كما لو أن العقل السياسي قد قسّم شعوب السودان تبعاً لقبائلهم وطوائفهم وجماعاتهم بدل الانتماء السّياسي والفكري العابر للتقسيمات الاجتماعية، وهو ما أنتج ما يمكن تسميته (هجيناً) حائراً بين الانتماء السّياسي والولاء القبلي، مما أتاح للفاعلين ومتعاطي السياسة فرصة لتفكيك عناصر قوة المؤسسات عبر استثارة النزعة القبلية وزجّها في مواقف سياسية؛ أي غزو الدّولة عن طريق القبيلة وتفكيك نزعة أي مؤسسة حديثة على غرار أن (الدولة نفسها مؤسسة حديثة)، كان ذلك عبر اقتصاد الريع العشائري حين تتحول الدولة إلى غنيمة لقبيلة ما وعن طريق الدوائر الانتخابية والبرلمان. وبفعل قوة النخب (زعماء القبائل) فقدت الدولة هيبتها وتحولت إلى مجال للغنيمة، فنتيجة عزل القبيلة كأعضاء عن الدولة لصالح النخب القبلية وعجز الدولة عن التعبير عن المجموع الوطني ومصالحه؛ أصبحت الدولة في إدراك الناس وتصوراتهم حالة طارئة، وقانونها لا يُطبَّق إلا على الضعفاء؛ لذا فإن أغلب الخاضعين للدولة من عموم الناس يحسون بالظلم والقهر وهذا جعل علاقتهم سلبية بالدولة.

وفي المخيال السوداني عموماً؛ ترى الفئات أو الكيانات  القبائلية المُستَبعدة من الموارد والسلطة، أن تنظيمات ما قبل الدولة والتي تشير إلى القبيلة؛ ترى هذه الفئات أن هنالك قبائل محددة في السودان تسيطر على الموارد والسلطة وأنها مؤثرة في قرارات الأفراد وذات وزن في بناء التنظيمات الاجتماعية والسياسية الأخرى، مثل الأحزاب والنقابات ومنظمات المجتمع المدني، بل حتى في المؤسسات التعليمية، مما حدا بالبعض إلى تأسيس روابط قبلية في الجامعات والمعاهد العليا في صروح أكاديمية يحاجُّ فيها الفرد بأنها مراكز للتنوير المعرفي والعقلانية.

تطرح مسألة القبيلة وتأثيراتها الكبيرة على صِنعة السياسة أو شكل القرار في الدولة؛ مسائل أخرى تتعلّق بخطابات الفاعلين السياسيين ومؤسساتهم الحزبية؛ وإلى أي مدى ساعدت هذه الخطابات في تغلغل القبيلة بشكل كبير في مفاصل الدولة، بجانب أطروحاتها كبديل للدولة نفسها فعلياً من خلال سيادتها على الأرض وتنفيذها للقوانين الخاصة في الجغرافيا التي تحكمها والاستنفار الذي تقوم به حال نشوب أي نزاعات مع القبائل الأخرى، وهي عناصر رئيسة تحتكرها الدولة الحديثة، ومدى الالتفاف والتجاوب الذي يلقاه خطابها والذي يوظفه السياسيون بشكل كبير في صراعاتهم السياسية وفي عملية التعبئة الإثنية لبرامجهم، وكذلك استخدامه لاغتيال خصومهم معنوياً ومادياً.

 ومع ذلك، فهنالك حضور باهت للمسألة القبلية في خطابنا السياسي، وأحسب أنه لا يُعرف أهميتها وخطورتها في آن. ونجد موضعة القبيلة في الخطاب السياسي تأثرت بالنزعات الأيديولوجية وانتهازية الساسة والفاعلين سياسياً، أما موقعتها في الخطاب الإعلامي فقد ارتبط بالأزمات الاجتماعية والسياسية، والتي تحدث حين تبرز الأحداث القبلية كتعبيرات احتجاجية مطلبية، وهو تحدٍّ يَفشل ويعجز فيه المشتغلون بالسياسة ومنظمات المجتمع المدني في تفسير آليات اشتغال التركيبة الاجتماعية والثقافية للمجتمع، فعقلهم السياسي أحد أعمدته، ويستند على العقل القبلي.

لعل أبرز عناصر الخطاب السياسي السوداني المُخاتِل دوماً هو طرحه لخطاب القومية والتماسك واللُّحمة الوطنية، وهو خطاب عام يبثّ في المنصات الحزبية والرأي العام، ولكن الوجه المخاتل له هو الخطاب الخاص في الدوائر المُغلقة، وأعني بها القبيلة المُعيَّنة، التي تُشكِّل رأس الرمح للتنظيم السياسي، كأتباع أو جماهير، ويمكن أن نستلف مصطلح الحاكورة لنَصِفَ به تنظيمات سياسية تنشط فيها القبيلة كفئة مؤثرة في مركز اتخاذ قراراها.

2-1: العنصرية والعقل العنصري:

لا تنبع التفرقة العنصرية من البشرة، بل من العقل البشري، والذي هو أسُّ الأوبئة، وبالتالي فإن قضايا التمييز ينبغي أن تبدأ بمُعالجة الأوهام العقلية التي أفرزت مفاهيم زائفة، على مر آلاف السنين، عن تفوق جنس على آخر من الأجناس البشرية (1). ففي جذور هذا التعصب العرقي تقبع الفكرة الخاطئة بأن الجنس البشري مُكوَّن من حيث الأساس من أجناس منفصلة وطبقات متعددة، وأن هذه الجماعات البشرية المختلفة تتمتع بكفاءات عقلية وأخلاقية وبدنية متفاوتة، تستوجب أنماطاً مختلفة من التعامل أو على هذا الأساس يجري قتلهم وإبادتهم.

تُعتبر العنصرية وخطاباتها إحدى أهم مشكلاتنا الرئيسية والتي أعاقت نمو وتطور الدولة السودانية منذ استقلالها؛ وقد ساعدت النخب (الشلة)  السّياسية والأهلية والمُثقّفون على نموّها وانتشارها في مجتمعاتنا تارةً بالسكوت والصّمت عن المُمارسات العُنصرية، وتجنّب الحديث عنها، وتارةً بالاستفادة منها، وذلك بتحريض القبائل والمُجتمعات على الاقتتال بوهم العرق المُتفوِّق أو الأرض أو الموارد. إن عدم إصدار أي قانون يجرّم  العنصرية ويفضح ممارساتها بحق شعوبنا حتى الآن في بلادٍ عمرها ستون عاماً ونيف، يُعتبر فضيحة بكل المقاييس؛ في بلاد شهدت وتشهد حروباً أهلية ما قبل استقلالها، وحين تشكل العنصرية والعرق والإثنية الأعمدة الرئيسية لنشوب الحروب وموت الناس.

أصبحت  العنصرية تتغذّى في بلادنا بعوامل كثيرة؛ منها الضغط السّياسي والاقتصادي المتزايد الذي تعرفه مجتمعات مختلفة من العالم في وقتنا الحالي. وبعبارة أوضح؛ اتساع رقعة التباين الاجتماعي سياسياً واقتصادياً سواء على مستوى العلاقات القومية أو على مستوى الجماعات المختلفة داخل المجتمع الواحد، حيث الصّراع على أشدّه من أجل المصالح وفقدان الأمن والتماسك الاجتماعي.

 إذا أردنا تحليل العنصرية سيكولوجياً فيمكن القول؛ إن الخوف من الاختلاف والمُغايرة وعدم تقبل فكرة عيش الآخر؛ يصبح العامل الأساسي المُسبِّب للصّراع العنصري بما يُخلِّفه من أحقاد وكراهية وصدام دموي بين الجماعات المتصارعة عنصريّاً، وكلما  ازداد هذا الصراع قَوِيَ تماسك كل جماعة بعدائها للجماعة الأخرى، وتختل المعايير الاجتماعية فيما بينها، وتصبح الروابط الاجتماعية التي تربط أفراد المجتمع متلاشية وتتحول العلاقات الاجتماعية من علاقات تعاونية إلى علاقات تنافرية، فيضحي المجتمع بذلك مجالاً لثورات واصطدامات اجتماعية وفوضى خطيرة، تهدد سلامة المجتمع وأمنه - كما نرى في (حرب 15 أبريل) - إضافة إلى أن العنصرية مرض نفسي، فهي ظاهرة نفسية أيضاً ترمي إلى التأكيد والمغالاة في احترامها، لدرجة أن الفرد المتعصب عنصرياً لا يرى العالم إلا في ميدان ذاته الضيق، فيتّسم سلوكه بالمظهر العدواني، وكما يقول (هامبري) في كتابه "أمريكا السمراء": "إن التعصب نوع من أنواع النرجسية، فمغالاة الأفراد في حب أنفسهم تدفعهم إلى مقت وكراهية الآخرين الذين يختلفون عنهم وتحول بينهم وبين التفكير السليم، ولهذا فالجماعة بالنسبة للتعصب تنقسم إلى قسمين: جماعة داخلية وجماعة خارجية لأن التعصب يؤدي إلى عزل الجماعات المتعارضة، وفي حالة التوتر للجماعة المتعصبة يتسم سلوكها بالعداء الخارجي نحو الجماعة المتميزة عنها في المظهر فتكون كبش الفداء ويزداد اضطهادها ومعاداتها كلما رافق هذا السلوك العدائي تبريرات وإشاعات مفتعلة تمس الجماعة المضطهدة، وخاصة إذا كانت جماعة ضعيفة (فالضعيف يشجع الناس على الاعتداء عليه) كما يُقال.

3- الطائفية السياسية والسياسي الطائفي

الطائفية هي أحد أنماط سياسات الهوية، وسياسات الهوية شكل من أشكال المشاركة الشعبية؛ فالطائفية السياسية هي أيديولوجيا مُوجَّهة، وتسعى الطائفية السياسية إلى "أثننة" الطائفة الدينية، أي التعامل معها باعتبارها جماعة يشترك المنتمون إليها في صفات موروثة ثابتة منفصلة عن الإيمان أو عدم الإيمان بالدين، باعتبار أن التبعية التاريخية لهذا الدين أو المذهب كافية لتشكيل أسطورة منشأ الطائفة والذاكرة التاريخية (المظلومية والأمجاد الغابرة في آنٍ معًا)، والصفات الثقافية المشتركة(2).

وتتجسد الإثنية في مجتمعنا كما هو معبّر عنها، في مشاريع سياسيّة وخطاب قومي وصناعة السياسيين، وفي الحياة اليوميّة أيضاً وفي التصنيفات العمليّة للمعطيات التي يُصادفها الإنسان في حياته اليوميّة إلى فئات وخرائط معرفيّة وأطر خطابيّة وروتين وأنماط تنظيميّة وشبكات اجتماعيّة ومؤسّسات. هكذا يكمن تسميتها إثنيّة الحياة اليومية، أو إثنيّة الأيام العاديّة.

والمجتمعات القبلية؛ يتحكم فيها العقل الطائفي ومفهوم العقل الطائفي الذي أصيغه هنا هو: عقل مغلق على عناصر تكوينه سواء الرمزية أو المادية فهو منغلق داخل إطار رؤيته ويملك الحقيقة المُطلقة ومأسور في الماضي الراكد، وهو نرجسي تجاه أي حقيقة خارج إطاره. والطائفة ككيان اجتماعي قائم بذاته، متماسك بلُحمته الداخلية، عميق الجذور في وجوده. وبناءً على ذلك تُعتبر الطائفة هي الوحدة الاجتماعية الأولى، لا الفرد. وهي مدخل الفرد ومعبره باتّجاه الدولة، أي أن الفرد لا يوجد في الدولة كمواطن، إلا بحسب موقعه الطائفي. والعقل الطائفي بالأساس مبنية أنساقه على زمان ماضوي.

اقترنت كلمة الطائفة بالدين على الدوام والتحيزات المذهبية، ولكن المفهوم يسبح في أفق أوسع من الدين. وإذا اعتبرنا الطائفية هي تحديدَ الفرد لهويته بالتعصب لانتماء ديني أو مذهبي إلى الجماعة أو الطائفة، بحيث يتحدد بموجبها سلوك الفرد تجاه بقية الأفراد داخل جماعته هذه وخارجها، أو إذا اعتبرنا الطائفيّة «تحديد الأعمال والسلوكيات والممارسات بواسطة الإيمان بالفوارق الدينيّة الناجمة عن جعلها حدوداً تمثّلُ التراتبيّة الاجتماعيّة والصراعات، وذلك في حالة وجود تديّن وصراعات دينية فعلاً، فيمكننا القول إنه، على مستوى الهوية، لم تكن الطائفة الدينية دائماً إطاراً للتعريف حتى حين كانت الثقافة الدينية هي السائدة". (4) فحتى في ظل هيمنة ثقافة دينية، أدت بنى اجتماعية مثل القبيلة والعشيرة والعائلة الممتدة أدواراً أكثر أهمية كثيراً في حياة الفرد، وكان لها أثرٌ كبيرٌ في تحديد هويته وسلوكه في الماضي.

  ونقول إن المجتمع السوداني طائفي كما في حالة الإثنية، حيث تتحول الطائفية إلى بنى وعلاقات اجتماعية مفروضة على الفرد حتى لو لم يكن طائفياً. وقد استنتج باحثون أن الطائفيّة ليست مجموعة أعمال فرديّة شاذة أو منحرفة، بل هي بنية اجتماعية ذات خصائص غير متعلقة بصفات الأفراد بالضرورة. (3) فمن الممكن أن يكون الأفراد طائفيين أو غير طائفيين، بمعنى أنهم يحملون أفكاراً مسبقة ضد الآخرين، ولكنّهم بالضرورة مُطيّفون أو يجري تطييفهم في المجتمع الطائفي، أو في النظام الطائفي، حيث الأسماء، وأماكن السكن، وفرق كرة القدم، وأمور كثيرة أخرى ترتبط بالانتماء الطائفي. يستند العقل الطائفي على النكوص النفسي  وهو الرجوع إلى أبنية سايكولوجية أقدم عهداً نتيجة جذب تمارسه إزاء ذكريات حاضرة ذات قوة كبيرة؛ الأمر الذي يحيي مرحلة نفسية سابقة طُمست انفعالاتها وصُرفت بسلوكيات بدائية تتخذ منحى تقهقرياً"(4)  ويعجز العقل الطائفي عن التفكير في الهنا والآن إلا باستدعاء الزمن القديم المحمّل بالرموز والشخوص.

إن نُظمنا وأنساقها ليست طائفية أو أقلَّوية بالمعنى الثّقافي، إلا أنها نظمٌ أقلَّوية بالمعنى الاجتماعي للكلمة. ويتأسس على هذه المقاربة القول بأن الطائفية سواء في أحزاب اليسار أو اليمين ظاهرة مرتبطة بنظم سياسية استبدادية، لا يمكن لغير استبدادها أن يحرس امتيازاتها واحتلالها موقع السيطرة على الموارد الوطنية وتحديد القرارات المهمة بشأن توجيهها وتوزيعها، ويحدث هذا على مستوى الممارسة سواء داخل أحزابنا السياسية أو على مستوى الدولة. ويمكن أيضاً استخلاص أن الطائفية لا تُصنع خارج السياسة أو السلطة أو بمعزل عنها. يمكننا القول إن التركيبة الاجتماعية لأحزابنا السياسية التي ينتمي أعضاؤها إلى طبقات اجتماعية تتناقض مصالحها الطبقية؛ ينعكس سلباً على برامجها وعلى العلاقة بين أعضائها وعلى العلاقة فيما بينها، وبالتالي فالطبقة المتمكنة من القيادة الوطنية أو الإقليمية، أو المحلية هي التي توجه عمل الحزب بطريقة تنعدم فيها الديمقراطية، مما يجعل العلاقة القائمة بين أعضائها استبدادية كامتداد للاستبداد المخزون والممارس من الطبقة الحاكمة وتاريخنا السياسي كفيلٌ بإيضاح تلك النقطة.

غياب الديمقراطية داخل هذه الأحزاب، يجعلها مجرد تعبير عن تكريس ديمقراطية الواجهة. أما الديمقراطية الداخلية فإن وجودها غير قائم كما تدل على ذلك تشكيلة أحزابنا السياسية التي تتغير باستمرار اعتماداً على الممارسة الانتهازية التي تطبع علاقة المنتمين إليها بقياداتهم المحلية والوطنية. وقلما نجد الحرص على الانتماء المرتكز على القناعة بالأيديولوجية والتنظيم والموقف السياسي. فوضعية كهذه تقف عند حدود أحادية الرأي المطبوعة بالوثوقية التي يترتب عليها ممارسة الإقصاء ضد الآراء المخالفة داخل كل حزب على حدة؛ تكريساً لممارسة تبعية الأعضاء الحزبيين لقياداتهم التابعة بدورها للطبقة الحاكمة، والمرتبطة أصلاً بمراكز الهيمنة العالمية التي أصبحت تفرض شروطها على كل شيء بما في ذلك الأحزاب المستفيدة من الوضع التبعي.

4- اللاشعور السياسي:

وبما أن الأفعال الإرادية خاضعة للشعور والمراقبة، فإن الأفعال الأخرى الصادرة دون مراقبة سُمّيت بالأفعال اللاشعورية، ويدين الطب النفسي بهذا المصطلح  إلى عالم النفس  سيغموند فرويد والذي يعزوها إلى الرغبات المكبوتة والدوافع الغريزية، حيث تعبر عن نفسها من خلال الأحلام وفلتات اللسان (5) وغيرها من الأفعال اللاإرادية. وهكذا صار يُصنَّفُ السلوك الإنساني بأنه سلوك صادر عن الشعور عن وعي وقرار وتصميم، وسلوك صادر عن اللاشعور لا تتحكم به إرادة المرء بل يفلت من الرقابة الشعورية، رقابة الأنا ليُلبّي حاجات غريزية ورغبات مدفونة ومكبوتة منذ الطفولة.‏

ويأتي عالم النفس كارل غوستاف يونغ ليعطي مفهوم اللاشعور أبعاداً أخرى، فالكائن الإنساني عنده عبارة عن مستودع أو وعاء تاريخي أو وعاء من التاريخ فيه جينات عضوية وثقافية وسياسية ودينية تتحرك باللاشعور الجمعي، وداخل كل دماغ كاميرا خفية تحفظ كل شيء وتُسجّل كل شيء دونما شعور منا. يقول يونغ إن "اللاشعور ليس رغبات فردية فقط وإنما أيضاً بقايا نزعات وعواطف جمعية تنتمي إلى ماضي البشرية القريب منه والسحيق، وتنتصب على شكل نماذج تشكل نمطاً من اللاشعور المشترك الجمعي. وهي رواسب دفينة في النفس البشرية ترجع إلى تجارب وخبرات النوع الإنساني يمتد بعضها إلى الماضي السحيق وما ورثه الناس وما تركته فيهم حياتهم الاجتماعية من العشيرة والقبيلة والأمة، وما ترسب في نفوسهم من خلال تجاربهم الخاصة ونظرتهم للمستقبل". كل ذلك يشكل في نظر يونغ اللاشعور الجمعي الذي يتحكم بصورة أو بأخرى في سلوك الفرد وسلوك الجماعة.‏

 كيف يتمظهر اللاشعور السياسي:

يتمظهر اللاشعور السياسي حين يأخذ طابعاً سياسياً لأي جماعة منظمة سواء أكانت حزباً أم قبيلة أم أمة وهو يختلف عن اللاشعور الجماعي النفسي. فالأمر يتعلق بعلاقات سياسية واجتماعية وليس شعوراً فردياً، وبالتالي حتى لو تغيرت القاعدة المادية للإنتاج يبقى اللاشعور السياسي الجماعي مستقلاً عنها. ووفق دوبريه فإن العلاقات الاجتماعية في المجتمعات الأوروبية تقع خلف العلاقات الاقتصادية؛ بينما في مجتمعاتنا فإن أنماط الإنتاج مرتبطة بالعلاقات الاجتماعية ذات الطابع العشائري والقبلي، وتحتل موقعاً متقدماً أساسياً وصريحاً في الحياة السياسية. من هنا تصبح مهمة اللاشعور السياسي في مجتمعاتنا هي إبراز كل ما هو سياسي في المخيال الديني والقبلي، أي الفيزياء الاجتماعية ببنيتها العشائرية والقبلية "من هنا يصبح العقل السياسي كممارسة وأيديولوجيا هو في الحالتين ظاهرة جمعية إنما يجد مرجعيته في الخيال الاجتماعي مجالاً للاعتقاد واكتساب القناعات وليس لاكتساب المعرفة، فهو هنا جملة الرموز والدلالات والمعايير والقيم التي تعطي للأيديولوجيا السياسية في فترة تاريخية ما ولجماعة ما بنيتها اللاشعورية، إنه يعمل على قاعدة لكل مقام مقال، إنه ميكيافيلية سياسة استدعاء ما يناسب الجماعة ومصالحها وتبيئته وفلسفته واقعاً لا تاريخاً"(6).

أعراض أمراض الشخصية السياسية السودانية

 ولأن أنظمتنا السياسية التي حكمت تكاد تكون هي هي؛ فيمكن أن نطلق عليها ما يُسمَّى بأنظمة الطفرة (7)، وهي أنظمة تتشكَّل في ظروف غير طبيعية، كالانقلابات العسكرية مثلاً، وكأنها تأتي بالمصادفة. وهذه الأنظمة غير منطقية وتصرفاتها غامضة وفجائية، فهي تخضع لمزاج الفرد على رأس السلطة ولا يمكن التنبؤ باتجاهاتها أو قراراتها. ثم ما هي الأمراض التي تتحكم  في عمل الشخصية السياسية سيكولوجياً في تعاطيها مع نفسها ومع الآخرين (الحزب؛ المؤسسات، الجماهير.....الخ). قلنا في مقدمة الورقة إن الشخصية السياسية تعاني من عدة إشكالات سايكولوجية  نابعة من أنساق بناء وتكوين العقل السياسي (الحراك الطلابي؛ القبيلة؛ الطائفة؛ العنصرية...الخ). وقد رأينا في الصفحات السابقة أعطاب هذه الأنساق وتأثيرها في السلوك وما يظهر ويتجلى في الفعل السياسي منها:

عقدة العُصاب الجماعي:

يعرّف العُصاب في علم النفس بأنه اضطراب وظيفي دينامي انفعالي في الشخصية نفسي المنشأ يظهر في الأعراض العصابية. وهو ليس له علاقة بالأعصاب، ولا يتضمن أي نوع من الاضطراب التشريحي أو الفسيولوجي في الجهاز العصبي، والعصاب كما يراه جورج طرابيشي في قراءته للخطاب العربي هو عجز الإنسان عن الإفلات من قبضة الماضي ومن عبء تاريخه. إنه عقدة العيش في الماضي في مواجهة الحاضر، فالسوداني معجب بماضيه وأسلافه وهو غافلٌ عن الآن والغد.

الحرمان النسبي:

الحرمان النسبي هو مصطلح يستخدم في العلوم الاجتماعية، لوصف مشاعر أو مقاييس الحرمان الاجتماعي أو السياسي أو الاقتصادي النسبية وليس المطلقة. يرتبط هذا المصطلح بشكل وثيق بمصطلحات مشابهة مثل الاستبعاد الاجتماعي والفقر. يترك الحرمان النسبي عواقب مهمة على السلوك والمواقف، بما في ذلك مشاعر الضغط النفسي، والمواقف السياسية والمشاركة في العمل الجماعي. يرتبط المفهوم بدراسات الباحثين لمجالات متعددة في العلوم الاجتماعية (8).

على سبيل الاستعارة؛ فإن استبعاد الدولة للمواطنين يعني إقصاءهم عن حقوقهم في قطاعات مختلفة، وأخطر ما في الأمر أن منطق الاستبعاد يعني اختزال القيمة الوجودية للمواطنين كفاعلين وذوات بشرية لها حقوق وامتيازات بما في ذلك الهيبة والكرامة، ولذلك يبدو المقصيون عن المشهد كما لو أنهم يؤدون واجبات دون أن تكون لهم حقوق، وهذا كله يعني أن الاستبعاد يقود ضمناً إلى الحرمان.

هذا الحرمان المتولد عن الإقصاء، يُنتج مشاعر الاستياء، والحقد، والكراهية، والعداء داخل الأفراد أو التيارات المخالفة لتوجهات أحزابها، وتعد هذه الميول بمثابة القاعدة الحافزية للثورة، وبشكل خاص بعد أن تتكثف، ويلعب الزمن دوراً بالغ الأهمية في تفاعله مع العلاقة الاستبعادية والإقصائية وتكثيف هذه الميول. وطالما أن عملية الاستبعاد نابعة من رغبة وإرادة أصحاب المواقع العليا في الدولة أو الحزب المعين، فإن العلاقة الاستبعادية بالضرورة فاسدة ولا أخلاقية. ومن هنا، ليس من المستغرب أن تقترن عملية الاستبعاد باستخدام القهر والاستبداد، وهذا بدوره يؤدي إلى تكثيف إضافي واحتقان أشد لمشاعر الحرمان. وكلما تقادم الزمن؛ يقود استمرار عملية الاستبعاد والإقصاء إلى تفاعل الحرمان والقهر، مما يُنتج مادة نفسية اجتماعية تختزن طاقة هائلة للثوران. ولذلك تنفجر الثورات الاجتماعية دون تخطيط ولا تنظيم، إنما بتلقائية، وعفوية، وانفعالية، واستثارة أساسها تفاعلات تاريخية وحدث مثير، وهو ما حدث بالتفاصيل في بلادنا في ظل الحرب التي نعيشها الآن (15 أبريل)، وبالطبع ينطبق التفصيل على أحزابنا السياسية؛ فأحزاب كثيرة انشقت على نفسها والتاريخ مبذول.

عقدة المؤامرة:

يحلل المؤرخ الأمريكي Daniel Pipes في كتابه حول الشرق الأوسط التخوفات من المؤامرة؛ والتي يرى فيها أن الطبيعة الاستبدادية للأنظمة هي التي تجعلها تعتمد نظرية المؤامرة التي تعفيها من البحث عن الأسباب العلمية لحقيقة أوضاعها الدّاخلية والتنصل من مسؤولياتها من خلال إلقاء اللّوم على قوى خارجية أو حتى قوى متخيلة وخرافية. إن هذا التحليل ينطبق على نخبنا السّياسية المتحكمة في أحزابها سياسياً ومالياً؛ وكذا النخب التي تدير الدولة والتي لا ترى في ما يشهده المجتمع من احتجاجات مطلبية مشروعة إلا مؤامرة تنسج خيوطها أطراف خارجية؛ مثلما يظهر أيضاً في المشهد الحزبي حين تطالب قطاعات واسعة في حزب ما بإصلاح وتصحيح الأمور وتغيير طريقة إدارة أحزابها لتصبح أكثر فاعلية؛ ولن تلبث إلا قليلاً حتى توصم بأنها متآمرة مع قوى وجهات ما؛ وذلك إعمالاً لنفس النظرية القائمة على المؤامرة التي تحولت إلى ”مسألة إيمان بدون دليل”، حسبما يقول الكاتب السياسي مايكل باركون، وهو ما يجعل الاعتقاد الراسخ بفكرة المؤامرة، يغلق أي إمكانية للاجتهاد والنّقد الذّاتي.

إنّ من مفاعيل عقدة المؤامرة المتحكمة في ذهنيتنا، أننا نستغرق في قراءة نوايا الآخر أكثر مما نستغرق في قراءة واقعه وخططه وبرامجه، لأننا مسكونون بهاجس التآمر والخيانة، وهو ما يحجب عنا رؤية الواقع على أساس النوايا، بل على أساس الأفعال فقط. نظرية المؤامرة التي تتبعها الأنظمة السياسية في بلادنا تفسّر أن هذه الأنظمة والأحزاب تهوى تبرير فشلها، والتهرب من مسؤولياتها، بلجوئها لنظرية المؤامرة مما يبرر القمع الذي تمارسه على عضويتها داخلياً وما يتبدّى في الفضاء السياسي العام.

التخوين:

إن بنية العقل السياسي السوداني تحتاج إلى تغيير بشكل جذري حتى يتحول من عقل تخويني وإقصائي إلى عقل يمكنه استيعاب المشكلة.  يصدر التخوين؛ عن عقلية إقصائية وعن سلوك يحيل إلى (القتل الرمزي) وكلاهما يرتبط بأيديولوجيا أحادية إقصائية؛ وهو أزمة سلوكية وفكرية سياسية بل أخلاقية تعاني منها جميع التيارات السياسية على المستوى العام؛ هذه الأزمة أنجبت فقراً سياسياً تمخضت عنه نزعات شمولية جعلت زعماء أحزابنا السياسية مستبدين ومحتكرين للدور التاريخي، الأمر الذي يُمكّن ومكّن الانتهازيين من الاستحواذ على الممارسة السياسية، والأمر يتبدّى جليّاً في شكل الدولة السودانية بعمرها الذي يجاوز الستة عقود ونيف.

يبدأ الأمر عادة بتحفظات أفراد أو مجموعات على بعضهم البعض داخل الحزب الواحد أو في الفضاء السياسي العام؛ بسبب خلاف في الرأي السياسي حول قضية من القضايا، ثم يستفحل ليبدأ (الهمز واللمز) وينتهي الأمر إلى التخوين، الأمر الذي يعني إخراج هذا الشخص أو تلك المجموعة من دائرة الانتماء الواسعة والدخول في دائرة الجريمة (المزعومة)، وهذا الأمر قد يتخذ طابعاً علنياً أو سرياً لا يشعر معه المستهدف إلا بآثاره. وقد يكون الخلاف شخصياً وينتهي سياسياً أو العكس. وهذا الأمر يهدّد بناء الوطن والديمقراطية نفسها، كما يهدد أي إصلاح حزبي أو تطوير. وكما يقول المفكر الجزائري الراحل مالك بن نبي: “إذا غابت الفكرة، بزغ الصنم”، فإن ظاهرة التخوين ترتبط ارتباطاً وثيقاً بغياب الرؤية السياسية وآليات إدارة الخلاف وفهم أساسيات العمل السياسي.

 خاتمة: هل يمكن إعادة البناء (الشخصية أم العقل السياسي)؟

ولأن العقل السياسي غير مرئي إلا من خلال أنماط السلوك والخصائص التي تظهرها الشخصية السياسية؛ فيمكننا من خلال تحليل تلك الأنماط والسلوك الشخصي الذي يتبدّى في القول والفعل، أن نحدد الأعطال والخلل في العقل السياسي؛ بالنظر إلى أن السلوك هو نتاج النسق أو نظام المعرفة والذي يحدث وفق تراكم زمني طويل؛ فإن إصلاح السلوك السياسي هو مدخل أول لإصلاح العقل السياسي.

يظل العمل السياسي يجترُّ سياسات الفشل، وتتجدد أعطابه في الجسد السياسي؛ إذا لم يكن هناك إعادة صياغة شاملة للعقل السياسي، مُستخدمين في ذلك التطورات الهائلة في العلوم والمعرفة والتكنولوجيا؛ فلقد رأينا أبنية الخلل في العقل منذ نشأته. ولأنه نشأ ضمن عدة عقول صاغت مفاهيمه ضمن إطار العقل المجتمعي والذي هو بطبيعة الحال مكونٌ من أنساق عقلية متباينة، فهو يحتاج إلى تفكيك ونقد ووضعه على المشرط بشكل جذري يقضي بالاعتراف بما أحدثه من خراب سياسي وأخلاقي وتفكيك قيمي للمجتمع والناس والمؤسسات ونحمّله المسؤولية لأنه الفاعل الرئيسي. 

 وليس يكفي أن نثور على العقل السياسي وحده، بل نحتاج إلى ثورة ثقافية شاملة، إذا ما أردنا إصلاح أعطاب البناء السياسي؛ ثورة على كل الأنساق والأنظمة المعرفية والثقافية والبيداغوجية...الخ التي تشكله. يحتاج السودانيون لأن يتفقوا على موضعة السودان نفسه ضمن أطر تحقق التطور والتقدم بطرحهم لأسئلة جريئة وشجاعة حول واقعهم.

***

أحمد يعقوب

...............................

هوامش:

* كاتب وفيلسوف فرنسي، عمل مستشاراً للرئيس الفرنسي فرانسوا ميتران للشؤون الخارجية. طور نظرية "الميديولوجيا"، وأسس مجلة  Médium، كما أسس "المعهد الأوروبي للدراسات الدينية"، وكان عضواً في أكاديمية غونكور. نشر العديد من المقالات والكتب. من مؤلفاته: ثورة في الثورة؛ مذكرات برجوازي صغير؛ نقد العقل السياسي؛ الميديولوجيا.

** مفكر وفيلسوف مغربي له أكثر من ثلاثين عملاً في مختلف الحقول المعرفية أبرزها نقد العقل العربي.

مراجع:

1. وحدة الدراسات الاجتماعية والأنثروبولوجية والإثنية في المعهد العالمي للتجديد العربي محاضرة فكرية بعنوان "أنثروبولوجيا القبيلة في العالم العربي: نزعات نقدية"، 14/7/2021

2. Rogers Brubaker, Ethnicity without Groups (Cambridge, Mass.: Harvard University Press, 2004

3. john D. Brewer, «Sectarianism and Racism, and their Parallels and Differences,» Ethnic and Racial

4. عزمي بشارة - الطائفة، الطائفية، الطوائف المتخيلة المركز  العربي للابحاث ودراسة السياسات – الطبعة الأولى 2019

5. سيجموند فرويد – مدخل إلى التحليل النفسي – ترجمة جورج طرابيشي دار الطليعة للطباعة والنشر الطبعة الاولى 1980 بيروت (انظر المحاضرة الثانية المعنونة بالهفوات).

6. د. محمد عابد الجابري - العقل السياسي العربي محدداته وتجلياته – مركز دراسات الوحدة العربية الطبعة الرابعة أغسطس 2000 .

7. د. محمد المهدي- - علم النفس السياسي – رؤية مصرية عربية مكتبة الانجلو مصرية 2007.

8. خواض مصطفى: الحرمان النسبي كمدخل تفسيري للعنف والتمرد داخل الجامعات المجلة الجزائرية للدراسات السياسية 6.6.2022

مصادر:

1- الدولة والقبيلة في السودان: القبيلة في دارفور مثلاً - عبد الله أحمد جلال الدين محمد – المركز الديمقراطي العربي.

2- غلاب، نجيب. 2010. لاهوت النخب القبليّة. بيروت: بيسان للنشر والتوزيع والإعلام.

3-  "relative deprivation". Oxford Reference (بالإنجليزية). Archived from the original on 2021-04 -10. Retrieved 2021-04-1

4-  محمد عابد الجابري – العقل السياسي العربي محدداته وتجلياته – مركز دراسات الوحدة العربية الطبعة الرابعة 2000.

5- د. برهان زريق – العنف السياسي الطبعة الأولى 2016.

6- كريستيان تيليغا – علم النفس السياسي سلسلة عالم المعرفة مايو 2016.

7- العشيرة والدولة في بلاد المسلمين – ترجمة رياض الكحال، المركز العربي للابحاث ودراسة السياسات 2019.

8- محمد ابو هنطش- علم الاجتماع السياسي ؛ قضايا العنف والحرب والسلام – دار البداية 2016

10- مارفن هاريس- التحريم والتقديس ؛ نشوء الدول والثقافات – المركز العربي للابحاث ودراسة السياسات  2020.

11-  عبدالرحيم العطري- من القبيلة إلى الدولة الانتقال العسير – موقع TRT عربي على الإنترنت.

12- د. محمد ربيع - الأنا والآخر من خطاب القبيلة إلى الخطاب الديني- صحيفة الرياض.

13- محمد نجيب بوطالب: الظواهر القبلية والجهوية في المجتمع العربي المعاصر- دراسة مقارنة للثورتين التونسية والليبية 2012: المركز العربي للابحاث ودراسة السياسات.

14- عبدالمنعم أبو إدريس "مدخل إلى القرن الأفريقي. القبيلة والسياسة" دار العربي.

” قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لَيْسَ مِنَّا مَنْ دَعَا إِلَى عَصَبِيَّةٍ وَلَيْسَ مِنَّا مَنْ قَاتلَ عَلَى عَصَبِيَّةٍ وَلَيْسَ مِنَّا مَنْ مَاتَ عَلَى عَصَبِيَّةٍ) “ (سنن أبي داود باب العصبية رقم الحديث: 5121).

” ولكي نقيس التسامح، يبدو واضحاً أننا لا نكون بحاجة إلى قياس سلوكنا واتجاهاتنا نحو جماعات نحبها، لأن جوهر التسامح يكمن في الاستعداد للعيش جنباً إلى جنب مع أفراد نعارضهم، وأفكار لا نتفق معها. يبدو واضحاً تعريف مقولة فولتير الشهيرة: أنا أمقت وجهات نظرك، لكن على استعداد لأن أموت دفاعاً عن حقك في التعبير عنها “([1]).

إن عدم التسامح السياسي يرتبط بنزعات شخصية معينة تتسم بالثبات منها التصلب بالرأي والتسلطية والتفاؤل، ومنها أيضاً عدم الأمن النفسي والدوغمائية وعدم الثقة بالآخرين، أو الحقد على بعض، والاعتقادات المتصلة بالقيم الديموقراطية فيما يصلون إليه من قرارات.

يعتبر علم النفس السياسي* مجال أكاديمي متعدد الاختصاصات، يقوم على فهم السياسة والسياسيين والسلوك السياسي من منظور نفسي. وتعتبر العلاقة بين السياسة وعلم النفس ثنائية الاتجاه، فيستخدم العلماء علم النفس كمرآة لفهم السياسة، وكذلك السياسة مرآة لعلم النفس. ويعد هذا العلم مجال متعدد الاختصاصات، لأنه يأخذ مادته من مجموعة واسعة من التخصصات الأخرى، بما في ذلك: علم الإنسان، وعلم الاجتماع، والعلاقات الدولية، والاقتصاد، والفلسفة، والقانون ، ووسائل الإعلام والصحافة بالإضافة إلى التاريخ. ويعرف مورتون دويتش علم النفس السياسي بأنه: دراسة تفاعل علم السياسة مع علم النفس، خاصة أثر علم النفس في السياسة. ومن الجدير بالذكر أن هذا العلم الوليد قام على أسس موجودة في العلوم النفسية وهي دراسات الشخصية، وسيكولوجية وديناميات الجماعة والقيادة، والأسس النفسية لتكوين الاتجاهات، ومهارات حل الصراع ... وغيرها، مع تعديل جوهري وهو تطبيق كل ذلك على مجموعات كبيرة وقوى ضغط ومصالح متباينة.

يهدف علم النفس السياسي إلى فحص مسائل التعصب والعنصرية والتمييز العرقي والتسامح ومحاولة فهمها. عن طريق النظريات النفسية الكثيرة مثل: نظرية الإحباط والعدوان، والنرجسية ويستطيع علم النفس السياسي مساعدة صناع القرار في اتخاذ القرارات([2]) الصائبة في مجال العلاقات الدولية، وفي التنبؤ بردود الفعل المحتملة للدول الأخرى لتلك المبادرات والاتفاقيات السياسية.

بالمقابل ركز علم نفس العنصرية عبر التاريخ على سيكولوجية الفرد، كيف تدفع المعتقدات والسلوكيات الفردية العنصرية (المقاربة النفسية الاجتماعية). لكن قيدت رؤية العنصرية من هذا المنظور وحده حدود شديدة. واليوم، يستخدم بعض الباحثين في علم النفس المقاربة الثقافية الاجتماعية ويدافعون عنها، والتي تنظر إلى العنصرية على أنها أفكار وممارسات راسخة في الثقافة وتكون جزءاً لا يتجزأ منها. إذ يشكل الأفراد الثقافة وتشكل الثقافة الأفراد.

بناءً عليه يتساءل علماء نفس السياسة المهتمون بجذور التعصب العنصري من بينهم فيديريكو ولاكس Federico and Luks ، ما الذي يجعل أفراداً عاديين عقلانيين وأصحاء نفسياً يتحيزون ظاهرياً أو باطنياً ضد شخص معين أو جماعة بكاملها، ويمثل هذا التحيز في الحقيقة واحداً من أكبر الألغاز التي يواجهها علم النفس الاجتماعي والسياسي، وربما العلوم الاجتماعية قاطبة، والنظريات النفسية التي تصدت لتفسير العنصرية ونشوء التوترات العنصرية عديدة ومتنوعة، ومن هنا نجد الكثير من هؤلاء العلماء يتصدى لدراسة أسباب انتشار هذه الظاهرة الموجهة نحو جماعة عرقية معينة وتستند إلى نظم من القوة والقمع. يُنظر إلى العنصرية أحياناً بأنها مشكلة مع الأحكام المسبقة العنصرية للفرد، لكن من المهم إدراك أنها متعددة الأوجه ومنهجية.

يذخر التفكير الإنساني بالعديد من التفسيرات العنصرية من حيث تصرفات وإيديولوجيات الفرد العلنية (الفهم الاجتماعي النفسي)، إلا أنها موجودة أيضاً ضمن الأنظمة، المؤسسات، والثقافات (الفهم الثقافي النفسي). بهذه الطريقة، فإن العنصرية جزءً لا يتجزأ من واقع الحياة اليومية. وبما أن التمييز العنصري هو جزء من الحياة اليومية، الأنماط الثقافية والقصص التاريخية، فمن الصعب أحياناً على أفراد المجتمع رؤية كيف تحرض الأفكار المألوفة والعادية وجهات النظر والسلوكيات ذات الطابع العنصري. كما لا يتمحور التمييز العنصري فقط حول إظهار الأفراد الأفكار المسبقة العرقية أو الانخراط في أفعال مباشرة تنم عن التمييز العرقي. إذ تكون أحياناً أقل وضوحاً وأكثر مكراً، وتؤثر على المؤسسات مثل نظام العدالة*، حيث يواجه المتهمون ذوو البشرة السوداء أحكاماً أقسى مقارنة بالمتهمين البيض بنفس الجريمة على سبيل المثال.

قد يشير تزايد التعبيرات العلنية عن التحيز العرقي أن الأحكام المسبقة العنصرية (وبالتالي العنصرية) أقل تطرفاً في أمريكا المعاصرة على سبيل المثال. لكن يوضح العديد من علماء النفس أن التحيز العرقي قد دفن لكنه نما وازدهر بأشكال أكثر مكراً، مُقدمين أدلة دامغة على ذلك. وفي حين أن أغلب التصرفات الفردية الصارخة والتي تنم عن العنصرية لم تعد مقبولة في " الاتجاه السائد" في المجتمع الأمريكي المعاصر. إلا أن فهم مجتمعنا لماهية العنصرية يستمر في التطور والتغير.

في حقيقة الأمر، إن مؤسساتنا ليست بعيدة جداً عن سنوات الاستعمار والعبودية والفصل العنصري، ولا يزال تجاهل العنصرية أو التغاضي عنها قائماً أو حتى دعمها بشكل نشط في العديد من جوانب الحياة الاجتماعية. لذا يجب علينا في سبيل فهم أفضل لآلية عمل العنصرية، من المهم النظر إلى ما هو أبعد من سيكولوجية الفرد أي إلى الممارسات المنهجية والثقافية التي تستمر في دعم العنصرية.

أجرت سوزان فسك Susan Fiske  القدر الأكبر من البحوث حول العنصرية racism والتعصبprejudice   والتمييز discrimination في الولايات المتحدة. وتفسر فسك ذلك بقولها: " إن قروناً من الهجرات الشديدة التنوع التي دخلت في أمة واحدة، دفعت القضايا الإثنية إلى السطح في الولايات المتحدة أسرع من أي مكان آخره. ولكنها تؤكد أن كثيراً من النظريات التي استخدمت لتفسير العنصرية تنطبق على التعصب في السياسة الأوروبية بالقدر الذي تنطبق فيه على التعصب في السياسة الأميركية ". والحقيقة أن معظم النظريات التي تفسّر هذه الظاهرة يمكن تطبيقها على أي منطقة من العالم حيثما يكون هناك فروق عنصرية وإثنية بارزة داخل الدولة الواحدة.

إن النظريات النفسية التي تصدت لتفسير العنصرية ونشوء التوترات العنصرية عديدة ومتنوعة إلى حد يبعث على الدوار في الحقيقة، ولا يسعنا استعراضها على قدم المساواة هنا، ولكننا نستطيع الإشارة إلى الخطوط العامة للواحدة منها بالتأكيد.

كما تذهب فسك أننا نستطيع تصنيف جميع هذه النظريات في صنفين: نظريات تفسر ظاهرة التعصب على مستوى فردي (individual - level theories) ونظريات تفسرها على مستوى السياق أو الإطار المحيط (contextual - level theories). بوجه عام يمكننا النظر إلى العنصرية، كغيرها من الظواهر السياسية، باعتبارها نتاج الاعتقادات التي يحملها أفراد معينون أو نتاجاً للشخصيات الخاصة بهؤلاء الأفراد، أو قد تكون نتاجاً لعوامل موقفية تشجع أو تسمح بممارسة سلوك عنصري. وفي هذا المقال سنحاول تفسير العنصرية من خلال مناقشة نظرية الشخصية التسلطية، والسيطرة الاجتماعية، ونظرية التنميط الاجتماعي (الوصم الاجتماعي)، من خلال ما يلي:

- نظرية الشخصية التسلطية([3]): يرى بوب ألتيماير  Bob Altemeyer أن أساس نظرية الشخصية التسلطية القديمة قد ارتبط بتيودور أدورنو Adoro Theodore وزملائه، ولكنه حاول أن يزيل شيئاً من الغموض الذي اعترى تلك النظرية. فقد حددت نظرية أدورنو في الأصل تسع سمات شخصية يفترض أن تميز الجناح اليميني التسلطي من الناس، لكن ألتيماير اختصر هذه السمات في ثلاث مجموعات من الاتجاهات، وهي: الخضوع للسلطة: (ويعني ذلك ميلاً شديداً لدى الفرد إلى الخضوع للسلطة). والعدوان التسلطي (العدائية تجاه الجماعات الخارجية). والتقليدية: وتشير إلى الامتثال للمعايير الاجتماعية وعدم الاستعداد للتصدي للواقع القائم)، وأطلق ألتيماير على الصيغة المنقحة من النظرية تسمية (تسلطية الجناح اليميني) وطور مقياساً لقياس درجة اتسام الأفراد بهذه الصفات. ويمكن النظر إلى العنصرية ببساطة، من وجهة نظر ألتيماير، كواحدة من خصائص هذا الصنف من الشخصية التي تتسم بالتعصب الشديد إزاء الجماعات الخارجية من أي نوع، بما في ذلك الأميركيين من أصول إفريقية. ويقول ألتيماير بهذا الصدد: يحمل أصحاب هذه الشخصية الكثير من التعصبات، فهم معادون لكثير من الأقليات، ويظهرون تعصباً على الجميع على قدم المساواة. ولكنهم لا يدركون في العادة أنهم متمرکزون حول ذواتهم، ولا يرغبون في اكتشاف ذلك، وهم على استعداد دائماً لمساعدة الحكومة في اضطهاد أي جماعة تخطر ببالك، بما في ذلك هم أنفسهم.

وتثير نظرية التسلطية اليمينية، التي يطرحها ألتيماير إشكالية أخرى تتعلق بالتمييز بين الموقفية والنزوعية. فمن الناحية الأولى، ليس هناك من شك في أن الأفراد يصبحون متعصبين نتيجة للبيئات أو الظروف التي يجدون أنفسهم فيها، وليس لأنهم ولدوا على هذه الشاكلة. وبهذا المعنى تكون معظم النظريات موقفية في جذورها، لأن الناس لا بد من أن يحصلوا على نزعاتهم من مكان ما والاستثناء على ذلك هو النظريات البيولوجية التي تؤكد أننا نولد بشيء من النزعات الموروثة في الأقل ولا نولد صفحات بيضاء.

ويعتقد ألتيماير أن اليمينيين التسلطيين يتعلمون اعتقاداتهم التسلطية في الطفولة  كما يفعل ذلك غير التسلطيين،  لكن الفروق تكمن في أن غير التسلطيين يكونون أكثر وعياً بأنفسهم، ويعملون على تعديل اعتقاداتهم المبكرة بالخبرة، في حين أن التسلطيين يحافظون على تلك الاعتقادات. ومن ناحية ثانية، يمكن اعتبار هذه النظرية نظرية نزوعية من حيث إن الاتجاهات التسلطية، وإن كانت متعلمة، إلا أنها تمثل نزعات تستعصي على التغيير لاحقاً، وتستمر مدى الحياة. ومع أن السبب البعيد لهذه النزعات قد يتصل بعوامل موقفية، إلا أن السبب المباشر، أو القريب، يكون سبباً نزوعياً.

ومع أن نظرية ألتيماير أصبحت معروفة على نطاق واسع الآن واكتسبت بعض المناصرين، إلا أنها لا تتمتع بالقبول الذي تتمتع به نظريات أخرى في هذا المجال. وبعيداً عن الانتقادات الأساسية حول هذه النظريات المبسطة في الشخصية، فإن نظرية الشخصية التسلطية تدعو إلى التساؤل عن السبب الذي يجعل مناطق بكاملها تعبر عن عواطف عنصرية شديدة إزاء جماعة أو جماعات معينة أو تمارس التمييز ضدهم، أو تفعل الأمرين معاً. وقد يكون نظام جيم کرو  Jim Crow الذي قام على الفصل العنصري في الولايات المتحدة الجنوبية قديماً هو المثال الكلاسيكي لهذه الحالة أو الإشارة هنا إلى تعصب جماعة بكاملها وليس إلى تعصب أفراد.

- نظرية السيطرة الاجتماعية: يعتبر جيم سيدانيوس Jim Sidanius هو المدافع البارز عن نظرية السيطرة الاجتماعية في العلاقات بين الجماعات. وهذه النظرية، خلافاً لسابقتها، نظرية عامة في العلاقات بين الجماعات، ويمكن الاستناد إليها الفهم أنواع مختلفة من الصراعات غير الصراعات القومية.

وتركز هذه النظرية على الدافع إلى السيطرة الاجتماعية والمقصود هنا سيطرة الجماعة التي ينتمي إليها الفرد، وتميز بين الأفراد من حيث توجهاتهم نحو هذا النوع من السيطرة، فالأفراد الذين يظهرون توجهاً قوياً نحو السيطرة الاجتماعية يرون جماعتهم على أنها جماعة مختلفة - تتميز عن الآخرين - ويرغبون في أن تحتل مركز السيطرة في المجتمع. هذه النظرية وإن كانت أكثر تعقيداً من سابقتها، إلا أنها تشترك معها في جذورها النظرية. وكما سبق أن أشرنا، فإن هذه النظرية تزعم أن الأفراد ذوي المكانة الميدانية يمكن أن يأخذوا بالأساطير التي تسبغ شرعية على التراتبية القائمة في المجتمع إلى حد يجعلهم يحابون الجماعة الخارجية ذات المنزلة العالية. ويعتبر سيدانيوس تفضيل السود لـ العم توم، الأبيض أثناء حقبة الفصل العنصري في الولايات المتحدة، أوضح مثال على هذه الظاهرة في العصر الحديث، والتي نجمت عن خضوع السود للبيض تاريخياً.

ولقد كرس أنصار هذه المقاربة الكثير من الجهد لدراسة العنصرية على وجه الخصوص. ووفقاً لما ترى فيليشيا براتو Felicia Pratto وزملاؤها، فإن التوجه للسيطرة الاجتماعية يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالعنصرية المناوئة للسود، والتعصب على مجموعات الأقليات بشكل عام. وتؤكد فيليشيا وزملاؤها أن إيديولوجية العنصرية المناوئة للسود لم تتمثل في أفعال شخصية تمييزية فحسب، بل شملت تمييزاً مؤسسياً ضد الأميركيين الأفارقة في المجالات المختلفة، مثل البنوك، وهيئات النقل العام، والمدارس، والكنائس، وقوانين الزواج، ونظام العقوبات. ولا تأتي النظرية بالكثير عن المصدر الذي خرجت منه الأساطير المشرعة للعنصرية أو طبيعة هذه الأساطير أكثر من القول إنه يجري تناقلها من خلال الجماعات المسيطرة، غير أن أنصار هذه النظرية يرون أن المصدر الذي تنبثق منه الإيديولوجية العنصرية، والأشكال التي تأخذها ليست ذات أهمية. ومن هنا فإن هذه النظرية لا تمتلك الكثير لتقوله عن المكنزمات النفسية التي تعزز التفكير العنصري، على الرغم من أن طبيعتها غير المحددة تسمح بتطبيقها على نطاق واسع من مواقف الصراع بين الجماعات.

- نظرية التنميط الاجتماعي (الوصم الاجتماعي) ([4]): تعود جذور هذه النظرية إلى خمسينيات القرن الماضي كتفسير للسلوك الانحرافي ويعتبر عالم الاجتماع الأمريكي " أدوين ليمرت " أول من تحدث عنها، وكلمة (وصم) تعني باليونانية النقطة السوداء في الصفحة البيضاء، إذن فهي تصمها أو تميزها. وفي اللغة العربية هو العار والعيب. اصطلاحاً هي صورة ذهنية سلبية تلتصق بالفرد كتعبير عن الاستياء والاستهجان لهذا الفرد نتيجة اقترافه سلوكاً غير سوي يتعارض مع القيم والمبادئ السارية في المجتمع([5]).

وفي سياق أدبيات علم النفس السياسي تعتبر واحدة من النظريات الواقعة ضمن المعسكر النزوعي التي حظيت باهتمام واسع في السنوات الأخيرة. وكواحدة من نظريات العنصرية، تُرجع نظرية التنميط هذه الظاهرة إلى الطريقة التي يصنف بها العقل البشري المعلومات. بالمقابل تنطبق هذه النظرية أيضاً على الصور النمطية العنصرية في هذا النطاق. ينبثق التنميط العنصري جزئياً، وفقاً لهذا المنظور، من حاجة الإنسان الأساسية إلى تبسيط الواقع، ووضع الناس والأشياء في أصناف. وتفيد فسك وتايلر في كتابهما الكلاسيكي المعرفة الاجتماعية، الصادر عام 1984 أن النظرة إلى الصور النمطية كجانب اعتيادي من جوانب العملية المعرفية، حين تطبق على الناس، أصبحت مقبولة على نطاق واسع، وهي تختلف اختلافاً بيّناً عن النظرة التقليدية إلى الصور النمطية كظاهرة غير عقلانية معزولة عن غيرها من العمليات المعرفية. ويبدو أن الصور النمطية السلبية تتكون، في جانب منها، نتيجة لنزعتنا إلى إقامة ارتباطات وهمية بين الأفراد والجماعة التي ينتمون إليها في نظرنا، وتفيد فسك وتايلر، في هذا الصدد: قليلاً ما يتصل أعضاء جماعة الأكثرية بأعضاء من جماعة الأقلية (هذا من جهة، ومن جهة أخرى قليلاً ما يصدر عن الناس سلوك سلبي لأن السلوك الإيجابي أو المحايد هو الغالب)، وربما تُقيم جماعة الأكثرية ارتباطاً وهمياً بين مثل هذين الحدثين النادرين (أي عندما يصدر سلوك سلبي عن فرد من جماعة أقلية)، وتستنتج أن أعضاء جماعة الأقلية أكثر ميلاً إلى القيام بالسلوك السلبي من جماعة الأكثرية.

ولعل المثال التالي يوضح مفهوم الارتباط الوهمي هذا. تخيل مثلاً أنك طالب جامعي أبيض من منطقة ريفية تستأجر شقة من مالك باكستاني في مدينة ليدز بإنكلترا. والباكستانيون يشكلون أقلية كبيرة في المملكة المتحدة، ولكنهم يفضلون الإقامة في المدن الكبرى في الشمال والوسط، مثل بيرمنغهام، ومانشستر، وليدز. ودعنا نتخيل أن الماء أخذ يتسرب من سقف شقتك، لكن المالك لم يرد على مكالماتك ورسائلك المتكررة طالباً إليه إجراء الإصلاح اللازم، ونتيجة لذلك نشأ لديك نفور شديد منه واستغراب، وقررت الانتقال من الشقة بأسرع ما يمكن. ففي مثل هذا الموقف، وخصوصاً إذا لم يكن لديك أصدقاء باكستانيون، ولم يكن لديك كثير من العلاقات مع باكستانيين آخرين، أي لا يوجد لك علاقة بأحدهم على الإطلاق، فإنك ستميل على الأرجح إلى استنتاج وجود صلة (أو ارتباط وهمي) بين سلوك هذا الشخص والباكستانيين کجماعة. وقد تجد نفسك تنعت الباكستانيين جميعاً بنعوت عنصرية، على الرغم من أنك لم تعتبر نفسك يوماً شخصاً متعصباً. ومن حيث إن هذه المقاربة المعرفية التي نحن بصددها تفترض كذلك أننا " علماء بالفطرة "، فقد يجد الواحد منا نفسه منقاداً إلى بناء استنتاج غير  سليم على أساس من حالة منفردة واحدة.

وليس مستبعداً أن تتطور لدينا مشاعر عنصرية إزاء الباكستانيين في المثال السابق. أما إذا كان لدينا معرفة بعدد كبير من المالكين وكان لدينا خبرة مماثلة مع معظمهم، فإننا قد تلحق هذا الفرد وصمة المالكين، بدلاً من وصمة  الباكستانيين. وستؤدي تلك الحالة إلى مشاعر تعصبية على جميع المالكين بدلاً من الباكستانيين، وعليه، فإن نظرية الوصم ترى أن العنصرية ليست أمراً حتمياً، فهي تعتمد على الوصمة المستثارة، وعلى مخزون الوصمات الذي يمتلكه الفرد ومضامينها. وهذا هو العنصر الذي يجعل مقاربة الوصمات مقاربة نزوعية من حيث الأساس.

وقد جرت دراسة التنميط ودوره في التعصب منذ بداية الثلاثينيات في الأقل، وكانت معظم البحوث فيه تنطلق من منطلق فرويدي کلاسيکي، أو تحليلي نفسي، وتنظر إلى العنصرية كشكل من الإسقاط يقوم فيه أفراد مضطربون نفسياً بإسقاط مشاعر النقص التي يحملونها على الآخرين، ولكن الرائد الحقيقي لدراسة هذه الظاهرة كان عالم النفس الاجتماعي الشهير غوردون ألبورت* الذي ظل كتابه (طبيعة التعصب) الصادر عام 1954 مؤثراً في هذا المجال لفترة طويلة حتى بعد وفاته.

وقد نظر ألبورت إلى التعصب على أنه كراهية مبنية على تعميم خاطئ ومتصلب، قد يظل شعوراً أو يجري التعبير عنه، وقد يتجه نحو جماعة أو نحو فرد من تلك الجماعة. وعندما وضع البورت كتابه، كان ينظر إلى التنميط العنصري كخلل في الشخصية، ولكنه كان أول من تطرق إلى الفكرة المقلقة بأن العنصرية قد تنجم عن عمليات طبيعية لا تعدو أن تكون جزءاً من العمل المعتادة للذهن الإنساني، وأصر ألبورت على أن العقل الإنساني لا بد من أن يستند إلى التصنيفات ليفكر ويضيف ما أن تتكوّن التصنيفات حتى تصبح الأساس المعتاد للأحكام المسبقة. بذلك مهد ألبورت لتطوير المقاربة المعرفية في التعصب، ولكنه تبنى وجهة النظر القديمة، واعتبر التعصب كراهية غير عقلانية متجذرة تنجم عن الجهل وتعكس مناورات دفاع نفسية يتوسلها ذو البناء الشخصي الضعيف من الناس. كما أكد ألبورت دور العوامل الانفعالية والدافعية في التعصب، الأمر الذي مهد لأجيال من الباحثين أخذ أفكاره والانطلاق بناءً عليها في اتجاهات مختلفة.

وهكذا بنى الباحثون نظرياتهم لاحقاً على أساس هذا البعد المعرفي لتحليل ألبورت، إلا أنهم خالفوا حُججه في بعض الجوانب. وفي نهاية المطاف خلص ألبورت إلى نتيجة مفادها أن (وجود الصور النمطية يقود لا محالة إلى اتجاهات تعصبية).

وفي سياق متصل تتبنى غالبية البحوث في التسامح([6]) السياسي (منحي نزوعي). فقد وجدت الدراسات المبكرة في هذا المجال أن التسامح يرتبط بنزعات شخصية معينة تتسم بالثبات نسبياً منها: التصلب بالرأي([7])، والتسلطية، والتفاؤل، عدم الأمن النفسي، والدوغمائية*، أو التصلب بالرأي أيضاً، وعدم الثقة بالآخرين. وقد سعت بعض الدراسات في هذا السياق إلى تحليل العوامل التي تؤثر في صنع القرارات المتعلقة بالتسامح، وبالأخص فيما يتعلق بدور الانفعال في صنع القرارات، وهو منظور نزوعي أيضاً من حيث إنه يركز على الفروق بين الأفراد في الاستجابة للبيئة المعلوماتية المحيطة بهم ذاتها. كما تلعب الفروق الفردية دوراً هاماً في اختلاف الناس في الطريقة التي يصنعون بها الأحكام المتعلقة بالتسامح، وفي الطريقة التي يتعاملون بها مع المعلومات الراهنة، فالناس يختلفون في ما يحملونه من نزعات وفيما يصلون إليه من قرارات، وقراراتهم القائمة تلك تؤثر في مدى تسامحهم أو عدم تسامحهم. فقد يختلف الناس، مثلاً، في مستوى معرفتهم السياسية وخبرتهم، وطريقة معالجتهم للمعلومات الجديدة. وهذا يعني أن القرارات المتعلقة بالتسامح هي في نهاية المطاف نتيجة المزيج من العوامل، تتضمن: النزعات القائمة لدى الأفراد والمتعلمة مبكراً في الحياة، والاعتقادات المتصلة بالقيم الديموقراطية، والمعلومات المحددة المتعلقة بالحالة قيد البحث.

إننا عندما تواجه حجم العنـصرية الكبير في العديد من البلدان، فمن السهل أن تشعر بالعجز أمامه. لكن هناك بعض الأشياء التي يمكنك القيام بها على المستويين الفردي والمجتمعي للتأثير على العنصـرية الشخصية والمنهجية على حد سواء. فيما يلي بعض الإجراءات التي يمكن من خلالها مكافحة العنـصرية: ففي البداية يجب علينا العمل  على بناء نظام قائم على المساواة تشترك فيه المجتمعات كافة بشكل عادل. والانتباه المباشر إلى مشكلة التمييز العنصري بدلاً من إخفائها أو التظاهر بعدم وجودها. كما يجب علينا عندما نواجه موقفاً عنصرياً، أن نتحدى ونسأل الناس عن سبب تفكيرهم بهذه الطريقة وشجعهم على أخذ البدائل بالاعتبار. بالإضافة إلى ذلك ينبغي علينا أن نتذكر أن التغيير لا يحدث بين ليلة وضحاها والتحلي بالصبر إذا كان التقدم باتجاهه بطيئاً، فحتى التغييرات الصغيرة بإمكانها أن تؤدي إلى نتائج كبيرة عندما يكون الفعل مستمراً ومتسقاً. كما يجب علينا تعليم الأطفال الاندماج والتعاطف مبكراً حتى يكونوا قادرين على تحديد العنصرية ومواجهتها عند البلوغ، وإجراء بحوث نفسية تتناول كيفية تغيير المعايير الاجتماعية وأفضل الطرق لتطبيق النظم التي تؤدي بالنتيجة إلى تغيير مواقف الناس في المجموعة السائدة (المهيمنة) بحيث تتأثر النظم أيضاً بهذا الاتجاه، والسعي إلى تصميم مناهج تعليمية تتناول تاريخ العنصرية وتعلم التلاميذ كيفية إدراك التحيزات الموروثة لديهم. بالإضافة إلى القيام بعملية التواصل في ظروف مواتية مع مجموعات أخرى، والعمل نحو تحقيق أهداف مشتركة مع أشخاص من أعراق مختلفة. كما يجب علينا السعي إلى تكوين صداقات بين الأعراق (قبول الآخر) ([8]) وتعزيزها بحيث يستطيع أعضاء المجموعات رؤية بعضهم كأفراد بدلاً من اعتبارهم مجرد جزء من الطائفة أو العرق.

باختصار شديد، إن مكافحة العنصرية أبعد من مجرد أن تكون شخصاً (غير عنصري) والتي تعادل أحياناً العنصـرية السلبية، تعلم كيف يكون الفرد مناهضاً نشطاً للعنـصرية وهو أمر أساسي. فعلى سبيل المثال، أظهرت الأبحاث أن اتباع نهج أكثر مباشرة ومناهضة للعنصـرية في تعليم الأطفال عن تاريخ العنصرية له التأثير الأكبر على فهمهم للأثر الحقيقي لها.

وفي الختام، نهى الإسلام عن ممارسة العصبية والعنصرية وحاربها باعتبارها من صفات أهل الجاهلية، وهي في وقتنا الحاضر تلازم الشعوب المتخلفة، والدول الممزقة والمتقدمة أيضاً باعتبارها انعكاساً لتشوهات التربية العقيمة، ومظهر من مظاهر الأمراض الاجتماعية والثقافية، التي تنذر بالعواقب الوخيمة، والنتائج الخطيرة على تماسك المجتمع ووحدته، وفي تجاهل أسبابها ومسبباتها أو التساهل مع متعاطيها محفز لانزلاق المجتمع نحو التناحر فيما بينه، وبالتالي يصبح مجتمعاً ممزقاً يسهل افتراسه.

***

د. حسام الدين فياض

الأستاذ المساعد في النظرية الاجتماعية المعاصرة

قسم علم الاجتماع كلية الآداب في جامعة ماردين- حلب سابقاً

..............................

- المراجع المعتمدة:

أرلين كونسيك: العنصرية من وجهة نظر علم النفس وما علاقتها بالصحة النفسية؟، ترجمة: هبة مسعود، منصة أوبستان، ديسمبر 12, 2022.

https://2u.pw/QIyXrXb

إيناس صبري عبد المنعم: علم النفس السياسي وسيكولوجية القادة والجماهير، المركز الديمقراطي العربي، 13. يونيو. 2017.

https://democraticac.de/?p=47118#_ftn4

حسام الدين فياض: المدخل إلى علم الاجتماع – من مرحلة تأصيل المفاهيم إلى مرحلة التأسيس، مكتبة الأسرة العربية، إسطنبول، سلسلة نحو علم اجتماع تنويري، الكتاب الثاني، ط1، 2021.

دافيد أو . سيزر وآخرون: المرجع في علم النفس السياسي، ترجمة: ربيع وهبة وآخرون، مراجعة وتقديم: قدري حنفي، المركز القومي للترجمة، القاهرة، العدد:1484، الجزء الأول، ط1، 2010.

دايفد باتريك هوتون: علم النفس السياسي، ترجمة: ياسمين حداد، مراجعة: سامي الخصاونة، المركز العربي للأبحاث و دراسة السياسات، بيروت، ط1، 2015.

رافع النصير الزغول، عماد عبد الرحيم الزغول: علم النفس المعرفي، دار الشروق للنشر والتوزيع، عمان، ط1، 2014.

سهيلة عبد الرضا عسكر: الشخصية التسلطية وعلاقتها بالتعصب، مجلة القادسية للعلوم الإنسانية، المجلد: 12، العدد: 03، 2009.

عبد الكريم بكار:  خطوة نحو التفكير القويم، دار علام، عمان، ط5، 2011.

عبد الوهاب الكيالي: موسوعة السياسة، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، الجزء الثاني، ب.ت.

كريستيان تيليغا: علم النفس السياسي؛ رؤى نقدية، ترجمة وتحقيق: أسامة الغزولي، سلسلة عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، العدد: 436، 2016.

محمد المهدي: علم النفس السياسي (رؤية مصرية عربية)، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة، ط1، 2007.

ميشيل إ. ماكلو وآخرون: التسامح (النظرية والبحث والممارسة)، ترجمة: عبير محمد أنور، المركز القومي للترجمة، القاهرة، العدد: 2057، ط1، 2015.

ميلاد حنّا:  قبول الآخر (فكر واقتناع وممارسة)، دار الشروق، القاهرة، ط1، 1998.

Arlin Cuncic, MA: The Psychology of Racism, https://www.verywellmind.com/the-psychology-of-racism-5070459

هوامش

([1])  دايفد باتريك هوتون: علم النفس السياسي، ترجمة: ياسمين حداد، مراجعة: سامي الخصاونة، المركز العربي للأبحاث و دراسة السياسات، بيروت، ط1، 2015، ص(327).

*  انظر  أيضاً (الفصل الأول بعنوان: علوم النفس التي يعتمد عليها علم النفس السياسي) من كتاب دافيد أو . سيزر وآخرون: المرجع في علم النفس السياسي، ترجمة: ربيع وهبة وآخرون، مراجعة وتقديم: قدري حنفي، المركز القومي للترجمة، القاهرة، العدد:1484، الجزء الأول، ط1، 2010، ص(45 وما بعدها).

([2])  يرى بعض الباحثين أن عملية اتخاذ القرار هي عملية إصدار حكم. فيعرفه هاريسون على أنه عملية عقلية تنطوي على إصدار حكم باختيار أنسب السلوكيات في موقف نعين. بمعنى أدق تعتبر عملية اتخاذ القرار عملية واعية وعميقة تنطوي بشكل أساسي على اختيار أنسب البدائل المتاحة لحل مشكلة أو الخروج م موقف ما. انظر رافع النصير الزغول، عماد عبد الرحيم الزغول: علم النفس المعرفي، دار الشروق للنشر والتوزيع، عمان، ط1، 2014، ص(314-315).

* العدالة هي مفهوم تعني عدم الانحياز في محاكمة أي إنسان لأي أمر، وهي رؤية إنسانية للمحيط الذي يعيش فیه‌ کل فرد شرط أن ینظم هذه‌ الرؤیة قانون وضعي یشارك في صياغتها الکل بعيداً عن التحکم. فلسفياً: يقوم مفهوم العدالة في الفلسفة غالباً على العلاقة مع الحق، فمن الفلاسفة من قال إن العدالة أساس للحق، كقول أرسطو " العدل هو أن يأخذ كل إنسان ما يستحق "، وأفلاطون " العدالة إنصاف، فالمساواة في الحق ظلم وجور "، وفي الزمن الحديث ڤون هايك الذي خرج من مفهوم الفرد العادل إلى مسؤولية الدولة في تحصيل الحقوق. أما عن أهمية العدالة تنبثق  من خلال السعي إلى تحقيق المساواة بين أفراد المجتمع، وهذا بغض النظر عن مركز الشخص أو جنسه أو دينه، وبهذا سوف يتحقق الأمن والأمان للجميع وسيكونون قادرين على العيش والقيام بأعمالهم دون الشعور بالخوف من الظلم. نشر المحبة والأُلفة بين جميع أفراد المجتمع.

([3])  الشخصية التسلطية: يعرفها فروم بأنها ميل الفرد  إلى أن يعترف بعجزه من الاستقلال بشخصيته ومن ثم يميل إلى أن يندمج في فرد آخر أو في شيء آخر خارج ذاته لكي يكتسب منه القوة التي تنقصه. أما أدورنو يعرفها بأنها متلازمة من تسعة متغيرات هي التقليدية والخضوع والتسلطي والعدوان التسلطي ومعارضة التأملية والخرافة والنمطية والقوة والخشونة والتدمير والتهكم والاسقاطية والتركيز المفرط على الجنس. ويذهب روكيش بأنها نظام معرفي من الانغلاق الذهني وينتهي بتفتحه وهو خاص بمعتقدات ولا معتقدات الشخص سواء كان عن الحقائق والوقائع والسلطة وكذلك النماذج المتسامحة وغير المتسامحة مع الآخرين. وفي النهاية يرى انكلش هي نمط لشخصية يبني عليها الشخص توقعاته لسلوك الآخرين وتقاوم التغيير وتتسم بدرجات متفاوتة من اليقين الذاتي.  سهيلة عبد الرضا عسكر: الشخصية التسلطية وعلاقتها بالتعصب، مجلة القادسية للعلوم الإنسانية، المجلد: 12، العدد: 03، 2009، ص(205-251).

([4])  الوصم الاجتماعي أو باللغة الشائعة وصمة العار هي مواقف سلبية أو تمييز يتعرض له شخص بناء على خاصية مميزة له مثل حالة صحية ما أو مرض عقلي أو حتى لأسباب مثل العرق أو الجنس أو الدين. وتعتبر الأمراض العقلية من أكثر الأمور التي تسبب وصمة عار لصاحبها على مستوى العالم، ولذلك فإنها تؤدي غالباً لتأخير العلاج أو حتى عدم الحصول عليه بسبب الخوف من الوصم. ناقشت نظرية الوصم تلك الظاهرة بالنسبة لأصحاب السلوك الإجرامي، وقد ظهرت نظرية الوصم لأول مرة في كتاب           " الانتحار " الذي قام بتأليفه عالم الاجتماع الفرنسي اميل دوركايم، والذي ناقش فكرة أن الجريمة ليست انتهاكاً لقوانين العقوبات بقدر ما هي فعل مسيء للمجتمع. ولذلك ارتبطت تلك النظرية ارتباط كبير بعلم اجتماع الجريمة، لأن وصم شخص ما بأنه مجرم يجعل الآخرين يتعاملون معه بطريقة أكثر سلبية. أيضاً ترتبط نظرية الوصم ارتباطاً وثيقاً بالبناء الاجتماعي وتحليل التفاعل الرمزي داخل المجتمع، ويرى واضع تلك النظرية أن الانحراف ليس ميلاً متأصلاً داخل الفرد، ولكنه نابع من ميل الأغلبية إلى تصنيف الأقليات بشكل سلبي أو أولئك الذين ينظر إليهم على أنهم منحرفون عن المعايير الثقافية القياسية للمجتمع. تهتم النظرية بكيفية تحديد الهوية الذاتية وسلوك الأفراد أو تأثرها بالمصطلحات المستخدمة لوصفهم أو تصنيفهم، وكانت تلك النظرية بارزة خلال الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي بفضل عالم الاجتماع هوارد بيكر الذي تأثر بنظرية اميل دوركايم ، ولا تزال بعض النسخ المعدلة من النظرية شائعة اليوم وقد ساهم في تطويرها عدد أخر من علماء الاجتماع .

([5]) حسام الدين فياض: المدخل إلى علم الاجتماع – من مرحلة تأصيل المفاهيم إلى مرحلة التأسيس، مكتبة الأسرة العربية، إسطنبول، سلسلة نحو علم اجتماع تنويري، الكتاب الثاني، ط1، 2021، ص(233).

* غوردون ويلارد ألبورت Gordon Allport‏ (1897-1967) عالم نفس أمريكي. كان ألبورت من أوائل علماء النفس الذين اهتموا بدراسة الشخصية، ودائماً ما يشار إليه بأنه أحد من وضعوا أساس علم نفس الشخصية. أسهم ألبورت في تأسيس معايير القيم، ورفض منهج التحليل النفسي للشخصية، حيث كان يعتقد أنه دائماً ما يتعمق أكثر من اللازم. كما رفض ألبورت أيضاً منهج السلوك، حيث كان يرى أنه ليس عميقاً بالقدر الكافي. كان ألبورت يؤكد على تميز كل فرد، وعلى ضرورة دراسة حاضر كل فرد، وليس ماضيه، لفهم شخصية ذلك الفرد. يعتبر ألبورت من المؤثرين بشكل عميق ومستمر في مجال علم النفس، على الرغم من أن أعماله لم تنل نفس القدر الذي نالته أعمال غيره من الشهرة الواسعة. واكتسب ألبورت جزءاً من أهميته ودوره في علم النفس بسبب براعته في الهجوم، وأفكاره الكثيرة عن العديد من الموضوعات المثيرة للاهتمام (مثل: التعصب والتحيز ، الشائعات، وسمات البشر). ونال ألبورت أهميته أيضاً من خلال عمله بالتدريس، حيث اعتاد أن يترك انطباعاً قوياً ومستمراً في نفوس طلابه، والذين أصبح لكثير منهم شأن كبير في مجالات علم النفس بعد ذلك. ومن ضمن طلاب ألبورت: (جيروم برونر، أنتوني جرينوالد، وستانلي ميلجرام، وليو بوستمان، وتوماس بيتيجرو، وإم بريوستر سميث).

([6])  التسامح: التسامح ببساطة يعنى نبذ المشاعر والأفكار والسلوكيات السلبية تجاه من أساءوا إلينا، واستبدال مشاعر وأفكار وسلوكيات إيجابية بها، فيتيح التسامح لنا أن نعايش مشاعر التعاطف والرحمة والحنان لمن أساءوا إلينا، ونحمل كل هذه المشاعر في قلوبنا مهما بدا لنا العالم من حولنا، والتسامح هو الطريق إلى الشعور بالسلام الداخلي والسعادة، وهو سبيلنا إلى الطمأنينة رغم الشعور بالألم، والاستمرار في الحياة بعد تعرضنا للإيذاء من الآخرين ويساعدنا التسامح على تحمل مسؤولية ما نشعر به، وعدم التوقف عن الأمل لمجرد أننا تعرضنا لألم ما. يُعرف التسامح مع الذات: بأنه الميل لتجنب اللوم الذاتي المفرط، والشعور بالذنب جراء ما ارتكب الفرد من أخطاء في حق الآخرين أو حق نفسه وهو أيضاً اعتراف الفرد بأخطائه والتخلي عن الاستياء الذاتي مع الاعتراف بالخطأ، وتعزيز مشاعر الحب والعطف والسماحة تجاه الذات. أما التسامح مع الآخر: يعرف بأنه عملية متعمدة يتم بمقتضاها التغاضي عن الاساءات الموجهة للذات، من قبل فرد آخر أو أفراد آخرين، وتخفيض الانفعالات والأفكار والسلوكيات السلبية تجاه المُسيء، ويتفاعلان معاً من جديد، ذلك عندما يتسامح المُساء إليه، ولا يظهر أية إرجاع أو ردود أفعال سلبية تجاه المُسيء، وعندما  يحدث التسامح مع الآخر، يحدث التسامح مع الذات كعملية داخلية. ميشيل إ. ماكلو وآخرون: التسامح (النظرية والبحث والممارسة)، ترجمة: عبير محمد أنور، المركز القومي للترجمة، القاهرة، العدد: 2057، ط1، 2015، ص(9-15).

([7])  الفكر المتصلب: إن لدى كل واحد منا درجة من التصلب الفكري، وذلك يعود إلى أمرين: الأول، أن من تحليلات القصور الذاتي للعقل البشري أن يظل في حركته متأخراً عن متطلبات الواقع، فهو أثناء عمله يرتكب أخطاء ويوجد مشكلات، ولكن حركته في معالجة تلك الأخطاء والمشكلات تظل بطيئة، وتأتي متأخرة، بسبب نقص ما يتطلب ذلك من شفافية ومرونة. الثاني، أن الواحد هنا لا يستطيع أن يعثر على نحو مستمر على الحواجز التي يقيمها بين التصلب الممدوح الذي يتمثل في استقرار العقائد والمبادئ والمفاهيم الكبرى، وبين التصلب الذهني المذموم الذي يتمثل في نقص المرونة الذهنية، وفي اعتناق بعض المفاهيم الخاطئة التي تجعل المرء فاقداً للرشد الفكري. باختصار  يتصف صاحب الفكر المتصلب بأنه شديد الجمود على أفكاره، وهو غير قادر على التخلي عن آرائه حتى لو بدا له خطؤها، وعلى حين أن صاحب الفكر المرن يذعن للحق، ويتشوق إلى معرفة الجديد سواء أكان موافقًا لما يرى أو مخالفاً له....  لمزيد من القراءة والاطلاع انظر عبد الكريم بكار:  خطوة نحو التفكير القويم، دار علام، عمان، ط5، 2011، ص(77 وما بعدها).

* الدوغمائية: تعني التصلب والتزمت وفرض الرأي بالقوة وليس عن طريق الإقناع والحجة والدليل. والدوغمائية : كلمة يونانية تعني الجمود العقائدي " مذهب أو رأي " والتأييد الأعمى لمبادئ أو مطالب مذهب أخلاقي ما، بدون إمعان والنظر فيها . والمقصود بهذا المصطلح الإشارة إلى النهج الفكري المتزمت والإيمان بامتلاك الحقيقة وإلغاء الآخر. ويعود أصل هذا المصطلح إلى كلمة دوغما الواردة في الفكر الديني المسيحي الكاثوليكي، وتعني المبدأ الذي ينسب إليه الصحة المطلقة، ويدخل ضمن هذا الإطار مفهوم عصمة البابا الكاثوليكية والذي تعتبر تعاليمه رسمياً بمثابة إلهام إلهي. ويستخدم هذا المصطلح اجتماعياً وسياسياً لوصف المناهج والأساليب الفكرية المتعصبة والمتحجرة والتي تجافي المعقولية والمنطق. ومن المعروف أن الحركات السياسية الكليانية مثل: الشيوعية والفاشية، إضافة إلى بعض الحركات الدينية المتزمتة، تعتمد النهج الدوغمائي وتصف كل خروج عن مقولاتها وعقائدها بالانحراف. انظر عبد الوهاب الكيالي: موسوعة السياسة، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، الجزء الثاني، ب.ت، ص(697).

([8])  لمزيد من القراءة والاطلاع انظر (الفصل الرابع بعنوان:  ثقافة قبول بين الفرد والجماعي). ميلاد حنّا:  قبول الآخر (فكر واقتناع وممارسة)، دار الشروق، القاهرة، ط1، 1998، ص( 90 وما بعدها).

بقلم: فيليب جوف

ترجمة: د.محمد عبدالحليم غنيم

***

لا الإلحاد ولا الإيمان يفسران الواقع بشكل كافٍ. ولهذا السبب يجب أن ننظر إلى الحل الوسط بين الاثنين .

إذا كنت لا تؤمن بإله الكتاب المقدس أو القرآن، فلا بد أنك تعتقد أننا نعيش في عالم لا معنى له، أليس كذلك؟ يتورط الناس في ثنائيات التفكير. إذا كنت لا تحب الشيوعية السوفييتية، فلابد أنك تؤيد الرأسمالية على الطريقة الأميركية. حسنًا، إلا إذا كانت هناك آراء سياسية غير هذين الرأيين (والتى بالطبع موجودة). هناك انقسام آخر بين الدين التقليدي والإلحاد العلماني. في أي فريق أنت، ريتشارد دوكينز أم البابا؟ على مدى فترة طويلة من الزمن، توصلت إلى الاعتقاد بأن كلا وجهتي النظر للعالم هاتين غير مناسبتين، وأن كلاهما لديه أشياء حول الواقع لا يستطيعان تفسيرها. في كتابي لماذا؟ الغرض من الكون (2023)، أستكشف الأرضية الوسطى المهملة كثيرًا بين الله والإلحاد.

لقد نشأت دينيا، على الرغم من أن كاثوليكية والدي كانت لها علاقة بتوحيد المجتمع أكثر من قبول العقيدة. منذ سن مبكرة، كان للعالم العلماني من حولي تأثير أكبر بكثير من تأثير مدرسة الأحد، وفي سن الرابعة عشرة عرفت أنني ملحد. لم يخطر ببالي قط أن هناك خيارًا ذا مصداقية بين هاتين الهويتين: الدينية والعلمانية. بالطبع، كنت على دراية بفئة "الروحية ولكن ليست الدينية"، لكنني كنت اجتماعيًا أعتقد أن هذا الخيار لم يكن جديًا وكان في الأساس "تفكيرًا أحمق". وهكذا بقيت ملحدًا سعيدًا لمدة 25 عامًا.

لقد تغير كل هذا منذ خمس سنوات فقط عندما وصلت كعضو هيئة تدريس في جامعة دورهام، حيث طُلب مني تدريس فلسفة الدين. لقد كانت دورة دراسية قياسية للطلاب الجامعيين: تقوم بتدريس الحجج ضد الله، وتقوم بتدريس الحجج لصالح الله، ثم تتم دعوة الطلاب إلى تحديد الحالة الأقوى وكتابة مقال وفقًا لذلك. لذلك قمت بتدريس الحجج ضد الله، بناءً على صعوبة التوفيق بين وجود إله محب وكلي القدرة وبين المعاناة الرهيبة التي نجدها في العالم. وكما في السابق، وجدتها مقنعة بشكل لا يصدق، وتأكدت من جديد في اقتناعي بأنه من المؤكد تقريبًا أنه لا يوجد إله. ثم درست الحجج على وجود الله. ولدهشتي، وجدتها مقنعة بشكل لا يصدق أيضًا! على وجه الخصوص، لم يكن من الممكن الرد على حجة الضبط الدقيق للفيزياء للحياة بالسهولة التي كنت أعتقدها سابقًا (المزيد حول هذا أدناه).

وقد تركني هذا في مأزق كبير. بالنسبة لي، الفلسفة ليست مجرد تمرين تجريدي. أنا أعيش رؤيتي للعالم، ولذلك أجد الأمر مزعجًا عندما لا أعرف ما هي وجهة نظري للعالم. في الأساس، أريد الحقيقة، ولذلك لا أمانع في تغيير رأيي إذا تغيرت الأدلة. ولكن هنا كنت مع أدلة تبدو مقنعة تشير إلى اتجاهين متعارضين! لقد فقدت الكثير من النوم خلال هذا الوقت.

بعد بضعة أسابيع من هذا المستنقع الوجودي، كنت أشاهد بسلام بعض البط وهو يُصطاد في محمية طبيعية قريبة، عندما أدركت فجأة أن هناك حلًا بسيطًا وواضحًا لمعضلتي. إن الحجتين اللتين كنت أجدهما مقنعتين – حجة الضبط الدقيق لـ "الله"، وحجة الشر والمعاناة ضد "الله" – لم تكن في الواقع متعارضة مع بعضها البعض. إن الحجة ضد الشر والمعاناة تستهدف نوعًا محددًا جدًا من الإله، وهو الإله الكلي: كلي المعرفة، كلي القدرة، خالق الكون الخير التام. وفي الوقت نفسه، تدعم حجة الضبط الدقيق شيئًا أكثر عمومية، وهو نوع من الغرض الكوني أو التوجه نحو الهدف نحو الحياة والذي قد لا يكون مرتبطًا بمصمم خارق للطبيعة. لذا، إذا ذهبت لهدف كوني ولكن ليس غرضًا متأصلًا في رغبات إله كلي، فيمكنك الحصول على كعكتك وتناولها من خلال قبول كلا الحجتين.

وهكذا تغيرت نظرتي للعالم بشكل جذري.

أحد أروع التطورات في العلوم الحديثة هو الاكتشاف المفاجئ في العقود الأخيرة بأن قوانين الفيزياء مضبوطة بدقة لتناسب الحياة. وهذا يعني أنه لكي تكون الحياة ممكنة، يجب أن تقع أرقام معينة في الفيزياء ضمن نطاق ضيق للغاية. وكما هو الحال مع عصيدة جولديلوكس، يجب أن تكون هذه الأرقام صحيحة تمامًا، وليست كبيرة جدًا وليست صغيرة جدًا.

ولعل الحالة الأكثر إثارة للدهشة هي حالة الثابت الكوني، وهو الرقم الذي يقيس القوة التي تحرك التوسع المتسارع للكون. الثابت الكوني هو رقم فردي: فهو صغير للغاية ولكنه يختلف عن الصفر. لا تجد عادةً ثوابت أساسية بهذا النوع من القيمة. لكنه عمل جيد يقوم به. لأنه لو كان الثابت الكوني أكبر قليلاً، لكان كل شيء قد انفصل بسرعة كبيرة لدرجة أنه لم يكن من الممكن أن يلتقي جسيمان على الإطلاق. لن يكون لدينا نجوم ولا كواكب ولا أي نوع من التعقيد الهيكلي. ومن ناحية أخرى، إذا كان الثابت الكوني أقل من الصفر، فإنه سيزيد من الجاذبية، مما يعني أن الكون بأكمله سينهار مرة أخرى على نفسه خلال جزء من الثانية. لكي تكون الحياة ممكنة، يجب أن يكون هذا الرقم ضمن الفئة الغريبة والمحددة للغاية التي يحتلها في الواقع: قريب للغاية من الصفر دون العبور إلى السالب. هناك العديد من الأمثلة الأخرى للثوابت المضبوطة بدقة في الفيزياء الحالية.

في الأساس، نحن أمام خيار. أيضاً:

إنها مصادفة أنه من بين جميع القيم الممكنة التي قد تحتوي عليها ثوابت الفيزياء المضبوطة بدقة، تصادف أنها تحتوي على القيم الصحيحة للحياة؛

أو:

والثوابت لها تلك القيم لأنها صالحة للحياة.

الخيار الأول غير مرجح على الإطلاق؛ باستخدام تقدير متحفظ، فإن احتمال الحصول على ثوابت مضبوطة بالصدفة هو أقل من 1 في 10-136. الخيار الأخير يرقى إلى الاعتقاد بأن شيئًا ما على المستوى الأساسي للواقع موجه نحو ظهور الحياة. أنا أسمي هذا النوع من الهدف الأساسي "الغرض الكوني".

كمجتمع، نحن في حالة إنكار إلى حد ما بشأن الضبط الدقيق، لأنه لا يتناسب مع صورة العلم التي اعتدنا عليها. يشبه الأمر إلى حد ما ما حدث في القرن السادس عشر عندما بدأنا في الحصول على أدلة تثبت أن أرضنا لم تكن في مركز الكون، وكان الناس يكافحون لقبولها لأنها لا تتناسب مع صورة الكون التي اعتادوا عليها. . في أيامنا هذه، نحن نسخر من عجز أسلافنا عن متابعة الأدلة إلى أين تقودنا. لكن كل جيل يستوعب رؤية عالمية لا يستطيع رؤيتها أبعد من ذلك. أعتقد أننا في وضع مماثل الآن فيما يتعلق بالأدلة المتزايدة على وجود غرض كوني. نحن نتجاهل ما هو ظاهر للعيان لأنه لا يتناسب مع نسخة الواقع التي اعتدنا عليها. سوف تسخر منا الأجيال القادمة بسبب تعنتنا.

(من غير المرجح أن يكون الضبط الدقيق محض صدفة، مقارنة بحصول لصوص البنوك على المجموعة الصحيحة عن طريق الخطأ)

تُعرف الاستجابة الأكثر شيوعًا عبر الإنترنت للمخاوف الدقيقة باسم "الاستجابة الإنسانية": إذا لم يكن لدى الكون الأرقام الصحيحة للحياة، فلن نكون موجودين للقلق بشأن ذلك، ولذلك لا ينبغي لنا أن نتفاجأ عندما نجد الضبط الدقيق.ابتكر الفيلسوف جون ليزلي* تجربة فكرية حية (معروضة هنا في نسخة معدلة قليلاً) لإظهار أين تسوء الاستجابة الإنسانية. لنفترض أنك على وشك أن يتم إعدامك على يد خمسة رماة خبراء من مسافة قريبة. يقومون بالتحميل، والتصويب، وإطلاق النار... لكنهم جميعًا يخطئون. مرة أخرى، يقومون بالتحميل، ويصوبون، ويطلقون النار... مرة أخرى، يخطئون جميعًا. يحدث هذا مرارًا وتكرارًا لأكثر من ساعة. الآن، يمكنك أن تفكر: "حسنًا، لو أنهم ضربوني، فلن أكون موجودًا للقلق بشأن ذلك، لذا لا ينبغي لي أن أتفاجأ بأنهم جميعًا أخطأوا". لكن لا أحد يعتقد ذلك. من الواضح أنه يحتاج إلى تفسير لماذا أخطأ هؤلاء الرماة الخبراء مرارًا وتكرارًا من مسافة قريبة. ربما تم العبث بالأسلحة، أو ربما يكون ذلك إعدامًا وهميًا. وبالمثل، في حين أنه من الصحيح بشكل تافه أنه إذا لم يكن الكون متوافقًا مع الحياة، فلن نكون موجودين للتفكير في الأمر، إلا أنه لا يزال بحاجة إلى شرح السبب، من بين جميع الأرقام الفيزيائية التي قد تكون ظهرت، وانتهى الكون بواحد في النطاق الضيق المتوافق مع الحياة.

هل يمكن أن يكون الضبط الدقيق مجرد صدفة؟ في بعض الأحيان، تتجمع الأشياء معًا بطرق مفاجئة وغير متوقعة، دون أن نشعر بأننا مجبرون على افتراض هدف أساسي للواقع. ولكن هناك حدود لهذا. لنفترض أن اللصوص اقتحموا بنكًا شديد الأمان وحصلوا على المجموعة المكونة من 10 أرقام في المرة الأولى. هل سيكون من الممكن أن نقول: "حسنًا، ربما قاموا بتجربة رقم عشوائيًا وصادف أنه الرقم الصحيح"؟ من الواضح أن هذا سيكون أمرًا غير عقلاني للتفكير فيه، لأنه من غير المحتمل جدًا أن يتمكنوا من الحصول على التركيبة الصحيحة عن طريق الصدفة. لكن كون الضبط الدقيق مجرد صدفة هو أمر غير محتمل إلى حد كبير من حصول اللصوص على التركيبة الصحيحة عن طريق الصدفة. إن اعتبار الضبط الدقيق مسألة حظ ليس خيارًا عقلانيًا.

لكن أليس هناك العديد من الأشياء غير المحتملة بشكل لا يصدق والتي نقبلها على أنها مجرد صدفة؟ يعتمد وجودي على مجموعة من الظروف المضبوطة بدقة بشكل لا يصدق: التقى والداي، والتقى والديهما، وهكذا دواليك حتى بداية البشرية. في الواقع، لو أن حيوانًا منويًا آخر قد قام بتخصيب البويضة التي أنجبتني، فلن أكون هنا. يمكن أن يثير الشعور بالدوار للتفكير في مدى احتمال وجود شخص ما على الإطلاق. ومع ذلك، فبينما أعتقد أن هناك توجهًا كونيًا نحو الحياة، فإن ذاتي لم تتضخم (بعد!) بما يكفي لافتراض وجود اتجاه كوني نحو ظهور فيليب جوف إلى الوجود. ماهو الفرق؟

الفرق هو أن الحياة لها قيمة موضوعية، وبالتالي فهي نتيجة ذات أهمية مستقلة عن كونها النتيجة التي حدثت. إن الكون الذي توجد فيه النباتات والحيوانات، والأشخاص الذين يمكنهم الوقوع في الحب والتفكير في وجودهم، هو أعظم بكثير من الكون الذي لا يوجد فيه سوى الهيدروجين. وبهذا المعنى، فإن الأعداد المتوافقة مع مثل هذه الأحداث القيمة تكون مميزة بطريقة لا تتمتع بها القيم المحتملة الأخرى للثوابت. في المقابل، لا يوجد شيء خاص في وجود فيليب جوف، على عكس الشخص الذي كان سيكون هنا لو، على سبيل المثال، كان والدي قد تزوج من امرأة أخرى .

ولتوضيح النقطة أكثر من خلال القياس، قم بمقارنة الحالة التي يفوز فيها شخص عشوائي، جو بلوج، باليانصيب، مع الحالة التي يفوز فيها السيد ريتش، شريك رئيس اليانصيب، باليانصيب. جو بلوج جديرة بالملاحظة فقط نتيجة فوزه باليانصيب، وبالتالي يمكننا أن نقبل أن فوزه كان مجرد صدفة. هذا يشبه إلى حد ما حالتي عندما ولدت بدلاً من شخص عشوائي آخر. لكن هناك أهمية بالنسبة للسيد ريتش بشكل مستقل عن حقيقة فوزه: فهو شريك رئيس اليانصيب. وهكذا، عندما يفوز السيد ريتش، من بين جميع الأشخاص الذين كان من الممكن أن يفوزوا، فإننا نشك في وجود جريمة. وبالمثل، عندما يكون لدينا، من بين جميع الأرقام المحتملة التي ربما ظهرت في الفيزياء، مجموعة نادرة تسمح بظهور قيمة موضوعية، فإننا نشك بحق في أن هذا أكثر من مجرد صدفة.

كثيرًا ما أجد، عندما أناقش الضبط الدقيق على تويتر، أن الناس يعبرون عن شعورهم بأنه من الشجاعة قبول شيء غير محتمل بجرأة، وكأنك لست خائفًا من القيام به. ولكن ليس من الشجاعة تصديق أشياء غير محتملة الحدوث، بل هو أمر غير عقلاني. من وجهة نظري، فإن الالتزام بالهدف الكوني هو الاستجابة العقلانية الوحيدة لأدلة العلم الحالي.

يقدم الله تفسيرًا للضبط الدقيق، لكنه تفسير سيء للغاية. ربما كان من المنطقي بالنسبة لأسلافنا أن الإله الذي هو أعظم منا بكثير يمكنه أن يفعل ما يحلو له مع مخلوقاته. لكن التقدم الأخلاقي علمنا أن كل فرد لديه حقوق أساسية لا يجوز لأي شخص، مهما كان قويا ومتطورا معرفيا، أن ينتهكها.

في كتابي لماذا؟ أركز على عمل فيلسوف الدين العظيم ريتشارد سوينبيرن في الرد على مشكلة الشر. يرى سوينبيرن أن هناك خيرات موجودة في عالمنا لا يمكن أن توجد في عالم أقل معاناة. فإذا كنا نعيش في عالم يشبه عالم ديزني لاند بلا أي خطر أو خطر، فلن تكون لدينا أي فرصة لإظهار شجاعة حقيقية في مواجهة الشدائد، أو الشعور بالتعاطف العميق مع أولئك الذين يعانون. إن غياب مثل هذه الاختيارات الأخلاقية الجادة سيكون له تكلفة باهظة، وفقاً لسوينبيرن.

وحتى لو اعترفنا بأن هذا هو بالفعل تكلفة، فأنا لا أعتقد أن الله لديه الحق في التسبب في المعاناة أو السماح بها لتمكين هذه الخيرات. هناك حجة كلاسيكية ضد الأشكال الفظة من النفعية تتخيل طبيباً يستطيع إنقاذ حياة خمسة مرضى عن طريق قتل أحدهم وأخذ أعضائه. وحتى لو تمكن الطبيب من زيادة الصحة بهذه الطريقة، فلن يكون له الحق في قتل واستخدام المريض السليم، على الأقل ليس بدون موافقته. وبالمثل، حتى لو كان لدى الله غرض جيد في ذهنه بالسماح بالكوارث الطبيعية، فإن ذلك من شأنه أن ينتهك حقوق الصحة والسلامة للأشخاص المتضررين من تلك الكوارث.

(ربما يشعر مصممنا المحدود بالفزع بشأن مدى الفوضى الحتمية التي تتسم بها هذه العملية، ولكن إما أن يكون ذلك أو لا شيء)

ولحسن الحظ، هناك احتمالات أخرى. دافع توماس ناجل عن فكرة القوانين الغائية: قوانين الطبيعة ذات الأهداف المضمنة فيها. بدلًا من ترسيخ الهدف الكوني في رغبات الخالق، ربما يكون هناك ميل طبيعي نحو الحياة المتأصلة في الكون، وهو ميل يتفاعل مع قوانين الفيزياء المألوفة بطرق لم نفهمها بعد.

بالنسبة للبعض، فكرة الهدف دون توجيه العقل لا معنى لها. والاحتمال البديل هو مصمم غير قياسي، مصمم يفتقر إلى الصفات "الكلية" ــ كلي المعرفة، وكلي القدرة، والخير تمامًا ــ التي يتمتع بها الإله التقليدي. ماذا عن إله شرير؟ وكما اكتشف ستيفن لو بالتفصيل، فإن فرضية الإله الشرير تواجه "مشكلة الخير" التي تعكس مشكلة الشر التي تواجه الإله الخير التقليدي: إذا كان الله شريرًا، فلماذا خلق الله الكثير من الخير؟ أعتقد أن الخيار الأفضل هو المصمم المحدود الذي صنع أفضل عالم يمكنه صنعه. ربما كان مصمم كوننا يود خلق حياة ذكية في لحظة، متجنبًا كل بؤس الانتقاء الطبيعي، لكن خيارهم الوحيد كان خلق كون من متفردة، بالفيزياء الصحيحة، بحيث يتطور في النهاية ذكيًا. حياة. ربما يشعر مصممنا المحدود بالفزع بشأن مدى الفوضى الحتمية التي تتسم بها هذه العملية، ولكن إما أن يكون ذلك أو لا شيء.

المصمم الخارق يأتي بتكلفة بخيلة. كعلماء وفلاسفة، فإننا نطمح إلى العثور ليس فقط على أي نظرية قديمة يمكنها تفسير البيانات، بل أيضًا إلى أبسط نظرية من هذا القبيل. مع تساوي كل الأشياء، سيكون من الأفضل عدم الإيمان بكل من الكون المادي والمصمم الخارق غير المادي.

لهذه الأسباب، أعتقد بشكل عام أن أفضل نظرية للهدف الكوني هي النظرية الكونية، وهي وجهة النظر القائلة بأن الكون في حد ذاته هو عقل واعٍ له أهدافه الخاصة. في الواقع، هذه وجهة نظر استمتعت بها لأول مرة في Aeon في عام 2017، قبل أن أقرر أن الكون المتعدد، وهو موضوع القسم التالي، كان خيارًا أفضل. بعد أن تم إقناعي أخيرًا بأن الكون المتعدد أمر محظور (المزيد حول هذا الأمر وشيك)، طُلب مني استكشاف تفسير كوني أكثر تطورًا للضبط الدقيق في كتابي لماذا؟، ويبدو لي الآن أن هذا هو المصدر الأكثر ترجيحًا لتفسير الكون المتعدد. الغرض الكوني.

تحذير: القسم التالي تقني بعض الشيء، ويمكن تخطيه، على الأقل في القراءة الأولى.

هناك العديد من العلماء والفلاسفة الذين يشتركون في هذا الاعتقاد بأن الضبط الدقيق للفيزياء لا يمكن أن يكون مجرد صدفة، ولكنهم يعتقدون أن هناك تفسيرًا بديلاً: فرضية الكون المتعدد. إذا كان هناك عدد كبير، وربما لا نهائي، من الأكوان، ولكل منها أرقام مختلفة في فيزيائيتها، فليس من المستبعد أن يحصل أحدها على الأرقام الصحيحة عن طريق الصدفة. ونحن بالتأكيد لا نحتاج إلى تفسير لسبب وجودنا في الكون الدقيق؛ ففي نهاية المطاف، لم يكن من الممكن أن نكون موجودين في كون لم يتم ضبطه بدقة. يُعرف الجزء الأخير من التفسير باسم "المبدأ الأنثروبي".

لفترة طويلة، اعتقدت أن فرضية الكون المتعدد هي التفسير الأكثر قبولا للضبط الدقيق. لكنني في النهاية أصبحت مقتنعًا، من خلال مناقشات طويلة مع منظري الاحتمالات، بأن الاستدلال من الضبط الدقيق إلى الكون المتعدد ينطوي على تفكير خاطئ. هذه قضية نوقشت كثيرًا في المجلات الفلسفية، ولكن في حالة نموذجية يتحدث فيها الأكاديميون مع أنفسهم، فهي غير معروفة تمامًا خارج الفلسفة الأكاديمية، على الرغم من الاهتمام العام الكبير بمسألة الضبط الدقيق. أحد دوافعي لتأليف كتاب لماذا؟ كان هدفي نقل هذه الحجة التي غيرت حياتي إلى جمهور أوسع.

هناك مبدأ حاسم في الاستدلال الاحتمالي يُعرف باسم "متطلب الدليل الإجمالي". هذا هو المبدأ القائل بأنه يجب علينا دائمًا استخدام الأدلة الأكثر تحديدًا المتاحة لنا. لنفترض أن الادعاء أخبر هيئة المحلفين أن المتهم يحمل معه دائمًا سكينًا، متجاهلاً إضافة أن السكين المعني هو سكين الزبدة. لم يكذب الادعاء على هيئة المحلفين، لكنه ضللهم من خلال إعطائهم معلومات عامة - أن المتهم يحمل سكينًا - في حين كان من الممكن أن يقدم لهم معلومات أكثر تحديدًا - أن المتهم يحمل سكين زبدة. وبعبارة أخرى، فقد انتهك الادعاء متطلبات الأدلة الإجمالية.

(إن احترام متطلبات الدليل الكلى يجعل الاستدلال على وجود أكوان متعددة غير صالح)

كيف يرتبط هذا المبدأ بالضبط الدقيق والأكوان المتعددة؟ إنه ذو صلة لأن هناك طريقتين لتفسير أدلة الضبط الدقيق:

دليل عام: الكون مضبوط بدقة؛

أو

دليل محدد: أن هذا الكون مضبوط بدقة.

يعمل مُنظِّر الأكوان المتعددة بالطريقة العامة لتفسير الأدلة. عليهم أن يفعلوا ذلك للاستدلال من الضبط الدقيق على الكون المتعدد. إن وجود العديد من الأكوان يزيد من احتمالية ضبط الكون بدقة، لكنه لا يزيد من احتمالية ضبط هذا الكون على وجه الخصوص - على عكس الكون التالي على سبيل المثال - . ومن ثم، فإن فرضية الكون المتعدد لا يتم دعمها إلا إذا تم التعامل مع الطريقة العامة لتفسير الأدلة. لكن هذا يتعارض مع مطلب الدليل الإجمالي، الذي يلزمنا بالعمل مع الشكل الأكثر تحديدًا للدليل، وهو أن هذا الكون مضبوط بدقة. وبالتالي فإن احترام متطلبات الدليل الإجمالي يجعل الاستدلال على وجود أكوان متعددة غير صالح.

يمكننا أن نجعل هذه النقطة أكثر وضوحا مع القياس. لنفترض أننا دخلنا إلى كازينو وكان أول شخص نراه، نسميها سامي سمارت، يتمتع بحظ لا يصدق، ويتصل بالرقم الصحيح في لعبة الروليت مرة تلو الأخرى. أقول: واو، لا بد أن الكازينو ممتلئ الليلة. بطبيعة الحال، تشعر بالحيرة وتسألني من أين أتيت بهذه الفكرة. أجيب: حسنًا، إذا كان هناك عدد كبير من الأشخاص الذين يلعبون في الكازينو، فمن المرجح إحصائيًا أن يفوز شخص واحد على الأقل في الكازينو بمبالغ كبيرة، وهذا بالضبط ما لاحظناه: شخص ما في الكازينو. الفوز الكبير.

ويتفق الجميع على أن ما سبق هو استدلال مغالط، وسبب مغالطته هو أنه يخالف متطلبات الأدلة الكلية. هناك طريقتان لتفسير الأدلة المتاحة لنا أثناء دخولنا الكازينو:

دليل عام: كان لدى شخص ما في الكازينو حظًا كبيرًا؛ أو

دليل محدد: لقد حظي سامي سمارت بحظ كبير.

في السيناريو المذكور أعلاه، كان تفكيري الغريب يتضمن بشكل أساسي العمل بالطريقة العامة لتفسير الأدلة: فمن المرجح بالفعل أن يكون لدى شخص ما في الكازينو حظًا كبيرًا إذا افترضنا أن هناك العديد من الأشخاص الذين يلعبون بشكل جيد في الكازينو. ولكن مرة أخرى، فإن متطلب الدليل الإجمالي يُلزمنا بالعمل بطريقة أكثر تحديداً لتفسير الدليل ــ كان سامي سمارت محظوظاً ــ وبمجرد قيامنا بذلك، يتم حظر الاستدلال على وجود كازينو كامل: وجود أو غياب الأشخاص الآخرين في الكازينو ليس له أي تأثير على ما إذا كان سامي سمارت على وجه الخصوص سيلعب بشكل جيد أم لا. إن المنطق الذي يستخدمه منظر الأكوان المتعددة يرتكب نفس الخطأ تمامًا. لاحترام متطلبات الدليل الإجمالي، نحتاج إلى العمل مع النسخة المحددة من الدليل - أن هذا الكون مضبوط بدقة - وليس لوجود أو عدم وجود أكوان أخرى أي تأثير على ما إذا كان هذا الكون على وجه الخصوص على ما يرام أم لا ضبطها.

يجادل كثيرون بأن هذا هو المكان الذي يبدأ فيه المبدأ الإنساني. فبينما كان من الممكن أن ندخل الكازينو ونلاحظ شخصًا يتدحرج بشكل سيئ، لم يكن بإمكاننا أن نلاحظ كونًا غير متوافق مع الحياة.

(لكن ألا يوجد دليل علمي مستقل على وجود أكوان متعددة؟ نعم و لا)

من المؤكد بالطبع أنه من الصحيح بشكل تافه أننا لم نتمكن من ملاحظة كون غير متوافق مع وجود الحياة. ولكن لم يتم تقديم أي مبرر نظري على الإطلاق حول السبب الذي يجعل من المقبول تجاهل متطلبات الأدلة الإجمالية. علاوة على ذلك، يمكننا بسهولة إدخال تأثير اختيار اصطناعي في مثال الكازينو من خلال تخيل وجود قناص مختبئ في الغرفة الأولى من الكازينو، ينتظر قتلنا عند دخولنا ما لم يكن هناك شخص ما في الغرفة الأولى يتمتع بحظ غير عادي. مع تطبيق هذا، فإن مثال الكازينو يشبه إلى حد كبير حالة الضبط الدقيق في العالم الحقيقي: تمامًا كما لم نتمكن من ملاحظة كون به أرقام خاطئة للحياة، كذلك لم يكن بإمكاننا ملاحظة لاعب يتداول الأرقام الخاطئة للفوز. ومع ذلك، لا يجادل أحد في أن مثال الكازينو يتضمن تفكيرًا خاطئًا، وهو تفكير لا يمكن تمييزه، من وجهة نظري، عن منطق نظرية الكون المتعدد.

لكن ألا يوجد دليل علمي مستقل على وجود أكوان متعددة؟ نعم و لا. هناك دعم مبدئي لما يسميه علماء الكونيات «التضخم»، وهي الفرضية القائلة بأن كوننا بدأ بمعدل توسع أسي قصير الأمد. وقد جادل العديد من الفيزيائيين بأنه، في أكثر نماذج التضخم منطقية، لا ينتهي التوسع الأسي أبدًا في الواقع ككل، ولكنه ينتهي فقط في مناطق معينة من الواقع، والتي تتباطأ لتصبح "أكوان فقاعية" في حد ذاتها. في هذا النموذج، المعروف باسم «التضخم الأبدي»، يكون كوننا أحد هذه الفقاعات.

المشكلة هي أن هناك نسختين محتملتين من التضخم الأبدي:

التضخم الأبدي غير المتجانس – عندما تتشكل فقاعة جديدة، تحدد العمليات الاحتمالية أن قيم الثوابت، وبالتالي الغالبية العظمى من الأكوان الفقاعية، ليست مضبوطة بشكل جيد؛ أو

التضخم الأبدي المتجانس – لا تختلف قيم الثوابت بين الأكوان الفقاعية.

يفترض جميع منظري الأكوان المتعددة تقريبًا وجود تضخم أبدي غير متجانس، والذي ربما يرجع إلى أن هذه النسخة فقط هي التي يمكن أن يكون لديها أمل في تفسير الضبط الدقيق. فقط إذا كان هناك تنوع كافٍ في «الفيزياء المحلية» للأكوان الفقاعية المختلفة، يصبح من المرجح إحصائيًا أن يكون الضبط الدقيق مجرد صدفة. لكن لا يوجد أي دليل تجريبي على ذلك. علاوة على ذلك، إذا احترمنا متطلبات الدليل الإجمالي، فإن الضبط الدقيق في حد ذاته يعد دليلاً قوياً ضد التضخم الأبدي غير المتجانس.

تذكر أن متطلبات الدليل الإجمالي تجبرنا على العمل بطريقة محددة لتفسير دليل الضبط الدقيق

دليل محدد: أن هذا الكون مضبوط بدقة.

وفقا لطريقتنا الرياضية القياسية في تعريف الأدلة - المعروفة باسم نظرية بايز - يجب علينا أن نختار الفرضية التي تجعل دليلنا أكثر احتمالا. إذا كان التضخم الأبدي غير المتجانس صحيحًا، فسيكون من غير المرجح أن يكون كوننا مضبوطًا بشكل جيد، لأن العمليات الاحتمالية التي تثبت ثوابت كل كون هي عشوائية تمامًا. ولكن إذا جمعنا بين التضخم الأبدي المتجانس وشكل ما من أشكال التوجه الكوني نحو الحياة، فمن المرجح بشكل كبير أن يكون كوننا منضبطًا بشكل جيد.

بمعنى آخر، حتى لو اعتمدنا نظرية الكون المتعدد التضخمي الأبدي، فإن دليل الضبط الدقيق لا يزال يدفعنا نحو الهدف الكوني.

قال الفيلسوف المسيحي ويليام لين كريج إنه إذا لم يكن للكون هدف، فإن الحياة لا معنى لها. وعلى نفس المنوال، يقترح الفيلسوف الملحد ديفيد بيناتار أنه في غياب الهدف الكوني، تصبح الحياة بلا معنى إلى الحد الذي يجعلنا مطالبين أخلاقيا بالتوقف عن التكاثر حتى ينقرض الجنس البشري. وعلى الجانب الآخر، من الشائع أن يجادل الإنسانيون بأن الهدف الكوني لن يكون له أي صلة بمعنى الوجود الإنساني.

أنا أتخذ طريقا وسطا بين هذين النقيضين. أعتقد أن حياة الإنسان يمكن أن تكون ذات معنى كبير حتى لو لم يكن هناك هدف كوني، طالما أننا ننخرط في أنشطة ذات معنى، مثل اللطف والإبداع والسعي وراء المعرفة. ولكن، إذا كان هناك هدف كوني، فمن المحتمل أن تكون الحياة ذات معنى أكبر. نريد لحياتنا أن تحدث فرقا. إذا تمكنا من المساهمة، ولو بطريقة صغيرة، في تحقيق الأغراض الجيدة للواقع برمته، فإن هذا يمثل فرقًا كبيرًا بقدر ما يمكننا تخيل حدوثه.

لا توجد إجابات قاطعة على هذه الأسئلة الكبيرة حول المعنى والوجود. من الممكن أن الأدلة الوفيرة على الهدف الكوني في نظرياتنا الحالية لن تكون موجودة في النظريات المستقبلية. حتى لو كان هناك دافع أساسي نحو الخير، فمن دون إله قدير، ليس لدينا أي ضمان بأن الهدف الكوني سيتغلب في النهاية على المعاناة التعسفية للعالم. ولكن قد يكون من المنطقي، إلى حد ما، أن نأمل بما يتجاوز الأدلة. لا أعرف ما إذا كان البشر سيكونون قادرين على التعامل مع تغير المناخ؛ في الواقع، التقييم النزيه للأدلة يزيد من احتمالية عدم قيامنا بذلك. ومع ذلك، فمن الحكمة أن نعيش على أمل أن يرتقي البشر إلى مستوى التحدي، وأن نجد المعنى والحافز في هذا الأمل. وبالمثل، أعتقد أنه من الحكمة أيضا أن نعيش على أمل إمكانية وجود عالم أفضل.

(تمت)

***

................................

الكاتب: فيليب جوف:  أستاذ الفلسفة في جامعة دورهام بالمملكة المتحدة، يركز بحثه على الوعي والطبيعة النهائية للواقع. اشتهر جوف بدفاعه عن نظرية الروح الشاملة، وهي وجهة النظر القائلة بأن الوعي يسود الكون وهو سمة أساسية له. جوف هو مؤلف كتاب لماذا؟ الغرض من الكون (مطبعة جامعة أكسفورد، 2023)، خطأ غاليليو: أسس علم جديد للوعي (عتيق، 2019)، الوعي والواقع الأساسي، والمحرر المشارك لكتاب هل الوعي في كل مكان؟ مقالات عن الروحانية الشاملة (Imprint Academic، 2022). نشر جوف العديد من المقالات الأكاديمية بالإضافة إلى كتاباته على نطاق واسع في الصحف والمجلات، بما في ذلك مجلة Scientific American، وThe Guardian، وAeon، وThe Times Literary Supplement.

*جون أندرو ليزلي (من مواليد 2 أغسطس 1940) هو فيلسوف وكاتب كندي. تلقى ليزلي تعليمه في كلية وادهام، أكسفورد، وحصل على درجة البكالوريوس. في الأدب الإنجليزي عام 1962 ودرجة الماجستير. حصل على درجة الدكتوراه في الكلاسيكيات عام 1968. وهو حاليًا أستاذ فخري في جامعة جيلف، في أونتاريو، كندا.

 

في هذه الحلقة ستكون القرينة التي نتناولها هي أمتداد لقرينة الأضحية التي ذكرناها في الحلقة الثالثة، وهي أضحية العقيرة، التي تُعقر وغالباً من تكون من صنف البقر، ومرةً يُقدم الوعل من خلال الصيد الطقسي كأضحية من أجل الأستمطار والخصب، على حد قول فيرنر داوم، وهو قول مزعوم، وأقول مزعوم لسببين يذكرهما هو في بحثة الوارد في كتاب (القرآن ونقوش اليمن). السبب الأول هو أن مايبرره فيرنر ينحصر في دائرة الزعم، أنه يذكر في (القرآن ونقوش اليمن-ص246) بشكل واضح وبصريح  العبارة  القول التالي (يتفق جميع العلماء الذين يتعاملون مع شواهد ما قبل الأسلام، وجميع مراقبي الممارسة الحديثة على أن هدف الصيد هو المطر والخصوبة، على الرغم من أن النقوش لا تذكر ذلك صراحةً إطلاقاً، فإن هذا هو التفسير الوحيد الممكن لسبب أعتبار الصيد واجباً دينياً)، ففيرنر هو يقر بنفسه أن النقوش لا تقر صراحة إن الصيد من أجل المطر، أي ليس هناك دليل يقيني يؤكد مايذهب هو أليه، من أن هدفه نزول المطر، وأن دليله الغير مؤكد على حد قوله، هو التفسير الوحيد لسبب أعتبار الصيد واجباً دينياً، أذن نظريته لا تتعدى الحدس والظنية، والظن لا يغني من الحق شيئاً. أما السبب الثاني الذي يطعن في صوابية رأي فيرنر ويُضعف من نظريته في سَوق هذه القرينة، وجعلها من الشواهد التي أستوحى منها القرآن، هو ما جاء به البرفسور ألكسندر سيما، والتي يعزو فيها ظاهرة صيد الوعل في اليمن بأنها رياضة، ولأجل اللحم، ولكن فيرنر يتهم سيما بأنه متحيز بشدة ضد عناصر الطقوس، ويصفها بأنها تأملات نخبوية (القرآن ونقوش اليمن-ص240). أن ما ذكرناه أعلاه يدل دلالة واضحة على ما يحمله الباحث من قبليات فكرية يحاول دسها في تأويلاته التفسيرية، مضاف أليه أفقه الذهني في وضع فرضياته، وأنه يبغي الوصول الى مراده هو، لا مراد كاتب النص، وهذه تُنبئ عن ميول مكنونه في لا وعي الباحث، من أجل الوصول الى رؤياه الخاصة، وأن ما أعترف به فيرنر بأن النقوش لا تذكر ذلك صراحة إطلاقاً يدل بشكل واضح وجلي بأن الباحث قد قطع علاقته بنص النقوش  التي يعتبرها مصدراً لمقارباته المزعومة، ومن هذه النظريات التفسيرية الغير أكيده، حمَلَ الكثير من المشتغلين بعلم الهرمينوطيقا بالذهاب الى النسبية في معرفة مراد المؤلف. أن هذا النوع من التفاسير، يذهب بنا الى مايقوله إريك هيرش الى البعد النفسي، والبنية الذهنية للمؤلف (المفسر) في تفسير النص، وأن فيرنر قد أستخدم الحدس في تأويله للنقش اليمني، ولكنه لم يثبت ما يجعل من حدسه محتملاً، وذلك لنقص قرائنه وضعف مشاهداته، والأهم هو أعترافه بعدم الصراحة في هذه النقوش، والتي يصل بها على حد قوله الى الأطلاق.

يذهب فيرنر بعد أن زعم بقرائنه بأضحيات قبر هود كشواهد يتمسك بها لأقرار نظريته، يأتي الآن الى تضحية أبراهيم لأبنه المختلف على أسمه، لأن هناك من يقول أسحاق، وهناك من يقول أسماعيل، ليجعل منها قرينه أضافية يربطها بطقس صيد الوعول اليمنية.

من المهم هنا أن نسرد بشكل مختصر عن قصة النبي أبراهيم وأحد أبناءه، عندما جاءته الرؤيا بأن يذبحه أستجابه لأمر ربه، الذي جاء أمره كرؤياء في المنام، فقد جاء في الكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد النص التالي، والذي يذكر به أسم المضحى به أنه أسحاق، فجاء به (خذ أبنك وحيدك، الذي تُحبه إسحاق، وأذهب الى أرض الُرَّيا وأُصعدهناك مُحرقةَ على أحد الجبال..)(سفر التكوين22). وقد جاء في القرآن (...قال يابني إني أرى في المنام أني أذبحك فأنظر ماذا ترى قال يا أبَتِ أفعل ما تؤمرستجدني إن شاء الله من الصابرين)(الصافات-102)، من خلال هذين النصين، يذهب علماء الديانات اليهودية والمسيحية والأسلامية الى تفسير مفاده أن الله أراد أن يختبر أيمان أبراهيم ومدى أخلاصه له، وهناك من يفسر ذلك بأن الله يعرف درجة أخلاص نبيه أبراهيم ولكن أراد أن يخرج هذا الأيمان والأخلاص من القلب الى العلن ليعلم الناس مدى أخلاص وأيمان أبراهيم بربه ليكون مثل أعلى لهم، كما يبعث ذلك لهم بالثقة والأطمئنان به، بالأضافة أن هذا الحدث يمثل درس تربوي لطاعة أبراهيم لربه، وطاعة الولد لأبيه، ويمكن أستخلاص ذلك من خلال قول أبراهيم لأبنه (فأنظر ماذا ترى) وهذا يعكس حواراً بين الأب وأبنه،فيجاوبه الأبن ب ((أفعل ماتؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين) (الصافات)، فقد تحقق الأختبار من خلال أستجابة أبراهيم لأمر ربه، وأستجابة الأبن لأبيه، وقد تحقق الهدف من القضية، مما جعل الله يبدل الذبيح الأنساني بذبيح حيواني (وفديناه بذبحٍ عظيم)(الصافات 107)، وهنا من المهم أن أُشير الى أن الأبن موضوع الذبح تسميه التوراة والأنجيل بأسحاق، فقد جاء في سفر التكوين 22 (خذ أبنك وحيدك الذي تحبه إسحاق وأذهب الى أرض المًريَّا وأصعده هناك محرقة...)، أما القرآن فلم يذكر الأسم، ولكن معظم علماء التفسير المسلمين يقولون أسماعيل، وهناك أسباب لذلك، ومنها أن الولد البكر هو أسماعيل وليس أسحاق وأمه هاجر، السبب الثاني هو أن القصة حدثت في مكة، وأسماعيل وأمه، هم من كانوا مع أبراهيم في مكة، وليس الآخرين. عندما تحقق المراد لله من قصة ذبح أبراهيم لأبنه، ولم يعد للذبح معنى فأستبدل الولد بكبش (وفديناه بذبح عظيم)، حيث أتفقت  التفاسير اليهودية والمسيحية والأسلامية على أن الحيوان الذي ضُحيَّ به هو كبش، ولكن من الغريب أن فيرنر يذكر في صفحة 238 من كتاب القرآن ونقوش اليمن) بأن كلمة أيل تعني كبش، ولكنه مع ذلك يصر على أن الحيوان المستبدل هو وعل، وهذا  الأصرار لم يكن الا تلبيه لرغبته وأستكمال لقرينته التي أراد أن يسوقها من أجل التأصيل للقرآن من نقوش اليمن، وهنا كما ذكرنا في بداية المقال أن رغبات وقبليات الباحث تلعب دور في مايسوقه من تأويلات وتفسيرات للنصوص التي يعمل عليها، لتكون منسجمه مع الصورة التي رسمها في ذهنه.

نرى أن هناك مفارقات بين مايدعيه فيرنر داوم وبين ما جاء في العهدين القديم والجديد، بالأضافة الى القرآن، والذي يهم بالموضوع هو القرآن، لأنه هو محل الدراسة ولكن لابأس من ذكر ما جاء بالكتب المقدسة اليهودية والمسيحية  لنؤكد أتفاق العهدين القديم والجديد مع ماجاء بالقرآن في قصة  ذبح أبراهيم لأبنه، وأن لا علاقة لها بما يدعيه فيرنر من زعم ما جاء بالنقوش اليمنية، وأن ما جاء بالنقوش اليمنية التي يفسرها فيرنر بأن قتل الوعل هو صيد طقسي لأجل الأستمطار والخصب، فيقول فيرنر في الصفحة 239 (القرآن ونقوش اليمن)(وبحسب كلمات الله، فإن غرض التضحية هو الخصوبة للحرث والنسل معاً) ولا أعرف من أين جاء بهذا الكلام الذي لم يذكر مصدره !، وهنا سأذكر ماجاءت به الكتب السماوية، التي لا تتفق مع أطروحته لا من قريب، ولا من بعيد، حتى يمكنني القول أن تفسير فيرنر هي لا تعدو من أن تكون عبارة عن أضغاث أحلام، وهنا أحببت أن أذكر قول لحبر أنكلترا الأعظم في دراسة مقارنة بين الديانات الأبراهيمية ترجمة (د. نظيرة غلاب) (فسر الأمر الألهي لأبراهيم بذبح أبنه،أنه كان لينسخ سنّة تقديم الأبناء قرابين للآلهة التي كانت رائجة في زمن أبراهيم، كما قال الباحث (طلعت رضوان) في مقالته (ذبح الأبن في تراث الشعوب القديمة) إن هذه العادة كانت موجودة قديمة قبل التوراة، ويذكر إن علماء الأنثربولوجيا، أن تلك الحكاية كانت ضمن أساطير معتقدات بعض الشعوب قبل الديانة العبرية، ومن بين هؤلاء العلماء جيمس فريزر في موسوعته (الفلكلور في العهد القديم). في حين يقول الكتاب المقدس (سفر التكوين 1-2)(وحدث بعد هذه الأمور أن الله أمتحن إبراهيم..... وإذهب الى أرض المريا واصعده هناك مُحرقة على أحد الجبال الذي أقول لك)، كما يقول القديس أغسطينوس (جُرب إبراهيم بتقديم ابنه الحبيب إسحق ليزكي طاعته الورعة، ويجعلها معلنة لا لله بل للعالم)، وعندما نأتي للقرآن فنجد نفس المعنى الذي جاء به العهدين (وإذ أبتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهنَّ)(البقرة/124).

يتضح لنا وبشكل واضح أن ما ذهب اليه فيرنر داوم لا يتفق مع ما جاءت به الكتب المقدسة (العهد القديم والجديد والقرآن) لا بالقصد من عملية الذبح، ولا بنوع الحيوان الأضحية، فنرى أن قصد القرآن هو أبراز درجة طاعة أبراهيم وأخلاصة لربه، في حين أن قصد النقوش أن صحت على قول فيرنر، هو الأستمطار، وشتان بين الأثنين، بالأضافة الى معارضة البروفسور سيما لما ذهب اليه فيرنر. أذن من خلال ما بيناه، أين قضية التناص بين النقوش اليمنية والقرآن ؟!، فالأمر الذي جاء به فيرنر يبدو برمته  محض حدس وأفتراض لم تؤكدها الوقائع. كما أن أستنتاج فيرنر هو أستنتاج أفتراضي وليس موضوعي، ولكن الأدهى أن فيرنر يرجع ويقول (لقد أثبت المفهومان الدينيان (تضحية إسحق والصيد في اليمن) أنهما بنيتان متوازيتان، ويزيد عليها قائلاً (وكذا تقريب القصة الى الفهم أن أبراهيم شيخ المستوطنة البشرية يعتمد على الأمطار من الجبل النائي، وذلك الكائن الإلهي الذي يتحكم بالأمطار، لن يمنحها إلا عند التضحية بأبن إبراهيم له، وبذلك يضمن المطر أي خصوبة الأرض ووفرة النسل) (القرآن ونقوش اليمن ص249)، أنها مقارنه مضحكة وتُثير الشفة على هذا الباحث المتخبط  في أفتراضاته الغير موضوعية، والذي يثير العجب أكثر، يقول فيرنر عن الأسطورة التي جاءت بها النقوش اليمنية، إن الشاب ينجح في قتل الإله الذي يتخيلونه في ذَكَر وحل، وبالتالي يحرر المياه، وهذا يضمن خصوبة الحرث والنسل (القرآن والنقوش اليمنية ص249). السؤال المطروح، هل هناك مشابهة بين شاب يقتل الله المتمثل بحيوان الوعل، وبين أبراهيم  أمام الموحدين الذي يقدم على ذبح ولده العزيز أطاعة لأمر الله، فأي هرطقة هذه التي يقولها فيرنر، لا والعجيب في أمر فيرنر أنه يقول (والآن لا حاجة الى المزيد من الأستطراد. إن التشابه التام بين الطقوس اليمنية وقصة إبراهيم وإسحق ظاهر للعيان) (القرآن والنقوش ص255) ياللمصيبة!.

***

أياد الزهيري 

 

"عالم المغرب ونادرته في سعة الملكة وفصاحة القلم واللسان.. وكثرة التصانيف.." (فهرس الفهارس) ع. الكتاني.

توطئة:

يعتبر الاستاذ عباس بن عبد الله الجراري (1937/2024) من انشط افراد جيله في المجال الثقافي والادبي والتاريخي...

جاء في خطاب المرحوم محمد الفاسي (1908/1991) اول رئيس لجامعة محمد الخامس بمناسبة تعيين عباس عضوا في اكاديمية المملكة المغربية: " ان الاستاذ عباس الجراري الذي عرفته منذ كان طالبا ثم استاذا بكلية الاداب بجامعة محمد الخامس..عرفته الشاب الطموح والجاد في التحصيل والبحث..

وكان اول اتصاله بالعلم والمعرفة على يد والده المؤرخ الجليل المرحوم عبد الله الجراري (1905/1983) وهو الذي وجهه نحو الدراسات الادبية في العلوم العربية والإسلامية...."

نشأ في هذه المدرسة فكان المعي الذكاء كريم الخلق مستقيم الذهن رحب الصدر لحرية الراي وحرية المناقشة..

مجتهدا في كل عمل تولاه

كانت مدرسة عبد الله الجراري غنية وحافلة بما يؤهل المنخرط في سلكها لكي يكون في الطليعة..

طابعا المميز الجهاد العلمي والتعليمي والدعوة الوطنية الإصلاحية التي عملت على تنقية العقيدة من الشوائب والخرافات التي علقت بها.. ضمن الخط السلفي الذي يحارب الاتجاه الطرقي الذي كان طاغيا ومؤثرا في الأوساط الاجتماعية.. ،وقد انحاز عبد الله الجراري الى دعوة الشيخ ابي شعيب الدكالي الذي يعتبر أستاذ السلفية بالمغرب..

وسوف يلتحم هذا العمل الديني السلفي الإصلاحي بالعمل السياسي الوطني في توجه المدرسة الجرارية..

والاسرة الجرارية التي ينحدر منها والد الأستاذ عباس تشتهر الى جانب نبوغ أبنائها في ميدان العلم والصلاح تدريسا وتأليفا ، بالتبريز في مجال السياسة والدفاع حيث تحملوا فيه مسؤوليات كبرى منذ قدومهم الى المغرب..وزادت هذه المسؤوليات في ظل الدولة العلوية..

مسار حياة:

قد يعمد الباحث في السير والتراجم الى المقارنة والترجيح بغية الوصول الى المكونات البارزة للشخصية التي يسعى الى رسم معالمها والوقوف عند خصائصها والملكات التي طبعت مسارها و حددت دورها في مجتمعها وتاثيرها في عصرها..

فلابد بين الاديب والعصر الذي ينشأ فيه من صلة نعرفها لتمام التعريف به والاستدلال على مصادر ادبه وقواعد تفكيره..، فندرس الشخصية لنكون على بصيرة و معرفة بجميع جوانبها وابعادها..

حصل عباس على البكالوريا في الاداب العصرية وهو ابن ثماني عشرة سنة ثم انتقل سنة 1957 الى القاهرة فانخرط في كلية الاداب بجامعة القاهرة.

في سنة 1961 حصل على الاجازة في الادب العربي وتابع دراسته حتى حصل على الماجستير في الادب ثم الدكتوراه من نفس الجامعة..

كان ينوي بعد حصوله على الاجازة في الاداب ان يذهب الى فرنسا ليتابع بها دراسته العليا بغية الحصول على شهادة الدكتوراه من جامعتها وراسل في هذا الشأن المستشرق الشهير " رجيس بلاشير (1900/1973) الذي رحب بطلبه.. الا ان تعينه مستشارا بالسفارة المغربية بالقاهرة اعاده الى رحاب الجامعة المصرية ليتخصص في الادب الاندلسي والمغربي.. ، تناولت رسالته في الماجستير (1965): الأمير الشاعر ابوالربيع سليمان الموحدي ، امارسالة الدكتوراه فكانت حول الشعر الشعبي (شعر الملحون.. 1969)

لقد انصبت ابحاثه بالدرجة الأولى في هذه المرحلة على الادب العربي في الغرب الإسلام وكذلك على الادب الشعبي..

ابتداء من سنة 1966 انقطع للعمل الاكاديمي بالجامعة بفاس ثم بالرباط..

الدرس الادبي:

في مدارج الجامعة استوت شخصيته فتفتقت مواهبه ونضجت مداركه وصقلت معارفه في دراسة الادب وتجويده شعرا ونثرا ليسمو به الى مراتب الادب الرفيع..

الكتابة الأدبية فن والفن لا يكتفى فيه بالافادة او مجرد الافهام بل ينظر فيه الى مجاراة التطوير وذلك بالوقوف على علاقة اللفظ بالمعنى ،فبين الأفكار و البستها اللغوية ترابطا هو غاية في الدقة والتصوير الفني..

الادب الصادق هو الذي ينفذ الى أعماق النفس وبواطن الواقع فيصيب الجوهر الصريح متخطيا حدود الزمان والمكان ويكون بذلك معبرا عن مطالب الروح الإنساني في الشمول والخلود..

في الادب تتجلى المنازع الايمانية والروحية والسعي الى الاصالة ومحاولة الفهم والتعاطف والنفاذ الى اللب والاحتفال بالتجربة والمعاتاة والتعبير الجميل عن الشعور الصادق..

الادب الأصيل يمضي الى الفكرة والدلالة دون ان تعوقه تحليلة الصياغة، وزخرفة التعبير هي الجملة البليغة التي تبلغ فحواها بلا مبالغة في التحلية ولا قصور في التعبير يقف عند الفاظها فيثنيك عن مضامينها..

اذا استقام المنهج اسقام الموضوع.كما ان وسيلة المعرفة تبين موضوع المعرفة..فالوعي او الشعور لا بد ان يكون وعيا كاملا غير ناقص ولا مبتور..

مفهوم الدرس الادبي عند عباس الجراري:

في كتاب " الادب المغربي من خلال ظواهره وقضاياه." يرى ان البحث الادبي تتداخل فيه عناصر ثلاثة تتكامل في اطارها وعي الدارس بها سواء في تكييف نوعه او تحديد درجته وهذه العناصر هي(طبيعة الموضوع /مصادره/ منهج التناول.) واذا كان الادب باعتباره بنية إبداعية ير تبط باشكاله و مضامينه ببقية بنيات المجتمع الذي ينبغ فيه مبدعوه، فلا مناص ان تتاثر بالعناصر الجدلية التي توجه حركة التاريخ في هذا المجتمع وتتحكم في تشكيل نمطه وتكوين شخصية افراده..(ص3).

المنهج مرتبط برسالة الجامعة ولن يتسنى لها القيام بدورها العلمي والمعرفي الا اذا ربطت برامجها ومناهجها باختيارات المجتمع.. وعليها ان تجعل هدفها نشر الوعي وتوجيه الراي وصقل الذهن وتوضيح الرؤية وتعميق المفاهيم وتهذيب القيم.. وان تلح في ان يكون العلم في خدمة قضايا الوطن.. والتوسل به في تحديد الشخصية الهوية الوطنية والتطلع الى مستقبلها المنظور او البعيد..كما يجب ان تعطي بعدا قوميا واضحا للعلوم الإنسانية.. من اجل تكوين ثقافة وطنية وصياغة فكر جديد ينقل الفكر القديم الى الأجيال الناشئة بعد تغيير النظر اليه واخضاعه لمقاييس النقد العلمي حتى يتسنى لهذه الأجيال ان تتعرف على التجارب السالفة وتدرك اسرار التطور وان تنمي فكرها وشخصيتها وتربي فيها استقلال الراي..(ص8)

ان المنهاج الذي تناول به قضايا الادب وظواهره في تشكل المحتوى او النوع والكيف انطلق من تمثل الإقليمية التي تعتمد البيئة و وموقوماتها ومؤثراتها في الادب..دون اغفال الشخصية الذاتية والموهبة الفردية..

كما ان الإقليمية لا تعني عنده المحلية الضيقة..وانما يعتبر الوسلية للم شتات الادب العربي وابداعاته..والوسيلة كذلك الى العالمية والإنسانية..

فالشتات هو الذي يسمح باستخراج الصورة للمغرب سواء في تاريخه السياسي او الفكري..

اما المحتوى او الكيف فيقضي بمعالجة هذه الظواهر بفكر نقدي يستند الى الواقع والمعاصرة وبجدلية موضوعية..كما يعتمدان على معطيات استقرائية واستنتاجات منطقية..بعيدا عن أي معتقدية متزمتة او موقف تبريري.. بحيث لا يمكن فصل المنهج عن المضمون كما لا يمكن ممارسة نقد قبلي على المعرفة.. (ص9).

الملاحظ ان الأستاذ عباس يتناول الظواهر والقضايا الأدبية من زاوية تعطي الاسبقية للتمثل العقي على النقد التاثيري أي النظرة العقلانية وليس مجرد التذوق الفني والاحساس الجمالي..او الانفعال الانطباعي بالاثر المدروس..

وبهذا يحقق المنهج جملة اهداف في طليعتها الكشف عن مواطن الجمال وعن الدلالات الفنية وما ينبثق عنها من مضامين فكرية باعتبار الجانب الفني المتمحور حول اللغة وبنائها التركيبي ظاهرا يبطن فكرا او يخفي ابعادا أخرى عميقة..وبذلك تبرز قيمة الابداع في مختلف تجلياتها الشعرية والفكرية والابعاد الإنسانية..

ويحقق المنهج أهدافه باثبات الوقائع وربطها بالاسباب ووصف الظواهر وتعليلها والبحث عن بواعثها الخفية والظاهرة.. واستخلاص العلاقات التفاعلية بينها وبين غيرها..(ص9).

و صفوة القول ان الهدف من الدرس الادبي وضع منهج لمقاربة ظواهره وقضاياه ليتسنى للباحثين والقراء عامة التعرف على مايزخر به من قيم ومثل وخصائص ومقومات أسهمت في تشكيل الشخصية الثقافية والحضارية للمغرب عبر التاريخ..كما ان الدراسة تفتح افاقا جديدة لاستشراف المستقبل..

الحقل المعرفي لمشروع عباس الجراري

تطرق الأستاذ عباس في خطاب العضوية باكاديمية المملكة المغربية (1983) للاسس والمرتكزات التي يتالف منها مشروعه الفكري الموسوعي في الادب والنقد والتاريخ والدين..

" المنطلق من إيجاد عناصر التقاء بين الثقافات..ثم البحث في كل ثقافة عن اسهاماتها الإبداعية ومقوماتها الاصلية النابعة من التجربة التي تتفرد بها والتي تفضي الى خصائص الغنى والتميز ومن خلال ذلك يمكن ابراز ما يكمن في هذه الثقافة او تلك من قيم إنسانية تتيح لها ان تتجاوب وتتحاور..وتؤهلها لتتخطى حدود المحلية الضيقة وتعانق الافاق الواسعة لكافة البشرية (ص178 منشورات الاكاديمية حول استقبال الأعضاء الجدد/1980/1986/).

انطلاقا من هذا الوعي تبلورت عنده رؤية شمولية للتراث المغربي في نظرة تكاملية توحيدية جعلته يبحث في الصيغة المدرسية التي تتمثل في الاثار العلمية والأدبية المدونة ثم في صيغته الشعبية التي تتجلى فيما ابدعه الشعب بمختلف طبقاته من أنماط ثقافية وحضارية.. كما تبدو ظواهرها فيما يمارسه الشعب من تقاليد وقيم واخلاق وما يزاوله من فنون وصناعات تغوص في أعماقه الواعية واللاواعية..تكيف مشاعره ووجدانه وتحدد مزاجه وشخصيته وتميز عبقريته..

و في هذ الاطار يمكن تفسير انتشار ظاهرة الثقافة الشعبية ونومها في اتجاهين متكاملين: احدهما يعتمد البحث المعمق والاقتباس مما عند الاخرين والثاني يسعى الى توسيع قاعدة الثقافة باعتبارها قاعدة للجميع..

وقد اهتم بالصيغتين في رحاب الجامعة باعتبار التعليم والبحث مقومين في رسالة الجامعة الى تكوين أجيال مزودين بالعلم نظرا وتطبقا وعارفين بدورهم وقادرين على تحمل المسؤولية الوطنية وبث الوعي بالمبادئ السامية والاهداف المقدسة للامة.،.آ خذين بزمام المبادرة والنهوض باعباء التطور والتقدم وإيجاد صياغة متجددة للحياة والانسان وعلى تنمية البحث العلمي بفكر نقدي حر قائم واصيل قادر على الابداع والابتكار بمنهجية سليمة ونظر شمولي مفتوح على مختلف الافاق الإنسانية بعيدا عن الانغلاق وعن السير في ركاب أي تيار يكرس التبعية..(نفس المصدر ص 179.

فهو يتناول الادب المغربي بمعنى الإنتاج الفكري الشامل للامة..دون حصره في الاطار الاصطلاحي المتداول المحدد في الشعر والنثر الفني.. ومن ثم فان التراث عنده يشمل الثقافة العالمة او المدرسية والثقافة الشعبية بروافدها الثرية التي تتسم بالتنوع والتعدد..

على أساس ان التراث هو وعاء منظورات الامة ومقولاتها وتجاربها وانه هو دليل حياتها ووثيقة وجودها ومنظومة معرفتها في ما صيها وحاضرها وما تتطلع اليه مو رؤى وتصورات مستقبلية..

دراسة التراث عند عباس الجراري تعني بالجانب المضئ الشفاف الذي يحفز على إعادة ترتيبه وتجديد تركيبه وتطويعه بالتفسير والتحليل والتقويم حتى يصير جزءا من كيان الامة في ارتباط وثيق مع حركة التاريخ خلال الحقب والازمان..

ان عملية تحديث الماضي هي التي افرزت ظواهر ثقافية وحضارية متعددة تعاقب نموها وتطورها طوال عهود التاريخ بما جعلها تتجذر وتتفاعل بخصوصية وتلقائية متأثرة بما تعانقه من ظواهر مماثلة لها في الحضارات والثقافات الأخرى..(نفس المصدر ص179).

البيئة الإقليمية واثرها في البناء الثقافي والحضاري

كانت نقطة المنطلق في مشروع عباس الجراري دراسة البيئة الإقليمية ومقوماتها ومؤثراتها عامة في الاجتماع الإنساني.. باعتبارها هدفا ووسيلة للم شتات الادب العربي والفكر الإسلامي.. وغيرها من أنماط التراث في كل البيئات الحضارية والثقافية التي اتاحت الابداع..واعتبرها سبيلا لتكميل الرؤية الوحدوية الثرية انطلاقا من التجربة المحلية لكل إقليم فضلا عن العوامل البيئية التي تنعكس على المزاج والروح وعلى الطابع واللون..

واعتبر الإقليمية جواز المرور الى العالمية الإنسانية حين تنصهر تلكم العوامل في آفاق الكون الواسع..

ان المغرب مؤهل لهذا التفاعل بموقعه الجغرافي الافريقي واطلالته على بحرين متحكما في منافذهما ومنفتحا على ما ورائهما..

لقد رسم الموقع وجهة المغرب التاريخية وجعله يقوم بدور الربط والاتصال والتاليف بين الشعوب والحضارات..

مما يكشف عن عقلية واقعية تعتمد الحس والتجريب والميل الى تجسيد الأفكار المجردة الى حقائق ملموسة وبذلك يكتسب إرادة قوية لا ثبات كيانه وتحقيق مطامحه مع قدرة على الاخذ والعطاء والتفاعل والتبادل..

وما يلبث الدور ان يتجدد بسريان الروح الإسلامي في اعماقه وأعاد خلقه وغير مجرى الحياة فيه وفتح له افاقا حضارية وثقافية جديدتين اهتدى في بنائهما بمثل عليا نابعة من تمازج العقل والروح..مما اهله ليتحمل في نطاق الفكر والعقيدة رسالة تخاطب الإنسانية عامة في كل زمان.. وهي رسالة تقوم على العلم والعمل وعلى التدبر والاقناع والتعايش والتساكن والتاخي والتراحم..(نفس المصدر ص180).

الثقافة ورسالة تجديد الفكر والإصلاح المجتمعي

تناول الأستاذ عباس الجراري في كتابيه (الثقافة في معركة التغيير /1972) وبقليا كلام في الثقافة/1999) دور الثقافة في عملية التجديد والحاجة الى ثورة ثقافية تؤسس لثقافة وطنية..و الحسم في قضايا التقليد والتراث في مقابل المعاصرة..

الا ان ذلك لم يتحقق على النحو المامول لاسباب موضوعية ومفتعلة..بدليل ان تلك القضيا مازالت معروضة للنقاش..

ورغم التطور الكبير الذي عرفته الثقافة ما زال الرهان قائما بأكثر مما كان.. نتيجة الصراعات في مواجهة التحديات المحلية والإقليمية والعالمية..

يرى ان مفهوم الثقافة يتضمن الثقافة العامة والثقافة التخصصية..فالتخصصية تتمثل في جميع المعارف التي تتصل بالتخصص اما الثقافة العامة فهي ما يشترك فيه الجميع من اثار وتقاليد وآداب ومعارف إنسانية..

ان توسيع دائرة المعارف اسهم في تكوين عقل المتلقي وتربية فكره وتنمية ملكاته الخلاقة..

وينبغي ان تكون الثقافة تعبير عن مظاهر التاريخ الوطني والإنساني ومعالم الاداب القومية والعالمية.. ونظرات في العلم و القانون والدين.. وغيرها من أنواع المعرفة دون حصرها..

وقد ربط الحاجة الى ثورة الثقافية بالحاجة الى ثورة أخلاقية لانه يعتبر ان الجانب الخلقي مكون أساسي من مكونات الثقافة.. وان الهدف من تثوير الثقافة ليس الهيمنة والسيطرة..

فالهدف هو تحريك المقومات الحية في الثقافة لكي تنهض بالدور المنوط بها في التوجيه والتقويم بتوازن واعتدال وتسامح وعقلانية.. لتؤدي بذلك رسالتها العلمية والمجتمعية.. وهي رسالة ريادية تعمل على تحديث المجتمع وتنوير فكره وتوعية قادته وجماهيره بقيم الحرية والعدل والمساواة وكذلك قيم العمل والإنتاج..مما نعني ان نؤسس لثقافة قادرة على التعامل مع الواقع وتحليله وفهمه ونقده وقادرة كذلك على فتح افاق الابداع والاجتهاد وخلق مجالات الحوار مع الذات والأخر على أساس القبول والتبادل والتعاون..وهذا يتطلب وضع استراتيجية ثقافية وطنية تتشكل من جميع الأنماط الثقافية التي يزخر بها المجتمع الذي يتسم

بالتعدد والتنوع مما يغني الثقافة الوطنية ويمنحها البعد الوطني.. والقوة على التبلور والالتئام مع الثقافات الأخرى عربية وإسلامية وعالمية.. وان تكون لها القدرة على اثارة القضايا الشائكة والعويصة مع الاجتهاد في إيجاد حل لها..

وبهذا تخرج الثقافة من تقليدها وجمودها وعزلتها وخشيتا من ان تهيمن عليها المؤسسات والتنظيمات الرسمية..

فتتوسل بالتحليل العلمي والتخطيط المستقبلي لصد المحاولات التي تسعى الى اجهاض العمل الثقافي ومحاربة الإصلاح والتغيير.. (يراجع الحوار في العلم الثقافي /1/2/ 2024).

تجديد الفكر الإسلامي بين التحدى واليقظة والإصلاح

تطرق عباس الجراري في في مؤلفاته الفكرية الى قضايا تطور الفكر الإسلامي وآفاق تجديده وما واجهه من تحديات منذ الغزو الأوروبي للعالم الإسلامي..

الفكر الإسلامي هو خلاصة ما انتجه المسلمون في مضمار الحضارة والثقافة وكل المبدعات العقلية والشعورية وما يرتبط بها من تصورات وآمال..و اليقظة بها يقظة بالفكر..، واما التحدى فيعني تحدى خصوم هذا الفكر.. والتحدى يولد اليقظة..

اذا نظرنا الى الفكر الإسلامي برؤية مستقبلية سنتعرف على الطريقة التي يواجه بها التحديات التي تعترضه..وعلى الأساليب التي يتوسل بها المسلمون في الصد التحديات..

يرى عباس الجراري ان اول هذه الأساليب يعتمد على تطوير التراث وعلى امتصاص ما عند الاخرين ودمجه بوعي وعمق في الفكر الإسلامي دون اية عقدة..

الأسلوب الثاني لجأ اليه مفكرو الإسلام طوال قرون وبرز فيه "الغزالي وابن تيمية" واضرابهم من العلماء الذين بذلوا جهودا جبارة في ابطال اباطيل خصوم الإسلام من المبتدعة..

الأسلوب الثالث في هذا المضمار هو أسلوب حركة الإصلاح الحديثة التي ظهرت في الشرق على يد جماعة من المصلحين..منهم محمد بن عبد الوهاب الذي اهتم بإصلاح العقيدة والافغاني الذي اهتم بالإصلاح السياسي ووحدة المسلمين وتلميذه محمد عبده الذي اهتم بإصلاح التعليم وتربية النفوس..

وفي المغرب ظهرت حركة سلفية إصلاحية تزعمها ابوشعيب الدكالي والتي نشأت عنها الحركة الوطنية المغربية التحم فيها العمل الثقافي بالعمل السياسي..

وهكدا احتفظ الفكر الإسلامي بحد ادنى من الحيوية والفعالية ومن القدرة على التفاعل والصراع والصمود والمواجهة..

ويضيف الأستاذ عباس بان البديل هو طرح المنهج الإسلامي الصالح للعصر، والاخذ باسباب البحث العلمي الجديد وما يظهر من مقاييس وادلة وطرائق ومناهج عقلية وتوظيفها دون السقوط في حبائلها الاستلابية..، يحمينا رصيدنا من التقاليد الراسخة في هذا المجال..(كتاب فكر الوحدة /ص 30).

ومن نافل القول ان طلب العلم في الإسلام فريضة والتفكير أيضا فريضة.. والمعرفة الإسلامية تقوم على الحس والتجريب وتلح على اسعمال العقل بالتامل والقياس والاستنباط خدمة للحياة العملية للمجتمع..

وان تقديم قراءة جديدة لاصول الفكر الإسلامي تبتعد عن النقل والتقليد وتعتمد العقل والراي والنقد.. بحثا عن حقائق الأشياء وسعيا للوصول الى الجوهر والعمق وتصفية لهذ الفكر من كل الشوائب التي علقت به خلال التاريخ ليكون مقنعا للعقل العلمي المعاصر..تتجانس فيه واقعية العصر ومثالية الإسلام.. ومبشرا بالمستقبل.. يحفظ للمسلمين وحدتهم العقدية والفكرية..ويجعلهم قادرين على مواجهة التحديات واحباطها والتغلب عليها..

ويكون صالحا تستظل به جميع المجتمعات البشرية انطلاقا من انسية جديدة تتميز بالاصالة المستمدة من إيجابيات الماضي وتفتح على المستقبل واستيعاب كل ما يغنيه من الفكر الإنساني..

هذه القراءة الجديدة هي التي تجعلنا نستعيد خط الاصالة الحق الذي ضاع منا او كاد..(المصدر السابق /ص 38).

ولا شك بان التعليم يعتبر انجع وسيلة لاحداث التغيير وبث مفاهيم جديدة والانطلاق منها الى الى جميع الأصعدة والمستويات..

الفكر الإسلامي الجديد عند عباس الجراري مؤسس على ظاهرتي الوسطية والتجديد باعتبارهما من ابرز نتائج التفاعل الذي حدث بين الإسلام والشخصية المغربية عبر التاريخ.. وتتجلى الوسطية في عدة مظاهر أهمها التمسك بالاعتدال المذهبي ورفض التطرف.. والثاني يكمن في الموقف بين العقل والنقل في مسائل العقيدة.. واما الثالث فيتجلى في التوازن بين الحقيقة والشريعة بين الظاهر والباطن او الظاهر الفقهي والباطن الصوفي.. وهذا موقف يحث على التزام تصوف معتدل سني ينضبط بحدود الشريعة..

اما التجديد فهو وسط بين التقليد والابتداع.. ويكاد التجديد يقترن عند المغاربة بالاتباع الذي نعني اتباع الحق ويقتنعون بالدليل ويحترمون راي الائمة الذين يقتدون بهم..(يراجع في هذا الموضوع كتاب دروس حسنية / ص1127الى 119).

خاتمة

هذه بعض اللمحات والومضات اردنا من خلالها ان نقف عند جانب وملمح من صور التجديد في فكر استاذنا عباس الجراري رضي الله عنه.. وما عرضناه من إشارات بهذا الصدد لا يعدو سوى غيض من فيض من فكره الثري الشامل..

فقد تناول مظاهر التأثر الواقع الجديد الذي فرضته الحضارة الغربية على المجتمعات الإسلامية.. هادفا من وراء ذلك تحرير الفكر من التبعية للغرب.. وكان واعيا باننا لن نتحرر سياسيا اذا لم نتحرر ثقافيا واعتقاديا وعقليا من التبعية للغرب..

فالحضارة الغربية تنطوي على فكر عقلاني احادي النظرة ، لا يومن بغير سيادته المطلقة ونزعته للهيمنة على الاخرين..

فكان يرى ان نهضة العالم الإسلامي تقوم على عوامل أربعة: التجديد الديني واحياء الثقافة الإسلامية وبعث تراثها والاتصال بالثقافات الأخرى اتصال تثاقف واقتباس.. من اجل تغيير واقع المجتمعات الإسلامية السياسي والاجتماعية تغيرا يفرض الاخذ واصطناع الكثير من الأنظمة والمناهج الحضارية الجديدة..

ومن نافل القول ان الثقافة الإسلامية ثقافة تفاعلية باعتبارها منظومة مبادئ وقيم ومنهج حياة..

يمارس علماؤها ضروب الاجتهاد مما يمكنهم من الاستفادة من كل ما ينتجه العقل ويتمخض عنه من التجارب الإنسانية من منطلق ان ثقافة الإسلام وحضارته ثمرة تفاعل مستمرة بين الاتباع والابتداع والوحي والعقل والثابت والمتحول..

وبرى عباس باننا امة لها تاريخ وتراث وحضارة ولها مبادئ وقيم ومقدسات ولن تقبل ان تعيش في عزلة ولن تقبل أي تسلل يمحو معالم شخصيتها.. ويضيف باننا نحتاج الى ثورة ثقافية وتخطيط ودراسة تبحث في أصول ثقافتنا وما ألم بها من تطور وتغيير لمعرفة المراحل التاريخية التي مرت بها والتأثيرات التي خضعت لها.. والتفاعلات التي حدثت لها.. مع غيرها من الثقافات..(بقايا كلام في الثقافة /ص45).

ان الثقافة تفيد التسوية والاتقان والحضارة وتشمل الفنون والاداب والقانون والأخلاق والعادات والتجارب الإنسانية وكل ما يثقف الذهن ويهذب الطبع ويربي العقل..انها الحافز على الحياة والبناء والسير في مضمار التقدم والحضارة..والانطلاق لافاق جديدة من اجل خلق ثقافة جديدة أساسها الأصول القديمة..اننا لن نستطيع الاسهام في الثقافة الإنسانية ما لم نضف من انتاجنا المطبوع بروح وطنيتنا..فمن تراثنا نبعث كل مفاهمنا للحياة..

من هنا تصبح الحاجة ماسة الى فكر نا هض يطرح بديلا للفكر المزيف..(ص51 نفس المصدر..).

ان ما نريده من الفكر هو ان يجعلنا نعشق التقدم والعمل من اجله باستمرار..

ان التفكير والنظر هما المصباح الذي يجب ان يكون معنا في سيرنا وتوجهنا وان نمضي مستنيرين بعقولنا..مقتبسين ماهوصالح لانبعاثنا..ان الوجود بغير فكر حر لهو العدم ، وان مدنية لا تقوم على التحرر والتبصر لهي التوحش ولو كانت في احدث طراز.. واستقلال الفرد او الامة لا يتم الا بالفكر الصحيح الذي يضمن الوصول الى ماهو اسمى وادراك الغاية التي يكافح المرء من اجلها للتقدم..

وان التفكير بالمثال هو الذي يربط مستقبلنا بحاضرنا وبماضينا القومي والإنساني..وقضية الدين هي مسالة المسائل في العالم واما ان تكون هي الفكرة المالكة لكل الشؤون واما ان لا تكون بالمرة.. ومن خطل الراي محاولة اخذ الدين كشيئ خاص بجانب من جوانب الحياة دون غيرها وليس هناك امر يماثل الطبيعة في شمولها وسريانها مثل الدين..

ان في اطوار التاريخ امثلة ان عدم الاعتداد بالدين في امة يؤدي حتما الى التقهر والانحلال..

وما حافظت امة على المثل الأعلى الإلهي الا احتفظت بحياتها وفخرها ومكانتها.. (علال الفاسي النقد الذاتي بتصرف..).

***

أحمد بابانا العلوي

 

استمراراً لسرد القرائن التي ساقها الباحثون الغربيون ومنهم على سبيل المثال لا الحصر لكسمبورغ وفيرنر داوم، وخاصة فيرنر لأنه، هو من أتجه بنسب القرآن نحو الجهة الجنوبية من الجزيرة العربية، متخذاً من النقوش اليمنية دليلاً لنظريته التي تجعل من القرآن أمتداد لها أو محل لتناص نصوصها القديمة، وهنا ننقل نصاً لفيرنر ذكره في مقالته (ديانة ماقبل الإسلام في حضرموت ومكة)، حيث يقول (فإن القرآن ليس نتاج العصور القديمة المتأخرة، ولا نتاج الأوساط المسيحية اليهودية في الشام، إخ، بل هو نتاج دين الجزيرة العربية بعدما استحال كتاباً)، ويقول في مقام آخر من المقالة (ويجب أن يكون المعنى والإطار الأسطوري خلف العمرة والحج واضحاً الآن- مكة وعرفة هما التعبيران المحليان عن ديانة العرب العامة التي استطعنا تشكيل ملامحها في حضرموت)، وحضرموت هو المكان الذي أتخذ منه فيرنر كمحل شاهد لقرائنه التي ساقها لأثبات مزاعمه هو وزملائه من أمثال فرانسوا دوبلوا وروبرت سيرجنت. في الحلقة الثالثة نستعرض لقرينتين أستند أليهما فيرنر في سياق بحثه، والتي يستشهد من خلالهما على أصل منابع ما جاء بالقرآن من نصوص . فيرنر يتناول قبر النبي هود ومراسيم زيارته كأحد هذه القرآئن التي كان لها وجود قبل الأسلام، ولكنها أستمرت وأندمجت ضمن سلسلة الطقوس الأسلامية، وأصبحت جزء منها ناسياً أو متغافلاً أن هود من الأنبياء الذين ينضمون الى سلسلة الرسل والأنبياء التي يقر بهم الأسلام كأنبياء مرسلين من الله أبتداءاً من آدم الى محمد ص خاتم الرسل والأنبياء، لذا لا يُعتبر ما جاء من ذكر لهود هو نوع من التناص لما سبقه، بل هو أقرار لأيمان فرضته السماء على الدين الجديد، كما أن وجود هود في جنوب الجزيرة، وبالخصوص بحضر موت، لا يمكن أن يكون دليل على إن منابع القرآن ومصادره الأساسية هو جنوب الجزيرة، والدليل في نفي هذا الأدعاء، هو أن القرآن ذكر أنبياء لهم مراقد في العراق أمثال العُزير والكفل، كما هناك من ولد وعاش بالعراق كالنبي أبراهيم، والعراق بلد خارج الجزيرة العربية، ويحدها من الشمال، بالأضافة على ذلك أن القرآن ذكر أنبياء كان لهم وجود على أرض فلسطين ومصر، كيعقوب وأسحاق،ويوسف وموسى وداود وسليمان وهي أرض خارج حدود الجزيرة العربية، بل وتقع في شمالها . أذن ذكر نبي في القرآن لا يعني أنه أستوحى من الرقعة الجغرافية التي عاش بها كمصدر أستوحى منه ما ترشح من طقوس ونصوص دينية .

هناك ملاحظة جداً مهمة ينبغي الألتفات أليها، هذه الملاحظة تتلخص بالممارسات التي يقوم الناس بممارستها بالعادة، وعندما تحصل أنتقالة دينية أو حضارية وأجتماعية، ترى الناس تستمر في ممارسة هذه العادة، ولم ينسلخوا عن ممارستها، وهنا نذكر مقولة لغوستاف لوبون بهذا الصدد يقول فيه (فأن تجديد روح الأمة يتطلب في الغالب قروناً طويلة)(الآراء والمعتقدات-ص133)، كما يقول في مكان آخر من كتابه (الآراء والمعتقدات ) في صفحة 264 .(ولكنه يعجز من سيطرة المعتقدات على الدوام)، فالأنسان يستلهم المعتقدات ببطء ولاشك يفقدها ببطء لأنها مغروسة في عمق مشاعرة، ومنزوية في لاشعوره، لذلك هي تنتقل معه أينما حل، وحتى أن أكتشف عدم جدواها، فهو لم يغادرها الا بالتدرج  وهناك الكثير من الأمثلة في أستصحاب الكثير من العادات والتقاليد التي أستمرت لآلاف من السنين، فمثلاً نحن العراقيون أستورثنا الكثير من الطقوس من زمن السومرين والبابلين، ومازال بعضها موجود ليومنا هذا، حتى في أوربا هناك عادات تمارس منذ العصور القديمة ولازالوا يُمارسوها، هذه الظاهرة موجودة في كل الشعوب، حتى تسمى احياناً بالدين الشعبي، أذن فالأمر لايتوقف على الشعوب الأسلامية. عندما يستورث بعض الممارسات والطقوس من أزمنة غابرة يحسبها بعض الباحثيين بأنه تناص بين القديم والجديد، وتُحسب وكان الدين الجديد هو من أستورثها من الديانة القديمة، ومثل ذلك هو طقوس الزيارة وما يُضحى لها عند قبر النبي هود، وخاصة في مسألة العقيرة (وهي طريقة ذبح الثور بطريقة التعقير) وهي لا علاقة لها بالأسلام بالبتة، والباحث أشار الى ان الأسلام حاربها، وقد أقر الباحث ذلك، ويقول (وتأثير الساده المتزايد، ورغبتهم في تطهير الأحتفال مما يعتبرونه (بحق) بقايا وثنية) (القرآن ونقوش اليمن 150)، وهناك حديث نُسب الى أبن عباس في خصوص تحريم العقيرة (وهو أن الرجل يقتل الحيوان عن طريق قطع عصب ساقه)، يقول أبن عباس في حديث نبوي (لاتأكلوا من تعاقر الأعراب فإني لا آمنُ أَن يكون مما أُهل به لغير الله) . أذن هود هو أساساً نبي الله، وأحد حلقات السلسلة النبوية التي تنتهي بمحمد ص، وأن الممارسات الوثنية لأهل اليمن مرفوضة في الأسلام، وقد حرمها وان أستمرت ممارستها من البعض، فهو ينفي أستيحاءها من النقوش اليمنية القديمة . هذا من جانب، ومن جانب أخر ما يحتج به الباحث الى العلاقة التناصية للقرآن من النقوش اليمنية هو موقع قبر النبي هود الذي يتوسط الوادي، ويكون في طريق مجرى السيول، وهذا ما يشبه موقع مكه، والأثنان في أودية من غير ذي زرع، هنا أرد على الباحث بالقول، أن مكة وقبر هود في مواقع جغرافية متماثلة من حيث طوبغرافية الأرض، فالأنسان يختار للأستقرار أو عند بناء معلم معين، يختار الأرض المنبسطة في أقامة ذلك المَعلم، وخاصة أذا خُصص لمحل أجتماع عدد كبير من الناس. كما أن الموقع المقدس في حضرموت هو قبر أما ما يقع في وادي مكة فهو بيت الله، مع الفرق الزمني بين هود والنبي أبراهيم، وأن محمد ص لادخل له في أختيار موقع مكة ولم يكن هو المؤسس لها، ولا أعرف ما هي العلاقة بين القرآن وقبر هود، مادام القرآن والأسلام غير مؤسس للكعبة حتى يلتقط موقعها الجغرافي من موقع النبي هود، وبهذا لا يعتبر موقع قبر النبي هود كدلالة على تناص بين الأثنين. كما من المهم الأشارة الى أن بئر الماء القريب من مكة (زمزم) والبئر القريب من قبر النبي هود هو تحصيل حاصل لتجمع السيول في المناطق المنخفضة والتي تكون مخازن مائية في جوف الأرض، ويشكلون ما يُسمى بالآبار الجوفية، وهذه حالة طبيعية، والأنسان عرف ذلك بحكم تجربته، لذلك يقع أختياره على أقامة معابده وسكناه في هكذا مواقع.

ولو أنتقلنا الى الأضحية التي تُقدم عند قبر هود عند أقوام اليمن القديمة فالهدف منها هو الأستسقاء عن طريق نزول المطر، وهي عملية أسترضاء للأله، وأن هدف الأضحية في الأسلام غير هدفها عند الأقوام اليمنية ما قبل الأسلام، حيث إن اليمنين القدماء يعتبرون صيد الوعل عبارة عن صيد طقسي، وهي كعادة لازالت تمارس كما يقول الباحث حتى اليوم، والتي يذكرها على حد قوله (من بقايا الدين السابق على الأسلام) (القرآن والنقوش اليمن - ص177) . تشير النقوش اليمنية الى ألهين هما عثتر وشمس تمارس طقوس صيد الوعل لغرض الأستمطار، ويذكر الباحث سيرجنت قصائد تؤكد ذلك (إن كان ماقنصنا: المطر ما يجينا) (القرآن ونقوش اليمن - ص178)، في حين أن الأستسقاء بالأسلام هو الصلاة، وهذا ما لا يتماثل مع الطقس اليمني القديم.

نستنتج من كل ما جاء أعلاه بأن موقع قبر هود في وسط الوادي، والأضاحي التي تقدم إليه لا علاقة لها بالبته في القرآن، ولم يكن هناك أي أثر لتناص بين القرآن والنقوش والآثار اليمنية بهذا الخصوص، وأن الصيد الطقسي، المراد منه الرغبة في أستمطار السماء، لا علاقة لها بصلاة الأستسقاء والتي كانت من السنة النبوية، حيث كان الرسول ص يصليها ركعتين طلباً للغيث، وهو مايلجأ أليه الأنسان الى الله كملاذ عندما تنسد كل السبل أمامه، ولم يكن لها من نص في القرآن الكريم .وهي لا تنحصر فقد قبل الأسلام عند اليمنيون القدامى، بل نجدها عند شعوب أخرى مثل الأمازيغ، حيث عندهم أسطورة آنزار)، ويذكر الدكتور فوزي رشيد ان المصارعة كانت جزء من طقوس أستنزال المطر (صلاة الأستسقاء) في شمال العراق (رشيد فوزي: من هم السومريون) (طقوس أستنزال المطر في العراق القديم- وليد يوسف عطو) . يتضح أن الأنسان بشكل عام عندما تضيق به السبل يتجه الى قوة عظيمة تمنحه مراده، ولكن الوسائل مختلفة، فنرى الأنسان القديم يتجه الى أسطورة أله المطر، وبطقوس معينة كما بطقوس الصيد اليمنية، وهناك من يأتي بالبنات الجميلات لتكون القوة الجاذبة لأله المطر كما في الأسطورة الأمازيغية، في حين في الأسلام تكون الوسيلة هي الصلاة والدعاء من الله بنزول الغيث بعد حلول الجدب على الأرض، وهذا فارق كبير في أجراء الطقوس، وأن كان الهدف واحد، ووحدة الهدف نتيجة لوحدة الحاجة الأنسانية، ولكن مايفرق الأسلام عن غيرة هو نوع وطريقة الوسيلة . وأن ما أراه ليس إلا عملية أراد بها فيرنر لوي عنق الحقيقة، في محاولة لا تخلوا من تدليس الحق بالباطل ....يتبع

***

أياد الزهيري

 

في الوجود لا توجد حقيقة بينة وواضحة وراسخة أكثر من حقيقة الوعي بالذات. فلا أحد يستطيع أن يعرف ذاتك أكثر منك.

نعم قد يداخلك الشك أحيانا حتى في ذاتك ولكن هذا الشك- كما علمنا (ديكارت)- هو الطريق الأمثل لإثبات الذات.

قال: "أنا أشك إذن فأنا أفكر وكل مفكر موجود إذن فأنا موجود".

فالشك هو نشاط عقلي ثنائي أي (شاك و مشكوك فيه) فهي ذات تفكر .

ومهما بلغ الشك من قوة ففي النهاية لا يصمد أمام شكك إلا شكك لأنك مهما شككت فلن تشك في أنك تشك.

والشك تفكير والتفكير دليل قاطع على وجود ذات تفكر . ومن هذا الفكر تتبرعم كل ثمار العلاقة بين الذات والذات وبين الذات والموضوع.

العلاقة بين الذات والذات تجد ثمرتها في أنك تستطيع أن تقف خارج ذاتك فتتأملها وهنا يولد الحوار الذاتي حوار الذات للذات شكا ونقدا وهذا هو قمة الوعي الذاتي الإنساني فالإنسان هو الكائن الوحيد الذي يستطيع أن يقف خارج ذاته.

والعلاقة بين الذات والموضوع تجد ثمرتها في تأكيد إنفصال الذات عن الموضوع حيث تحكم الذات بوجود موضوع خارج عنها وهنا تكتمل علاقة الذاتي بالموضوعي فتبدأ المعرفة المنطقية وتتأسس قوانين الإدراك.

من هنا نستطيع أن نزعم إن للوعي الذاتي شقان:

الأول: معرفة الإنسان بذاته حيث تحددت ماهيته ككائن يحمل وعيا ذاتيا.

الثاني: قدرته على الخروج من وعي الذات إلى معرفة الموضوع.

الوعي الذاتي إذن هو المائز الأساسي بين الإنسان والحيوان وهو الصفة المتفردة التي تجعل من الإنسان كائن واعي لمفهوم العلاقة أي ادرك قانون (مؤثر- استجابة).

وهذا القانون يعني الربط بين شبكة علاقات العالم الخارجي والذات الفردية باعتبارها جزء من كل.

من هنا نستطيع أن نؤكد أن الوعي الذاتي هو ماهية الفكر الإنساني حصرا دون باقي الأحياء على الأرض.

وفلسفيا نستطيع أن نعرف الذات كتجوهر متميز عن الجسد يحدد طبيعة أو ماهية الإنسان المتفردة.

الإنسان بالتعريف كائن عاقل مفكر ومن هذا التفكر أدرك أن الوعي الذاتي ميزته الخاصة التي يتعالى بها عن باقي أحياء الأرض أنه سيد هذا العالم بلا منازع أو غريم.

ومن رحم الوعي بالذات تولد الأنانية كدفاع غريزي عن الشخصية لغرض توكيدها في مواجهة الآخر المختلف. وبفضل وحدة الوعي الذاتي هذه والتي تصمد أمام جميع التغييرات التي تخضع لها الذات تكون الأنا والذات الشخصية وحدة واحدة أمام الآخر بحسب العلاقة معه فتارة تكون العلاقة علاقة ضدية أي علاقة صراع وتارة تكون علاقة انسجام أي تكامل وتارة تكون علاقة دونية أي علاقة تابع ومتبوع.

هنا تقيم الشخصية فرقا تاما بين الذات والأشياء حسب الترتيب الماهوي فتقول الذات (أنا أولا) ومن هذا المبدأ تتحدد جميع علاقات الأنا مع الآخر.

ومن هذا نفهم لماذا لا يستطيع الإنسان أن يخدم غرضا أسمى من تحقيق ذاته.

الموروث والمكتسب:

الإنسان هو الكائن الوحيد على الأرض-دون بقية الحيوانات- الذي أمتلك الوعي الذاتي فأين يكمن سبب هذه الميزة؟

يولد الإنسان وهو مزود بأجهزة جسمية تختلف عن الأجهزة الجسمية لأي حيوان راقي حتى ذلك الحيوان القريب منه في سلم التطور البايولوجي ويبلغ الإختلاف أشده في أهم هذه الأجهزة الجسمية وهو الجهاز العصبي وعضوه المهم (الدماغ).

إن هذا الاختلاف يصبح اختلافا نوعيا وفريدا بهذا الكينونة لكنه يظل مشروعا غير مكتمل الإركان فالإنسان يولد مشروع إنسان وإنسانيته لا تكتمل إلا من خلال الهيئة الاجتماعية التي تمنحه هذه الصفة فتكتمل بذلك كينونته.

وبديهي ان هذه الكينونة أو الذات الطبيعية البشرية تظل تشترك مع أي كينونة أو ذات طبيعية حيوانية بحاجات بايولوجية ضرورية للاستمرار في بقاء هذه الذات كذات نامية تمر بمراحل معينة ومتعددة من التطور البايولوجي كالحاجة للطعام أو الحاجة للنوم او الحاجة للجنس ..ألخ.

على هذا الأساس فإن الإنسان كائن طبيعي كأي حيوان آخر سواء بسواء ذو حاجات بايولوجية أما السبب الدافع لهذه الحاجات فهو «الرغبة في البقاء على قيد الحياة». وعلى الرغم من وجود الإختلافات الكبيرة بين البيئة الداخلية للإنسان والبيئة الداخلية للحيوان (الأجهزة الجسمية الداخلية) وخاصة في أعظم أقسام هذه البيئة أي في الجهاز العصبي المركزي الصادر منه والمسيطر على جميع أنماط السلوك سواءا كان هذا السلوك بشريا أو سلوكا حيوانيا فإن الإنسان لا يبلغ أية درجة من الإنسانية التي يتميز بها عن حيوانية الحيوان إذا ظل معزولا عن المجتمع وغير متفاعل معه.

هذا معناه أن المجتمع هو الذي يمنح الإنسان إنسانيته ومقدار هذه الإنسانية يتوقف على مقدار إنسانية المجتمع الذى يتفاعل معه الانسان وعلى مقدار هذا التفاعل. وبذلك فإن إنسانية أي إنسان ستختلف حتما عن إنسانية أي إنسان آخر تبعا للإختلاف الحاصل في كل من هذين الشرطين وفي النهاية ما الإنسانية إلا مجموعة قيم والقيم هي التي تحدد السلوك.

هذا الاستنتاج يجد صداه فيما أورده (مستر جيسل) في كتابه (طفل الذئاب وطفل الإنسان).

إذ كشف لنا بمزيد من العمق والوضوح الوهم الذي كنا نظنه جزء من موروثنا الجيني إذ تبين إن هو إلا جزء من تراثنا الاجتماعي المكتسب من خلال التفاعل الايجابي المستمر والحاصل بين الإنسان وبيئته الاجتماعية.

ففى حالة الأطفال البشريين الذين اختطفتهم الذئاب لوحظ إن الطفل البشري المختطف يصبح كطفل الذئاب يعوي ويصرخ عند الحاجة إلى ذلك لكونه لا يعرف الكلام وبالتالي لا يجيد التفكير كما أنه يعدو بخفة على أربعة أرجل بدلا من أن يمشي منتصبا على قدميه

وينام في النهار ويستيقظ في الليل ويأكل الرمم بفمه مباشرة.

كان المستر (جيسل) مؤلف كتاب (طفل الذئاب وطفل الانسان).1. يعيش مع زوجته في الهند عام 1920 يدير ملجأ للايتام. وبينما كان في أحد الايام يمارس رياضة المشي عند حافة غابة وقت الغسق شاهد ذئبة مع (صغيرها). وعندما استعمل ناظوره تبين له ان الصغير كان بشرا يسلك سلوك الذئبة في الحركة ويجري على أربع.

كان المستر (جيسل) قد سمع وقرأ قصصا حول هذا الموضوع لكنه كان لا يصدقها رغم تكرارها لذا عمد الى بندقيته وتعقب الذئبة الى حجرها فقتل الذئبة وقبض على الصبية التي بدأت تصرخ صراخ الذئاب ووضعها في الملجأ.

يرجح انها ولدت عام 1912 أي ان عمرها كان يقدر بثمان سنوات ولا يُعرف كيف و متى واين خطفت.

كانت الصبية تنام في النهار وتصحو في الليل وان نهضت من النوم جلست ووجهها نحو الحائط. فإذا جاء منتصف الليل نشطت وصارت تمشي على أربع. كانت تشرب الماء لعقا بلسانها بعد ان تنحني فوقه ولم تكن تخشى الظلام. وفي ساعة معينة من الليل كانت تعوي عواء الذئاب. وإذا اقترب منها احد كشرت عن أنيابها. وكانت تفتش عن الفضلات وتأكلها. كانت تحب جراء الكلاب وصغار القطط لكنها كانت تنفر من اطفال البشر.

وبعد الإغراء المستمر والمواظبة على التدريب الذي دام سنتين وقفت على قدميها وأكلت من الطبق بيديها. بدلا من أن تأكل بفمها مباشرة. ولكنها بقت الى هذا التاريخ تلعق الماء. بعد سنتين من التأهيل المكثف تعلمت لفظة (ما). وإذا عطشت وطلبت الماء أو جاعت وطلبت الطعام قالت (هو هو). ولم تكن قد نطقت قبل ذلك بكلمة مع انها كانت تصيح وتصرخ.

وفي عام 1925 شربت من كوب على الطريقة البشرية. وفي عام 1926 بلغ مجموع الكلمات التي تعلمتها عشرين كلمة ومشت مع الاطفال. ورفضت أكل الفضلات. وعندما بلغت (14) سنة ظهر عليها الحياء الغريزي ورفضت الخروج من غرفة نومها بدون كساء. وفي عام 1927 بدأت تخشى الكلاب إذا نبحت. بعدها بسنتين ماتت وعمرها 17 سنة. ولنا في حياة هذه الفتاة الهندية المخطوفة طائفة من العبر والملاحظات:

1-إن السلوك البشري يستقر في السنوات الخمسة الاولى من الطفولة لكن بعد ذلك يشق علينا تغيير هذا السلوك. ونعني بالسلوك الاستجابات العقلية التي ينشأ عنها التصرف.

2-إن ما نسميه طبيعة وغريزة انما هو في احوال كثيرة تعليم وتنشئة اجتماعية. حتى بعد سنوات فذهن هذه الطفلة لم يتطور الى الدرجة التي كان يبلغها الاطفال عادة في هذه السن لأن الطفل يولد ولوحة ذهنه خالية تتقبل التعليم الجديد لكن هذه الطفلة التقت بالبشر ولوحة ذهنها حافلة بالعواطف البهيمية التي بعثتها فيها عشرة الذئاب ومن هنا صعب تعلمها.

3-إن أسلوبنا الذي نتخذه في المشي والأكل والشرب كذلك في الخوف والغضب والمرح كل هذا مكتسب وليس وراثي.

4-إن اللغة هي التي تعين لنا السلوك والتصرف البشريين وهذا هو ما قصدناه في هذا الحديث. فإن هذه الفتاة التي قبض عليها وهي في الثامنة أحتاجت الى سنتين كي تتعلم لفظة (ما) وبدأ ذكائها ينمو. فكان استظهار الكلمات ترافقه تغيرات في السلوك وهذه التغيرات برزت نتيجة نبضات ذهنية ظهرت بفعل التمازج الذي حدث بين الفتاة والبيئة الجديدة.

واللغة والفكر يتبادلان الفعل والتأثير نحو بناء الفهم وهذه الفتاة حرمت من اللغة ولهذا حرمت من الفهم وشرعت تفهم السلوك البشري وتمارسه بدلا من السلوك الحيواني حين تعلمت بعض الكلمات وكانت كل كلمة جديدة تعلمتها تعين لها فكرة جديدة او عاطفة جديدة ثم سلوكا جديدا.

الأمر الذي يتضح معه أن التراث الاجتماعي المكتسب وليس التراث الطبيعي الموروث هو الذى يشكل إنسانية الإنسان من حيث كونها ذاتا إنسانية تتفاعل مع ذوات الآخرين من حيث كونهم ذوات إنسانية وعلى قدر إنسانية هذه الذوات وعلى قدر تفاعل ذات الإنسان معها يكون قدر إنسانية هذه الذات. معنى هذا إن العمل الذى تأتي به الذات سواءا كان هذا العمل نبيلا او شائنا يتوقف حسب هذا التصور على جودة أو رداءة ذوات الآخرين وعلى حجم مجال التفاعل الذي يمنح للذات مع ذوات الآخرين.

إن الذات الإنسانية تجد نفسها كاملة كذات إنسانية في التوحد أو التفاعل مع ذوات الاخرين إذ لا يكفي ان تملك الذات الإنسانية التراث الطبيعي الموروث لتحقيق هذا التكامل مالم تملك إزائه التراث الاجتماعي المكتسب الذى يسبغ عليها مسوح الانسانية.

بعد هذا المستوى من الفهم للإنسان لابد وأن يواجهنا السؤال عن فحوى أو مضمون تلك الإنسانية أو بالأحرى عن ماهية هدف تلك الهيئة الاجتماعية التي منحت الإنسان إنسانيته أي عن ذلك الهدف الآخر الذي يكمن وراء هدف "الرغبة في البقاء على قيد الحياة" وهو الهدف الذي قلنا أننا نشترك مع الحيوان في السعي اليه.

لكن ما لا نشترك فيه مع الحيوان وهو ميزة فريدة لنا هو هدف إجتماعي هذا الهدف يمنح الإنسان إنسانيته إذ من دونه لا يصبح الإنسان إنسانا. وقطعا الحيوان لا يملك قدرة السعي إليه والوصل له بمقتضى ماهيته ولذلك فهو لن يتعدى طور الحيوانية ولو تربى في حضن الإنسان وعاش في مجتمع إنساني.

من هنا تأتي فرادة الإنسان هذا الكائن العجيب الذي يشترك مع الحيوان في البايولوجي ويفترق عنه في الإنساني بفعل الهيئة الاجتماعية التى تفرض عليه هذا الهدف الذي يزيد على هدف الرغبة في البقاء على قيد الحياة.

ومن خلال هذا الادراك يتضح لنا ان الإنسان كائن بايولوجي واجتماعي في آن واحد أي كائن مزدوج فهو كائن ذو حاجات بايولوجية كالحاجة للطعام أو الحاجة للشراب أو الحاجة للجنس .. حيث يكون السبب الدافع لهذه الحاجات هو الرغبة في البقاء على قيد الحياة وهو كذلك كائن اجتماعي يصبح لرغبته في البقاء هدف أساسي لا يحيد عن تحقيقه اكتسبه من المجتمع الذي يحيا فيه.

الحقيقي والواقعي في الطبيعة البشرية:

تبين لنا إن "الانسان كيان ذاتي" بمعنى أن الغاية من وراء مختلف أشكال السلوك هي بناء الذات وتوكيد هذا البناء وبذلك فأن منجزات الإنسان الثقافية والحضارية، ومنذ أن أكتسب الإنسان إنسانيته في الهيئة الاجتماعية هي نتائج للسعي إلى هدفه الخاص أي لهدف "تحقيق بناء الذات وتوكيدها".

إن سعي الإنسان الجاد من أجل البناء الذاتي وتوكيده هو الحقيقة التي تشكل محتوى القانون العام الذى يشترك به جميع البشر فدوافع مختلف أشكال السلوك البشري واحدة لأنها تتجه جميعها نحو غاية مشتركة.

أما الاختلاف الكائن فيما بينها فيكمن في اختلاف الوسائل الموصلة لتحقيق تلك الغاية حيث إن هذا الاختلاف الحاصل في الوسائل الموصلة ناجم عن الاختلاف في الظروف التي يتعرض لها إنسان معين في البيئة الطبيعية أو الاجتماعية ولا يتعرض لها انسان آخر يعيش في بيئة أخرى مختلفة. إذ يتعرض لظروف أو لمواقف أخرى في تلك البيئة تفرض عليه نمطا مختلفا من السلوك.

على إننا حينما نقول إنها تختلف فإنما نعني بهذا الاختلاف أنها لا تتشابه إلى حد التطابق إذ إن هناك درجات معينة من التشابه والاختلاف.

ولعل معرفة هذه الحقيقة قادرة على أن توضح لنا سبب الاختلاف الحاصل بين سلوك إنسان ما وسلوك إنسان آخر.

ومما هو جدير بالتنبيه إليه هنا هو ضرورة التمييز بين ما هو "حقيقي" وبين ما هو "واقعي" فللطبيعة البشرية حقيقة كما أن لها واقع ملاحظ.

فحقيقة الطبيعة البشرية هي إنها تخضع لقانون (الصراع) الذي يعم لا الكائنات الحية فقط وإنما هو قانون كوني عام وشامل وعلى كافة التقديرات فقد تصارع الإنسان مع الحيوان في الغابات في بدايات وجوده الأولى حيث مكنته قوة عقله من البقاء وأضعاف الكائنات الاخرى فدجنها وتسيد عليها.

ثم صارع الإنسان الطبيعة بكل قساوتها وقاوم ظروف البرد القارس والحر اللاهب ببناء البيوت واختراع وسائل التدفئة والتبربد. لكن أقسى أنواع الصراعات كان صراع الإنسان مع الإنسان هي حرب منذ أن وجد وإلى حد الآن حيث الغزو والقتل والسبي والاغتصاب والتهجير والإبادة الجماعية أحيانا.

ورغم التقدم العلمي والحضاري الذي شهدته البشرية في جميع مجالات الحياة و في كل مكان من العالم في العصر الحديث وسن القوانين والتشريعات ذات المضمون الإنساني والمؤسسات الدولية والتي تدعو الى احترام حق الانسان بالحياة لازال الإنسان يمارس أنواع مختلفة من الصراعات من أجل التملك والتسيد والسيطرة على حساب حياة وراحة أخيه الإنسان.

ثم أخذ الصراع أبعادا إيديولجية فكانت صراعات وحروب الأديان أقسى الحروب ثم الصراع الأنكى والأمر وهو الصراع الطائفي الذي ليس له نهاية واضحة في الأفق ثم الصراع العشائري في البلدان المتخلفة ثم الصراع الحزبي في مؤسسات السياسة ثم العائلي ثم الفردي ثم الصراع الذاتي حيث يتصارع الإنسان مع ذاته عندما تضطرب مبادئه وتختل قيمه.

وإذا كان الصراع بين أفراد المجتمع يشكل جوهر هذه الحقيقة فلا يعني ذلك أنه السبب في الواقع المزري الذي يعيشه أفراد المجتمع متمثلا باستعباد الرجل للمرأة أو في استغلال الرأسمالي للعامل أو في استعمار دولة لدولة اخرى.

وإنما لكون الصراع الذي تتضمنه حقيقة الطبيعة البشرية يتجه من أجل ديمومته نحو علاقات غير عادلة متمثلة بالاستعباد أو الاستغلال أو الاستعمار.

وفي كونه لا يتجه الى علاقات مغايرة في الوفاق الفردي والاجتماعي.

وأظن ان هذه المعرفة -معرفة تشخيص الداء- تشكل نصف وظيفة العلم في عصرنا الراهن أما نصفها الآخر فيكمن في ترشيد ذلك الصراع نحو وفاق يضمن ذوبان التناقض الحاد الكائن بين حقيقة الطبيعة البشرية في الصراع وواقعها المعيب في العلاقات الفردية والاجتماعية غير العادلة على هذا الأساس فإن الإجراء الإيجابي الوحيد يكمن في توجيه ذلك الصراع ما دام إن القضاء عليه يعني القضاء على الطبيعة البشرية نفسها.

وبديهي إن مثل هذا التوجيه لا يتم من خلال أفكار تعتمد على الإيديولوجيا أو على الدين لمعالجة أحوال اجتماعية معينة.

فعلى الرغم من إن حلول الإيديولوجيا أو الدين لا تخدم ذلك التوجيه لأنها بصراحة تساهم في تأجيج حدة ذلك الصراع نحو مزيد من التناقض الجائر . إنما الحل يتم عبر أفکار تقدمية تعتمد أسس منهج العلم بعيدا عن مؤثرات الإيديولوجيا والدين والطائفة.

***

سليم جواد الفهد – باحث عراقي

...............

1- أقتبست معلومات عن المستر (جيسل) من كتاب البلاغة العصرية واللغة العربية لمؤلفه سلامة موسى.

 

هل يمكن ان يكون الفرد مثقفا او باحثا من دون ان يكون مفكرا نقديا؟

التفكير النقدي هو "التقييم الصحيح للمعلومات". يوصف أيضا على أنه "التفكير في التفكير". أحد التعريفات الشائعة هو "التفكير التأملي المعقول الذي يهدف إلى تقرير ما يجب تصديقه وما هي الاستجابة الصحيحة"(1) . التعريف الأكثر تفصيلاً هو "التحليل النشط والفعال ووضع المفاهيم والتطبيق والتوليف، و/أو تقييم المعلومات التي تم الحصول عليها أو المتولدة من خلال الملاحظة والخبرة والتفكير أو الاتصال كدليل للإقناع والعمل" (2). يتميز التفكير النقدي بإجراء استنتاجات منطقية وتشكيل نماذج منطقية تتسق مع نفسها واتخاذ قرارات مستنيرة حول رفض أو الموافقة أو تأجيل النظر في أي حكم مؤقتا.

ويعّرف التفكير النقدي ايضا بأنه القدرة على تحليل المعلومات بموضوعية وإصدار حكم منطقي. يتضمن تقييم المصادر، مثل البيانات والحقائق والظواهر التي يمكن ملاحظتها ونتائج البحث. وتساعد مهارات التفكير النقدي على تحديد المصادر الموثوقة وتقييم الحجج والرد عليها وتقييم وجهات النظر البديلة واختبار الفرضيات مقابل المعايير ذات الصلة (3).

يمثل التفكير النقدي اشكالا اخرى من المهارات والقابليات منها التفكير الذاتي التوجيهي والانضباط الذاتي والمراقبة الذاتية والتفكير التصحيحي الذاتي. ويتطلب منك أن تكون على دراية بالتحيزات والافتراضات الخاصة بك عند مصادفة المعلومات، وتطبيق معايير متسقة عند تقييم المصادر. انه مهم لإصدار الأحكام حول مصادر المعلومات وتشكيل حججك الخاصة في السياقات الأكاديمية والمهنية والشخصية.

والتفكير النقدي ضروري لنمو المجتمعات ثقافيا وعلميا فهو غذاء العقل. إنه عامل بناء مهم لأي مجتمع. يمكّن الناس من تنمية قدراتهم ونموهم الذهني، ويبرز الإمكانات الخفية للأفراد ويطورها.

بعض الأمثلة على التفكير النقدي

- مقارنة نتائج إحدى الدراسات بأبحاث أخرى جارية وتحديد ما إذا كانت النتائج معقولة أم منحازة.

- تحليل منطق الحجة ودليلها وتحديد نقاط قوتها وضعفها.

- النظر في التفسيرات أو المنظورات البديلة لظاهرة أو قضية ما وموازنة إيجابياتها وسلبياتها.

- تطوير فرضية بناءً على المعرفة الموجودة واختبارها مقابل المعايير أو البيانات ذات الصلة.

نظرية التفكير النقدي وتاريخها

يُعتقد أن مصطلح "التفكير النقدي" تم صياغته لأول مرة من قبل جون ديوي في كتابه  الصادر في 1910: كيف نفكر (4). قبل ذلك لم يتم استخدامه في مجال العلوم والمفهوم المماثل كان هو التفكير التأملي. ويعتبر جون ديوي من أوائل الفلاسفة والتربوين الذين استخدموا التفكير النقدي في التعليم، وهو الذي رسم أوجه تشابه بين ظروف التعلم والتواصل والتفكير التأملي، واقترح تطوير التفكير الانعكاسي (النقدي) كأحد أهم أهداف التعلم في التعليم.

يجب اعتبار الشرط الأساسي لظهور نظرية التفكير النقدي في الولايات المتحدة في بداية القرن العشرين هو التوتر الاجتماعي وعدم الاستقرار المرتبط بالكساد الكبير والأزمة الاقتصادية العالمية. دفعت هذه الميزات الرئيسية بعض الفلاسفة وعلماء الاجتماع للبحث عن أفكار تحول الفلسفة إلى عملية نشطة وعملية تساعد الناس على البقاء في عالم سريع التغير.

من أهم أسباب ظهور نظرية التفكير النقدي أزمة التعليم وإصلاحاته. وهكذا، لم تعد أسئلة التفكير النقدي مسألة ذات أهمية حصرية للفلسفة.

تعتبر الفلسفة التحليلية للتعليم مهمة للغاية في صياغة وتطوير نظرية التفكير النقدي.

اشار عالم الاجتماع والفيلسوف وليام سومنر (5) إلى الحاجة العميقة للتفكير النقدي في الحياة والتعليم وضرورة تعليم التفكير النقدي والى إن تطوير الجوانب المنهجية الهامة لنظام تكوين مهارات التفكير النقدي مكرس لعمل المعلمين الأمريكيين، الذين بدأوا، تحت تأثير التفكير ما بعد الحداثي، في الحديث عن الحاجة إلى إجراء تغييرات في النظام التعليمي بأكمله، ولكن في عملية إنشاء وتطبيق نظريات وأساليب تدريس جديدة. ويشددون على أن مثل هذه الأساليب تهم الطلاب في عملية التعلم، وتكثف عملهم لتحقيق أهداف التعلم الخاصة بهم، ومراقبة وتقييم مستوى المعرفة لدى بعضهم البعض بشكل مستقل، وتوفر فرصة لتطوير مهارات التفكير النقدي والإبداعي.

لذلك، في أوائل الستينيات من القرن الماضي وفي الولايات المتحدة وإنكلترا، ظهرت فلسفة تحليلية للتعليم، أصلها أنظمة المثالية الألمانية التي تعود الى بداية القرن التاسع عشر.

بعد سقراط، كان كانط هو ثاني أهم شخصية في تاريخ الفلسفة، الذي يدين له جميع الفلاسفة الرئيسيين للعقلانية النقدية، على الرغم من نهجهم النقدي في التدريس. يتضمن التفكير النقدي لكانط أسئلة حول نظرية المعرفة في مجالات التعليم ونظرية المعرفة والدين. في تعاليمه حول المكان والزمان، اكتشف كانط أن المعرفة تتضمن أحكاما تحليلية (وصفية) وتركيبية (تفصيلية) كما هي التجريبية.

بدءا من الشك البشري فيما يتعلق باستحالة إثبات صحة المبدأ الاستقرائي، يعمم المذهب النقدي الكانطي "المشكلة الإنسانية" على الأسئلة: كيف يمكن العلم باستخدام الأحكام التركيبية "بداهة"؟ كيف يمكن تأكيد الأحكام المصطنعة من النوع "المسبق"؟

لعب كارل بوبر - عالم اجتماع نمساوي وبريطاني، أحد أكثر فلاسفة العلم تأثيرا في القرن العشرين، من أتباع فلسفة كانط، دورا مهما في تاريخ تطور التفكير النقدي. يمكن اعتباره بحق مؤسس المفهوم الفلسفي للعقلانية النقدية. ووصف موقفه كالتالي: "قد أكون مخطئا، قد تكون على صواب.. لنحاول، قد نقترب أكثر من الحقيقة" (6).

اشتهر بوبر بأعماله في العلوم والاجتماع والفلسفة السياسية، حيث انتقد الفكر الكلاسيكي. بطريقة علمية دافع عن مبادئ الديمقراطية والنقد الاجتماعي ودعا إلى التمسك بها لجعل ازدهار مجتمع مفتوح ممكنا.

يشكل التواضع الفكري الأساس الأخلاقي لما يسميه بوبر "العقل السقراطي"، وهو مفهوم يصف العقل النقدي الذي يدرك حدوده وضعفه. لا يؤمن العقل النقدي بالعقل أو العلم كمصادر مطلقة للحقيقة ، ولا يتبع "الإرهاب العقلاني" أو التشبث بالمعتقدات دون تحليلها. بدلاً من ذلك، يتسم العقل السقراطي بالتشكيك والتحقيق والتجريب في كل ما يدعي أنه معرفة، ولا يقبل أي سلطة نهائية في الفكر.

وفقًا لبوبر، العقلاني هو الشخص الذي يرغب في التعلم من الآخرين من خلال السماح لهم بانتقاد أفكارهم الخاصة وبانتقاد أفكار الآخرين أنفسهم.

علم نفس التفكير النقدي

كنشاط معرفي وفكري، يعتمد التفكير النقدي على قواعد وتقنيات المنطق الرسمي وعلم النفس المعرفي وعلم نفس الإبداع ونظرية صنع القرار والممارسة الجدلية والبلاغة (7). يتجلى هذا النوع من التفكير في القدرة على التنبؤ بالمسار المحتمل للأحداث المستقبلية ومعرفة من خلال التحليل والمنطق وتعزيز الإيجابية ومنع النتائج السلبية للقرارات والإجراءات المتخذة. الشك المنهجي (ما هو معقول للشك) والعمل بالأفكار والأسئلة، والتعبير الواضح والعادل عن الفكر والبحث عن الأخطاء وتحديد درجة المخاطرة في المواقف المختلفة - هذه كلها أسس التفكير النقدي، والآلية الرئيسية هنا هي العلاقة بين الفكر والمعرفة.

على سبيل المثال، تشير عالمة النفس ديان هالبرن في كتابها علم النفس للتفكير النقدي (8): "نحن نتحدث عن نوع من التفكير يسمح لنا باستخدام المعرفة المكتسبة سابقا لإنشاء معارف جديدة. لا توجد معرفة موجودة بشكل مستقل - بل هي نتاج إبداع البشر. التفكير النقدي - الذي يتطلب استخدام المعايير التقييمية بشكل منطقي - تم بناؤه على أساس التفكير الناقد للمفكرين السابقين. ماذا لو؟ ... هو السؤال الأساسي للتفكير النقدي ويشير إلى القدرة على تكوين وجهة نظر حول قضية معينة والدفاع عن وجهة النظر هذه بالحجج المنطقية. يتطلب هذا النوع من التفكير الانتباه إلى حجج الخصم وفهمها المنطقي.

انماط ومهارات التفكير الاخرى

بالرغم من وجود اشكال عديدة للتفكير من حيث التعريفات والأهداف والمهارات والمجالات الا اننا يمكن اجمالها بالاضافة الى التفكير النقدي في الانماط او المهارات التالية:

التفكير العلمي هو التفكير في محتوى العلم ومجموعة العمليات المنطقية التي تتخلله. يتطلب القدرة على استخدام المنهج العلمي والتجربة والملاحظة والاستنتاج. هدفه هو اكتشاف القوانين والنظريات التي تحكم الظواهر الطبيعية والاجتماعية. يحتاج إلى مهارات مثل التحقيق والابتكار والتخطيط والتوثيق والتعاون. يستخدم في مجالات مثل العلوم الطبيعية والرياضيات والهندسة وغيرها.

التفكير الخلاق هو التفكير في إنشاء أو ابتكار شيء جديد أو مفيد أو جذاب. يتطلب القدرة على استخدام الخيال والابداع والانحراف عن المألوف. هدفه هو حل المشكلات بطرق غير تقليدية أو توليد فرص جديدة أو تحسين المنتجات أو الخدمات. يحتاج إلى مهارات مثل التخيل والابتكار والانسجام والانشاء. يستخدم في مجالات مثل الفنون والإعلام والإعلانات وغيرها.

التفكير المجرد هو نوع من التفكير الذي يتعامل مع المفاهيم والأفكار التي ليست مرتبطة بالواقع الملموس. يتطلب هذا النوع من التفكير القدرة على استخدام الخيال والمنطق والتحليل لفهم وحل المشكلات المعقدة. بعض الأمثلة على المفاهيم المجردة هي الحب، والحرية، والخيال، والنجاح، والسعادة، وغيرها. وهو مهارة أساسية للتفكير النقدي وحل المشكلات. يستخدم هذا النوع من التفكير في مجالات مختلفة مثل الرياضيات، والفلسفة، والعلوم، والفن، وغيرها.

التفكير الملموس هو أحد أنواع التفكير الذي يتناول الواقع بعين الحواس دون أي إضافات أو اعتبار لكون مفاهيم هذا الواقع قد تكون جزء من مفاهيم أكبر أو تأخذ معان متعددة بل يفهمها في إطار التفسيرات الدقيقة للمعطيات المادية الملموسة الموجودة ودون الحاجة إلى الرموز والمفاهيم المطلقة.

التفكير التقاربي هو عملية إيجاد أكثر خيار سليم أو منفرد لمشكلة أو سؤال معين، مثل الحصول على إجابة سؤال الاختيار من متعدد أو معرفة كيفية تقويم وتعديل سلوكيات غير سليمة الخاصة بالفرد. ويشير إلى القدرة على وضع عدد من القطع أو وجهات النظر المختلفة لموضوع ما معا بطريقة منظمة ومنطقية للعثور على إجابة واحدة.

إذا، يمكننا رؤية أن أنواع التفكير تتشابه في بعض الجوانب، فجميعها تستند إلى المنطق، وتسعى إلى تحقيق أهداف محددة، وتستخدم في مجالات مختلفة من المعرفة. كما أن لها بعض الاختلافات، فكل منها يركز على جانب معين من التفكير، سواء كان تحليليا أو استقصائيا أو خياليا، ويتطلب مهارات وأساليب مختلفة. كما أن هناك بعض التداخلات بينها، فالتفكير العلمي يحتاج إلى التفكير النقدي لفحص النظريات والتفكير الخلاق لابتكار الحلول، والتفكير الخلاق يحتاج إلى التفكير النقدي لتقييم الأفكار والتفكير العلمي لتطبيقها.

خصائص التفكير النقدي

يمتلك المفكرون الناقدون العديد من السمات الإيجابية التي تساعدهم على تعلم معلومات جديدة وفهم المفاهيم المعقدة واتخاذ قرارات أفضل. بعض الخصائص الرئيسية للتفكير النقدي (9):

- الفضول: المفكرون الناقدون حريصون على تعلم أشياء جديدة واستكشاف وجهات نظر مختلفة. يطرحون أسئلة لتوضيح فهمهم وتحدي افتراضاتهم. التساؤل هو المحرك الرئيسي للتفكيرلذلك فأن طرح الأسئلة هو الذي يضفي على التفكير حيويته.

- التراحم: المفكرون الناقدون يتعاطفون ويحترمون آراء الآخرين ومشاعرهم. يحاولون فهم الأسباب الكامنة وراء آراء الآخرين وأفعالهم ، وتجنب إصدار أحكام متسرعة.

- التواصل: يستطيع المفكرون الناقدون التعبير عن أفكارهم بوضوح ومنطقية. يستمعون بنشاط للآخرين ويستجيبون بشكل بناء. كما أنهم يسعون للحصول على تغذية راجعة لتحسين تفكيرهم.

- الإبداع: المفكرون الناقدون مبدعون ومبتكرون. يبحثون عن طرق جديدة لحل المشاكل وتوليد أفكار جديدة. إنهم لا يخشون المخاطرة وتجربة الأساليب المختلفة.

- المرونة: المفكرون الناقدون قادرون على التكيف ومنفتحون على التغيير. هم على استعداد لمراجعة آرائهم ومعتقداتهم بناءً على أدلة أو حجج جديدة. إنهم لا يتشبثون بمفاهيم أو عقائد مسبقة.

- التواضع: المفكرون الناقدون على دراية بحدودهم وانحيازهم. يعترفون بأخطائهم ويتعلمون منها. إنهم لا يدعون أنهم يعرفون كل شيء أو لديهم الإجابة النهائية.

- الاستعداد: المفكرون الناقدون لديهم الحافز والتصميم على التفكير النقدي. لديهم موقف إيجابي تجاه التعلم والتحسين. إنهم لا يخجلون من التحديات أو الصعوبات.

التفكير النقدي هو مهارة قيمة يمكن أن تعزز العلاقات الشخصية والمهنية. يمكن أن يساعدنا أيضًا على تحقيق النجاح في جميع مجالات حياتنا. من خلال تطوير خصائص التفكير النقدي هذه، يمكننا أن نصبح أكثر فاعلية في التعلم وحل المشكلات وصنع القرار والاتصال.

ادوات التفكير النقدي

أدوات التفكير الناقد هي الأساليب والتقنيات التي تساعد في تطوير وتحسين مهارات التفكير الناقد، والتي تمكن من تحليل وتقييم المعلومات والحجج بشكل منطقي وموضوعي. بعض هذه الأدوات هي:

-الرسوم التخطيطية:  تساعد في تحديد المشكلة أو الموقف والعوامل المؤثرة عليه، وتنظيم الأفكار والأدلة بشكل هرمي.

-الخرائط الذهنية:  تساعد في رسم الفكرة المركزية والأفكار الفرعية والروابط بينها بشكل مرئي، مما يسهل فهمها وحفظها.

-تدوين الملاحظات : يساعد في جمع وتخزين المعلومات المرتبطة بالمشكلة، وإضافة الصور أو الفيديو أو الروابط إذا لزم الأمر.

-الاستنتاج: هو القدرة على الوصول إلى نتائج مقترحة أو بدائل ممكنة لحل المشكلة.

-التفسير:  هو مهارة توضيح طبيعة المشكلة وتحليلها بطريقة مبسطة.

-الاستدلال: هي مهارة البحث عن الدلائل التي تدعم أو تنفي الأفكار أو الحجج.

-التقويم: هو التأكد من صحة وقابلية التنفيذ للحلول المقترحة.

ما هي مهارات التفكير الناقد؟

مهارات التفكير الناقد هي مجموعة من المهارات التي تساعد الشخص على تحليل وتقييم المعلومات والأفكار والحجج بطريقة منطقية وموضوعية ونقدية. هذه المهارات تمكن الشخص من اتخاذ قرارات سليمة وحل المشكلات بفعالية.

لا يوجد عدد محدد أو ثابت لمهارات التفكير الناقد، لكن بشكل عام يمكن تصنيفها إلى مهارات نظرية ومهارات عملية (1 و 7).

المهارات النظرية هي تلك التي تتعلق بالقدرة على فهم وتفسير وتحليل واستدلال وتقويم المعطيات والأدلة والحجج المطروحة في موضوع ما. بعض أمثلة هذه المهارات هي:

-الاستنتاج: هو القدرة على الوصول إلى نتائج مقترحة أو بديلة اعتماداً على المعطيات المتاحة.

-التفسير: هو القدرة على شرح وتوضيح طبيعة ومغزى المشكلة أو المسألة بطريقة مبسطة وواضحة.

-التحليل: هو القدرة على تفكيك المشكلة أو المسألة إلى جزئياتها والبحث عن العلاقات والأنماط والأسباب والآثار بينها.

-الاستدلال: هو القدرة على استخدام المنطق والبراهين لإثبات أو دحض فرضية أو حجة ما.

-التقويم: هو القدرة على تحديد مدى صحة وموضوعية وجودة المعطيات والأدلة والحجج المستخدمة في حل المشكلة أو المسألة.

المهارات العملية هي تلك التي تتعلق بالقدرة على تطبيق وتنفيذ وإظهار مهارات التفكير الناقد في مواقف حقيقية. بعض أمثلة هذه المهارات هي:

-البحث: هو القدرة على استخلاص المعلومات من مصادر مختلفة وتحديد مصداقيتها وأهميتها للمشكلة أو المسألة.

-الفضول: هو القدرة على طرح الأسئلة التي تساعد على استكشاف وفهم المشكلة أو المسألة بشكل أعمق.

-الابتكار: هو القدرة على ابتكار حلول جديدة أو مبتكرة للمشكلة أو المسألة باستخدام الخيال والإبداع.

-التعاون: هو القدرة على التفاعل والتواصل والتشاور مع الآخرين لتبادل الآراء والخبرات والمعلومات المتعلقة بالمشكلة أو المسألة.

-النقد البناء: هو القدرة على تقديم واستقبال ملاحظات وتعليقات تهدف إلى تحسين وتطوير الحلول المقترحة للمشكلة أو المسألة.

الوضع الحالي للتفكير النقدي في التعليم العالي العراقي

للأسف، تظهر المشاهدات ثلاث حقائق مزعجة، لكنها بالكاد تكون جديدة:

-يفتقر معظم أعضاء هيئة التدريس بالجامعات وعلى جميع المستويات إلى مفهوم جوهري للتفكير النقدي.

-لا يدرك معظم أعضاء هيئة التدريس أنهم يفتقرون إلى مفهوم جوهري للتفكير النقدي، ويعتقدون أنه ليس مهما طالما "يفهم" الطلاب الدرس.

-المحاضرة، والحفظ عن ظهر قلب، وعادات التذكر قصيرة المدى لا تزال هي القاعدة في التدريس الجامعي والتعلم اليوم.

تمثل هذه الحقائق الثلاثة مجتمعةً عقبات خطيرة أمام الإصلاح المؤسساتي الأساسي وطويل المدى، فلا يمكن تبديل طرق التدريس الا عندما تستند اهداف ومخارج التعلم والاختبارات على تحقيق مضامين التفكير النقدي وسيتم تحقيق ذلك فقط عندما يدرك المسؤولون وأعضاء هيئة التدريس طبيعة ومضمون وقوة مفهوم التفكير النقدي، وكذلك عند اكتساب نظرة ثاقبة إلى السلبيات والآثار المترتبة على فقدانه، ويبقى السؤال المهم بدون إجابة وهو هل هم قادرون على تحقيق اصلاح اكاديمي فعال؟ فعندما يكون لدى أعضاء هيئة التدريس فكرة غامضة عن التفكير النقدي، أو اختزاله إلى نموذج تخصص واحد (كما هو الحال في تدريس التفكير النقدي من خلال نموذج "المنطق" أو "مهارات الدراسة")، فإنه يعوق قدرتهم على تبديل طرق تدريسهم، أو الى زيادة ممارسات التدريس والتعلم الفعالة.

يمكن الحكم على مناهج التعليم العراقية من خلال نتائج الامتحانات. قد يبدو هذا غريبا بالنسبة للمناهج المعتمدة على الحفظ والتلقين، لكن بالاطلاع على توزيع الدرجات النهائية لامتحانات البكلوريا الإعدادية يمكن لنا من تقييم اهتمام المنهج بالتفكير النقدي (بغير قصد) وعلى قدرة الطالب في استخدام مجموعة من المهارات المنطقية لتقييم المعلومات المعطاة وإصدار الحكم. تُظهر نتائج الامتحانات توزيعا غير معياريا منحرفا نحو الدرجات العليا للطلبة في الفرع الاحيائي وفيه تظهر نسب عالية جدا للدرجات الأعلى من 90% فما فوق. ويظهر توزيع درجات الفرع التطبيقي اكثر اقترابا من التوزيع المعياري. على عكس نتائج الفرع الاحيائي يظهر توزيع درجات الفرع الادبي توزيعا معياريا مناسبا. فما هو السبب؟ مناهج الفرع الاحيائي وطرق التدريس منحازة نحو تعليم الحقائق، والامتحانات تتطلب من الطالب النقل الالي للمعلومات التي احتواها المقرر الدراسي والذي وجب على الطالب تعلمه مما يؤدي الى التركيز على كمية المعلومات التي يتضمنها الكتاب التدريسي، وهذا الأسلوب يؤدي الى ظهور نسب متساوية لجميع الطلبة الممتحنين. ولكن كما يبدو فان معدلات الفرع الادبي تعكس قبول الممتحن لما يتوصل اليه الطالب من استنتاج خاص من خلال إعداد موقفه الشخصي على قضية تطرحها الأسئلة، وعلى قبول التفكير النقدي للطلبة او شاكله من حيث ان الممتحن لا يقبل البيانات فقط وانما يبحث على روابط منطقية بين الأفكار ويحترم التفسيرات البديلة.

هل من تمايز في مهارات التفكير النقدي بين الطلاب في العالم؟

هناك العديد من العوامل التي قد تؤثر على الاختلاف في التفكير النقدي بين الطلاب العراقيين والعرب من جهة والطلاب الأوروبيين من جهة اخرى، مثل خلفيتهم الثقافية ونظامهم التعليمي وكفاءة اللغة والمعتقدات الدينية، وما إلى ذلك. لذلك، من المهم لنا تجنب التعميمات أو الصور النمطية حول أي مجموعة من الطلاب.

تتمثل إحدى الطرق الممكنة لمقاربة هذا السؤال في إلقاء نظرة على بعض الدراسات التي استكشفت أصول التدريس وممارسة التفكير النقدي في سياقات مختلفة. على سبيل المثال، حللت إحدى الدراسات وجهات نظر الشباب المسلم في هولندا الذين التحقوا بالتعليم الإسلامي غير الرسمي (NFIE) الذي قدمته المساجد أو المنظمات الخاصة (10). وجدت الدراسة أن التفكير النقدي كان غائبا إلى حد كبير في NFIE، وكانت هناك فرص محدودة للطلاب للتفاعل أو السؤال أو النقاش أو تحدي سلطة المعلمين الدينيين أو النصوص الإسلامية. حددت الدراسة أيضا بعض التحديات والعوائق التي تحول دون دمج التفكير النقدي في NFIE، مثل النهج التربوي التقليدي وتثبيط مواقف المعلمين والأقران ونقص إتقان اللغة وصغر سن المتعلمين والنقص الملحوظ في الحاجة إلى المداولات النقدية. اقترحت الدراسة أن إصلاح أصول التدريس في NFIE للسماح بمزيد من التعلم الانعكاسي والفضولي والحواري من شأنه أن يفيد الشباب المسلم في أوروبا.

أجرى جون دوركين (11) بحثا حول مهارات التفكير النقدي لطلاب جنوب آسيا الذين ذهبوا إلى المملكة المتحدة من أجل التعليم العالي. وخلص إلى أن هؤلاء الطلاب يميلون إلى الاتفاق مع آراء معلميهم، حتى عندما يرون أن المحاضرات تم تصميمها بطريقة تشجع النقاش والجدل. يوضح دوركين أن هذا السلوك يتم غرسه في التلاميذ منذ صغرهم كقاعدة ثقافية فالدخول في جدال لم يكن يعتبر غير مناسب فحسب، ولكن أيضا لم يكن هناك مجال للخلاف (لأن المعلم في الجزء الخاص بهم من العالم كان يُعتبر مثالا للمعرفة). أجرت سعيد شاهين (12) بحثا مشابها حيث ذكرت أن الطلاب الباكستانيين في المملكة المتحدة عانوا من اتباع نهج أكاديمي في التفكير النقدي لم يكونوا على دراية به لأنه كان يفتقر إلى ثقافتهم. وقد انعكس هذا أيضا في مهاراتهم الكتابية التي كانت قاصرة في التعبير عن الذات والإبداع. في باكستان كما هو في العراق، يعتبر التعلم عن ظهر قلب أيضا القاعدة. ولا يتم دعم أهمية التفكير النقدي في التعليم العالي والدراسات العليا والبحث بالرغم من انه متفق عليه في الدول الغربية ان البحث يزدهر بشكل أفضل عندما تكون هناك مجموعة من الباحثين او المفكرين النقديين يمكن للمرء التفاعل معها. ويبدو أيضا أن أحد أساسيات الجامعة المثالية هو وجود مجموعة من المفكرين الناقدين المشاركين في أبحاث الدرجة الأولى، والتي تشمل كل مجال يمكن تصوره. ومع ذلك، لا يبدو لي ان أي جامعة في العراق تنتهج مثل هذا النهج فالطلاب ليس على دراية بالأسئلة التي تلبي مهارات التفكير النقدي لديهم ولا يرتاحوا لمناقشة الافكار المجردة ولا الى الاسئلة التي تحتوي على مصطلحات مثل "المقارنة والتباين" و"التوضيح" و "دعم الحجة" و "تحليل" و "تقييم نقدي". وينتابهم القلق من هذا النوع من الأسئلة لأنهم لم يتعودوا على هذا الأسلوب في المحاضرات.

هذه بعض الامثلة على الاختلافات في التفكير النقدي وممارسته في سياقات مختلفة. قد يكون هناك العديد من الاختلافات والتشابهات الأخرى بين الطلاب من خلفيات ثقافية واجتماعية مختلفة من حيث قدرات التفكير النقدي لديهم. باختصار، التفكير النقدي ليس مهارة ثابتة أو عالمية، ولكنه مهارة ديناميكية وسياقية يمكن تطويرها وتحسينها بمرور الوقت.

بدلا من الإجابة على هذا السؤال بطريقة نظرية، يمكننا أيضا الاستفادة من بعض الأمثلة العملية عن كيفية تطبيق التفكير النقدي في بيئات التعلم المتنوعة. فمثلا، في إحدى محاضرات Technology, Entertainment, Design   (TED)، شارك محمد الجناحي (13)، وهو مدرس وشاعر قطري، تجربته في استخدام الشعر والفن والموسيقى لتدريس اللغة العربية والرياضيات لطلابه. وأكد على أن الشعر هو وسيلة فعالة لتنمية مهارات التفكير النقدي لدى الطلاب في جميع المواد، لأنه يمكنهم من التواصل مع مشاعرهم وسردها والتأمل في القضايا وإحداث تغيير. كما ذكر كيف اتبع نهجا تعليميا يستند إلى الغوص في الثقافة والفن، مستلهما من تراث الشعر والأدب العربي.

اهمية التفكير النقدي في البحث العلمي

التفكير النقدي هوأسلوب تفكير تأملي وتحليلي يتضمن طرح الأسئلة وتقييم الأدلة وتحدي الافتراضات. إنه ضروري للبحث العلمي لأنه يساعد الباحثين على إنشاء الفرضيات واختبارها  وتجنب التحيز والأخطاء وإنتاج معرفة موثوقة وصحيحة. ادناه بعض الأمثلة على مدى أهمية التفكير النقدي في البحث العلمي:

- يساعد التفكير النقدي الباحثين على تصميم دراسات صارمة وأخلاقية تعالج أسئلة البحث ذات الصلة وتستخدم الأساليب المناسبة وتقنيات تحليل البيانات.

- يساعد التفكير النقدي الباحثين على التقييم النقدي للمصادر وتحديد ما إذا كانت خالية من التحيز البحثي، وتقديم أدلة لدعم النتائج التي توصلوا إليها، والنظر في وجهات النظر البديلة.

- يساعد التفكير النقدي الباحثين على تفسير النتائج وإيصالها بطريقة واضحة ودقيقة، مع الاعتراف بالقيود والآثار المترتبة على أبحاثهم.

لذلك ، فإن التفكير النقدي هو مهارة حيوية للبحث العلمي تمكن من صنع الاكتشافات والابتكارات وتعزيزها.

التفكير النقدي والبحث العلمي في العراق

في السنوات الاخيرة، زادت الجامعات العراقية إنتاجيتها البحثية بشكل كبير، كما يتضح من الزيادة من 840 مقالة بحثية منشورة في 2010 إلى 12821 في 2019 وبلغت عددها منذ 1996 الى 2019 ب 41489 (14) أجريت تحليلاً علميا لمخرجات البحث في الدول العربية واكتشفت أن جميع الدول العربية تسير على طريق زيادة الكم وأن إنتاجها البحثي في ارتفاع مستمر. ارتفعت عدد البحوث في العراق نتيجة زيادة عدد طلبة الدراسات العليا وربط ترقية أعضاء هيئة التدريس بناءً على عدد المنشورات، واشتراط نشر الأوراق البحثية لمنح درجة الماجستير او الدكتوراه. على الرغم من أن مثل هذه السياسات قد ساعدت في زيادة عدد المقالات البحثية المنشورة سنويا، إلا أن جودة هذه المنشورات لا تزال موضع شك. حيث يبدو ان 80٪ من هذه الأبحاث لا تستوفي المعايير العالمية، بمعنى آخر، تنشر بحوث تفتقر إلى الجودة ذات الصلة. يتم تعريف البحث الجيد هنا على أنه شيء يضيف إلى المعرفة العالمية من خلال طرح أسئلة مهمة تم اختبارها تجريبياً. يؤثر هذا البحث على المجتمع إما بشكل مباشر أو غير مباشر مما يجعله ذات أهمية عالمية. وفقا لموقع سيماغو، يتبوأ العراق المرتبة 13 بالنسبة لجودة البحوث بين جميع دول منطقة الشرق الأوسط والبالغة عددها 16. وبالمثل، يبدو أن الأوراق التي تم الاستشهاد بها بشدة من العراق لا تضعه الا في المرتبة الأخيرة.

ويبدو لي ان فعالية انتاج البحوث من قبل طلبة الدراسات العليا مشكوك فيها، الامر الذي يشير إلى أن التعليم العالي في العراق لا يمكن تحسينه حتى يتم تحسين التعليم قبل الجامعي (وهو أساس التعليم الجامعي) بشكل كبير. وارى أنه على الرغم من توسيع القاعدة في التعليم العالي، إلا أنه لا يمكن الحصول على نتائج مثمرة ما لم يتغير نظام التعليم على مستوى المدرسة. إن مجرد زيادة عدد الملتحقين في الدراسات العليا وتوفير الحوافز دون التدريب اللازم للباحثين قد يضر أكثر مما ينفع.

من أجل الوصول إلى التميز، من المهم أن يغرس في الطلاب مهارة القرن الحادي والعشرين الأساسية للغاية في التفكير النقدي. وهو "عملية منضبطة فكريا لتصور المعلومات وتطبيقها وتحليلها وتوليفها و/أو تقييمها بفاعلية ومهارة جمعت من، أو تولدت عن طريق الملاحظة او الخبرة او التفكير او المنطق أو التواصل" (15).

ومع ذلك، وعلى العكس، لا يمكن لنا اكتشاف مهارة التفكير النقدي في أي مكان في وثائق او استراتيجيات او سياسات التربية والتعليم في العراق، وبالتالي، فإن تطوير عقل تفكير يتمتع بخصائص كونه موجها للبحث والإبداع، دون التركيز على تطوير مهارات التفكير النقدي يبدو وكأنه فكرة بعيدة المنال.

أوافق على أن نقص التمويل والفساد السياسي والاداري قد يكون جزءً كبيرا من المشكلة بالنسبة للعراق، لأنه من خلال زيادة اعداد طلبة الدراسات العليا والبعثات، تمكن العراق من تحقيق نمو مطرد في عدد المقالات البحثية المنشورة سنويا. لكن تظل الحقيقة أن 80٪ من الأبحاث تفتقر إلى الجودة وبالتالي فإن الدراسات العليا قد تكون عديمة الجدوى. يبدو أن هناك مشكلة لا يمكن لزيادة العدد والتمويل حلها: هذه الحقيقة تؤدي إلى عدم إصدار منشورات بحثية مؤثرة. أنا أرى أن العمل البحثي الجيد لا يمكن تحقيقه إلا إذا تم تعليم الباحثين (وجميع افراد المجتمع) التفكير بشكل نقدي.

هل يمكن ان يكون الشخص مثقفا بدون القابلية على التفكير النقدي؟

لا، لا يمكن وصف أي شخص بأنه مثقف دون امتلاك القدرة على التفكير النقدي، حيث يعتبر التفكير النقدي مكونا أساسيا من عناصر الفكر لأنه يشير إلى مهارة التحليل والتقييم الموضوعي للمعلومات والأفكار والحجج. وهو ينطوي على التشكيك في الافتراضات وفحص الأدلة والنظر في وجهات النظر المختلفة وإصدار أحكام مستنيرة. يمتلك المثقف عادةً مهارات قوية في التفكير النقدي، مما يسمح له بالمشاركة في التفكير المنطقي والتحليلي والمدروس. بدون القدرة على التفكير النقدي، قد يمتلك المرء المعرفة أو المعلومات، لكنهم سيفتقر إلى عمق الفهم والقدرة التحليلية التي تعتبر أساسية للفكر.

تتطلب عقلية المثقف الواعي التعامل بموضوعية مع جميع وجهات النظر، دون الانسياق لمشاعره أو مصالحه الشخصية. وتقوم على إدراك حقيقة أننا، بطبيعتنا، نميل إلى التحيز لآراء الآخرين، وتصنيفها إلى فئات (متفقة معنا) و (مختلفة عنا). نحن نميل إلى إهمال الآراء المخالفة مقارنة بآرائنا.

يتمتع المثقف النقدي بالصفات التالية:

التواضع الفكري

إدراك تحيزات الفرد  وحدود وجهة نظره ومدى جهله. على سبيل المثال ، يفكر العديد من الناس بقيمهم التي تفوق قيم وعادات غيرهم. فهمهم لمفاهيم مهمة في العلوم الاجتماعية والفنون والعلوم الإنسانية تختلف عن الاقوام الاخرى.

الشجاعة الفكرية

الوعي بالحاجة إلى مواجهة ومعالجة الأفكار أو المعتقدات أو وجهات النظر بشكل عادل والتي يكون لدى المرء مشاعر سلبية قوية تجاهها والتي لم يسمعها الشخص بجدية. الاعتراف بأن الأفكار التي يعتبرها المجتمع خطيرة أو سخيفة أحيانا ما تكون مبررة بشكل عقلاني - كليا أو جزئيا.

التعاطف الفكري

الوعي بضرورة أن يضع المرء نفسه بشكل خيالي في مكان الآخرين حتى يفهمهم حقا.  لفهم سلوكيات الآخرين ونواياهم بشكل شامل، يحتاج المثقف إلى اكتساب القدرة على أخذ وجهة نظر الاخرين في موضوعاتهم.

النزاهة الفكرية

الاعتراف بالحاجة إلى أن يكون المرء صادقًا مع تفكيره وأن يلتزم بنفس المعايير التي يتوقع المرء أن يفي بها الآخرون. كما يعني أيضًا الاعتراف بأمانة بالتناقضات في فكر الفرد وأفعاله. على سبيل المثال، اصبح الفساد والغش أمرًا منتشرا في المجتمع.  ماذا ان يكون المثقف فاسدا؟ يتطلب قبول أوجه القصور في تفكير المرء نفس القدر من الشجاعة التي تتطلبها المعالجة العادلة لوجهات النظر التي يختلف معها المرء بشدة.

المثابرة الفكرية

الميل إلى العمل من خلال التعقيدات الفكرية على الرغم من الإحباط المتأصل في المهمة. إجابات على القضايا الصعبة، أو عندما تظل تلك الإجابات غامضة.

حرية العقل

الاعتقاد بأن المصالح العليا للفرد ومصالح الجنس البشري بشكل عام ستخدم على أفضل وجه من خلال منح العقل الحرية، من خلال تشجيع الناس على التوصل إلى استنتاجاتهم الخاصة من خلال تطوير ملكاتهم العقلانية: الإيمان بأنه، مع التشجيع المناسب، يمكن للناس أن يتعلموا التفكير بأنفسهم. الثقة في العقل هي أيضا الثقة في الآخرين. إنه مبدأ تربوي.  إن تجربة الحرية والتشجيع لحل المشكلات بطريقة الفرد الخاصة يساعد على خلق نضج فكري. وهذا يشمل حرية المرء في ارتكاب الأخطاء والتعلم منها.

الاستقلالية الفكرية

دافع داخلي يقوم على فكرة التفكير الذاتي، امتلاك قابلية ذاتية عقلانية لمعتقدات الفرد وقيمه وطريقة تفكيره، عدم الاعتماد على الآخرين في التوجيه والتحكم في تفكير المرء. التفكير النقدي يضع المثقف في السيطرة وتجعله مسؤولا عن التعلم الخاص به.

اخيرا، دعني اقترح بعض الخطوات التي يمكنها ان تساعدك في استخدام التفكير النقدي في حل المشكلات واتخاذ القرار:

حدد المشكلة أو الهدف بوضوح ودقة.

اجمع المعلومات ذات الصلة من مصادر متعددة.

حدد الافتراضات والآثار والنتائج المترتبة على المشكلة أو الهدف.

قم بتقييم المعلومات للتأكد من دقتها وأهميتها واكتمالها.

قم بتوليد الحلول أو البدائل الممكنة بناءً على المعلومات.

قارن بين الحلول أو البدائل باستخدام معايير مثل الجدوى والفعالية والأخلاق.

اختر أفضل حل أو بديل بناءً على المعايير والأدلة.

تنفيذ الحل أو البديل ومراقبة النتائج.

***

محمد الربيعي

.........................

المصادر

1- Paul, R., & Elder, L. (2006). Critical Thinking: What It Is and Why It Counts (2nd ed.). New York: Pearson.

2- Bloom, P. (2011). Critical Thinking: A Guide to Evaluating Information. W.W. Norton & Company.

3- Critical thinking:  Definition, History, Criticism, & Skills. https://www.britannica.com/topic/critical-thinking

4- W. G. Sumner (1906). Folkways: A Study of the Sociological Importance of Usages, Manners, Customs, Mores, and Morals. New York: Ginn and Company

5- Karl Popper (1945)  The Open Society and Its Enemies. https://www.goodreads.com/author/quotes/349707.Karl_Popper

6- Sternberg, R. J., Roediger III, H. L., & Halpern, D. F. (Eds.). (2007). Critical thinking in psychology. New York: Cambridge University Press.

7- Halpern, D. F. (2014). The psychology of critical thinking (5th ed.). New York, NY: Psychology Press.

8- Kılıç, S. & Öztürk, M. (2022). Critical thinking skills among Dutch Muslim youth: The role of non-formal Islamic education. Journal of Applied Research in Education, 28(2), 125-144.

9- Dorkin, J. (2008). The development of critical thinking skills in international students: A case study of students from South Asia studying in the UK. Higher Education, 55(6), 689-706.

10- Shaheen, S. (2012). Critical thinking skills of Pakistani students studying in the UK: A case study. Journal of Studies in International Education, 16(2), 173-191.

11- Al-Janahi, M. (2021, March 17). The power of poetry to teach math and Arabic. TEDx Talks.

12 - محمد الربيعي (2015) حقيقة الواقع العلمي العراقي.

https://akhbaar.org/home/2015/2/185089.html

13- مهارات من أجل تحسين الإنتاجية ونمو العمالة والتنمية (2008). مؤتمر العمل الدولي، الدورة 97. اصدار: مكتب العمل الدولي، جنيف

 

تخرج علينا بين الفينة والأخرى دراسات جُلها غربية، تدعي بأن القرآن ما هو اٍلا خليط من التعليمات والنصوص اليهودية والمسيحية، وواحدة من هذه الدراسات قام بها المستشرق الألماني (كريستوف لكسمبورغ)، هذا المستشرق (يزعم أن للقرآن أصولاً سريانية آرامية، ولكن لَقيَ هذا الزعم رفضاً واسعاً في أوساط المجتمع الأكاديمي)(القرآن ونقوش اليمن ص22)، ويقول هاني هياجنة أحد الباحثين في كتاب (القرآن ونقوش اليمن ص22) (والواقع أنه لا يوجد حتى الآن أي دليل نقشي أو نصي في مكة أو حولها يؤيد رأيه (يعني رأي لوكسمبرغ)، وعلى كل حال فأني لست بصدد تفنيد ما قاله لوكسمبرغ باعتبار أن بحثي هذا يتوجه بشكل خاص الى من يدعي إن القرآن يستمد أصوله من نقوش اليمن القديمة، وهذا أيضاً أدعاء آخر يناقض الأول، باعتبار الادعاء الأول ينحو الى أن القرآن أستمد مادته من منهل السرديات اليهودية والمسيحية، ولكن بالحقيقة أن أدعاء الأثنين معاً يهدفان الى هدف واحد، وهو أن القرآن ليس وحياً ألهياً، وأنما جاء به محمد من مصادر أخرى مدعياً أحدهم بالسريانية، حيث يقول لوكسمبرغ (فاٍن الكلمات السريانية في القرآن عُربت خلال تطور الاٍملاء العربي) (القرآن ونقوش اليمن-ص22)، والآخر باليمنية، حيث يقول (فيرنر داوم) (قصة اٍبراهيم واٍسحاق وطقوس الصيد اليمني متطابقة بنيوياً)(القرآن والنقوش اليمنيه ص256) وهي أدعاءات لا تصمد أمام البحث العلمي لأن مايقدموه من مشاهدات وقرائن لا ترقى الى مايرمون اٍليه من زعم التناص مع محتويات النقوش اليمنية، وأن تعليلاتهم تدور حول أمراً حدسياً كما يقدمه أهل الهرمنيوطيقا في فهمهم وتأويلهم للنصوص، وخاصة الدينية، فهم يقدمون أفتراضات مسبقة، ويُرجح أحداهما على الآخر، ولكن تبقى النتائج ضمن دائرة النسبية وعدم الثبات في فهمها، وهؤلاء غالباً ماتكون قبلياتهم الفكرية حاجزاً ومانعاً للفهم العيني والحقيقي للنص.

من الضروري الأشارة قبل البدأ ببحثنا الرجوع الى ما يقوله الفيلسوف الأمريكي (اٍريك هيرش) من دراسته لمعيار صحة الفهم للنص، والذي يقول فيه بأن عملية فهم النص تتحقق من خلال مرحلتين:

المرحلة الأولى: هي مرحلة فهم مراد المؤلف، وهي مرحلة تعتمد الحدس في معرفة نوايا المؤلف، وهو حدس يحتمل الصدق والكذب على حد قوله .

المرحلة الثانية: يقوم بها المفسر للنص بتقيم هذا الحدس وأختبار صحته من خلال قواعد وضوابط مدروسة وبالتالي التنبؤ بالمراد الحقيقي لصاحب النص، وذلك بالأعتماد على الشواهد التي تؤيد حدسه في فهم النص، ومدى أحتمالية مطابقة الحدس الى المعنى الحقيقي التام للنص، وهذا ما أردت الأشارة اليه في الشواهد والقرائن التي ساقها هؤلاء الباحثين من نقوش يمنية أدعوا فيها بأنها هي النصوص التي أستمد منها القرآن بشكل خاص والأسلام بشكل عام أساس نصوصه الحالية، والتي لا أرى فيها صدق مايدعون، وأن أدعاءهم لا يصمد أمام ماسوف مانعرضه من مفارقات لا تثبت أي مشتركات وشواهد تؤكد مدعياتهم، وإن مايسعون اٍليه هم،أو من يستعمل بحوثهم الغير رصينة من أجل أشاعة الشبهات واعتباره سلاح من أسلحة الحرب الناعمة، وهي حرب تقودها مؤسسات ومراكز غربية منذ زمن ليس بالقصير، ولكن ما نقدمه من دراسة سوف تؤكد أن ما نقوله لا يدخل تحت مدعى الأيمان التام بنظرية المؤامرة، بل من خلال البحث والدراسة العلمية التي تخضع للضوابط والقواعد المعتمدة .

أن التوجه الشكي لهؤلاء الباحثين، وهو أتجاه ديكارتي هو من رسم خطتهم في البحث والدراسة والتوجه، ولا بأس في ذلك اٍذا كان هذا البحث غايته الحقيقة وأن يكون الباحث بعيد عن المسبقات الذهنية وخلفياته المعرفية ووميوله النفسية، ولكن هنا أردنا أستعارة بعض الدراسات الغربية التي قدموها في فهم النصوص كآلية ومنهج . من هذه المناهج وأشهرها ما يُدعى بمنهج الهرمنيوطيقيه الفلسفية والتي تقول (ليس هناك فهم نهائي حتمي للنص، بحيث يتوقف معنى النص عنده) (الهرمنيوطيقا وأشكاليات التأويل والفهم-ص94)، وكما يرى اٍيرك هيرش (بأنه لايمكن للمفسر وفاهم النص أن يعثر على مراد المؤلف ويكشف نواياه بصورة قطعية)(الهرمنيوطيقا وأشكاليات التأويل-154) وعلى هذا المنهج الهرمنيوطيقي مضاف اليه ما نطرحه من مشاهدات نقارن بها النصوص والتي تكشف مدى المفارقات والمحدوسات من القناعات الغير حقيقية والتي تظهر زيف أدعاءاتهم وتهافت أفهامهم للقاريء الكريم واللبيب .

من المفيد أن أذكر ماقالته المستعربة الألمانية (أنجليكا نويفرت) وهي عالمة أسلاميات كشاهد يعيننا في فهم تهافت ما أستند عليه أصحاب نظرية التناص في محتوى القرآن، الذي يحاكي به نصوص سبقته، فتقول (اٍن منهجه (وتعني منهج لكسمبورغ) ينتهي الى وجود طبقة سريانية كامنة خلف النص العربي)(القرآن ونقوش اليمن ص22)، وتُضيف نوبرث في ردها على لكسمبورغ (أن السريانية تزخر بالمفردات الدينية، وهذه المتوازيات في حالات كثيرة هي ببساطة نتيجة لعلاقة القرب اللغوي بين هاتين اللغتين الساميتين، ولا تعكس تواصلاً ثقافياً بالضرورة) (القرآن ونقوش اليمن ص23)، وهنا (لايمكن اعتبار اللغة العربية التي أستعارة مفردات من لغات أخرى على أنها خليط من اللغات لأن ثمة عوامل صوتية وصرفية ونحوية هي مايؤسس العناصر الأساسية للتجمع اللغوي) هاني هياجنة (القرآن والنقوش العربية ص23) وهذا ما قاد لكسمبورغ الى نتائج خاطئة، وهو نفس الخطأ الذي وقع فيه (سيرجنت) وآخرين، حيث أعتمد لكسمبورغ على التشابه اللغوي، وأعتمد سيرجنت على وجود تشابه لممارسات طقوسية، أو حدس لتشابه مواقع مقدسة كدليل قطعي على وجود تناص أو محاكات تجربة سابقة، ألتقطها كاتب القرآن كما يزعم هؤلاء المستشرقون، وهنا سوف نعرض الكثير من الممارسات المنتشرة في كثير من بقاع العالم، وهي بعيدة عن الجزيرة العربية، ولم تكن بينها صلات وصل ثقافي بزمن الرسول، ولا هو الرسول محمد (ص) يعرف عنها بالبته لكي يحاكيها ويلتقط منها هذه الممارسات، ولكن مايحدث من ممارسات مشتركة في بقاع العالم المختلفة،هو دليل على تشابه الفطرة الأنسانية، وسليقتها المتماثلة في توجهها في التقرب الى الرب. يتبع

***

أياد الزهيري

 

يبدو أنّ ربط المُتحدثين بين الإجتهاد والتجديد في سيّاق حديثهم عن بِنيّة مشروعهم في إعادة بناء الأمة وإصلاح ما فسد فيها من قيّم أخلاقيّة ومعتقدات دينية، كان لضرورة خطابيّة ومنهجيّة فتقديمهم مصطلح الإجتهاد على التجديد يُطمئِن الجمهور ويؤكد لأصحاب الرأي وأولي الأمر أن دعوتهم أصوليّة سلفيّة تراثيّة لا إبتداع فيها ولا مخالفة لما جاء في الكتاب و صحيح السُنة، فتطمئن القلوب وتتبدد الشكّوك في نوايا المُعتليين منابر الإصلاح والوعيّ والتوجيه. أما العِلة المنهجيّة لهذا الربط فتكمن في حثّ المتخصصين من العلماء والفقهاء على الإجتهاد في تفعيل النهج التأويلي للآيات القرآنيّة والنهج النقدي لكُتب الحديث وتنقيّة الروايات التي تتحدث عن السيرة النبويّة، وذلك كله للوقوف على المقاصد اليقينيّة للشريعة التي تمثل ثوابت العقيدة التي دعى إلى الرجوع إليها الأستاذ الإمام “محمد عبده” في قوله (ضرورة الرجوع إلى الدين في بساطته الأولى قبل ظهور الخلاف حتى يتمكن المُجددون من إحياء الأصول الشرعيّة والثوابت العقديّة وإبراءها ممّا حاق بها من إنتحالات وتأويلات أدت إلى صرفها عن صورتها الحقيقية وجوهرها السليم).

وقد أوضح ذلك الفقيه التونسي المُعاصر الدكتور “نور الدين الخادمي ١٩٦٣م— ” في مَعرِض حديثه عن التجديد بوصفه الطريق الأمثل لإحياء التفكير الديني وتقويم الشائع في العقل الجمعي عن حقائقه التي دعى إليها الإمام “محمد عبده” ويقول الدكتور “الخادمي” في ذلك (لا ينبغي أن يُفهَم من تجديد الدين استبدال الإسلام بدين آخر، أو تغيير بعض الأحكام القطعيّة الثابتة أو إحداث أمور – في الفهم والتطبيق – مخالفة للدين وقواعده ومقاصده … والمراد بعمل المُجدد حيّال المقاصد الشرعيّة هو حفظ الدين وإقامة التوحيد وجلب المصالح والمنافع وتحقيق العدالة والحرية والأمن والسلم).

ويضيف الأستاذ ” بشير نافع ١٩٥٣م —” أستاذ التاريخ الإسلامي بجامعة لندن أن كتابات “ابن عاشور” تُعد أصدق التطبيقات العمليّة لمشروع “محمد عبده” ولا سيّما في مبحث التجديد، مستشهداً بموقف “ابن عاشور” من فتاوى الأستاذ الإمام حيّال مناهج التعليم في تونس وكذا دعوته لفتح باب الإجتهاد إستناداً على العلوم الحديثة والآراء الفلسفيّة المعتبّرة التي لا تتعارض مع صحيح الدين وتتوافق مع المقاصد الشرعيّة.

ولعلنا نجد ذلك بوضوح في معظم كتاباته عن التجديد والمُجددون، فقد أعلن “ابن عاشور” في صَدر حديثه عن مشروع التجديد الذي أنضوى تحت رايته، بأنه رافض لضربيّن هما الجمود والتقليد من جهة والتغريب والتبديد من جهة أخرى، وهو مُلتزم في ذلك بالقواعد التي استنها رواد هذا المشروع الحضاري الذين أدركوا أن هلاك الأمة في تقديس تراث الأقدمين والإنبهار بثقافة الوافد من الحداثييّن الغربييّن، والنجاة من هذا وذاك في الإحتكام إلى النقد الواعي بواقع الآنا الرافض للجمود والتخلف والمتطلع للإصلاح والرجوع بالأمة إلى ذروة المجد التي كانت تعتليها لقيادة الإنسانية في عصرها الذهبي الذي ألفت فيه العقول بين المقاصد الإلهية والمناهج العلميّة لمعالجة الأحوال المعيشيّة، موضحاً بأن هذه الرؤية سوف تجابه بالرفض سواء من المتعصبين للموروث أو من المتحمسين للسيّر في رِكاب المُحدثين، وقد صرح بأن أول صفات المُجدد هي الشجاعة والعزيمة التي لا يرهبها صخب الجمهور ولا توّعُد أرباب المصالح أو إرهاب حاشيّة السلطان، ويقول (ليس ببِدع أن يكون ما أراه في هذا الشأن راجحاً في كفة البيّان، فليس الحق بمُحتكر، ولا شرب الصواب بمُحتضر، والحُكم في الترجيح لمَحّك النظر).

ويبدو أن هذا النهج النقديّ جعله ينتصر إلى التجريب والوجهة العمليّة في تحديد صفات المُجدد فذهب إلى أن أحوال الواقع المعيش ومشكلاته هي التي تفرض على الأمة وجوده وتُحرض أصحاب الرأي لتأييده ومعاونته لبلوغ مقاصده؛ فإذا ما تفككّت الأمة وعمّ الفساد، فباتت الحاجة إلى القائد القوي الذي يضرب على أيادي المُفسدين ويُطيح برؤوس الفتن، وإذا ما عمّ الجهل وسادت الخرافة كان لزاماً على الأمة تقديم العلماء والمُجتهدين لإصلاح ما فسد، وإذا أنحدرت الأخلاق وماتت الضمائر وفسدت الذمم فبات لزاماً على علماء الدين وورثة الأنبياء إحياء الورّع والحيّاء وتجديد الحاسة الدينية في المشاعر والقلوب والأذهان أيضاً وتخليص الروح الجمعي من الأضرار التي أصابته، وإذا ساد المُجدفون والمُجترؤن والمُبتدعون والفُساق والكَذبّة في عصر ما، كانت الأمة في حاجة لذلك المُجدد العاقل المُحلل الحصيف المُتمكن من التمييز بين حرية البوّح والإجتراء والتجديف ونشر الفتن وإزدراء الدين، والمُجادل الفطِنّ الذي يحتكم إلى العلم والحكمة في التناظر والتصاوّل والحريص على حرية الفكر والإعتقاد حرصه على حماية الدين وصَوّن مقاصد الشريعة التي تُؤمن بها الأمة والحفاظ على وحدة كيّانها وسلامة وأمان أفرادها.

وقد حذر “ابن عاشور” في الوقت نفسه من سياسة القمع والحَجّر على الحريات والإستبداد في الرأي للحد من مظاهر الجموح، فإنّ مثل هذ السياسات لن تُعيد المُلحدين إلى حظيرة الإيمان ولن تهدي الشاطحين إلى الصراط المستقيم، مُشيراً إلى سلوك رسول الله في مجابهة الفُساق والمنافقين والكُفار الذين لم يؤمنوا بنبؤته ولم يَسلموا بشريعته، فلم يأمر بقتلهم ولم يَسُبهّم ما داموا لا يعملوا على فساد المجتمع ولم يناصبوا المؤمنين العداء ولم يعلنوا شَنّ الحرب عليهم وقد سار على نهجه جل الخلفاء والصحابة، ومن ثم لا يجوز للداعية المُجدد تحريض أتباعه على إرهاب الأغيار والمخالفين في الدين، فالمُجدد الحق هو الذي يوازن بين آليات الإصلاح ومآلاتها قبل الشروع في إنتخاب أحداها لتثقيف العقول وتخليصها من ظُلمة الضلالات والأوهام التي جنحت بها، ويكون أكثر تسامحاً مع المخالفين حتى لا تكون فتنة فيتفكك المجتمع وتتبدد الألفة التي كانت تجمع بين أفراده.

وإذا ما أشتد الخطبّ وضعفت الأمة واستباح المعتدون كل عزيز فيها قتلاً ونهباً وسلباً وإنتهاكاً وسطواً، فمن البديهي أن يكون المُجدد هو قائد الجُند الذي يقود الأمة لإسترداد ما نُهب ورد المُعتدين والقَصاصّ من المُغتصبين، مثل الملك “الكامل ناصر الدين محمد ١١٧٧م – ١٢٣٨م ” الذي تصدى للصلبيين، و”خربندا محمد التتري  توفى نحو ١٣١٦م” الذي إنقلب على جيوش التتار وإنتصر للإسلام، والسلطان ” أبو الوليد إسماعيل بن فرج من بني الأحمر ١٢٧٩م – ١٣٢٥م ” سلطان غرناطة الذي تصدى للأوروبيين الأسبان الذين أرادوا الإطاحة بمُلك الأندلس، والقائد “محمد الفاتح ١٤٣٢م – ١٤٨١م” الذي أحيا حضارة الإسلام في مطلع العصر الحديث، والسلطان “سليم الأول ١٤٧٠م – ١٥٢٠م” الذي لَمّ شتات الولايات الإسلامية ونَصبّ نفسه خليفة عليهم، و” نور الدين سليم جهانكير ١٥٦٩م – ١٦٢٧م ” الذي أنقذ المسلمين في الهند من خطر الرِدّة والإضطهاد العقدّي.

وإذا ما غاب الحيّاء وهجرت التقوى القلوب وخَيّم الفُحش على سلوك الناس وإستُحلت الكبائر وبات الظلم هو الحاكم في رؤوس العباد، أصبح الواعظ الورّع والتقيّ العاقل والخطيب المؤثر في العقول والقلوب والهادي للنفوس هو المُجدد في زمنه والإمام في قومه، ويقول “ابن عاشور في ذلك مُحاكياً أبا حامد الغزالي (١٠٥٨م – ١١١١م) عن وظيفة المُجدد في تحقيق مقاصد الشَارَعّ (إن القيام بحق الربوبيّة هو واجب العبوديّة وهو المقصد الأول للتشريع، كما إن إفادة كيفيّة جبر ما تقتضيه البشرية غير المعصومة من بعض الخلل هو واجب أيضاً على المُجدد، وكذا عدم الموالاه والتوّدد بالموّدة لأصحاب الجاه والسلطان ومنع كل ما يَفضي إلى إظهار تكبّره وعلو مكانته على المسلمين وتعظيم رتبته عليهم، ينبغي أن تكون من خصاله)، وهو يتفق تمام الإتفاق مع “رفاعة الطهطاوي”، و”محمد عبده”، و”عبد المتعال الصعيدي” على أن المُجدد لا تؤول إليه هذه الصفة لشعبيته أو مكانته في قومه أو رئاسته لجماعة أو ظهوره في مجتمعات جاهلة ولا لكونه وّرِعاً زاهداً أو فقيهاً عالماً أو معلم مُحدثاً، لا يستفيد المجتمع من فضل معارفه أو من جوّد كرمه.

ويُمكننا أن نُلاحظ من حديث “ابن عاشور” عن مفهوم التجديد وصفات المُجددين مدى إنضوائه لمشروع الإستينارة الرئيس الذي أشرنا إليه في السطور السالفة، فقد جَمعّ بين مفهوم الإجتهاد والتجديد وربط بين خِصال المُجدد ووظيفته في إصلاح المجتمع وتوجيه الناس للمقصد الحقيقي للكتاب والسُنة، ويعني ذلك أن تجديد الدين عنده له غاية عمليّة ومقصد شرعي في حماية الدين ورِفعة وتَقدمّ المؤمنين وتخليصهم من كل مكامن الفساد ومواطن الإستبداد، وإتباع سُنة النبي (صلى الله عليه وسلم) والتحلي بأخلاقه شأن خيّر العباد، وبذلك نجح شيخنا في الحِفاظ على بنيّة نسقه العقلاني الذي صرح به في معظم كُتبه، ألا وهو تبصير الأمة بالمقاصد الشرعيّة التي لا يجب عليهم الإنصراف عنها مهما إختلفت الأقطار وتبايّنت المجتمعات وتَعددّت الثقافات وتبدلّت أحوالهم من الإنكسارات إلى الإنتصارات.

وحسبنّا في عجالة الإشارة إلى ترابط نسق مبحث التجديد الذي وضع أفكاره الرواد المؤسسون وذلك لإثبات أمريّن أولهما: أن “حسن العطار” ورفاقه وتلاميذه لم يكونوا مجرد أصحاب خطابات توفيقيّة أو دعوات تنويريّة أو وجهة إصلاحيّة فحسب، بل كانوا رواد مدرسة تتسم أفكار أعلامها المتتابعين بالأصالة في المنهج والأفكار والتواصل في مناقشة القضايا وإبتداع الحلول التي تطرأ على واقعهم المعيش بمنهج يجمع بين العلم والفلسفة والتجربة العمليّة.

أما الأمر الثاني الذي نريد إثباته هو أن أعلام هذه المدرسة قد طوّروا من أفكارهم بحسب اللحظة التاريخيّة التي ألقوا فيها خطابتهم على نحو يهدف إلى توعيّة الرأي العام التابع وتقويم معتقداته وتحرير أذهانه من التقليد، وذلك كله بمنئ عن آفة التلقين أو التبعيّة التي يَعدُونها عائق من معوّقات الوعيّ والتربيّة الحديثة.

أضف إلى ذلك حرصهم على عدم التصادم بالسلطات القائمة سياسيّة كانت أو فقهيّة جامدة، وقد عمدّوا إلى ذلك حتى لا تُجابَه أفكارهم بالمنع أو العنف في طوّر مهدها.

وقد تمكنوا بهذا النهج تجييّش أعداد كبيرة من شبيبّة المسلمين عن طريق التعليم والتثقيف وتشهد بذلك أقلام الجيل الثالث والرابع من هذه المدرسة الذين لم ينصرفوا عن أداء رسالتهم التنويريّة الإصلاحيّة إلا في مطلع الستينات من القرن الماضي.

وحسبّنا مراجعة مراحل تطوّر بنيّة مبحث التجديد منذ بدايته في العصر الحديث على يد أولئك الروّاد – لإثبات ما تقدّم -، فقد قَدّم “حسن العطار” مصطلح الإجتهاد قبل التجديد؛ وذلك ليخرج القضية من دائرة التجديف أو الإتهام بالإبتداع – التي كان يروّج لها “محمد بن عبد الوهاب” ورفاقه الذين ربطوا مصطلح التجديد الحديث بالبِدع -، ثم جاء “رفاعة الطهطاوي” فأخرج المصطلح من دائرة المُشتغلين بالعلوم الدينيّة إلى دائرة العاملين على إصلاح الأمة وحل مشكلاتها وإنهاضها من كبوّتها من أُدباء ولغوييّن ومُتكلمين وفلاسفة بغض النظر عن إنتمائتهم الفقهيّة أوالمذهبيّة وإعتبار الدين هو أصدق الهادييّن لصوالح الناس. أمّا “محمد عبده” فقد حدّد دلالة مصطلح التجديد وبنيّة الأفكار التي يشتمل عليها والمناهج التي يجب على المُجدد الإلتزام بها، وقد أكمل هذا الطريق “عبد المتعال الصعيدي” في تأكيده على أن المُجدد هو ذلك العاقل الواعي بمقاصد الشريعة وغايّة الدين وأصوله من جهة والحاجة العمليّة للواقع المعيش من سائر العلوم والفلسفات من جهة أخرى، وأخرج المُجدد من دائرة أمة الإستجابة (أي المسلمين) إلى دائرة أمة الدعوة (أي الناس كافة) علماء كانوا أو فلاسفة، فرنسييّن، أو روّس، أو هنود، وذلك إستناداً على عبارة (منّ يجدد لهم دينهم) التي وُرّدت في الحديث الشريف وتُفيد العموم.

ثم جاء “ابن عاشور” ليجعل مفهوم الدين في دلالته الواسعة (أي ما يَعتقّد في صحته الناس ويسيرّون حياتهم بمقتضاه)  ومن ثم يكون التجديد هو العمل على تنوير الرأي العام وتثقيفه بالمقاصد الشرعيّة وفقه المآلات والأوليات، الأمر الذي جعله يوسع من دائرة طبيعة المُجدد أيضاً؛ لتصبح عالماً، أو لغوياً، أو قائداً عسكرياً، أو مُتكلماً، أو فيلسوفاً بغض النظر عن نسبه أو جنسيّته أو مِلته. ولم يشترط على ذلك المُجدد سوى إلتزامه بالثوابت الشرعيّة وتحديث ما يجب تطويره، شريطة عدم نقض الأصول الشرعيّة الثابتة أو الأوامر الإلهيّة.

وقد بدأ خطابه بالإجتهاد في تفسير آيات القرآن ثم نقد وغربلّة تصانيف جُماع الحديث ورواة السيرة النبويّة، وانتهى بمراجعة الكُتب التي تحدثت عن القضية الأساسيّة ألا وهي التجديد والمُجددين على نحو تأليفي يجمع بين التليد من القديم والطريف المُستحدث من الجديد، متأثراً في ذلك كله بـ “فخر الدين الرازي”، و”ابن كثير”، و”ابن قُتيّبة”، و” أبو المعالي الجويّني”، و”شهاب الدين القرافي”، و”ابن خلدون” وجميعهم من أعلام التراث الإسلامي، وذلك بجانب تصريحه بالإنضواء تحت عباءة الإتجاه المحافظ المُستنير في الفكر الإسلامي الحديث.

وللحديث بقيّة عن إبداعات “ابن عاشور” في قضايا الفكر الإسلامي المعاصرة.

***

بقلم : د. عصمت نصَّار

 

يعود تاريخ ظهور (اخوان الصفا وخلان الوفا) الى النصف الاول من القرن الرابع الهجري (العاشر الميلادي) في مدينة البصرة، الذي شهد ازدهارا في الحياة العقلية والفكرية ناجمة عن ترجمة مؤلفات ثمينة لفلاسفة اليونان وأدباء الفرس وحكماء الهند، ولسبب سياسي يتمثل بضعف سلطة الخلافة العباسية ومقرها العاصمة بغداد، وظهور فرق شيعية مناوئة للسلطة مثل (الأسماعيلية).

وامتاز اخوان الصفا (واشهرهم خمسة: أبو سليمان محمد بن معشر البستي، ويعرف «بالمقدسي»، أبو الحسن علي بن هارون الزنجاني، أبو أحمد المهرجاني، العوفي، و زيد بن رفاعة) انهم وضعوا كتابا ضم أهم الآراء الفلسفية والعلمية وصفت بأنها تشبه دائرة معارف كاملة لا غنى عنها للمثقف العربي وقتها، هدفت الى تغيير البنية العقلية التقليدية السائدة والمسيطرة في المجتمع العربي التي يشيعها مثقفو السلطة. والمدهش انهم كتبوا مقالات سموها (تحف أخوان الصفا)، امتدت من السياسة الى العلم.. الفلك، الرياضيات، الفن والموسيقى.. هدفت الى (التضافر للسعي الى سعادة النفس عن طريق العلوم التي تطهر النفس).

يوحّدهم التفكير ويختلفون طبقيا

مع ان اخوان الصفا تجمعهم (الفلسفة) الا انهم يختلفون طبقيا، فبينهم اغنياء جدا بمستوى امراء ووزراء، وبمستوى تجار، وأبناء أدباء وعلماء وفقهاء، وعمّال وآخرين من عامة الناس. ومع ان رساءلهم الأثنتين والخمسين كانت موسوعة استثنائية في مجالات المعرفة العلمية والأدبية والفنية في عصرهم، فان المؤرخين أختلفوا في تحديد مذهبهم وهويتهم.

وعلى غرار المعتزلة والقرامطة الذين هدفوا الى التغيير في محتوى وطرائق التفكير، فان الجديد الذي جاء به (أخوان الصفا) انهم استوعبوا الفلسفات اليونانية والفارسية والهندية وعملوا العقل فيها لينتجوا منها فلسفة اسلامية هدفت الى التقريب بين الأديان والفلسفة.

و يذكر المؤرخون بأن أساس مذهبهم هو "أن الشريعة الإسلامية تدنست بالجهالات واختلطت بالضلالات، ولا سبيل إلى غسلها وتطهيرها إلا بالفلسفة؛ لأنها حاوية للحكمة الاعتقادية والمصلحة الاجتهادية، وأنه متى انتظمت الفلسفة اليونانية والشريعة المحمدية فقد حصل الكمال».

والأهم والأخطر انهم اعلنوا ان الأسلام كدين لا يتعارض مع الفلسفة كفكر، وان المتدينين الذين يزدرون الفلسفة يعانون من تخلف فكري.. ولهذا كانوا أشبه بحزب شيوعي في بلد عربي بزماننا، لأنهم اضطروا الى أن يشكلوا خلايا سرية في اجتماعاتهم الفكرية، وأنهم ما كانوا يقبلون انضمام احد لهم الا بشروط تشبه شروط من ينتمي لحزب سرّي في نظام طاغية دكتاتوري.

والمدهش انهم عملوا العقل في التفكير بكل شيء، من الدين الى الفلك، الرياضيات، الموسيقى، الى مبادئ الموجودات وأصول الكائنات ووجه الأرض وتغيراته، والنجوم وكيف تكونت، الى الحاس والمحسوس، والعلة والمعلول، والعقل والمعقول، والمنطق وفروعه، واختلاف الأخلاق، والبعث والنشور.. وأن العالم انسان كبير والأنسان عالم صغير (نظرية عالم الأجتماع هربرت سبنسر)، و بحث مستفيض من قبيل نظرية النشوء والارتقاء، واجناس الحركات والعلل والمعلولات، وماهية العشق والحب واخرى في العلوم الطبيعية والرياضية والفلسفية والروحية.. كانت لهم فيها افكار ورؤى جديدة تختلف مع ما كان قد اشاعه الدين. ولهذا اختلف علماء الأسلام التقليديون في الموقف منهم، فمنهم من اعتبرهم من اتباع المعتزلة، فيما قال آخرون انهم يتبعون المدرسة الباطنية، وينحدرون من الفكر الأسماعيلي. واتهمهم علماء مسلمون بالهرطقة والإلحاد، و ذهب آخرون الى وصفهم بأنهم زنادقة، فيما يرى مؤرخون أن رساءلهم الأثنتين والخمسين دونوها بعد البحث الدقيق والنظر الطويل، وانه لم يصل أهل هذا الزمان إلى أحسن منها، ويستشهدون بانها ترجمت وطبعت في (ليبزج) سنة ١٨٨٣م وفي (بومباي) سنة ١٨٨٦م، وفي مصر سنة ١٨٨٩م. ونقلت إلى الهندستانية وطبعت في لندن سنة ١٨٦١م،

وانها دخلت بلاد الأندلس على يد أبي الحكم عمرو بن عبد الرحمن الكرماني القرطبي، وهوعالم من أهل قرطبة رحل إلى المشرق للتبحر في العلم، فلما عاد إلى بلاده حمل معه الرسائل المذكورة، فأدخلها إلى الأندلس وانتشرت هناك حتى تناولها أصحاب العقول البحاثة وأخذوا في درسها وتدبرها.

وهناك من يصف جماعة اخوان الصفا بالخبيثة، مستشهدا بأن من خبائثها.. روايات "الف ليلة وليلة" الشهيرة، التي تتحدث بمعظمها عن السحر وتسخير الجن لخدمة الانسان وما شابه.. وانها ماسونية لأن شركة والت ديزني الماسونية انتجت عدة افلام ومسلسلات من هذه الروايات وخاصة علاء الدين والجني الازرق وبساطه الطائر وسندباد!. فيما وصفهم آخرون بانهم جمعية سرية تتسم بعقائد فلسفية باطنية أسسها الشيطان لتنفيذ أخبث مشروع في تاريخ الرسالات الالهية هو تنفير الناس عن الدين الأسلامي، ومحاربة شرع الله ونصب مكائد للمسلمين وتفريقهم. وهناك من اشاع النقمة على الخليفة العباسي (المأمون) لأنه برأيهم كان السبب في نقل الفلسفة الى اللغة العربية، وذّمه ابن تيمية بقوله: " ما أظن الله يغفل عن المأمون ولا بد ان يعاقبه بما أدخله على هذه الأمة".. ما يعني أن الفلسفة من وجهة نظرهم هي ضد الدين!

وجاء في ترجمة دائرة المعارف الاسلامية أن اخوان الصفا جماعة ظهرت في البصرة سنة 373 هحرية وصفتها بأنها سياسية دينية ذات نزعات شيعية متطرفة وربما كانت إسماعيلية على وجه أصح، ولسنا نعرف شيئا عن نشاطهم السياسي، اما جهودهم في التهذيب الفطري فقد أنتجت سلسلة من الرسائل رتبت ترتيبا جامعا لشتات العلوم تمشيا مع الاغراض التي قامت من أجلها الجماعة، وكانوا يميلون إلى التعبير عما يجول في نفوسهم بأسلوب غير صريح، اذ وصفهم فقهاء بأن بعض كلمات اخوان الصفا يدل على تشيعهم، وبعضها يؤذن بتسننهم، وبعضها يقتضي كفرهم، وبعضها يورث اسلامهم.

وقد اهتمَّ «إخوان الصفا وخلاّن الوفا » بالفلسفات اليونانية والفارسية والهندية، و، وتعديلها على ما يقتضيه الإسلام. في شرْحِهم لنظرية الخَلْق. وكانوا يهدفون إلى التقريبِ بين الأديان والفلسفة، ومحْوِ فكرةِ ازدراءِ الفلسفة لدى المُتديِّنين، وبيانِ أنَّ الإسلام والفلسفة اليونانية بالتحديدلا يتعارضان.

ولهذا السبب كانوا يكتبون في الخفاء، ويتجمَّعون بشكلٍ أَشْبه بالخلايا السياسية السِّرية في العصر الحديث. كما اهتمَّ «إخوان الصفا» بجميع الأديان السماوية، وعلوم الفلك، والرياضيات والموسيقى والمعادن والنبات والحيوان.

في خلافِهم حول تصنيف «إخوان الصفا»، ذهَبَ بعضُ علماء المسلمين إلى اتهامهم بالهرطقة والإلحاد، ووصفوا فكرهم بالزندقة والفساد، بينما ذهَبَ آخَرون إلى اعتبارهم من أتباع المعتزلة، وقال آخَرون إنهم يتبعون المدرسةَ الباطنية. وقيل إنهم كانوا يتبعون أسلوبَ التَّقِيَّة في إخفاء هُويَّتهم، كما قيل إنَّ ابن المقفع كان واحدًا منهم.

نماذج مما كتبوا

لنبتعد عن الذين وصفوا كتاباتهم بالغامضة، ونورد لك نماذج مما كتبوا في العشق والأخلاق:

(إن كثيرًا من الناس يظنون أن العشق لا يكون إلا للأشياء الحسنة حسب، وليس الأمر كما ظنوا؛ فقد قيل: «يا رب مستحسن ما ليس بالحسن.» ولكن العلة في ذلك هي الاتفاقات التي بين العاشق والمعشوق وهي كثيرة، منها المناسبات بين كل حاسة ومحسوساتها.

ثم اعلم أنه من ابتلي بعشق شخص من الأشخاص، ومرت به تلك المحن والأهوال وعرضت له تلك الأحوال، ثم لم تنتبه نفسه من نوم غفلتها فيتسلى ويفيق، أو نسي وابتلي من بعد بعشق ثان لشخص آخر؛ فإن نفسه نفس غريقة في عمائها سكرى في جهالتها.

والفرق بين الخاص والعامة، أن العامة إذا رأت مصنوعًا حسنًا أو شخصًا مزينًا تشوقت نفوسهم إلى النظر إليه والقرب منه والتأمل فيه، وأما الخواص فتتشوق نفوسهم إلى الصانع الحكيم والمبدع العليم والمصور الرحيم).

وفي الصداقة.. كتبوا ما يعد سابقة في علم النفس بقولهم:

(واعلم بأن من الناس من هو مطبوع على خلق واحد أو عدة من أخلاق محمودة ومذمومة، فينبغي لك إذا أردت أن تتخذ صديقًا أو أخًا أن تنتقده كما تنتقد الدراهم والدنانير والأرضين الطيبة التربة للزرع والغرس. واعلم بأن من الناس من يتشكل بشكل الصديق ويتدلس عليك بشبه الموافق، ويظهر لك المحبة وخلافها في صدره وضميره. واعلم بأن الإنسان كثير التلون قليل الثبات على حال واحد، وذلك أنه قل من الناس من تحدث له حال من أحوال الدنيا أو أمر من أمورها إلا ويحدث له خلق جديد وسجية أخرى، ويتغير خلقه مع إخوانه ويتلون مع أصدقائه، إلا إخوان الصفا الذين ليست صداقتهم خارجة من ذاتهم إنما هي قرابة رحم، ورحمهم ما من يعيش بعضهم ببعض ويرث بعضهم بعضًا، وذلك أنهم يرون ويعتقدون أنهم نفس واحدة في أجساد متفرقة، فكيفما تغيرت حال الأجساد بحقيقتها فالنفس لا تتغير ولا تتبدل).

ومن جميل ما قالوا.. ينطبق على واقعنا الآن: (واعلم أن في الناموس أقوامًا يتشبهون بأهل العلم ويدلسون بأهل الدين: لا الفلسفة يعرفونها، ولا الشريعة يحققونها، ويدعون مع هذا معرفة حقائق الأشياء، ويتعاطون النظر في خفيات الأمور الغامضة البعيدة، وهم لا يعرفون أنفسهم التي هي أقرب الأشياء إليهم، ولا يميزون الأمور الجلية ولا يتفكرون في الموجودات الظاهرة المدركة بالحواس المشهورة في العقول، ثم ينظرون في الظفرة والقلقة والجزء الذي لا يتجزأ، فاحذرهم يا أخي فإنهم الدجالون).

وتشمل النظر في مبادئ الموجودات وأصول الكائنات إلى نضد العالم فالهيولى والصورة وماهية الطبيعة والأرض والسماء ووجه الأرض وتغيراته، والكون والفساد والآثار العلوية والسماء والعالم وعلم النجوم وتكوين المعادن، وعلم النبات وأوصاف الحيوان ومسقط النطفة وكيفية رباط الناس بها، وتركيب الجسد والحاس والمحسوس والعقل والمعقول والصناعات العلمية والعملية، والعدد وخواصه والهندسة والموسيقى والمنطق وفروعه واختلاف الأخلاق وطبيعة العدد، وأن العالم إنسان كبير والإنسان عالم صغير (وهذه هي نظرية «هربرت سبنسر» في علم الاجتماع) والأكوار والأدوار وماهية العشق والبعث والنشور وأجناس الحركات والعلل والمعلولات والحدود والرسوم، وبالجملة فقد ضمنوها كل علم طبيعي أو رياضي أو فلسفي أو إلهي عقلي، توزعت على أربعة أقسام:

أربع عشرة رسالة رياضية تعليمية.

سبع عشرة رسالة جسمانية طبيعية.

عشر رسائل نفسانية عقلية.

و إحدى عشرة رسالة ناموسية آلهية.

ويتفق المؤرخون على أن أصحابها دونوها بعد البحث الدقيق والنظر الطويل، وفي جملة ذلك آراء لم يصل أهل هذا الزمان إلى أحسن منها، وفيها بحث مستفيض من قبيل نظرية النشوء والارتقاء.

الحقيقة الخفية

ما استعرضناه في هذه السلسلة التي تناولت (المعتزلة والقرامطة وأخوان الصفا) يوصلنا الى حقيقة خفية صادمة هي ان العقل الديني عبر تاريخ الأسلام حصر التفكير ضمن حدود الدين، واعتبر الفلسفة عدوة للدين وخطرة لأنها تحفز العقل على التفكير بما يدعو الى التغيير فيما الدين يعمد الى خلق مرجعيات تفكر بدلا عنه فتلغي بذلك عقله. وبسبب ذلك أصيب العقل العربي بالدوغماتية التي تعدّ من وجهة نظر علماء النفس والاجتماع السبب الرئيس للخلافات السياسية التي غالبا ما تنتهي بحروب، و(مرض) خالقي الازمات من القادة السياسيين، لأن الدوغماتيين يرفضون الافكار الجديدة مهما كانت قوة الادلة التي تسندها ويتشبثون بمعتقداتهم القديمة حتى ان ثبت خطؤها.. وهذا هو سبب تأخر بلدان العالم العربي مع ان بينها (مصر والعراق) كانوا اهل حضارات متعددة. والعلة في ذلك أن العقل السياسي في الأنظمة العربية وظّف الدين عبر تاريخ الأسلام لترويض وتخدير العقل الجمعي لبقاء الحاكم في السلطة حتى لو كان على شاكلة الخليفة الأموي الفاسق يزيد او نظيره الخليفة العباسي المعتمد على الله.. او على غرار حكّام أحزاب الأسلام السياسي في العالم العربي، الذين حكموا باسم الدين وأثبتت وقائع وأحداث الألفينات انهم افشل وافسد واقبح من عرفهم التاريخ!.

وتبقى المفارقة الأخيرة، هي ان الثلاثة: (المعتزلة والقرامطة وأخوان الصفا).. نشأت جميعها في البصرة، ووصلت أفكارها الى الكثير من بلدان العالم.. بلغاتهم!

***

ا. د. قاسم حسين صالح

 

الإعلام والتربية جناحا طائر لا تحلّق أمّة من الأمم إلّا بهما

"بفضل القوة الهائلة للتكنولوجيا الرقمية سقطت الحواجز الصمّاء التي كانت تفصل بين البشر، كالبعد الجغرافي واختلاف اللغات والافتقار المزمن للمعلومات، وتحررت القدرات الإبداعية الكامنة لبني البشر على شكل موجة هادرة جديدة تزداد قوّة من دون انقطاع. وأصبحت هذه القدرات الضخمة تحت تصرف كل البشر، وباتوا قادرين على تحريرها بلمسات أصابعهم "

تشارلز كيترينج

***

1- مقدّمة:

يكاد يكون هناك إجماع بين المفكّرين والباحثين على أنّ الإعلام بلغ ذروته في مجال التّحكّم والهيمنة على مختلف مظاهر الوجود الاجتماعيّ والثقافيّ للبشر في الحياة الإنسانيّة المعاصرة. لقد أصبحت وسائل الإعلام منظومة من الأدوات الّتي يتحقّق بها وجود الناس في أدقّ تفاصيل حياتهم وممارساتهم اليوميّة، إذ لا يمكن اليوم أن نتصوّر استقامة الحياة من غير وسائل الإعلام الإلكترونيّة الّتي نعتمد عليها في تواصلنا وتفاعلنا مع مختلف أوجه الوجود. ومن الواضح أيضاً أنّ هذه الوسائل تفرض نفسها بقوّة، فلا يستطيع الإنسان أن يعيش فصلاً واحداً من فصول حياته دون الاعتماد على وسائل الإعلام، بدءاً من المنزل ومروراً بالشارع ووصولاً إلى مكان العمل. ويمكن أن نسرد عدداً هائلاً من البرامج والوسائل الاتّصالية الّتي يستخدمها الفرد في حياته اليوميّة مثل: جهاز تحديد الاتّجاهات (GPS)، برامج المعلومات عن الطقس، الحسابات والعمليّات البنكيّة، شراء البطاقات، كلّ أشكال التسوّق، ومنها أيضا استخدام البرامج المكتبيّة، في المجالات كلّها من ألف الوجود العلميّ والوظيفيّ إلى يائه. ويمتدّ هذا ليشمل عدداً كبيراً من القضايا والحاجات مثل: استخدام مختلف وسائل التواصل الاجتماعيّ، الشّراء في الأسواق، واستخدام الأجهزة الإلكترونيّة في المطاعم والبارات والصالات. وهذا غيض من فيض الحضور الإعلاميّ في مجال الحياة. ومع هذه الصورة يبدو أنّ الفرد الّذي لا يتمكّن من استخدام هذه الوسائل وتوظيفها سيفقد القدرة الوظيفيّة على الحياة في العصر الحديث، وقد يكون قاصراً عن التكيّف، بل قد يحتاج إلى إعادة تأهيل ثقافيّ إعلاميّ لفترات زمنيّة تقصر أو تطول. فالميديا أصبحت أشبه بالأوكسجين الّذي يمنحنا القدرة على الاستمرار في الحياة([1]).

ومن البداهة بمكان القول إنّ التكنولوجيا الرقميّة أصبحت ضروريّة لأنّها تمكّننا من جعل الأشياء سهلة وممكنة بأقصى درجة من السرعة والفعاليّة. وهي تختصر الوقت وتكسر إرادة الزمان وتحتوي المكان، كي تجعل حياتنا أكثر جمالاً ومتعة واستقراراً وسهولة، وهي فوق ذلك كلّه تصنع ما كان يعتقد أنّه من ضروب المستحيل.

ومع أهمّيّة ما حقّقته وسائل الإعلام والاتّصال الرقميّة من تقدّم، أطلق عليه اسم الثورة التكنولوجيّة تارة وثورة المعلومات طوراً وثورة الميديا والرقميّة طوراً آخر، فإنّ هذه الميديا ما زالت تسحقنا بنوع من الثورة المتمرّدة المستمرّة في إحداث المعجزات الرقميّة والإلكترونيّة. لقد شهدت الإنسانيّة تطوّراً إعلاميّاً بدأ مع الكتاب والصحافة مروراً بالراديو والتلفزيون والحاسوب ثمّ الإنترنت فالثورة الرقميّة الّتي فرضت نفسها في مختلف وجوه الحياة في بداية القرن الحادي والعشرين.

ومن المذهل أنّ الثورة الرقميّة، بما تنطوي عليه من إمكانات الإبداع والنشر والتواصل الإلكترونيّ، فتحت الباب على مصراعيه لابتكار برمجيّات رقميّة هائلة ومتجدّدة في مختلف مجالات الحياة. فالأجواء الّتي فرضتها الهواتف الذكيّة المتنقّلة الّتي تسمح بالتواصل والتفاعل الحرّ مع الإنترنت في أيّ لحظة وفي أيّ مكان، عملت على تسريع الهيمنة الإعلاميّة في مختلف مجالات الحياة. ومن ثمّ، فإنّ هذا التطوّر الجديد والمستمرّ أدّى إلى حدوث انقلابات وتحوّلات هائلة في الحياة الإنسانيّة في مختلف المستويات الثقافيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة. وأدّى هذا كلّه إلى ثورة موازية في العقليّات والذهنيّات والفلسفات الإنسانيّة. وأصبح من المعروف اليوم أنّ الهواتف الذكيّة تملك تطبيقات لانهائيّة تفوق حدود التصوّر في شتّى مناحي الحياة والوجود: في مجالات المطاعم والسياحة والسفر والمصارف والوظائف والسفر، ويشمل ذلك كلّ ما يخطر على البال من حاجات ورغبات وتطلّعات إنسانيّة معاصرة، كما يشمل ذلك ميدان العلوم والمعرفة، ولاسيّما تعلّم اللغات الأجنبيّة واستخدامها في عمليّات التواصل ضمن برامج فائقة الذكاء.

ومع أهمّيّة ما تقدّمه وسائل الإعلام الرقميّة من فوائد وفضائل وإمكانات تُغني الحياة وتُيسّرها وتُثمر فيها، فإنّ الأمر لا يخلو من السلبيات الضخمة التي تمثّل نمطا جديدا من التحديات المصيرية في المجتمعات المعاصرة في مختلف أوجه الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية. وقد فرضت هذه التحدّيات الإعلاميّة مطالب ثقافيّة وحضاريّة جديدة تتمثّل في ضرورة توفير الكفاءة الإعلاميّة والوعي الإعلامي النقدي للمواطنين والأفراد في المجتمع، ولا ريب أن توفير الوعي النقدي بمخاطر الثورة الرقمية الإعلامية يشكل اليوم أحد أهمّ متطلّبات الحياة في القرن الحادي والعشرين. وهو ما يعني أنّ المجتمع الّذي يفتقر إلى الوعي الإعلامي النقدي المتقدم- بما ينطوي عليه هذا الوعي من خبرات ومهارات متقدمة في مجال الوظائف المعلنة والخفيّة للإعلام - سيكون حتما مجتمعاً منفتحاً على المخاطر الّتي تهدّد وجوده وكيانه، وبناء عليه فإنّ بناء الوعي الإعلاميّ النقدي المتقدم للفرد والمجتمع يشكّل صمام الأمان للحياة الثقافية وللتطوّر الاقتصاديّ والثقافيّ في المجتمع الحديث.

وتأسيساً على هذه الرؤية ندرك أن تطوّر وسائل الإعلام الحديثة والثورة الرقميّة المستمرّة يطرح تحدّيات كبيرة أمام الأنظمة التعليميّة في مختلف البلدان والقارّات. ومن المؤكّد أنّ الأطفال عندما يدخلون المدرسة للمرّة الأولى تكون لديهم بعض الخبرات والمعارف حول الميديا ووسائل الإعلام. ومع أهمّيّة ما يوجد لديهم فهم غالباً ما يواجهون بعض الصعوبات في التعامل مع الميديا، وهذه الصعوبات الّتي تشغلهم تتجلّى في صورة تساؤلات مقلقة وملحّة. وهنا تبرز أهمّيّة معالجة هذه الصعوبات ومقاربة هذه التساؤلات من أجل خفض مستويات التوتّر وتحقيق التوازن النفسيّ والمعرفيّ عند الأطفال من أجل سلامة نموّهم الشخصيّ.

بعد قضاء يوم مدرسيّ حافل يتواصل الطلبة في المنزل مع مختلف وسائل الإعلام لاستكشاف الموضوعات الّتي تطرح في الفصول والقاعات. ويعزّز مثل هذا الاستجواب المعرفيّ لتلك الوسائل مسيرة التعلّم والتدريب لدى الطلبة قبل عودتهم ثانية إلى المدرسة. ومن أجل مجاراة هذه الفعاليّة المعرفيّة الّتي يفرضها التواصل الإعلاميّ بصورة مستمرّة وجب على المدرسة أن تحقّق في ذاتها تحوّلات جذريّة في مناهجها ووسائل عملها ودور المعلّمين فيها، تحت تأثير الحضور الطّاغي لوسائل الإعلام في مختلف جوانب الحياة التربويّة. ولا ريب أن هذا التطوّر الجديد في علاقة الأطفال بوسائل الإعلام أحدث تغييراً عميقاً في دور المدرسة ووظيفتها ومنهجها وموقعها الاجتماعيّ.

وفي ضوء ما تقدّم، يبدو اليوم أنّه لا يمكن الفصل بين وسائل الإعلام الرقميّ الجديد ومكوّنات العمليّة التربويّة الّتي أصبحت برمّتها خاضعة لرهان الثورة الرقميّة، فقد أصبح الارتباط بين هذين الطرفين ضرورة حيويّة يفرضها منطلق التطوّر في العصر الرقميّ الّذي نعيش فيه. وهذا التواصل يفرض على المدرسة أن تعيد النظر في منهجيّات عملها وأن تُجريَ ثورة في قدرتها على استجواب فضاءات وسائل الإعلام فهماً ودراسةً ودرايةً، وذلك من أجل توظيفها بصورة أفضل في العمليّة التربويّة والاستفادة من مختلف المزايا المعرفيّة والعلميّة الّتي تختصّ بها على نحو متبصّر وحكيم. ولا ريب أن التربية الإعلامية تشكل المنهج الحضاري التي يمكن اعتماده في هذا الاستجواب النقدي لوظائف الثورة الرقمية في زمن الإعلام والاتصال الجديد، ومن غير شك فإن التّربية الإعلاميّة النقدية تشكل اليوم طاقة معرفيّة ومنهجاً تربويّاً متخصّصاً في تمكين الأطفال من الوعي النقديّ بوسائل الإعلام والسيطرة على عمليّة التفاعل معها بما يخدم عمليّة نموّ الطفولة وبناء الإنسانيّة في الإنسان.

2- الفضاء الافتراضيّ:

اتّسمت العلاقة بين التربية والإعلام تاريخيّاً بطابعها الإشكاليّ، فلطالما كانت وسائل الإعلام موضوعاً يثير الفوضى والضجيج والصخب، ويطلق كثيراً من المخاوف الاجتماعيّة والقلق. وينبئنا تاريخ وسائل الإعلام بأنّ كلّ ما يَظهر من الصخب والتوتّر والخوف والقلق الاجتماعيّ هو متلازم مع كلّ ظهور جديد لأيّ وسيلة إعلاميّة جديدة. وكانت البداية مع ظهور الصحافة ثمّ الراديو والتلفزيون وصولاً إلى الحاسوب والإنترنت والثورة الرقميّة. فكلّ إبداع جديد في مجال وسائل الإعلام كان يواجه موجة صادمة من الشكوك والرفض والانتقادات الّتي تقوم على أساس التأثير المتوقّع والمفترض لهذه الوسائل في عقول الأطفال والناشئة والشباب.

واليوم أصبحت وسائل الإعلام في تضافرها وتنوّعها وفي مختلف إبداعاتها فضاء يحتضن وجودنا الإنسانيّ، وغدت ضرورة حيويّة في مختلف أوجه التفاعل الإنسانيّ في شتّى المستويات الثقافيّة والعلميّة والمعرفيّة. وفي معترك هذا الحضور المكثّف والفاعل لوسائل الإعلام في حياة الأطفال والناشئة بدأت التربية الإعلاميّة تفرض نفسها متطلّباً وجوديّاً وجوهريّاً في مختلف جوانب الحياة التربويّة والاجتماعيّة. إذ لا بدّ لهذا الجموح الكبير في الثورات الرقميّة من أن يلجم عمليّاً عبر حالة من الوعي الّتي تشكّل ضرورة تربويّة لتمكين الأطفال والناشئة من مواجهة هذا "التسونامي" الإعلاميّ الرقميّ الهائل. وفي هذه الأجواء المتغيّرة للإعلام الجديد وتحدّياته المتنامية تأخذ التربية الإعلاميّة وظيفتها في تنظيم علاقة الأطفال به، إذ يجب عليها أن تعمل على تعزيز قدرتهم على التعامل مع المعطيات الجديدة فهماً واستيعاباً وممارسة، كما يجب عليها أن تؤهّلهم للمبادرة الإعلاميّة بصورة ذاتيّة حرّة تمكّنهم من الشعور بالاستقلال والمسؤوليّة بعيداً عن إملاءات الكبار وأوامرهم ونواهيهم.

فالتربية الإعلاميّة، كما يجب أن تكون، تقوم بتنمية روح الاستقلال وتأصيل القدرة النقديّة لدى الأطفال، وتعمل على تنمية مواهبهم ومشاعرهم وإمكاناتهم المعرفيّة ليكونوا قادرين على أداء أدوارهم بصورة إبداعيّة ونقديّة في مواجهة العالم الافتراضيّ الّذي يحتضنهم. وهي في سياق هذا الدور التربويّ تعمل جوهريّاً وبصورة طبيعيّة على بناء مواطنين أحرار قادرين على الفعل والممارسة الحرّة للوعي، في زمن تتغوّل فيه التكنولوجيا الإعلاميّة الرقميّة ويفرض العالم الافتراضيّ نفسه كإطار عامّ للوجود والحياة الإنسانيّة.

فنحن اليوم نعيش في فضاء رقميّ يتطلّب مهارات اتّصالية غير مسبوقة في التاريخ الإنسانيّ، إذ ينبغي على الأطفال والأفراد أيضاً الاندماج في تواصل افتراضيّ مع مختلف مظاهر الوجود والحياة الاجتماعيّة. ويتطلّب هذا الواقع الافتراضيّ تنمية القدرات والمهارات والكفاءات والخبرات والمعارف الّتي تمكّن الإنسان المعاصر من الاستمرار في الوجود والتّلاؤم مع معطيات التجديد وامتلاك القدرة على تنمية ذكائه وقدراته العقليّة النقديّة في عالم يتفتّق فيه الذكاء الرقميّ وتتفتّح معه العبقريّات الافتراضيّة لتتجلّى في صورة إبداعات تكنولوجيّة رقميّة ذكيّة قد تفوق الخيال الإنسانيّ المتقدّم في قدرته الإعجازيّة على توليد المعاني وتوليف الدلالات وإبداع الصور. إنّه ذكاء سيبرانيّ يفوق حدود التصوّر ويُلزم الفرد بأن يعمل بصورة مستمرّة على تنمية ذكائه لاستيعاب هذا الانفجار الرقميّ وتقبّل التكنولوجيا الذكيّة وتنظيم الحياة اليوميّة، من خلال الوعي بكلّ الاحتمالات الناجمة عن هذا التواصل في العالم الافتراضيّ.

فالإنسان المعاصر يعيش في فضاء إعلاميّ تنتظم فيه العلاقات الإنسانيّة ضمن شبكات إعلاميّة رقميّة واسعة تؤثّر في مختلف مظاهر الحياة الإنسانيّة، وتتيح للفرد المعاصر أن يعرف بلمح البصر كلّ ما يدور في هذا العالم من أخبار وأحداث ونزاعات وحروب في المستوى الاجتماعيّ والسياسيّ. والناس يعيشون اليوم في هذا العالم الافتراضيّ الّذي يتجلّى في مختلف أشكال وسائل الإعلام عبر عمليّات التفاعل المذهل مع الوسائط الرقميّة الحديثة في مجال الصورة والكلمة والطيف واللون والمؤثّرات الأخرى. ويشكّل هذا الفضاء المتزامن بأبعاده الثلاثيّة المادّيّة والإعلاميّة والافتراضيّة منصّة فعليّة لحياتنا اليوميّة، في مجال التربية والعمل والسياسة والثقافة كما في مجال العلاقات الاجتماعيّة الّتي ينتظم فيها الناس والأفراد. وفي هذا الفضاء الرقميّ الثلاثيّ المركّب المعقّد يجب علينا أن نعِيَ متطلّبات الوجود وأن نكون قادرين على توجيه أنفسنا والتكيّف بطريقة اجتماعيّة مفعمة بإحساس الحرّيّة والمسؤوليّة. ومن المؤكّد اليوم أنّ هذا التكيّف يتطلّب إحداث ثورة تربويّة إعلاميّة لمواجهة أبعاد الثورة الرقميّة ومعطياتها المعرفيّة في مختلف المؤسّسات التربويّة والاجتماعيّة القائمة.

3- في ماهيّة التربية الإعلاميّة:

تُعرّف التربية الإعلاميّة بأنها "القدرة على تمكين الأفراد من التواصل مع وسائل الإعلام وفهم مضامينها المختلفة وتقييمها على نحو نقديّ. ويشمل هذا التمكّن فهم واستيعاب مختلف مكوّنات الفضاء الإعلاميّ في مختلف تجلّياته المتمثّلة في التلفزيون والسينما والراديو والفيديو والمواقع الإلكترونيّة والإعلام المطبوع وألعاب الفيديو ومختلف جوانب البيئة الافتراضيّة الرقميّة، كما يشمل مختلف المضامين المعلوماتيّة الّتي تمثّل في النصوص والصور والصوت والرسائل الّتي تشكّل جانباً مهمّاً من جوانب الحياة الثقافيّة الإنسانيّة المعاصرة"([2]). ويمكننا تعريفها أيضاً بأنّها عمليّة تربويّة تهدف إلى تمكين الناشئة من التواصل العقلانيّ مع مختلف وسائل الإعلام، وتعزز قدرتهم على فهم الرسالة الإعلاميّة ووعي أبعادها، وتمكينهم من القدرة على تحليل مضامينها واستكشاف خفاياها على نحو نقديّ استبصاري بروح نقديّة. وبصيغة أخرى تعمل التربية الإعلامية على توليد حالة من التواصل النقديّ بين الناشئة ومختلف المضامين الإعلاميّة في مختلف وسائل الإعلام وإخضاعها للفحص النقديّ في مختلف الوضعيّات وتعاقب الحالات. وهي -وفقا لهذه الصورة – ليست مجرّد عمليّة تواصل مع وسائل الإعلام، بل سعي حثيث إلى تشكيل الوعي الاجتماعيّ النقديّ العامّ بدرجة كبيرة إزاء تلك الوسائل ومضامينها الثقافيّة الإعلاميّة المتاحة، مثل: الأفلام والنصوص والمواقع الإلكترونيّة والصور والفيديوهات وكلّ ما تتيحه الشبكة العنكبوتيّة من برمجيّات وأخبار وبروباغاندا (دعاية)([3]).

ويمكن القول إنّ التربية الإعلاميّة تأخذ صورة تربية نقديّة للمضامين الإعلاميّة من أيّ نوع كانت (مكتوبة، مقروءة، مصوّرة، متلفزة... إلخ)، وهي تهدف بصورة جوهريّة إلى تشكيل الوعي بالوظائف الأساسيّة لوسائل الإعلام بما تنطوي عليه هذه الوسائل من مضامين ودلالات، وذلك ضمن السياق الّذي تشكّلت فيه([4]). وفي نهاية المطاف يجب علينا أن نعلم بأنّ التربية الإعلاميّة تمارس دورها في التأهيل التربويّ النقديّ للمتعلمين الذي يمكّنهم من تطوير ذكائهم وتنمية حسّهم النقديّ وعقلنة تواصلهم اليوميّ المستمرّ مع وسائل الإعلام.

ومن المهم في هذا السياق أن نلاحظ أنّ مفهوم التربية الإعلاميّة يحمل تعقيداً في ثناياه وطبقات استخدامه، إذ يستخدم في آن واحد للدلالة على أمور متباينة ومختلفة. وهو ما يجعل من عمليّة تعريف التربية الإعلامية نفسها أمراً يتّصف بالصعوبة والتعقيد. ومع ذلك يمكن تحديدها مرة أخرى -كما ذكرنا آنفا – بأنها نوع من التأهيل التربويّ الّذي يوظّف في تشكيل الوعي التربويّ النقديّ لدى الأطفال والناشئة، ليمكّنهم من امتلاك مختلف المهارات الذكيّة في التعامل مع وسائل الإعلام، ومع مختلف البرامج والتطبيقات الهائلة الّتي نجدها في مختلف الوسائط الإلكترونيّة الذكيّة الّتي تتطلّب مهارات عالية المستوى في مستويات استخدامها وتوظيفها تربويّاً واجتماعيّاً. ومثل هذا التأهيل يفرض نفسه حتّى في أبسط الأشياء الّتي تقتضيها المهن، مثل معرفة التصوير وتغيير صوت الفيديو، وتأسيس موقع على الإنترنت أو تأسيس صفحة لشركة من الشركات، أو معرفة أصول اللعب على الإنترنت. وعلى مستوى الـتأهيل والإعداد، فإنّ التربية الإعلاميّة تواجه تحدّياً كبيراً في تحقيق نوع من التأهيل المستمرّ للأفراد والمتعلّمين في مختلف جوانب العمل الاجتماعيّ والمهنيّ، فالتطبيقات الهائلة الّتي تَطلّ علينا كلّ يوم بالجديد والمذهل تحتاج إلى مواكبة مستمرّة من قبل التربية الإعلاميّة، وهو ما يشكّل بذاته تحدّياً يفوق حدود الوصف. ففي كلّ يوم تولد عشرات التطبيقات الرقميّة في مختلف الميادين، وهذا يحتاج إلى طاقة تربويّة هائلة للإحاطة بكلّ المعرفة المطلوبة لتأهيل الشباب والناشئة على توظيفها واستخدامها.

4- ملامح ثوريّة في المفهوم:

يتضمّن مفهوم التربية الإعلاميّة نبتاً ثوريّاً في مختلف تجلّياته، إذ يقوم على تأصيل الروح النقديّة في نفوس الأطفال وعقول الشباب. ويتعارض هذا التأصيل النقديّ كلّيّاً مع المنظومات التربويّة القائمة على التلقين والطاعة والقبول وتغييب النقد. ومن جهة أخرى تنشد التربية الإعلاميّة توليد حالة الاستقلال في الفرد والحرّيّة في اتّخاذ القرارات بل تتطلّب مجموعة من الخصائص الثوريّة، مثل: الحرّيّة والنقد والاستقلال والقيمة الأخلاقيّة والمستقبل والوعي الموضوعيّ. وكلّ هذه الخصائص تشكّل ملامح ثورة حقيقيّة في مجال الحياة التربويّة التقليديّة الّتي ما زالت تقوم على الطاعة والانصياع وتقديس الماضي والانفصال عن الحياة والتلقين وتغييب المبادأة والمبادرة والإبداع في كثير من الأنظمة التربويّة القائمة في العالم المتخلّف. فالتربية التقليديّة هي عمليّة إنتاج وإعادة إنتاج ما هو قائم بصورته الجامدة الراكدة، وعلى خلاف ذلك فإنّ التربية الإعلاميّة تعني ثورة وتجديداً، وتقوم على استشراف المستقبل ونقد الحاضر والانطلاق في آفاق الإبداع والتجديد والابتكار، وامتلاك القدرات الهائلة على النقد والتفكيك والتحليل ما بعد المعرفيّ.

5- تربية من أجل المستقبل:

يقول آرثر كلارك في كتابه المعروف (لمحات عن المستقبل): "إنّ الأمر الوحيد الّذي نؤمن به حول المستقبل هو أنّه سيكون خياليّاً تماماً""([5]). ومن البداهة أنّنا نعيش اليوم في حقل وجودي تتعانق فيه الصورة مع الخيال، ثمّ يتّحدان بالإبداع الّذي يرسم المستقبل الّذي يشكّل نهضة الأمم وقوّتها، ويمثّل هذا التزاوج الخصب بين الصورة والمستقبل والإبداع سنداً متيناً تتمكّن به الأمم من كسر الجمود الساكن في التقاليد وهدم الأسوار التقليديّة والخروج إلى فضاء إنسانيّ أرحب([6]). وهنا تكمن التربية الإعلاميّة الّتي تربط بين ثلاثيّة التصوّر والإبداع للخروج من التقاليد إلى المستقبل. إنّها باختصار، أو بعبارة واحدة، تربية من أجل المستقبل وللمستقبل في أكثر مناحيه سموّاً وتعقيدا وإشكالا وتألّقاً.

وممّا أصبح اليوم سائغا القول بأنّ التربية الإعلاميّة تكرّس نفسها من أجل الإنسان وإنسانيته في المستقبل، كما بدا واضحا أن التربية الإعلامية الجديدة لا تقف عند حدود الوظيفة التقليديّة للتربية الّتي تقتصر على عمليّة توفير المعلومات وتأهيل الشباب مهنيا في مجال الإعلام فحسب، بل تعمل جوهريّاً على تطوير مهارات الاستقلال والقدرة الإبداعيّة لدى المتعلمين على حدّ سواء. فالإنسان، وفق هذه الرؤية، ليس مجرّد قوّة عمل فحسب، بل هو فوق ذلك كلّه قيمة إنسانيّة. ومن هنا يأتي التأكيد على أهمية التربية الإعلاميّة الجديدة ودورها في عمليّة النهوض بالجانب الإنسانيّ في الإنسان. ويتمثل دورها في إطلاق مهارات التفكير والتأمّل والنقد والتحليل لدى الناشئة بصورة عامّة، وفي العمل على تنمية الفضائل العقليّة والنقديّة لديهم، وهي الفضائل الّتي تمكّنهم من التّلاؤم مع عالم ممتلئ بتحدّيات الإبداع والتجدّد والصيرورة في عالم سمتُه التّغيّر والتّجديد. وهنا يجب على التربية الإعلاميّة أن تعمل بطاقة هائلة على تأهيل الناشئة وإكسابهم ما يُقدرهم على الاستمرار في عالم الإعلام الرهيب وفضاءاته الرحبة المترامية، وهو ما يقتضي بالضرورة أن تكون هذه التربية تربية مستقبليّة تقوم على سيناريوهات الإبداع والتجدّد والصيرورة ورسم الاحتمالات المستمرّة والتوقّعات المتفائلة في عالم متغيّر. وإذا كان المستقبل يأخذ صورة التغيّر والتجديد فإنّ واجبنا أن ننمّي في الناشئة حسّ المستقبل كإطار زمنيّ للتغيّر والتجديد والابتكار([7]).

6- الاستقلال الأخلاقيّ:

ولد مفهوم الاستقلال الأخلاقيّ (L’autonomie morale) في قلب عصر التنوير، وهو يشير إلى استقلاليّة الفرد في أن يحدّد مسار وجوده على نحو أخلاقيّ مستقلّ يجسد حقّ الإنسان في تقرير مصيره الأخلاقي الذاتيّ. ومنذ ذلك العهد وضمن السياق الديمقراطيّ الّذي عرفه الغرب وظّفت المدارس والمؤسّسات التعليميّة في عمليّة النهوض بالاستقلال الأخلاقيّ للأطفال. فالاستقلال الأخلاقيّ غالباً ما كان يشكّل مطلباً حيويّاً للأغلبيّة السياسيّة (الأحزاب الّتي تحكم). وبعبارة أخرى، فإنّ المدرسة وظّفت في عمليّة بناء القدرة على بناء الاستقلال في الرأي لدى الأطفال والدفاع عن القيم الأخلاقيّة في السياقات الثقافيّة والاجتماعيّة. ومن هذا المنطلق، تبرز أهمّيّة الاستقلال الأخلاقيّ والحاجةُ إلى أن تترسّخ معانيه في عقليّة الناشئة والأطفال. ويعني هذا في نهاية الأمر تمكين الفرد من التأمّل النقديّ والاستقلال في إصدار الأحكام والتعبير عن الرأي بحرّيّة واتّخاذ المواقف الأخلاقيّة في عالم يضجّ بالأحداث ويموج بالمتغيّرات ويفيض بالمؤثّرات والقوى الاجتماعيّة الفاعلة.

وباختصار، يشكّل الجانب الأخلاقيّ أحد أهمّ جوانب التربية الإعلاميّة التي تسعى إلى تأكيد الاستقلال الأخلاقيّ عند الأطفال، ونعني بذلك التربية التي تمكّن الأطفال من التعبير عن القيم الأخلاقية بصورة حرّة ومستقلّة. فالأخلاق الّتي تكرّسها ليست أنموذج القيمة الأخلاقيّة التقليديّة الّتي تمجّد المنظومات القيميّة التقليديّة، بل تولّد في نفوس الأطفال والناشئة هذه القدرة على إصدار الأحكام الأخلاقيّة على نحو حرّ ومستقلّ. وهنا يكمن أحد جوانب القيمة الثوريّة في التربية الإعلاميّة. فالطفل هو الّذي يقرّر ما هو أخلاقيّ بصورة حرّة، وهو الّذي يرفض أو يقبل دون تدخّل الكبار وبعيداً عن سطوة التقاليد.

7- بناء الهويّة:

تشكّل التربية الإعلاميّة منطلقاً تربويّاً جوهريّاً في عمليّة بناء الهويّة لدى الكائن الإنسانيّ، وهي في إطار هذا الدور الإنسانيّ تساعد الأطفال على معرفة هويّتهم وقيمهم الّتي يهتدون بها. فوسائل الإعلام هي فضاء يمكّن الأطفال الّذين يعيشون فيه من بناء هويّتهم، إذ تتيح لهم استخدام الصور للذكرى والاستماع إلى مقاطع الفيديو وتغيير صورهم وتسجيل ذكرياتهم، وكلّ هذه الفعاليّات تقودهم إلى التساؤل عن هويّتهم: من أنا؟ وماذا أحبّ أن أكون؟ وكيف يجب أن أكون؟ ويصحّ هذا الأمر على تحليل مختلف القضايا الّتي تتعلّق بالهويّة والوجود الإنسانيّ. فالتربية الإعلاميّة تمنح الطفل تجربة مهمّة وثمينة يمكنها أن تساعده على تشكيل هويّته وشخصيّته. لذلك، فإنّه لمن الضرورة بمكان أن يمتلك الطفل وعياً بحاجاته وميوله من أجل استخدام وسائل الإعلام بطريقة مناسبة وهادفة.

8- في مواجهة الخطر:

إذا كانت وسائل الإعلام تتضمّن عدداً كبيراً من المزايا والسمات الإيجابيّة وتوفّر لنا فضاء من المتعة وتلبّي لنا جانبا كبيرا من الحاجات الأساسيّة في المجال المهنيّ وفي مجالات الحياة، فإنّها في الوقت نفسه تحمل في طيّاتها كثيراً من السلبيّات والمآسي والمخاطر. ويتمثّل أحد وجوه الخطر الإعلاميّ في الاستهلاك المفرط لوسائل الإعلام. فالمضامين الإشكاليّة والبرامج الخياليّة وأساليب التلاعب الإعلاميّ والتشتيت وسوء استخدام البيانات والوجود المخيف للخداع والاحتيال الإعلاميّين والانتشار المكثّف للمضايقات والتحرّش الجنسيّ والابتزاز عبر الإنترنت وسرقة البيانات والتشهير الإعلاميّ والسرقات الماليّة عبر الحسابات والمصارف وجرائم الإنترنت بصفة عامة، كلّها مضامين إعلاميّة تشكّل خطراً كبيراً على حياة الأطفال والكبار النفسيّة والأخلاقيّة والإنسانيّة.

وهنا يبرز دور التربية الإعلاميّة الّتي تسعى إلى حماية الجميع من الخطر الإعلاميّ المُحدِق بهم عبر النهوض بالوعي الإعلاميّ لدى الأطفال والناشئة جميعاً، إذ تقدّم تلك التربية الوسائل الممكنة الّتي يعتمد عليها في مواجهة هذه المواقف والوضعيّات والمضامين وتجنّبها في الوقت ذاته. فالتربية الإعلاميّة تؤهّل الأطفال والناشئة معرفيّاً وعلميّاً لمواجهة الاستهلاك الإعلاميّ المفرط والتّحصّن من المحتويات الإشكاليّة في الرسائل الإعلاميّة، وحماية الأطفال من التلاعب بالبيانات وسوء استخدامها، كما تتيح معرفة كلّ أشكال الخدع والاحتيال الإعلاميّين، والتّصدّي لخطر التحرّش عبر الإنترنت.

وضمن هذه المواجهة المعرفيّة لأخطار الإعلام تطرح التربية الإعلاميّة عدداً كبيراً من المشاريع والرؤى والتصوّرات وتبثّ نمطاً متقدّماً من الوعي، وذلك من أجل توليد مناعة إعلاميّة ضدّ مختلف السلبيّات والأخطار والتحدّيات الّتي يواجهها الناشئة عبر الإعلام. وهي في الأحوال كلّها تقلّص نسب الخطر المحتمل إلى أدنى مستوياته. وباختصار تعمل التربية الإعلاميّة على تزويد الطلبة والناشئة بالمعلومات الضروريّة، وتقدّم حلولاً موضوعيّة لمختلف المشكلات من أجل خفض مستوى الخطر إلى أقصى حد ممكن، كما أنّها تطلق نوعاً من الحوار الأخلاقيّ حول هذه الجوانب السلبيّة وحول الكيفيّات الّتي يجب على الأفراد التعامل بها مع وسائل الإعلام المتاحة، ولا سيّما الإنترنت والهواتف الذكيّة. وقد بيّنت الدراسات والأبحاث في المجال الإعلاميّ أنّ تطوير الكفاءات والخبرات والمعارف الإعلاميّة عند الأطفال يساعدهم كثيراً على السيطرة، وبنجاح يفوق التوقّع، على مختلف التحدّيات الّتي تفرضها وسائل الإعلام.

9- فضاء التربية الإعلاميّة:

تشمل التربية الإعلاميّة فضاء واسعاً ومتنوّعا من القضايا والمشكلات والموضوعات. وفي كلّ الأحوال إذا كنّا نريد حقّاً العمل على تأهيل الأطفال وإعدادهم بطريقة فعّالة لمواجهة التحدّيات الإعلاميّة فإنّ علينا أن نستعرض جوانب متعدّدة في هذا الفضاء الإعلاميّ.

تحاور التربية الإعلاميّة عالم وسائل الإعلام وتستجوبه وتسائله وتخوض في قضاياه، وتعمل في الوقت ذاته على رسم العلاقة القائمة بين الأطفال والإعلام. كما تؤدّي دورها النقديّ في تحديد مختلف أوجه الممارسة التربويّة إزاء الإعلام وتحدّياته، ضمن محاولة لتقديم الإجابات الوافية عن مختلف أشكال الإعلام وتطوّراته والقضايا الّتي يطرحها مثل: ما هي وسائل الإعلام الجديدة؟ ما وظيفتها؟ ما الفضائل الّتي تمتلكها؟ ما الأخطار الّتي تنطوي عليها؟ كيف نستطيع استخدامها بطريقة مثلى؟ ومن أجل الإجابة عن هذه الأسئلة، فإنّ التربية الإعلاميّة - ضمن ممارستها النقديّة - تؤهّل الأطفال والناشئة للتّحلّي بروح نقديّة حرّة. ويشمل هذا تمكينهم من تقييم مختلف الإيجابيّات والسلبيّات الّتي تنطوي عليها الرسالة الإعلاميّة في مختلف وسائل الإعلام.

10- استجواب التفكير النقديّ:

تنهّج التربية الإعلاميّة نهجاً نقديّاً، بل قد يكون النقد هو السمة الرئيسة الّتي تميّزها، وهي كالحكمة الّتي عرّفها ابن رشد بأنّها "النظر في الأشياء بما تقتضيه طبيعة البرهان". فالتربية الإعلاميّة تتّسم بالطابع النقديّ في مختلف ممارساتها التربويّة، وتعمل على تأسيس وعي نقديّ بوسائل الإعلام. وضمن هذا التصوّر يجب على التربية الإعلاميّة أن تمارس وظيفتها النقديّة هذه من خلال تزويد الأطفال والناشئة بروح النّقد وآليّاته وتمكينهم من توظيف التّفكير النّقديّ في تناول مختلف أشكال وسائل الإعلام ومضامينها. فعلى سبيل المثال: من الّذي كتب النصّ الإعلاميّ (معلومات، نصوص، تعليمات، آراء، ترفيه)؟ ما الفوائد المرجوّة من نشرة إعلاميّة محدّدة؟ ما وظيفة النصّ الإعلاميّ؟ من المستفيد من هذه المضامين الإعلاميّة؟ إلى من توجّه هذه الرسالة الإعلاميّة؟ وما هي احتمالات التأثير الّتي ينطوي عليها هذا النصّ الإعلاميّ؟ ما الآثار الإيجابيّة والسلبيّة لهذا النصّ الإعلاميّ أو ذاك؟ ما المضامين الخفيّة في هذا النصّ الإعلاميّ؟ ما الأهداف الأيديولوجيّة الّتي تسعى إلى تحقيقها الرسالة الإعلاميّة؟

11- الإعلام- البعد الخامس:

في الوقت الّذي يجمع فيه المفكّرون والباحثون على أنّ الإعلام يشكّل البعد الرابع للدولة، فإنّ كثيراً منهم يعتبرون أنّ التربية الإعلاميّة هي البعد الخامس للدولة والمجتمع. فغالبا ما تحتاج الديمقراطيّة الحديثة إلى إعلام حرّ يمارس دوره النقديّ الفعّال إزاء السلطات التقليديّة الثلاث. ويُسهم هذا الأمر بقوّة في تشكيل الرأي العامّ الرشيد إزاء مختلف القضايا الاجتماعيّة والسياسيّة القائمة في المجتمع. وإذا كانت المضامين الإعلاميّة موغلة في الغموض وظلمة التخفّي الأيديولوجيّ، فإنّه من غير وجود التربية الإعلاميّة يصعب التعرّف على القيمة الفعليّة للحقائق الّتي تبثّها وسائل الإعلام، كما يصعب في الآن ذاته تشكيل رأي خاصّ حول مضامين الرسالة الإعلاميّة. وهنا يأتي دور التربية الإعلاميّة الّتي تمكّن الأجيال (من الصغار والكبار )من عمليّة تفكيك رموز وسائل الإعلام وتحليل مضامينها بطريقة فعّالة وذكيّة، وذلك عبر عمليّات النقد والتحليل والاستكشاف والاختبار. وهذا كلّه يتساوق مع عمليّة الكشف عن مضامينها الخفيّة وأبعادها الأيديولوجيّة. وهي بذلك تتيح للأطفال والناشئة القدرة على تشكيل آرائهم الخاصّة النقديّة المستقلّة في وسائل الإعلام المختلفة وفي مضامينها المتنوّعة. ومن هنا تأتي تسمية التربية الإعلاميّة بالبعد الخامس تعبيراً عن الدور الخطير الّذي تضطلع به في مجال الحياة الثقافيّة والإعلاميّة في المجتمع.

12- الحكم الأخلاقيّ:

يفرض التأمّل الأخلاقيّ نفسه ضرورة حيويّة في مجال استخدام وسائل الإعلام، وذلك بالنظر إلى تأثير الأفعال الإعلاميّة في الآخرين من زاوية أخلاقيّة. ويعني هذا أنّ الفرد يجب أن يكون قادراً على تقييم نتائج الأفعال والممارسات الإعلاميّة لحماية نفسه والآخرين، وهو ما يشكّل جانباً من الكفاءة الإعلاميّة الّتي توفّرها التربية الإعلاميّة. فالتفكير الأخلاقيّ في المضامين الإعلاميّة يسمح لنا – بصورة مستمرّة – بأن نطوّر القدرة على الاستقلال الأخلاقيّ ويمكّننا من توجيه الممارسة الإعلاميّة نحو مسارات إنسانيّة وأخلاقيّة أفضل من أجل العمل على اكتساب الفضائل الضروريّة ومن أجل السيطرة على التحدّيات الإعلاميّة المعاصرة ومواجهتها.

13- التقييم الحرّ للمضامين الإعلاميّة:

يعتقد غالباً أنّ وسائل الإعلام النقديّة الحرّة والمتطوّرة تكون ضروريّة وحيويّة في المجتمعات الديمقراطيّة الحديثة. فالإعلام الحرّ يوفّر منابر مهمّة لمناقشة الأسئلة الحيويّة في المجتمع، كما تتيح هذه الوسائل الإعلاميّة النقديّة هامش المناورة السياسيّة وطرح البدائل السياسيّة في المجتمع، وتمارس في الوقت ذاته تأثيراً يؤدّي إلى تشكيل الرّأي العام وصوغ معالمه. ويكون الإعلام كما هو معروف ضروريّاً من أجل الممارسة السياسيّة – أي الاتّصال السياسيّ وإضفاء المشروعيّة على القرارات السياسيّة- وهذا الأمر يفرض نفسه في المجال الاقتصاديّ والثقافيّ على حدّ سواء. فالإعلام هو في نهاية المطاف الأساس الّذي تَنطلق منه وتَستند إليه النظم الاجتماعيّة الفرعيّة من أجل تنظيم أنشطتها ووظائفها الحيويّة. ومن أجل المحافظة على الطابع النقديّ لوسائل الإعلام يبرز دور التربية الإعلاميّة في تقييم المضامين الإعلاميّة ونقدها وتوجيهها نحو المسالك الاجتماعيّة الديمقراطيّة. فالتربية الإعلاميّة تمكّن الناشئة من التأثير في وسائل الإعلام وتوجيه مساراتها نحو الأفضل، بما أتيح لهم أن يمتلكوه من قدرة نقديّة على فهم واستيعاب المضامين الإعلاميّة والنّفاذ إلى أبعادها الأيديولوجيّة.

14- إدراك لغة الإعلام وفهمها:

بقيت المدرسة خلال أكثر من قرن فعّالة في أداء مهمّتها الأساسيّة الّتي تتمثّل في تعليم القراءة والكتابة. وكانت هذه الوصاية المدرسيّة على نشر القراءة والكتابة ضروريّة في مجتمعات تقليديّة تعتمد على مجرّد الطباعة. لكنّ التطوّر الحديث أظهر أشكالاً جديدة - أكثر من أن يُحصى - من التعبير الّتي تميّزت بالقدرة الهائلة على المنافسة مثل الراديو والتلفزيون والصورة والأفلام والألعاب والمواقع الإلكترونيّة والهواتف الذكيّة. وهي أدوات ووسائل قويّة جبّارة تؤدّي دوراً بالغ الأهمّيّة والخطورة في مجتمعاتنا. وفي هذا المستوى من التطوّر الإعلاميّ، فإنّه ينبغي على التربية الإعلاميّة أن تحدث انقلاباً ثوريّاً وضروريّاً في مجال فهم وتفسير اللغة الإعلاميّة الجديدة الّتي تتمثّل في الصور والكلمات والأصوات والدلالات الخفيّة والمعاني. ويطلق عادة على مستخدم وسائل الإعلام تسمية "المستهلك" بصورة عامّة، ولكن هناك المستهلك الّذي يتحمّل مسؤوليّة فهم النصّ الإعلاميّ وتحليله، وهو المستهلك الّذي لا يكتفي بدور سلبيّ في تفاعله مع المحتوى الإعلاميّ. فمن أجل فهم نصّ إعلامي بصورة فعّالة وإيجابيّة يجب أن يترافق ذلك مع التّفكير النقديّ. وهنا أيضاً تكمن إحدى أهمّ الوظائف الأساسيّة للتربية الإعلاميّة الّتي تمكّن المتعلّمين والأطفال من فهم واستيعاب لغة الصورة والكلمة واللهجات الخفيّة الكامنة في مختلف حركات النصّ الإعلاميّ والكشف عن مخادعاته اللغويّة.

15- الاستخدام المستنير لوسائل الإعلام:

تكمن المهمّة الأساسيّة للتربية الإعلاميّة في تمكين الطفل من استخدام وسائل الإعلام في ضوء احتياجاته واهتماماته، وتمكّنه أيضاً من الملاءمة بين احتياجاته والمتطلّبات الاجتماعيّة. فالطفل، بمساعدة التربية الإعلاميّة، يصير قادرا على فهم الطريقة الّتي يختار بها النصّ الإعلاميّ أو الوسيلة الإعلاميّة المناسبة بعناية واهتمام، وذلك بالتزامن مع توخّي رؤية نقديّة للمضمون الكامن في الرسالة الإعلاميّة، هذا من جهة. ومن جهة ثانية يجب على التربية الإعلاميّة أن توضّح الكيفيّة الّتي يتمّ بها تشكيل الإنتاج الإعلاميّ والكيفيّة الّتي يتمّ بها توظيف الرسالة الإعلاميّة في عمليّة بثّ الأفكار من خلال علاقة التفاعل بين المرسل والمرسل إليه، وبين المنتج والمستهلك أيضاً. ويمكن تلخيص هذه المسألة بالقول: إنّ مهمّة التربية الإعلاميّة تأكيد أهمّيّة الممارسة الإعلاميّة عند الأطفال والناشئة، وذلك لأنّ الأمر يتعلّق بعمليّة تمكين التّلاميذ من حسن التّعامل مع التدفّق الكبير لوسائل الإعلام عبر عمليّة تعليم متواصلة ومستمرّة، يتمثّلون فيها معارف خاصّة ومميّزة حول مهارة التواصل الإعلاميّ وسبل التفاعل الخلّاق مع المضامين الإعلامية.

16- إسقاط الأوهام:

لا يعني التواصل مع وسائل الإعلام أنّ الفرد يستطيع بالضرورة فهم مضامين الرسالة الإعلاميّة، إذ غالباً ما تحمل المعلومات صبغة عاطفيّة وشحنة أيديولوجيّة تضعف قدرة العقل على اكتناه الرسالة الإعلاميّة على نحو نقديّ. وذلك لأنّ الجمهور الإعلاميّ يكون في أغلب الأحوال عاطفيّاً انفعاليّا نزّاعا إلى البحث عن إشباع عاطفيّ وانفعاليّ في المضامين الإعلاميّة. ويكمن الخطر الكبير غالباً في الاعتقاد أنّنا فهمنا الرسالة الإعلاميّة لأداة إعلاميّة ما دون أن يكون ذلك حقيقيّاً.

وغالباً ما يسقط الناس أفكارهم ومشاعرهم وقيمهم وأنماط تصوّراتهم الخاصّة على نحو لاشعوريّ على النصوص الإعلاميّة. وعندما نفهم المضامين الإعلاميّة بناء على الخلفيّات الفكريّة والذهنيّة الراسخة في أعماقنا، أي عندما ندرك النصّ الإعلاميّ على خلفيّة مشاعرنا ورغباتنا وأهوائنا، فإنّنا بذلك نشيد أوهاماً معرفيّة قائمة على المخادعة الذاتيّة. فعلى سبيل المثال تمثّل الشخصيّة الإعلاميّة ضمنَ أيّ فيلم أو عمل إعلاميّ بالنسبة إلى المشاهد نموذجاً قيميّاً يتعلّم منه كيفيّة بناء علاقاته في الحياة، وربّما تمنحه صورة خادعة عن طريقة الوصول إلى النجاح.

والمشكلة الكبرى أنّ المشاهد كثيرا ما يعتقد أن أيّ نصّ إعلامي ترفيهيّ لا يحمل في ذاته أكثر من الترفيه. ويضاف إلى ذلك أنّ العلاقات والشخصيّات والمفاهيم والتصوّرات الّتي نراها في مادّة إعلاميّة لا يمكن أن تكون إسقاطاً حقيقيّاً للواقع اليوميّ الّذي نعيش فيه. ومن هنا، فإنّ التربية الإعلاميّة تعمل على تمكين الأفراد من الوعي بالمظاهر الخادعة الّتي نستودع فيها أوهاماً ونبنيها في عقولنا، كما تدعو إلى الاعتماد على التحليل النقديّ للمضمون الإعلاميّ كي لا نقع في براثن التوهّم ونضيع في لجّة الأوهام الّتي يبثّها النصّ الإعلاميّ.

17- استجواب الشفّافيّة:

يزوّد الإعلام الناس بالمعلومات، وتلك هي إحدى أهمّ وظائفه. لكنّ المعلومات الّتي يبثّها الإعلام ليست صافية نقيّة، ولا تعبر دائماً عن الحقيقة كما تتمثّل وتتجلّى في الواقع. فكلّ نصّ إعلاميّ يتضمّن تحويراً وتعديلاً لحقيقة ما في الواقع، ويجري هذا التعديل عبر عمليّات متعدّدة أهمّها إضافات التفسير والتحليل الّتي نجدها مضمرة حيناً وصريحةً أحياناً أخرى في تلافيف الرسالة الإعلاميّة. ومع ذلك يجب أن نأخذ بعين الاعتبار التقارير الإعلاميّة الّتي تشكّل مصدراً للمعرفة، ولكنّ ذلك يجب أن يكون مترافقاً مع التحوّط والحذر الشّديدين لأنّ الحقيقة الإعلاميّة شديدة التعقيد غنيّة بالمضامين الأيديولوجيّة، وهي أكثر تعقيداً ممّا يعلن عنه في وسائل الإعلام ذاتها.

ويمكن في هذا السياق استعراض تحليل كريستيان دولكر (Christian Doelker) الّذي قدّم لنا نموذجاً ثلاثيّ الأبعاد حول تطوّر الرسالة الإعلاميّة في ثلاث مراحل:

المرحلة الأولى: تكون فيها الحقيقة أوّليّة فيزيائيّة ماثلة في الواقع العيانيّ دون تمثّلات إعلاميّة، وهي الحقيقة الّتي يمكن إدراكها بسهولة ويسر، ومن النادر أن نرى الحقائق الإعلاميّة كما تتبدّى في صورتها الأولى القائمة في الطبيعة أو في الواقع.

المرحلة الثانية: وتتمثّل في رصد الحقيقة إعلاميّاً، أي عندما يجري نقل صورة الحقيقة من الواقع الحيّ عبر وسائط الإعلام، كما يجري في التقارير الصحفيّة والتلفزيونيّة. والصورة الإعلاميّة للحقيقة لا تطابق صورة الحقيقة الأصليّة، لأنّ الحقيقة تكون قد تغيّرت على إيقاعات التصوير الإعلاميّ الّذي لا يمكنه نقل الصورة كما تتجلّى في الواقع تماماً. فالتقارير والصور والتفسيرات غالباً ما تضفي على الوقائع سمتها الإعلاميّة الّتي قد تكون مدبّرة ومتحيّزة وتهدف إلى التأثير في الجمهور الإعلاميّ بالدرجة الأولى. ويعني هذا وجود اختلاف كبير بين المرحلة الأولى (الحقيقة في صورتها الواقعيّة) والمرحلة الثانية الّتي تمثّل الحقيقة الإعلاميّة كصورة معدّلة عن الواقع.

المرحلة الثالثة: عندما نتلقّى الصورة الإعلاميّة للحقيقة في المرحلة الثانية فإنّنا لا نتمثّل الحقيقة بصورة مطابقة للصورة الإعلاميّة، فنحن في تمثّلنا للحقيقة الإعلاميّة – لحدث إعلاميّ أو صورة أو تقرير – غالباً ما نعيد صوغ الحقيقة الإعلاميّة عبر مشاعرنا وأفكارنا وخلفيّاتنا الثقافيّة. وعلى هذا النحو تكتسب الحقيقة وجهاً آخر ونكهة شخصيّة أخرى يُضفيهما الفرد على الصورة الإعلاميّة نفسها.

وفي هذا المستوى من التحليل يكمن دور التربية الإعلاميّة، إذ تقوم باستكشاف بعد رابع للحقيقة، وهي الحقيقة النقديّة للصورة الإعلاميّة، أي: الحقيقة الّتي تتشكّل بعد إخضاع الصورة الإعلاميّة للنقد والمساءلة. فالنقد التربوي للصورة الإعلامية أمر جوهريّ تحثّ عليه وتجسّمه التربية الإعلاميّة، إذ تعمل على المقاربة النقديّة لصورة الحقيقة الإعلاميّة في مستوييها الثاني والثالث وتقارنها مع التجلّيات الواقعيّة للحقيقة في صورتها الأولى الخامّ قبل التعديل.

وبوضوح أكبر تعمل التربية الإعلاميّة في ممارستها النقديّة على تحرير الحقيقة من الإضافات الإعلاميّة من جهة، ومن الإضافات الّتي يضفيها الفرد على هذه الصورة من جهة أخرى، أي تحاول التربية الإعلاميّة استجلاء الصورة كما تبدّت في المرحلة الأولى دون تغيير ولا تبديل. ويعني هذا أنّ التربية الإعلاميّة تريد استجلاء الصورة الأولى للحقيقة بعيداً عن التزييف والأوهام الّتي أسبغت عليها من قبل المنتج والمتلقّي في آن واحد. والأمر المهمّ الّذي يجب أن نأخذه في الحسبان هو أنّ النقد الإعلاميّ للتربية الإعلاميّة يريد استكشاف الحقيقة كما هي دون أيّة إضافات، وفوق ذلك كلّه يريد الكشف عن الملابسات كلها الّتي أحيطت بالحقيقة الواقعيّة مهما كان مصدرها.

ويمكن أن نسرد هذا المثال التوضيحيّ للمراحل الثلاث:

يتحدث أحد التقارير عن اللاجئين الّذين يأخذون القوارب في عمليّة لجوئهم (المرحلة الثانية: الحقيقة الإعلاميّة)، ومع ذلك لا يمكن لأيّ تقرير أن يصف الحالة الحقيقيّة الّتي يرويها لاجئ، والّتي تتعلّق بمشاعره وآلامه ومعاناته (المرحلة الأولى كما تتجلّى في الواقع). وتشمل عمليّة تفاعلنا مع التقرير، وفهمنا إيّاه ضمن منظومة رؤيتنا وتصوّراتنا وتجاربنا (المرحلة الثالثة). وفي كلّ مرحلة يمكن أن نجد تبايناً كبيراً ما بين الحالة الأوّليّة والحالة الإعلاميّة مقارنة أيضاً بالفهم الّذي يضفيه المتلقّي على الصورة الإعلاميّة. أمّا الحقيقة النقديّة الإعلاميّة، فتحاول قدر الإمكان تجريد الحقيقة من الإضافات الإعلاميّة، ومن الإسقاطات الانفعاليّة الّتي يضفيها متلقّي التقرير على هذه الحقيقة. ومهما يكن الأمر، فإنّه يستحيل أحياناً بل في غالب الأحيان أن نقدّم حقيقة صافية خالصة تمثّل فعليّاً صورتها الأوّليّة كما تجلّت في الواقع.

18- التربية الإعلاميّة خارج المدرسة:

يشكّل التّعليم، كما بيّنّا سابقاً، مهمّة المدرسة الّتي تبثّ في ذات الوقت وعياً إعلاميّاً ضروريّاً للحياة اليوميّة. والتربية الإعلاميّة كما أوضحنا تعتبر عنصراً حيويّاً في مواجهة تحدّيات العصر الإعلاميّة. وتقوم المدرسة في هذا الاتّجاه بمهمّة تعليم الأطفال وتثقيفهم وفقاً لتقسيماتهم العمريّة، ووفقاً لمجموعات من الصفوف التقليديّة، وهي تعتمد في مهمّتها هذه على مناهج علميّة فعّالة وموثوقة ومُجرَّبة، وضمن هذه الرّوح تقوم المدرسة بعمليّة التعليم والتربية المستمرّة من أجل تأهيل الأطفال والناشئة إعلاميّاً وتمكينهم من التواصل الإعلاميّ على نحو نقديّ وفعّال.

ولا يخفى على أحد أنّ الإعلام يحتلّ مركز الأهمّيّة في حياة الأطفال والشباب على نحو خاصّ. وهنا تبرز متطلّبات تربويّة جديدة يجب أن يستوفيها المعلّمون كما هو الحال بالنسبة إلى أولياء الأمور المعنيّين بالتربية أيضاً. ومن أجل تحقيق غايات التربية الإعلاميّة المستمرّة يجب على الآباء والمعلّمين والمسؤولين المحلّيّين أن يتمثّلوا دورهم الحيويّ في توعية الناس والناشئة بطبيعة الرسالة الإعلاميّة وتجنّب مخاطرها، وهذا العمل بين الجميع يجب أن يكون متكاملاً ومتضافراً بصورة مستمرّة.

وتقع المسؤوليّة الأكبر على عاتق الآباء والأمّهات في حماية أطفالهم من تغوّل وسائل الإعلام وفي تحصينهم من مخاطرها. ومن المعروف أنّ الآباء يمتلكون تأثيراً كبيراً في حياة الأطفال ولاسيّما في تشكيل عاداتهم الإعلاميّة، ونعني بذلك طريقة تفاعلهم مع وسائل الإعلام وتواصلهم مع الأدوات الإعلاميّة الذكيّة. فالآباء يمثّلون القدوة الحسنة لأبنائهم، لذلك يمكنهم أن يُعْطُوا نموذجاً تربويّاً في مجال التواصل مع الإعلام، وفي كلّ ما يتعلّق بمختلف أوجه النشاط الإعلاميّ، ولا سيّما اختيار المادّة الإعلاميّة، وطريقة التفاعل معها على نحو نقدي. فالتربية الإعلاميّة في المنزل، وفي الإطار العائليّ، هي شأن تربويّ بالدرجة الأولى، وهو ما يعني أنّ الآباء والأمّهات يمكنهم أن يؤدّوا دوراً محوريّا في تشكيل الوعي الإعلاميّ لأبنائهم، فيمكنهم مشاركة الأطفال في استكشاف الإعلام والتواصل مع المادّة الإعلاميّة على نحو آمن وعقلانيّ في مجال حياتهم اليوميّة.

والعمل الإعلاميّ خارج المدرسة واسع الانتشار في بعض البلدان الغربيّة. فالبيئات المنفتحة تشكّل مكاناً مثاليّاً للترفيه والتعلّم غير الرسميّ، فتكون القيود أقلّ صرامة، وتوفّر حرّيّة أكبر، ومجالاً للمناورة أوسع من البيئة المدرسيّة. ومن فضائل الفضاء المفتوح خارج المدرسة غياب النمطيّة المدرسيّة الّتي تعتمد على التحكّم والتقييم، ومن هنا يكتسب التعليم خارج المدرسة قوّة هائلة في تعزيز وعي الناشئة وتمكينهم من استيعاب الواقع الّذي يعيشون فيه. ومن المؤكّد أنّ المدرسة تكون حالة مؤقّتة عابرة في حياة الناس. ويبقى الأهمّ، وهو التعليم المستمرّ طوال الحياة، ولا سيّما في المجال الإعلاميّ، وعلى امتداد الزمن، إذ سيكون للتعلّم والاكتساب في مجال الإعلام أهمّيّة كبيرة مستمرّة في حياة الناس، بتعاقب الأجيال. ومن الأهمّيّة بمكان توفير هذا التعليم الإعلاميّ لجميع الفئات العمريّة، مع توفير فرص متكافئة في التفاعل مع وسائل الإعلام واستخدامها بطريقة مستنيرة في الحياة المهنيّة والخاصّة.

19- الجِدّة والتجديد:

فرضت وسائل الإعلام حضورها الهائل في كلّ ركن من أركان الحياة التربويّة في المدرسة. وأصبحت المدرسة تفيض بوسائل الإعلام الّتي تبدأ من الصورة إلى الألعاب الإلكترونيّة، مروراً بالفيديو والكاميرا والحاسوب، وأدوات العرض والمسرح والسينما. وتوظّف وسائل الإعلام هذه عمليّاً في عمليّة التعلّم والتعليم في الفضاء المدرسيّ بصورة فعّالة، وقد أصبحت جزءاً لا يتجزّأ من الحياة المدرسيّة.

ومع ذلك يجب علينا أن نأخذ بعين الاعتبار أنّ توظيف هذه الوسائل في التعليم المدرسيّ لم يكن ناجحاً دائماً، وقد أصيب بانتكاسات وإخفاقات لم تكن متوقّعة البتّة. ويعني ذلك أنّ وسائل الإعلام هذه لا يمكنها أن تكون فعّالة بذاتها، فالمعلّم هو الّذي يختار الوسيلة الّتي يعتمدها في عمليّة التعليم، وهو من يوظّفها في سياق تربويّ محدّد. ومن ثمّ فإنّ النجاح الّذي يمكن أن يتحقّق من استخدام الوسائل يعتمد على السياق العامّ الّذي توظّف فيه والكيفيّة الّتي تعتمد في عمليّة التعليم. وفي هذا المستوى يمكن أن نطرح أسئلة عديدة: ما وسيلة الإعلام الّتي تعتمد في التعليم؟ وفي أيّ شروط تربويّة تُسْتَخْدَم؟ وما هي طبيعة الاستخدام؟ وما مدى تأهيل المعلّم تربويّاً وإعلاميّاً؟ وما طبيعة المادّة العلميّة الّتي تُدَرَّس؟ وما مدى تأهيل الطلبة أنفسهم في مجال استخدام التكنولوجيا والوسائل الإعلاميّة؟ في ضوء هذه المعطيات يمكن أن نتحدّث عن نجاح العمليّة التربويّة في توظيف الإعلام أو عن فشلها.

ويمكن لوسائل الإعلام أن توظّف بطريق مختلفة ومتنوّعة في المجال المدرسيّ، كما يمكنها أن تساعد على تجديد أشكال التدريس، وأن تساعد على ترسيخ فرص التعلّم الذاتيّ الموجّه. ويحفّز هذا بدوره الطلبة على المشاركة، كما يسهّل تقويض الهياكل التقليديّة والمقاربات الجامدة في مستويات التفاعل التربويّ الموروث الّذي يتميّز بالتقادم والسّكون والتصلّب. فاستخدام وسائل الإعلام بطريقة عقلانيّة ومستنيرة في التعليم يتيح فرصاً جديدة وإمكانات رحبة للتعلّم الجيّد والعمل وتحقيق التعاون والتوازن التربويّ بين الطلبة ومختلف مكوّنات السياق العامّ للعمليّة التربويّة. ويمكّن هذا بدوره الطلبة من التّلاؤم بسرعة مع متطلّبات الحياة العمليّة، ومع مقتضيات التفاعل مع الواقع الإعلاميّ السائد في الحياة وفي المجتمع. كما تتيح وسائل الإعلام المتوفّرة في المدرسة فرص التواصل بطريقة عقلانيّة وهادفة بين الطلبة أنفسهم من جهة وبينهم وبينها من جهة أخرى، دون مغبّات الإجهاد الكبير الّذي يكابدونه في التعليم التقليديّ، وهم في ذلك كلّه يستفيدون من معرفتهم السابقة، ومن التجارب الّتي أجروها في الماضي القريب. وفي النهاية يمكن القول إنّ هذا النمط من التعليم يساعد الطلبة على اكتساب المهارات الحقيقيّة على نحو ثوريّ في مجال التواصل مع الإعلام تعلّماً وفهماً ونقداً لصيروراته ضمن دائرة التوظيف الأمثل لإمكاناته في مجالي التعليم والتعلّم.

فالتربية الإعلاميّة تمهّد لفضاء تربويّ جديد يعطي المتعلّمين فرص تعلّم مبتكر خارج النمطيّة المعهودة وفقا للنقاط التالية:

1- تمكّن وسائل الإعلام المتعلمين من التعرّف على الوثائق التاريخيّة الأصليّة (الصور، التسجيلات الصوتيّة، مستخلصات من البرامج التلفزيونيّة، إلخ).

2- توفّر فرصاً جديدة للتعلّم الشخصيّ المتخصّص، بالإضافة إلى التعلّم التعاونيّ بغضّ النظر عن الزمان والمكان.

3- يعزّز الفضاء الترفيهيّ للإعلام التعلّم الذاتيّ والتعلّم في مناخ تعاونيّ.

4 – يمكّن للمضامين الإعلاميّة، مثل الأفلام الوثائقيّة الّتي تعرض في الفصل، أن تمثّل منطلقاً تربويّاً محفّزاً للمناقشة والحوار والعصف الذهنيّ، وأن ترسّخ القدرة على عمليّة التّعلّم بنكهة نقديّة تولّد نوعاً من الضبط والتحكّم في المعرفة.

5- تمثّل الأفلام طريقة رائعة للتعامل مع موضوع ما. فالأفلام تناشد العواطف، وتسمح للفرد بأن يضع نفسه في مكان الآخرين للتعرّف على مواقفهم ومشكلاتهم، كما أنّها تسهّل مناقشة موضوعات معيّنة (مثل التحرّش الإلكترونيّ، والتحرّش الجنسيّ، والعنف، وعمليّات الابتزاز والتهديد عبر الإنترنت) إذ يدور الحوار حول شخصيّات الفيلم وما تبديه هذه الشخصيّات من عواطف وانفعالات.

6- إنّ إنتاج نصّ إعلاميّ (على سبيل المثال: مقابلة صوتيّة، تصوير فيديو، وعرض باوربوينت PowerPoint ) هو نشاط يشجّع الطالب على الاهتمام بقضيّة علميّة قد تكون شخصيّة علميّة أو منطقة أو قرية وما إلى ذلك. وهذا يمكّنه في جوهر الأمر من تفهّم الموضوع الّذي يدرسه بعمق ودراية ومن تقديم رؤية قد تكون مبتكرة حول الموضوع.

7- إنّ العمل على منتج إعلاميّ جيّد يحمل في ذاته خصائص نوعيّة يمكنه أن يعزّز التعلّم الفعّال: مثل تعديل نصّ وصقله على نحو مناسب ليقدّم إلى جمهور حقيقيّ، أو كتابة أفضل المقتطفات وأجملها من المقابلة. وهذه كلّها تمثّل في حقيقة الأمر تجارب تربويّة إعلاميّة مجزية وفعّالة في تعزيز مسيرة الطالب العلميّة.

ويمكن القول أخيرا إنّ الطلبة عندما يقدّمون إنتاجاً إعلاميّاً خاصّاً مثل: فيلم قصير، رسم كاريكاتوريّ، مسرحيّة إذاعيّة، رواية مصوّرة، فإنّهم في الوقت ذاته – من خلال عمليّة الإنتاج الّتي ينجزونها – يدرسون أيضاً طريقة الإنتاج وصيغ الإبداع والكيفيّات الّتي يتمّ بها توظيف وسائل الإعلام. كما يمكن للمشاريع الإعلاميّة الّتي ينفذها الطالب أن تساعده في تطوّير قدرته على التخطيط للعمل على المدى الطويل، كما يمكنها أيضا أن تساعده على تنسيق المهامّ المختلفة ضمن مجموعات ووضع أهداف مشتركة، وتمكنه أيضا من التغلّب على الصعوبات وملء الفجوات. ومن شأن هذا كلّه أن يشجّع الطلبة على إيجاد حلول مناسبة للمشكلات الّتي تواجههم، وأن يتيح لهم العمل معاً في سياق تعاونيّ. ويساعدهم هذا أيضاً بوضوح على اكتشاف قدراتهم الماثلة في شخصيّاتهم وشخصيّات الآخرين.

20 - خاتمة:

تمارس التربية الإعلاميّة نسقاً متكاملاً من الفعاليّات الذهنيّة الثوريّة لدى الأطفال والناشئة، وتدور معظم فعاليّات هذه التربية حول قيم النقد والاستقلال والحرّيّة والذكاء ما بعد المعرفيّ في التحليل، إضافة إلى الكشف والاستنباط والاستدلال. وتُعتَبر التربية الإعلاميّة في ذاتها ثورة موازية للثورة الرقميّة، أو لِنَقُلْ بأنّ العصر الرقميّ يتطلّب بالضرورة تربية ثوريّة رقميّة تستجيب لمقتضيات هذا العصر وإيقاعه ومسارات احتياجاته. ومن الواضح أنّ التربية الإعلاميّة هي في حقيقتها منهجيّة ثوريّة في التفكير، وفي الممارسة، فعندما يمتلك الطفل المهارات النقديّة الّتي تكرّسها التربية الإعلاميّة، فإنّ أثر هذه المهارات سيعمّم ليشمل مختلف أنشطة الفرد داخل المدرسة، وخارجها، وحينئذ سيصبح العالم بكلّ ما فيه تحت سيطرة النقد والكشف والتحليل، كما سيصبح مادّة يصدر فيها الطفل أحكامه الأخلاقيّة المستقلّة والحرّة. وهو ما يعني أنّ هذا النمط من التربية عندما يعمّ في المدارس، ويكتمل ستسقط كلّ الركائز المتصلّبة للتعليم التقليديّ الأصمّ، فينهار هذا الصّرح العتيق البالي ليحلّ مكانه نظام فكريّ نقديّ تنويريّ يساعد على تحقيق النهضة الحضاريّة للأمّة والمجتمع ([8]).

ففي السنوات الأخيرة ازدادت أهمّيّة تكنولوجيا المعلوماتيّة لأنّها أصبحت القوّة الدّافعة لتطوّر وسائل الإعلام، إذ تشكّل هذه التكنولوجيا البنية التحتيّة لتطوّر الحضارة الإنسانيّة. وهذا يقودنا إلى التأكيد على الأهمّيّة القصوى للمهارات المتعلّقة بالحاسوب والوسائل الذكيّة لفهم وسائل الإعلام في طرائق تفاعلها، وفي مستويات تطوّرها وآليّات توظيفها. فالشخص الّذي يعرف كيفيّة عمل الخوارزميّة، أو هذا الّذي يضع برنامجاً إلكترونياً من تصميمه أو يبرع في إدارة موقع إلكترونيّ، هو وأمثاله سيكونون من بين القادرين على تقييم إمكانات الوسائط الإعلاميّة وفهمها على نحو أفضل، وهذا يؤهّلهم للاندماج الفائق في العصر الرقميّ بفضاءاته السيبرانيّة.

وتأسيساً على هذه الرؤية لأهمّيّة المعلوماتيّة في المجال الإعلاميّ، وجب علينا القول إنّ علوم الحاسوب تشكّل حاليّاً جزءاً لا يتجزّأ من عمليّة التربية الإعلاميّة. فهذه العلوم تتدخّل وتؤثّر في مختلف أنحاء الوجود والحياة الإنسانيّة المعاصرة، وهي العلوم الّتي تمكّن الإنسانيّة من تحقيق التقدّم التكنولوجيّ والعلميّ في شتّى المجالات العلميّة والحياتيّة. ومن المتوقّع اليوم أن تقوم تكنولوجيا المعلومات والاتّصال بإيجاد حلول علميّة وعمليّة لمختلف المشكلات والتحدّيات الّتي تواجه المجتمع الإنسانيّ. ويضاف إلى ذلك كلّه أنّ المعلوماتيّة ستحدّد هامش المناورة في مجال العمل البشريّ: ما هو مبرمج وما يمكن برمجته، ما هو ممكن وما هو غير ممكن. ويعني هذا أنّ تأثير المعلوماتيّة يتجاوز اليوم حدود التقانة الّتي عرفناها، إذ سيكون لها الدور الحاسم في عمليّة تحديد الخيارات الوجوديّة في المجتمع في المستويين الفرديّ والجماعيّ. ومن هنا يجب على التربية الإعلاميّة أن تضع المعلوماتيّة في طليعة أولويّاتها. ويتطلّب هذا كلّه تنمية الوعي النقديّ والمعرفة العقلانيّة بلا حدود والتأصيل الحرّ للاستقلاليّة الأخلاقيّة.

لقد حان الوقت مع إطلالة الثورة الصناعيّة الرابعة لكي نهجر صندوق الممنوعات والمحظورات الكلاسيكيّة في التربية الموروثة، مثل: الواجبات المدرسيّة، والواجبات المسائيّة، والدروس الاستظهاريّة، والمناقشة المعهودة المحفوظة في المناخ المدرسيّ وكلاسيكيّاته المملّة، وأن ننتقل إلى أجواء رقميّة جديدة تعتمد النقد والتحليل الثاقب والحفر المعرفيّ فيما وراء الظواهر الإعلاميّة. ففي كلّ مكان اليوم من جنوب العالم إلى شماله، ومن شرقه إلى غربه، نجد أنّ المؤسّسات الصناعيّة، والشركات، ومراكز البحوث العامّة، ومؤسّسات التعليم الخاصّ تتبنّى أنظمة تربويّة جديدة تناسب معطيات الثورة الرقميّة في برامجها مثل: تكنولوجيّات النانو (Nanotechnologies)، والتكنولوجيا الحيويّة (Biotechnologies)، والطاقة الخضراء (Énergie verte) وأبحاث الفضاء (Recherche spatiale)، والطباعة الثلاثيّة الأبعاد (Triple impression)، وصناعة الروبوتات الفائقة الذكاء (Cyberobots). وتمثّل هذه الاهتمامات ثورة حقيقيّة في الحياة، وفي التعليم على حدّ سواء. فالشخص الّذي يعرف منطق اشتغال المجال المعلوماتيّ المتمثّل في التفكير القائم على الحوسبة (Computational Thinking) يدرك في حقيقة الأمر الوظائف الحيويّة في مختلف مجالات الحياة الإنسانيّة المعاصرة. ومن هنا فإنّ دمج المعلوماتيّة في التربية الإعلاميّة يصبح ضرورة تقتضيها الحياة الحديثة المعاصرة.

وباختصار يمكن القول بأنّ التربية الإعلاميّة تشكّل اليوم مدخلا لثورة عميقة وشاملة في طرق التفكير والنظر لدى الأجيال الجديدة الشابّة. ومن غير التربية الإعلاميّة الثوريّة يصعب على هذه الأجيال الاندماج في العصر الرقميّ على نحو إبداعيّ، لأنّ هذه التربية تؤهّلهم للسير قُدُماً في معالم ثورة رقميّة جبّارة عرفنا بداياتها، لكنّنا لن نعرف أبداً متى تتوقّف انفجاراتها العارمة.

***

د. علي أسعد وطفة

جامعة الكويت – كلية التربية

..........................................

مراجع الدراسة وهوامشها:

([1])- Thomas Merz et Mareike Düssel, L’éducation aux medias à l’ère numérique. Hasler Stiftung, Cahiers- Juillet 2014.

([2])- Conseil supérieur de l’éducation aux médias, Déclaration de Bruxelles pour une Éducation aux Médias tout au long de la vie, 2011. (Définition extraite de l’index de la Commission européenne qui présente des informations spécifiques à la politique audiovisuelle).

([3])- Conseil supérieur de l’éducation aux médias, Ibid.

([4])- Jacques Gonnet, Éducation et médias, collection Que sais- je ?, 1997.

([5])- ضمن: أدريان بيري، الخمسمائة عام القادمة، ترجمة عثمان عبد الرحيم، أبو ظبي: المجمع الثقافي، 2000، ص 13.

([6])- انظر: آلفين توفلر، صدمة المستقبل: المتغيرات في عالم الغد، ترجمة محمّد علي ناصيف، ط2، الجمعية المصرية لنشر المعرفة والثقافة العالمية، القاهرة، 1990.

([7])- شاكر عبد الحميد، عصر الصورة، عالم المعرفة، الكويت: يناير، 2005، ص 8.

([8])- ParisTech Review, Une révolte? Non, sire, une révolution, Rédaction- February 6th, 2015. http://www.paristechreview.com/2015/02/06/education- revolution/

ضمن ما سأتطرّق إليه بشأن بيان حدود الاتصال والانفصال بين المنهج العلمي والمنهج اللاهوتي في معالجة الظاهرة الدينية، أستهلّ حديثي بكلمة قالها الفرنسي ميشال مسلان في كتاب "علم الأديان": "أن نتابع الحفر في خندقنا مع إلقاء نظرة بعيدا صوب الحقول الأخرى". بهذا الشكل يتجنّب دارس الظاهرة الدينية الانحصار داخل رؤية ضيّقة، ويثري أدواته برؤى خارجية. ومن جانب آخر تدفعني مقولة البولندي زغمونت باومان بشأن سمة "السيولة" التي تطبَعُ عالمنا اليوم: "المجتمع السائل"، و"الحداثة السائلة"، إلى إدراج الدين ضمن هذا الواقع السائل، الذي بات عصيّا على الفهم ضمن إطار محدد. فـ"الواقعة الدينية"، و"التجربة الدينية"، و"الكائن المتدين"، و"المقدّس" عامة، هي مظاهر نابعة من معين واحد، وهي في أمسّ الحاجة إلى تنويع المناهج وتوحيدها، في الآن نفسه، لسبر غور تلك التشظيات.

الظاهرة الدينية

سوف تتمحور هذه الدراسة حول ثلاثة عناصر أساسية: الظاهرة الدينية، المنهج اللاهوتي/المنهج العلمي، لأخلص بالحديث إلى آفاق التكامل بين المنهجين. في البدء يقتضي الحديث تعريفا لمفهوم الواقعة الدينية أو الحدث الديني الذي نحن بصدد معالجته، وهو ما نُطلق عليه تجوزا الظاهرة الدينية أو التجربة الدينة. ذلك أن الظاهرة/التجربة هي اختزالٌ لبُعد أنثروبولوجي لازم الكائن المتدين، وهي تجلٌّ ديني، نحاول حصره ووضعه بين قوسين. إذ صحيح أن الظاهرة الدينية هي ما يظْهَر من فعل مشوب بمسحة قداسة؛ ولكن كلمة "الظاهرة" هل تغطّي ما يعتمل في ذات الفرد وباطنه أيضا؟ لنأخذ على سبيل المثال حالة الوجد الصوفي، أو ما شابه ذلك من مظاهر الورع والتقى والربّانية، والتطويب والتقديس في السياق المسيحي حصرا، فهي مظاهر شفّافة غير قابلة للرصد العيني أحيانا. وذلك ما أملى إضافة توضيحية لكلمة الظاهرة، كأن نقول: "الظاهرة النفسية"، "الظاهرة الاجتماعية"، "الظاهرة التاريخية"، "الظاهرة الدينية"، في مسعى للإحاطة بما تتعذّر الإحاطة به بالركون إلى كلمة "الظاهرة"، كونها في الأصل متابعة لما يظهر لا غير.

ضمن هذا السياق يجرّنا تناول الظاهرة الدينية إلى إدراج الموضوع ضمن مبحث عام ألا وهو "الظواهرية الدينية"، بوصفه الإطار الأشمل والأعمّ لاختبار الظواهر. إذ يعود مصطلح "ظواهرية الدين" إلى الهولندي بيار دانيال شانتبي دي لا سوساي (P.D. Chantepie de la Saussaye) مدرّس تاريخ الأديان في جامعة أمستردام مع أواخر القرن التاسع عشر، في كتابه: "مدخل إلى تاريخ الأديان" (1887). فأمام إدراكه أن مقصد الظواهرية ليس قاصرا على متابعة العيني والمرئي، أي ما ظهر للعلن، جرى تفريع الانشغال إلى فرعين أساسيين: "الظواهرية الدينية الوصفية" و"الظواهرية الدينية الفهميّة"، وهذه الأخيرة هي ما حاول فان دير لاو تأسيسها، حيث عرّف الظاهرة بقوله "هي في الآن شيء على صلة بموضوع وموضوع على صلة بشيء"[1]. معتبرا أن المكوث عند التقرير الوصفي دون الولوج إلى غور الظواهر يُبقي الدارس عند مجرّد وصف الظاهرة الدينية[2]. وبالتالي السؤال العميق المطروح أمام الظواهرية الدينية هو سؤال الفحوى والدلالة بشأن معنى الظاهرة. إذ لا يفي بالغرض رصد الحالة وتوصيفها، ما افتقر الحدث إلى تأويل ومعنى. وفي اللسان العربي كلمة الظاهرة هي ترجمة مستوحاة من الإغريقية (phainomenon)، التي تعني حرفيا الشيء الظاهر، الظاهرة، والمصطلح كما هو مخاتل في اللغات الغربية، هو بالمثل في العربية.

وحين نتطرق إلى الظاهرة الدينية كمَلْمح من ملامح تجربة التديّن، نحن لا نتحدّث عن "المقدَّس" كجوهر مفارق، ندرك طيفه الجليل والساحر والمهيب ولا نعاين أثره، كما بيّن رودولف أوتّو في كتابه "المقدّس"[3]؛ ولكن نعمل جاهدين على حصر الرصد والبحث في عنصر محدّد. بيْدَ أنّ المسألة التي أعالجها لا تتعلّق بمنهج الظواهرية ومدى وعوده وإمكانياته، وإنما يأتي توظيف الأمر لغرض التوضيحِ في سياق حديثنا عن سُبل فهم "الحدث الديني"، "التجلي الديني"، "الظاهر الديني"، "الواقع الديني". فـ"عالِم الدين" بمفهومه الحديث يعيد الظاهرة الدينية إلى جذور دُنْيوية، وبإيجاز يسعى إلى تناول الظاهرة الدينية بمثابة واقعة منزوعة القداسة؛ في حين عالم الدين بمفهومه الكلاسيكي فهو يعيد الظاهرة الدينية، في جانبها "الإيجابي"، إلى قوة عليا، وما خالف منها النظرة الإيمانية إلى النفس الأمّارة بالسوء وإلى الزيغ والهوى وما شابه ذلك، كما هو الحال في المنظور الإيماني الإسلامي.

وفي المناهج الحديثة لدراسة الدين يتوزع التطور في دراسة الظاهرة الدينية على ثلاثة مستويات:

المستوى الأول، وهو يتشكّل من البحث التاريخي الفيلولوجي الهادف إلى البحث في كلّ تقليد ديني على حدة على أساس تحليل الوثائق المكتوبة وغير المكتوبة، وهو عادة ما تولّى شأنه تاريخ الأديان. المستوى الثاني، وينبني بالأساس على منهج المقارَنة بقصد بلوغ التماثل في النظر البشري، وإن بقي المنهج المقارِن على صلة بالمعطى التاريخي فقد انفتح على تساؤلات تتجاوز حقله، ممهِّدا الطريق إلى تدخل مختلف العلوم الدينية، التي تتشكل من مجمل العلوم الإنسانية والاجتماعية (علم الاجتماع وعلم النفس والأنثروبولوجيا وغيرها) وهو المستوى الثالث، وفق الإيطالي جوفاني فيلورامو في كتابه "ما معنى الدين؟"[4].

حول تمايز المنهج اللاهوتي والمنهج العلمي

تبعا للانشغالات الحديثة بالدين يتلخّص الدور الإبستيمولوجي للعلوم الدينية في فهم الدين وشرحه، أو بما أوضحه ميشال مسلان، في الاقتصار على متابعة العلاقة الأفقية في التعامل مع الدين وإسقاط العلاقة العمودية بقوله: "بإيجاز اللاّهوت هو علم معياري سياقاته مشروطة دائما بمدى ما يتمتّع به الإيمان من صدق، وبموجب الخاصية التي تميزه فهو مانعٌ وغالبا ما يكون أحاديا. أما علم الأديان فلا يستطيع أن يكون محلّ إجلال أو إدانة، بسبب الموضوعية العلمية المتطوّرة التي تصبغه. إذن مسعى الدراسة العلمية ومسعى الدراسة اللاّهوتية يختلفان من حيث السياق، فحقل دراسة علم الأديان يتميز كلّيا عن المقاربات اللاّهوتية من الناحية النوعية والكمية، وهذا الشكل الأخير يجيب عن سؤال: ما الواجب علينا الإيمان به؟ ولماذا ينبغي علينا الإيمان بذلك؟ في حين يهتمّ علم الأديان بكلّ ما هو معتقَد من قِبل البشر"[5]. ولا ينأى هنري شارب بيوخ وبول فينو عمّا حدّده مسلان لمهام ذلك العلم، أي علم الأديان، "فهو محاولة ترنو لتجاوز المستوى الاختباري، بغرض الكشف عن العام والمشترك، بغرض الإحاطة بالكوني، الكامن في المحلّي أو المنعزل، واكتشاف القوانين المتوارية خلف الوقائع، وإماطة اللثام عن الجوهري المتخفّي بالعرضي، أو بعبارة أخرى التنبه للتطور الداخلي والتجاوز للمتغير والمتبدل، أي الوعي بطبيعة الدين وجوهره عوضا عن مظاهره الخارجية"[6]. وبذلك يكون علم الأديان جملة القواعد والضوابط العامة -التي تحضع لها التجربة الدينية، تجربة الإنسان مع المقدّس- المستمدة من العلوم الاجتماعية والإنسانية[7]. لا أتصور أن من يتطلع للإلمام بأصول الدين، ملزمٌ بمراعاة هذه الحدود الصارمة في ذهنه في التعاطي مع الوقائع الدينية، وبالمثل لا أتصور أن ميشال مسلان وآخرين فاتهمْ عمق المقاربة اللاهوتية للدين أيضا، وما يمكن أن تُسهم به في فهمِ الكائن المتدين، والحال أن المحاولة تتمثّل في إرساء نوع من الانتظام في حقل لا يزال متداخلا، وهو في أمسّ الحاجة إلى صرامة منهجية حتى يصلب عوده.

ولكن لتتّضح معالم المنهجين اللاهوتي العلمي، أعود إلى التطرق إلى خاصيات علم اللاهوت، أو لنقل "العلوم الشرعية" بصياغة إسلامية. فهي علوم على صلة بلحظة مفارقة غير تاريخية، تعبّر عن وجهة نظر المؤمن "الداخلية". حيث أن أصل كلمة "teo-logia" إغريقي، وهي في مدلولها العربي تعني "قولا/خطابا حول الله"، هو في الواقع خطاب حول ما لا عيْنَ رأت. حيث ينصبّ اهتمام علم اللاهوت على دراسة الاعتقادات والإشكاليات الفقهية والتشريعية، عبر تأصيل الأحكام وتقعيد الوشائج الرابطة بين العبد وخالقه، وضبط قواعد الاستدلال بشأن الغيبيات، وتنظيم الأحكام المتعلقة بالشرعيات، بغية تقديم نظام خُلقي دنيوي، في وصال مع ما يتصور المؤمن أنه الحقيقة المطلقة. وتبعا لخاصيات هذا العلم المعياري، فهو يرنو إلى ترتيب علاقة مثلى بين الإنسان وبارئه. أي ضمن أي السُّبل يتحقق الفلاح الدنيوي والخلاص الأخروي. وبشكل عام تتميّز انشغالات هذا العلم بتوطيد علاقة عمودية تصل الإنسان بربّه، يتطلع فيها إلى تحقيق الانسجام الأمثل.

وبالتالي يتحرك علم اللاهوت في معالجة الشعائر الدينية، الصلاة مثلا، ضمن شروط الصحة وشروط الوجوب، فلو طالعنا كتابا متعلقا بالصلاة في الإسلام أو بالقدّاس المسيحي نلحظ تماثلا. في حين المقاربة العلمية سواء في شكلها السوسيولوجي أو الأنثروبولوجي فهي تحاول فهم أبعاد الممارسة الشعائرية وأثرها، مستهدِفة بلوغ مقصدها الأعلى دون أن يعنيها أمر صحتها أو شروط أدائها، ولكن بوصفها ممارسة اجتماعية أو رمزية داخل إطار زماني وحيز مكاني.

وعلم اللاهوت في تنظيمه لمجال الطقوس، هو محكوم أساسا بمنطق الجواز والبطلان، والطهر والنجاسة، والضلال والخلاص، والثواب والعقاب، والمشاركة والحرمان. لذلك تحوم مجمل إشكالياته حول ترسيخ سلوك المؤمن القويم، بغرض بلوغ خلاصه الأخروي وفلاحه الدنيوي، كما رسم معالمهما القديس أوغسطين في "مدينة الله"، المدينة السماوية، التي تقف على نقيض المدينة الأرضية[8].

وفي الفضاء الإسلامي، حتى وإن ارتقى نسق التطور التشريعي والفقهي والتنظيمي للوقائع الدينية، بظهور علوم شرعية مختلفة على صلة بمتنيْ القرآن والحديث، فإن هذا التطور غابت منه المتابعة الخارجية في التعاطي مع الدين. نرجع ذلك إلى عدم توفر الشروط التاريخية المعرفية لذلك، وبقاء تفسير الأمور في حدود ما هو غيبي وباطني. إذ بافتقاد الشروط التاريخية المعرفية يتعذّر على الإنسان المتديّن إعادة قراءة تجربته، ومراجعة نسق مفاهيمه، ما أبقى العربي والمسلم عامة في مستوى استهلاك الاعتقاد وقصوره عن بلوغ مراتب تبيّن أصول الاعتقاد، وهو ما يتطلّب تجاوز حاجيات الغريزة إلى طرح تساؤلات الثقافة.

وضمن السياق المشار إليه، الذي توزّع فيه النظر للدين على ضربين: داخلي وخارجي، أو بوضوح لاهوتي وعلمي،  برزت ملامح "علمية" تجمع بين مختلف المباحث المكوّنة لعلوم الأديان، على صلة بخاصيات المنهج التجريبي الوضعي في البحث، فضلا عن المنهج الاستقرائي واختبار النتائج، بما يضمن حياد الملاحظ. وقد عُدّت تلك العناصر كافية لاستبعاد اللاهوت وفلسفة الدين من عائلة المباحث العلمية في دراسة الأديان، مع أن أُولى التفرعات خرجت من حضنيْ اللاهوت والفلسفة، بعد أن جاء نزع الحبل السرّي الرابط عنيفا، كما يقول المؤرخ جوفاني فيلورامو[9]. ليتوالى توالد المباحث الجديدة مشكّلة مسارا على حدة، بدءا مع تاريخ الأديان الذي ترافق بمقارنة الأديان ثم مع علم الاجتماع الديني فالأنثروبولوجيا الدينية، وعلم النفس الديني.

وتبعاً لهذا السياق التفاعلي طورا والانشقاقي تارة في أوساط المنشغلين بتجربة الدين، حصل استبعاد فلسفة الدين من المقاربات العلمية، كونها تعالج الموضوع بشكل قيمي (أكسيولوجي) واستنباطي في بحثها عن الطبيعة "الحقيقية" للدين؛ وبالمثل حصل استبعاد علم اللاهوت بشكل حازم بوصفه تأملا عقليا للمؤمن في إيمانه الخاص، حيث يخضع نظره الخاص إلى موضوع ديني معياري. لكن الترحيبَ باللاهوتيين كأفراد والرفض للاهوت كرؤية ومنهج بقي حاضراً ضمن علوم الأديان، لعلّ الحالة الأوضح في هذا السياق اللاهوتي رودولف أوتّو. فانشغاله بـ"المقدّس" يأتي في مقدّمة اهتمامات العلوم الدينية به. وتُعدّ قراءته للدين في كتابه "المقدّس" إحدى الكواشف المهمة لتوضيح العالم الديني[10]. لكن التحول الجاري من "فلسفة الدين" إلى "فلسفة الأديان"، وبالمثل من "لاهوت دين بعينه" إلى "لاهوت الأديان"، وما رافق ذلك من مراجعات للخروج من "المركزية المسيحية"[11]، بات مدعاة لمراجعة الأسس المكونة لعلوم الأديان، حيث أثيرت المسألة مع ثلّة من الدارسين الغربيين أمثال بيار جيزل وأنسغار مونيكس وآلدو ناتاليه تيرّان[12]. والواقع أن ثمة محاولات لعلْموة الخطاب اللاهوتي المسيحي من الداخل، على غرار محاولات "اللاهوت النقدي" و"المنهج التاريخي النقدي"[13]، وهو ما يفتقره السياق الإسلامي.

آفاق التكامل بين المنهجين

على سبيل الذكر، أثارت التطورات المبكّرة لعلوم الأديان، التاريخية والسوسيولوجية والنفسية، نفورا داخل الأوساط اللاهوتية الغربية بوصفها مدعاة للريبة والتشكيك في الإرث الديني؛ لكن تحوّلا مهمّا حصل في العقود الأخيرة، حيث بدأت الأوساط اللاهوتية في احتضان المناهج الدارسة للظاهرة الدينية لا سيما منها السوسيولوجية والأنثروبولوجية. معتمِدة أحيانا تلك العلوم وموظّفة مقولاتها وتفسيراتها، لفهم عوامل تراجع الدين وزحف العلمنة، وذلك بقصد قلْب المعادلة وجعل الدين يستعيد المبادرة. وبالتالي ثمة محاولات لهضم المداخل العلمية، مدفوعة بقصد توظيفها لصالح المعتقد الذاتي ودعمه. وإن أبدى اللاهوت المسيحي تخلّصا من الريبة والخشية من تلك المناهج مثمّنا دورها حينا وإسهامها في وعيه بذاته وبالعالم آخر، فالجلي في الجانب الإسلامي غياب تلك المصالحة، ولا تزال قطيعة عميقة بين العلوم الدينية والعلوم الشرعية. والمسألة عائدة بالأساس إلى مناهج التكوين الديني في جامعات العلوم الإسلامية.

ولو عدنا إلى أوضاع التوتر التي احتضنت علوم الأديان، لتبيّن لنا حدّة تأثير الصراعات على السياقات العلمية، لا سيما في فرنسا إبان الثورة، وتواصل آثارها حدّ الراهن، مع خفوت ذلك التوتر في أوساط أخرى ساهمت في منشأ تلك المناهج، مثل الأوساط البروتستانتية. وعلى العموم ثمة تقليدان في تناول الظاهرة الدينية من وجهة نظر علمية، أحدهما فرنسي "Sciences religieuses"، والآخر ألماني "Religionswissenschaft". ترافق منشأ الأول مع غلق كليات اللاهوت التابعة للدولة في فرنسا (1885) وتدشين قسم العلوم الدينية في المدرسة التطبيقية للدراسات العليا[14]. إذ جاء تدريس "تاريخ الأديان" في فرنسا، في 24 فبراير 1880، تعبيرا عن قطيعة مع تدريس اللاهوت في الجامعة الفرنسية. والتمشّي الذي استبدل دراسة اللاهوت بتاريخ الأديان هو التمشّي ذاته الذي حظر تدريس "الكاتكيزم" (التلقين الديني) في المدارس الإعدادية[15].

فقد نشأ الفصل بين المقاربة اللاهوتية والمقاربة العلمية داخل أجواء الصراعات الإيديولوجية المحمومة التي عاشتها فرنسا العلمانية مع كنيسة روما، بدا فيها احتكار المواقع الأكاديمية وتوظيف السلطة المعرفية، حتى بلوغ تغيير المناهج التعليمية، أمرا حاسما لترجيح كفة الثورة. نتساءل هل ما زال مبرّرٌ لذلك الفصل الذي تحوّل إلى تقليد أكاديمي؟ إذ عادة ما يسود فصلٌ بين منهجَيْ مقاربة الظاهرة الدينية، العلمي واللاهوتي، والجلي أن تبنّي ذلك الفصل من قِبل من يزمعون دراسة الظاهرة الدينية غالبا ما جاء مستندا إلى حدود وتقسيمات واهية، والمسألة وفق نظري ناتجة عن أُحادية تكوين لدى دارسي "الظاهرة الدينية"، أن يكون الباحث خرّيج كلية علوم اجتماعية أو خريج كلية دينية بالمعنى اللاهوتي أو الشرعي، فيأتي التفكير في الظاهرة مشوبا بتغليب أحد المنهجين. والأمر في الوسط الأوروبي يعود إلى خلفيات سياسية متجذرة في الوسط الأكاديمي، تحوّلَ بمقتضاها الدين من معطى عمومي إلى تديّن خصوصي.

وصحيح أن علم الأديان يستند إلى سلسلة من العلوم الإنسانية والاجتماعية عدّد منها الفرنسي ميشال مسلان: تاريخ الأديان، وعلم الاجتماع الديني، وعلم النفس الديني، والظواهرية، والإناسة الدينية، والبنيوية، والمقارنة، والرمزية، وأضاف إليها آخرون، مثل جوفاني فيلورامو، الألسنية والجغرافيا الدينية والقانون المقارن للأديان، مع ترك الباب مواربا لإمكان إلحاق علوم أخرى[16]. ما أريد أن أخلص إليه في ضوء هذا التمشّي، أن حدود علم الأديان مثل حدود دولة إسرائيل غير مرسومة بشكل نهائي حدّ الراهن، فلا زالت عرضة للمدّ والجزر. فلماذا هذا الإصرار على استبعاد المساهمة اللاهوتية، ونحن نعيش انتفاء صراع المواقع بين ما هو كَنَسي وما هو مدني، لا سيما وأن المعطى اللاهوتي قد شكّل الأرضية التي تولّدت منها مباحث تاريخ الأديان ومقارنة الأديان وغيرهما؟ إذ لا يعني تبنّي المقاربة العلمية للدين بالمفهوم الحديث، أن نلقي بسائر الإسهامات اللاهوتية، التي نسِمُها بالإيمانية، والتي عركها الإنسان المؤمن، على مدى قرون. والمهمّ أن نتفطّن إلى أن تلك المباحث المكوِّنة لعلم الأديان قد نشأت في فضاء غربي، ولا يعني أن الحضارات الأخرى قد عانت التوتر ذاته، أو أنها لم تولِّد مناهجها ورؤاها في فهم الإنسان المتدين. من هذا الباب تأتي حوافز الاستعانة بمباحث أخرى في فهم "الإنسان المتديّن"، حتى لا تبقى رؤانا مرتهنة للسياق الغربي، بما يزيد من ترسيخ سطوته. ما يجعلني أتساءل: هل استيراد المناهج والتقسيمات التي نشأت في الغرب كفيل بإفهامنا التجربة الدينية؟

إشكالية اللاّهوتي والعلمي في السياق العربي

من جانب آخر، لو تمعنّا الثقافة العربية نلحظ أنها لم تنتج أدواتها العلمية في فهم الظاهرة الدينية، إذ نجد المقاربة الإيمانية الداخلية (المقاربة الشرعية)، هي المهيمنة على النظر. ولا تزال المعالجة للدين والكائن المتديّن مطروحة على الوجه الأغلب ضمن رؤية إيمانية، مع إسهامات علمية خاطفة، ولا يمكن الحديث حتى الراهن الحالي عن خط منهجي تاريخي أو مقارني أو اجتماعي. فالمبادرات فردية ومحدودة ولا ترد ضمن تراكم علمي في دراسة الظواهر الدينية. وأبرز مظاهر هذا الوهن ما يطفو من خلط في المصطلحات، المتعلقة بدراسات الأديان والدراسات اللاهوتية في اللسان العربي لدى كثيرين، مثل عدم التفريق بين علم اللاهوت وعلم الأديان، وتاريخ الأديان ومقارنة الأديان وعلم اجتماع الأديان، ولعل خير مثال على هذه الضحالة المعرفية التي نعيشها في هذا المجال كتاب العراقي خزعل الماجدي المعنون بـ"علم الأديان" وهو أقرب إلى "كشكول للأديان"[17]. فكما تعلمون أنا زيتوني المنبت، وأذكر التقليد التعليمي المتّبع في الجامعة الزيتونية فترة الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي أن كلّ مقاربة لمسألة دينية، تشريعية كانت أو فقهية أو أصولية تجري من خلال التعريفين اللغوي والاصطلاحي للمسألة، لتُردف بآراء السلف وشروحات الخلف، ثم تُعالَج ضمن ما هو توقيفي وما هو اجتهادي، وأقدّر أن هذا الأسلوب لا يزال مراعى ومحتذى إلى اليوم. فلو عدنا إلى مبحث العقيدة بالمنظور السائد تدريسه في الكليات الإسلامية نتبين الغياب اللافت للمقاربات العلمية في المسألة، حيث لم يطوِّر الدارس الانفصال المطلوب عما هو ذاتي، فضلا عن حالة التقمص الحاصلة مع المعتقد الذاتي. لكن رغم ما هو سائد، لا يعني أن تحقيق الانفصال متعذّر في حقل العلوم الشرعية، فبلوغ النضج المعرفي في العقل الشرعي الإسلامي هو رهين وعي لدى الدارس بالبنى الاجتماعية التي احتضنت تلك العلوم بشتى تنوعاتها الفقهية والحديثية والقرآنية والتفسيرية.

وصحيح أن الوعي بالظاهرة الدينية في الثقافة العربية هو وعي مشوب بمسحة إيمانية وردودية، مع ذلك لم يخل من خصوصية فهميّة، وهو يُصنَّف عموما ضمن الوعي الداخلي بالدين، غير أن السؤال المطروح هو إلى أي مدى يمكن أن يُسهِم الوعي الداخلي في بناء وعي علمي بالواقعة الدينية؟ ومع أنّنا لا نجد في الفكر الديني العربي الحديث وفرة في التركيز على المادة الخام الأولى للدين، وعلى أشكال التدين، بما يتخطى ما هو إسلامي إلى ما هو كوني، مقارنة مع ما نجده في الفكر الغربي، لمنْ تناولوا الظاهرة الدينية بعمق ومنهجية علمية، سنحصر حديثنا بعمَليْن عربيين على صلة بموضوعنا. الأول وهو مؤلف المصري علي سامي النشار "نشأة الدين" (1948)[18] الذي حاول فيه الإتيان على "الفكرتين الرئيسيتين المسيطرتين على النظريات الدينية وهما فكرة التطور وفكرة التوحيد أو الوحي الأول" حسب قوله، وإن كان علم الأديان تخطى سؤال المصدرية إلى رصد تجليات الفعل الديني بكافة أشكاله؛ والثاني كتاب التونسي محسن العابد "مدخل في تاريخ الأديان" (1973)[19]، وهو كما أراد صاحبه له أن يكون مدخلا للعلوم الحديثة في تناول الظاهرة الدينية. ينبغي أن نقول إن اطلاع النشار والعابد ما كان سطحيا على المناهج الغربية في معالجة الظاهرة الدينية وعلى القراءات الحديثة، ولكن تأثيرهما في جيليهما أو في الأجيال اللاحقة، للأسف بقي محدودا، مع أن الرجلين شغلا مهام جامعية نافذة. أذكر قولا لمحسن العابد متحدثا فيه عن العراقيل التي واجهت إنشاء تخصص دراسات الأديان في جامعة الزيتونة "ما أبنيه على مدى سنوات يُشطَب في لحظة، ثمة عقليةٌ منطوية على ذاتها ومكتفية بما لديها تأبى التطلع إلى ما وراء ذلك".

ولو عدنا إلى القرآن الكريم لتبيّنِ إن حصل تناول للكائن المتديّن ولظاهرة التدين، بشكل يتخطى حدود المعتقدات والأديان إلى ملامسة "الدين الفطري" و"الدين الحنيفي". نلحظ أن نصّ القرآن يطفح بالتناول "المتعالي" لمسألة الظاهرة الدينية بوصفها حجر الأساس الذي ينبني عليه الدين، أكان صادقا أم باطلا كما وصفه، ولم يتحاش الخطاب القرآني أن يطلق مسمى دين على الأديان "الباطلة" ولم يدخر ذلك للدين الصواب، كما في قوله تعالى: "لكم دينكم ولي دين". ففي التصور الإيماني ثمة منظومة متكاملة، يلتقي فيها الدين كحدث علوي والإنسان ككائن متديّن بالفطرة. وغالبا ما نسمع في الخطاب الإيماني عن محاولات لاكتشاف السنن الإلهية المبثوثة في الكون، التي تشمل من جملة ما تشمل الاعتقاد، فما هذه السنن المتعلقة بالدين والكائن المتدين؟ وكيف طوّر الوعي الديني الإيماني فهمه لهذه السنن من خلال التجربة الدينية للبشر؟ أحيانا تبدو تلك الاستنتاجات منتقاة ومختطَفة من سياقاتها العلمية بقصد التوظيف لا غير. وسواء من داخل الرؤية القرآنية أو من خارجها، حريّ التساؤل عن كيفية وعي المؤمن الظاهرة الدينية والحدث الديني وإبراز مدى التغاير في ذلك مع وعي الراصد الاجتماعي أو التاريخي أو النفسي من خارج حتى نحقق التفاعل المنشود بين المنهج العلمي والمنهج الإيماني.

نتساءل هل بوسعنا العثور على أشكال تديّن بدئي أرواحي وطوطمي وطبيعاني، مستوحاة من النص القرآني؟ والحال أنه أمام الخاصيات الجامعة التي تتراءى للمتابع للعالم الإسلامي، طُرحت في أوساط الأنثروبولوجيين المسألة بتفاوت، حيث نجد طلال أسد يتحدث عن "فكرة أنثروبولوجيا الإسلام" (1986) وجون باون عن "أنثروبولوجيا الإسلام الجديدة" (2012)، إلى حدّ الحديث عن "الإنثروبولوجيا الإسلامية" مع أكبر أحمد، إيمانا بأن هناك طابعا إسلاميا موحدا وجامعا[20]. لا أودّ الانحدار إلى استخلاص الطروحات الإسلامية بشأن "الكائن المتدين" من نص القرآن على غرار طروحات "الاقتصاد الإسلامي" و"علم الاجتماع الإسلامي" و"علم النفس الإسلامي" وغيرها، لإيماني أنها مجرد تهويمات لرؤى خاصة في الدين، أتت في سياق بحث الإحياء الإسلامي عن تشكيل خصوصية أمام قوة الضغط الغربي، ولكن مرادي هو جعل النص القرآني والمتن الحديثي في تواصل وتحاور مع مناهج العلوم الحديثة الدارسة للظاهرة الدينية.

كنت قد ذكرت آنفا حديثا مقتضبا عن رائدين في مجال الدراسات العلمية للأديان سامي النشار ومحسن العابد. والبارز أن تلك الحلقة التأسيسية لم تردف بحلقات تكميلية علمية تتابع تفاعل المناهج الحديثة في مقاربتها للظواهر الدينية. فعلماء الاجتماع الديني ينظرون إلى الدين بمثابة مؤسسة ومجموع من التعاليم والقوانين والقيم والجماعات والمنظمات، تطورت بموجب حاجة اجتماعية. والمسار الذي يتبعه علماء الاجتماع يتمثل في تتبّع التواشج بين البنى الاجتماعية والسلوكات الدينية، بقصد تسليط الضوء، من جانب، على الاعتقادات الدينية، إن كانت -بشكل ما- مشروطة بالنظام الاجتماعي، ومن جانب آخر، لرصد الأوجه المحورية للدين في النظام الاجتماعي. هذا وقد ظهر علم الاجتماع الديني كمحاولة لفهم دور الدين في هندسة المجتمع، وحافظ على ذلك الاهتمام ضمن دراسة آثار سياقات التديّن[21]. هذا الدور المحوري لعلم الاجتماع الديني يبدو غائبا في فهم الدين لدينا بعد أن تحول إلى مؤسسة فاعلة مع أننا في أمس الحاجة إلى ذلك.

الأمر ذاته يتعلق بالأنثروبولوجيا الدينية، في البدء تركز الاهتمام مع إدوارد تايلور (1832-1917) وجيمس جورج فريزر (1854-1941) في دراسة الأديان البدائية، وتمحورت الانشغالات حول أصول الدين وتطوراته، وهو ما جرى هجرانه لاحقا نحو أسئلة اجتماعية مع برونيسلاو مالينوفسكي (1884-1942) وإيفانز بريتشارد (1902-1973)، إبان فترة ما بين الحربين، تهدف إلى تتبّع الوظيفية السوسيولوجية الدوركهايمية، أي الوظائف التي يتخذها الدين في علاقته مع مختلف المؤسسات الدينية والممارسات الاجتماعية[22]. أيضا تركز البحث فترة ما بعد الحرب على نقيض الاهتمام السالف، أي على تعميق البحث في طبيعة الدين ذاته من خلال تحليل الرمزية الدينية ودراسة السياقات الطقوسية. والجلي في خضمّ هذه التحولات أن مناهج قراءة الظاهرة الدينية في الزمن المعاصر ما عاد يشغلها سؤال المنشأ، أعني منشأ الشعور الديني أو منشأ الاعتقاد، وأضحى الهاجس يحوم حول "الإنسان المتدين" وبالمثل "الإنسان غير المتدين" داخل تفاعلات التاريخ الراهن، إذ ثمة إعادة ترتيب للأولويات. وعودة الدين اليوم إلى المجال العمومي، وإصراره على اتخاذ دور في الحياة السياسية باتا من السمات العامة في الأديان، يُذكيه ما تسرّب من شكوك في مقولة العلمنة المرتبطة بالحداثة، والاستعاضة عنها بمقولة التعددية، وأن المعادلة التي تقول بتراجع الدين بقدر ما يتزايد التحديث باتت غير صائبة، كما لاحظ ذلك بيتر بيرجر، من خلال رصد أتباع الأديان النشيط في الأوساط الإسلامية والإنجيلية الأمريكية والإسرائيلية[23].

ضمن هذا المسار التطوري توجّب على علم الأديان الخروج من التوظيف حتى يكون علما. والبيّن في هذا المسار أن الأمر لا يعني أن اللاهوتيين في شتى الأديان، وعلى مدى انشغالهم بالدين، لم تراودهم فكرة بناء إطار علمي للدين أو تأسيس علم للأديان، وهو ما نسقطه من تصوراتنا أو ندّعي أنه نتاج العصور الأخيرة، بعد أن تخلّصت الدراسة من بعدها الاعتقادي. أنا لا أجاري هذا التصور وهذا التحليل، فقد جرت محاولات لصياغة علم الأديان، ولكن الدافع الأكبر في ذلك كان بقصد جعله في خدمة الجدل. كان ماكس مولر، مؤسس تاريخ الأديان، قد تعرّض للمسألة منذ العام 1856م تاريخ ظهور كتاب "علم الأساطير المقارن"، حين أبرز أن هدف علم الأديان، في البدء، كان إثبات تفوق المسيحية في مقابل الأديان الأخرى، لتقوم المسيحية بذلك الشكل مقام "اللاهوت الطبيعي".

فقد طُرحت العلاقة بين المباحث الدينية واللاهوت منذ أواخر القرن التاسع عشر، مع إنشاء تاريخ الأديان كمبحث مستقلّ. بدأتْ حينها مختلف المباحث الدينية تؤسس استقلاليتها عن اللاهوت[24]. وفي الأوساط البروتستانتية يُعدّ أرنست ترولتش من أوائل الذين حثّوا الخطى نحو بناء لاهوت ينزع منزعا تاريخيا علميا، وذلك في مؤلفه: "العقائد الاجتماعية للكنيسة والجماعات المسيحية"[25]، متسائلا فيه عن العامل الذي جعل الرسالة الأصلية للمسيح تتفرّع إلى أشكال تنظيمية متباينة؛ وعن انتقال وحدة الكلمة الحية للمسيح إلى تعددية في الأشكال الدينية؛ وبالتالي تساءل ترولتش عمّا يمثّل جوهر المسيحية، حين نتفحّصها بأعين تاريخية وسوسيولوجية.

يتساءل بيار جيزال أستاذ اللاهوت المنهجي في جامعة لوزان في كتاب: "اللاهوت أمام العلوم الدينية": هل ثمة تكامل؟ هل ثمّة تراتبية؟ هل ثمّة تعارض بين اللاهوت والعلوم الدينية؟ مفترضا إمكانية التفاعل شريطة أن يحوّر اللاهوت من مهامه. وأن يجري ذلك التكامل في حلّ من تعالي طرف على آخر، مبرزا أن لكلّ من اللاهوت وعلوم الأديان تاريخ خاص وأحيانا لكل إبستيمولوجيته[26].

خاتمة

أختتم قولي في هذه الدراسة بالتذكير بمسألتين: الأولى تعود إلى السياق التونسي، في الفترة التي التحقت فيها بالجامعة الزيتونية طالبا، أواسط الثمانينات/أواسط التسعينيات من القرن الماضي، كان يجول في الأوساط الطلابية حديث عن مخطط "العلمانيين" لجعل الزيتونة قسما للدراسات الدينية تابعا لكلية 9 أفريل حينها، أو لكلية من كليات العلوم الإنسانية والاجتماعية مثل كلية الآداب بمنوبة. هذا التخوف أو هذا الهاجس لازم الزواتنة، وكأنّ منهجهم مهدد بالمتربّصين، ما ولّدَ انكماشا ونوعا من الفوبيا المعرفية الدائمة. وقد عُدّ الأستاذ عبد المجيد الشرفي حينها، رفقة طلابه من دارسي الإسلاميات وأقصد مجموعة "الإسلام واحدا ومتعددا" خطرا وليس رافدا من روافد دراسة الظاهرة الدينية، ترسّخ ذلك التباعد بين مناهج ومقاربات حديثة حاولت الإسهام في معالجة الإرث الديني الإسلامي في تونس وبين مناهج كلاسيكية بقيت داخل "كلية الشريعة وأصول الدين" في مونفلوري ثم "جامعة الزيتونة" في رحبة الغنم، تعدّ نفسها وصية على التراث الديني وعلى المشروعية الدينية وإن كانت وصاية وهمية وهشّة.

والمسألة الثانية منهجية: أتساءل هل أدوات الظاهرة الدينية التي تشكلت مع الرواد الأوائل في علم الاجتماع والأنثروبولوجيا وفي مقارنة الأديان قادرة على فك إشكاليات "الإنسان المتدين" المعاصر الذي عرفه العالم تقريبا مع النصف الثاني من القرن العشرين؟ نحن أمام تحدّ يتمثّل في سحب أدوات فهْم الوقائع الدينية التقليدية إلى عصرنا واختبار مدى قدراتها في الإحاطة بالكائن الديني المعاصر، وبالمثل لفهم الثوران الديني، والصراعات الدينية التي باتت تستعصي على رؤانا التقليدية. وما التخبط الذي تعانيه المقاربات الحديثة في تفسير الوقائع الدينية، والإسلامية منها تحديدا، لَهُو مؤشر بارز على قصور يعتري تلك الأدوات. من هذا الباب ينبغي ألا نكون غربيين أكثر من الغرب، بتبنّي أرثوذكسي لأدواته والتعويل عليها كل التعويل.

***

ا. د. عز الدين عناية

أستاذ تونسي بجامعة روما

...................................

[1]. Van der leeuw, Fenomenologia della della religione, tr. It., Einaudi, Torino 1960, p. 529.

[2]. Giovanni Filoramo – Carlo Prandi, Le scienze delle religioni, Morcelliana, Brescia 1997, p. 36.

[3]. Rudolf Otto, Il sacro, Editore SE, Milano 2009.

[4]. Giovanni Filoramo, Che cos’è la religione. Temi metodi problemi, Einaudi , Torino 2004, pp. 131-132.

[5]. ميشال مسلان، علم الأديان: مساهمة في التأسيس، ترجمة عزالدين عناية، المركز الثقافي العربي، بيروت 2009، ص: 20-21.

[6]. Symposiun recueilli par H. Desroche et J. Seguy, Introduction aux sciences humaines des religions, voir Henri Charles Peuch et Paul Vignaux; La science des religions en France, Editions Cujas, Paris 1970, p. 10.

[7]. Gustave Mensching, Histoire de la science des religions, traduit de l’allemand par Pierre Jundt, La Marre, Paris 1955.

[8]. Sant’Agostino, La città di Dio, Rusconi, Milano 1984, pp. 691-92.

[9]. Giovanni Filoramo, Che cos’è la religione. Temi metodi problemi, Einaudi , Torino 2004, p. 150.

[10]. Aldo Natale Terrin, Scienza delle religioni e teologia nel pensiero di Rudolf Otto, Morcelliana, Brescia 1978, p. 220- 225.

[11]. حول الجدل القائم بشأن "المركزية المسيحية" و"مركزية المسيح" في الخلاص، يمكن الاطلاع على طروحات الاستيعاب والاستبعاد للآخر الديني ضمن ترجمتنا لكتاب الفكر المسيحي المعاصر قضايا ومراجعات: برونو فورتي- جون كسلمان-رونالد ويثروب، دار صفحات، دمشق 2014، ص: 35.

[12]. Aldo Natale Terrin, Scienza delle religioni e teologia. Per un studio integrale delle religioni, in aa. vv., Introduzione allo studio della religione, UTET, Torino 1992, pp. 213-51.

[13] . الفكر المسيحي المعاصر قضايا ومراجعات، ص: 45 وما بعدها.

[14]. Giovanni Filoramo, Che cos’è la religione. Temi metodi problemi, Einaudi , Torino 2004, p. 128.

[15].Julien Ries, La scienza delle religioni. Storia, storiografia, problemi e metodi, Jaca Book, Milano 2008,  p. 137-138.

[16]. Giovanni Filoramo, Che cos’è la religione. Temi metodi problemi, p. 146.

[17]. علم الأديان: تاريخه، مكوناته، مناهجه، أعلامه، حاضره، مستقبله، الناشر مؤمنون بلا حدود للنشر والتوزيع، المغرب 2016.

[18] . علي سامي النشار، نشأة الدين: النظريات التطورية والمؤلهة، مكتبة، دار نشر الثقافة بالإسكندرية 1949.

[19] . محسن العابد، مدخل في تاريخ الأديان، دار الكتاب، سوسة/تونس 1973.

[20]. يمكن في الشأن مراجعة مؤلّف الإيطالي أوغو فابييتي:

Ugo Fabietti, Medio Oriente uno sguardo antropologico, Rafaello Cortina Editore, Milano 2016, pp. 73-74.

[21]. Giovanni Filoramo, Che cos’è la religione. Temi metodi problemi, Einaudi , Torino 2004, pp. 137-138.

[22]. Alessandra Ciattini, Antropologia delle religioni, La nuova Italia Scientifica, Carocci, Roma 1997, pp. 66-70.

[23]. Peter Berger, I molti altari della modernità. Le religioni al tempo del pluralismo, Emi, Bologna 2017.

[24]. Pierre Gisel, La théologie face aux sciences religieuses, Labor et fides, Genève 1999, p. 17.

[25]. E. Troeltsch, Le dottrine sociali delle chiese e dei gruppi cristiani, 2 voll, La nuova Italia, Firenze 1941-1949 (ed. originale, Tübingen 1912).

[26]. Pierre Gisel, La théologie face aux sciences religieuses, Labor et fides, Gnève 1999, p. 9.

ظهر المعتزلة في أواخر العصر الأموي (بداية القرن الثاني الهجري) في البصرة، وتعدّ من اوائل الفرق الاسلامية التي تأثرت بالفلسفة الاغريقية وادخلتها الاسلام كفلسفة جديدة اسهمت في تطوير الفكر الاسلامي دينيا وسياسيا واجتماعيا، لاسيما في العصر العباسي. ومن الجديد الذي امتازت به انها غلّبت (العقل على النقل)، وقالوا بالفكر قبل السمع، ورفضوا الأحاديث التى لا يقرّها العقل حسب وصفهم، وقالوا بوجوب معرفة الله بالعقل ولو لم يرد شرع بذلك.

ومن اهم واخطر ما امتازت به انها مارست نقد الفكر والعقائد التي تعتمد التقديس والتسليم بما يعدّ تراثا مستخدمة المنطق في نقد قضايا دينية وحياتية يومية. وانفردت في نقد العامة من الناس بل واحتقارها لهم.. وكان من بين ابرز فلاسفة هذه الفرقة الكلامية (ثمامة بن الاشرس) الذي حظي بمكانة كبيرة عند الخليفة المأمون. ويروى عنه قوله للمأمون:وما العامة ؟ والله لو وجهت انسانا على عاتقه سواد ومعه عصا لساق اليك عشرة آلاف منها وقد سواها الله بالانعام فقال: (أم تحسب ان اكثرهم يسمعون او يعقلون، ان هم الا كالانعام بل اظلّ سبيلا).

اشكالية الأسم

يميل المفكر المصري أحمد أمين إلى أن اسم ( المعتزلة) جاء من إطلاق بعض اليهود الذين اعتنقوا الإسلام، بسبب الفرقة اليهودية التى ظهرت بعد السبى البابلى والمعروفة بـ"الفروشيم"، وهى كلمة عبرية يردافها بالعربية اسم "المعتزلة". غير ان المستشرق السويدى هنريك صمويل نيبرج اعترض على هذا التفسير التاريخي لاسم المعتزلة، فيما أورد المؤرخ الشهير المسعودى أن أصل كلمة "اعتزال" هو القول بالمنزلة بين المنزلتين، أى باعتزال صاحب الكبيرة عن المؤمنين والكافرين، إذ جاء المصطلح من طبيعة المعتقد نفسه كالمرجّئة الذين بالغوا فى الرجاء أو أرجؤوا العمل، والرافضة الذين قالوا برفض خلافة أبى بكر وعمر.

نشأة الحركة

بحسب دراسة بعنوان "المعتزلة" للدكتور مصطفى حلمى، تكاد تجمع المصادر التاريخية وكتب الفرق على أن نشأة مذهب الاعتزال ترجع إلى اختلاف واصل بن عطاء مع شيخه الحسن البصرى (110هـ) في الحكم على مرتكب الكبيرة، واعتزاله مجلسه لهذا السبب، فيما عدا هذه الرواية الشهيرة فإن الملطى - توفي سنة (377) - يعود بنشأة المعتزلة إلى أيام تنازل الحسن بن على عن الخلافة لمعاوية بن أبي سفيان، لأنهم كانوا من أصحاب على فاعتزلوا الناس ولزموا البيت والمساجد قائلين "نشتغل بالعلم والعبادة فسموا بذلك المعتزلة".. والأرجح الرواية الأولى.

ومن أشهر الأقوال فى هذا الإطار ما يرويه الشهرستانى أن واصل بن عطاء تلميذ الحسن البصرى اعتزل مجلس الأخير حين اختلف معه فى مسألة مرتكب الكبيرة من المسلمين، وأنه ليس بمؤمن ولا كافر بل هو فى منزلة بين المنزلتين، حيث قال الحسن البصرى تعليقًا على انفصال ابن عطاء عن حلقته "اعتزل عنا واصل"، ومن هنا، بحسب هذا القول، جاء اسم المعتزلة.

خمسة اصول.. شرط الأعتزال

ما يميز المعتزلة انها اعتمدت خمسة اصول او عقائد هي: التوحيد، العدل، الوعد والوعيد، المنزلة بين المنزلتين، والامر بالمعروف والنهي عن المنكر.. واشترطوا على من يريد ان يكون (معتزلا) ان يؤمن بها، وانه لا يستحق اسم الاعتزال حتى يجمع القول بهذه الأصول الخمسة، على حد تعبير ابو الحسين الخياط احد كبار أئمتهم.

ويعني التوحيد عندهم، نفي كلّ الصفات عن الله مثل السمع والبصر بهدف تنزيهه.. ومنها توصلوا الى فكرة خلق القرآن. ويقوم (العدل) عندهم عل فكرة العقل وقياس احكام الله على ما يرضي العقل والمنطق، ولهذا فهم نفوا ان يكون الله هو الذي خلق افعال عباده السيئة ومحاسبا عليها بآن واحد، فلا يمكن ان يخلق الله لعباده الا الصلاح والخير.. وبهذا يكون المعتزلة اول من خالف عقيدة القدر ونفوها.

وتقوم فكرة (المنزلة بين المنزلتين) على وجود منزلة ما بين الكفر والايمان يقع فيها الفاسق، فان تاب ورجع فقد أمن على نفسه وان مات على كفره فهو خالد في عذاب جهنم، فيما يقصد بالوعد والوعيد هو ان يحكم الله بالعدل المطلق في الاخرة، فمن اطاع الله في حياته جزاؤه الثواب ومن ارتكب المعاصي لا يعفو عنه.

وخامس اصولهم هوالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويقصد بها فكرة الموقف من الحاكم الجائر.. الفاسق هل يجب القيام عليه او السكوت عنه والخضوع له.

ونعيد الرأي بأن اسم المعتزلة جاء بعد الخلاف الذي جرى بين واصل بن عطاء (ت 131هج) وشيخه الحسن البصري (ت 110 هج) فاعتزل شيخه وأنشأ لنفسه مدرسة ومذهبا خاصا به، فقال الحسن البصري (اعتزلنا واصل). ما يعني أن نشأة المعتزلة حدثت من هذه الواقعة، وليست من واقعة تنازل الحسن بن علي عن الخلافة لمعاوية كما تذكر رواية أخرى، مع ان كلا الروايتين تتفقان على ان المعتزلة اختلفوا مع اهل السنّة والجماعة في مسائل تخص العقل في العقيدة الاسلامية كرؤية الله وقصة خلق القرآن. ولهذا وصفهم كثيرون بانهم ظلوا وانحرفوا عن العقيدة الصحيحة التي جاء بها النبي محمد، وانها خالفت في تأويلها افعال الله وابتدعت كلاما باطلا في كلام الله.. و(الأخطر) انها تعتمد المنطق وتقدمه على الوحي.

ويذكر الدكتور علي الوردي في كتابه (وعّاظ السلاطين) أن المعتزلة يعتقدون أن عليّا كان أولى من ابي بكر بالخلافة وافضل منه، ولكنهم يرون مع ذلك جواز تقديم المفضول على الفاضل اذا اقتضت ذلك مصلحة المسلمين. ويستندون في هذا على تصريح ابي بكر في خطبته التي افتتح بها عهد خلافته اذ قال :" اما بعد أيها الناس فاني قد وليت عليكم ولست بخيركم.. " (ص 190).

طه حسين و معروف الرصافي

في العام 1928، دُعِي عميد الأدب العربي، الدكتور طه حسين، إلى مؤتمر المستشرقين في أكسفورد، فقدّم باللغة الفرنسية ورقتيْن بحثيتيْن؛ إحداهما بعنوان: «استخدام ضمير الغائب فى القرآن كإسم إشارة»، والأخرى كانت بعنوان: «المعتزلة وليبنتز»، تستهدف عقد مقارنة بين المعتزلة، كإحدى أكبر فرق المتكلمين في الفكر الإسلامي، وبين الفيلسوف الألمانى الشهير، ليبنتز(1646- 1716 فيلسوف، وفيزيائي، ومحامي، ومستشار سياسي)، ختمها بهذا التساؤل:

«هل من قبيل المصادفة البحتة وجود هذا التشابه، وأكاد أقول هذا التماثل الكامل بين المذهبين؟. أو أن المعتزلة أثروا على ليبنتز من خلال الفلسفة المدرسية؟. ذلك سؤال لا أسمح لنفسى بأن أجيب عنه، ويكفينى أننى طرحته".

غير ان معروف الرصافي في كتابه (الشخصية المحمدية) يوضح ما هو اكثر بقوله ان الحسن البصري (الذي لا يرتاح له معروف!) وصف بالفصاحة وبالعلم والتقوى، وان له حلقة في مسجد البصرة يرتادها رواد العلم في زمانه.

ونشير الى ان البصرة كانت يومها الحاضرة الثقافية للدولة العربية يتخرج فيها طلاب الفقه والنظر في العقائد وعلوم اللغة والادب والشعر. وكان واصل بن عطاء، الألثغ الذي لا يحسن نطق حرف الراء.. ويستبدل الكلمات التي فيها (راء) بأخرى خالية منه تؤدي نفس المعنى! من بين من يحضرون مجلسه يتذاكرون في المسائل العلمية من اصول الدين وفروعه، فكان واصل من الآخذين عن الحسن البصري. ولما اثبت ابن عطاء (المنزلة بين المنزلتين) أمره الحسن باعتزال مجلسه، فاعتزل هو وبعض اصحابه وألفوا حلقة أخرى في ناحية من نواحي المسجد، فاطلق الناس عليهم اسم المعتزلة (صفحة 749).

ومع أن الرصافي يصف حادثة الأعتزال بأنها تعدّ أول انشقاق مذهبي حدثت في الوحدة الأسلامية، فاننا نرى ان هذا هو اول تفعيل للعقل الاسلامي في حرية التفكير وأول تحد في تناول (الممنوع) لما يعدّ مقدسا وجعله مسموحا في اخضاعه للمنطق. ويحسب لهم انهم تمكنوا من التأثير في السلطة ونظام الحكم يوم استطاعوا جعل الخليفة المأمون يؤمن بافكارهم، لاسيما القول بخلق القرآن الذي ينافي الفكر السائد بان القرآن قديم غير مخلوق.. بل انهم دفعوا المأمون عام 218 هجرية الى ان يجمع القضاة ويمتحنهم في قضية خلق القرآن في واقعة فكرية سميت (المحنة) وصفها الدكتور علي الوردي في كتابه (منطق ابن خلدون) بأنها كانت حدثا مهما في تاريخ الاسلام الفكري استمرت اربعة عشر عاما لقي فيها المعارضون لفكرة خلق القرآن شتى انواع الاضطهاد والبلوى (صفحة219).

وكان الامام احمد بن حنبل من اشد المعارضين لفكرة المعتزلة، مبررا ذلك بأنه لا يصح ان تصل فكرة خلق القرآن الى العامة لأنها ستؤدي الى عدم التقديس وضعف الأيمان، فيما ردّ المعتزلة بالقول ان عقيدة العامة قد فسدت بتأثير الأساطير والخرافات التي راجت بينهم، ولا يمكن اصلاحها الا عن طريق تعويدهم على النظر العقلي في أمورهم الدينية.

رأيان متضادان.. كلاهما صحيح!

ما يعجبك في هذين الرأين المتضادين، ان كليهما صحيح! برغم أن أحدهما ثابت وآخر متحول. وكان يفترض تعميق هذه الممارسة الفكرية في نقد العقل الديني، لكنها انتهت للأسف بخلافة المتوكل(اغتيل في 247هج)، اذ يقول المسعودي:

(لما افضت الخلافة للمتوكل أمر بترك النظر والمباحثة في الجدال، وأمر الناس بالتسليم والتقليد )(ص 199)، وصاروا يضطهدون ويطاردون المعتزلة متهمينهم بالزندقة.. ومنها ظهر القول المشهور(من تمنطق فقد تزندق).

والحقيقة التي يغفلها كثيرون، انه حيثما شاعت فكرة (نقد الدين تحديدا) قابلة للحوار والجدل، وتعرض فلاسفتها الى الأضطهاد فانه، يظهر مفكرون وفلاسفة، يحيونها او يطورونها او يدينونها، وقد ظهر في حينه فلاسفة كبار من بينهم الكندي والفارابي وابن سينا وابن مسكوية، فيما ظهر حديثا مفكرون تأثروا بفكر المعتزلة الى هذا الحد او ذاك مثل جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وعبد الرحمن الكواكبي.

ولأننا نعيش الآن مرحلة فكرية مشابهة فان اثارة مثل هكذا قضايا فكرية جدلية تؤدي الى ظهور فلاسفة ومفكرين ومثقفين جدد يشيعون نقد العقل الديني بما يجعل العقل الجمعي العربي يتحرر من التسليم بمعتقدات دون ان يعمل عقله فيها، وتمكّنه أن ينتقي منها ما يتلاءم وافكار ومعتقدات العصر الأيجابية التي تحترم كرامة الانسان وتجعل لوجوده معنى.

***

أ. د. قاسم حسين صالح

رئيس ومؤسس الجمعية النفسية العراقية

(مكاشفة نقدية، واسْتِغْراب،،،)

” تعتبر الممارسات اللا إنسانية والقمعية على يد النازيين في الحرب العالمية الثانية ضد الجماعات العرقية والدينية في معسكرات الموت (أوشفيتز)، إحدى العاملات الفارقة في تشكيل معالم الفكر النقدي لرواد النظرية النقدية.... لكن بالمقابل ألا يدعو هذا الحدث - الذي يُعاد تكراره من حيث المبدأ - مفكري النظرية النقدية المعاصرين (هابرماس، هونيث...) إلى إدانة ممارسات الكيان الصهيوني الغاصب في الإبادة الجماعية والقتل الوحشي والاعتقال التعسفي وانتهاك حقوق الإنسان ضد الشعب الفلسطيني صاحب الأرض..... سؤال برسم الإجابة وإعادة الطرح والتمحيص؛ لأن الإنسانية لا تتجزأ حسب مقولات النظرية النقدية لرواد مدرسة فرانكفورت “. (الكاتب)

” كانت النظرية النقدية الاسم الذي اختاره مؤسسو مدرسة فرانكفورت في الفترة بين الحربين العالميتين لترمز إلى محاولتهم إنجاز وحدة النظرية والممارسة، وفيها وحدة النظرية مع البحث التجريبي، وكلاهما مع وعي متأصل تاريخياً بمشكلات العصر الاجتماعية والسياسية والثقافية. انطوت المحاولة على وعدٍ مغرٍ، وتبقى مهمة، لكنها واجهت أيضاً مشكلات اتضح أنه لا يمكن تذليلها، على الأقل من قبل أولئك الذين أثاروها بادئ الأمر “ (كريغ كالهون: النظرية الاجتماعية النقدية، ص60).

” عند النظرية النقدية أن التأمل عنصر حيوي من عناصر العقل، فهو مرتبط بكلمة المرآة التي تعكس شيئاً آخر. ونحن حين نفهم شيئاً ما نعكس صورته. وهو انعكاس ليس له أي كينونة خاصة به بل هو ما يظهر لنا في تلك اللحظة. والشخص المتأمل هو من لا يقبل على نحو عقائدي جامد هذا المظهر أو ذاك على أنه كلّ ما هنالك، بل يدرك أن المظاهر تعكس صورة علاقة تاريخية محددة بين الذات والموضوع. ولقد تعلمت أن المنظرين النقدين حين يكتبون بأسلوبهم الديالكتيكي المتردد جيئة وذهاباً، والمتحول خلفاً وقدّاماً بين الذات والموضوع، إنما يكتفون بترداد ما رأوا أنه العصر التأملي المميز بين عناصر العقل ذاته “ (آلن هاو: النظرية النقدية – مدرسة فرانكفورت، ص20).

” لا تستغني الحياة الواعية عن النقد، ولا يشك أحد في ضرورة النقد المتجدد للواقع السائد في نظم المعرفة والقيم والاجتماع، وأنماط الفكر والفعل والسلوك، إذ إن إحياء الحس النقدي معناه إحياء الحس بالحرية والاستنارة، وضرورة التغيير والتقدم والحوار المستمر. وعلى الرغم من تعدد مفاهيم النقد وتنوع أساليب تطبيقه وميادينه، فهو في تصوره البسيط المباشر يتضمن مناهج المراجعة والتقييم للأفكار والوقائع والأفعال التي تنطلق من معايير معينة، كما يستهدف الكشف عن تعارض تلك الأفكار والوقائع والأفعال مع هذه المعايير التي أصابها العجز والفساد، بُغية العمل على " رفعها " وتجاوزها. .... وطبيعي أن يبقى النقد الذي يكتفي بنفي الواقع القائم ونقضه وتعرية عيوبه وأخطائه في أدنى مستويات النقد، لأن النقد الصحيح هو الذي يضع " الضد " في مواجهة " القائم "، ويؤلف بينهما في " جديد " أعلى وأشمل وأكثر وعياً وخصوبة “ (عبد العفار مكاوي: النظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت، ص9).

إن الدراسة التحليلية لحركات النقد الاجتماعي التي ظهرت ضمن إطار الاتجاهات النقدية عموماً، تكشف لنا عن وجود مستويين أساسيين لهذا النقد، ففي المستوى الأول (الراديكالي)  نجد أن النقد الاجتماعي يعبر عن احتجاج اجتماعي شامل يستهدف التأكيد على ضرورة التغيير الأساسي والجوهري للأنماط الحضارية القائمة، إذ يبدأ هذا النقد بالتحليل السلبي لعيوب السياق الاجتماعي القائم ونقائضه، من خلال العمل على تجسيد حركة احتجاج تنظر إلى الواقع كشيء يمكن إعادة تشكيله وتغييره، أي امتلاكها  لتصور مثالي لما ينبغي أن يكون عليه المجتمع، بحيث يصبح هذا التصور بدوره الإطار المرجعي الأولي لتنفيذ ما هو قائم، فيؤكد هذا المستوى على ضرورة امتلاك الحركة النقدية لقوى اجتماعية تصبح هي الفاعل الثوري (الراديكالي)* الذي ينتقل بالمجتمع مما هو كائن إلى ما ينبغي أن يكون، من خلال التأكيد على اكتمال حركة التحول الاجتماعي والحضاري.

أما المستوى الثاني للنقد الاجتماعي فيمكن اعتباره أقل راديكالية وشمولاً لأنه يتبنى النقد الثقافي والتنويري فقط، أي إنه يهدف إلى عملية التغيير الثقافي والتنويري لتشكيل توجهات ثقافية وقيمية جديدة تحكم التفاعل الكائن في الواقع الاجتماعي والحضاري، ويظهر هذا المستوى من النقد الاجتماعي حينما تنحدر الحركات السياسية الراديكالية وتقتصر بأهدافها على النقد الذاتي والثقافي للمجتمع، أو عندما لا يكون الفاعل الثوري للمجتمع مهيأً لتنفيذ مهام النقد ومتطلباته. هذا النقد قد يصبح هو المستوى المسموح به حينما يثبت الواقع ويؤكد صلابته أمام الانتقادات الموجه إليه، حيث يسعى هذا الواقع إلى استيعاب مضمون النقد بما يدعم بنائه وصلابته ويفقد النقد مبرره ومشروعيته. ويبرز هذا المستوى النقدي في المراحل التاريخية التي يكون فيها الواقع الاجتماعي قوياً، قادراً على استيعاب تناقضاته مؤكداً على وحدته وتكامله، أو حينما يقتصر النقد الاجتماعي على فضح وتفنيد ما هو قائم، وامتلاك القدرة على الانطلاق إلى ما ينبغي أن يكون عن طريق امتلاك نموذج مثالي ومستقبلي يتحرك نحوه المجتمع، أو حينما لا يمتلك التيار النقدي قوى التحول الاجتماعي أو الفاعل الثوري. بناءً عليه نجد أن النظرية النقدية تتوسل المستوى الثاني في نقدها لواقع المجتمعات الغربية، حيث أنتجت مدرسة فرنكفورت أو النظرية النقدية المستمرة في أجيالها الأربعة منذ تأسيسها عام 1923 في ألمانيا تحت اسم معهد البحوث الاجتماعية، العديد من الطروحات النقدية التي تصنف في خانة الفلسفة الاجتماعية والسياسية والنقد الثقافي.

وبالرغم من التمايزات التي تطبع كل جيل بسبب من اختلاف تأثير المناخات التاريخية وحيثياتها، إلا أن فلاسفة المدرسة ومفكريها لم يقعوا في فخ التقليد والاتباع والتكرار الإحيائي لتراث مدرسة كانت عصية على التمدرس، بمعنى أن الخلف فيها لم يحتذ نهج السلف، ما جنب النظرية النقدية الانقياد إلى السلفية التنظيرية غير القابلة للتجديد.

بل إن تاريخ مسار النظرية النقدية تعرض للانزياحات والانقطاعات كما الاتصال والاستمرار. ولقد غذت الأجيال الثلاثة اللاحقة على الجيل المؤسس المدرسة ببراديغمات جديدة كل الجدة " كالتواصلية العقلانية " لدى يورغن هابرماس، والاعتراف مع أكسل هونيث، والتسارع مع هارتموت روزا.

وفي حين يشكل العمل في رحاب المدرسة الواسع والفسيح محط اشتغال بحثي ينطلق من خصوصية المدرسة الأوروبية أو الحداثية. إن تشكيل هوية النظرية النقدية لم يأت منفصلاً عن التراث الفلسفي الغربي الذي استطاع مفكرو مدرسة فرنكفورت أن يختزنوه داخل مكونات نظريتهم، بعد أن أخضعوه لمصفاة النقد والغربلة.

أظهرت الفلسفة منذ بداية ظهورها احتواءها على عنصر هدام. يبيِّن عمل أفلاطون " دفاع سقراط " كيفية اتهام مواطني أثينا لسقراط بإفساده أخلاق الشباب والتشكيك في وجود الآلهة. وكان هذا الاتهام ينطوي على شيء من الحقيقة؛ فقد شكك سقراط في المعتقدات السائدة، وأخضع اعتقادات راسخة لفترات طويلة للتدقيق العقلاني، وأعمل فكره في مسائل تتجاوز النظام القائم. وما عرف بـ: " النظرية النقدية " قام على هذا الإرث، فقد ظهر هذا الاتجاه الفلسفي الجديد في الفترة ما بين الحربين العالميتين الأولى والثانية، وشن أبرز ممثليه حرباً ضروساً على الاستغلال والقمع والاغتراب التي تنطوي عليها الحضارة الغربية.

ترفض النظرية النقدية ربط الحرية بأي تنظيم مؤسسي أو منظومة فكرية محددة، إنها تبحث في الافتراضات والأغراض الخفية للنظريات المتضاربة وأشكال التطبيق القائمة. وليست هذه النظرية بحاجة إلى توظيف ما يعرف ﺑ " الفلسفة الدائمة "، إذ تصر على أن التفكير يجب أن يستجيب للمشكلات الجديدة والاحتمالات الجديدة للتحرر التي تنبثق عن تغير الظروف التاريخية. كانت النظرية النقدية - التي تتسم بأنها متعددة التخصصات، وتجريبية في جوهرها على نحو فريد، ومتشككة على نحو عميق في التقاليد والمزاعم المطلقة كافة - مهتمة دائماً، ليس فقط بالكيفية التي عليها الأمور بالفعل، وإنما أيضاً بالكيفية التي يمكن أن تكون الأمور عليها أو يجب أن تكون عليها. وقد دفع هذا الالتزام الأخلاقي مفكريها الكبار لتطوير مجموعة من الموضوعات والمحاور ومنهج نقدي جديد غير وجه فهمنا للمجتمع.

وللنظرية النقدية مصادر كثيرة، يعرف إيمانويل كانط الاستقلال الأخلاقي بأنه أسمى قيمة بالنسبة للفرد، وقد أمد كانط النظرية النقدية بتعريفها للعقلانية العلمية وهدفها المتمثل في مواجهة الواقع باحتمالات الحرية. في الوقت نفسه، رأى هيجل أن الوعي هو محرك التاريخ، وأن التفكير مرتبط بالاهتمامات العملية، وأن الفلسفة هي " المنظور الفكري الذي يُنظَر من خلاله لحقبة تاريخية معينة ". تعلم منظرو النظرية النقدية تأويل الجزء بالنظر إلى الكل. وبدت لحظة الحرية في مطالبة المستعبدين والمستغلين بالتقدير.

لقد جسّد كل من كانط وهيجل الافتراضات العامة المستمدة من عصر التنوير الأوروبي خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر، فقد اعتمدا على العقل لمحاربة الخرافة والانحياز والقسوة والممارسات التعسفية من جانب السلطة المؤسسية. كما وضعا افتراضات بشأن الآمال الإنسانية التي تعبر عنها الجماليات، والرغبة في الخلاص التي تنطوي عليها الأديان، وطرق التفكير الحديثة حول العلاقة بين النظرية والتطبيق. أما كارل ماركس الشاب، فقد ذهب إلى ما هو أبعد من ذلك بتأملاته اليوتوبية حول التحرر الإنساني.

لقد تشكلت النظرية النقدية في البوتقة الفكرية الماركسية، إلا أن ممثليها الرواد رفضوا منذ البداية الحتمية الاقتصادية، والنظرية المرحلية للتاريخ، وأي اعتقاد جبري في الانتصار (المحتوم) للاشتراكية. وكانوا أقل اهتماماً بما أطلق عليه ماركس (القاعدة) الاقتصادية منهم ﺑ (البنية الفوقية) السياسية والثقافية للمجتمع. لقد كانت ماركسيتهم بمذاق مختلف، وقد ركزوا على منهجها النقدي أكثر مما ركزوا على ادعاءاتها التنظيمية، وعلى اهتمامها بالاغتراب والتشيؤ، وعلى علاقتها المعقدة بمثل عصر التنوير، وعلى لحظتها اليوتوبية، وعلى تشديدها على دور الإيديولوجيا، وعلى التزامها بمقاومة مسخ الفرد. وتشكل هذه المجموعة من المحاور جوهر النظرية النقدية حسبما استوعبها رائدا " الماركسية الغربية " كارل كورش وجورج لوكاتش. قدم هذان المفكران إطار عمل المشروع النقدي الذي بات يعرف لاحقاً بمعهد البحوث الاجتماعية أو " مدرسة فرانكفورت ".

أنتجت مدرسة فرنكفورت أو النظرية النقدية المستمرة في أجيالها الأربعة منذ تأسيسها عام 1923 في ألمانيا تحت اسم معهد البحوث الاجتماعية، العديد من الطروحات التي تصنف في خانة الفلسفة الاجتماعية والسياسية والنقد الثقافي.

وبالرغم من التمايزات التي تطبع كل جيل بسبب من اختلاف تأثير المناخات التاريخية وحيثياتها، إلا أن فلاسفة المدرسة ومفكريها لم يقعوا في فخ التقليد والاتباع والتكرار الإحيائي لتراث مدرسة كانت عصية على التمدرس، بمعنى أن الخلف فيها لم يحتذ نهج السلف، ما جنب النظرية النقدية الانقياد إلى السلفية التنظيرية غير القابلة للتجديد.

تضمن الأعضاء الرئيسيون لهذه المدرسة تيودور في أدورنو، المشهور بمعرفته التامة بالموسيقى والفلسفة، والذي بدأ تعاونه مع المعهد في عام 1928، إلا أنه لم يصبح عضواً رسمياً إلا بعد عشر سنوات، وإريك فروم، عالم النفس الموهوب، الذي بدأ تعاونه الذي دام لتسع سنوات مع المعهد في عام 1930، وهربرت ماركيوز، الفيلسوف المتعدد المواهب والتخصصات الذي بدأ تعاونه مع المعهد في عام 1933، وفالتر بنجامين، الأكثر إبداعاً من بين هؤلاء المفكرين والذي لم يصبح عضواً رسمياً بالمعهد قط، ويورغن هابرماس، الذي أصبح فيلسوف المعهد الرائد بعد عام 1968، وبالتأكيد أكثر المفكرين المرتبطين بالمعهد غزارة في الإنتاج، إلا أن ماكس هوركهايمر كان نبراس هذا المعهد، فهو من جمع هؤلاء المفكرين الاستثنائيين معا لوضع أساس متعدد التخصصات لنظرية نقدية للمجتمع.

إلا أن تاريخ مسار النظرية النقدية تعرض للانزياحات والانقطاعات كما الاتصال والاستمرار. ولقد غذت الأجيال الثلاثة اللاحقة على الجيل المؤسس المدرسة ببراديغمات جديدة كل الجدة " كالتواصلية العقلانية " لدى هابرماس، والاعتراف مع أكسل هونيث، والتسارع مع هارتموت روزا.

بذلك يشكل العمل في رحاب المدرسة الواسع والفسيح محط اشتغال بحثي ينطلق من خصوصية المدرسة الأوروبية أو الحداثية. إن تشكيل هوية النظرية النقدية لم يأت منفصلاً عن التراث الفلسفي الغربي الذي استطاع مفكرو مدرسة فرنكفورت أن يختزنوه داخل مكونات نظريتهم، بعد أن أخضعوه لمصفاة النقد والغربلة.

وفيما يتعلق بالتوجه الفكري للنظرية النقدية نجد أن مدرسة فرانكفورت سعت في بداية عملها الفكري إلى دعم الفرص العملية لتحرك ثوري من جانب البروليتاريا. ومع مرور ثلاثينيات القرن العشرين، تفككت الثورة في الاتحاد السوفييتي، وتلاشت التوقعات بحدوثها في أوروبا، ودخلت الفاشية بوقاحة إلى الحياة السياسية، وبدت الآمال الإنسانية التي كانت مرتبطة في الأصل بالعصرية متزايدة السذاجة. وقد سجلت مدرسة فرانكفورت هذا التحول التاريخي من خلال إخضاع الاعتقادات اليسارية الراسخة في الطبيعة التقدمية المتأصلة للعلوم والتكنولوجيا والتربية الشعبية والسياسة الجماهيرية لفحص هدام.

كان التنوير والماركسية يقارن بينهما فيما يتعلق بمُثلهما المتعذرة التحقق، بينما أعادت مدرسة فرانكفورت صياغة الجدل التاريخي عبر رؤى عميقة مأخوذة من أعمال آرثر شوبنهاور وفريدريش نيتشه وفرانز كافكا ومارسيل بروست وصامويل بيكيت والتراث الحداثي. لقد بدأت النظرية النقدية عملية استعادة الصور اليوتوبية المنسية ومثل المقاومة المهملة في ظل ظروف بدا فيها أن احتمالية تحقيق هذه الصور والمثل لم تعد قائمة، وكانت النتيجة شكلاً جديداً من " الجدل السلبي " الذي لم تَنْمُ شعبيته إلا بين الأكاديميين المعاصرين.

لقد قامت النظرية النقدية منذ نشأتها بنقد جذري لمشروع التنوير بما هو رمز للحداثة الغربية، وهذا ما يظهر بصورة جلية في كتاب جدل التنوير 1944 لهوركهايمر وأدورنو، الذي ظهر في سياق تاريخي متميز عرفته المجتمعات الغربية في تلك الفترة بعد صعود النظم السياسية الشمولية (النازية، الفاشية، الستالينية) التي أدت إلى السيطرة والاستبداد وانهيار موقع ومكانة الفرد في المجتمعات الغربية وظهور اللاتسامح على عكس الأسس والمبادئ التي قام عليها هذا المشروع الذي نادى بالعقل والحرية والعدالة واحترام كرامة الإنسان وحقوقه وفكرة التقدم الإنساني. غير أن التطور التاريخي تبيّن أن المشروع التنويري أصبح أبعد ما يكون عن المبادئ والأسس التي انطلق منها، حيث تحول العقل إلى أداة للسيطرة على الطبيعة، ثم على الإنسان. والمقصود بالعقل هنا العقل الأداتي أو التقني القائم على التكميم والفاعلية والموجّه نحو ما هو عملي وتطبيقي ونفعي. كما أن الفكر أصبح بمثابة آلة رياضية تتضمن تكريساً للعالم بوصفه إجزاءً خاصاً. بذلك يُقصد بالعقل الأداتي العقل الغربي المتركز حول الذات، والعقل الشمولي المنغلق الذي يدعي أنه يتضمن كل شيء، والعقل الأداتي الوضعي الذي يفتت ويجزئ الواقع ويحول كل شيء إلى موضوع جزئي حتى العقل نفسه. بتعبير أدق هو نوع من التفكير السائد في المجتمع الصناعي الحديث وهو ما وصفه هربرت ماركيوز بالتفكير ذو البعد الواحد، ويتضح ذلك في أسلوب التفكير العلمي والتقني، كما تعبر عنه الفلسفة الوضعية بأشكالها المعاصرة والفلسفة البراغماتية. ويتضمن مصطلح (الأداتية) مضمونين: فهو أسلوب لرؤية العالم، وأسلوب لرؤية المعرفة النظرية. بحيث إن رؤية العالم بوصفه أداة تعني اعتبار عناصره أدوات نستطيع بواسطتها تحقيق غاياتنا، والمثال على ذلك، أنا لا انظر إلى الشجرة لما يجلب جمالها لي من رضى، بل أراها خشباً يمكن أن يحول إلى ورق يطبع عليه كتابي الذي أقوم بتأليفه.... وبإمكاننا أيضاً النظر إلى المعرفة باعتبارها أداة و وسيلة لتحقيق غاية. وربما تكون هذه الفكرة أصعب كثيراً لأنها تتخلل ثقافتنا لدرجة أن أي وجهة نظر أخرى لا ترى في المعرفة أداة يصعب تصورها. باختصار شديد يمكن النظر إلى العقلانية الأداتية حسب هوركهايمر باعتبارها مجموع الوسائل أو القواعد التقنية الكفيلة بتحقيق غاية معينة تستدعي بذل جهوداً مضنية لتحقيقها.

ويذهب هابرماس في كتابه " التقنية والإيديولوجيا " إلى أن العقل الأداتي يعبر عن العقلانية الأداتية التي لعبت دوراً هاماً في تكوين معالم المجتمع الرأسمالي الغربي باعتبارها عقلانية تخضع للحساب الواعي، الذي يدرس كيفية الوصول إلى أهداف بحد ذاتها غير خاضعة لطابع قيمي بل لطابع عملي، ويتشخص هذا النوع من العقلانية في تعامل الإنسان مع الطبيعة وتتجسد في العلم والصناعة والتكنولوجيا الحديثة.

ويؤكد هابرماس أن مفهوم العقل الأداتي عند ماركيوز الذي يتفق مع مفهوم العقل التقني أو الأداتي هو ذاته إيديولوجيا فالتقنية هي السيطرة ذاتها على الطبيعة والإنسان، لذا نجد أن التقنية مشروع تاريخي اجتماعي تنعكس فيه ما يريده المجتمع والمصالح المسيطرة أن تفعله بالناس والأشياء.

هكذا، انبثقت النظرية النقدية كرد فعل على الوضعية التي كانت تُعنى مع أوغست كونت بدراسة الظواهر الاجتماعية دراسة علمية موضوعية تجريبية، باستخدام الملاحظة والتكرار والتجربة، وربط الأسباب بمسبباتها، بغية فهم الظواهر العلمية فهماً علمياً دقيقاً. وكانت الوضعية تهتم أيضاً بوصف الظواهر دون تفسيرها، لأن التفسير يرتبط في منظور الوضعية بالـتأملات الفلسفية والميتافيزيقية. كما استبعدت الوضعية البعد الإنساني والتأملي والأخلاقي في عملية البحث. وقد وجهت مدرسة فرانكفورت إلى هذه النظرية الوضعية انتقادات قاسية. وفي هذا الصدد، يقول بوتومور في كتابه مدرسة فرانكفورت: اتخذ أصحاب مدرسة فرانكفورت موقفاً مناهضاً لها، فانتقدها أدورنو لعجزها عن اكتشاف المصلحة الذاتية التي قد تسهم في تحقيق تقدم موضوعي، بسبب القصور الكامن في أسسها المنهجية، وفشلها في إقامة صلة قوية بين المعرفة من ناحية والعمليات الاجتماعية الحقيقية من ناحية أخرى. لذلك، انتقدها هابرماس بسبب طبيعتها المحافظة، وقصورها عن فهم العلاقة الخاصة بعلم الاجتماع والتاريخ، انطلاقاً من أن علم الاجتماع الوضعي لا يأخذ في اعتباره دور التحولات التاريخية في تشكيل المجتمعات. وفي ذات السياق يرى ماركيوز من خلال كتابه الشهير " الإنسان ذو البعد الواحد- دراسة عن إيديولوجية المجتمع المتقدم " الذي نقد فيه العقل الأداتي وما آلت إليه الحداثة الغربية الرأسمالية أو الاشتراكية عبر التطورات الاقتصادية والتكنولوجية التي شيئت كل شيء حتى الإنسان، لذلك يعتبر مفهوم الإنسان ذو البعد الواحد من أهم المفاهيم التي حللها وناقشها ماركيوز، وتعني " الإنسان البسيط غير المركب "، فالإنسان ذو البعـد الواحد هو نتاج المجتمع الحديث، وهو نفسه مجتمع ذو بعد واحد يسيطر عليه العقل الأداتي والعقلانية التكنولوجية والواحدية المادية، وشعاره بسيط هو التقدم العلمي والصناعي والمادي وتعظيم الإنتاجية المادية وتحقيق معدلات متزايدة من الوفرة والرفاهية والاستهلاك،  بحيث تهيمن على هذا المجتمع الفلسفة الوضعية التي تطبق معايير العلوم الطبيعية على الإنسان، وتدرك الواقع من خلال نماذج " كمية – رياضية " وتظهر فيه مؤسسات إدارية ضخمة تغزو الفرد وتحتويه وترشّده وتنميطه وتشيئه وتوظفه لتحقيق الأهداف التي حددتها.

وفي سياق متصل نظر هابرماس إلى الوضعية باعتبارها تعبر عن أسلوب لتحنيط العلم لدرجة يغدو فيها إيماناً مقتنعاً بقدرته الخارقة على تقديم أجوبة على كل الأسئلة ووضع الحلول لكل المشاكل. أما النزعة التقنية فإنها تعمل على توظيف المعرفة العلمية والتقنية بوصفها إيديولوجيا. لذا يرى هابرماس أن الكشف عن مكونات الخطاب الوضعي معناه نقد الحداثة في تعبيرها الإيديولوجي، بذلك ينصب نقد هابرماس للوضعية على التعبير الفلسفي كما على دورها الإيديولوجي. ذلك أن العلمي والإيديولوجي متلازمان في الوضعية المعاصرة، ثم إن الوضعية والنزعة التقنية تشكلان وجهين لنفس الوهم الإيديولوجي. بل إن الوضعية تسجل، ما يسميه هابرماس بـ " نهاية نظرية المعرفة ". وحجر الزاوية التي تستند عليه الوضعية هو مبدأ العلموية الذي يفترض، كما قلنا أن معنى المعرفة يتحدد بما تحققه العلوم ويمكن بالتالي أن يفسر بواسطة التحليل المنهجي للأساليب العلمية.

ويتصور هابرماس أنه إذا كانت الوضعية قد جاءت على أنقاض التصورات التقليدية للعالم ولا سيما الميتافيزيقية منها، وإذا كان المفهوم الوضعي للواقعة يسلم بأن وجود المعطى المباشر بوصفه معطى جوهرياً، فإن الوضعية تؤسس، شاءت أم أبت، فلسفة بالتاريخ. ولذلك فكل النقد لهذه النزعة يجب أن يراعي ضرورة إعادة الاعتبار للتفكير الذي تم نفيه عن طريق تنشيط المعرفة العلمية الحقة من خلال القيام بإعادة بناء ما قبل تاريخ الوضعية الجديدة. واستئناف النظر في التأمل الذاتي كحركة فكرية وكفعل فلسفي يعطي للعلوم التجريبية قيمتها الإجرائية الحقيقة وللعلوم الاجتماعية مكانتها الفعلية في التقسيم العملي النظري.

يعلن هابرماس عن أن هذه البنية منذ المقدمة التي استهل بها كتاب المعرفة والمصلحة حين أكد على أنه يحاول القيام بإعادة بناء ما قبل تاريخ الوضعية الحديثة من منطلق القصد المنهجي في تحليل ارتباط المعرفة والمصلحة. فأي واحد يتتبع عملية تفكك نظرية المعرفة والتي حلت محلها نظرية للعلم، يمر عبر درجات مختلفة من إهمال للتفكير... إن الوضعية هي نفي التفكير. إن تحليل هذا الارتباط العضوي الموجود بين المعرفة والمصلحة من خلال الفلسفة الوضعية، في تعبيراتها التقليدية والحديثة، يجب أن يعتمد على أطروحة مفادها أن نقداً جذرياً للمعرفة لا يمكن أن يتم إلا في شكل نظرية للمجتمع من جهة، وبالقيام بتفكير حول العلم في ذاته من جهة ثانية.

غير أن بعض الباحثين يعتبرون أن هابرماس يسقط في خلط كبير، في عملية نقده للوضعية، بين الوضعية المنطقية والفلسفة التحليلية والعقلانية النقدية لكارل بوبر وجمعه لهذه الاتجاهات في جبهة واحدة لمواجهتها. يعني أنهم لا يقبلون إلا وجهاً واحداً للعقلانية، معطى من خلال الضبط الذاتي للعلوم الرياضية والفيزيائية. إنهم يرفضون كل قيمة للمعرفة، وأحياناً لا يعترفون بأية دلالة من دلالاتها، ليس فقط للتأمل الذاتي الذي تطالب به الفلسفة باعتباره منهجها الخاص، ولكن أيضاً للتفهم الذي يؤسس الاهتمامات التأويلية، كما أنهم في الأخير يستبعدون من مجال العقلانية كل أحكام القيمة من النوع الأخلاقي مثلاً.

كان هابرماس يحاول في نقده للوضعية في مختلف تعبيراتها أن يبرز أن مسألة التفهم لا يمكن استبعادها من طرق الوضعية باسم العلوم التجريبية لأن تكوين هذه العلوم نفسه يتضمن بالضرورة، لحظة تفهم حتى لو كان مغلفاً، ثم في مرحلة ثانية عندما تتأكد شرعية التفهم باعتبارها مؤسسة للعقلانية، موسعة لمجال الابستمولوجية ضد التضييق الوضعي لما هو عقلاني، يتعين مواجهة ادعاء علوم التأويل في كونها تشكل البديل الوحيد للوضعية، وبالتالي الخطاب الوحيد الذي يمكن إقامته خارج العلوم الفيزيائية والرياضية. بل إن هابرماس ومن أجل دحض الادعاءات الكونية للتأويلية حاول أن يثبت أن الهرمينوطيقا نفسها غير ممكنة إلا إذا توفرت لحظة التأمل الذاتي الذي يشكل المنهج الخاص لمجموعة ثابتة من الاختصاصات العقلانية المتمثلة في العلوم النقدية (الماركسية، التحليل النفسي، الفلسفة بوصفها نظرية نقدية).

وبشكل عام، هاجم مفكرو مدرسة فرانكفورت سعي الوضعية إلى تحقيق المعرفة العلمية، وتكميم الحقائق، بما يؤدي إلى ضياع المعنى الجوهري للظواهر الاجتماعية. وأنه ارتباطاً بذلك، فقد أدى تمثل الوضعية لنموذج العلم الطبيعي في علم الاجتماع إلى فصل المعرفة عن بعدها الأخلاقي، وهو ما يعني استبعاد الموقف الأخلاقي للباحث، عن طريق الادعاء بأن علم الاجتماع هو علم متحرر من القيمة، وهو ما يعني أيضاً أن هذا العلم يمكن أن يكون أداتياً بالنسبة للقوى الاجتماعية المتسلطة، أو هو وسيلة للتحكم والهيمنة كما حدث في الرأسمالية المتقدمة.

ويدل هذا على أن الوضعية العلمية تستبعد الذات، والتاريخ، والأخلاق، والمصلحة الاجتماعية، وأنها في خدمة الليبرالية المستغلة، أضف إلى ذلك، أنها تعتبر البشر كائنات مقيدة بحتميات علمية جبرية، وأن لا دور للإنسان في التغيير أو صنع التاريخ، ويرى مفكرو فرانكفورت أن التراث الوضعي يميل للنظر إلى البشر باعتبارهم كائنات لا قوة لها في مواجهة المجتمع، وهو ما يتضح لدى دوركايم الذي يؤكد أن الفرد يجد نفسه في مواجهة المجتمع كقوة أسمى منه عليه أن ينحني أمامها، أو ما يؤكد عليه ماكس فيبر حين يرى أن الفرد في المجتمعات البيروقراطية، رأسمالية أم اشتراكية، ليس إلا ترساً في آلة كبيرة. وفي مواجهة ذلك، ترى النظرية النقدية أن ذلك ناتج عن العمق الداخلي للإنسان، ومن ثم، تؤكد هذه النظرية على العلاقة الجدلية بين الفرد والمجتمع، كذوات مستقلة غير خاضعة، تعكس جوانب الحقيقة الكلية.

طالما اعتبرت مدرسة فرانكفورت الفلسفات المؤسساتية عقبات في سبيل إقامة مجتمع حر، وقد أدان أعضاؤها الانشغال بالأسس المطلقة والفئات التحليلية والمعايير الثابتة للتحقق من ادعاءات الصحة. ورأوا أن ثمة متهمين أساسيين في هذا الشأن: " الفينومينولوجيا " بادعاءاتها الأنطولوجية حول الكيفية التي يختبر بها الأفراد الوجود، و" الفلسفة الوضعية " بما تطلبه من تحليل المجتمع وفقاً لمعايير العلوم الطبيعية. هُوجم كلا المذهبين الفلسفيين لتعاملهما مع المجتمع من ناحية لا تاريخية وقضائهما على الذاتية الأصيلة، وكان المقصد من النظرية النقدية أن تكون بديلا لهذين المذهبين، وقد كان وراء تلك النظرية هدف يسعى لإحداث تحول واهتمام خاص بثقافة الحياة الحديثة.

يمثل الاغتراب والتشيؤ الفكرتين الأكثر ارتباطاً في العموم بالنظرية النقدية. يقترن الاغتراب عادة بالآثار النفسية لاستغلال العمال وتقسيم العمل، فيما يتعلق التشيؤ بالكيفية التي يعامل بها الأشخاص فعليا باعتبارهم (أشياء) من خلال مفاهيم منتزعة من سياقها التاريخي. وقد أجرى ماركسيون غربيون دراسات رائدة عن الاغتراب والتشيؤ بالفعل خلال عشرينيات القرن العشرين، إلا أن مدرسة فرانكفورت قدمت رؤية فريدة للكيفية التي أثرت بها هذه الفئات المعقدة على الأفراد في المجتمع الصناعي المتقدم.

درس أعضاء مدرسة فرانكفورت الطرق التي اختزل من خلالها التفكير إلى مفاهيم آلية عن ماهية كل ما هو عملي ومربح، وكان التأمل الأخلاقي في طريقه إلى التلاشي، وشرع الاستمتاع الجمالي في التحول إلى شيء أكثر نمطية. لاحظ منظرو النظرية النقدية في قلق كيف أن تفسير المجتمع الحديث بدأ يصبح أكثر صعوبة من أي وقت مضى، ومن ثم، كان الاغتراب والتشيؤ يحللان من ناحية الكيفية التي من خلالها عرضا ممارسة الذاتية للخطر، وجردتا العالم من المعنى والغاية، وحولتا الفرد إلى ترس في آلة.

ويُنظر إلى ممارسات معسكر أوشفيتز (ونحن بدورنا نرى أن الإبادة الجماعة لسكان قطاع غزة في فلسطين المحتلة من قِبل الكيان الصهيوني الغاشم بحجة القضاء على الإرهاب لا يقل بشاعة عن ممارسات معسكر أوشفيتز) على أنه يجسد أكثر آثار الاغتراب والتشيؤ جذرية. لقد كان الحدث الفاصل الذي حطم الافتراضات المتفائلة حول التقدم من أساسها أكثر مما فعل زلزال لشبونة خلال القرن الثامن عشر. ولما كانت صور معسكرات الاعتقال النازية لا تزال ماثلة في الأذهان، ومع تدمير هيروشيما وناكازاكي، وظهور تقارير جديدة عن المعتقلات السوفييتية (الجولاج)، ومع تزايد انتشار المكارثّية في الولايات المتحدة، بدا لمدرسة فرانكفورت كأن الحضارة الغربية لم تأت بالتطور الإنساني، وإنما أتت بنزعة بربرية غير مسبوقة. وأدرك أعضاء المدرسة أن شيئاً أكثر من النقد المعتاد للرأسمالية مطلوب من الفكر الراديكالي.

ومن الواضح أن المجتمع الجماهيري الذي تحكمه البيروقراطية يجمع بين كل أشكال المقاومة، ويطمس الفردية الأصيلة، وينتج تركيبات شخصيات ذات ميول سلطوية. وكان التماثل يفت في عضد الاستقلالية. وإذا كان التطور الرأسمالي يرتبط بالتنميط والتشيؤ، فإن التقدم يعد فعلياً نوعاً من الرجوع للوراء، ومن ثم كانت الأوهام المرتبطة بعصر التنوير (التي يسلم بها اليسار بغير انتقاد) تتطلب إعادة نظر، بل وتحتاج العصرية نفسها إلى نقد.

اتفق أعضاء مدرسة فرانكفورت كافة على الحاجة إلى زيادة التعليم لمجابهة الاتجاهات السلطوية. لكن ظل مدى الفعالية التي قد يكون عليها مثل هذا التعليم غير واضح في مجتمع خاضع لإدارة شمولية. فقد كانت هناك " صناعة ثقافة " جديدة - وهو مفهوم ربما يعد أكثر المفاهيم المرتبطة بالنظرية النقدية شهرة - تكافح باستمرار لخفض أقل قاسم مشترك من أجل زيادة المبيعات إلى أقصى حد. وكان كل من التجربة الفردية الأصيلة والوعي الطبقي معرضين لخطر النزعة الاستهلاكية للرأسمالية المتقدمة. كل هذا دفع هوركهايمر وأدورنو وماركيوز إلى ادعاء أن درجة شهرة أي عمل - بصرف النظر عما يحمله من رسالة سياسية - هي ذاتها درجة اندماج الدافع الراديكالي لهذا العمل مع النظام. وقد أصبح هؤلاء المفكرون رواداً لفن حداثي تجريبي وشكل " إيسوبي " من الكتابة الملتفة التي أخفت معتقداتهم الراديكالية في ظل المناخ المشحون خلال فترة ما بعد الحرب. ومع ذلك، فإن ذلك الأسلوب المستتر غير المباشر للنظرية النقدية زادها جاذبية بين المفكرين الراديكاليين الذين اشتركوا في انتفاضات ستينيات القرن العشرين.

تتصف بطابع تنبئي ما كانت النظرية النقدية، فقد تنبأ مؤيدوها بحدوث تحول في الحياة اليومية والتجربة الفردية. فهي لم تهاجم فقط الآراء المؤسساتية للتاريخ، بل قدمت أيضا بديلاً راديكالياً لها. وقد طبق الراديكاليون الأوروبيون أفكار النظرية النقدية الخاصة بإعادة تشكيل الأسرة والعلاقات الجنسية والتعليم. لقد سعوا للوصول لإدراك يوتوبي جديد مجرد من القسوة والمنافسة. لكن مدرسة فرانكفورت انقسمت على نفسها فيما يتعلق بالحركات الخاصة بستينيات القرن العشرين. كان أدورنو وهوركهايمر متشككين. فقد تشككا في الثقافة المضادة والهجوم على التقليد، والعنف المتقطع ومعاداة الفكر، بالإضافة إلى حالة الارتياح التي كان من المفترض أن النشطاء الراديكاليين يقدمونها لأعداء الديمقراطية، وقد ساويا ما بين هذه الحركات الجماهيرية التي ظهرت في ستينيات القرن العشرين والحركات التي ظهرت في فترة ما بين الحربين العالميتين الأولى والثانية، وربطاً بين التفكير اليوتوبي والشمولية.

في ذلك الوقت، بدا أن المقاومة الحقيقية تدعو إلى التركيز على اللحظة السلبية في التقليد النقدي. وقد ذكر أدورنو بوجه خاص أن الأمر لم يعد يقتصر على مجرد رفض ربط الحرية بأي نظام - أو جماعة - وإنما يمتد إلى وضع تصور ﻟ " اللا هوية " (وزيادة حدة التوتر) بين الفرد والمجتمع. تلاشى الانشغال بالمقاومة المنظمة والسياسات المؤسسية لصالح الوصول لشكل فلسفي جمالي للنقد أو (في حالة هوركهايمر) " التوق للآخر الكامل " شبه الديني. ظلت مدرسة فرانكفورت تستخدم المنهج الذي ورثته عن هيجل وماركس. وكان أكثر أعضائها المحافظين سياسياً لا يزالون يرون أن الذاتية واقعة في شرك ما تقاومه: الشكل السلعي والثقافة الجماهيرية والمجتمع البيروقراطي. إلا أنهم أثاروا شكوكاً جديدة حول الادعاءات العالمية والأسس الفلسفية والمعتقدات الجامدة.

توقّع " الجدل السلبي " كثيراً من المخاوف المرتبطة بما بعد الحداثة وما بعد البنيوية إلى حد أن كلا المذهبين في الواقع غالباً ما ينظر إليهما الآن على أنهما تعبير عن النظرية النقدية. غزت مناهج تفكيكية وما بعد بنيوية أشهر الدوريات وأهم التخصصات، بداية من الانثروبولوجيا والأفلام وحتى الدين واللغويات والعلوم والسياسة. وقد أنتجت رؤى عميقة جديدة حول العرق والنوع وعالم ما بعد الاستعمارية. لكن في خضم ذلك، فقدت النظرية النقدية قدرتها على تقديم نقد متكامل للمجتمع، ووضع تصور لسياسات هادفة، وطرح مثل جديدة للتحرر. كما حول تفسير النصوص والاهتمامات الثقافية والنزاعات الميتافيزيقية النظرية النقدية تدريجياً إلى ضحية لنجاحها، فكانت النتيجة أزمة هوية دائمة.

يجب أن يلقي منظرو النظرية النقدية نظرة على الماضي ليتمكنوا من المضي قدماً. لقد أثْرَت مدرسة فرانكفورت فهمنا للعائلة والكبت الجنسي وعلم التربية والإبادة الجماعية والتسلية والتحليل الأدبي ومجموعة كبيرة من الموضوعات الأخرى. لكن التقليد النقدي لديه كذلك ما يخبرنا به فيما يتعلق بالاختلالات في ميزان القوى في الاقتصاد والدولة والحيز العام والقانون والحياة العالمية. وحتى أكثر المفكرين انتقاداً لعصر التنوير يقدمون أسباباً مهمة من أجل تقديم دفاع منطقي عنه، وينطبق الشيء نفسه على الليبرالية والاشتراكية، ولا يزال توضيح ظروف الاضطهاد، وفتح طرق جديدة للمقاومة، وإعادة تشكيل مُثُلٍ محررة تمثل نطاق اهتمام النظرية النقدية. ثمة حاجة إلى وجهات نظر سياسية جديدة لإبراز إمكانيات التغيير المحدثة للتحول في مجتمع عالمي جديد. والمسألة الآن تتمثل في إخضاع الأشكال الثابتة للنظرية النقدية للمنهج النقدي، وهذا ما ينبغي أن يكون عليه الأمر، فبهذه الطريقة فقط يمكن الإبقاء على الإخلاص للروح الأصلية للمشروع النقدي.

من خلال ما تقدم نستخلص أن النظرية النقدية هي مدخل للعلوم الإنسانية والفلسفة التي ظهرت أصلاً في الثلاثينيات وبداية الأربعينيات على يد بعض الأعضاء البارزين في معهد فرانكفورت للبحث الاجتماعي (مدرسة فرانكفورت) الذي أنشئ عام 1923. وقد ظهر هذا المصطلح تحديداً عندما نشر هوركهايمر عام 1937 دراسته حول (النظرية النقدية والنظرية التقليدية)، والتي تعد الوثيقة الأساسية في توضيح التوجه الفكري للنظرية النقدية. فالنظرية التقليدية لديه هي ما تعبر عنه الاتجاهات الوضعية في نظرتها للنشاط البشري على أنه شيء أو موضوع خارجي داخل الحتمية الميكانيكية، على حين ترفض النظرية النقدية النظر إلى الوقائع الاجتماعية على أنها أشياء، ومن ثم ترفض طابع الحياد الذي تتسم به الوضعية، وتحاول في المقابل أن تطرح فكراً لا يفصل بين النظرية والممارسة. وقد فهم هوركهايمر، ومعه فلاسفة فرانكفورت، الماركسية على أنها العلم النقدي للمجتمع، وأن مهمة الفلسفة بالتالي متابعة العملية النقدية والتحري عن أشكال الاغتراب الجديدة. وقد أخذت مساهمته الخاصة شكل تحليل نقدي للعقل. فلئن يكن العقل قد صاغ في الماضي مُثل العدالة والحرية والديمقراطية، فإن هذه المُثل حلّ بها الفساد في هيمنة البرجوازية التي أدت إلى تحلل حقيقي للعقل. ومن هنا بدت الحاجة إلى نظرية نقدية جدلية تستطيع أن تتعقل اغتراب العقل بالذات.

ترمي النظرية النقدية عند هوركهايمر إلى تحقيق ثلاث مهام: أولها الكشف في كل نظرية عن المصلحة الاجتماعية التي ولدتها وحددتها، وهنا يتوجه هوركهايمر، كما فعل ماركس، إلى تحقيق الانفصال عن المثالية الألمانية ومناقشتها على ضوء المصالح الاجتماعية التي أنتجتها.

وتنحصر المهمة الثانية للنظرية النقدية في أن تظل هذه النظرية على وعي بكونها لا تمثل مذهباً خارجاً عن التطور الاجتماعي التاريخي. فهي لا تطرح نفسها باعتبارها مبدأ أخلاقياً، أو أنها تعكس أي مبدأ أخلاقي خارج صيرورة الواقع. والمقياس الوحيد الذي تلتزم به هو كونها تعكس مصلحة الأغلبية الاجتماعية في تنظيم علاقات الإنتاج بما يحقق تطابق العقل مع الواقع، وتطابق مصلحة الفرد مع مصلحة الجماعة.

أما المهمة الثالثة، فهي التصدي لمختلف الأشكال اللامعقولة التي حاولت المصالح الطبقية السائدة أن تلبسها للعقل وأن تؤسس اليقين بها على اعتبار أنها ليست سوى أدوات لاستخدام العقل في تدعيم النظم الاجتماعية القائمة، وهو ما دعاه هوركهايمر بالعقل الأداتي.

بذلك تسعى النظرية النقدية إلى تحقيق المصلحة الاجتماعية، وتراعي التطور الاجتماعي التاريخي في إطار المادية التاريخية، وهذا يقرب النظرية النقدية من المادية الثقافية، كما تهدف هذه النظرية إلى خدمة مصالح الأغلبية، والتصدي للأشكال الشكلية والتيارات اللامعقولة التي تخدم الأنظمة الحاكمة.

كما تعتبر النظرية النقدية قراءة ماركسية للأدب. وفي هذا الصدد، يقول توم بوتومور تؤكد النظرية النقدية على انتسابها إلى الماركسية، دون أن تضيع الاختلاف مع قراءاتها الكلاسيكية، وبخاصة تلك التفسيرات والأطروحات التي قدمها رواد ومنظرو الأممية الثانية والثالثة، وعلى رفضها الاختيار بين التماثل المتناقض مع الفلسفة والعلم، بادعاء أن ما قدمته هو شكل جديد للموضوعية الاجتماعية التاريخية، وهو ما جعلها في تعارض مع الميتافيزيقا والوضعية.

تأسيساً على ما سبق، يمكن اعتبار النظرية النقدية نظرية تتجاوز الوضعية، وترفض منطلقات المثالية الألمانية، ومن ثم، فهي نظرية اجتماعية ماركسية، تولي أهمية كبيرة للذات في تفاعلها مع الموضوع، كما ترتكز على المادية التاريخية، وتعنى بالقيم والأخلاق، وبتفاعل الذات مع المجتمع على أن الذوات البشرية مستقلة وغير خاضعة لحتميات أو جبريات موضوعية. ويعني هذا أن الإنسان له دور كبير في صنع التاريخ، وتغيير مجتمعه. ومن ثم، فالنظرية النقدية في الحقيقة هي رؤية نقدية إزاء المجتمع الرأسمالي الاستهلاكي في قمة تطبيقاته العملية واليومية.

إلا أن النظرية النقدية من خلال مفكريها رواد مدرسة فرانكفورت أخفقت في الالتزام بالطريقة القاطعة التي اقترحها هوركهايمر للنظرية النقدية. مثال ذلك أن ماركيوز قد تحول خلال الستينيات إلى ناقد لهذه النظرية، حين ذكر أنها لا تمتلك المفاهيم والأدوات التصورية القادرة على سد الفجوة بين الحاضر والمستقبل.

خلاصة القول، سعت النظرية النقدية إلى توجيه النقد إلى المجتمعات الصناعية المتقدمة بالتقويض والتشريح والتفكيك، وتنتقد النظريات العلمية والوضعية التي أهملت الإنسان، والذات، والمجتمع، والمصلحة الاجتماعية، والقيم الأخلاقية، واعتبرت الإنسان موضوعاً مشيأ، تتحكم فيه الحتميات الجبرية، وأنه لا قوة له ولا فاعلية في صنع التاريخ أو تغيير المجتمع. ومن ثم، فقد جاءت النظرية النقدية لتصحيح أوضاع المجتمع وتغييرها، وذلك عن طريق تعرية المؤسسات الرأسمالية المهيمنة، وفضح أوهامها الإيديولوجية، وتطوير المفاهيم الماركسية في ثوب جديد، أو إعادة صياغتها مرة أخرى كما فعل هابرماس. وقد تحققت فعلاً قطيعة ابستمولوجية بين النظرية النقدية التقليدية والنظرية النقدية الجديدة.

أما عن أهم الانتقادات الموجهة إلى مفكري مدرسة فرانكفورت اختلاف آرائهم من شخص إلى آخر، واختلاف توجهات مدرسة فرانكفورت لما بعد الحداثة عن مدرسة فرانكفورت في فترة الثلاثينيات من القرن العشرين. كما استبعدت المدرسة اهتمامها بالتاريخ والاقتصاد إلى حدٍ كبيرٍ، وانحرفت انحرافاً كبيراً عن مبادئ الماركسية الكلاسيكية كما عند الجيل الثاني من مفكري معهد فرانكفورت. وقد همشت النظرية النقدية الجديدة مع هابرماس الطبقة العاملة باعتبارها طبقة ثورية سياسية فاعلة ومغيرة. لذا وصفت مدرسة فرانكفورت بأنها "ماركسية بدون بروليتاريا ". ومن هنا، يبدو أن مفهوم مدرسة فرانكفورت عن تدهور، أو تلاشي الطبقة العاملة كقوة سياسية، قدم أساساً على فكرة طوباوية وخيالية عن الثورة، التي هي بأية حال الطريق الوحيدة، أو الأكثر ماركسية، لتصور عملية الثورة الاجتماعية. وربما يكون هذا المفهوم قائماً أيضاً على انعكاس الخبرة الاستثنائية الأمريكية، الناجمة عن غياب طبقة عاملة منظمة سياسياً في المجتمع الأمريكي، على فكرهم، ولا سيما في حالة ماركيوز. وفي هذا السياق يقول بوتومور: إن مدرسة فرانكفورت أخفقت في الالتزام بالطريقة القاطعة التي اقترحها هوركهايمر للنظرية النقدية، حين ذكر أنها لا تمتلك المفاهيم والأدوات التصورية القادرة على سد الفجوة بين الحاضر والمستقبل.

كما أنها قد ابتعدت في مراحلها الأخيرة عن الماركسية التي انطلقت منها في بداياتها، بل أعلنت هذه النظرية فشلها حينما اعتبر هابرماس بأن نظرية ما بعد الحداثة حالة مرضية، بسبب اختلال التوازن بين ما هو معنوي وما هو مادي. وهكذا، نصل إلى أن النظرية النقدية هي قراءة ماركسية للمجتمع، ونقد للنظرية العلمية والوضعية التي أهملت الإنسان والذات والتاريخ والمجتمع والأخلاق. ومن ثم، تعمل النظرية النقدية على تنوير المرء الملزم، وتنويره عقلانياً وذهنياً، وانتقاد الاغتراب في المجتمع الرأسمالي، وإدانة فكرة التشيؤ والاستلاب والقمع الآلي. ومن ثم، تستند النظرية النقدية في قراءتها للأدب والفن إلى مفاهيم النقد الماركسي الكلاسيكي أو الماركسية المعدلة في نظرية هابرماس. ويمكن أن نحدد مجموعة من المراحل التي قطعتها النظرية النقدية الجديدة، فكان هناك في البداية اهتمام بنقد الوضعية العلمية، ومعاداة الفكرة السامية. وبعد ذلك، انتقل الاهتمام إلى المجال الثقافي مع ماركيوز، ليتم الإنصات إلى الحركات الثورية الطلابية والأقليات المضطهدة، لتتخذ النظرية النقدية توجهاً جدياً مع هابرماس، حيث بدأت النظرية النقدية الجديدة تقدم تصورات مختلفة حول المجتمع متأرجحة بين الفلسفة والعلم، كما أعيدت صياغة الماركسية من جديد على أسس علمية وسياسية واجتماعية ما بعد حداثية، لتنتهي النظرية النقدية بالثورة على ما بعد الحداثة نفسها، وذلك حينما وقع اختلال مجتمعي وحضاري بين القيم المادية والقيم المعنوية، فترتب عن ذلك أن أصبحت ما بعد الحداثة حالة مرضية مأساوية.

وعلى الرغم من إجماع مفكرو النظرية النقدية على نقد الواقع الاجتماعي بكل تجلياته، إلا أن لكل مفكر منهم أسلوبه الخاص في نقده لهذا الواقع من منطلق القاعدة النظرية الابستمولوجية التي تفسر حضور كل الأجزاء (المفكرون) في الكل (النقد) على الرغم من اختلافها في أسلوب ومناقشة الفكرة الرئيسية، ففي الاتجاه الفكري يمارس التعدد داخل الوحدة و لمجرد الحديث عن الاتجاه يكون الصعيد المجهري " micro " هو المقصود، أي جزء خاص محدد من المعرفة العلمية الحديثة وهو ما نشير إليه بالنظرية النقدية المعاصرة.

وهكذا نجد أن كل مفكري النظرية النقدية قاموا بنقد الوضع القائم في المجتمع عبر نقد النظريات الاجتماعية المحافظة، بهدف تأسيس نظرية نقدية للمجتمع ذات أسس نظرية ومنهجية تتمتع بقدرة عالية من المرونة والكفاءة، لكي تقوم بدورها البناء في نقد المجتمع والارتقاء به نحو الأفضل تحقيقاً لإنسانية الإنسان المهدورة في ظل المجتمعات الرأسمالية التكنولوجية، هذا التنوع الغني والإثراء الكبير لأفكار مفكريها جعلها من النظريات السوسيولوجية المميزة على الصعيد الأكاديمي لعلم الاجتماع بشكل عام والمعاصر بشكل خاص.

وفي الختام يجب علينا من منطلق مقولات النظرية النقدية المشبعة بالنزعة الإنسانية طرح مكاشفة نقدية حول الأحداث الجارية في فلسطين المحتلة (غزة الأبية) من مبدأ ربط النظرية بالممارسة، وبالأخص فيما يتعلق بطبيعة أحداث السياق الاجتماعي وتفاعلاته التي أثّرت بشكل مباشر في صياغة معالم الفكر النقدي لرواد النظرية النقدية أهمها: (معسكرات أوشفيتز النازية)، وفي هذا الصدد يرى الكاتب: ” تعتبر الممارسات اللا إنسانية والقمعية على يد النازيين في الحرب العالمية الثانية ضد الجماعات العرقية والدينية في معسكرات الموت (أوشفيتز)، إحدى العاملات الفارقة في تشكيل معالم الفكر النقدي لرواد النظرية النقدية.... لكن بالمقابل ألا يدعو هذا الحدث الذي يُعاد تكراره من حيث المبدأ مفكري النظرية النقدية المعاصرين (هابرماس، هونيث...) إلى إدانة ممارسات الكيان الصهيوني الغاصب في الإبادة الجماعية والقتل الوحشي والاعتقال التعسفي وانتهاك حقوق الإنسان ضد الشعب الفلسطيني صاحب الأرض..... سؤال برسم الإجابة وإعادة الطرح والتمحيص؛ لأن الإنسانية لا تتجزأ حسب مقولات النظرية النقدية لرواد مدرسة فرانكفورت “.

***

د. حسام الدين فياض

الأستاذ المساعد في النظرية الاجتماعية المعاصرة

قسم علم الاجتماع كلية الآداب في جامعة ماردين- حلب سابقاً

..........................

- المراجع المعتمدة:

- ماكس هوركهايمر: النظرية التقليدية والنظرية النقدية، ترجمة: مصطفى الناوي، مراجعة: مصطفى خياطي، الناشر عيون المقالات، الدار البيضاء، ط1، 1990.

- آلن هاو: النظرية النقدية – مدرسة فرانكفورت، ترجمة: ثائر الديب، المركز القومي للترجمة، القاهرة، العدد: 1584، ط1، 2010.

- عبد الغفار مكاوي: النظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت: تمهيد وتعقيب نقدي، مؤسسة هنداوي، المملكة المتحدة، ط2، 2018.

- ستيفن إريك برونر: النظرية النقدية: مقدمة قصيرة جداً، ترجمة: سارة عادل، مراجعة: مصطفى محمد فؤاد، مؤسسة هنداوي، المملكة المتحدة، ط2، 2016.

- فيل سليتر: مدرسة فرانكفورت (نشأتها ومغزاها- وجهة نظر ماركسية)، ترجمة: خليل كلفت، المشروع القومي للترجمة، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، العدد: 154، ط2، 2004.

- توم بوتومور: مدرسة فرانكفورت، ترجمة: سعد هجرس، مراجعة حافظ دياب، دار أويا، بنغازي، ط2، 2004.

- كريغ كالهون: النظرية الاجتماعية النقدية، ترجمة: مروان سعد الدين، المنظمة العربية للترجمة، بيروت، ط1، 2013.

- كمال بومنير: قراءات في الفكر النقدي لمدرسة فرانكفورت، مؤسسة كنوز الحكمة، الجزائر، ط1، 2012.

- كمال بومنير: النظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت – من ماكس هوركهايمر إلى أكسل هونيث، الدار العربية للعلوم ناشرون ومنشورات الاختلاف، بيروت والجزائر، ط1، 2010.

- حسام الدين فياض: مقالات نقدية في علم الاجتماع المعاصر – النقد أعلى درجات المعرفة، دار الأكاديمية الحديثة، أنقرة، ط1، 2022.

- حسام الدين فياض: تطور الاتجاهات النقدية في علم الاجتماع المعاصر – دراسة تحليلية – نقدية في النظرية السوسيولوجية المعاصرة، دار كريتار، إسطنبول، ط1، 2020.

- جميل حمداوي: النظرية النقدية أو مدرسة فرانكفورت، موقع الألوكة، 04/03/2012. https://2u.pw/auZ6eHU

- الزهراء سهيل الطشم: كيف أثرت " مدرسة فرانكفورت " في نتاج مفكرين عرب؟، موقع الميادين، 1 تشرين ثاني 2022.  https://2u.pw/2wornKj

هوامش

* الراديكالية لغوياً تعود إلى كلمة راديكال الفرنسية التي تعني الجذرية، دُعاتها من المنادين بالتغيير الجذري. واصطلاحاً تعني نهج الأحزاب والحركات السياسية الذي يهدف إلى إحداث إصلاح شامل وعميق في بنية المجتمع. والراديكالية نزعة تقدمية تنظر إلى مشاكل المجتمع ومعضلاته ومعوقاته نظرة شاملة تتناول مختلف ميادينه السياسية والدستورية والاقتصادية والفكرية والاجتماعية، بقصد إحداث تغير جذري في بنيته، لنقله من واقع التخلف والجمود إلى واقع التقدم والتطور.

 

لقد انطلقت نقدات وإنتقادات “ابن عاشور” تجاه كُتب جُمّاع الحديث وروّاة السيرة النبويّة المتواترة بغيّة الإصلاح، وذلك لإستحالة الفكر الإسلامي السائد من طَوّر المعلومات والمعارف التي تفتقر إلى الرؤية النقديّة في التحصيل والترابط في البنيّة إلى طوّر المراجعة والتحقيق العلمي الذي ينتهي إلى اليقين العقلي؛ ذلك الذي لا ينفذ من جناباته الشك حتى الوصول إلى المقصد الحقيقي الذي يُميّز نسقيّة الفكر الإسلامي الصحيح، دون غيره من الثقافات التي تستلهم جوهر أفكارها من الكُتب المقدَّسة وأخبار الأنبياء.

لذا نجده يناقش في مَعرض حديثه عن حلقة الوصل التي تربط بين واقعات السيرة النبويّة، والوقائع التي رُوّي فيها الحديث الشريف، موضحاً أهمية غربلتهما (أي الواقعات والوقائع) بمنهج عقلي نقدي، للكشف عن مواطن التلفيق والدَسّ والخلط، ذلك الذي خَلّف ورائه عشرات المسائل والقضايا التي أعيّت الجماعات السُنية والمعاهد السلفية المعاصرة، نَذكُر منها قضية الحاكميّة والخلافة الإسلامية، والفرقة الناجيّة، والعلاقة بين الدين والدولة، وذلك في ميدان السياسة، ومسألة غلق باب الإجتهاد وجعل التجديد الديني في تقليد السَلّف والتلويح بتهمة التكفير في وجه المعارضين للفكر السائد وضرورة تطبيق الحدود الشرعية في كل المجتمعات الإسلامية على نهج السَلّف وذلك في الفقه وأصوله، وتوجيه بعض الأحاديث للنيّل من حرية الإعتقاد والفكر والبَوّح، وذَمّ الأغيار من أرباب الديانات الأخرى والاعتداء عليهم، ناهيك عن المسائل التي شغلت حيّز كبير من اللجَاجَة واللغوّ في أحاديث أدعيائهم، مثل ما جاء في التراث بشأن إرضاع الكبير وعذاب القبر وخِتان المرآة ونقابها وعملها، وحقيقة أميّة النبي ومعجزة حديثه في المهد وغير ذلك من الأمور التي يَبّرأ منها النسق المعرفي للفكر الإسلامي المُتمثل في القرآن وصحيح الحديث والثابت من السيرة واجتهادات أهل الرأي من الفقهاء والعلماء المتبحرين في مقاصد الشريعة. لذا نجد ابن عاشور” يُقسّم الأحاديث النبويّة وكذا الواقعات المُتعلقة بتَسييّس أمور العباد من السيرة النبوية إلى ثلاثة أقسام لا ينبغي الخلط بينها في العمل بالسُنة وإقتفاء آثر المُصطفى (صلى الله عليه وسلم) فيها، وهي:

أولها: ما صَدّر عن النبي قولاً أو فعلاً وهو في مقام الإمامة أي الحاكم ووليّ الأمر، وهي من الأمور التي لا يجوز السَيّر على نهجه فيها باعتبارها سُنة ويجوز العدول عنها تبعاً لإختلاف الأزمان والمواقف والحاجات، فهي من أمور السياسة التي يُوكل أمرها إلى الحاكم أو الوليّ القائم بالرئاسة في مجتمعه مثل أمور السلم والحرب والإقتصاد والأموال العامة وأملاك الدولة والعلاقات الخارجية والقوانين المُنظمة لمصالح العِباد في مجتمع ما،

وثانيها: سُنته وهو في مقام القاضي الذي يَفصِل في القضايا المختلفة؛ فهي لا يجوز لأحد أن يقتفي آثر أحكامه إلا بحُكم حاكم، وذلك لأن هناك ظروفاً وأسباب قد دفعت النبي وهو في مقام القضاء أن يُصدر ذلك الحكم مقدماً درئ المفاسد على جلب المصالح وموازناً في الوقت نفسه بين المقصد الإلهي وما يتطلبه الواقع المعيش، فهناك حيثيات تتعلق بالأمور النفسية والاجتماعية والمادية، وغير ذلك من أمور ذات الصِلة بالواقع المُراد الفصل فيها.

وثالثها: سُنته وهو في مقام المُفتي أو الإفتاء وهو جزء من رسالته في التبليغ الشرعي، وهو واجب على كل المسلمين بالضرورة اقتفائه والسيّر على حرفيّة أوامره ونواهيه بدقة، ومن ثم يجب التحري عن تلك الأحاديث أو الأفعال لكي تُصبح قطعيّة الثبوت وقطعيّة الدلالة، حتى يتسنى لكل المسلمين العمل بها دون أدنى شطط أو جنوح أو جموح شأن الأوامر المتضمنة في آيات القرآن أو الشارحة لها، وأطمئن الجمهور إلى مقاصدها ومآلاتها.

ويقول “ابن عاشور” في ذلك: (إنّ لرسول الله صفات وأحوالاً تكون باعثاً على أقوال وأفعال تصدر منه، فبنا أن نفتح لها مشكاة تضئ في مشكلات كثيرة لم تزل تُعنت الخلق وتشجي الخلق، وقد كان الصحابة يُفرّقون بين ما كان من أوامر الرسول صادراً في مقام التشريع، وما كان صادراً في غير مقام التشريع، وإذا أُشكل عليهم أمراً سألوا عنه).

وإذا ما تأملنا اجتهاد “ابن عاشور” في هذا الدرب، فسوف ندرك أنه قد وازن بين الأصيل التليد والجديد المُبتَكر دون أدنى وقوع في الطرفين المذموميّن (أي الجمود، والشرود)، وتقسيمه للسُنة على نحو سابق قد سبقه إليه العلماء الأوائل مثل (شهاب الدين القرافي ١٢٢٨م – ١٢٨٥م ) في كتابه (أنوار البروق في أنواء الفروق). أما شرحها والكشف عن مدى صلاحيتها لمجتمعنا المعاصر فهو تجديد وابتكار لا يتعارض مع الحوادث المماثلة في الثابت من السيرة النبويّة والقياس والإستباط والإستدلال من الأمور الإجتهادية التي لايَصِح الحُكم عليها بالقطع نفعاً أو ضرراً إلا بالتجربة والتطبيق العملي.

كما فَرق “ابن عاشور” بين الروايات التي تعرّضت لخصوصية النبي في مظهره أو مسلكه اليومي، وبين السُنن التي يجب على المسلمين الإقتداء بها، ولاسيّما ما يُدرج منها في المعاملات الراقية والأخلاق الفاضلة والجميل من الأقوال والهيئات، فما أكثر الأفعال والأقوال التي يُقدِم عليها العوام ظناً منهم بأنها من الشرع والتديّن والسيّر على سُنة النبيّ وصحابته دون أدنى تمحيص أو نقد، والوقوف على مدى نفعها من عدمه ومقاصدها ومآلاتها شأن إطلاق اللحية والإستنجاء والأكل بالأيدي وإرتداء الجلباب، أو ما رُوّي عن النبي في حديث هَزِرّ أو ضحك أو نُصح أو لوّم أو ترغيب أو ترهيب، وذلك لأن لكل حادث حديث ولكل واقعة ظروفاً وملابسات، وإنتهى رأي “ابن عاشور” في حديثه عن السُنن الواجبة إلى ضرورة إعمال العقل في تحقيقها ثم في نفعها ومآلاتها في ضوء واقع كل مجتمع يعيش فيه المسلمون ولا تقليد واجب إلا ما كان من السُنة مقطوع في صحته وثبوته، ويقول: “فلابد للفقيه من إستقراء الأحوال، وتوّسم القرائن الحافة بالتصرفات النبويّة، فمن قرائن التشريع الإهتمام بإبلاغ النبي إلى العامة والحرص على العمل به والإعمال بالحُكم وإبرازه في صورة القضايا الكلية … واعلم أن أشد الأحوال التي ذكرناها إختصاصاً برسول الله هي حالة التشريع؛ لأن التشريع هو المراد الأول لله تعالى من بعثته حتى حصر أحواله في قوله تعالى ” وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ ” (آل عمران ١٤٤).

وينتقل شيخنا إلى مناقشة موضوع لا يقل أهمية عن سابقه، ألا وهو تنقيّة سيرة النبيّ من بعض الروايات التي دُست فيها بقصد خبيث أو بغيّة إجلال وتعظيم من قدره ومكانته، وعلى رأس تلك الأكاذيب المروّية الكثير من المعجزات الحسيّة ومعظمها يرجع إلى رغبة روّاتها مقابلة معجزات المُصطفى (صلى الله عليه وسلم) وأقرانه من الأنبياء الذين سبقوه، وقد أراد “ابن عاشور” تقويم وتنقيح بعض الكتابات التراثية التي تحدثت في هذا المضمار، فذهب على صفحات (مجلة الهداية الإسلامية عام ١٩٣٦م) خلال إستعداد العالم الإسلامي للإحتفال بالمولد النبوي والإشادة بسيّرته وعِظم مكانته عند الله وبين الأمم مؤكداً مع “ابن رشد” والمُعتزلة على أن المُعجِز الجواني أقوى وأروع وأصدق للعقلاء من المعجزات البرّانيّة الحسيّة التي يُمكن للسحرة والمشعوذين والمُدلسين اصطناعها أو خداع العوام بحدوثها مع تسليمه وإيمانه بصدق الخوارق التي أجراها الباري على أيدي أنبيائه لإثبات صدقهم والإعلاء من  شأن قدرهم، وذلك بالإتيان بما يُعجِز أقوامهم عن تحقيقه ويفوق تصوارتهم لحدوثه، كما لا يُكَذب أو يرتاب في ما ثَبُت من هذا الدرب المُعجِز من سيرة النبي وذلك في الخبر المُجمع على صحته وأكدته آيات القرآن ومروياته بالواقعات التي يَصُعب الشك في حدوثها إذا ما حاول الأغيار ذلك.

ثم اجتهد في توضيح الفارق بين المُخالف للعادة والخارق للسُنة الطبيعية، ليُميّز بين الكرامات التي تَجري على أيدي بعض الأولياء والأصفياء والأتقياء من الصوفية، والمعجزات التي خَص بها الله الأنبياء دون غيرهم، ثم ميّز بعد ذلك بين المُعجز النبوي الذي تَفردّ به المُصطفى (صلى الله عليه وسلم) ودونه من سائر البشر، وعبّر عنها بقوله أن سيرته وخصاله وطباعه ومجاهدته وجهاده وقدرته على التبليغ ورأفته ورحمته وتسامحه وشدته وحبه وورعه وجماله وكماله، هو المُعجِز الخفيّ على الحسيّين، والواضح أبداً والظاهر دوماً للعقلاء والمحللين وللعلماء والمحررين وكُتاب السيّر من القدماء والمُحدثين، وقد لَخصّ “ابن عاشور” المُعجِز الجواني أو المُعجزة الخفيّة التي أُختص بها النبي في (طهارة النفس وصفاء السريرة وخيريّة الجِبِلة قبل البعثة، وكمال الخِلقة والخُلق والعِصمة وهي جامعة بين ما اكتسبه بالإرادة البشرية والنعِمة الإلهيّة، ثم حاجة العالم إلى وجود رسالته وذلك لتفشي المكاره والإنحطاط بين البشر وجحودهم للشرائع السابقة بعد التجديف عليها وتحريف متونها، ثم خلوّ سيرته من أي فصام بين القول والعمل وإستشرافه للعديد من الحوادث والأخبار والأخطار وإخباره عن أمور يستحيل عليه تحصيلها دون علم الباري وثبات صحة ما نهى عنه بالقطع وأكد تحريمه، ثم الحكمة الربانيّة والشريعة الإلهية التي وُرِدَت في القرآن وما يحويه من صور عديدة للإعجاز اللغوي والبلاغي والإخباري والمعرفي والعقلي والثوابت الحِكميّة المتمثلة في توجيه الخطاب للعقلاء للتأمل والتدبر وإعلأه من شأن العلماء للتزود من المعارف لجلب النافع ودفع الضار، والدستور القابل للتطور دوماً وإستيعاب ما يستجّد من حوادث إلى أن تتنهي الأرض وما عليها)،

ويقول:” فإنّ أهل النظر والعلوم يحبون أن يعثروا على نِكّت – أي طُرفة – جديدة على قاعدة “كم ترك الأول للآخر”؛ ففي ذلك نشاط لهممهم العلمية لا تحصل لهم من الإشتغال بالفوائد المعادة على قاعدة “هل غادر الشعراء من متردم؟”، وهي تشبه خوارق العادات من حيث إنّ جميعها إنْ تأملته وجدته صادراً في أزمنة وأحوال يَعِز أن يصدر أمثالها في أمثالها، أما إذا إعتبرت مجموع طائفة منها قليلة أو كثيرة، فإنّك تجد إجتماعها وتظاهرها يقارب أن يكون خارق عادة، وتقوى تلك المقاربة بمقدار تكاثر ما لاح للناس منها، لأن إجتماع الأمور المتناسبة يبعدها عن الصدفة، ويقربها من قصد نصب الدلالة، فيوشك حينئذ أن تساوي المعجزة المشهورة في نيابتها مناب قول الله تعالى ” صدق عبدي فيما أخبر عني”.

ويقول في موضع آخر إنّ القرآن الكريم هو المُعجز الأكبر والدليل الأعظم على صدق النبي، وهو الشاهد الخالد على حقيقة الشريعة الربانيّة التي حملها المُصطفى (صلى الله عليه وسلم) إلينا في تلاوته للوحيّ وصحيح حديثه وسُنته، ويقول مُستشهداً بأقوال الرسول في هذا السيّاق:(هذه الخصيصة يشارك هذا النوع معجزة القرآن في الدوام وعدم الإنهاء، ولعلنا نستروّح لهذا النوع من المعجزات لمحة من قول النبي “ما من الأنبياء نبي إلا أؤتي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنّما كان الذي أؤتيت وحيّاً أوحى الله إليّ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة)؛ فلفظ الوحيّ وإنْ كان يتبادر إلى القرآن وهو بحق أجَلّ أنواع الوحيّ … ويتضح من هذا أن هنالك صِلة متينة وإنتساباً قوياً بين عموم دين الإسلام ودوامه، وبين المعجزات الخفيّة الصالحة لإستمرار الحجيّة بها والمتجدد بعضها عقب بعض).

ولا ريّب في أن “ابن عاشور” قد عَبر بما أورده في كتاباته عن العلوم الشرعيّة مدى أصالة إنضوائه للمشروع الحضاري الإسلامي الذي طالما نبهنا على وجوده، أصيلاً في بنيته ومتطوراً في نسقه وثرياً في تصورات وآراء رواده عبر العصور، وقد صَدق الأستاذ الإمام “محمد عبده” في وصفه شيخنا “الطاهر ابن عاشور” بأنه (سفير الدعوة الإصلاحية في الجامعة الزيتونيّة).

وللحديث بقيّة عن قضايا الفكر الإسلامي، وآثر “ابن عاشور” في تجديد الخطاب الدعوي الإسلامي الحديث.

***

بقلم: د. عصمت نَصَّار

 

يبدو أن المراجعات العلميّة والنقوّد التحليليّة لكتابات المُصلحين والمُجددين قد أختفت وسط عراك المثقفين المعاصرين حول توافّه الأمور .. ومن هذا الباب نجد من يدعي أن نهج “ابن عاشور” في تجديد علم الحديث وإنتقاداته لكُتب الجُماع يساير غلاة المستشرقين، ومن نحى نحوهم مثل (أحمد خان ١٨١٧م – ١٨٩٨م )، و(أحمد أمين ١٨٨٦م – ١٩٥٤م)، والسيد (عبد الحسين شرف الدين ١٨٧٢م – ١٩٥٧م) وغيرهم من الكُتاب الذين طعنوا في كُتب الحديث بوجه عام، دون أن يقدّموا حلولاً أو يجتهدوا في معالجة ما يترأى لهم من خلل أو تقصير في كُتب الصِحاح منها. والحق أن “ابن عاشور” لم ينكر مكانة قطعيّ الثبوت والدلالة من الأحاديث في أصول العقيدة، ولم ينكر علم الحديث بمجمله؛ بل أنتصر إلى رأي الإمام “الشافعي” في عدم الإعتماد على الأحاديث وحدها كمصدر من مصادر التشريع، ولم يوافق أيضاً على أن تكون السُنة ناسخة (لاغية) لما جاء في القرآن، أو تقديس كُتب الصِحاح والإعتقاد في أن الحفظ الإلهي قد شملها من الخطأ أو الوضع كما أدعى (ابن الصلاح الشهرزوري ١١٨١م – ١٢٤٥م)، كما بَيّن أن التعبّد بها غير جائز؛ اتفاقاً مع رأي الجمهور .

وخلاصة رأي “ابن عاشور في هذا السياق يستند إلى ما ذهب إليه الأستاذ الإمام “محمد عبده” في ضرورة إعمال العقل في متون المرويّات، وحِجَته في ذلك أن تأمل الخبر الإلهي بالنظر والتحليل واجب شرعي، فكيف لا تخضع أحاديث النّبي لذلك الأمر الإلهي إنّ كانت من عنده حقاً؟! وذلك للوقوف على المقصد الربانيّ والدلالة الإلهية باعتباره الأمر الذي خلى من الهوى وكونه وحياً يوحى، ومن أقوال “محمد عبده” في ذلك: (كنّا غير مكلفين بالإيمان بمضمون تلك الأحاديث في عقائدنا)، وقد صار على نهجه “عبد المتعال الصعيدي” في إجتهاداته لإصلاح علم الحديث. وقد بَيّنا ذلك بالتفصيل في كتابنا (حقيقة الأصوليّة الإسلامية الصادر عام ٢٠٠٤م).

أمّا عن صِلة “ابن عاشور” بالأستاذ الإمام وتتلمذه على نهجه وبنية مشروعه، تلك التي شَكّك فيها بعض عوام المثقفين نهدي إليهم هذا التصريح بقلم “ابن عاشور” نفسه، وقد ورد على صفحات مجلة الأزهر في عدد أبريل ٢٠١٢م (أيها الأستاذ إنّ مباديكم السامية التي ترمي سهمها الأفلج – الناجح – شوارد التقدّم … قد أوجبت لنفسي نحو لقياكم كثرة إشراق مع علو في محبتكم وإغراق، فلا يتعجب الأستاذ – أيده الله – من نفس أظهرت له التعلق عند ملاقاته الأولى، فإنّا وإن لم نلتقِ بشخصه من قبل، فقد لاقين ذكره وفرائده) ذلك فضلاً عن حرص “ابن عاشور” على ذكر تعلقه بمشروع الأستاذ الأمام التنوري في كتابه “أليس الصبح بقريب” الذي ظهرت طبعته الأولى عام ١٩٦٧م، وأشتمل على آرائه الإصلاحية لكُتب العلوم الشرعيّة، وتواصله الدائم مع رواد مدرسة الإمام وعلى رأسهم “محمد الخضر حسين”، و”مصطفى عبد الرازق”، و”عبد المتعال الصعيدي”.

ومن يُطالع كتابات “ابن عاشور” عن إصلاح الآليات الضرورية للوقوف على مقاصد الشريعة التي وردت في القرآن وصحيح السُنة سوف يُدرك مدى تأثره بهذه المدرسة.

ومن مظاهر تجديد “ابن عاشور” في علم الحديث، هو تفعيله المنهج العقلي بكل ضروبه في قراءته لمتون الأحاديث بعد إنتقائه منها ما لا يتسرّب إليه الشك من حيث صحة الروَاه، وتسلسل السند بلا إنقطاع أو إرتياب في تاريخ الراوي وحُسن سيرته، ذلك فضلاً عن قدرة المُحَدِث وفصحاته في التعبير عن ما يراه أو يحفظه ويفهمه، وأمانته في السرد بوجه عام وقربه من مجالس رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وإبتعاده كليةً عن هوى التعصب أو الإشتراك في المصاولات بين الفِرق الفقهية أو الكلاميّة – إنّ كان من التابعبن -. نعم كل ذلك كان يتحرّاه “ابن عاشور” في تحرير السّند من الآفات التي كانت تقوده إلى الشك أو الغمز أو اللمز.

أمّا نهجه في قراءة المتون فكان أقرب إلى التحليل بكل أشكاله، بداية من تحليل الألفاظ ودلالتها مروراً بتحليل السياّقات والمناسبات والظروف والمُلابسات، وإنتهاءٍ بتحليل الواقعة وصحة حدوثها من شتى النواحي.

فكان يميّز بين المحفوظ والمكنَون، وأكل النبيّ للجراد من عدمه، والمعجزات التي نُسبت للنبي وشواهدها ومقاصدها ومآلاتها، ثم يقوم بعد ذلك بنقَد هذا المَتّن بعد مقابلته بآيات القرآن ذات الصلة أثناء عمله في التفسير والتأويل، ثم ينتخب من هذه العمليات العقلية الخطاب الذي يجب على الداعيّة الإلتزام به عند الإستشهاد بهذا الحديث أو ذاك، بغض النظر عن المُصنف الذي حواه من كُتب الحديث، فما أكثر الروايات الضعيفة أو الموضوعة في كُتب السُنّن أو ما نُطّلق عليه المتون الصحيحة، وتشهد بذلك اعترافات جُماعها التي استبعدت أغلب الروايات التي أمعَنتَ فيها النظر وطَبَقّت على أحاديثها المعايير التي إرتضاتها عقولهم أنذاك.

وأرى أن “إبن عاشور” في ذلك كان أقرب في نهجه ممّا نُطلق عليه اليوم (التفكير الناقد) أو (قراءة القراءة) وهاهي بعض أقواله في ذلك:

(وقد كانت تلك السُنن – يقصد سُنن أبي داود – مرجعاً للعلماء يحتكمون إليها عند كل خلاف، أمّا درجتها من حيث الصحة فإنها تؤخذ من عبارة المؤلف نفسه وهي “كتبت عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) خمسمائة ألف حديث، فأنتخبت منها أربعة ألاف وثمانمائة ضمنتها في هذا الكتاب” …. وعن سورة المزمل وترتيب آياتها ذَكر أن الروايات ذات الصلة المنسوبة إلى أم المؤمنين “عائشة رضي الله عنها” مضطربة، إذ ذكرت حادثة ترتبط بآخرها ويعني ذلك أن صَدّر السورة تَنَزّل في مكة وآخرها في المدينة، وهذا بخلاف الواقع وذلك لأن النبي لم يبنِ بعائشة إلا في المدينة، وأن ما جاء به (الطبري ٨٣٨م – ٩٢٣م) لا يتفق مع المُجمع عليه أي (أسباب النزول وترتيب الآيات ومناسبتها) …. جاء في أحاديث (الترمذي ٨٢٤م – ٨٩٢م) إحدى الروايات التي تُنبّأ عن إستشراف النبي أن بني أميّة سوف يؤول إليهم المُلك والحُكم بعد حفيده الحسن بن علي، وقد ذَكر ذلك الراوي في مَعرض حديثه عن إنّا أعطيناك الكوثر، وليلة القدر خير من ألف شهر. ويدخل ذلك في باب التجديف والتلفيق، كما أن الراوي الذي أسندت إليه حكاية إستشراف النبي منسوبه إلى رجل مجهول الأصل والسند …. وجاء عند (الدارقطني ٩١٨م – ٩٩٥م) رواية تَنزّع إلى أن النّبي رد مطلقة إلى زوجها بعد الطلقات الثلاثة، وقيل تبريراً لذلك الحديث أن الطلقات الثلاثة لا تقع في كلمة واحدة والقصة عن طلقة رجعيّة، وهذا لا يجوز في رأي “ابن عاشور”؛ لأن هذه الرواية جاءت على خلاف ما أجتمع عليه أئمة رواة الحديث والفقه … ذلك فضلاً عن مئات الأحاديث التي أستشهد بها المفسرون لتوجيه أسباب النزول إلى معنى يريدونه أو حُكّم يرغبون فيه … كما احتكم “ابن عاشور” إلى بعض الأحاديث الضعيفة التي وجدها أقرب للعقل من دونها التي وصُفت بأنها صحيحة ولاسيّما التي تعرّضت لقضايا العقيدة الشائكة مثل التشبيه والتجسيد، واستبعد كذلك الأحاديث التي أوردها الصحيحان وفيها شُبه تُسيء من قريب أو من بعيد لسيّرة النبي … ويبدو استخدامه لمنهج اللاهوت المقارن في تنقية الأحاديث من غبار الإسرائليات، فكان يُشير إلى المواضع التي أقتبسها المؤولون والمفسرون والرواه من الكتاب المقدّس).

وحسبي أن أُشير في هذا السيّاق إلى جهد الباحثيّن الأردنييّن (سعد أمين المناسية، سلطان سند العكلية) في دراستهما المعاصرة عن جهود “ابن عاشور” في علم الحديث الذي نشراه في مجلة “مؤتة للبحوث والدراسات التي تصدر عن كلية الشريعة بالأردن٢٠١١م “.

كما أبدع “ابن عاشور” في استخدامه نهج نقد النقد، وذلك بإطلاعه على ما جاء في كتابات الجُماع في تضعيف بعض الأحاديث أو وصفها بالوضع ومقابلتها بأحكام أخرى في مصنفات حكمت على ذات الأحاديث بأنها صحيحة أو حَسنة. وقد أستنبط “ابن عاشور” من ذلك أن علم الجرح والتعديل يحتاج إلى مزيد من المراجعة والضبط.

وفي هذا السبيل نجد عشرات الأحاديث التي تتحدّث عن المرآة ومكانتها بوجهتين متناقضتين؛ فالوجه الأول يصف المرآة بأنها من ضلع أعوّج وناقصة عقل ودين وتستحق الضرب عقاباً لما تقترفه تجاه الرجل؛ وأن العجائز لا يدخلن الجنة. وفي الوجه الثاني نجد أحاديث توصّفها بأنها المخلوق الرقيق الذي ينبغي معاملته برفق، أو المؤمنة التي يُرجع إليها لتحصيل نصف الدين وهي التي أوحى إليها الله واصطفاها وكَرمها وهي المساوية للرجل في التكليف وهي الحرة التي تمتلك أهلية البَتّ في مالها وعِرضها، كما أن رواة الأحاديث أختلفوا كذلك في بعض الأحكام العقديّة التي تَمس حرية الإنسان في الإعتقاد وإقامة الحدود في التشريع وفي السياسة ولاسيّما علاقة المسلمين بالأغيار وسلطات الحاكم.

ولا يُخفَى على أحد أن مثل هاتيك الأحاديث المتضاربة والمتعارضة في الدلالة والمضمون، قد أثارت لجاجة العوام ودفعتهم إلى التطرف والجنوح عن المقصد الحقيقي للإسلام، كما دفعت غُلاة المستشرقين للإستشهاد بتلك الأحاديث في بِنيّة طعونهم الجائرة، بَغيّة إنصراف الناس عنهم أو التجرأ على وصف النبي بما ليس فيه وهو برئ منه.

وأعتقد أن هذا هو الهدف الحقيقي وراء دعوة “ابن عاشور” إلى إعادة غربلة وتنقية كُتب جُماع الحديث بآليات عقلية معاصرة تحمي أصالة الكلام المقدّس الذي لفظه النبي وتُخِلي ما حَاقّ بسيرة النبي وما رُويّ عنه من الوضع والإنتحال والتلفيق والتجديف، ويقول في ذلك: (ولم يشتهر في النقد مثل “الإمام مالك بن أنس”، وعلى منواله نسج “البخاري”،و”مُسلم”، ويليهما “أبو داود”، ثم “الترمذي”. وعندي أن أكثر ما أستدرك على “البخاري”، و”مُسلم” إنما هو مبنيٌّ على التساهل، لاسيّما مستدركات “الحاكم”، و”البهيقي” … هذا؛ وقد كان بعض الوضاعين يسلك طريق أخرى للوضع، وهي أن يَعَمَد إلى الأحاديث الصحيحة فيزيد فيها …. أعتل الوضاعون بعد ما رأوا من صرامة أهل النقد بعِلة جديدة، وهي التساهل على أحاديث فضائل الأعمال، ومنشأ ذلك شيوع التصوف ظناً منهم أن الكذب في الترغيب مصلحة، حتى إنّ أحدهم لِيَمِ على صنيعه وذُكر بحديث:” من كَذب عليّ متعمداً فليتبؤأ مقعده من النار”، فقال: “إنما كذبت له لا عليه” وتغالى بعض الجهلة فقال: “يكفينا في وجوب الآخذ قول القائل قال رسول الله سواء كان صدقاً أم كذباً، وأيدوا ذلك برؤى حلمية” … وقصور الهمم عن مزاولة علم الحديث مزاولة نقد وضبط … فبينما يكون (الحديث) أصلاً ثابتاً بالقرآن أو بالسُنة أو بمعرفة مقصد الشريعة الحاصلة بالقياس الجليّ، إذْ بحديث يَطنّ على الآذان يهدم ذلك الأصل أو يعارضه، ولا يعدم ذلك متابعاً وإنْ كان أساطين السلف أحطأوا فيه.

فقد رُويّ عن عمر أنه رُويّ له حديث يخالف القرآن وما مضي من السُنة؛ فقال “لا نترك كتاب الله وسُنة نبيه لقول إمرآة لا ندري أصدقت أم كَذبت” … فالذي نراه للإتيان على ما بقيّ حافاً بعلم الحديث من الخلل أن يسد باب التسامح في إيداع الأحاديث الضعيفة في كُتب الحديث، ولو كانت في فضائل الأعمال، فإنّ ترْك ذلك أعظم فائدة للدين من ذِكره، وفي الأحاديث الحُساّن بَلاغ لطالبي الفضائل وأن يطرح الإشتغال بضبط أحوال الرواة بعدما محَصّ الحُفاظ صحيح الحديث من عليله، فإنّ الإشتغال بذلك أصبح قليل الجدوى، فليقتصر على ذِكر الصحابي الراوي للحديث وعلى ذِكر رتبة ذلك الحديث في نظر أهل النقد).

وللحديث بقيّة عن نقدات “ابن عاشور” الخفية لكُتب الأحاديث والسيّرة النبوية.

***

بقلم: د. عصمت نّصار

 

قال المبلغ جبريل لمحمد عند نزول الدعوة عليه من الله في الغار كما تورده الرواية: أقرأ: فرد عليه الرسول لستُ انا بقارىء، حتى اصبح الرد حجة عند المسلمين على أمية محمد(ص). نكتب ولنا رأي آخر،

لا أحد يشك ان هذا الموضوع من الموضوعات الحساسة جدا والتي تثير حفيظة الفقهاء، والمجالس الفقهية، ورجال الدين والمتدينين والسلفيين منهم بوجه خاص، والحكام المتسترين بالدين. هؤلاء الذين لم يفهوا الرسالات الدينية الا طقوسا. لكن البحث العلمي والوصول للحقيقة، لاتمنع من أبداء وجهات النظر حتى في النص والانبياء معاً، فالنص القرآني ثابت لغوياً، لكنه متحرك في المحتوى، وهذا ما غفلَ عنه الفقهاء منذ عهد المفسرين الآول.

نستطيع ان نجزم ان كل شيء ما عدا الله متغير، وقابل للتأويل لقوله تعالى: (كل شيء هالك الا وجهُهُ، القصص 88). لأن القرآن الكريم له صيرورته الخاصة في الحنيفية والاستقامة والتطور. والانبياء لهم خصوصيتهم في الرسالة الربانية والتوجيه الديني، وهم نقلة نصوص مقدسة لا غير، دون ان تكون لهم عصمة، لا ن العصمة في الرسالة، وليست في شخوصهم الفردية، لقوله تعالى: ( يا أيها الرسول بلغ ما أنزل اليك من ربك وان لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس، المائدة 67). أي من ان ينالوك بسوء، ومن هذه الاية يتضح ان العصمة في الرسالة ولا احد معصوما الا الله،  من هذا المنطلق من حقنا ان نناقش المسائل الحدية في النص الديني والانبياء ومادار حولهم دون حرج من أثم. وعلى الجميع تقبل النقاش والرد ان كنا من المتجاوزين أو المخطئين. فالرأي والرأي الاخر هو الذي يولد الحقيقة والقرآن يؤكد على هذا التوجه لقوله تعالى (لكم دينكم ولي دين). ولنعد الى لفظة الامي التي وردت في القرآن الكريم فنقول:

ان لفظة الامي وردت في الكتاب في ستة مواقع وهي:

(وقل للذين أوتوا الكتاب والاميين أأسلمتم)، (آل عمران: 20).

(بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل)، (آل عمران: 75).

(لا اله الا هويحي ويميت فآمنوابالله ورسوله الأمي)، (الأعراف: 158).

(الذين يتبعون الرسول الآمي الذي يجدونه مكتوباًعندهم في التوراة والانجيل)، (الأعراف157).

(هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم يتلوعليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة)، (الجمعة: 2).

(ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب الا اماني وان هم لا يظنون)، (البقرة: 78).

محمد شحرور: الكتاب والقرآن

لنتعرف اولاً على معنى كلمة الأمي التي وردت في الآيات القرآنية السابقة. لقد أطلق اليهود والنصارى على الناس الذين لا يدينون بدينهم لفظة الامي، وهو ما نعبر عنه اليوم بالغوغاء أو العامة، لان هؤلاء الاقوام كانوا جهلة لا يعلمون ماهي الاحكام في كتب اليهود والنصارى. من هنا جاءت الكلمة لتعني:

ان الامي هو غير اليهودي او النصراني، والجاهل بكتبهم. وبما ان التوراة والانجيل هما نبوتا موسى وعيسى لذا جاء التبشير بنبوة محمد في التوراة وليس في الكتاب لقوله تعالى: (الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والأنجيل، الاعراف 157). ويوضح تماما في ألآية من آل عمران لقوله تعالى: (وقل للذين آوتوا الكتاب والأميين). فالذين أوتوا الكتاب هم اليهود والنصارى والباقي من الناس هم الأميون، وليس القصد بمحمد الرسول.

وهذا المعنى واضح في الاية 75 من سورة آل عمران عندما ذكر اهل الكتاب اليهود والنصارى فمنهم أي اليهود (من أن تأمنه بدينارٍ لا يؤده أليك). ومنهم أي النصارى (من أن تأمنه بقنطار يؤده اليك). فلماذا لا يؤدي اليهود الأمانات لغيرهم؟ لانهم يعتبرونهم من (الغويم) أي الغوغاء، وهؤلاء الاميون لا تنطبق عليهم وصايا الرب حيث قال: (ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل).

وفي سورة الاعراف الآية(157): "الذين يتبعون الرسول الأمي". هنا جاءت كلمة أمي لأنه ليس منهم، لأنه قال: (الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والانجيل).

وكذلك جاءت في الاية(158) حين أتبعها بأن محمد (ص) هو رسول الله الى الناس جميعاً اليهود والنصارى والأميين علماً بأنه لم يكن أصلاً يهودياً ولا نصرانياً بل من الفئة الثالثة وهي الأميون.

وبمعنى الجهل في الكتاب قال: (ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب الأ أماني، البقرة 78). أي الذين لا يعلمون الكتاب ومحتوياته هم أميون بالكتاب ولذا أتبعها: (وان هم الا يظنون).

من هنا نرى ان النبي محمد(ص) كان أمياً بمعنى أنه غير يهودي وغير نصراني، وكان أمياً أيضاً بكتب اليهود والنصارى وكانت معلوماته عن كتبهم هي بقدر ما أوحي أليه بعد بعثته.

هذا العمق البلاغي اللغوي للقرآن الكريم لم يدركه المفسرون الاوائل الذين يجهلون المستدركات الحسية في اللغة، لا بل حتى المُحدثين منهم والفقهاء ورجال الدين، فسار المتأخرون على خطأ الأوائل من المفسرين، ولأن القرآن والنبي من المقدسات التي يجب ان لا تخرق فقد بقي القديم على قدمه تفاخراً وليس حقيقة عند الناس. وهنا ظُلم القرآن والنبي معاً عند المسلمين. ان معرفة القراءة والكتابة عند النبي لايقلل من قيمته ومن قيمة الرسالة، لا بل يزيدهما فخراً وأعتزازاً.

اما اسقاط هذا المعنى على ان النبي كان أمياً أي لا يقرأ ولا يكتب فهذا خطأ مميت، لأن الكتابة هي تجميع الأشياء بعضها الى بعض لأخراج معنى مفيد (موضوع) فهل كان النبي عاجزاً عن تأليف جملة مفيدة أوكتابة كتاب أو رسالة؟ أذن من كتبَ الرسائل الى الملوك والامراء وكتابه الى كسرى كان بيده أملاءً وصياغةً. والقراءة تعني العملية التعليمية (مرحلة تتبع المعلومات) ثم القدرة على أستقراء نتائج منها ومقارنتها بعضها ببعض. فالأاستقراء والمقارنة جاء من القراءة فهل كان النبي محمد(ص) لا يقرأ. خطأ أستراتيجي فرضه علينا المفسرون في نبينا العظيم بحاجة الى أعادة نظر واصلاح في قيمة الدعوة والنبي معا.

وقد يقول البعض ان النبي أجاب على جبريل عندما جاءه بالوحي قال له: أقرأ فقال محمد ليس أنا بقارىء، فهل اذا قيل لزيد أوعمر أذهب فقال ما أنا بذاهب، فهل هذا يعني بالضرورة أنه مشلول أو بلا أقدام. ولكن حين قدم جبريل الآية الكريمة قائلاً : (أقرأ بسم ربك الذي خلق، ألعلق1) سكت النبي بعد هذه الآيات الكريمات ولم يقل ما أنا بقارىْ، لمفاجئته النطق المقدس الجديد.

علينا أستقراء التاريخ الجاهلي ومعرفة كلمة القراءة والكتابة، فالنبي كان أمياً بالخط ولا يقرأ المخطوط بالقديم وجاء هذا المعنى في قوله تعالى: (وما كنت تتلوا من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك اذاً لارتاب المبطلون، العنكبوت 48). (بل هو أيات بينات في صدور الذين آوتوا العلم وما يجحد بآياتنا الا الظالمون، العنكبوت 49).

وهذا يعني ان الرسول(ص) لم يتكلم بالقرآن قبل الدعوة ولو تكلم به لقالوا له انت تكلمت بالقرآن من قبل ان يأتيك الوحي وهنا جاز التشكيك به، والثاني ان النبي لم يستعمل الخط وظل كذلك الى يوم وفاته. وفرق كبير بين الخط والكتابة، وهذا أمر أخر لم يدركه المفسرون الأوائل. ودليل ذلك ما جاء في الاية الكريمة قوله تعالى (وكتبنا له في الألواح، الاعراف145). والالواح هنا القرطاس، وتجيب الآية الكريمة لاحقاً: (من كل شيء موعظة وتفصيلا لكل شيء) فهنا بعد فعل كتبنا ذكر الموضوع مباشرة.

فكتابة العقود والوصايا لا تعني الخط مباشرة بقدر ما تعني التسجيل حسب المراد من العقد فالكتابة والقراءة شيء والخط شيء اخر.

وأود ان أعلق على ما كتبه المؤلف فأقول:

أن هذا الامر في غاية الدقة والموضوعية يحتاج الى المزيد من البحث والتقصي العلمي والمعرفي لأزالة الالتباس، مما تعرفنا عليه خطئاً في ان الرسول (ًص) العظيم كان أميا لايقرأ القرآن الكريم ولا يكتب الاحاديث والرسائل. والقرآن الكريم يؤكد على أنه (ًص) كان يقرأ ويكتب من صحف كان مكتوب فيها القرآن لقوله تعالى: (رسولُ من اللهِ يتلو صُحفاً مُطهرةً، سورة البينة 2) أي أنه كان يتلو بنفسه من صحف كتب عليها آيات القرآن.

أنا أعتقد تماماً ان هذه الأسطورة الكاذبة هي أساس الطعن في الاسلام. أما ما يدعونه من وجود كُتاب الوحي الذي كتبوه بهذه الصورة غير المرتلة اي المرتبة ترتيبا ً زمنياً فهو أمر غير صحيح، فلماذا اذن لم يسمحوا لنا بأعادة كتابته بترتيب موضوعي أو حسب السنين وفق سياق النزول. أنا أعتقد ان كتاب الوحي الذين ملؤا بهم الدنيا ضجيجاً هم أسطورة حاكها المؤرخون والفقهاء على غرار أسطورة عبدلله أبن سبأ اليهودي الكاذبة والتي ثبت بطلانها علميا اليوم، والتي أرادوا من ورائها شق وحدة المسلمين واتهام أتباع أهل البيت بالخروج عن الاسلام، والتي لازال يصدقها البعض من المغفلين.

فمحمد(ص) هو المعلم الاول للكتابة وللقراءة. وهل ان أمية الرسول التي بها يدعون ستزيد من قيمة الدعدوة وقيمته المعنوية والمادية، وألا سنبقى كما بقيت أوربا في العصور الوسطى تغط في دياجير التخلف والظلام، وها نحن كما ترون كيف ان الاوهام والاساطير تعشعش في مجتمعاتنا والتي أوصلتنا الى هذا التردي الفكري والعلمي الذي نحن فيه اليوم.

 ونقول هل ان معرفته (ص) للكتابة والقراءة ستقلل من قيمة الاسلام كدعوة انسانية ؟. بهذه العقليات المنغلقة المتحجرة فسرت الدعوة والنص القرآني وفق نظرية الترادف اللغوي الخاطئة، وأقوال الرسول الذين أدخلوا عليها الف والف حديث غير ثبت حين مزجوا الحابل بالنابل وفسروا السيرة النبوية الشريفة تفسيراً طوباويا كان ضرره أكثر من نفعه، وأدخلوا عليها كل غريب وطبقوها علينا تحت رحمة وعاظ السلاطين وقوة السلطة الغاشمة. فجاءت كما نحن فيها اليوم من تغاير لا يحمي الا التخلف والانغلاقية والسلاطين. فبقينا على ما نحن عليه مكانك راوح، وكل جديد عليك حرام كتحريم القراءة والكتابة على أشرف المرسلين.

آذن لابد من تغيير جذري، لكي ينهض الاسلام، وتتجدد قيمه وتستمر مجتمعاته الجديدة. وعملية التجديد هذه لا تعتبر مسألة في النظر والعمل، بل فيهما معاً وعلى مستوى الرؤية التاريخية، والعمل الفكري الحاضر الشامل والمستقبلي، على حد قول الاستاذ ابراهيم الغويل، فأسلامنا اليوم هوليس اسلام محمد (ص) بل هو اسلام الفقهاء المحرفين للدين، فمتى نتنبه للصحيح؟.

رحم الله المبدع الاستاذ الدكتور محمد شحرور الذي كتب لنا كل صحيح.

***

د. عبد الجبار العبيدي

 

"تعلموا العربية فإنها تزيد المروءة"

توطئة: اعلم أن التلفت عن اللغة الأم بماهي أحد منابت الهوية و أصل الرابطة القومية نحو تملك لغة موضوعية أملا في ممارسة التفكير الخلاق وتوقا لمعانقة حرية الابداع هو عين الأمر الشائك ورأس المعضلة الكبرى, واعلم كذلك أن أي جهد يبذل على هذا النحو ينتج عنه اقرار ضمني بأن الضاد هي لغة خرافة وتقليد وملكة متقررة في اللسان واعتراف غير معلن بأن هناك لغة أخرى تقدمت على صعيد الحياد الموضوعي واختصت في مجال الخلق والابتكار. لقد "كانت الملكة الحاصلة للعرب من ذلك أحسن الملكات وأوضحها إبانة عن المقاصد لدلالة غير الكلمات فيها على كثير من المعاني من المجرور أعني المضاف ومثل الحروف التي تفضي بالأفعال الى الذوات من غير تكلف ألفاظ أخرى. وليس يوجد ذلك الا في لغة العرب وأما غيرها من اللغات فكل معنى أو حال لابد له من ألفاظ تخصه بالدلالة ولذلك نجد كلام العجم من مخاطباتهم أطول مما تقدره بكلام العرب..."[1]

وان كان الأمر كذلك فكيف نطمح الى التفكير مع الحرص على الهوية؟

ألا يقتضي هذا التلفت فصلا بين الذات المتكلمة و اللغة المتكلم بها؟

وهل ينبغي التخلي عن الهوية والعزوف عن الفصحى والإنخراط في العولمة والشراكة وتعلم اللغة الكونية بوصفها المسلك الوحيد للتطور أم من الضروري تطهير اللغة العربية من كل ضروب الجمود وتخليصها من كل المعيقات والشوائب؟ ثم لماذا هذا الرجع القهقرى بالنسبة للضاد من الحركة والازدهار الى السكون والتكرار؟

اذا كان هذا هو موقع الانسان العربي اليوم متمسكا بلغة الهوية للمحافظة على خصوصية حضارته وللإعتزاز بدائرة الإنتماء ومضطرا لتعلم اللغة الكونية ليمارس التفكير وليواكب التطور والرقي فهل يقبل الإنفصام والإنشطار أم عليه بالإختيار والإنتظار؟ ماهي شروط امكان تطهير اللغة العربية؟ وأي مستلزمات تقتضيها هذه المطالب؟ هل تدور هذه المقتضيات في مستوى الأفكار والمعاني أم في دائرة الأساليب وطرق التعبير؟

الى أي مدى يكون مشروع بناء لغة موضوعية جوهرية وكونية تنصهر فيها كل الفوارق بين اللغات وتذوب فيها كل الخصوصيات واللهجات قابلا للإكتمال والإنجاز؟

ما معنى لغات ميتة سكونية ومغلقة ولغات ديناميكية حية ومنفتحة؟

هل يمكن للضاد أن تتحول من لغة حية الى لغة ميتة؟

ثم ألا يمكن اعتبار الفصحى اليوم مع تناقص عدد متكلميها لغة ميتة؟

هل تموت اللغة بموت الشعب الذي يتكلمها أم بانحباس الفكر الذي يستخدمها؟

أي دور للأديان في ظهور اللغات وانتشارها؟أليس من الأجدى لكل اللغات القومية أن تنفتح على الوافد والمغاير وتسمح بإمكانية اللقاء بالآخر؟ ما تأثير الايديولوجيا السياسية على اللغة؟ ما معنى لغات استعمارية مهيمنة ولغات محلية تابعة؟ وهل الضاد لغة تابعة مهادنة أم لغة آمرة يمكن لها أن تسود كل العالم؟ لما كنا لحظة المنعرج اللغوي وفي زمن فقه اللغة والغراماتولوجيا ونقد استعمال الفكر للغة والاعتراف بسيادة الكلمات على الأفكار وسلطة الدوال على المدلولات والأصوات على المعاني أليس من المتوجب البحث عن لغة ديموقراطية أو عن استعمال ديمقراطي من طرف الفكر للغة؟ [2]

هل تكون الأنترنات من جهة كونها لغة رقمية وشبكة جميع الشبكات هي هذه اللغة الديموقراطية التي نبحث عنها؟ ولما كان مقصودنا هو تخطي المضيقات واستجلاء هذه المحيرات فإنه يجدر بنا دراسة العلاقات الواصلة بين اللغة والشعب والرابطة بينها وبين الدين ثم نتبين بعد ذلك مدى تأثيرها على التفكير ودورها في حفظ الكيان وفي عملية انجاز الذات مع التفطن الى الشبهات والشوائب التي علقت بالضاد فأعاقتها عن التطور معرجين على التحديات التي تواجهها خاصة في ظل غزو الصورة واستبداد المشهد وضخ المعلومات وهجرة الرموز باحثين في الأخير عن طرق ممكنة للتجديد استشرافا للآتي واستقبالا للمستجد الطارئ.

1 ـ اللغة والشعب:

"والجماعة الانسانية الكاملة على الاطلاق تنقسم أمما والأمة تتميز عن الأمة بشيئين طبيعيين: بالخلق الطبيعية والشيم الطبيعية و بشيء ثالث وضعي وله مدخل ما في الأشياء الطبيعية وهو اللسان أعني اللغة التي تكون بها العبارة... [3]

ان اللغة سواء تكونت بالمواضعة والاتفاق أو بالوراثة والغريزة وسواء نتجت عن عوائد الانسان ومألوفه أو كانت بنت طبيعته ومزاجه فهي روح الشعب الذي يتكلمها وكنهه يودع فيها أحلامه وتطلعاته ويحبس فيها اخفاقاته وهزائمه. اذ توجد لكل شعب لغة تلائم طبيعته وتعبر عن مزاجه وأذواق أفراده تميزه عن شعب آخر وتعكس بشكل أو بآخر تقدمه أو تأخره لأن كل وحدة لغوية تعبر عن وحدة حضارية معينة وتعدد اللغات يعني تعدد الحضارات وتطورها يدل على تطور الحضارة وجمودها يعني ركود الشعب الذي يتكلمها. وآيتنا في ذلك أن وحدة اللغة تدفع بالاعتقاد بوحدة الأصل والشعور بالقرابة والتآلف وتوجد وحدة في الاحساس والادراك وتساهم في تشكل لاشعور جماعي أو مخيال مشترك، اذ أن اللغة تمد جسور التواصل والتفاهم بين الذوات وتجعلهم يتماثلون ويتعاطفون وتمكنهم من ترسيخ عاداتهم وتقاليدهم وتناقل الخبرات الثقافية من السلف الى الخلف. فهل يمكن أن يوجد شعب قائم الذات دون أن تساهم لغة معينة في تشكله؟

 اعلم أن اللغة في المتعارف هي عبارة المتكلم عن مقصوده وتلك العبارة فعل لساني فلابد أن تصير ملكة متقررة في العضو الفاعل لها وهو اللسان وهو في كل أمة بحسب اصطلاحهم... [4]

 اعلم أن الحروف في النطق...هي كيفيات الأصوات الخارجة من الحنجرة تعرض من تقطيع الصوت بقرع اللهاة وأطراف اللسان من الحنك والحلق والأضراس أو بقرع الشفتين فتتغاير كيفيات الأصوات بتغاير ذلك القرع وتجيء الحروف متمايزة في السمع وتركب منها الكلمات الدالة على ما في الضمائر وليست الأمم متساوية كلها في النطق بتلك الحروف فقد يكون لأمة من الحروف ما ليس لأمة أخرى والحروف التي نطق بها العرب هي ثمانية وعشرون كما عرفت ونجد للعبرانيين حروفا ليست في لغتنا وفي لغتنا أيضا حروف ليست في لغتهم... [5]

غني عن البيان أن الضاد هي أداة قوية للثقافة العربية تعتبر ثمرة تاريخ هذه الحضارة بأكمله, لم تتغير إلا ببطء شديد استعملتها كل الطبقات والشرائح, كما أخضعت قواعدها الى عملية تأصيل وتقعيد مستمرتين رغم ما لوحظ من ازدياد في عدد الألفاظ الدخيلة المستعربة.فاذا كانت اللغة الاغريقية قد ارتبطت بالفلسفة والتراجيديا واللغة اللاتينية بالقوانين الرومانية واللاهوت المسيحي واذا كانت اللغة الانجليزية قد تعلقت بالشعوب الأنجلوساكسونية وبالنزعة الحسية التجريبية وفي أمريكا بالنزعة البراغماتية والتقليد التحليلي وارتبطت اللغة الفرنسية بالفكر الموسوعي العلمي والنزعة الوضعية في تجلياتها الأولى وأفصحت اللغة الألمانية عن الأنوار والنزعة الرومانطيقية والفكر التأملي والجدلي التي تميزت بها القومية الجرمانية فإن الضاد لغة العرب الفصحى قد ارتبطت بالشعر ومعلقاته السبع والقرآن دستورهم الأول وما يتضمنه من سحر وبيان ومجاز وبلاغة واعجاز وخطابة. في هذا الاطار يقر الجاحظ أن العرب أمة واحدة لتكلمهم العربية رغم اختلاف لهجاتهم ونطقهم بها اذ يقول: وزعمت أن هؤلاء وان اختلفوا في بعض اللغة وفارق بعضهم بعضا في بعض الصور فقد تخالفت عليا تميم وسفلى قيس وعجز هوازن و فصحاء الحجاز في اللغة وهي في أكثرها على خلاف لغة حمير وسكان مخاليف اليمن وكذلك في الصورة والشمائل والأخلاق وكلهم مع ذلك عربي خالص غير مشوب ولا معلهج ولا مذرع ولا مزلج. ولم يختلفوا اختلاف ما بين بني قحطان وبني عدنان من قبل ما طبع الله عليه تلك البرية من خصائص الغرائز وما قسم الله تعالى لأهل كل جيزة من الشكل والصورة ومن الأخلاق واللغة. فإن قلت: فكيف كان أولادهم جميعا عربا مع اختلاف الأبوة. قلنا: إن العرب لما كانت واحدة فاستووا في التربة وفي اللغة والشمائل والهمة وفي الأنفة والحمية وفي الأخلاق والسجية فسبكوا سبكا واحدا وأفرغوا افراغا واحدا وكان القالب واحدا تشابهت الأجزاء وتناسبت الأخلاط وحين صار ذلك أشد تشابها في باب الأعم و الأخص وفي باب الوفاق والمباينة من بعض ذوي الأرحام جرى عليهم حكم الاتفاق في النسب... [6] لكن ان كانت الضاد روح الشعب العربي والاسمنت المسلح الذي يصهر كل أفراد المجتمع في وحدة عضوية لا يمكن تفكيكها من الداخل فكيف يمكن لهذه اللغة أن تعبر عن جوهر الديانة التي يعتنقها هؤلاء الأفراد؟

2 ـ اللغة والدين:

"أنزلناه قرآنا عربيا" (سورة يوسف 2)

 "بلسان عربي مبين" سورة الشعراء 195

"ولو جعلناه قرآنا أعجميا لقالوا لولا فصلت آياته أأعجمي" سورة فصلت 44

" يا مشمس أيام الله بضحكة عينيك !

ترنم للغة القرآن

فروحي عربية " مظفر النواب ـ وتريات ليلية [7]

كل دين منزل سماوي أو طبيعي وضعي تم حفظه وصيانته داخل نصب مكتوب أو من خلال كلام شفوي ويقع الاعتماد في ذلك على نسق من الرموز والعلامات والدعوات أو من خلال مجموعة من الطقوس والحركات والاشارات، وتتمثل وظيفة الدين في حفظ النص المقدس من الضياع والتلاشي وفي تسهيل عملية ابلاغه وتعليمه للآخرين.  نزل القرآن الكريم أول ما نزل بلهجة قريش لأن لهجة قريش أفصح لهجات العرب ولأنها قد خلت من كل مستشبع مستقبح ولكن لما دخل الناس في دين الله أفواجا ابتدأت من العام التاسع للهجرة تعذر على كثير من الداخلين في الاسلام قراءة القرآن بلهجة قريش نظرا لانطباع ألسنتهم على لهجاتهم فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم ربه التخفيف فنزلت الرخصة من الله تعالى بجواز قراءة القرآن بلهجات العرب الفصيحة المتداولة فإذا كان في كلمة لهجتان فصيحتان أو أكثر جازت قراءة القرآن بها كلها وهي في احصائنا لا تتجاوز السبعة على كل حال. فقد روى البخاري ومسلم عن عبد الله بن عباس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "أقرأني جبريل على حرف فراجعته ثم لم أزل أستزيده ويزيدني حتى انتهى الى سبعة أحرف" [8]

ان اللافت للنظر أن اللغة التي يكتب بها الدين هي لغة مجازية رمزية أغلبها تخييل ومحاكاة وتمثيل للحقائق والأفكار السرمدية التي لا يدركها الا أصحاب الفطر الفائقة وحتى يتسنى تأويلها وتفسيرها الى ما لا نهاية له. بيد أن العلاقة بين القرآن والضاد هي علاقة اشكالية شائكة وجالبة للحيرة والتفكير وذلك لسببين هما:

- القرآن نزل منذ الوهلة الأولى في شكل خطاب شفوي.

- اللغة العربية لم تصبح لسان أي لغة مكتوبة لها قواعد وقوانين الا بعد هبوط الوحي واكتمال تشكل الدين الاسلامي.

هكذا كان الوحي يقرأ قبل تدوينه وكتابته وفق سبع قراءات توافق عدد لهجات القبائل التي انتشر فيها الدين الجديد, أما اللغة العربية وقتها فإنها لم تخضع بعد لعملية تقعيد وتقنين كما أن الحروف لم يقع تنقيطها وقواعد الاعراب والنحو والصرف وبحور العروض لم تكن موجودة وأول المحاولات كانت بطلب من علي ابن أبي طالب صاحب نهج البلاغة وأنجزت من طرف أبي أسود الدؤلي والخليل ابن أحمد الفراهبدي وسبويه وابن جني صاحب كتاب الخصائص. ما تجدر الاشارة اليه أن عثمان ابن عفان عندما خشي من ضياع الوحي ومن امكانية تعرضه للتزوير والتحريف بعد اندلاع الفتنة الكبرى واحتدام الصراع السياسي على السلطة وموت عدد كبير من الحفظة والقراء أثناء الغزو والفتح فأمر هذا الخليفة المسلم بجمع سوره وآياته في مصحف سمي الى الآن باسمه وقع رسمه بلهجة قريش القبيلة التي استأثرت لنفسها بالحكم من دون القبائل الأخرى وأمر كذلك بإحراق كل النسخ والمصاحف الأخرى المكتوبة باللهجات المتبقية، ولقد ذكر لنا التاريخ العربي الاسلامي وجود قراءتين للقرآن الأولى لورش والثانية لقرش ورغم أن نقاط الاختلاف بينهما معتبرة ولها دلالة الا أن خشية الجماعة من هبوب رياح الفتنة والوقوع في التشرذم والفرقة هو الذي جعلها تقلل من هذه الاختلافات وتعتمد القراءتين معا. "والسبب في اشتهار هؤلاء السبعة دون غيرهم أن عثمان رضي الله عنه لما كتب المصاحف ووجهها الى الأمصار وكان القراء في العصر الثاني والثالث كثيرا في العدد كثيرا في الاختلاف فأراد الناس في العصر الرابع أن يقتصروا من القراءات التي توافق المصحف على ما يسهل حفظه وتنضبط القراءة به فنظروا الى امام مشهور بالثقة والأمانة في النقل وحسن الدين وكمال العلم قد طال عمره واشتهر بالثقة وأجمع أهل مصره على عدالته فيما نقل وثقته فيما قرأ وروي وعلمه بما يقرأ فلن تخرج قراءته عن خط مصحفهم المنسوب اليهم...وأول من اقتصر على هؤلاء أي القراء السبعة- أبو بكر بن مجاهد. [9] في هذا السياق يقول ابن خلدون: "فلما جاء الاسلام وفارقوا الحجاز لطلب الملك الذي كان في أيدي الأمم والدول وخالطوا العجم تغيرت تلك الملكة بما ألقي إليها السمع من المخالفات التي للمستعربين... وخشي أهل العلوم منهم أن تفسد تلك الملكة رأسا ويطول العهد بها فينغلق القرآن والحديث على المفهوم فاستنبطوا من مجاري كلامهم قوانين لتلك الملكة مطردة شبه الكليات والقواعد يقيسون عليها سائر الكلام..." [10]

ما يثير الانتباه والدهشة أن معجزة الدين الاسلامي هي القرآن وبالأساس بلاغة اللغة التي قرأ وكتب بها والصور الشعرية التي يتخيلها وحلاوة الايقاعات الموسيقية التي ترسمها الأصوات المتكونة منها عند تلاوة آياته أو تجويدها. وسواء كان هذا الوحي مخلوقا على ما تذهب إليه المعتزلة تنزيها للذات الإلهية وتأكيدا لحرية الإنسان ختما للنبوة واعلانا عن ميلاد العقل أو كانت معانيه قديمة وألفاظه محدثة على طريقة الأشاعرة توفيقا بين العقل والنقل تعظيما للإرادة الإلهية المطلقة واعترافا بقدرة المخلوق على الكسب وفق مناسبات تخلق له فإنه قد تكونت حول القرآن عدة علوم نقلية وعقلية وكان الوحي هو مركز عدة علوم أخرى تكونت حوله فظهر في البداية الحفظة والقراء وكتبة الوحي ثم برزت على السطح فئة المفسرين والمحدثين ثم علماء السيرة والحديث والفقه وفيما بعد ظهر علماء أصول الفقه وأصول الدين وتغير الحال بالتطور المعرفي والتعارف الحضاري بين الشعوب فنشأت عدة علوم عقلية كعلم الكلام والفلسفة والمنطق والطبيعيات وبلغ الأمر الى حد ظهور التصوف والسيمياء وعلم الفلك والرياضيات والبصريات والتنجيم. على الرغم من محاصرة المنقول للمعقول وتسييج باب الاجتهاد وتضييقه واقتصاره على الفروع دون الأصول وتحريم الاشتغال بالفلسفة ومنعها من الخوض في الإلهيات واستهجان العاملين بها من طرف ابن الصلاح الشهرزوري وأبي حامد الغزالي وابن تيمية وابن القيم الجوزية وعلى الرغم من أن لغة الضاد اقتصرت في العصور الوسطى على التكرار وارتبطت بالجمود والتزمت ووظفت في الشرح والتلخيص وفي تأليف المعاجم والموسوعات والتفاسير إلا أن الفيض المعرفي الذي دشنته في عصر ازدهار العقل العربي بانصهار لغات وثقافات أخرى فيها جعلها تحتفظ بوهجها الروحي واشراقها الدلالي وبقدرتها البالغة على التعبير والإيحاء والتشبيه والتمثيل وجعلها كذلك تتضمن طاقة تأويلية لا تنتهي لتتفجر قوتها التبشيرية على العالم كله لما تكتنزه وتفصح عما تكتظ به من نفحات قدسية وعجيب خلاب. ننتهي اذن الى تثبيت الضاد بما هي جوهر الشعب العربي المسلم وروحه باعثة الحضارة وسبب العروة الوثقى للأمة وهي كذلك جسد الوحي ومادته الأثيرية والمرآة التي عكس بها الله حكمته للإنسان فهل تكون الضاد حينئذ الشاشة البلاغية التي يرى العربي من خلالها العالم والنبراس الذي يدرك به ذاته والقلب الذي ينبض به الفكر ويتيح له اللقاء بالآخر؟

3 ـ اللغة والذات:

" يتشكل الانسان من حيث هو ذات في اللغة وباللغة [11]

"ان حدود لغتي تعني حدود عالمي الخاص" [12]

في الواقع لا توجد علاقة طبيعية وآنية ومباشرة بين الإنسان وذاته بل هناك وسيط يتمثل في وجود جهاز رمزي يتكون من مجموعة من العلامات والاشارات تلعب دور الرابط بين الانسان والكون والرمز يكشف لنا عن أحد المعطيات الأساسية ربما الأكثر عمقا في المنزلة الإنسانية بل ان القدرة الرمزية هي أخص خصائص الكائن البشري[13] , فالانسان ليس كما يظن بعض الحكماء الأول حيوان عاقل فقط بل هو أيضا وبالأساس حيوان ناطق أي كائن رامز وملكة الترميز لديه تبلغ أقصى تحققها في اللغة واللغة هي ميزة الانسان عن بقية الكائنات[14].فكيف تتدخل الضاد في بناء الذات العربية الاسلامية؟وما معنى أن تكون عربيا مسلما اليوم؟ وهل يكفي أن تتكلم الفصحى لتتأكد من انتمائك للحضارة العربية الاسلامية؟

ان كانت التجربة الانسانية هي في جوهرها تجربة لغوية وكانت الذاتية انبثاقا لخاصيات أساسية للغة في الواقع فإن الشخصية العربية تبنى على أسس الضاد وصرحها فيكون عربيا من يقول أنا عربي وأن يكون كذلك معناه أن يتقدم الى ذاته والى الآخرين والى العالم بوصفه من ينطق الفصحى ومن يتكلم بلسان عربي مبين فيشعر من خلال معجزة القرآن ومعلقات الشعر الجاهلي وجداريات الخطوط الكوفية والقيروانية أنه ينتمي الى حضارة اقرأ وثقافة بدأت بالكلام والقراءة والكتابة ولتصبح بذلك لغته لا أداة للتواصل والتبليغ والتعبير والاعلام والاخبار بل مجال ترعرع الخيال وتشكل العاطفة وتفتح الوجدان وترسخ الذاكرة. عندئذ ينظر العربي الى الضاد على أنها مسكن وجوده وأصل كينونته والنور الذي يضيء له سراديب ذاته المظلمة وشمس المعارف الكبرى التي تخرجه من الجهل الى العلم ومن العدم الى الوجود مثلما أخرج القرآن مجموعة من القبائل الأعراب الرحل من بحر الظلمات الى بحر الأنوار ومن العصبية والجاهلية والتناحر الى الحضارة والتمدن والتعارف. على هذا النحو تسمح كل لغة لمفهوم الأنا أي الضمير المفرد بالظهور في الوجود وتفصله عن مفهوم الأنت والآخر ضمن ضمير الغائب أي الهو فيكون أنا من يقول أنا وتتيح للضمير الجماعي أي النحن فرصة التشكل مقابل الأنتم والهم وبهذا يمكن تعريف الذاتية على أنها قدرة المتكلم أن يطرح نفسه باعتباره ذاتا. اذا عدنا الى الضاد فإننا نجدها خزائن علوم العربي وحقول معارفه ومصادر حقائقه حول أصله وفصله ومصيره ووسائل تدبيره لبيته ولدنياه، فهي الرباط الذي ينطلق منه ويعود اليه الانسان العربي في حله وترحاله ليغوص في الأعماق أو يصعد نحو القمم , كما أنها الدرب الذي يسلكه للعودة الى الينابيع الصافية للمنبت الصالح وينهل من الأصول العتيقة حتى يستعيد عافيته ويرفع من ناصية هويته، هذا متاح دون أن تمثل الضاد قوقعة أو كهفا يحجبان عنه الآخر ويمنعان عنه عبر التاريخ ودروسه ومنطق التقدم العلمي وكشوفاته. عندما يبدأ العربي في النطق والكلام بنظم القوافي وترسل الشعر وترتيل الوحي فإنه يخرج فعليا من عالمه المغلق ويتزحزح عن نرجسيته الفارغة ويكف عن استعلائه غير المجدي ويعرض عن الاستغلاق المشين ليدشن موقعا جديدا له في العالم وليكتشف حدثا جديدا في الكون ويخرج من قلعته الآمنة وينكشف للآخر ويشرع في التواصل معه والتثاقف ليس بشكل تلفيقي مموه بل بشكل اختلافي تعادلي مولد لينتقل من وضع التدافع مع الأجنبي الى وضع التعارف معه. فإن كانت الضاد أس الذات العربية المسلمة وعمادها فكيف تكون سراج فكرها ومنبع إلهامه؟

4 ـ اللغة والفكر:

قالت المعتزلة: "ان الخواطر التي تطرأ على قلب الانسان... و أحاديث النفس (هي)...تقديرات للعبارات التي في اللسان...والتي تعلمها الانسان منذ أول نشوئه". [15]

ليست اللغة أداة تبليغ ووسيلة تواصل فحسب بل هي أيضا شرط كل علاقة يقيمها الانسان مع ذاته ومع الآخر ومع العلم وكل هذا لا يكون ممكنا دون توسط ملكة الفكر, فاللغات ليست قائمات أسماء عالمية تقسم الواقع بطريقة متماثلة بل كل لغة تملك تقطيعا خاصا بها لعالم الأشياء وتبني تنظيما جديدا لمعطيات الفكر, لذلك تعني اللغة" رغبة فكر شخص ما في قول شيء في شيء ما لشخص آخر"; وذلك بترتيب الألفاظ وبتأليف الكلمات للتعبير عن الخواطر التي تضطرم في النفس والافصاح عن الأفكار التي تتدافع في العقل. بما أن امتلاك اللغة يتطلب تدخل التفكير فإن معرفة الكلام لا يستلزم إلا القليل من العقل وهكذا تبدو علاقة اللغة بالتفكير غامضة فهل اللغة تخدم الفكر أم الفكر يتبع اللغة؟ هل تكتفي اللغة بكساء فكر قد تكون سلفا؟ أم أنها تمثل شرطا لتشكل هذا الفكر ولفهمه؟ وإن تعذر علينا الحديث عن تفكير دون توظيف لغة وعن لغة لا تكون قابلة للإستعمال في التفكير أليس الفكر واللغة وجهين أو مظهرين لعملة واحدة؟

في الواقع هناك تفاعل بين اللغة العربية والفكر العربي فكأن القصص والسور والآيات القرآنية والقصائد والأبيات التي تتكون منها المعلقات السبع تشير وترمز الى نظرات ورؤى الأعرابي للكون وتحدد قيم حياته وغائية وجوده. فالضاد سهلت انبلاج التفكير العربي وساعدته على التوسع والانتشار والانصهار بالثقافات الجديدة التي احتك بها وساعدته كذلك على النمو والتطور. لقد أبدع الفكر العربي علم اللغة وما يتفرع عنه من نحو وصرف واعراب وعروض وبلاغة من بيان وبديع وكلام وبلغ مرتبة الشرف والصناعة في هذه الفنون بتقعيدها ووضع قوانين دقيقة لها. ان المناظرة التي جرت بين المنطقي متى ابن يونس والنحوي أبي سعيد السيرافي وتناطحهما خير دليل على ارتباط فعالية التفكير بالقدرة الخلاقة والوفرة العجائبية الغرائبية للغة, فكأن العربي عندما يتلاعب بالكلمات يرسم مقاما له في الوجود وعندما يتكلم يعلم ما يفكر فيه وعندما يفكر يعلم بدراية وعلى السليقة العبارات التي يتسامح في توظيفها للذلك وبذلك استحال أن يسمي النشاط المعرفي والوجودي والأخلاقي الذي يقوم به دون استعمال اللغة والعودة اليها (التصوف) نشاطا فكريا بل يعتبره مجرد شطح وأحوال واشارات تغيب عنها العبارات والمنطقيات.

إن العربي لا يوجد فقط في الأعيان أو في الأذهان بل وكذلك في الأسماء والكلمات وفي الحروف والأفعال الكلامية ولعب اللغة العادية، وهو لا يقطن كوكبا وأشياء بل يسكن في عالم من الرموز والعلامات , والضاد هي شرط إمكان إبداع العقل العربي ومقام للعرب في العالم. ولما حكمت عليه ظروف التحدي الحضاري والتقدم الذي لاح على الآخر والتخلف الذي ارتبط بالأنا بإستعمال لغات مغايرة فإن ما أنتجه لم يتعد المحاكاة والنقل وتحول إلى شعوذات للجمهور وأباطيل الدجالين. كما يمكن أن نقارن علاقة اللغة بالتفكير ب علاقة الجسم بالنفس واللفظ بالمعنى. فالفكر هو الصورة واللغة هي المادة أما اللفظ فيكون حاملا للمعنى وموصلا له والمعنى مستقل عن اللفظ ومتأثر به، ويستقيم بإستقامته وينعدم بإستعماله في غير محله. لذلك يرى الغزالي: "ان العبارات مباحة والاصطلاحات لا مشاحة فيها اذ لا معتبر بالعبارات ان صحت المعاني" [16] لأنه ان كانت العبارات متفاوتة فإن المقصود شيء واحد والأخطاء التي يقع فيها الإنسان ناتجة عن طلبه للمعاني من الألفاظ بينما كان عليه أن يقدر المعاني أولا ثم ينظر في الألفاظ ثانيا ويعلم أنها" اصطلاحات لا تتغير بها المعقولات". فهل تمكننا الضاد من مباشرة التفكير الحر والانخراط في تجربة الاستطلاع والتفتيش اذا ما تجاوزنا هذا الخطأ؟

يبدو أن من طبيعة اللغة العربية أنها اصطلاح ومن اختراع الفكر تصديقا لقوله عز وجل: "وماهي الا أسماء سميتموها أنتم وأبنائكم"، وفي هذا السياق يقول ابن جني: " ان أصل اللغة لابد فيه من المواضعة[17]. على هذا الاساس توفر اللغة  للفكر ذخيرة من المعاني وخزائن من المعارف تمكنه من بناء نظرة شفافية للكون وتحديد آلياته وقدرته ورغم ان الفكر لا يدرك الا ما هو مشكلا ومستحضرا في اللسان العربي الا ان هذا اللسان يحررنا اثناء النطق والكلام من رقابة مقولات المنطق ومن الآلية غير الواعية ويسمح لنا باختيار وانتقاء ما يلائم التعبير عن الافكار بحرية وطواعية.

ننتهي الى ان الفكر العربي الذي يشمل كل ضروب التعقل والتروي والادراك والتصور والتذكر يقتصر على ما يختلج في نفس الانسان العربي ووجدانه و يعبر عن ذلك كلاما وبوحا ونطقا باللسان. من البديهي أن تكون اللغة العربية منذ كلمتها الاولى معرفة لأنها لم تصدر عن الصرخة الطبيعية بل من فعل اقرأ لذلك يعني فعل: "أن تعرف هو أن تتكلم كما ينبغي أن يكون وكما تقتضي المسيرة الأكيدة للعقل، و لهذا السبب قال الرسول العربي الكريم:" أوتيت جوامع الكلم واختصر لي الكلام اختصارا فصار للحروف في لغتهم والحركات والهيآت أي الاوضاع اعتبار في الدلالة على المقصود... [18].

من هذا المنطلق تتميز الضاد عن بقية لغات العلم بالمزايا والخصائص التالية:

- تسمي الأشياء الكثيرة باسم واحد مثال لفظ العين الذي يطلق على منبع الماء وعلى العين المبصرة وعلى ذات الشيء وعلى حراس السلطان.

- تسمي الشيء الواحد بأسماء كثيرة مثال الأسد يطلق عليه الليث وعنبسة وكسورة وملك الغابة.

- تستعمل اللفظ العام لتدل به على الخاص.

- تستعمل اللفظ الظاهر لتدل به على الباطن.

- تستعمل الأمر لتستدل به على: - طلب الفعل

- الدعاء والتضرع

- اليأس والقنوط.

- تستعمل النهي لتدل به على:

- ترك المنهي عنه سواء على وجه اللزوم والتأكيد أو على وجه الكرامة.

- الارشاد والتوجيه والزجر والردع.

ان من أراد فهم الوحي القرآني والسنة النبوية الشريفة لابد أن يعرف اللسان العربي وأساليبه وخصائصه وأدواته وأن يعرف من أول الكلام أو وسطه أو آخره وأن يحسن التمييز بين الاستعارة والكناية والمجاز والرمز والعلامة والسجع والبيان والبلاغة والفصاحة والأمثال وقواعد الاعراب والنحو والصرف والعروض وأوزان الشعر وغيرها من ضروب الكلام. ان كانت الضاد ملكة متقررة في لسان العرب فهل بقيت تلك القوة التي تفعل الكثير بالقليل والتي لا يمكن ان تضاهيها ملكة اخرى؟

5 ـ المزالق الراهنة للضاد:

"كنا أناسا على دين ففرقنا قرع الكلام وخلط الجد باللعب" [19]

يسود الاعتقاد اليوم ان واقع الحضارة وموقع الثقافة العربية فيها أوصلا الضاد الى منزلة لم تعد بموجبها قادرة على أن تكون لغة الفكر ولا روح الشعب ولا حتى لغة الدين. فالفكر أصبح يعبر عن نفسه من خلال لغة كونية موضوعية و القرآن ترجم الى العديد من لغات العالم والشعائر أصبحت تعلم بلغات أخرى محلية غير العربية كما هو الامر في الشرق الاقصى وحتى في الغرب كما أن الشعب أضحى سجين بعض اللهجات واللغات الاثنية التي كانت في الماضي ميتة مثل الامازيغية وغيرها.

وأضحت الضاد كذلك عاجزة عن القيام بوظائفها على الوجه المطلوب في ايصال المراد للآخرين من تعبير واخبار وتراجعت الى الوراء وبانت مسافة الايضاح والتعبير التي تفصلها اليوم عما كانت علبه في عصر التوحيدي وابن المفقع والجاحظ خاصة أمام منافسة اللغات الآمرة سواء الانجليزية أو الفرنسية أو حتى اللغة الرمزية المهيمنة على شبكات الانترنات والسوق المعلوماتية. فأي مكان للفكر العربي في ساحة تربع على عرشها كوجيطو البضاعة وأي منزلة للضاد والانترنات أضحت أم كل اللغات؟

ثمة اجماع حول قصور اللغة العربية واحتضارها واستبقائها كأساس لعصبية مغلقة وجسد لثقافة تراثية قروسطية ومرآة تعكس هوية متقوقعة على نفسها وأصل لرابطة قومية تضيق على متكلميها الآفاق وتخلط أمامهم السبل وهذا التردي والموقف الصعب يعزى الى عدة أسباب أهمها:

1/ اللغة العربية هي لغة دينية تصطبغ ألفاظها وأفعالها بالدلالات اللاهوتية والمعاني الغيبية وهي بذلك تهمل كل ما هو انساني والأمور الدنيوية الملموسة.

2/ الضاد لغة فقهية تتصف بالوقوع في الأحكام القطعية والنزعة الشمولية الكليانية يغلب عليها الأمر والفرض والالزام الى ما يجب أن يكون لا الى ما هو كائن.

3/اللغة العربية هي مجردة وصورية تهتم بالعقول المفارقة والعموميات والأصول والعلل الأولى والمصادر وبالتالي فانها لا تحترم التغير والتنوع وتقتل براءة الصيرورة وتختزل سيلان نهر الوجود وتدفع مجرى الحياة في قوالب نحوية وجمل تعبيرية فارغة وأطر منطقية شكلية.

4/ الضاد لغة تأليهية مشخصة تهتم بعبادة الأشخاص والأسماء والأبطال وتحتفل بالتاريخ الرسمي، تاريخ الأمراء والسلاطين وتهمل الهوامش والسواد الأعظم والأغلبية الصامتة تعبر عن بعض التيارات وتطمس العديد من الوقائع والأسرار.

يترتب عن ذلك أن الفصحى عاجزة عن التعبير عن حالات النفسية للعربي وعن خلجاته وحيرته الذي أضحى في منطقة وسطى يكون فيها خارجا عن ذاته وخارجا عن الأشياء والوقائع معلقا في كومة من السماء التي لا مقصد لها وفي ركام من الافعال التي لا مخرج منها مكتفيا بقراءة تلك البطاقات الملصقة حول الموجودات مستبقيا من الأشياء أكثر جوانبها ابتذالا وأكثر وظائفها عمومية وشيوعا.

فهل ذلك راجع أن المغلوب مولع بتقليد الغالب أم أنها بشائر المنعرج اللغوي؟

6ـ المنعرج اللغوي:

" الكلام و الكتابة مسخرة ليت الانسان يستطيع ان يتحرر منهما... [20]

ظن الانسان أنه مبدع للكلمات وأنه باللغة قادر أن ينفذ الى جواهر الأشياء وبناء العلم اللدني وأن في اللسان أهم منابع القوة وأكثرها صلابة وأيسر الطرق وأسرعها نحو تحصيل المعرفة. غير أن هذا الظن ما هو الا كاذب لأن اللغة ليست غرضا قائما بذاته ولا بنية مغلقة على ذاتها بل حافلة بالرغبة وملفوفة بالسلطة تخفي أكثر مما تظهر وتحجب أكثر مما تكشف وتقول صمتا أكثر مما تقول كلاما. وهذا المنعرج اللغوي يحدث عندما يلبس الانسان فكره كساء لغة أقدم منه بحيث تنفلت منه القدرة على التحكم في المعاني والسيطرة على الدلالات. لعل أهم الاسئلة التي تتوالد عن هذا المنعرج اللغوي العربي هي الى أين تتجه الضاد اليوم؟ هل تسير نحو نفسها ونحو جوهرها الذي هو الزوال والفناء المحتوم أم أنها تتحرك بخطى ثابتة نحو متاهة لا تؤدي الى أي طريق؟ هل الحقل اللغوي العربي هو حقل الموت والفناء؟ وهل يكون انجاز الفصحى هو النفي الأمثل والقتل المؤجل الى اليوم الموعود؟

ان وجود الضاد يضعف ويذوي وجدرانها تنخفض الى درجة فقدانه لجدارة حراسة الوجود لقد صارت مهيمنة بغيابها وحاضرة بفقدانها لدورها. لقد أمسى اللسان العربي فاشيا لا يستطيع متكلمه الهروب منه يزداد عقما بازدياد تراجع ناطقيه والضاد لم تعد مسكن الوجود بل الثغرة التي يدخل منها العدم الى العربي. ألا يغدو العربي عندئذ قادرا على التألق سائرا نحو ابداع أورفيس جديد يبحث بهوس عن موت ممتنع ويطرق أبوابا موصدة, فهو عندما يتكلم باللسان المبين يعترضه العبث واللامسميات واللامعنى؟

على هذا النحو يسقط العربي في هذا العالم الضيق الأصم وباستعماله لهذه اللغة البكماء في الظاهر الحاضر والغناء في الباطن الماضي في جبة التكرار السرمدي للحياة داخل الحياة تعبيرا عن حياد تام وبحثا عن درجة صفر للغة تكون فيها الهوية مغرسا ومنبتا والتفكير مقصدا أو مستطاعا.

ان مأزق الضاد هو مأزق العربي والمجتمع الذي يعيش فيه والتفكير الذي يمارسه يبحث عن المعنى بشيء ليس له معنى أو هو فوق المعنى فكيف يمكن تحويل الضاد من كلام متكلم Parole Parlee متكون سلفا الى كلام متكلم Parole Parlante يتكون بشكل حي وفعال وخلاق؟ [21]

7 ـ طرق التجديد:

التجديد اللغوي صعب وعسير فهو ليس مجرد حلم أو شعار ولا مجرد نية سليمة وأمنية بل ممكن أن يأتي بعد ترجمة لمختلف مدارات الحضارة المتقدمة الضاربة في التطور ونقل لزبدة حوار الثقافات وكذلك بعد انصهار مختلف تجارب التفكير وخبرات الادراك في نسيج ثقافي متكامل ومنفتح على كل الزوايا والاحتمالات والتأويلات. غير أن التجديد قد يحصل أيضا عن تطهير اللغة وتخليصها من الشوائب وذلك بالتفريق بين المفاهيم والوقائع وبالفصل بين الكلمات والأشياء قصد تنظيف المفاهيم الكلمات مما علق بها من معان قديمة خاطئة وبغية تلميع الأشياء والوقائع مما لصق بها من تأويلات ماضية خيالية يكسب الطرفين معاني ودلالات جديدة.[22] فان كانت اللغة سلاح الفكر وكان الفكر فارس اللغة وكانت هذه الأخيرة صمام أمان الأمة والحضارة فانه من اللازم نقد هذا السلاح قبل الشروع في استعمال سلاح النقد ومن الضروري تقييم تجارب استعمال الفكر العربي للضاد قصد تجاوز الأخطاء والكشف عن مواطن العيوب وأصول المثالب من أجل عدم الوقوع فيها مجددا. ان هذه المحاولة الاستشرافية تقتضي تحويل القول الى فعل والتلفت عن الإهتمام بمصدر اللغة ان كان طبيعيا مرتبطا بالصرخة أو الهيا ناتجا عن مصدر سماوي غيبي لتفتح الضاد على الوجود في طزاجته الأولى ولتفيض بالدلالات والمعاني ولتستعيد تلك الشاعرية والمجاز والرمز والايجابية التي كان يمتلكها الشعر الجاهلي في المعلقات السبع أو القصص الديني في القرآن أو تلك الأدبيات التشبيهية في كليلة ودمنة وحي بن يقظان أين وقع اجتياز قضبان المقولات المنطقية وقواعد القول البرهاني والهجرة من الظاهر الى الباطن ومن العبارة الى الاشارة وأين أفاضت الحروف عن معان لم تفدها جمل بأكملها. فهل يستعيد العربي عافيته ويحقق صحوته ويستيقظ من غفوته بتخير الألفاظ وتخليص المعاني وتحسين الكلام؟

 لما كان الكلام متكونا من لفظ ومعنى ولما كانت اللغة قد بليت وقلمت أظافرها من فرط استعمالها والمعاني فقدت أصولها والأشياء خسرت طهارتها الأولى فانه من المتوجب علينا أن ننفض الغبار عنها ونفرق بينها.

أ/ فان أردنا تطهير لفظ قديم فنحن أمام خيارين: تخليصه من المعنى القديم واسناده لشيء جديد أو أن نحرره من المعنى القديم ونسند له معنى جديدا.

ب/ وان تدبرنا معنى قديما فنحن مطالبون بفك الارتباط بينه وبين الشيء القديم وربطه بشيء جديد وكذلك فصله عن اللفظ القديم بمنحه لفظا جديدا.

بذلك تنفتح الضاد على التجارب المعيشة وتلتقي باللغات الأخرى ترجمة وتعريبا واستعرابا وتتحول من لغة تقبل التغير والتجديد تخاطب كل العقول والأذهان وليست حكرا على أصحاب الفطر الفائقة من خاصة الخاصة. فتكون الفصحى لغة الانسان لا لغة الأديان لها ما يقابلها في الحس والعيان لا غيبية قلبية تحث على التقوى والايمان و تكون لغة عقلية لا قطعية. [23]

لهذا فان أسطورة موت الضاد،الفصحى، بانحسار متكلميها تصبح غير مبررة فكيف تموت لغة والعالم الذي قعدها ووضع قوانينها قد توفي وفي نفسه شيء من حتى؟

***

د.زهير الخويلدي - كاتب فلسفي

......................

المراجع:

1/ ابن خلدون عبد الرحمان، المقدمة، الفصل 36 ، دار الجيل، بيروت، لبنان.

2/ أبو نصر الفارابي، السياسة المدنية، دار سيراس للنشر، تونس 1994.

3/ أرنست كاسرر، مقال عن الانسان 1970

4/ ابن جني، الخصائص، الجزء الأول، تحقيق محمد علي النجار.

5/ اميل بنفنيست، مسائل في الألسنية العامة، طبعة غاليمار، باريس 1968.

6/ بول ريكور ،فلسفة اللغة الموسوعة الكونية، مجلة العرب والفكر العالمي، بيروت، خريف 1989.

7/ فتقشتاين ليدفيغ،  المصنف المنطقي الفلسفي، طبعة غاليمار، باريس 1961.

8/ الشهرستاني عبد الكريم ، نهاية الأقدام في علم الكلام.

9/ الغزالي، أبو حامد، الاقتصاد في الاعتقاد تقديم عبد الرحمان بدوي القاهرة 1961.

10/ د حسن حنفي، التراث و التجديد - المؤسسة الجامعية للنشر والتوزيع، مجد، بيروت،طبعة 2002.

11/ الجاحظ البيان و التبيين -القاهرة 1960

12/ الجاحظ الرسائل السياسية دار و مكتبة الهلال بيروت 1995

13/ مارلوبنتي المرئي واللامرئي غاليمار باريس 1964.

14/ محمد رواس قلعه جي لغة القرآن لغة العرب المختارة دار النفائس بيروت 1988.

15/ مظفر النواب شاعر المعارضة السياسية والغضب القومي إعداد هاني الخير مؤسسة علاء الدين للطباعة والتوزيع دمشق 2004.

16/ برجسن الفكر والمتحرك 1946 PUF.

17/ جاك دريدا الكتابة والاختلاف دار توبقال للنشر المغرب1988

18/ ديكارت رسالة الى شانو 01/11/1937.

[19]  احسان عباس، كتاب شعر الخوارج، طبعة  1960 

 [20] ديكارت رسالة الى شانو 01/ 11/1637

 [21] موريس مارلوبونتي، المرئي واللامرئي، طبعة غاليمار، باريس 1964

 [22] هنري بجسن، الفكر والمتحرك، النشر الجامعي الفرنسي، باريس  1946

 [23] أنظر د حسن حنفي، التراث و التجديد - المؤسسة الجامعية للنشر والتوزيع، مجد، بيروت،طبعة 2002.منطق التجديد اللغوي ص109-132

 

"إنّ الجامعات قاطرات التاريخ الحضاريّ للإنسانيّة، ومن الطبيعيّ أيضاً أن تشكّل التغيّرات والمتغيّرات الحادثة في المجتمع النوابض التاريخيّة لتقدّم الجامعات وتطوّرها، وذلك من منطلق أنّ العلاقة القائمة بين الجامعات والمجتمع هي علاقة صميميّة وجوديّة، تقوم على الفعل والانفعال والتجاوب والاستجابة الدائريّة المستمرّة عبر الزمان والمكان ".

1 - مقدّمة:

تشكل الحريات الأكاديمية في الجامعات الحقل الخصيب لنماء المعرفة الإنسانية وازدهار المعرفة الإبداع العلمي. وقد أدرك علماء الاجتماع التربوي هذه الحقيقة، فأعلنوها قانونا اجتماعيا صاغته التجارب الإنسانية وصقلته حركة الإبداع العلمي في كلّ المجتمعات. فالحريات الأكاديمية هي الإطار العام والشرط الموضوعي لوجود الجامعة وتطورها، كما أنّها التّربة الحاضنة لأدائها العلمي بسماته الإبداعية والابتكاريّة. وتأسيسا على هذه الحقيقة يرتسم تاريخ الجامعات نضالا من أجل الحرية والديمقراطية والإبداع العلمي، ويحفل هذا التاريخ بنماء الفكر الديمقراطي وتطوره في أحضان المؤسسات الأكاديمية العليا، وذلك انطلاقا من الأهمية المطلقة والضرورة التاريخية التي يمثّلهما توفر الديمقراطية بالنّسبة إلى العلم والمعرفة العلمية.

ومن يتأمّل بعمق ودراية في تاريخ العلم وتاريخ الجامعات يجد بأنّ النضال من أجل المعرفة والحقيقة لم ينفصل لحظة عن النضال من أجل الديمقراطية. ويَظهر له جليّا أنّ الحقيقة الديمقراطية تتحدّد دائما مع حقيقة الإبداع العلمي والمعرفي. ومن يرصد وقائع التاريخ سيجد بأنّ تراجع الحضارة والمعرفة كان نتاجا طبيعيا لتراجع القيم الديمقراطية وغياب الحرية. وبالمقابل، فإنّ قوة الحضارة ومدى ازدهارها يرتهنان بمدى الازدهار الديمقراطي الذي تشهده هذه الحضارة أو تلك. ويقرئنا التاريخ أن الحضارات المزدهرة كانت قبل ذلك قد شهدت ازدهارا ديمقراطيا سجل حضوره في أصل النماء الحضاري لهذه الشعوب التي صنعت الحضارة وتكاملت معها.

وفي عمق التحولات الحضارية كانت مؤسسات التعليم العالي، وما زالت، تشكل قاطرات التاريخ نحو العلم والديمقراطية. والقانون الذي يسود هذه المؤسسات لا يخرج عن القانون العام الذي يسود الحضارة: فمدى أصالة هذه المؤسسات ومدى قدرتها على تحقيق النهوض الحضاري والعلمي رهينان، وعلى نحو جدلي، بمدى الأداء الديمقراطي لهذه المؤسسات الجامعية في مختلف صيغها وتجلياتها. وبالتالي فإنّ المؤسسات الجامعية التي تعاني من غياب الأجواء الديمقراطية ستعاني بالضرورة من الجمود والتصلب اللّذين يتجسّدان في حالة عدمية قوامها حالة اغتراب شاملة تتمثل في انهيار أكيد لمختلف طاقات الإبداع والقدرة على الابتكار. وهنا نجد أنفسنا أمام حقيقة لا تقبل الجدل، وهي أنّ مستوى الأداء العلمي والديمقراطي لمؤسسات التعليم العالي والجامعي في مجتمع ما يمثّل المؤشر الحضاري على الدرجة التي بلغها هذا المجتمع في سلّم التطور الحضاري والإنساني.

وفي ظل هذا التصور التاريخي لدور الحريات الأكاديمية في تشكل الحضارة الإنسانية والنهوض الحضاري، تنقدح في العقل أسئلة رصينة حول الدور الحضاري للجامعات العربية. والسؤال الأبرز هنا هو: هل تمارس الجامعات العربية دورها المعرفي الإبداعي بما ينسجم وتطلعات العصر الذي يزخر بالعطاء العلمي ويومض بالابتكارات في مختلف ميادين الوجود؟ هل استطاعت الجامعات العربية أن تحقق نقلة نوعية في مجال الحريات الأكاديمية؟ وما هي أوضاع هذه الحريات ومستقبلها في زمن الثورة الصناعية الرابعة؟

يطرح التفكير في واقع الحرّيّات الأكاديميّة في الجامعات العربيّة سلسلة معقّدة من القضايا والإشكاليّات الّتي تأخذ طابع التنوّع بأبعادها الفكريّة والاجتماعيّة. ففي أحضان الجامعات نمت الحركات الديمقراطيّة وتفتّق العقل البشريّ عن طاقاته الإبداعيّة في مختلف الميادين والاتّجاهات. وهذا هو المنطلق الّذي دفع عدداً كبيراً من الباحثين والمفكّرين إلى الاعتقاد بأنّ مستوى تطوّر مجتمع ما رهين إلى حدّ كبير بمستوى تطوّر جامعاته. وتلك هي الحقيقة الّتي انطلق منها بعض المفكّرين لتفسير كلّ الظّواهر، بما فيها الانتصارات والهزائم العسكريّة لبلدانهم. ألم يعلن الكاتب الفرنسيّ المشهور إرنست رينان (Ernest Renan 1823 - 1892) في أعقاب الهزيمة العسكرية التي منيّت بها فرنسا ضد ألمانيا في عام 1870،  بأنّ "الجامعات الألمانيّة هي الّتي انتصرت"(1)؟  فالجامعات كانت، وما زالت، مهادا ومعقلا للفكر الحرّ، ومنطلقا للتّجديد والابتكار في مختلف ميادين الوجود الاجتماعيّ. وقد ارتبط تاريخ هذه الجامعات بتاريخ نماء الفكر الديمقراطيّ بكلّ ما ينطوي عليه هذا الفكر من أصالة وعمق وقيمة إنسانيّة. ومما لا شك فيه أن الجامعات كانت عبر تاريخها الطويل موطناً للحرّيّة وحاضناً طبيعيّاً للقيم الديمقراطيّة، وهي في ضوء هذا المنظور كانت وما زالت مصدر إشعاع حضاريّ ومنهلاً للقيم الديمقراطيّة وحاضنا لهذه القيم في البيئة الاجتماعيّة الّتي تحيط بها.

وإذا كان نماء الفكر الديمقراطيّ رهيناً بتطوّر أبعاده في الحياة الاجتماعيّة بصورة عامّة فإنّ الجامعات كانت، وما زالت، تشكّل الحلقات الأكثر أهمّيّة وخصوصيّة في عمليّة هذا النماء، فالعلم لا ينمو إلّا بالإبداع والابتكار. ومن ثمّ فإنّ قيم الحرّيّة والديمقراطيّة هي البوتقة الّتي تتشكّل في جنباتها أسس الإبداع والتجديد والابتكار. ومن هنا فإنّ الجامعة كمؤسّسة علميّة لا يمكنها أن تؤدّي دورها التاريخيّ إلّا في أجواء الحرّيّة والمعاني الديمقراطيّة. فالجامعة كما يشهد تاريخها الطويل كانت المرآة الأولى الّتي تُكتب على صفحتها النّاصعة أبجديّات الإبداع والحرّيّة في المجتمع الّذي يحتضنها، ويتأسّس على ذلك بالضرورة أنّ الفكر الديمقراطيّ، بكلّ ما ينطوي عليه من قيم وعطاءات ومنجزات، يجد نفسه في أحضان المؤسّسات الأكاديميّة العليا أوّلاً، ومن ثمّ تبدأ دورته الاجتماعيّ ليأخذ أبعاده وتجلّياته في مدار الحياة الاجتماعيّة بمختلف مؤسّساتها ودوائرها وحلقاتها.

ولا يمكن للجامعة، كما تؤكّد أدبيّات علم الاجتماع أن تؤدّي وظائفها إلّا على نحو متكامل، وفي نسق روح واحدة وهويّة موحّدة. وهي على هذا الأساس التكامليّ لا يمكنها أن تكون مؤسّسة علميّة ما لم تكن مؤسّسة ديمقراطيّة، ولا يمكنها أن تمارس دوراً اجتماعيّاً حضاريّاً ما لم تؤدّ وظيفتها العلميّة والديمقراطيّة. وهذه الرؤية الموضوعيّة لدور الجامعة ووظائفها الّتي تتمثّل في خدمة العلم والديمقراطيّة تطرح قضيّة إشكاليّة معاصرة تتعلّق بمكانة الجامعة وصورتها لدى النّاس.

فالجامعة نسيج من العلاقات الاجتماعيّة والثقافيّة الّتي تقوم بين مكوّنات وجودها. ويمكن للعلاقات الاجتماعيّة أن تأخذ اتّجاهين مختلفين، فهي إمّا أن تكون علاقات استبداديّة عموديّة، وإمّا أن تكون علاقات أفقيّة ديمقراطيّة، وبتعبير آخر إمّا أن تأخذ هذه العلاقات اتّجاهاً يتميّز بالمرونة أو طابعاً يتّصف بالتصلّب. ويتأسّس على ذلك أنّ غياب العلاقات الديمقراطيّة في الجامعة يفسح المجال لنماء علاقات التسلّط والاستبداد، وعلى خلاف ذلك فإنّ غياب علاقات التسلّط والإكراه في الجامعة يعني بالضرورة حضور القيم الديمقراطيّة فيها وفي المجتمع برمّته.

ويبنى على هذه الرؤية ضرورة دراسة أبعاد الحياة الديمقراطيّة والحرّيّات الأكاديميّة الجامعيّة التي تشكل منطلقاً حيويّاً لدراسة الروح الداخليّة للجامعة. فالأداء الديمقراطيّ للجامعة هو بمثابة الدورة الدمويّة للحياة فيها، كما يمثّل في الوقت نفسه صورة مصغّرة للحياة الديمقراطيّة في المجتمع بصورة عامّة، وذلك انطلاقاً من أهمّيّة العلاقات الوشيجة بين الجامعة والمجتمع، فالمجتمع هو الإطار العامّ لدورة الحياة الجامعيّة، وهي تعكس الصورة المستقبليّة الّتي سيكون عليها هذا المجتمع في معارج نمائه وتطوّره الداخليّ.

وإذا كانت الجامعات الغربيّة قد أدّت دورها وتكوّنت لديها تقاليد علميّة وديمقراطيّة راسخة فإنّ الجامعات العربيّة مدعوّة لأداء دور تاريخيّ بالغ الأهمّيّة والخطورة في مجتمعات ما زالت فيها قيم التعصّب والقبليّة والعشائريّة والطائفيّة هي الّتي تسود وتنخر عظام الوجود الاجتماعيّ. فالقيم السابقة لوجود المجتمع المدنيّ والمناهضة له تستشري في أوصال الثقافة العربيّة. وهذا يحمّل الجامعة وأهلَها مسؤوليّة جليلة ذات طابع إنساني وحضاريّ في الوقت ذاته.

2 - مفهوم الحرّيّة الأكاديميّة:

شغلت قضيّة الحرّيّات الأكاديميّة علماء الاجتماع على اختلاف مذاهبهم وتيّاراتهم. وتعدّ مشكلة الحرّيّة الأكاديميّة (Academic Freedom) من القضايا الأساسيّة الّتي عالجها ماكس فيبر بمزيد من الاهتمام، إذ كان يعتقد أنّ مختلف المشكلات والقضايا الجامعيّة ترتبط بها جوهريّاً. ويعني هذا أنّ الحرّيّة الأكاديميّة تشكّل عمق الحياة الجامعيّة وجوهرها بكلّ ما تنطوي عليه هذه الحياة، وبكلّ ما يرتبط بالوظائف الجامعيّة من اعتبارات اجتماعيّة وإنسانيّة وقيميّة(2).

ويعدّ مفهوم الحرّيّة الأكاديميّة من المفاهيم الإشكاليّة الّتي تشتمل على نسق معقّد من الأفكار والاتّجاهات المختلفة. ويتجسّد البعد الإشكاليّ لهذا المفهوم من خلال ما وصل إليه رؤساء خمس وعشرين جامعة أمريكيّة في اجتماعهم الشهير في فبراير عام 1953 لمناقشة الحرّيّة الأكاديميّة، إذ حسبما تقول شريكر: "كانوا كلّما أمعنوا في مناقشة المسألة ازدادت غموضاً(3).

ومن المهم في هذا السياق أن نُلمع إلى أنّ مفهوم الحريات الأكاديمية قد شهد ولادته الحقيقية في أحضان الجامعات الغربيّة في العصور الوسطى. وكان هذا المفهوم يشير إلى أمرين هما: اعتراف السلطة الدينيّة أو المدنيّة بالاستقلال الذاتيّ للجامعة، والامتيازات الّتي كان يتمتّع بها الأساتذة والطلبة في الجامعة، مثل: حرّيّة السفر والتنقّل الآمن ومحاكمة الخارجين على قوانين الجامعة وأنظمتها وحقّ الجامعة في وقف التدريس فيها أو نقل مكانها عند تعرّضها للخطر، وقد شملت هذه الحقوق إعفاء ممتلكات الأساتذة والطلبة من الضرائب وإعفاءهم من الخدمة العسكريّة. وبموجب هذا الاستقلال الذاتيّ تمتّعت الجامعة بحرّيّة تنظيم إدارتها الذاتيّة فيما يتعلّق بكلّيّاتها ومكاتبها ومصالحها وتحديد شروط العضويّة في هيئتها التدريسيّة. وكانت المراسيم البابويّة والمواثيق الملكيّة في أوروبا تؤكّد هذا الاستقلال الذاتيّ للجامعات التابعة للكنائس والأديرة والممالك (4).

وفي العصر الحديث يرى المؤرخون أنّ مفهوم الحرّيّة الأكاديميّة المعاصر قد انطلق من ألمانيا، مع إنشاء جامعة برلين الحديثة عام 1810، بإشراف الفيلسوف الألمانيّ الشهير يوهان غوتليب فيخته (Fichte Gottlieb Johan)، ومن ثمّ عرف هذا المفهوم ازدهاره وتطوّره داخل أسوار الجامعات الغربية والأمريكيّة وفي أروقتها(5).ويركّز التراث الجامعيّ الألمانيّ على ازدواجيّة مفهوم الحرّيّة الأكاديميّة، فهناك الحرّيّة الّتي تخصّ الأساتذة، وتعكس ما يسمّى بحرّيّة التعليم، والآخر يخصّ الطلّاب، ويسمّى حرّيّة التعلّم. وتؤكّد المقولات الألمانيّة في هذا السياق على أهمّيّة حرّيّة التعلّم عند الطلّاب، وعلى أنّ هذه الحرّيّة لا يمكن أن تتحقّق إلّا من خلال حرّيّة التعليم أيّ حرّيّة أساتذة الجامعة. وهو ما يعني أنّ حرّيّة الطالب رهينة بحرّيّة الأستاذ في التعليم. وتعني حريّة التعلّم حقوق الطالب في الالتحاق بالجامعة وحرّيّة اختيار الفروع الّتي يرغب فيها وهو المطلب الأوّل، أمّا المطلب الثاني فهو حرّيّة الطلّاب في الاعتراض والمناقشة والخروج على آراء الغير (6).

وكان أبرز من بشّر بالنجاح الثاني للحرّيّة الأكاديميّة، أي لحرّيّة الطلّاب، هو شارلز ويليام إليوت (Charles William Eliot 1834 - 1926) الّذي استمرّت ولايته لجامعة هارفارد أربعين عاماً من (1909-1869)، وقد أكّد ضرورة ممارسة الطالب لحرّيّته في التعليم والبحث واختيار المنهج والأستاذ المعلّم(7). ومنذ أواخر القرن الماضي، بدأ بعض أعلام التعليم الجامعيّ في الغرب بعامّة، وفي الولايات المتّحدة بخاصّة، ينتبهون إلى أنّ الحرّيّة الأكاديميّة للجامعة ينبغي أن تمتدّ لتشمل الطلّاب كذلك، فبرز ما سمّي بنظام الاختيار للمقرّرات الّذي سارعت جامعات عربيّة إلى اقتباسه منذ أواسط السبعينيات(8).

ويُثبت البحث في جوهر مفهوم الحرّيّات الأكاديميّة وجود منظومة من المفاهيم والقيم الداخليّة تنضوي داخله. ومن هنا يذهب بعض المفكّرين إلى التمييز بين جوانب هذه الحرّيّة، فيتمّ النظر إلى ثلاثة مكوّنات أساسيّة في منظومة الحرّيّات الأكاديميّة وهي:

أولا - حرّيّة العلم والبحث العلميّ.

ثانيا - حرّيّة الأفراد المشتغلين بالعلم والبحث العلميّ، ويشمل هذا البُعدُ حقوق وواجبات العمل الأكاديميّ.

ثالثا- الحرّيّة الداخليّة للجامعات والمؤسّسات الجامعيّة العليا(9).

ويؤكّد بعض الباحثين على جوانب محدّدة في مفهوم الحرّيّات الأكاديميّة، فيبرزون عناصر الحرّيّة يتنوّع تجلّياتها. ووفقاً لهذا المنظور، فإنّ الحرّيّة الجامعيّة تتمثّل في ثلاثة مستويات كما يرى أحد المفكّرين وهي:

1- حرّيّة الرأي العلميّ بالقول.

2- حرّيّة الرأي العلميّ بالفعل.

3- حرّيّة الرأي العلميّ بالتحريض والإثارة كما هو حاصل في مجال التعليم والخطابة والكتابة(10).

وتجدر الإشارة في هذا السّياق إلى التعريف الإجرائيّ الّذي وضعه جون ديكنسون للحرّيّة الأكاديميّة، إذ يرى أن الحرّيّة الأكاديميّة تتكوّن من أربعة عناصر يمكن قياسها والتأكّد من تحقّقها على أرض الواقع. هذه العناصر هي:

1- الاستقلال الداخليّ للمؤسّسات الجامعيّة والبحثيّة: فالاستقلاليّة الداخليّة للجامعة هي العنصر الأوّل من عناصر الحرّيّة الأكاديميّة.

2- تنوّع وتعدّد مصادر تمويل الجامعات بما في ذلك تعدّد تمويل البحوث الأساسيّة والتطبيقيّة.

3- التأكيد على الأمن الوظيفيّ للباحثين والأكاديميّين.

4- التأكيد على وجود هيئة أو جمعيّة مهنيّة تتولّى تمثيل الباحثين والأكاديميّين وتدافع عن مصالحهم بصورة فرديّة أو جماعيّة(11).

وإذا كانت الحرّيّة الأكاديميّة ترمز إلى رفضٍ لكلّ أشكال الإكراه والتقييد على البحث والتدريس داخل المؤسّسات الجامعيّة والعلميّة والبحثيّة "فإنّ هدفها الأعمّ الارتقاء بواقع العطاء العلميّ وإزالة كافّة أشكال المعوّقات الّتي تحدّ من النشاط العلميّ والبحثيّ الحرّ وتحدّ من انتشار العلم والتفكير العلميّ وتغلغلهما في الحياة"(12).

ويرى أغلب الباحثين المشتغلين بقضايا الحرّيّة الأكاديميّة أنّ مفهوم الحرّيّة الأكاديميّة يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالحرّيّات السياسيّة السائدة في المجتمع ويرتهن بها. فالحرّيّة الأكاديميّة كما يعتقد أغلب المفكّرين شديدة الارتباط بالبيئة الاجتماعيّة والسياسيّة الّتي تحدّد مستوى تطوّر هذه الحرّيّة وطابعها. "فالمعطيات والظروف الاجتماعيّة والسياسيّة هي الّتي تتحكّم في وجود أو غياب الحرّيّة الأكاديميّة والأشكال الأخرى من الحرّيّات والحقوق، خاصّة في مجال التطبيق والممارسة" (13).

وفي مجرى الحديث عن الحرّيّات الأكاديميّة في الجامعة والمؤسّسات العلميّة، فإنّ كثيراً من الباحثين يُلجِمون هذا المفهوم بمبدأ المسؤوليّة والالتزام إلى حدّ يكاد يفقد فيه مفهوم الحرّيّة الأكاديميّة معناه وجوهره الحقيقيّ. ومن هذه الزاوية، يلحّ كثير من الباحثين والمفكّرين على ثانويّة القيد والالتزام تأكيداً منهم على جوهر وأهمّيّة المفهوم وحرصاً على معانيه التاريخيّة. ومن هذا المنطلق يقول عبد الخالق عبد اللّه "إنّ الإقرار بمبدأ المسؤوليّة والالتزام في مجال العمل العلميّ والأكاديميّ لا يعني مطلقاً التسليم بالقيود على الحرّيّات الأكاديميّة، فالحرّيّات الأكاديميّة تظلّ هي القاعدة. أمّا القيود، بما في ذلك القيود الذاتيّة والداخليّة، فهي باستمرار الاستثناء، بل إنّ الحرّيّة الأكاديميّة ليست سوى السعي من أجل التقليل إلى أقصى حدّ من القيود المفروضة على نشاط الأكاديميّين والباحثين والمشتغلين بالعلم"(14). إنّ الحرّيّة الأكاديميّة، ومهما تباينت الآراء حول تحديد مفهومها وأبعادها، تقوم على سلطان العلم. ولا يُبرَّرُ إلّا به وفي حدوده، بحيث أنّ كلّ تحوّل في طبيعة هذا السلطان يؤول إلى زيغ عن الحرّيّة الأكاديميّة وانقلاب عليها، فينزلق بها إلى مستوى التغييرات الّتي تجعلها تُسخّر لخدمة التصوّرات الأيديولوجيا والمصالح الفئويّة والحزبيّة(15).

لقد أصبحت الحرّيّة الأكاديميّة - بوصفها المنطلق الحقيقيّ لاكتشاف الحقيقيّة العلميّة- مسلّمة من المسلّمات الحياتيّة والفكريّة في المجتمعات الغربيّة، وهي أيضا في أكثر بلدان العالم المتحضّر قضيّة تجاوزت حدود الاختلاف والجدل. ولكنّ هذا المفهوم ما زال يخوض غمار ولادة مريرة ومؤلمة في أغلب البلدان العربيّة. فالأنظمة السياسيّة ترفض مضامين هذا المفهوم، وتصنّفه من بين المفاهيم الخطرة الّتي يجب أن تحارب. وبعض المفكّرين العرب في تجربة شاقّة وقاسية لتأكيد الحضور الخلّاق لهذا المفهوم الّذي يبرّر شرعيّة البحث عن المعرفة والحقيقة وتأكيد العلم والتفكير العلميّ الحرّ في الحياة والمؤسّسات الجامعيّة.

3- الحرّيّات الأكاديميّة والإبداع العلميّ والمعرفيّ:

يعلن الفيلسوف الشهير برتراند رسل عن وحدة الإبداع والحرّيّة، كما يؤكّد وضعيّة التلازم الحيويّ بين الحرّيّة الأكاديميّة والابتكار، إذ يقول بلغة بليغة ومقنعة بأنّ الأكاديميّ: "شأنه شأن الفيلسوف والفنّان ورجال الأدب، لا يمكنه القيام بعمله بكيفيّة مرضيّة إلّا إذا شعر بأنّه موجّه من قبل دوافعه الداخليّة الخلّاقة، وأنّه ليس مهيمناً عليه من طرف سلطة خارجيّة"(16).

فالمفكرون الأفذاذ يرون أنّ العقل المبدع والعبوديّة لا يجتمعان، وأنّ العقل توأم الحرّيّة، إذ حيثما يوجد أحدهما يزدهر الآخر، كما يمتنع حضور أحدهما دون الآخر. ويؤكّدون تلازم هذين العنصرين في مختلف مراحل تطوّر المجتمعات الإنسانيّة. وهذا التلازم العميق بين الحرّيّة والعطاء العلميّ مشهود به في تجربة الحضارات الإنسانيّة، فأغلب الحضارات المتقدّمة في التاريخ كانت وليدة أجواء الحرّيّة والديموقراطيّة في مستويات مختلفة. وقد تتجلّى هذه الحرّيّات في أنظمة للعدالة الاجتماعيّة تغطّي كلّ جوانب الحياة الاجتماعيّة. وهذا ما تسجّله الحضارات المتقدّمة كالحضارة الإغريقيّة والحضارة العربيّة الإسلاميّة في عهود ازدهارها. ويؤكّد محمّد جواد رضا هذه الحقيقة عندما يتحرّى منطق الحضارة العربيّة، وأسُسَ نهضتها، فيقول: "استطاع المجتمع العربيّ الإسلاميّ في عصر المأمون – بمقياس نسبيّ- تحقيق مبدأين اجتماعيّين كانا سبب ازدهاره، هما: مبدأ العقلانيّة (Rationalisme) في فهم الكون والتعامل معه وتقرير موقع الإنسان فيه؛ ومبدأ العدل الاجتماعيّ (La justice). فلمّا مضى المأمون وأفل نجم عصره ووقع العدوان على هذين المبدأين، فقدت الحضارة العربية ألقها وتوهّجها،  وبدأت مرحلة السقوط التي خرج فيها العرب من مركز الفعل في التاريخ إلى دائرة الانفعال .

وفي مستوى الجامعات- كما هو الحال في مستوى المجتمع- تلعب الحرّيّة دورها التاريخيّ، فالحرّيّات الأكاديميّة في الجامعة والأجواء الديمقراطيّة هي الرهان التاريخيّ لتطوّر العلم والمعرفة والإنسان المبدع الحرّ. إنّ الإبداع في مجال التعليم يعتمد على الحرّيّة. وقد أظهر تقرير أعدّته لجنة تطوير المناهج الأمريكيّة أنّ من العوامل الّتي تعيق الإبداع في المدرسة الامتثال للأوامر والتركيز المبالغ فيه على السلطة وإهمال التلاميذ داخل الغرف الصفّيّة واهتمام الإدارة المفرط بالقواعد والقوانين والتعليمات على حساب الطّلاّب كذوات وأفراد(17).

يؤكّد عبد الخالق عبد اللّه على الضرورة التاريخيّة لمطالب الحرّيّة الأكاديميّة في الوطن العربيّ، إذ يقول: "إنّ الحرّيّة الأكاديميّة هي مطلب مهمّ من مطالب استمرار المشتغلين بالعلم والبحث والتدريس الجامعيّ في نشاطهم بمأمن من أيّ نوع من أنواع الإزعاج من قبل السلطات أو الزملاء أو المؤسّسات أو المجتمع ككلّ"(18). فالحريات الأكاديميّة ليست ترفاً أكاديميا بل تشكل ضرورة تاريخية لتحقيق نمو الجامعات وازدهارها. وتتّضح هذه الحقيقيّة فيما تذهب إليه جوستين بي ثورنز إذ تقول: "الحرّيّة الأكاديميّة ليست ميزة للأقلّيّة، بل هي لتمكين أعضاء المجتمع الأكاديميّ من تنفيذ وتحقيق مهمّتهم العلميّة " (19). وتلحّ ثرورنز على أهمّيّة الدفاع عن هذه الحقوق كضرورة تاريخيّة، إذ تقول:" إنّ الدفاع عن الحرّيّات الأكاديميّة يعدّ ضروريّاً في المجتمعات السلطويّة كما هو ضروريّ في المجتمعات الحرّة والديمقراطيّة. إنّ الحرّيّة الأكاديميّة ليست حقّاً فحسب، بل هي واجب مفروض على المجتمع الّذي ينتمي إليه الأفراد" (20). كما يؤكّد تالكوت بارسونز (Talcott Parsons) في هذا الصدد أنّ الحرّيّة الأكاديميّة ليست مجرّد حقوق طبيعة وإنسانيّة أو نظاميّة فحسب، بل هي فوق ذلك حقوق أساسيّة تكفل لأساتذة الجامعات أهمّ مظاهر المساواة الاجتماعيّة الّتي تجسّد جوهر الحقوق الليبراليّة الطبيعيّة، وتكفل تحقيق مفهوم الحرّيّة بكلّ معانيها. وهذا يعني أنّ الحرّيّة الأكاديميّة تعطي الجامعات مزيداً من العمل والكفاية والإنجاز (...) ولا يستطيع أساتذة الجامعات القيام بمهامّهم الوظيفيّة والمهنيّة دون تحقيق الحرّيّة الأكاديميّة التامّة(21).

4- الحرّيّات الأكاديميّة في الجامعات العربيّة:

ينوّه فؤاد زكريّا في كتابه (التفكير العلميّ) إلى غياب التقاليد العلميّة الديمقراطيّة والجامعيّة في الوطن العربيّ. وهو، إذ يقارن بين العالم المتقدّم وعالمنا المتخلّف فيما يتعلّق بالتراث العلميّ، ينتهي إلى القول: "في الوقت الّذي أفلح فيه العالم المتقدّم في تكوين تراث علميّ راسخ امتدّ في العصر الحديث طوال أربعة قرون، وأصبح يمثّل في حياة هذه المجتمعات اتّجاهاً ثابتاً يستحيل العدول عنه أو الرجوع فيه، في هذا الوقت ذاته يخوض المفكّرون في عالمنا العربيّ معركة ضارية في سبيل إقرار أبسط مبادئ التفكير العلميّ" (22). وفي الوقت الّذي " أسس فيه الغرب جامعات عصريّة وزوّدها بالاحترام، المتمثّل موضوعيّاً في استقلاليّة هذه الجامعات وحرّيّة الأساتذة فيها، فإنّنا نحن هنا، أخذنا النظام التعليميّ والمناهج التعليميّة عن الغرب، ولكن أهملنا أن نأخذ معها الاعتبار الّذي يعطى للعلم والعلماء والمواقف الإيجابيّة منهم. فقافلتنا تسير سيراً أعمى دون توقّف. ومساهمتنا التاريخيّة في بناء الجامعة العصريّة هو إحداثنا تنظيماً من البوليس - "البوليس الأكاديميّ" - ومهمّة هذا البوليس هي مراقبة الطلبة والأكاديميّين ومنعهم من التعبير عن أفكارهم في القضايا الاجتماعيّة" (23).

لقد نشأ الجيل الأوّل من الجامعات العربيّة الحديثة في ظلّ الهيمنة الاستعماريّة، ولا سيّما تلك الّتي نشأت في مصر وسوريا ولبنان وتونس والجزائر والمغرب، وقد حملت تحت تأثير نشأتها هذه سمات وخصائص الجامعات الغربيّة بمناهجها وأساليب عملها وتوجّهاتها الأيديولوجيّة. ومن ثمّ تنامت هذه الجامعات وتوالدت في مرحلة الاستقلال على منوال الصورة الّتي بدأت بها. وفي هذا السياق يصف محمّد جواد رضا نشأة هذه الجامعات في ظلّ الهيمنة الأجنبيّة بقوله: "ليس بيننا من يُماري بأنّ الجامعة العربيّة المعاصرة – أيّ جامعة – هي استعارة ثقافيّة من الغرب، وقد صيغت على غرار جامعات الغرب بدءاً من المناهج الدراسيّة وطرائق البحث والتدريس وانتهاء بالطيلسان (الروب) والقبّعة والوشاح. ومن هنا كان أحد مصادر الأزمات المزمنة في الحياة الجامعيّة العربيّة مطالبتها بتكييف نفسها للخصائص الثقافيّة الموروثة في المجتمع العربيّ" (24).

ويقول نادر فرجاني في هذا الخصوص: " إنّ غالبيّة مؤسّسات التعليم العالي الحديثة قامت في كنف المستعمر الأوروبّيّ، كنسخ من مؤسّساته، خدمة للتّحديث، في منظوره. فقد كانت هذه المؤسّسات وسيلة لطبع المجتمعات العربيّة بثقافة المستعمر، من ثمّ تحوّلت إلى ساحة صراع مع العناصر الوطنيّة(25). ويضيف بأنّ " ثلاثة أرباع الجامعات العربيّة أنشئت في الربع الأخير من القرن، ولا يتعدّى عمر غالبيّتها (75 بالمئة) الخمسة عشر عاماً(26).

ومن ينظر في طبيعة الجامعات العربيّة سيجد بأنّها ما زالت بصفة عامّة حديثة العهد، ولم تترسّخ فيها التقاليد الجامعيّة المعروفة، كما أنّ هذه الجامعات لم تأت تعبيراً عن طبيعة التطوّر التاريخيّ للمجتمعات العربيّة الّتي تعاني من التخلّف والتبعيّة والتجزئة، بل جاءت تعبيراً عن مدّ استعماريّ من جهة وتعبيرا عن توجّهات سياسيّة عربيّة جعلت من الجامعة حاملاً لأيديولوجيّات سياسيّة متنوّعة.

وتأسيساً على هذه الحقيقة، يرى عدد من المفكّرين العرب أنّ الجامعات العربيّة هي ظواهر جامعيّة أكثر منها جامعات حقيقيّة، وذلك لأسباب تتعلّق بنشأتها وبحداثة وجودها وأبعادها السياسيّة ووظائفها وأدائها العلميّ والديمقراطيّ. يقول عبد الخالق عبد اللّه مؤكّداً هذه الحقيقة في الخليج: "جامعة الإمارات، وربّما معظم الجامعات الخليجيّة الأخرى، هي جامعات في طور التشكيل والصيرورة، وهي أقرب إلى " الظاهرة الجامعيّة"(27).

وإذا كان الشيء يعرف بوظيفته فإنّ الجامعات العربيّة لم تؤدّ وظيفتيها الأساسيّتين: الإبداع العلميّ والمعرفيّ من جهة، وممارسة دورها الديمقراطيّ من جهة أخرى. ومن هنا يصرّ كثير من المفكّرين العرب على وصف الجامعات العربيّة بالظاهرة الجامعيّة - كما ذكرنا آنفا - ويزعمون بأنها مجرّد مؤسّسات لتخريج الموظّفين، الّذين" لا يستطيعون سوى التنفيذ لا التفكير"(28). ويعني هذا أنّ الجامعات العربيّة أصبحت مؤسّسات لإنتاج الموظّفين والعاملين في خدمة الدولة، وهذه الوظيفة هي أدنى مستويات العمل الجامعيّ. في حين أنّ الجامعات، وعلى خلاف ذلك، معنيّة بالاكتشاف والإبداع وبناء المعرفة العلميّة وإحداث تغييرات عميقة وجوهريّة في بنية الحياة الاجتماعيّة العربيّة عموماً.

5 - تسييس الجامعات العربية:

لقد جاءت عمليّة تسييس الجامعات العربيّة كجزء من المدّ الثوريّ الّذي اجتاح الوطن العربيّ منذ بداية الستّينيات. فالعوامل السياسيّة هي القاسم المشترك لتأسيس أغلب الجامعات العربيّة. ومع ذلك فإنّ الدوافع السياسيّة مهما يكن شأنها يمكن أن تكون إيجابيّة، وذلك عندما يكون الهدف بناء جامعات حرّة حقيقيّة تعنى بالحقيقة العلميّة، وتؤدّي دورها الديمقراطيّ والاجتماعيّ، وتضطلع بالوظائف الجامعيّة الحقيقيّة.

ويمكن القول بأنّ الجامعات العربيّة وجدت لتكون مؤسّسات حكوميّة، تدعو إلى تعزيز وجود الفئات الحاكمة، وإلى تكريس أيديولوجيا السلطات المتعاقبة، وترسيخ ثقافة غير ديمقراطيّة قائمة على أساس التسلّط والاستلاب. وبعبارة أخرى، ليست الجامعات العربيّة جامعات حقيقية بالمعنى المحدّد للكلمة، إذا أخذنا بعين الاعتبار الأدوار والوظائف الّتي تؤدّيها داخليّاً وخارجيّاً. لقد تحوّلت هذه الجامعات، على حدّ تعبير محمّد جواد رضا، إلى مؤسّسات بيروقراطيّة تخاف الحرّيّة، وتخشى التجديد وتتطيّر منه(29).

لقد تطوّرت جامعاتنا بتأثير الفعل السياسيّ أي وفقاً للقرارات السياسيّة بإنشائها، وغالباً ما يحدث أنّ الأنظمة السياسيّة تقرّر إحداث هذه الجامعات ليس وفقاً لمبدأ الحاجة إليها، ولكن من أجل غايات أخرى أبرزها إرضاء الرأي العامّ وتحقيق سياسة القبول الجامعيّة، ومن ثم توظيفها أيديولوجيا في خدمة الأنظمة السياسية القائمة، وقد حُوِّلَت إلى مؤسّسات سياسيّة تعكس إلى حدّ كبير ما يحدث في عالم السياسة، وبدقّة أكبر فإنّ هذه الجامعات تتبنى التوجهات الأيديولوجيّة للأنظمة السّياسيّة القائمة، وتجسد هذا الطابع الأيديولوجي الموالي للسلطات الحاكمة في مختلف فعالياتها ومهرجاناتها وطقوسها العلمية.

ويضاف إلى ذلك كلّه أنّه ينبغي على أعضاء الهيئة التدريسيّة أن يعلنوا في كلّ مناسبة سياسيّة أو وطنيّة عن ولائهم للأنظمة السياسيّة القائمة في الوطن العربيّ، ويلزم أن يأخذ هذا الولاء صيغاً صريحة واضحة (خطابات- ندوات- لقاءات)، حتّى إنّ هذا قد أصبح تقليداً ينساق إليه عدد كبير من أعضاء الهيئة التدريسيّة "تجنّباً لسيف المعتّز إن لم يكن طمعاً في ذهبه". فهم يساجلون في الصحف ووسائل الإعلام حبّاً بالأنظمة السياسية القائمة وولهاً بالحكام، ويخوضون الندوات الفكريّة ولاءُ لهم وافتتاناً به. والحقّ يقال: "إنّ الصيغة الانتهازيّة بلغت أوجّها عند أعضاء الهيئة التدريسيّة، وأصبحت ظاهرة منتشرة بين صفوف المدرّسين ("مكرهاً أخاك لا بطل"). فالأكاديميّون أصبحوا اليوم عرضة لأن يكونوا سلاحاً في يد السلطة السياسيّة تنشر بهم مفاهيمها، وتفرضها وتضعف بهم الضمير الحيّ عند فئة الأكاديميّين وفئات أخرى"(30).

وإذا كان هذا الحيف يقع على أعضاء الهيئة التدريسيّة مرّة فإنّه ينال من الطلّاب ألف مرّة. وفي هذا السياق يمكن القول، وبصورة عامّة، إنّ الطلّاب في الجامعات العربيّة يعانون استلاباً واغتراباً أكاديميّاً لا حدود له، وكما يقال " حدّث ولا حرج". فالطالب محروم من حرّيّة المشاركة واتّخاذ القرار، ومن حقّ تشكيل النقابات الحقيقيّة للدفاع عن وجوده ومصالحه، ومن جميع أسباب التشجيع والاحترام والتقدير. فهو مستلب في عالم يغلب عليه الاستلاب ومقهور في عالم يضجّ بالقهر، ومحروم في عالم لا يعرف إلّا الحرمان. وهذه نتيجة طبيعيّة لحرمان الأستاذ الجامعيّ من أبسط حقوقه الأكاديميّة والإنسانيّة.

6- طبيعة الأداء الأكاديميّ للجامعات العربيّة:

يتمثّل الأداء الديمقراطيّ للجامعة في ضمان شروط الحرّيّات الأكاديميّة للطلّاب والمدرّسين في آن واحد. كما يُترجَم هذا الأداء في توفير منظومة من القيم والحرّيّات والعلاقات التربويّة القائمة على روح التعاون والمشاركة والإيمان بالاختلاف وقبول الآخر على أساس مبدأ المساواة والقيم الديمقراطيّة. وفي هذا الصدد يقول رياض قاسم مؤكّداً أهمّيّة الخبرات الأكاديميّة في الجامعات العربيّة: إنّ قيمة التعليم الجامعيّ وعظم شأنه يتوقّفان على مبلغ نجاحنا في إرساء الحرّيّة الأكاديميّة وترسيخها كتقليد جامعيّ(31). والسؤال هنا هو: ما مدى توفّر الحرّيّات الأكاديميّة هذه في مجال الحياة الجامعيّة العربيّة المعاصرة؟

تشهد الحرّيّات الأكاديميّة في الجامعات العربيّة غياباً يتّسم بطابع الشمول والعمق في مستوى التحديدات الدستوريّة، وفي مستوى الممارسة الواقعيّة. فالتعريف الدستوريّ للحرّيّات الأكاديميّة ما زال يسجّل غيابه في الساحة العربيّة. ويتّضح هذا الغياب في تأكيد عبد الفتّاح عمر، إذ يقول:" لا وجود في تونس، وشأنها في ذلك شأن عديد من الدول الأخرى، لتعريف دستوريّ أو قانونيّ للحركة الأكاديميّة. كما أنّ التجربة الجامعيّة التونسيّة لم تفرز بصورة واضحة وجليّة اتّفاقاً حول مفهوم الحرّيّة الأكاديميّة، ولا حول حدودها(32). ونحن نضيف أنّ هذا التعريف لا وجود له على حدّ علمنا في أيّة جامعة عربيّة.

والحريّات الأكاديميّة الّتي عرفتها الجامعات العربيّة تراجعت بقدر كبير مع انتقال إدارة هذه الجامعات إلى الحكومات الوطنيّة. وبدأت هذه الحرّيّات تتقلّص مع دورة الزمن وانحسار الديمقراطيّة السياسية الّتي شهدت بعض الحضور في الخمسينيات والستّينيات. لقد صبغت الجامعات العربيّة بالصبغة الحكوميّة، وفقدت هذه الجامعات استقلالها بصورة واضحة تحت ضغط الممارسات الّتي توجّهها الحكومات العربيّة. والحكومات العربيّة تموّل هذه الجامعات وتعيّن إداريّيها في الغالب الأعمّ وتحدّد وظائفها وتقرّر مناهجها وتراقب سير عملها وآليّات وجودها اليوميّ بصورة أدّت إلى إفراغ هذه الجامعات من مضامينها الأكاديميّة والديمقراطيّة. وفي بعض البلدان العربيّة - إن لم يكن في أغلبها - تحوّلت هذه الجامعات إلى مؤسّسات صارمة يخضع العاملون فيها لقوانين متشدّدة دون مراعاة لأبسط قوانين الوجود الأكاديميّ.

وفي كثير من هذه الجامعات يعيّن الإداريّون من عمداء ورؤساء جامعات وأقسام من قبل القيادات السياسيّة أو الأحزاب دون أيّة مراعاة لأصول التقاليد الجامعيّة الّتي تقوم على أساس انتخاب هذه القيادات الجامعيّة. وحتّى أعضاء الهيئة التدريسيّة يُعيّنون بناء على مراسيم تعدّ في مكاتب الأحزاب السياسيّة، ولا يسمح للجامعة بأن تتّخذ قرارات بهذا الشأن إطلاقاً. حتّى إنّ النقابات الطلّابيّة وجمعيّات أعضاء هيئة التدريس تنظّم بصورة سياسيّة (دون انتخابات) إذ تمارس هذه النقابات دوراً مخالفاً لطبيعتها، ويتمثّل في تكريس التسلّط والقهر وإلغاء إرادة الطلّاب وأعضاء الهيئة التدريسيّة بصورة واعية ومنظّمة.

وبصورة عامّة، لا يمتلك أعضاء هيئة التدريس في كثير من الجامعات العربيّة الحقوق الأكاديميّة فيما يتعلّق بحرّيّة القول والكتابة والتعبير عن الرأي والبحث العلميّ. ويضاف إلى ذلك أنّ أعضاء هيئة التدريس يوضعون في دائرة القهر المادّيّة، إذ تضيّق عليهم أسباب العيش والرّزق بصورة يجعل منهم أشلاء جامعيّة مقهورة.

وحتّى الجامعات الّتي عرفت بهامش كبير من الحرّيّات الأكاديميّة، كجامعات الخليج العربيّ، فإنها كغيرها تعاني أيضاً من تراجع الحرّيّات الأكاديميّة داخل الحرم الجامعيّ. "فجامعة الإمارات الّتي تتمتّع بمعظم مظاهر الاستقلاليّة الداخليّة هي من المؤسّسات الجامعيّة الّتي أخذت تعاني أشدّ المعاناة من التسلّط الإداريّ الداخليّ المعيق للعمل الأكاديميّ، لقد أصبح التضخّم الإداريّ البيروقراطيّ سمة من السمات الملازمة للجامعات الخليجيّة ككلّ. وأخذ هذا التضخّم الإداريّ يزحف إلى الأقسام العلميّة، وينهك أعضاء هيئة التدريس في العمل الورقيّ اليوميّ والروتينيّ والبعيد البعد كلّه عن الاهتمام الأكاديميّ والبحثيّ المباشر. ويعتقد الدكتور حسن الإبراهيم أنّ الجامعات الخليجيّة، ومنها جامعة الإمارات، قد أصيبت بداء “البيروباثولوجيّ " والّذي يعني البيروقراطيّة المزمنة"(33). إذ غالباً ما يعامل أستاذ الجامعة كموظّف من وجهة نظر السلطة السياسيّة. وإذا كانت الوظيفة السياسيّة للجامعة هي تخريج علماء ومفكّرين فإنّ أصحاب القدر السياسيّ يريدون أن يُخرّجوا موظّفين وكتبة(34).

لقد أدركت الأنظمة السياسيّة القائمة في بعض أقطار الوطن العربيّ الخطر الكبير الّذي تمثّله أيّة نهضة علميّة وفكريّة تتمّ في إطار المجتمع، ولا سيّما هذه الّتي يمكن أن تحدث داخل الجامعات، فلجأت إلى التنكيل بكلّ المحاولات العلميّة والمعرفيّة الّتي تقوم على أسس نقديّة. وقد شمل هذا التنكيل مختلف مظاهر الحياة الثقافيّة المتمثلة في النشر العلمي وفي الندوات العلميّة والتظاهرات الثقافية، ولا سيّما الأنشطة الّتي توجّهها الجامعات، وتلك الّتي تتمّ بمبادرات بعض المتنوّرين في الجامعة من أساتذة ومفكّرين من ذوي الضمائر النقدية الحيّة الذين يحملون قلوباً عامرة بالحبّ والإيمان بالحرّيّة والمعرفة. حتّى إنّ مجرد محاولة تناول القضايا الحسّاسة في المجتمع قد " تجرّ الباحث إلى تلك المنطقة الحمراء الخطيرة، أي إلى أرض السلطة … بما تحتكره من قوّة القانون، وما تحظى به من مال وما تمتلكه من سجون ومعتقلات وما يبرق في يديها من سيوف!" (35).

وقد أدركت بعض القوى السياسيّة أنّ الحرّيّات الفكريّة والأكاديميّة في الجامعة تشكّل خطراً يهدّد الأسس الّتي يقوم عليها الوجود السياسيّ لهذه القوى، فعملت على تقويضها وتغييبها في الوقت نفسه، حتّى أصبحت حرّيّة التعبير من المحظورات في بعض الجامعات العربيّة. والأمثلة على ذلك أكثر من أن تحصّى(36).

فبعض الأنظمة ترى في الحوار والنقد وحرّيّة الرأي في أيّ صيغة تأخذها هذه القيم إنذاراً بالخطر، ودرءاً لهذا الخطر تعتمد هذه القوى مختلف الضوابط الّتي يمكنها أن تخنق أيّة محاولة لنهوض الرأي وحرّيّته داخل الجامعات وخارجها. ويعتمد الحصار الّذي تمارسه هذه القوى على منظومة معقّدة من الفعاليّات الإداريّة والماليّة والاجتماعيّة يُشكّل مجموعها القضبان الّتي تُصنع منها أقفاص الوجود الأكاديميّ فيحاصر الأستاذ الجامعيّ حتّى الاختناق.

7- الجامعات العربيّة: إعادة إنتاج الأيديولوجيا السائدة والمحافظة عليها:

يتحدّد الدور الاجتماعيّ والعلميّ للجامعة تاريخيّاً بمبدأ التجديد والابتكار في مستويات الحياة الاجتماعيّة والثقافيّة والعلميّة. فالجامعة يفترض أن توجّه الحياة من حولها، وأن تؤثّر فيها على الأقلّ. وإذا كان هذا الأمر صحيحاً مرّة بالنسبة إلى الجامعات في البلاد المتقدّمة فإنّه يجب أن يكون صحيحاً ألف مرّة بالنسبة إلى المجتمعات المتخلّفة أو المجتمعات الآخذة بالنماء من البلاد العربيّة (37).

فالجامعات يمكنها بحكم رسالتها وأهدافها أن تقوم بدور فعّال في تطوير المجتمع، وذلك بخلق الإنسان العقلانيّ الّذي يتفاعل مع الآخرين بطرق عقلانيّة ومنطقيّة عوضاً عن الطرق التقليديّة السائدة في مجتمعنا العربيّ (38). وتتمثّل وظيفة الجامعة الإبداعيّة في حالة من الانفتاح على الحياة الاجتماعيّة، وفي حالة استمرار في أداء دور الخلق والإبداع والتجديد والتأثير الاجتماعيّ، وهنا يتأصّل الرفض لمقولة "جامعة الأبراج العاجيّة"، وتقوم - بدلا من ذلك - حقيقة قوامها أنّ الجامعة يمكنها أن تتوغّل في المجتمع، دون أن تفقد شخصيّتها بوصفها مؤسّسة اجتماعيّة علميّة رائدة تغتني باتّصالها بالمجتمع وتطوّره في آن واحد.

فأين هي الجامعات العربيّة من هذه الحقيقة؟ أين هي في ظلل الظروف الاجتماعيّة والسياسيّة الاستبدادية الّتي تحيط بها؟ وفي ضوء هذا التساؤل ألا يمكننا أن نجزم بغياب الدور الإبداعيّ للجامعات العربيّة. إنّ "التربية السائدة في الجامعات العربيّة بوضعها الراهن تتنافى مع مبدأ العطاء والإبداع العلميّ(39). هذه هي الحقيقة الّتي يلحّ في تأكيدها المفكّرون العرب، وقد لا نغلو إذا قلنا: “إنّ مهمّة التعليم العالي في عصرنا وفي العصر المقبل لا تنحصر في أنّ الجامعيّ " يصوّر العالم " ويستنسخه ويستجيب له على نحو ما هو عليه، بل تتجاوز ذلك إلى الإسهام في " صنع العالم وابتكاره"(40). فالجامعة "ليست مصنعاً للشهادات كما يخيّل للبعض أحياناً، ولا مركزاً للامتحانات أو مركزاً لتخريج المواطنين، بل هي صورة للمجتمع المثاليّ المطلوب إحداثه، وهنا تكمن مسؤوليّة الجامعيّين"(41).

وعلى خلاف هذه الصورة لوظيفة الجامعة، فإنّ الدراسات المتحققة في هذا الميدان في المستوى العربي تفيد بأنّ الجامعات العربية تحوّلت إلى مؤسّسات للتسلّط والقهر. وهذا التحوّل لا ينبع من طبيعة المؤسّسة الجامعيّة، ولكنّه يتأتّى عبر منظومة من عمليّات القهر الّذي تمارسه بعض القيادات السياسيّة، والّتي تحاول أن تجعل من الجامعة مؤسّسة منتجة لكلّ مقوّمات القهر والتسلّط. لقد أفرغت الجامعات العربيّة من مختلف مضامينها العلميّة والديمقراطيّة، وتحوّلت بتأثير التخطيط المنظّم لقوى القمع الاجتماعيّ إلى مؤسّسة لترويض الشباب والعلماء على الإذعان والخضوع وتمجيد السلطة. فالجامعة تشكّل بالنسبة إلى "صانعي القرار مؤسّسة منضبطة ومنظّمة تنظيماً محكماً ومُسيّرة تسييراً حسناً أكثر ممّا تمثّل بالنسبة إليهم مؤسّسة لممارسة المعرفة. وهذه الأخيرة (المعرفة) تتطلّب مناخاً تسود فيه الاستقلاليّة والحيرة والمرونة بحيث يمكن للباحثين أن يقولوا فيه رأيهم حول أنشطتهم. فالجامعة لا يمكن أن تسير كما يسير المعمل. ومع الأسف الشديد، الكثير من الأكاديميّين لا يميّزون في تسييرهم بين المعمل والجامعة"(42).

وهناك شهادات عربيّة أخرى لا حصر لها على هذا الواقع المرّ والمزري الّذي تعيشه الجامعات العربيّة المعاصرة. ومن مظاهر هذا القهر أن يُكره الطلّاب وأعضاء الهيئة التدريسيّة على الاحتفال بمختلف الطقوس السياسيّة التي تمارسها الحكومات العربية، وفي هذه الطقوس يتعيّن على الجامعيّين (طلاّباً وأساتذة وموظفين) أن يعلنوا الولاء لأنظمتهم وحكامهم  وأن يجدّدوا هذا الولاء في كلّ موقف ومناسبة.

يقول امحمد صبور: “في بعض البلدان ذات الحزب الواحد المهيمن على كلّ شيء، يكون وجود الأكاديميّ في الجامعة مرتبطاً في الغالب باندماجه في النمط الأيديولوجيّ السائد فيها، لأنّه في ابتعاده عنه لن يكون في منأى عن الخطر، حتّى بدعوى الحياديّة. ففي الواقع لا تعترف الثقافة العربيّة بالحياد (…) فالحياد غالباً ما يعني نقصاناً في المبادئ، أو أنّ الشخص المحايد مشكوك فيه يعمل في الخفاء ليتجاوز الآخرين" (43). ولذلك فإنّ “الأكاديميّ في وضع الحياد يعرّض نفسه للمخاطر، وأقلّ ما يمكنه أن يفعله بدلاً عن الحياد هو الاندماج السلبيّ في النظام. وما نعنيه بالاندماج السلبيّ هو الالتحاق بالنمط السائد دون مشاركة نشيطة فيه، أو القيام بأعمال من شأنها أن تعزّز قوّته وسلطته. أمّا في الواقع المعيش فإنّ هذا الأمر يضع الأكاديميّ في محنة تكون فيه كرامته عرضة للاهتزاز والسقوط " (44).

فالجامعات العربية توظّف اليوم فعليا في تمجيد السلطة، وتقديس مظاهر القمع والتسلّط. وما زالت الأنظمة التربويّة العربية تُعلّم الناشئة آداب الطاعة ومراسم الخضوع، وما زالت السلطات السياسيّة تعمل على صرف المتعلّمين في الجامعات عن قضايا الحياة الاجتماعية والسياسية، ويتم ذلك من خلال التأكيد على إخضاعهم للتعليم البنكيّ، وتكديس المعلومات في عقولهم وشحن الذاكرة بداء الاستظهار وبما تجود به بطون الكتب، وقتل العقل بالروتين التلقينيّ والأساليب التربويّة الخانقة (45).

8- الخلفيّات الاجتماعيّة لغياب الأداء الديمقراطيّ في الجامعة:

تتمثّل الأزمة الّتي نعيشها اليوم برأي حسن حنفي في غياب الحوار في حياتنا المعاصرة (...) فنحن لسنا أحراراً في تفكيرنا، ولا نسلّم بحقّ الآخر في الحرّيّة والتفكير، إذ نواجه الفكرة بالسيف، والرأي بالاعتقال، والعقل بالعضلات، ونرفع سلاح التكفير على كلّ من يعارض(46). فالمآسي والنكبات " كانت نتيجة طبيعيّة لاستمرار حرمان المواطن العربيّ من حقوقه وحرّيّاته الأساسيّة بأساليب جديدة ومتطوّرة قامت على سياسة (الإلهاء) و(الترهيب والترغيب) أو (العصا والجزرة) واستهدفت تدجين المواطن وتطويعه وصولاً إلى تعطيل اهتماماته العامّة؛ ومن ثمّ تقزيم أهدافه الوطنيّة والقوميّة (47).

ومن أجل أن ندرك واقع وطبيعة الأداء الديمقراطيّ للجامعات العربيّة تقتضي الضرورة تقديم قراءة منهجيّة للشروط الاجتماعيّة والتاريخيّة الّتي تحيط بالمؤسّسة الجامعيّة في الوطن العربيّ. فأغلب الباحثين يعتقدون أنّ غياب الحرّيّات الأكاديميّة في الجامعات العربيّة مسألة تعود إلى غياب الديمقراطيّة في المجتمع. فالجامعة مؤسّسة اجتماعيّة تربويّة، وهي لا تنفصل عن البيئة الّتي توجد فيها. ويعني هذا أنّ معطيات البيئة الاجتماعيّة تتغلغل في بنية الوجود القيميّ للجامعة، وأنّ الجامعة كما ينظر إليها هي صورة مصغّرة للمجتمع الّذي يحتضنها. وإذا كانت الجامعة فعلاً هي صورة راقية لمجتمعها فإنّ الجامعات العربيّة لا تحسد على حالها. وذلك لأنّ المجتمعات العربيّة متشبّعة بقيم التعصّب والقيم السابقة للمجتمع المدنيّ. ومن ثمّ، فإنّ الثقافة التقليديّة السائدة تشمل كلّ معايير الانتماءات القبليّة والعشائريّة، وكلّ خرافات وأساطير العهد القديم. والسؤال الّذي يطرح نفسه هنا: كيف يمكن للجامعة أن تمارس وظيفتها الديمقراطيّة في ظلّ ثقافة تقليديّة، وفي سياق أنظمة سياسيّة مستبدّة وغير ديمقراطيّة؟

ولكي يتّضح واقع الثقافة العربيّة بوصفها محدّدة لدور المؤسّسات التربويّة والجامعيّة يميّز الباحثون بين نوعين من الوعي: وعي التخلّف وتخلّف الوعي، فتخلّف الوعي يصدر عن بنية فكريّة اجتماعيّة اقتصاديّة متخلّفة. أمّا وعي التخلّف فهو الوعي الّذي يوجد في كلّ العيّنات المتقدّمة والمتخلّفة على السواء، إذ نجد في السويد واليابان وعياً متخلّفاً يظهر على شكل الجمعيّات العنصريّة وعصابات السطو وترويج المخدّرات. أمّا وعي التخلّف فهو وعي قائم بذاته يحمل علامات المجتمع الّذي أفرزه ثمّ يطبع هذا المجتمع بطابعه لأنّه وعي بنيويّ يتخلّل كلّ البنى في المجتمع. وغالبا ما توصف الثقافة العربيّة بأنّها ثقافة التخلّف أو وعي التخلّف بكلّ ما ينطوي عليه هذا الوعي من قيم واتّجاهات ومعايير سلوكيّة تمجّد القهر والتسلّط والظلم والعبوديّة، وكلّ القيم السابقة للمدنيّة والحضارة.

فالمجتمعات العربيّة تعاني من هيمنة ثقافة سياسيّة وأوضاع اجتماعيّة متدهورة في مستوى العمق والشمول، إنّها تعاني التاءات الثلاث: التبعيّة والتخلّف والتجزئة. والوطن العربيّ وطن تتلهّف شعوبه إلى الوحدة، بينما تكرّس أنظمته الانفصال، وطن تتشوّق فيه شعوبه إلى الديمقراطيّة، ولكنّ أنظمته تكرّس كلّ قيم الاستبداد(48). وتأسيساً على هذه الرؤية، يبرّر بعض المفكّرين العرب غياب الحرّيّة الجامعيّة تأسيساً على غياب هذه الحرّيّة في المجتمع. يقول أحمد بشارة في هذا الخصوص: "المجتمع بالإضافة إلى أنّه غير متسامح بطبيعته، ولا يقبل الحرّيّة، فمن غير المعقول أن يعطي هذا الحقّ لمؤسّسة تأخذه فيها الشكوك، ولا يجد ما يبرّر أن يعطيها الحرّيّة، ولا يستفيد منها استفادة ملموسة، ومن هذا المنطلق فالسلطة الأكاديميّة أو الحرّيّة داخل الجامعة ستظلّ لفترة طويلة منقوصة ومحدودة لأنّ المجتمع لا يتقبّل الحرّيّة(49). وفي سياق آخر، يؤكّد بشارة أنّ طلّاب الجامعة تحكمهم رؤى سياسيّة خارجيّة: "فالطلّاب داخل القاعة مسيّسون أي أنّهم يمثّلون تيّارات خارج الجامعة، وهذا يمثّل نوعاً من القهر، أو من الحجر على الحرّيّة الفكريّة والأكاديميّة داخل الجامعة"(50). والمشكلة كما يطرحها أحمد الربعيّ تتمثّل في غياب الديمقراطيّة في مستوييها الاجتماعيّ والأكاديميّ، وهو يربط بصورة مضمرة بين الحرّيّتين فيقول:" نحن أمام مشكلتين: مشكلة غياب تقاليد ديمقراطيّة في حياتنا، ومشكلة غياب تقاليد أكاديميّة أيضاً في هذه الحياة" (51).

ويعاني المجتمع العربيّ وجودا مكثّفا لظواهر اجتماعيّة ومفاهيم ثقافيّة استبدادية منافية لقيم الديمقراطيّة وحقوق الإنسان، ويأتي في مقدّمة هذه الوضعيات مفاهيم الطائفة والعائلة والعشيرة والعصبيّات المحلّيّة وأساطيرها المختلفة، وهي وضعيات ذهنية تتساند وتتفاعل في ديناميكيّة فريدة مع مفهوم الأبويّة "البطريركيّة" التقليديّة، أو الحديثة الممثّلة في الدولة. وهذه التركيبات والوضعيّات الثقافيّة تمثّل عقبات بنائيّة ضدّ نظم الديمقراطيّة وحقوق الإنسان، وهي تجد صداها داخل المؤسّسات التربويّة والتعليميّة (52). ويقول عبد المالك التميمي في هذا السياق: إذا لم تكن هناك حرّيّة بمعناها الصحيح في المجتمع فلن تكون هناك حرّيّة في الجامعة، لكنّ المجتمع الجامعيّ بإمكانه توفير ضمانات توفّر الحدّ الأدنى من القيم والسلوك الّذي يستطيع فيه المجتمع الجامعيّ أن يفرض رأيه، حتّى لو لم تتوفّر الحرّيّة الكاملة في المجتمع(53). فالمجتمع العربيّ لم يصل بعد إلى مرحلة المجتمع العقلانيّ، ولم يستطع العقل السائد فيه أن يتحرّر وينطلق ليتجاوز حدود التقاليد. وإذا كانت الأزمة عند الغربيّين هي أزمة ما بعد العقل وما بعد الحرّيّة فإنّنا ما زلنا نمرّ بأزمة ما قبل العقل وما قبل الحرّيّة. فالغربيّون تجاوزوا نطاق التفكير العقليّ التقليديّ بعد أن تشبّعوا بالعلم والمنطق والفلسفة، وأصبحوا يتطلّعون إلى عقل يتجاوز نطاق العقل الّذي ألغوه. أمّا عندنا فما زال العقل يعمل جاهزاً من أجل اكتشاف ذاته وتحقيق أبسط مطالبه(54).

ويبدو لنا ضروريّاً في هذا الاتّجاه أن نبرز بعض النقاط المشتركة الّتي تمثّل حصادنا الفكريّ لطبيعة العلاقة بين المؤسّسات التربويّة والمجتمع:

1- الجامعة لا تمثّـل عالماً منفصلاً عن الحياة الاجتماعيّة، وهي في كافّة أحوالها مؤسّسـة تربويّة تخـضع لجـدل العلاقات القائمة بين المؤسّسات الاجتماعيّة والمجتمع.

2- وإذا كـانت وظيفـة المؤسّسـة الجامعيّة وبنيتها رهينتين بالشروط الاجتماعيّة القائمـة فإنّ ذلك لا يتعارض مع هامش من الاستقلال النسبيّ الّذي تتمتّع به هذه المؤسّسـة التربويّـة، ويبقى مثل ذلك مرتبطا بمستوى وعي العاملين في الحقل التربويّ وطبيعة انتماءاتهم الاجتماعيّة وخلفيّاتهم الثقافيّة.

3- هـذا ويمكـن للجامعة أن تؤدّي أدواراً متعدّدة ومتعارضة، فهي قادرة على تكـريس الديمقراطيّة التربويّـة، كمـا يمكـنها، وعلى خلاف ذلك، أن تسهم في تعزيز القيم التسلّطيّة المنافية للقيم الديمقراطيّة. ولكنّ هذه الإمكانيّة رهينة جملة من الظروف الاجتماعيّة والسياسيّة القائمة.

فالجامعة لا تستطيع أن تضمن استقلالها وحرّيّتها في طلب الحقيقة ونشرها ما لم تتمتّع بتأييد واضح من القوى الاجتماعيّة خارج أسوارها. وبعبارة أخرى، يجب على الجامعة أن تجعل أحد أهدافها الرئيسيّة تربية الأجيال المتلاحقة من خرّيجيها على تمتين مفاهيم الحرّيّة الأكاديميّة ليكونوا عونها الفكريّ والبشريّ إذا أزفّت الأزمة وحاقت بالجامعة قوى الردّة الحضاريّة تريد مصادرة حقّها في طلب الحقيقة، وإشاعتها بين الناس (55).

وأخيراً، فإنّ دور الجامعة الإبداعيّ يتحدّد بدرجة الاستقلاليّة الذاتيّة أو النسبيّة الّتي تتمتّع بها وبطبيعة المجتمع الجامعيّ والقوى الاجتماعيّة الّتي يتحدّر منها هذا المجتمع بمختلف فصائله واتّجاهاته وتيّاراته. وهو ما يعني أنّه كلّما تنامت درجة الاستقلال الذاتيّ للمؤسّسة الجامعيّة، وكلّما تنامت فيها القوى الاجتماعيّة الليبراليّة استطاعت هذه المؤسّسة أن تتسنّم أدواراً اجتماعيّة تحمل طابع الابتكار والتجديد.

وتجدر الإشارة إلى أنّ هذا الاتّجاه بدأ يشهد حالة كبيرة من التراجع، ولا سيّما في النصف الثاني من القرن العشرين، وذلك تحت تأثير نموّ الفكر السوسيولوجيّ الّذي استطاع أن يكشف عن الأبعاد الاجتماعيّة للعمليّة التربويّة وعن الروابط الأيديولوجيّة للعلاقة بين التربية والمجتمع. فالمؤسّسات التربويّة كما تظهرها هذه الدراسات السوسيولوجيّة تمارس وظيفتها وفقاً لمعايير اجتماعيّة تتحدّد أبعادها ودينامياتها في نسق الحياة الاجتماعيّة السياسيّة.

9- موقف الأكاديميّين من وضعيّة القهر وغياب الحرّيّات الأكاديميّة:

تتوقّف ردود فعل الأكاديميّين العرب على جملة من الوضعيّات الاجتماعيّة والأكاديميّة الّتي يعيشون فيها. فأغلب الفئات الأكاديميّة الّتي تعاني من الأوضاع السيّئة والمتردّية هي الأجيال الجديدة من المدرّسين والأكاديميّين الّذين عادوا من الإيفاد وأنهوا دراستهم في الثمانينيات وما بعدها. وتنتمي أغلب هذه الفئات الأكاديميّة إلى الطبقة الوسطى في مختلف البلدان العربيّة. ويعني هذا أنّها تتحدّر غالباً من طبقات اجتماعيّة تعاني في الأصل من جذور اجتماعيّة متواضعة جدّاً. ويمكن التمييز في إطار هذه الفئات الأكاديميّة بين الفئات الأكاديميّة الّتي تأهّلت علميّاً في التخصّصات العلميّة الدقيقة مثل الطبّ والهندسة والصيدلة والعلوم والفئات الّتي تأهّلت علميّاً في مجال العلوم الإنسانيّة.

وكما أوضحنا في السابق، فإنّ هاجس الأكاديميّين الجدد هو التحرّر من عالم الضرورة، ويلاحظ في هذا السياق أنّ الصراع من أجل الرغيف والوجود (تأمين سكن – هاتف – الزواج وبناء أسرة) يشكّل قطب الرّحى في حياة هذه الفئة، فالبحث هنا هو بحث عن خلاص، وهذا الخلاص يبدو بالنسبة إلى أغلبهم كالسراب.

ويبدو أنّ الأكاديميّين من ذوي التخصّصات العلميّة (طبّ وهندسة) هم أوفر حظّاً من زملائهم في مجال العلوم الإنسانيّة، إذ يجدون فرصاً للعمل في القطاع الخاصّ وأحياناً يدخلون في نسق من العلاقات الّتي تضمن لهم ماء الوجه والحدّ الأدنى من الكرامة الإنسانيّة. أمّا المأزق الكبير فيقع فيه أصحاب التخصّصات الإنسانيّة الّذي يجدون أنفسهم في حصار مادّيّ واجتماعيّ خانق لا يرحم. وتبعاً لوضعيّة هذه الفئات الاجتماعيّة تتحدّد وضعيّة الاستجابة تجاه الوضعيّة المأساويّة الّتي تعيشها شريحة واسعة من هؤلاء الأكاديميّين.

فالأكاديميّون من الأجيال القديمة استطاعوا الاستفادة من النظام الأكاديميّ القديم الّذي منحهم فرصة أكبر لتكوين حياتهم المادّيّة والفكريّة والدخول في نسق من العلاقات الّتي ضمنت لهم نوعاً من الاستمراريّة والحضور والقدرة على المواظبة سواء خارج بلدانهم أو داخلها. وأغلب عناصر هذه الفئة انكفأ على امتيازاته النسبيّة، وابتعد حتّى عن أبسط المطالبات الأساسيّة لتحسين أوضاعهم وأوضاع زملائهم. فالخلاص الفرديّ لهذه الفئة شكّل لها المخرج الأساسيّ من أزمة التدهور الّتي يعانيها المجتمع الأكاديميّ ولا سيّما شريحة الأجيال الجديدة.

ويلاحظ في هذا السياق الصمت المطبَق الّذي سجّله عدد كبير من المفكّرين الّذي عرفوا بجرأتهم وقدرتهم الأكاديميّة وحضورهم الاجتماعيّ الكبير في أوطانهم. هذه الفئة من الأكاديميّين الّتي تسجّل حضورها في كثير من المحافل الثقافيّة والفكريّة لم تحرّك ساكناً أو تُجْرٍ قلماً للحديث عن الأوضاع المتردّية للمجتمع الأكاديميّ بصفة عامّة. والغريب في الأمر أنّ أغلب المفكّرين الكبار في أوروبا وأمريكا خصّصوا دراسات وأبحاثا حول الحرّيّة الأكاديميّة في جامعاتهم ومؤسّساتهم، إلّا أنّ كثيراً من المفكّرين العرب البارزين قد أغفلوا هذه المسألة وتغافلوا عنها لاعتبارات تتعلق بأوضاع الحريات الأكاديمية نفسها في جامعاتهم ومجتمعاتهم..

وفيما يتعلّق بأهل الفئة الأكاديميّة المؤهّلة بالعلوم الدقيقة والتطبيقيّة، فقد بقيت آمالهم في خلاص فرديّ يقوم على أساس الخبرات الّتي يمتلكونها في مجال الطبّ والهندسة وغير ذلك من العلوم النادرة والمنتجة مادّيّاً.

أمّا بخصوص الفئة الأكاديميّة الوسطى، والّتي تأهّلت في مجال العلوم الإنسانيّة، فقد بقيت استجاباتها في حدود الترجّي والأمل في أن تجد خلاصاً مادّيّاً يقوم على أساس عناية القيادة السياسيّة: فالآمال عند هؤلاء كبيرة جدّاً في أن تلتفت إليهم السلطة السياسيّة في لحظة ما لتعيد إلى الفئة الأكاديمية بعض الاعتبار، ولا سيّما فيما يتعلّق بالسكن والسيّارة والرواتب وتحسين الأوضاع عموماً. وتتحدّد استجابات الأكاديميّين في ثلاثة مستويات: فئة أكاديميّة استطاعت أن تجد الخلاص في مراحل سابقة، وهي غير معنيّة بما يحدث بالنسبة إلى زملائهم من الشرائح الأكاديميّة الأخرى. وهناك فئة ثانية، وهي فئة الأكاديميّين من ذوي التخصّصات العلميّة التي تعوّل على أهمّيّة رأس المال العلميّ الّذي تمتلكه وعلى القدرات والمهارات الّتي يمكن الاستفادة منها مباشرة في سوق العمل. أمّا الفئة الثالثة فهي الفئة الّتي تحمل تأهيلاً في مجال العلوم الإنسانيّة، وما زالت هذه الفئة تعتمد أسلوباً في النضال يقوم على أساس لفت الانتباه والالتماس والترجّي والأمل … إلخ.

وهناك شريحة من الأكاديميّين الّذي يوجدون في سدّة الحكم، من وزراء ورؤساء جامعات ونقابيّين وغير ذلك من ذوي المسؤوليّات الكبيرة. ولكنّ هذه الفئة تعمل، وعلى خلاف ما هو مرجوّ منها، على تكريس معاناة أعضاء هيئة التدريس، وعلى تضييق الحصار عليهم بشكل متواصل، ويقومون بإصدار قوانين جديدة، ومراسيم إداريّة متجدّدة، يوظفونها جميعها في تعزيز بؤس الأستاذ الجامعيّ ومضاعفة معاناته.

وفي تحليل سوسيولوجي يتّسم بالعمق، يقدّم امحمد صبور رؤية علميّة لردود أفعال الأكاديميّين إزاء وضعيّة القهر. وقد يصحّ تحليله هذا ليشمل كثيرا من أوضاع الأكاديميّين في الوطن العربيّ، إذ يقول: "يؤدّي الطغيان والقهر الّذي يتعرّض لهما الأكاديميّون إلى ردود فعل مختلفة إزاء النظام السائد، فمنهم من يندمج، ومنهم من ينسحب، ومنهم من يكيّف نفسه، ومنهم من يتمرّد ويثور. وبعبارة أخرى هناك من يندمجون لأسباب شخصيّة (كالمنفعة والمصلحة والتطلّعات الإداريّة) وباندماجهم يصبحون أعضاء مهيمنين لتأييد الأيديولوجيا المهيمنة. أمّا المنسحبون فلا يعتبرون أنفسهم جزءاً من النظام ويغتربون عنه، وفي هذه الحالة، يعرّضون أنفسهم بكيفيّة آليّة لعمليّات الانتقام" (56). أمّا المجموعة الّتي تكيّف نفسها مع النظام، فإنّها كالحرباء تتلوّن مع المواقف كلّما تلوّنت. وأعضاء هذه الجماعة مَرِنون ومتعاونون وموافقون ومستعدّون للجلوس في أيّ مقعد يقدّم لهم، وللانسياق وراء أيّ خطاب يعرض عليهم. وبعبارة أخرى فهم على استعداد و"تحت الذّمة"، على أساس أنّ عملهم عمل علميّ وليس سياسيّاً. وهم في الواقع يحاولون إخفاء انتهازيّتهم تحت ستار عدم الانتماء السياسيّ، ويبررون ضياعهم الثقافيّ تحت قناع الأيديولوجيا البرغماتيّة الحادّة(57).

10- خاتمة:

تشكّل الديمقراطيّة التربويّة في الجامعات والمؤسّسات التعليميّة شرطا ضروريّا وتمهيدا لازما لنماء المعرفة الإنسانيّة ولبناء صرح الحضارة والمدنيّة والإبداع العلميّ. وقد أدرك علماء الاجتماع التربويّ هذه الحقيقة، وصاغوها قانوناً اجتماعيّاً أكّدته التجارب الإنسانيّة.

والنّاظر في الحريّات الأكاديميّة في الجامعات العربيّة الّتي تأسّست في النصف الثاني من القرن العشرين، يراها ضامرة. فهذه الجامعات لا تعدو أن تكون مؤسّسات حكوميّة وظيفتها الأساسيّة القيام بترويض الأجيال على الولاء للنظام السياسيّ القائم وتزويده بالموظّفين المروّضين على التفاني في خدمة أغراضه ومخطّطاته.

لذا، فنحن في حقيقة الأمر إزاء مؤسّسات جامعيّة تسلّطيّة، لم تكن يوماً جامعات حرّة تعلّم التّوق إلى الحقيقة والمعرفة والثقافة والإبداع، فالحرّيّات الأكاديميّة الّتي نتحدّث عنها لم تولد في رحابها حتّى نتحدّث عن ضعفها أو مجرّد ضمورها. نعم، لقد وصفت هذه الجامعات بأنّها مؤسّسات ترويضيّة، لذلك لم تترسّخ فيها أيّ تقاليد للحرّيّات الأكاديميّة، وإن كنّا شهدنا بعضاً من ملامحها في مرحلة الاستقلال، أي: قبل تغوّل السلطات الأمنيّة والعسكريّة على الجامعات العريقة في العالم العربيّ.

فالإدارات الجامعيّة في الجامعات العربيّة تتماهى سلطويّاً مع أنظمتها السياسيّة، والأستاذ الجامعيّ لا يعدو أن يكون موظفا يخضع لأوامر قياداته، وينفّذ تعاليم رؤسائه. فتعيين الأستاذ الجامعيّ- كما هو حال مديري الجامعات ومعاونيهم وعمداء الكلّيّات - لا يكون إلّا بقرارات وزاريّة أو حكوميّة، وعلى هذا النحو يفقد الأستاذ الجامعيّ قيمته الرّمزيّة الاعتباريّة بوصفه مفكّراً مربّياً للأجيال ومنتجاً للثقافة. والأخطر من ذلك كلّه أنّ الحكومات لا تريد من أستاذ الجامعة أن يبدع ثقافيّاً أو فكريّاً، فقد يكون هذا الأمر، في تقديرها، وبالاً عليها. وعليه، إذن، أن يكون مروِّضاً مروَّضاً، معلّماً يلقّن ويتلقّن، لا يشغل إلاّ بدروس الطلبة واختباراتهم وبيع المذكّرات وتمجيد رؤسائه والامتثال الطوعيّ لكلّ قيم التسلّط والإكراه، وذلك إلى الدرجة الّتي يتحوّل فيها إلى طاغية صغير يمارس الاستبداد على مَنْ حوله ومَنْ معه.

وضمن هذه الصيرورة المأساويّة، لا ينظر إلى الأستاذ الجامعيّ إلّا "بوصفه مجرّد موظّف في جهاز التعليم العالي، يتقاضى أجراً يختلف حسب مستوى دخل هذه الدولة أو تلك، ويطلب منه احترام جدول التدريس، وملء محاضراته، بمخطّط جاهز من البرنامج المعدّ سلفاً، والّذي لم يشارك الأستاذ لا في وضعه ولا في تحديد مراجعه، ولا في توصيف مقرّراته، ولا في مناقشة محتواه، بإشراف رئيس قسم لا يفوقه إلّا في الأقدميّة والولاء للمناهج العقيمة العتيقة، وتحت رقابة عميد كلّيّة لا يخضع تعيينه لانتخاب ولا لتزكية في أغلب أحوال جامعاتنا" (58).

ومثل هذه الوضعيّة الاستلابيّة الّتي يعيشها الأستاذ الجامعيّ تدفعه إلى درجة عالية من الساديّة والمازوشيّة معاً، وإلى الفساد والاضمحلال الفكريّ والثقافيّ، فينسى كلّ الواجبات الأخلاقيّة الّتي تقتضيها رسالته، ويتنكّر كلّيّاً للدور الثقافيّ المنوط بعهدته في العمل الأكاديميّ. وعلى هذا النحو يمّحي الأستاذ الجامعيّ ويختفي في ركام الأمّيّة الأكاديميّة والجهالة الثقافيّة ويتحوّل إلى سادن للفساد، بدلاً من أن يكون مشعلاً للنور ومنبراً للمعرفة والحياة. ومن يتأمّل الشرائح الواسعة لهؤلاء "الأساتذة" سيجد ما يسوء النظر، ويؤذي العين، ويملأ القلب كَمَداً، سيجد "أساتذة" - مع التحفّظ على هذه الكلمة –وقد حلّت الغفلة في عقولهم وتوغّل الفساد في أفئدتهم واعتملت الجهالة في نفوسهم، حتّى تمكّنت وترسّخت على هيئة أمّيّة شاملة، فخرجوا من دائرة الوعي الحرّ إلى مفازات التصحّر الثقافيّ والأخلاقيّ. وهذا كلّه – فضلاً عن عوامل أخرى - يعود إلى تغييب الحرّيّات الأكاديميّة واستحضار كلّ عوامل الاستبداد والفساد الّتي تفعل فعلها في النفوس، فتطفئ كلّ بارقة أمل، وتعطّل كلّ توجّه ثقافيّ وفكريّ يحمل في ذاته بذور النقد وثقافة الانعتاق والتحرّر.

وقد لاحظنا أنّ الأساتذة الّذين حاولوا الخروج عن المسارات القطيعيّة (= نسبة إلى القطيع) في الجامعات القطعانيّة، قد صدموا بالعقوبات الّتي تبدأ بالتوقيف عن التدريس والفصل من الجامعة، وقد تصل إلى حدود تنفيذ أحكام الردّة والارتداد، وأقلّها وضعهم في أقفاص الاتّهامات الأخلاقيّة الّتي يمكنها أن تدمّر حياتهم. هذا هو حال الأساتذة الجامعيّين الّذي حاولوا رفض هذا الواقع والتمرّد على وضعيّات الاستبداد والإكراه، كما هو حال هؤلاء الّذي دعوا إلى حرّيّة الفكر والمعتقد وحرّيّة البحث العلميّ. ويعني هذا أنّه يطلب منك عندما تريد أن تكون أستاذاً جامعيّاً أن تكون قادراً على المشاركة في عمليّة إنتاج الجهالة، وإعادة إنتاجها ضمن مسارات الثقافة التقليديّة المضادّة للعقل، وأن تكون خاضعاً طيّعاً مروّضاً، وألّا يخرج دورك عن معلّم الكتاب (= نسبة إلى معلّم الكتب) الّذي يقوم بعمليّة التلقين. وحذار من التأمّل والنقد والتفكير الحرّ، لأنّ مثل هذه الأمور تجلب لك المصائب، وتؤدّي بك إلى مهالك العقاب الشديد. وهكذا، فإنّ الأستاذ الجامعيّ الّذي يتبنّى نوعاً من الثقافة النقديّة سيشعر في لحظة ما أنّه مهدّد في سلامته الشخصيّة وفي وظيفته، فيرى خلاصه في نهاية المطاف في أن يقبل طوعاً أو كرهاً التدجين ودخول بيت الطاعة متخلّياً عن كلّ أفكاره ومبادئه، متماهياً مع صورة القطيع الّذي يعيش فيه.

ولا يعني هذا كلّه أنّ "الأستاذ" الجامعيّ الّذي يصول اليوم ويجول في فناءات الجامعة العربيّة يستاء لمثل هذا الواقع أو يغضب، فهم في أكثرهم يرحّبون بهذه الوضعيّة ويجدون فيها ملاذهم ويأخذون أماكنهم المميّزة في دورة الاستسلام والكساد والفساد. وإنّه لمن السهولة بمكان أن يأخذ هذا النوع من "الأساتذة" مكانه في القطيع على أن يخرج من سطوته وهيمنته، فمثل هذا النوع من الأساتذة لا يبحث عن أكثر من وظيفة جيّدة "محترمة" ومرتّب يعتاش به وطلبة يفرض عليهم سلطته ويمارس عليهم سطوته ليعوّض هذا النقص الوجوديّ في ذاته وفي إحساسه المكلوم بالدونيّة والضَّعَة. ومثل هؤلاء "الأساتذة" المروّضين أُعدّوا لهذه المهمّة ووقعت تهيئتهم لهذا الدور الاستلابيّ في المراحل السابقة من تعليمهم في سياق ما نسمّيه دورة الإعداد الاستلابيّ للأستاذ الجامعيّ المدجّن. وينبني على ذلك أنّ الأستاذ الجامعيّ المدجّن المُترع بعقليّة القطيع لا بدّ أن يتماهى مع الأيديولوجيا السائدة، ليشعر بالأمن في ظلّ الرعاية السامية للأنظمة السياسية القائمة.

وعلى الرغم من الاجتياح المنظّم الّذي تفرضه قوى التسلّط والاستبداد على الجامعة فإنّ عنصر المقاومة وروحها لا يغيبان تمام الغياب، فكلّ فعل يولّد ردّة فعل موازية له في القوّة ومعاكسة له في الاتّجاه (كما ينصّ مبدأ نيوتن في الفيزياء). وهناك نخب من أساتذة الجامعات استطاعت الإفلات من عفن القطيع ومرابض الاستبداد، لمقاومة كلّ أشكال التسلّط والإكراه. وهؤلاء يقاومون ويبذلون في ذلك الغالي والنفيس إيماناً منهم بأنّ الجامعة هي حرم العقل والحرّيّة والضمير.

والسؤال الّذي يطرح نفسه هنا: ما أهمّيّة الحرّيّات الأكاديميّة في عالم تدمّره الحروب وتدكّه النزاعات دكّاً ويخنقه شبح المجاعات خنقاً؟ ماذا تنفع الحرّيّات الأكاديميّة في عالم تملؤه عذابات الأطفال وأنين الثكالى وأوجاع الأمّهات؟ يمكن أن نقول في الإجابة عن هذا التساؤل: إنّ معركة الحرّيّة والكرامة واحدة لا تتجزّأ مكوناتها ولا تنفصم أبعادها، فما يحدث خارج الجامعة من استبداد وقمع لا ينفصل عمّا يدور داخلها من استشراء للفساد والتّسلّط والإكراه، وما يحدث فيها يجد صداه خارجها؛ نعم، إنّها معركة واحدة، معركة من أجل الحرّيّة والكرامة بكلّ معانيهما. ويقيناً أنّ النضال من أجل الحرّيّة والكرامة داخل الجامعة لا يمكنه أن ينفصل أبداً عن جوهر النضال من أجل الحرّيّة والكرامة خارجها. والنضال من أجل الحرّيّة لا يكون، ولن يكون، نضالاً من أجل قيمتها بوصفها ممارسة يوميّة فحسب، بل من أجل استحضارها بوصفها فلسفة متكاملة توفّر المناخ الضروريّ الحرّ لنموّ العقل وتطوّر الفكر وتأكيد الأنسنة ورفع راية التنوير. وهذا كلّه يشكّل القوّة المطلوبة لتحويل المجتمع إلى طاقة حضاريّة وإلى قوّة تحفز الأفراد حفزاً وتدفعهم دفعاً خلّاقاً إلى التفاعل مع معطيات الحياة الحرّة الكريمة. فالحرّيّات، الأكاديميّة منها والمدنيّة، مطلب وجوديّ لتطوير المجتمع وتأهيله حضاريّاً وإنسانيّاً. وهذا التحضير الإنسانيّ للمجتمع عن طريق ترسيخ الحرّيّة مطلب مشروع تاريخيّاً وإنسانيّاً. فمجتمعاتنا تنوء تحت أثقال التخلّف، والسبب الرئيس يكمن في تغييب الحرّيّة الّتي أدّت بدورها إلى تغييب العقل والكرامة. ومع غياب الحرّيّة تغيب شمس الحضارة، وتذوي شعلة التنوير، ويغيب الإنسان الفاعل في التاريخ والحضارة (59).

وأخيراً، نقول بأنّ الأكاديميّين العرب (مع الاحتراز ضدّ التعميم) يعيشون حالة اغتراب تتمثّل في غياب الحرّيّات وضياع الحقوق الأكاديميّة بالمقاييس كلّها. وبما أنّ الجامعة هي حرم العقل والحرّيّة فإنّه يتعيّن على الجامعيّين اليوم وأكثر من أيّ وقت مضى أن يتحرّروا من نزعة الخلاص الفرديّ. فالأكاديميّون يملكون الكلمة والقلم على الأقلّ، وهم يستطيعون أن يقدّموا صورة واقعيّة للمأساة عبر أبحاثهم ومناقشاتهم وهمساتهم وأصداء أصواتهم. ويعني هذا أنّ الصمت ليس الأداة الأفضل للنضال من أجل تغيير الواقع، ولذا يجب على الأكاديميّين الخروج من دائرة الصمت والمطالبة بالحوار والتأكيد على أهمّيّة خلاصهم الحقيقيّ وخروجهم من دائرة الصعوبات. وذلك لأنّ خلاصهم ضروريّ وجوهريّ ولا بد منه من أجل تقدّم المجتمع والجامعة وتطور الحياة بشتّى مناحيها.

فالحرّيّات الأكاديميّة كما تلحّ دراستنا هذه لم تعد ترفاً ثقافيّاً أو موضوعا تقنيّا يهمّ المثقّفين، بل هي ضرورة حيويّة لنهضة الأمّة والخروج بها من أزمتها(60). وأنّى لهذه الحرّيّة أن تتأتّى إذا كان الأكاديميّون يعيشون في صراع مع شروط البقاء والمقدّمات الأساسيّة للوجود؟ فالحرّيّة " ليست شيئاً يودّع في عقول الرجال، بل هي ممارسة أو استجابة واعية نحو العالم (61). وهذا يعني أنّ الحرّيّة والحقوق لا تُمنَح منحا ولا تُعطى بسهولة، بل يجب على المعنيّين أن يناضلوا من أجلها، وأن يعيشوا تجربتها بعيداً عن وضعيّات التوسّل والرجاء.

. وهذه الحرّيّة الأكاديميّة - إذا توفّرت- ستمكّن الجامعة نفسها من الاستمرار، ومن امتلاك ناصية العمل على إعادة بناء العقليّة العربيّة انطلاقاً من مقدّمات ديمقراطيّة لمواكبة العصر بصيرورته وتطوّراته. فالحرّيّة مطلب تاريخيّ للشعوب، وهي تمثّل عصب وشريان الوجود بالنسبة إلى وظيفة الجامعة وأدائها.

***

علي أسعد وطفة

جامعة الكويت

..............................

مراجع الدراسة وهوامشها:

(1) إلياس الزين، الجامعة اللبنانية وإعادة بناء لبنان وتطويره، دراسات عربية، عدد2، كانون الأول 1977،ص45.

(2) عبد الله محمد عبد الرحمن، سوسيولوجيا التعليم الجامعي: دراسة في علم الاجتماع التربوي، دار المعرفة الجامعية، 1991، ص 101.

(3) رضوان السيد، الحريات الأكاديمية في جامعات سوريا ولبنان، ضمن الحرية الأكاديمية في الجامعات العربية، بحوث ومناقشات الندوة الفكرية التي عقدها منتدى الفكر العربي، 27-28 سبتمبر أيلول عمان، 1994، (صص 73-91) ص 83.

(4) علي محافظة، الحرية الأكاديمية في الجامعات الأردنية، المرجع السابق، ص 24.

(5) علي محافظة، الحرية الأكاديمية في الجامعات الأردنية، ضمن الحرية الأكاديمية في الجامعات العربية، المرجع السابق (صص 23- 38) ص 24.

(6)  رياض قاسم، مسؤولية المجتمع العلمي العربي منظور الجامعة العصرية وأفق الحرية الديمقراطية داخل الحرم الجامعي العربي، المستقبل العربي، عدد 193، آذار /مارس1995، صص(76-94)، ص86.

(7) محمد جواد رضا، الاصطلاح الجامعي في الخليج العربي، الكويت، شركة الربيعان للنشر والتوزيع، 1984،ص109.

(8) سعيد إسماعيل علي، الحرية الأكاديمية للتعليم العالي العربي لمواجهة تحديات مطلع القرن القادم، ضمن المؤتمر التربوي الثاني لقسم التربية حول التعليم العالي العربي وتحديات مطلع القرن الحادي والعشرين، الكويت، هوليدي إن،(17 - 20) إبريل 1994،ص10.

(9) عبد الخالق عبد الله، حالة جامعة الإمارات العربية المتحدة، ضمن الحرية الأكاديمية في الجامعات العربية، بحوث ومناقشات الندوة الفكرية التي عقدها منتدى الفكر العربي، 27 - 28 سبتمبر أيلول عمان، 1994، (صص 93 - 112)، ص97.

(10) حسن جميل طه، حوار حول الحرية الأكاديمية بين المفهوم والممارسة، المجلة التربوية، المجلد1، السنة الأولى، العدد الأول، يونيو1984، صص(63 - 102)ص78.

(11) جون ديكنسون، العلم والمشتغلون بالبحث العلمي في المجتمع الحديث، سلسلة كتب عالم المعرفة، 112، الكويت 1987، ص 189

(12) عبد الخالق عبد الله، حالة جامعة الإمارات العربية المتحدة، مرجع سابق، ص95.

(13) عبد الخالق عبد الله، حالة جامعة الإمارات العربية المتحدة، مرجع سابق، ص95.

(14) عبد الخالق عبد الله، حالة جامعة الإمارات العربية المتحدة، مرجع سابق، ص96.

(15) عبد الفتاح عمر، الحريات الأكاديمية في الجامعات التونسية، ضمن الحرية الأكاديمية في الجامعات العربية، مرجع سابق، (صص 55 - 72) ص 56.

(16) امحمد صبور، المعرفة والسلطة في المجتمع العربي: الأكاديميون العرب والسلطة، مركز دراسات الوحدة العربية، سلسلة  أطروحات الدكتوراه (18)، بيروت، 1992، ص 203.

(17) يزيد عيسى سورطي، السلطوية في التربية العربية المظاهر والأسباب والنتائج، المجلة التربوية، العدد47، المجلد12، الكويت، شتاء1998،صص(235 - 285)،ص274.

(18)عبد الخالق عبد الله، حالة جامعة الإمارات العربية المتحدة، مرجع سابق، ص98.

(19)جوستن بي ثورنز، الحرية الأكاديمية واستقلال الجامعات، مستقبليات، المجلد 28، العدد 3، سبتمبر 1998، (صص 401 - 407)، ص403.

(20)جوستن بي ثورنز، الحرية الأكاديمية، مرجع سابق، ص403.

(21)عبد الله محمد عبد الرحمن، سوسيولوجيا التعليم الجامعي، مرجع سابق.

(22)فؤاد ذكريا، التفكير العلمي، سلسلة كتب عالم المعرفة، رقم3، الكويت 1978، ص8.

(23)امحمد صبور، المعرفة والسلطة في المجتمع العربي، مرجع سابق، ص 174.

(24)محمد جواد رضا، الثقافة الثالثة: الجامعات العربية وتحدي العبور من برزخ الثقافتين، المستقبل العربي، العدد 237، السنة 21، تشرين الثاني / نوفمبر 1998، (صص 109 - 120)، ص 119.

(25)نادر فرجاني، التعليم العالي والتنمية في البلدان العربية، مجلة المستقبل العربي، مركز دراسات الوحدة العربية، السنة الحادية والعشرون، العدد237،تشرين الثاني/نوفمبر، 1998،صص(83 - 108)،ص90

(26)نادر فرجاني، التعليم العالي المرجع السابق، ص90

(27)عبد الخالق عبد الله، حالة جامعة الإمارات العربية المتحدة، مرجع السابق، ص101.

(28)عبد الخالق عبد الله، حالة جامعة الإمارات العربية المتحدة، مرجع السابق، ص102.

(29) محمد جواد رضا، الجامعات العربية من الغربة إلى الاغتراب، المستقبل العربي، عدد 182، نيسان/إبريل، 1994،ص25.

(30) امحمد صبور، المعرفة والسلطة في المجتمع العربي، مرجع سابق، ص 128.

(31)  رياض قاسم، مسؤولية المجتمع العلمي العربي مرجع سابق، ص85.

(32)  عبد الفتاح عمر، الحريات الأكاديمية في الجامعات التونسية، ضمن الحرية الأكاديمية في الجامعات العربية، بحوث ومناقشات الندوة الفكرية التي عقدها منتدى الفكر العربي، 27 - 28 سبتمبر أيلول عمان، 1994، (صص 55 - 72) ص 55.

(33) عبد الخالق عبد الله، حالة جامعة الإمارات العربية المتحدة، مرجع سابق، ص103.

(34) مداخلة عبد الملك التميمي، في ندوة الحرية الجامعية والهوية الثقافية، مرجع سابق، ص242.

(35) سعيد إسماعيل علي، الحرية الأكاديمية للتعليم العالي العربي مرجع سابق، ص3.

(36) شهد أحد  الأقسام في إحدى الجامعات العربية نشاطا معرفيا يحمل طابعا فكريا فلسفيا يتميز بطابع الشمولية وذلك في ندواته الثقافية السنوية، وعلى أثر النجاح الكبير  الّذي حققه هذا القسم بتظاهراته الثقافية (ودون أية ممارسة فكرية سياسية معارضة أو مناوئة) تم تغيير رئيس القسم وتعطيل هذا النشاط.

(37) فاخر عاقل، التربية قديمها وحديثها، دار العلم للملايين، بيروت 1977، ص433.

(38)  أحمد خضر أبو هلال، دراسة أنتروبولوجية لدور الجامعات العربية في تطوير المجتمع العربي: المؤتمر العام الثاني لاتحاد الجامعات العربية، الجامعات العربية والمجتمع العربي المعاصر 7 - 4 شباط 1973، صص(113 - 141)،ص134.

(39) انظر: خليل محشي، التربية المدرسية والعطاء العلمي في البلدان العربية، ندوة تهيئة الإنسان العربي للعطاء العلمي،  مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 1985، (ص 219 - 268)، ص 256.

(40) عبد الله عبد الدايم، التعليم العالي وتحديات اليوم والغد، المستقبل العربي، العدد 237، السنة 21، تشرين الثاني / نوفمبر 1998، (صص 121 - 131)، ص131.

(41)  شكري نجار، الجامعة ووظيفتها الاجتماعية والعلمية، الفكر العربي، عدد20، آذار - نيسان1981،ص149.

(42) امحمد صبور، المعرفة والسلطة في المجتمع العربي، مرجع سابق، ص 173.

(43) امحمد صبور، المعرفة والسلطة في المجتمع العربي، مرجع سابق، ص 174.

(44) امحمد صبور، المعرفة والسلطة في المجتمع العربي، مرجع سابق، ص 175.

(45) انظر: محمود قنبر، التربية وترقية المجتمع، دار سعاد الصباح، مركز ابن خلدون للدراسات الإنمائية، ط1، الكويت، 1992.

(46) حسن حنفي، الجذور التاريخية لأزمة الديمقراطية في وجداننا المعاصر، ضمن مركز دراسات الوحدة العربية، الديمقراطية وحقوق الإنسان في الوطن العربي، بيروت،1986،(صص 175-190)، ص 177.

(47) منذر عنبتاوي، دور النخبة المثقفة في تعزيز حقوق الإنسان، ضمن مركز دراسات الوحدة العربية، الديمقراطية وحقوق الإنسان في الوطن العربي، بيروت،1986،(صص 277-312)، ص 279.

(48) المعهد العربي للتخطيط وثيقة تعليم الأمة العربية في القرن العشرين " الكارثة والأمل " التقرير التلخيصي لمشروع مستقبل التعليم في الوطن العربي " تحرير سعد الدين إبراهيم، القاهرة- 18 - 30 -نيسان (أبريل) 1992.

(49)   أحمد بشارة ، ضمن: ندوة الحرية الجامعية والهوية الثقافية، المجلة العربية للعلوم الإنسانية، عدد58، السنة 15، ربيع 1997، صص(222 - 258)،ص229..

(50)   أحمد بشارة ، ضمن: ندوة الحرية الجامعية والهوية الثقافية، مرجع سابق، ص234.

(51) أحمد الربعي: ضمن، ندوة الحرية الجامعية والهوية الثقافية، مرجع سابق، ص229.

(52) زكي حنوش، مستقبل حقوق الإنسان والشعوب في ظل النظام العالمي الجديد، مرجع سابق، ص239.

(53) مداخلة عبد المالك التميمي، في ندوة الحرية الجامعية والهوية الثقافية، مرجع سابق، ص242.

(54)  أحمد خضر أبو هلال، دراسة أنتروبولوجية لدور الجامعات العربية في تطوير المجتمع العربي: المؤتمر العام الثاني لاتحاد الجامعات العربية: الجامعات العربية والمجتمع العربي المعاصر 7 - 4 شباط 1973، صص(113 - 141)،ص122 -123.

(55)  محمد جواد رضا، الجامعات العربية من الغربة إلى الاغتراب، مرجع سابق، ص8.

(56) امحمد صبور، المعرفة والسلطة في المجتمع العربي، مرجع سابق، ص 174.

(57) امحمد صبور، المعرفة والسلطة في المجتمع العربي، مرجع سابق، ص 174.

(58) خالد محمد غازي، الفساد في الجامعات العربية.. نزول للهاوية أخبار الشبيبة، الساحة العمانية ، 7 أبريل 2010.  شوهد في 1/5/2021. http://bitly.ws/cgSo

(59)  رياض قاسم، مسؤولية المجتمع العلمي العربي منظور الجامعة العصرية وأفق الحرية الديمقراطية داخل الحرم الجامعي العربي، المستقبل العربي، عدد 193، آذار /مارس1995، صص(76-94)، ص85.

(60) علي الدين هلال، الديمقراطية وهموم الإنسان العربي المعاصر، ضمن مركز دراسات الوحدة العربية، الديمقراطية وحقوق الإنسان في الوطن العربي، بيروت،1986،(صص7 - 21)ص 8.

(61) باولو فرايري، تعليم المقهورين، مرجع سابق، ص58.

 

لقد أدرك شيخنا أن المفاهيم المغلوطة والدلالات المشّوشة التي ذاعت في العقل الجمعي بين العوام والمُتخصصين في الثقافة الإسلامية، كان لها الآثر الأكبر في ظهور الجنوح والفِرَق الضالة والشطّح، والخطابات الطاعنة في العقيدة الإسلامية والإتجاهات الإلحادية التي شككت في الأصول الشرعية، تُردّ جميعها إلى الأقوال والأحداث والأحاديث التي لَحقت ببنيّة الدين وبناء الثوابت الشرعية، وهي من كل ذلك بَرّاء. ومن ثَم كان لزاماً على من يَنّشد تجديد الدين وتقويم الجانحين والرد على الطاعنين مراجعة الزائع والشائع من تلك المفاهيم المغلوطة وغربلتها، ولاسيّما بعد تأثيرها السلبي المباشر على عادات المسلمين ومعاملاتهم والمقدّس من معتقداتهم، وقد انتشرت العديد من المؤلفات الإسلامية التي تُدافع عنها وتحث على إتباعها، سواء في مجالس العلم أو في كتابات المثقفين في الدوريات العامة والصحف والمجلات ودروس الوعظ والإرشاد في دور العبادة أو مجالس العوام.

وقد تبيّن لشيخنا أن أكثر المسائل المشوّشة تستند إلى كُتب الحديث الشريف دون أدنى فحص أو تدقيق، الأمر الذي دفعه إلى مراجعة الضوابط الحاكمة لعلم الحديث بمنهج نقدي يُمَكّنه من تطبيق نهجه الذي أقام عليه خطابه التجديدي، ألا وهو الرجوع بالدين إلى سذاجته الأولى أي إلى أصوله الشاغرة من الدسّ والإضافة والتلفيق أو التحريف للوقوف على قطعيَ الثبوت وقطعيَ الدلالة، والوصول إلى المقاصد الحقيقية للعقيدة الربانيّة والأحكام الشرعيّة.

وقد فَطّن كذلك إلى أن مثل ذلك الخطاب النقديّ ليس من اليسير على الرأي العام تقبله، ولاسيّما بعد المكانة التي حَظيّت بها كُتب السيرة والحديث في المُعتقّد السائد والثقافة الدينية الزائعة، وعليه أجتهد في تبسيط نقوده وإبتضّاع من التراث ما يعيَنه على إثبات مشروعية ما يصبوا إليه. وأولُ ما استشهد به هو تحذير النبي (صلى الله عليه وسلم) – منذ فجر الدعوة – ثم بعض صحابته من إقبال الجمهور على تدويَن الحديث مخافة أن يختلط بالقرآن أو يتعبّد بها الجمهور، ثم انتقل شيخنا إلى الدليل العقلي الذي أوضح فيه أن الروايات الشفهية قابلة للتحريف، وأن الأحاديث جُمِعَت وحُفِظَت وكُتِبَت بجهودٍ بشرية وهي بطبيعة الحال دون القرآن: التنزيل الإلهي المحفوظ بعلمه وقدرته على حمايته سليماً لا يُلّحَق به الباطل أو الفاسد. أي أن الأحاديث تفتقر إلى القاعدة الرئيسة التي أنطلق منها خطابه التجديدي (الوقوف على المقصد الإلهي إستناداً على النصوص قطعيّة الثبوت وقطعيّة الدلالة).

وقد تأثر فيما ذهب إليه بدروس الأستاذ الإمام (محمد عبده) في هذا السيَاق، فراح (ابن عاشور) يَرويّ ما كان من أمر “عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) نحو (٥٩٠ م – ٦٤٤م) الذي كَفّ كُتاب السيّر عن تَدوين أقوال رسول الله، وأوصى بعدم تدوينها، مخافة أن يقع المسلمون في ما كان من أمر غيرهم الذين أهتموا بجمع الروايات والأقاصيص والأحاديث التي تتعرض بطبيعتها إلى الحذف والإضافة والتبديل والتغيير والدّس والإنتحال وما إلى ذلك من آليات الإضلال والكذب، ثم ذَكر “ابن عاشور” ما كان من أمر “الحجاج بن يوسف الثقفي (٦٦١م – ٧١٤م) في حثّ حُفاظ الحديث على تدوينه بأمر من “عبدالملك بن مروان (٦٤٦م – ٧٠٥م) ثم عناية (عمر بن عبد العزيز ٦٨١م – ٧٢٠م ) بتدوينه على نحو أكثر إتساعاً في أواخر القرن الأول من الهجرة، وقيل أن “الربيع بن صبيّح (توفى نحو ١٦٠ هـ – ٧٧٦ م)، وسعيد بن أبي عروبة (٦٨٩م – ٧٧٣ م) من أوائل الذين كُلفوا بتدوين الحديث، وأشار “ابن عاشور” بأن آثارهم قد فقدت، ثم تطرّق إلى موضوع الدّس في الحديث عقب ظهور الخلافات السياسية وقضية الخلافة والمذاهب الفقهية والفرق الكلامية، ففَطِن أهل الرأي من أئمة المسلمين إلى ضرورة تنقية المرويات من الدّس والكذب، فظهر كتاب (الموطأ) للإمام “مالك بن أنس (٧١١م – ٧٩٥ م) لسَد هذه الحاجة، أي مراجعة الأحاديث لعرض مضمونها على نصوص القرآن والثِقَات من حُفاظ تلك الروايات المتناثرة، ثم تتالى ظهور كُتب الحديث المدوّنة بالعديد من الأمصار.

وقد عجز المؤرخون عن إثبات أسبقية إحداهما على الأخرى؛ وذلك لقصر المُدّة الفاصلة بين ظهورها وتداولها، وقد ألمَح شيخنا إلى أن جميعها كان يفتقر إلى منهج واحد لتحقيق المتون وغربلة المضامين والتأكد من صحة إسنادها، غير أن العقل الجمعي الإسلامي قد فضل رواة مدينة “رسول الله” على غيرهم؛ الأمر الذي جعل كتاب (الموطأ) المنسوب إلى “مالك بن انس” هو الكتاب المفضول بين كُتب الحديث، أضف إلى ذلك تميّز رواة المدينة بثلاثة معايير فضلتهم عن غيرهم هي (الأمانة والصدق في الرواية، الدراية بالمعاني والدلالات في الصياغة والحكاية، مقابلة الرواية بطباع النبي وخصاله وما عهدوه في حديثه).

ويرجع ذلك لقربهم من النبي ومجالسه؛ الأمر الذي مَكَنّ الجُماع من إستبعاد المرويات المشكوك في روّاتِها أو مضامينها – بقدر المستطاع في عصرهم – ورغم ذلك فلم يُفلح كُتاب الحديث في تنقيّة جميع المَرّويَات من أمرين:

أولهما: الإختلاف في ألفاظ الرواية ودلالتها، ويرجع ذلك إلى آفة النسيان أو أسلوب الراوي في الحَكي والنقل.

أمّا الأمر الثاني: فهو الدّس المُتَعَمد والتحريف والتجديف وكان له أشكال عِدة مثل الحذف والإضافة، إختلاق الحدث، تزييف الواقعة، التهوين أو التهويل.

ويُضيف “ابن عاشور” على هذيّن الخطريّن: آفة ثالثة ألا وهي الترويج لمسائل أخلاقية أو سياسية أو حِكم موضوعة ونسبتها للنبي، وقد عُرفت هذه النِحلة بالأخبار المُلفقة أو المنحولة، والتدليس في القاص والقصة.

ويُضيف “ابن عاشور” أن هذه المآخذ هي التي دفعت الإمام “مالك” إلى مراجعة المُوطأ نحو (١٥٨هـ – ٧٧٤م ) أكثر من مرة، إذ كان عدد الأحاديث التي جمعها نحو تسعة ألاف حديث، فصارت سبعمائة فقط، وذلك بحسَب رواية النُساخ، وقيل أربع آلاف، وإنتقى منهم ألفاً، والغريب! قد بات “الموطأ” أصَح كتاب شرعي بعد القرآن الكريم عند جمهور العلماء والفقهاء. والجدير بالإشارة – في هذا السيَاق – أنه على الرغم من التحقيقات المتتابعة لكتاب “الموطأ ” نجد خلافات بين المحققين على ما أشتمله (الموطأ) من أحاديث وسيّر، فهناك روايتيّن:

الرواية الأولى: عدد أحاديث “موطأ مالك” (١٩٤٢) حديث وهي الرواية المشهورة والمعروفة والمقصودة عند إطلاق الموطأ، وهي رواية (يحيي الليثي٧٦٩م – ٨٤٨م) التي رَقَمّها الشيخ “خليل شيحا ١٩٦٦م – أطال الله في عمره.

الرواية الثانية: بلغ عدد أحاديث “موطأ مالك” (٣٠٦٩) حديثاً وقد شملت كل الأقوال الواردة في (الموطأ) حتى أقوال الإمام “مالك” نفسه وهي رواية “أبي مصعب الزهري توفى نحو (٢٤٢هـ – ٨٥٦م) التي رُقِمت في طبعة مؤسسة الرسالة ببيروت لبنان عام ١٩٩١م.

ويُعَرِف “ابن عاشور” الحديث الصحيح بأنه ما اتصل سنده دون انقطاع إلى رسول الله، ونُقِل متنه على نحوِ لا يخالف القرآن ومقاصده ولا العقل ومنطقه.

أمّا مصطلح الأحاديث القدسيَة فلم يظهر قبل القرن السابع الهجري ومن أشهر جُمّاع متونها “أبى عبدالله بن محمد بن علي العربي (١١٦٤م – ١٢٤٠م)، وبلغ عددها آنذاك ١٠١حديث، ثم ظهر كتاب (الأحاديث القدسيَة الأربعينية) على يد “المُلا علي القارى توفى نحو (١٠١٦ هـ – ١٦٠٦م) وكان عددها ٤٠ حديث، ثم ظهر كتاب (الإتحافات السُنية في الأحاديث القدسيّة) للعلامة الشيخ “محمد بن محمود بن صالح الشهير بالمدني توفي نحو (١٢٠٠هـ – ١٧٨٥م).

وقد اشتمل على (٨٦٤) حديث، ثم أجتمعت لجنة القرآن الكريم والحديث بالمجلس الأعلى للشئون الإسلامية، وأخرجت كتاب الأحاديث القدسية وجَمعت اللجنة متونه من جل كُتب الأحاديث، وقد أشتمل الكتاب على أربعمائة حديث بالمقرر منها، وصدر في جزئيّن في عام (١٣٨٩هـ – ١٩٦٩م).

وقال “ابن عاشور” إنه قد قيل على كتاب (الأحاديث القدسية والكمالات الأنسية الذي ظهر عام (١٣١٦هـ – ١٨٩٨م) صفات متباينة تَفصّله عن القرآن تارة، وتميزه عن كُتب الأحاديث النبوية تارة أخرى، وقد أنعكس ذلك على أهل الرأي وطالبي التحقيق والدربة والدراية ومنهم شيخنا الذي كان همّه في المقام الأول (قطعيّ الثبوت وقطعيّ الدلالة – كما أشرنا -)، فذهب إلى أن هذا الكتاب (هو الحديث الربّاني الذي وصل إلى رسول الله مباشرة من الله عن طريق الإلهام أو برؤيةٍ في المنام، فبات المعنى من الله واللفظ من صُنع النبي – وذلك على حد ما جاء في وصف جامعه – ومن ثَم لا يتعبد بتلاوته، ويجوز التصرف في روايتها شريطة الإلتزام بالمقصود).

وقد تحقّق ذلك عند اللجنة التي شُكلت لفحص هذا الكتاب فأتفقت على وجود (٥٤ حديث) في أول الأمر، يَصدُق عليهم المسمى المقصود أي نسبتها إلى الباري ومطابقتها لألفاظ القرآن ومعانيه. أمّا الأحاديث الملغية فتحوي متونها مسائل قد تُثير الشُبه في عيون الجمهور من جهة وغير المتخصصين في علوم القرآن من جهة ثانية والشُكاك والمرتابين باختلاف نوازعهم وإتجاهتهم من جهة ثالثة. وقد رجح “ابن عاشور” التحري على التوقع – تقديم الشك على الترجيح – في المرويات المنسوبة إلى النبي في أحادثيه والمنسوبة إلى غيره في القص عن حياته والحَكي عن معجزاته وأفعاله وخصاله إلى أن يُثبّت ما حُكيّ وما رُويّ بالدليل والبرهان، وهو عَيّن النهج الذي أنتهجه “عمر بن الخطاب” في مسألة قبول فكرة تدوين الحديث من عدمها، ويقول شيخنا في ذلك:

(أنا أرى التحري أولى بالمسلمين، فقد طفحت عليهم الروايات، فكانت منها أدواء وطامات – أي كوارث) .

وأعتقد أن هذا القول على قصره يحوي دلالة عظيمة ألا وهي إجازة مشروعية الشك وغربلة كُتب الحديث بغض النظر عن مصدره – وهذا منهج فلسفيّ أستنّه “أبو حامد الغزالي” قديماً، ثم “ديكارت” في العصر الحديث – للوصول إلى الحقيقة في أوضح صورها وأبسط مسالكها، وقد أثبتت التجربة وجود إسرائليات وروايات مدسوسة وأحاديث مُلفقة ومكذوبة في كُتب الأحاديث المُعتَمدة عند أهل السُنة أو الكتب المقدّسة عند الشيعة وفرَقِها.

ولم تقّف جهود “ابن عاشور” في هذا المضمار عند الخطاب النقدي لطرائق الجمع والتحقيق؛ بل أجتهد في تجديد بنيّة (الجرح والتعديل، الرواية والدرايّة) في ضوء العلوم الحديثة (علم النفس والإجتماع، الإنثروبيولجي، الثقافة السائدة، المنطق وكشف المغالطات، النقد التاريخي، علم اللاهوت المقّارن، علم التأويل المقّارن)، فحثّ على مراجعة معايير صدق الراوي (صحة السند) ثم مقابلة متَن الرواية بمثيلاتها وتحليل الواقعات للوقوف على إمكانية حدوثها من عدمه ومكانة الراوي من كل ذلك.

ويقول: (إذا كنا متفقين في طريقنا من تغليب جانب التحري، فالمراجعة سهلة، ولو لاح الخلاف في أول وهلة، وإنْ كان كلٌ ينحو إلى منهج من المنهجين، فالإختلاف في الفروع تبع للخلاف في الأصول فلنتمسك بوثاق الود، ولا نهتم بإختلاف الأوهام وأهواء العقول وجمودها)، ثم التأكد من قدرة الراوي على دقة الوصف والتعبير عن الواقعة أو الحدث دون إضافة أو تحريف.

ومع إعتراف “الطاهر بن عاشور” بدقة جُمّاع الحديث في التحري عن السند وأخبار الرجال، إلا أنه يرى أن المعايير قد إختلفت من عصر إلى عصر، وهى التي تُمَكّن المجددين من الحكم على بنيّة الحديث ومضمونه ومقاصده ومآلاته وما ينتج عن تحليل تلك البنيّة وبنيّة المقصد القرآني في نفس موضوع الرواية، ويقول: (كان حقاً على كل من يتصدى لإصلاح حال المسلمين أن يًنَبّه على تمحيص الآثار، لما أضحى في التساهل في قبول واهنها من الأخطار التي لا يقدر المرء مقدار ما تفضي إليه، فمن حق المسلم الإعراض عنها، والإشتغال بالصحيح والحَسِنّ فهو أهونّ عليه.. أجدر بأهل العلم من الأمة الإسلامية الإهتمام بتمحيص ما ينبني عليه عمل صائب نجيح أو إعتقاد صحيح، وأن يوفروا زمانهم فيما هم إليه أحوج، فإنّ الزمان نفيس … إنّ ما أشتمل عليه الكتاب والسُنة من أخبار عالم الغيب إنما قَصَدّت منه لفت العقول والقلوب إلى ما وراء المحسوس حتى يؤمنوا به مجملاً، ثم يقبلوا على تعلم علم يرجونه مني دراية وعملاً، ولكن للعلم سلطاناً على جميع الحقائق، فإذا ثارت المناقشات وتولدت المباحثات، فليس للعلماء ملازمة السكون وعليهم أن يمدوا طلبة الحقائق بتحقيق يُنعشه ويَعِينه، وإنّ قدر رسول الله قدر تام مكتمل وهو في غنية عن إمداده بحديث صحيح أو ضعيف، وإن الله خصّ هذه الأمة بصحةِ الإسناد وأغناها بمرعى السعدان (نباتات بريّة) عن مرعى القتاد (النباتات الجافة ذات الشوك) لذلك حق على علمائها إن عُرض من الآثار ما فيه مَغمز (العيب المرتاب فيه) أن يكشفوا عن حقيقته، فإنّ الكشف عن الحقيقة أحرى).

وللحديث بقيّة عن نقود شيخنا لكُتب الأحاديث النبويّة.

***

د. عصمت نصار

 

كان "إميل دوركهايم" Emile Durkheim عالم اجتماع فرنسي برز في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين. ويُنسب إليه الفضل باعتباره أحد المؤسسين الرئيسيين لعلم الاجتماع الحديث، إلى جانب كارل ماركس وماكس فيبر. ومن أهم ادعاءاته أن المجتمع هو واقع فريد من نوعه، وغير قابل للاختزال إلى الأجزاء المكونة له. يتم إنشاؤه عندما تتفاعل الضمائر الفردية وتندمج معاً لتخلق واقعاً تركيبياً جديداً تماماً وأكبر من مجموع أجزائه. ولا يمكن فهم هذا الواقع إلا من خلال المصطلحات الاجتماعية، ولا يمكن اختزاله في تفسيرات بيولوجية أو نفسية.

وحقيقة أن الحياة الاجتماعية تتمتع بهذه الخاصية من شأنها أن تشكل الأساس لادعاء آخر لدوركهايم، بأن المجتمعات البشرية يمكن دراستها علمياً. ولهذا الغرض، طور منهجية جديدة تركز على ما يسميه دوركهايم "الحقائق الاجتماعية"، أو عناصر الحياة الجماعية التي توجد بشكل مستقل عن الفرد وتكون قادرة على ممارسة التأثير عليه. وبهذه الطريقة نشر أعمالاً مؤثرة في عدد من المواضيع. اشتهر بأنه مؤلف كتاب "حول تقسيم العمل الاجتماعي، وقواعد المنهج الاجتماعي، والانتحار. ومع ذلك، نشر دوركهايم أيضاً عدداً كبيراً من المقالات والمراجعات، كما نُشرت العديد من محاضراته بعد وفاته.

عندما بدأ دوركهايم الكتابة، لم يكن علم الاجتماع معترفاً به كحقل مستقل للدراسة. وكجزء من الحملة لتغيير ذلك، بذل جهوداً كبيرة لفصل علم الاجتماع عن جميع التخصصات الأخرى، وخاصة الفلسفة. ونتيجة لذلك، وعلى الرغم من أن تأثير دوركهايم في العلوم الاجتماعية كان واسع النطاق، إلا أن علاقته بالفلسفة ظلت غامضة. ومع ذلك، أكد دوركهايم أن علم الاجتماع والفلسفة متكاملان من نواحٍ عديدة، وذهب إلى حد القول إن علم الاجتماع له ميزة على الفلسفة، لأن منهجه في علم الاجتماع يوفر وسيلة لدراسة الأسئلة الفلسفية تجريبياً، وليس ميتافيزيقياً أو نظرياً. ونتيجة لذلك، استخدم دوركهايم في كثير من الأحيان علم الاجتماع للتعامل مع الموضوعات التي كانت تقليدياً مخصصة للبحث الفلسفي.

وإن وضعنا فكر دوركهايم الاجتماعي الصارم جانباً فسنلاحظ إسهاماته في الفلسفة. وتقع هذه إلى حد كبير في مجالات فلسفة الدين، والنظرية الاجتماعية، وفلسفة العلوم الاجتماعية، والتأويل، وفلسفة اللغة، والأخلاق، وما وراء الأخلاق، والنظرية السياسية، ونظرية المعرفة. كما أن تفكيك دوركهايم للذات، فضلاً عن تحليله للأزمة التي جلبتها الحداثة وتوقعاته حول مستقبل الحضارة الغربية، يستحق أيضاً اهتماماً كبيراً.

سيرة شخصية

ولد ديفيد إميل دوركهايم في أبريل 1858 في إبينال، الواقعة في منطقة اللورين في فرنسا. كانت عائلته يهودية متدينة، وكان والده وجده وجده الأكبر حاخامات. لكن دوركهايم كسر التقاليد وذهب إلى المدرسة العليا للأساتذة عام 1879، حيث درس الفلسفة. تخرج عام 1882 وبدأ تدريس المادة في فرنسا. في عام 1887 تم تعيينه لتدريس العلوم الاجتماعية والتربية في جامعة بوردو، مما سمح له بتدريس أول دورات علم الاجتماع الرسمية في فرنسا. وفي عام 1887 أيضاً تزوج دوركهايم من لويز دريفوس، وأنجب منها في النهاية طفلين. خلال فترة وجوده في بوردو، حقق دوركهايم نجاحاً كبيراً، حيث نشر أطروحته للدكتوراه حول تقسيم العمل الاجتماعي (1893، القسم)، وقواعد المنهج الاجتماعي (1895، القواعد)، والانتحار: دراسة في علم الاجتماع (1897، الانتحار). في عام 1896 أسس المجلة الأكاديمية "آني سوسيولوجيك" Année sociologique المرموقة، مما عزز مكانة علم الاجتماع في العالم الأكاديمي.

في عام 1902 حصل دوركهايم على ترقية ليصبح رئيساً لقسم علوم التربية في جامعة السوربون. في عام 1906 أصبح أستاذاً متفرغاً. وفي عام 1913 تم تغيير منصبه ليشمل علم الاجتماع رسمياً. ومنذ ذلك الحين أصبح رئيساً لقسم علوم التربية وعلم الاجتماع. هنا ألقى محاضرات حول عدد من المواضيع ونشر عدداً من المقالات المهمة بالإضافة إلى عمله الرئيسي الأخير والأكثر أهمية الأشكال الأولية للحياة الدينية (1912، النماذج). كان لاندلاع الحرب العالمية الأولى عواقب وخيمة على دوركهايم. أخذت الحرب العديد من تلاميذه الواعدين، وفي عام 1915، توفي ابنه أندريه أيضاً في القتال. لم يتعاف دوركهايم أبداً من ذلك. وفي نوفمبر 1917 توفي بسبب سكتة دماغية، تاركاً آخر أعماله العظيمة، La Morale (الأخلاق)، مع مقدمة أولية فقط.

خلال حياته، كان دوركهايم منخرطاً في السياسة، لكنه أبقى هذه الارتباطات منفصلة إلى حد ما. دافع عن ألفريد دريفوس خلال قضية دريفوس وكان أحد الأعضاء المؤسسين لرابطة حقوق الإنسان. كان دوركهايم على دراية بأفكار كارل ماركس. ومع ذلك، كان دوركهايم ينتقد بشدة أعمال ماركس، التي اعتبرها غير علمية ودوغمائية، وكذلك انتقد الماركسية، التي اعتبرها متضاربة ورجعية وعنيفة بلا داع. ومع ذلك، فقد دعم عدداً من الإصلاحات الاشتراكية، وكان لديه عدد من الأصدقاء الاشتراكيين المهمين، لكنه لم يلتزم أبداً بحزب سياسي ولم يجعل القضايا السياسية همه الرئيسي. على الرغم من مشاركته السياسية الصامتة، كان دوركهايم وطنياً متحمساً لفرنسا. كان يأمل في استخدام علم الاجتماع الخاص به كوسيلة لمساعدة المجتمع الفرنسي الذي يعاني من ضغوط الحداثة، وخلال الحرب العالمية الأولى تولى منصباً في كتابة منشورات دعائية مناهضة لألمانيا، والتي تستخدم جزئياً نظرياته الاجتماعية للمساعدة في شرح الحماس المتحمسين لألمانيا. القومية وجدت في ألمانيا.

التنمية الفكرية والمؤثرات

لم يكن دوركهايم المفكر الأول الذي حاول جعل علم الاجتماع علماً. قام أوغست كونت، الذي رغب في توسيع المنهج العلمي ليشمل العلوم الاجتماعية، وهربرت سبنسر، الذي طور منهجاً نفعياً تطورياً طبقه على مجالات مختلفة في العلوم الاجتماعية، بمحاولات ملحوظة وكان لعملهما تأثير تكويني على دوركهايم. إن تحليل دوركهايم للطرق التي تعمل بها أجزاء مختلفة من المجتمع لخلق كل فاعل، وكذلك استخدامه للقياس العضوي، كان مستوحى من نواحٍ عديدة من نوع التحليل الوظيفي الذي ابتكره سبنسر.

كما كان للعديد من معلمي دوركهايم في المدرسة العليا للأساتذة تأثير مهم على تفكيره. مع إميل بوترو، قرأ دوركهايم كومت وتوصل إلى فكرة أن علم الاجتماع يمكن أن يكون له موضوع فريد خاص به لا يمكن اختزاله في أي مجال آخر من مجالات الدراسة. قام كل من غابرييل مونود ونوما دينيس فوستيل دي كولانج، وكلاهما مؤرخان، بتعريف دوركهايم بالأساليب التجريبية والمقارنة المنهجية التي يمكن تطبيقها على التاريخ والعلوم الاجتماعية. وكان لتشارلز رينوفييه الفيلسوف الكانطي الجديد تأثير كبير على دوركهايم. كان رينوفييه عقلانياً عنيداً، ومن المحتمل أنه لعب دوراً أساسياً في تشكيل تفسير دوركهايم لكانط، وتحديدًا فهم دوركهايم للمقولات.

بين عامي 1885 و1886، أمضى دوركايم عامًا دراسيًا في زيارة الجامعات في ألمانيا. وما وجده دوركهايم هناك أبهره بشدة. التقى بعلماء ألمان مثل أدولف فاغنر، وغوستاف شمولر، ورودولف فون جيرينغ، وألبرت شافل، وويلهلم فونت الذين كانوا يعملون على الأساليب العلمية لدراسة الأخلاق. والأهم من ذلك أن هؤلاء العلماء كانوا يربطون الأخلاق بمؤسسات اجتماعية أخرى مثل الاقتصاد أو القانون، وفي هذه العملية كانوا يؤكدون على الطبيعة الاجتماعية للأخلاق.

طوال حياة دوركهايم، كان لمفكرين بارزين آخرين تأثير بارز عليه. في بداية حياته المهنية، كتب دوركهايم أطروحات عن جان جاك روسو ومونتسكيو، وكلاهما استشهد بهما باعتبارهما مقدمة لعلم الاجتماع. أثرت كتابات جون ستيوارت ميل حول المنطق على تأملات دوركهايم حول المنهج الاجتماعي. في عام 1895، تغير تفكير دوركهايم حول المجتمع بشكل كبير بعد أن قرأ محاضرات ويليام روبرتسون سميث حول دين الساميين. من المتعارف عليه عموماً أنه خلال هذه الفترة من حياة دوركهايم قام بتغيير الموضوعات والأساليب في عمله.

يظل دوركهايم شخصية أساسية وبارزة في علم الاجتماع والنظرية الاجتماعية بشكل عام. ومع ذلك، بالمقارنة مع ماركس وفيبر، كان تأثير فكر دوركهايم ضعيفاً إلى حد ما، خاصة فيما يتعلق بالفلسفة. ويمكن تفسير ذلك جزئياً بحقيقة أن المدرسة الفكرية الدوركهايمية قد تقلصت إلى حد كبير عندما قُتل العديد من طلابه الواعدين في الحرب العالمية الأولى، وأن دوركهايم بذل جهوداً كبيرة لفصل علم الاجتماع عن الفلسفة، أو بحقيقة أن أفكاره قد تغيرت. لقد تم، ولا يزال، تبسيطها أو إساءة فهمها أو تجاهلها.

ومع ذلك، كان لأفكاره، ولا تزال، تأثير قوي في العلوم الاجتماعية، وخاصة في علم الاجتماع والأنثروبولوجيا. أعضاء مجموعته البحثية، مثل مارسيل موس، وموريس هالبواكس، وروبرت هيرز، وبول فوكونيت، وسيليستين بوغلي، ولوسيان ليفي بروهل، والمفكرين اللاحقين، مثل تالكوت بارسونز، وألفريد رادكليف براون، وروبرت نيسبت، وكلود ليفي. شتراوس، جميعهم تأثروا به بشدة. ويعترف فلاسفة مثل هنري برجسون وإيمانويل ليفيناس بتأثير أفكار دوركهايم، كما أن أعماله حاضرة في النظريات اللغوية لفرديناند دي سوسور. بالإضافة إلى ذلك، فإن أفكار دوركهايم كامنة في الفكر البنيوي الذي ظهر في فرنسا ما بعد الحرب العالمية الثانية، على سبيل المثال عند آلان باديو، ولويس ألتوسير، وميشيل فوكو، وكذلك في أعمال مفكري ما بعد الحرب الآخرين مثل جاك لاكان وموريس ميرلو. -بونتي. يعد فكره أيضاً مقدمة للعديد من التطورات اللاحقة في الفلسفة، بما في ذلك مفهوم جون راولز عن الليبرالية السياسية ومناقشة جون سيرل للمؤسسات الاجتماعية. لكن هؤلاء المفكرين لا يناقشون دوركايم بشكل مطول، ولا يعترفون بأي فضل فكري له.

الأشكال الأولية للحياة الدينية

يُعتبر كتاب الفيلسوف وعالم الاجتماع الفرنسي إميل دوركهايم Emile Durkheim (1858-1917) "الأشكال الأولية للحياة الدينية: النظام الطوطمي في أستراليا" الصادر عام 1912 أحد أهم المنشورات في الدراسات الدينية  الغربية. العنوان الأصلي للكتاب بالفرنسية " Les formes élémentaires de la vie religieuse: le système totémique en Australie". للأسف لم تتم ترجمته إلى اللغة الدنماركية، ولكنه تُرجم إلى الإنجليزية بعنوان " The Elementary Forms of Religious Life "

نادراً ما يمكن الادعاء أن كتاباً واحداً يحدد مجالاً ما، ولكن في هذه الحالة هناك اتفاق واسع على أن علم الاجتماع الديني، وبمعنى أوسع البحث الديني، يمكن فهمهما على أنهما توسعة وتطوير لكتاب دوركهايم ورد الفعل عليه.

كتاب "الأشكال الأولية للحياة الدينية" هو عمل رئيسي في علم الاجتماع يمثل بداية برنامج فكري يقترح فيه إميل دوركهايم نظرية جديدة للدين، وهو يمثل آخر عمل رئيسي في حياته المهنية الإنتاجية. يمكن قراءة العمل على أنه بداية لمشروع غير مكتمل وكنص يحتوي على ثروة من المساهمات والمقترحات التجريبية والمفاهيمية والموضوعية والنظرية التي تتطلب تفسيرًا من القارئ.

لقد أثبت تفسير "الأشكال الأولية للحياة الدينية" أنه مثمر بشكل غير عادي للمسار الثقافي الغربي في علم الاجتماع ولتطوير علم الاجتماع الديني كنظام بحثي.

لقد كان اسم ميلاد إميل دوركهايم هو في الواقع ديفيد إميل دوركهايم، وكان الطفل الرابع للحاخام موسى وميلاني دوركهايم، ابن وحفيد حاخامات.

إن استخدام دوركهايم لاسمه الأوسط كاسم أول ورحلته من منزل حاخامي فقير إلى جامعة السوربون المرموقة يوازي التثاقف الفكري والاقتصادي الذي شهده العديد من اليهود الفرنسيين في أواخر القرن التاسع عشر. وتعتقد المؤرخة الأمريكية "ديبورا داش مور" Deborah Dash Moore أن مساهمة دوركهايم العلمية يمكن فهمها بشكل أفضل في هذا السياق. من الجوانب الأساسية للغاية لفهم كتابات دوركهايم أن تكوينه الفكري حدث في أعقاب محاكمة ألفريد دريفوس (1859-1935) في الفترة من 1894 إلى 1906، حيث اتُهم القبطان اليهودي الفرنسي زوراً بالخيانة.

فلسفة الدين عند دوركهايم

خلال حياة دوركهايم، تغير تفكيره حول الدين بطرق مهمة. في وقت مبكر من حياته جادل بأن المجتمعات البشرية يمكن أن توجد على أساس علماني بدون دين. ولكن مع مرور الوقت، رأى الدين كعنصر أساسي في الحياة الاجتماعية. بحلول الوقت الذي كتب فيه النماذج، رأى دوركهايم الدين كجزء من الحالة الإنسانية، وبينما قد يختلف محتوى الدين من مجتمع إلى آخر مع مرور الوقت، فإن الدين سيكون دائماً بشكل أو بآخر، جزءًا من الحياة الاجتماعية. يرى دوركهايم أيضاً أن الدين هو المؤسسة الاجتماعية الأكثر جوهرية، حيث ولدت منه جميع المؤسسات الاجتماعية الأخرى تقريباً، في مرحلة ما من تاريخ البشرية. ولهذه الأسباب قدم تحليلاً خاصاً لهذه الظاهرة، مقدماً فلسفة للدين ربما تكون مثيرة بقدر ما هي غنية بالرؤى.

الدين عند دوركهايم هو نتاج النشاط البشري، وليس التدخل الإلهي. ومن ثم فهو يتعامل مع الدين باعتباره حقيقة اجتماعية فريدة ويحلله اجتماعيا. يشرح دوركهايم نظريته عن الدين باستفاضة في أهم أعماله "النماذج" Forms. يستخدم دوركهايم في هذا الكتاب البيانات الإثنوغرافية التي كانت متاحة في ذلك الوقت لتركيز تحليله على الدين الأكثر بدائية الذي كان معروفاً في ذلك الوقت، وهو الدين الطوطمي لسكان أستراليا الأصليين. وقد تم ذلك لأغراض منهجية، حيث إن دوركهايم كان يرغب في دراسة أبسط شكل ممكن من أشكال الدين، حيث يكون من الأسهل التحقق من العناصر الأساسية للحياة الدينية. بمعنى ما، يبحث دوركهايم في السؤال القديم حول أصل الدين، ولو بطريقة جديدة.

من المهم أن نلاحظ، مع ذلك، أن دوركهايم لا يبحث عن أصل مطلق، أو عن اللحظة الجذرية التي ظهر فيها الدين لأول مرة. مثل هذا التحقيق سيكون مستحيلا وعرضة للتكهنات. وبهذا المعنى الميتافيزيقي للأصل، فإن الدين، مثل كل مؤسسة اجتماعية، لا يبدأ من أي مكان. بدلاً من ذلك، كما يقول دوركايم، فهو يبحث في القوى والأسباب الاجتماعية الموجودة دائمًا بالفعل في الوسط الاجتماعي والتي تؤدي إلى ظهور الحياة الدينية والفكر في نقاط زمنية مختلفة، وفي ظل ظروف مختلفة.

لا يخلو تحليل دوركهايم من منتقديه، الذين ينتقدون، من بين أمور أخرى، منهجيته، أو تفسيره للبيانات الإثنوغرافية، أو تقويضه للدين التقليدي. ومع ذلك، فإن تأكيده على أن الدين له أساس اجتماعي بشكل أساسي، بالإضافة إلى عناصر أخرى في نظريته، تم إعادة تأكيده وإعادة تخصيصه على مر السنين من قبل عدد من المفكرين المختلفين.

من المهم أن ننظر إلى نقطة البداية في تحليل دوركهايم، أي تعريفه للدين: "الدين هو نظام موحد من المعتقدات والممارسات المتعلقة بالأشياء المقدسة، أي الأشياء المنفصلة والمحرمة – المعتقدات والممارسات التي توحد في مجتمع أخلاقي واحد يسمى الكنيسة لكل من يلتزم بها". هناك بالتالي ثلاثة عناصر أساسية لكل دين: الأشياء المقدسة، ومجموعة من المعتقدات والممارسات، ووجود مجتمع أخلاقي. ومن بين هذه الثلاثة، ربما يكون الأهم هو مفهوم المقدس، وهو النقطة التي يدور حولها أي نظام ديني. وهو ما يلهم احتراماً وإعجاباً كبيراً من جانب المجتمع وما يفصل ويبقي المؤمنين على مسافة.

يقارن دوركهايم بين المقدس ومفهوم المدنس، أو ما يدنس المقدس والذي يجب حماية المقدس منه، مما يجعل التعارض بين المقدس والمدنس عنصراً مركزياً في نظرية دوركهايم. ومن خلال هذا التعريف، يركز دوركهايم أيضاً على العنصر الاجتماعي للدين. وهذا أمر مهم لأنه يقضي قدراً كبيراً من الوقت في النماذج يتجادل ضد المنظرين مثل هربرت سبنسر، إدوارد تايلور، أو جيمس فريزر الذين حددوا أصل الدين في الظواهر النفسية مثل الأحلام (وجهة نظر سبنسر الروحانية) أو الظواهر الطبيعية، مثل كالعواصف (النظرة الطبيعية للاثنين الأخيرين). يرى دوركهايم أن مثل هذا التفسير للظواهر مكتسب اجتماعياً، ولا يمكن أن يكون إلا نتيجة لدين مؤسس بالفعل، وليس سببه.

كيف يعتقد دوركهايم أن الدين ينشأ ويعمل

وفقاً لدوركهايم، فإن الدين يأتي إلى الوجود ويكتسب الشرعية من خلال لحظات ما يسميه “الفوران الجماعي”. يشير الانفعال الجماعي إلى لحظات في الحياة المجتمعية تجتمع فيها مجموعة الأفراد الذين يشكلون المجتمع معاً لأداء طقوس دينية. خلال هذه اللحظات، تجتمع المجموعة وتتواصل في نفس الفكر وتشارك في نفس العمل، مما يعمل على توحيد مجموعة الأفراد. عندما يكون الأفراد على اتصال وثيق مع بعضهم البعض، وعندما يتم تجميعهم بهذه الطريقة، يتم إنشاء وإطلاق "كهرباء" معينة، مما يقود المشاركين إلى درجة عالية من التفاعل.

الإثارة العاطفية الجماعية أو الهذيان. هذه القوة غير الشخصية، خارج الفرد، والتي هي عنصر أساسي في الدين، تنقل الأفراد إلى عالم مثالي جديد، وترفعهم خارج أنفسهم، وتجعلهم يشعرون كما لو كانوا على اتصال مع طاقة غير عادية.

والخطوة التالية في نشأة الدين هي إسقاط هذه الطاقة الجماعية على رمز خارجي. وكما يقول دوركهايم، لا يمكن للمجتمع أن يصبح واعياً بهذه القوى المنتشرة في العالم الاجتماعي إلا من خلال تمثيلها بطريقة ما. لذلك، يجب تجسيد قوة الدين، أو جعلها مرئية بطريقة أو بأخرى، ويصبح الموضوع الذي تُسقط عليه هذه القوة مقدساً. يتلقى هذا الشيء المقدس القوة الجماعية وبالتالي يتم غرسه بقوة المجتمع. وبهذه الطريقة يكتسب المجتمع فكرة أو تمثيلاً ملموسًا لنفسه. عند مناقشة هذه الأمور، يحرص دوركايم على استخدام كلمة "الشيء المقدس" لوصف ما يُفهم تقليدياً في الغرب على أنه إله. وذلك لأن الأشياء المقدسة يمكن أن تكون متنوعة جداً ولا تشير بالضرورة إلى آلهة خارقة للطبيعة.

على سبيل المثال، يعتبر الله شيئاً مقدساً للمجتمعات المسيحية، وكان الثور شيئاً مقدساً لمجتمع الفايكنج، لكن الحقائق الأربع النبيلة هي أيضاً أشياء مقدسة عند البوذيين، وكما نرى أصبح الشخص الفردي شيئاً مقدساً للحداثة في المجتمع الغربي. يمكن أيضاً أن تصبح الأشياء المادية، مثل الصخور، والريش، والطوطم، والصلبان، وما إلى ذلك، مشبعة بقوة الجماعة، وبالتالي تصبح مقدسة وتكون بمثابة تذكير مادي لوجود المجتمع.

مثل هذه الآراء حول الدين تسمح لدوركهايم بتقديم ادعاء جذري بأن الشيء المقدس للمجتمع ليس سوى القوى الجماعية للمجموعة المتغيرة. الدين هو المجتمع الذي يعبد نفسه، ومن خلال الدين يمثل الأفراد لأنفسهم المجتمع وعلاقتهم به.

وبهذا يكشف دوركهايم عن الأعمال الداخلية للشبكة الرمزية للمجتمع. مع رفض دوركهايم للشيء في حد ذاته، فإن معنى الموضوع وقيمته ليسا جوهريين فيه، بل يمكن العثور عليهما في علاقة ذلك الشيء بالمجتمع. وبعبارة أخرى، فإن مكانة الشيء تتحدد بالمعنى الذي ينسبه إليه المجتمع، أو بوضعه كتمثيل جماعي. والأهم من ذلك، أن هذا التحليل يتجاوز ما يعتبر بشكل صارم المجال الديني، حيث إن كل المعاني المشتقة اجتماعياً تعمل بنفس الطريقة.

على سبيل المثال، الطابع أو العلم أو رياضة كرة القدم هي في حد ذاتها مجرد قطعة من الورق، أو قطعة قماش، أو مجموعة من الرجال المبطنين يطاردون كرة جلدية؛ جميعها ليس لها قيمة في حد ذاتها، وتستمد قيمتها من القوى الجماعية الفريدة التي تمثلها وتجسدها. كلما زادت أهمية المجتمع في تحديد الشيء الذي يجب أن يكون عليه، كلما زادت المجموعة من إضفاء الهيبة على الشيء، زادت قيمته في نظر الفرد.

وإذا كانت لحظات الفوران الجماعي هذه هي أصل المشاعر الدينية، فلا بد من تكرار الشعائر الدينية من أجل إعادة تأكيد الوحدة الجماعية للمجتمع، وإلا أصبح وجوده في خطر. ويشير دوركهايم إلى أنه إذا لم يتم إعادة إحياء القوى المجتمعية المركزية في الحياة الدينية للمجتمع، فسوف يتم نسيانها، مما يترك الأفراد دون معرفة بالروابط القائمة بينهم ولا مفهوم للمجتمع الذي ينتمون إليه. ولهذا السبب فإن الطقوس الدينية ضرورية لاستمرار وجود المجتمع؛ لا يمكن للدين أن يوجد من خلال الإيمان وحده، فهو يحتاج بشكل دوري إلى حقيقة القوة الكامنة وراء الإيمان حتى يتم تجديده. ويتم ذلك من خلال طقوس دينية مختلفة، يتم فيها إعادة تأكيد المعتقدات الجماعية ويعبر الفرد عن تضامنه مع الشيء المقدس في المجتمع، أو مع المجتمع نفسه. يمكن أن يختلف الشكل الذي تتخذه الطقوس المحددة بشكل كبير، من الجنازات إلى رقصات المطر إلى الأعياد الوطنية، لكن هدفها هو نفسه دائماً.

من خلال هذه الطقوس، يحافظ المجتمع على وجوده ويدمج الأفراد في الحظيرة الاجتماعية، ويمارس الضغط عليهم للتصرف والتفكير على حد سواء. في حين أن تحليل دوركهايم يتعلق بسياقات دينية بشكل واضح، فمن المهم أن نلاحظ أن عمليات التفاعل الطقسي التي يصفها تحدث في سياقات مختلفة وأقل رسمية. يمكن اعتبار العمليات الطقسية جزءًا من الحياة اليومية ولها دور فعال في تنظيم التضامن الجماعي والعلاقات بين الأشخاص في المؤسسات الاجتماعية المختلفة وعلى مستويات مختلفة من الشكليات. على الأقل من الناحية الرمزية، لأنها تعبر عن قوة موجودة بالفعل، قوة المجتمع. ولذلك، لا يمكن استبعاد الدين والمعتقد الديني والتجربة الدينية باعتبارها مجرد خيالات أو أوهام.

***

د. حسن العاصي

باحث وكاتب فلسطيني مقيم في الدنمرك

لَعَلَّنَا لا نبتعد من جادة الصَّواب إنْ قلنا إنَّ تاريخ الحضارة الإنسانيَّة تَرَافَقَ، تقليديًّا، مع تقييمها الأخلاقيّ انطلاقًا من القناعة القائلة بسيادة الأخلاق وأولويَّتها بصفتها المعيار الأعلى الَّذِي ينبغي أنْ تتقولب وَفْقًا لمنطوقه جميع علاقات البشر ونشاطاتهم. وقد عنى ذلك ألاَّ يُسَلَّم بشرعيَّة ومصداقيَّة أيِّ شيء يخالف المنظور الأخلاقيّ ويتعارض معه. ويستوي هنا الفلاسفة القائلون بوجود تعارض أصليّ وتَنَاسُب عكسيّ بين الحضارة والأخلاق، وأولئك الفلاسفة القائلون بالتَّلازم الجدليّ والتَّناسُب الطَّرديّ بين النِّصَابين. فكلا الطَّرفين لم يُخْضِعا للشَّكِّ مشروعيَّة النَّظرة الأخلاقيَّة إلى العالم وجدواها. لكن، يبدو أنَّ عالمنا اليوم يشهد تَحَوُّلاً حادًّا من النَّقد الأخلاقيّ للحضارة إلى النَّقد الحضاريّ للأخلاق والحَطِّ من أهمِّيَّتها وجلال قَدْرِها، وذلك على المستويين: النَّظريّ-الفلسفيّ؛ والعمليّ-الاجتماعيّ. ومؤشرات هذا الانقلاب كثيرة لا تخفى على عين الباحث في شؤون الحضارة والفكر المعاصرَين. فعلى المستوى الأوَّل ثَمَّة شيوع متزايد للرَّأي القائل بأنَّ ليس ثَمَّة ما يُبَرِّر للأخلاق تطلعاتها الكونيَّة ومطامحها الشُّموليَّة. فهي، وَفْقًا لهذا الرَّأي، ليست إلاَّ واحدة من أبعاد الحياة الاجتماعيَّة إلى جانب غيرها من الأبعاد الحقوقيَّة-القانونيَّة والاقتصاديَّة والسِّياسيَّة والدِّينيَّة، ومن ثُمَّ، لا فَضْلَ ولا امتياز لها على سواها. والأدهى من ذلك هو لامبالاة الفكر العلميّ والفلسفيّ المعاصر بالأخلاق وانتقاصه من أهمِّيَّتها بحيث صارت المقاربات والمبادئ الأخلاقيَّة إمَّا مدعاةً للاستهزاء والتَّسفيه، أو، على الأقَلِّ، شأنًا غير عقلانيّ على ما تزعمه الفلسفة الوضعيَّة وغيرها من التَّيارات الفكريَّة المعاصرة. واللافت أيضًا على هذا المستوى هو اختزال معايير التَّطَوُّر الحضاريّ وحصرها بالإنجازات العلميَّة والتِّقنيَّة والتَّرف الماديّ مع تجاهل تامٍّ للمسألة الأهم وهي نوع العلاقة بين البشر. وعلى المستوى العمليّ-الاجتماعيّ، فإنَّنا نلاحظ أنَّ الشَّخصيَّة الشَّاذة والمنبوذة اليوم هي تلك الشَّخصيَّة الَّتِي تُقيم وزنًا للمبادئ الأخلاقيَّة قولاً وعملاً، لا تلك الشَّخصيَّة الَّتِي تُنكر أهمِّيَّتها وتدوس عليها بنعالها. ليس الرَّذيلة في أيَّامِنا عَجَبًا، بل الفضيلة فيها أعجَبُ العَجَبِ.

لكن، ينبغي القول إنَّ النَّزعة الفكريَّة والعمليَّة المعاصرة الَّتِي تلقي ظلالاً من الشَّكِّ على الدَّور الحاسم للبُعد الأخلاقيّ في الوجود الإنسانيّ ليست عرضيَّة ولا هي وليدة اللَّحظة الرَّاهنة. فهي تضرب جذورها عميقًا في واقع التَّاريخ البشريّ وتقاليده الثَّقافيَّة. ولَمَّا كان التَّاريخ هو المفتاح لفهم ذواتنا وحاضرنا، كما يقال عادًة، كانت العودة إلى الفلسفة الإغريقيَّة، في السِّياق الَّذِي يعنينا، أمرًا لا غنى عنه، وذلك لأنَّ هذه الفلسفة بالذَّات كانت الأم المولِّدة والحاضنة والمرضعة لفكرة قدسيَّة العقل وعُلُوِّهِ المُطْلَق، وأولويَّة الحقيقة العلميَّة على القيمة الأخلاقيَّة. وللإبانة عن ذلك لا بدَّ من الكلام على الكيفيَّة الَّتِي تناولت بها الفلسفة المذكورة مسألة العلاقة المتبادلة بين العقل والأخلاق.

دَأَبَ الفكر الفلسفي منذ الإغريق على التَّأكيد أنَّ العقل هو جوهر الإنسان وميزته بما هو إنسان كما يَدُلُّ على ذلك التَّعريف الشَّائع للإنسان باعتباره كائنًا عاقلاً أو حيوانًا ناطقًا. وقصد الفلاسفة بذلك قدرة الإنسان، بخلاف باقي الكائنات، على إدراك ذاته وإدراك العالم وحقيقة الموجودات من جهة، وتتويج العقل مرجعًا أعلى  للبتِّ في جميع المسائل الخلافيَّة الملازمة للحياة الإنسانيَّة، من جهة أُخرى. أمَّا سِرُّ امتياز العقل  وسحره، إنَّمَا يعود إلى كونه يعرف كثيرًا ويرى بعيدًا بما يكفي تمامًا لإصدار أحكام سديدة وإتخاذ قرارات مستقلة ومسؤولة ورشيدة. ناهيك بكونه الجوهر الَّذِي يرقُّ به الإنسان ويرقى، يخلد ويسعد. والحال أنَّه ما كان لهذا الإطراء الرَّفيع الَّذِي حَظِيَ به العقل إلاَّ أنْ يزيده غرورًا يُغَذِّي مطامحه "الإمبرياليَّة" إلى الاستئثار بالحقِّ المطلق في كتابة فصل المقال في شأن كُلِّ أمْرٍ وإشكال. وبالفعل، لم يتلكأ العقل في المبادرة إلى نشر سلطانه وفرض وصايته على الميادين كافة، بما فيها الفضاء الأخلاقيّ، من دون منازع أو حسيب أو رقيب. وسرعان ما بدأت هذه المطامح بالتَّطاول على حقوق وصلاحيَّات مَلَكَة إنسانيَّة أُخرى ألا وهي الأخلاق الَّتِي عدَّها النَّاس المَثَل والمثال والكنز الَّذِي لا تضاهيه قِيْمًة دُرر الكون وإنْ اجتمعت. وأيًّا كان تعريفنا للأخلاق، فإنَّها، بلا ريب، لا تُختَزَل بالمعرفة وحدَها، ولا هي مُلْزَمة بالسَّير على هُداها وتَرَسُّم خطى مناهجها. إذ إنَّ للأخلاق اعتباراتِها الخاصَّة الَّتِي قد لا تتطابق بالضَّرورة مع المعرفة. ولئن كانت الأخلاق على صلة وطيدة بالعقل، فإنَّها ليست متجذِّرة في العقل وحده. فالأخير لا يستغرقها استغراقًا تامًّا ولا يستنفد عين حقيقتها. فالأحكام الصَّحيحة والصَّادقة لا تُتَرْجَم بالضَّرورة إلى أفعالٍ فاضلة ومحمودة. فلكم رأى البشر الخير ونظموا فيه مدائح شعريَّة ونثريَّة، لكنهم آثروا السَّير على دروب الرَّذيلة والرَّقص على أنغام مواجيدها. وهذه حقيقة عبَّر عنها الشَّاعر الرُّومانيّ القديم أوفيديوس (43ق.م -17م) بقوله: "أرى الخير وأثني عليه، لكني أهوى المفاسد"(1). وإلى المعنى نفسه ذهب رائد العقلانيَّة والتَّنوير في الحضارة العربيَّة-الإسلاميَّة الوسيطة أبو العلاء المعرِّي (973م-1057م) بقوله: "نهاني عقلي عن أمور كثيرة وطبعي إليها بالغريزة جاذبي"(2).

لم يعد خافيًا أنَّ المنافسة بين العقل والأخلاق على اعتلاء عرش القِيَم الإنسانيَّة الملكي جرى حسمه لمصلحة العقل عبر ما يُسَمَّى بمسألة تأسيس الأخلاق. ذلك أنًّ التَّأسيس أو التَّسويغ هو شأن عقليّ بامتياز. فالكلام على تأسيس الأخلاق يتضمن في ثناياه بصورة مُضمَرة إقرارًا بأنَّ الأخلاق مُلْزَمَة بتبرير ذاتها أمام محكمة العقل، وأنْ تحصل منه على حقِّ المواطَنة الوجوديَّة، ناهيك بكونه يتضمَّن اعترافًا مُسْبَقًا باستواء العقل النَّظريّ (القُوَّة العالمة) على سُدَّةِ الرِّئاسة حَتَّى قبل أنْ يُثبت أحَقِّيته بها وأهليَّته لها. إذ كان بالإمكان الكلام على التَّأسيس الأخلاقيّ للمعرفة ومشروعيَّة العقل الأخلاقيَّة عوضًا عن الكلام على التَّأسيس العقلانيّ للأخلاق. ولكانت هذه المقاربة، من دون أدنى شَكٍّ، قد أفضت إلى نتائج مغايرة تمامًا. إلاَّ أنَّ ذلك لم يحصل. فما حدث هو إمعان الفلسفة الإغريقيَّة في تأليه العقل إلى حدٍّ أمْسَت به الأخلاقُ امتدادًا للمعرفة، وسيلًة لا غاية. فهي، في الحقيقة، ما زانت الأخلاقَ بالعقلِ، لكنها زانت العقلَ بالأخلاقِ.

وكما هو معلوم، فقد كان السوفسطائيون أوَّلَ القائلين بجبروت المعرفة ودهاء العقل، وأشَدَّ الموقنين بقدرته السِّحريَّة على تبرير كل مصلحة وقضية. فهو، في اعتقادهم، السُّلطان الَّذِي لا يُقهر والسَّيف الَّذِي لا يُكسَر. وكانوا أيضًا رواد المذهب النِّسبيّ في الأخلاق وحَمَلَة رايته. وعلى الرَّغْمِ من صحَّة ما يقال عن أنَّ السوفسطائيين لم يوهنوا عقولهم في دراسة الطَّبيعة والتَّنقيب عن الأصل أو المبدأ الأوَّل الَّذِي صدرت عنه الأشياء، إلاَّ أنَّ نسبيَّتهم الأخلاقيَّة إنَّمَا نهضت على مصادرتين اثنتين: واحدة أنطولوجيَّة والأُخرى غنوصيولوجيَّة. وتنصُّ الأولى على أنَّ الصِّفة الجوهريَّة للمادة هي التَّغيُّر والسَّيلان. فالذَّات والموضوع في تغيُّر دائم. لذا، من المستحيل استحمام الشَّخص الواحد نفسه في النَّهر الواحد ذاته في الوقت عينه حَتَّى مَرَّة واحدة. فلا شيء يوجد بحد ذاته ولا قوام له بذاته. والكل يوجد وينشأ فقط في علاقته بالآخر، ولا شيء يتغير اعتباطًا، إنَّمَا يحتوي كل شيء في ذاته على ضِدِّهِ. أمَّا المصادرة الغنوصيولوجيَّة فتؤكِّد أنَّ ما من مسألة إلاَّ وهي ساحة تباينات وبيانات متضاربة، وأنَّ الحقيقة نسبيَّة متحوِّلة. فما هو صواب هنا قد لا يكون كذلك هناك وبالعكس، بل قُلْ لا يوجد خطأ وصواب إطلاقًا. وقد أدَّى إسقاط السوفسطائيين هاتين المصادرتين على مجال الأخلاق إلى القول بالطَّابع النِّسبيّ-الذَّاتانيّ للخير والشَّرِّ، للفضيلة والرَّذيلة. كما أنَّه لا وجود لِبَرْدٍ وحَرٍّ موضوعيَّين، فكذلك لا وجود لخير وشرٍّ موضوعيَّين ولا حَتَّى لفوارق موضوعيَّة بينهما. فما هو خير للبعض يمكن أنْ يكون شَرًّا للبعض الآخر، والعكس صحيح. علاوة على ذلك، فما قد يبدو حَتَّى للإنسان الواحد عينه خيرًا في حين من الأحيان قد يبدو له شَرًّا مستطيرًا في أحيان أُخرى. فالأفعال والأشياء والعلاقات تستحيل خيرًا أو شَرًّا حسب الأشخاص، وتبعًا للهوى ومقتضيات الظَّرْف والمصلحة. بَيْدَ أنَّ هذا الإسقاط لثابتة التَّغيُّر والسَّيلان الكونيّ الدَّائمين على الميدان الاجتماعيّ والأخلاقيّ ليس المقصود به أنَّ الإنسان مجرد امتداد بسيط للطبيعة أو نُسْخَة مصغرة عنها، وأنَّ الأخيرة تحدِّد قِيَمه واتِّجاهات حياته، إنَّمَا المقصود به فقط هو القول إنَّ الطَّبيعة أوَّل وتتقدَّم على الإنسان بالطَّبع والسَّبب، لكن الإنسان أوْلَى ومتقدِّم عليها بالمرتبة والشَّرف. وذلك مردَّه إلى ما يمتاز به الإنسان من عقل ومن تحرُّك بالإرادة وفعل بالرَّويَّة والاختيار. هذا هو بيت القصيد في مقولة بروتاغورس الشَّهيرة: "الإنسان مقياس الأشياء كلها الموجودة بما هي موجودة وغير الموجودة بما هي غير موجودة"(3). والحال، إنَّ هذه المقولة لم تقلب اتِّجاه بوصلة النَّظر الفلسفيّ من الطَّبيعة إلى الوجود الاجتماعيّ للإنسان، ومن الموضوع إلى الذَّات فحسب، بل رفعت الإنسان إلى مقام خالق القِيَم وبؤرة المعنى وسَيِّد الوجود والعدم أيضًا. فلا تُعقل قِيمَة أو حقيقة من غير الإنسان. فالحقائق والقِيَم هي فقط بالإنسان وله وبالإضافة إليه وحده. فهي توجد بوجوده وتنعدم بانعدامه. ومآل ذلك أنَّ الإنسان لا يستمد قيمته من الأشياء، بل هو من يفرض حقيقته عليها.

وفي عصر الدِّيمقراطيَّة الأثينيَّة المباشرة الَّذِي اتَّسم بفسحة شاسعة  من الحُرِّيَّة الفكريَّة سمحت بتعدُّد المذاهب وتنوُّع المشارب كان من البديهيّ ظهور من يُدْلِي بِدَلْوِهِ بين الدِّلاء ويجادل السوفسطائيين في ما نطقوا به من آراء(4). وفي طليعة هؤلاء سطع نجم سقراط الَّذِي تصدَّر حملة النَّقد الفلسفيّ لأطروحات السوفسطائيين الأخلاقيَّة من دون أنْ يعني ذلك إحداث قطيعة معرفيَّة تامَّة معهم. فالفريقان يلتقيان على عناوين عدة من أبرزها الاعتقاد الرَّاسخ ببراعة العقل وقُوَّة المعرفة، والقول بأنَّ المسألة الأساسيَّة والأهم بالنسبة إلى الفلسفة هي مسألة الإنسان نَفْسَهُ. بَيْدَ أنَّ تشابه العناوين العامَّة لا يطمس تباين المضامين واختلاف الاستنتاجات المعياريَّة بينهما. 

يشاطر سقراط قناعات مواطنيه القائلة بأنَّ الفضائل الأخلاقيَّة هي أهم السِّمات الجوهريَّة المؤلِّفة للهُوِيَّة الإنسانيَّة، وإنَّ الكلام عليها هو خير الكلام وأطيبه. وإذا كانت الفضيلة حقًّا هي القيمة الأسمى من بين سائر الأمور الأُخرى الَّتِي يكدُّ النَّاس في طلبها ويغدقون الثَّناء عليها، فالأجدى عندئذ المباشرة في تحديد معناها والوقوف على ماهيَّتها وتبيان شروط إمكانها وتحقيقها على خير منوال وأتَمِّ حال.

وهكذا، شرع سقراط في اقتحام لُجَّة هذا البحر المضطرب العميق متنقلاً بين ساحات أثينا وأزقَّتها متوغِّلاً في أعماق كل مظلمة، ومُحَلِّقًا في آفاق كل مسألة مستكشفًا حقيقة المفاهيم الأخلاقيَّة المتداولة على ألْسِنَةِ النَّاس من مثل العدالة والشَّجاعة والخير والسَّعادة، فأقبل بجدٍّ كبير وبحماسة منقطعة النَّظير يناقش هذه المفاهيم مع أهلها الَّذيِنَ امتازوا بها وخبروها علَّه يعثر عندهم على النَّبأ العظيم  الَّذِي يُشْبِع  تعطشه إلى دَرْك حقائق الأمور ويَهْدِيه إلى الخير والصَّواب. وعلى هذا الطَّريق لم يغادر سقراط شجاعًا إلاَّ وأحبَّ أنْ يطَّلع منه على سِرِّ شجاعته، ولا فاضلاً إلاَّ وأشتعل شغفًا وفضولاً للوقوف على كُنْهِ فضيلته. لكن وفي كُلِّ مَرَّةٍ كانت المحصلة مخيبة للآمال حَتَّى بدا لسقراط وكأنَّ النَّاس حيارى وأشباه سكارى أو نيام يعيشون في حلم أو صرعى في ديارهم لا يفقهون حقيقة ما يقولون وما يفعلون. فقد هاله عجز النَّاس عن أنْ يقولوا قولاً يُعْتَدُّ به في ما يعدُّونه أشرف وأجَلَّ ما في الوجود، والمرجع الأعلى لتسويغ أفكارهم وأفعالهم. وهنا لا بدَّ من القول إنَّ حرص سقراط الشَّديد على وضع تعاريف كُلِّيَّة لألفاظ من مثل العدالة والشَّجاعة والخير وما شابه للقبض على ماهيَّة المُسَمَّى والواقع الَّذِي تعبِّر عنه، إنَّمَا كان يستهدف الوصول إلى معايير موضوعيَّة يهتدي بها الإنسان في حياته من جهة، وتدحض نسبيَّة السوفسطائيين الأخلاقيَّة ومغالطاتهم المنطقيَّة من جهة أُخرى. ففي ظِلِّ اِلْتِبَاسِ المفاهيم واضطراب المعنى والمعيار، حسبما يرى سقراط، لا يستقيم فهم وحوار، ولا ترسى مفاضلة واختيار. فالاعتقاد بوجود حقيقة موضوعيَّة يعني بالنسبة إلى سقراط وجود معايير أخلاقيَّة موضوعيَّة، وبالتَّالي، فإنَّ الفرق بين الخطأ والصَّواب، بين الخير والشَّرِّ ليس ذاتانيًّا نسبيًّا، بل موضوعيّ ومطلق. فكيف ذلك؟

يرى سقراط أنَّ النَّاس جميعًا يطلبون الملذَّات على أنواعها الموافِقة لما يعدُّونه خيرهم وسعادتهم. لكن ومع أنَّ اللَّذَّة مُؤثِرة ومحبوبة، والمُؤثِر بدوره لذيذ، إلاَّ أنَّها لا تصلح البتَّة لأنْ تُتَّخَذ قانونًا للسلوك الإنسانيّ ومنارةً تنير معالم طريق الإنسان في المسالك الحياتيَّة الشَّائكة. والأصل في ذلك يعود إلى كون الملذَّات على درجة كبيرة من التَّباين والتَّفاضل الكمِّيّ والنَّوعيّ، ومن التَّعقيد على غير مستوى وصعيد، ناهيك بكونها مشوبة على الدَّوام بقدر قَلَّ أو كثر من المعاناة وآلالام، ومتغيِّرة تختلف من موضوع إلى آخر، ومن ذات إلى أُخرى، بل ومن مرحلة إلى أُخرى عند الفرد الواحد عينه. ولهذه الأسباب نَفْسها يعيب سقراط أيضًا على السوفسطائيين مماهاتهم الفضيلة  بالمنفعة، مُؤكِّدًا أنَّ المنفعة الحقيقيَّة تكمن في الفضيلة حصرًا باعتبار أنَّ كل ما هو أخلاقيّ هو بالضَّرورة نافع، وليس كل ما هو نافع بالضَّرورة أخلاقيّ. فالتَّمسُّك بالأخلاق هو في صميم منفعة البشر ومصلحتهم أفرادًا وجماعات. ولما كانت اللَّذَّة والمنفعة لا تستغرقان الفضيلة ولا تفيانها حقَّها كان لا مناص من البحث عن تعريف آخر أكثر إصابًة لماهيَّتها، وايجاد المعيار المناسب الَّذِي يمكن على أساسه تسويغ اختيار غاية من بين الغايات الحياتيَّة المتباينة والمتنافسة، وبيان تفوُّقها على غيرها من الغايات. وبعد تأملات ومداولات فكريَّة طوال توصَّل سقراط إلى مقولته المركزيَّة القائلة بأنَّ الفضيلة هي المعرفة، والأخيرة وحدها هي أساس الاختيار ووحدة القياس والمعيار. وتعني هذه الوصاية الحصريَّة التي منحها سقراط للمعرفة على الفضيلة أنَّ الاختيار المسؤول أخلاقيًّا يتطابق مع القرار المؤسَّس عقلانيًّا، وأنَّ القناعة الأخلاقيَّة تكتسب قُوَّةً شرعيَّة في صورة إلزام منطقيّ حصرًا. وبيانه أنَّ الأخلاق تتوقَّف على المعرفة، وهي ثمرتها الطَّيِّبة. وإذا كانت المعرفة هي مقدمة الخير وعلَّته، فإنَّ الشَّرَّ، في المقابل، هو نتيجة الجهل وثمرته الفاسدة. فالصِّلة بين الأخلاق والمعرفة ليست وثيقة فحسب، وإنَّمَا ضروريَّة منطقيًّا ومفهوميًّا أيضًا. ذلك أنَّ معرفة الإنسان لما هو خير تحمله حتمًا على إتيانه والالتزام به، كما أنَّ معرفته لما هو شَرٌّ تحمله حتمًا على اجتنابه. فالشَّرُّ المتعمَّد، على ما يرى سقراط، هو قول متناقض بالتَّعريف. إذ لا يُعقل أنْ يفعل الإنسان الشَّرَّ وهو عالِم به ومتيقِّن من مفاعيله الضَّارة. وخلاف ذلك يعني الوقوع في محظور التَّناقض مع البديهة القائلة إنَّ الإنسان بطبيعته يطلب الخير لنفسه ويتأبى الشَّرَّ لها، وإنَّ الخير يتطابق مع ميل البشر الطَّبيعيّ إلى نيل الملذَّات والمنفعة والسَّعادة. ويعني أيضًا فَرْض محالٍ وكأنَّ الإنسان يريد ما لا يريده ويختار عن عمد وبملء إرادته الأسوأ لا الأحسن. لذا، لا يمكن أنْ يكون المرء فاضلاً ما لم يعرف نَفْسَهُ وما لم يعرف معنى الفضيلة ويعي معرفته بهما. وهكذا، أنْ يكون المرء عاقلاً وأنْ يكون فاضلاً هما وجهان لحقيقة واحدة لا انفكاك لأحدهما من الآخر. وحده الإنسان الشُّجاع هو ذاك الَّذِي يعرف ما هي الشَّجاعة، ومعرفة ما هي الشَّجاعة تجعل الإنسان شُجاعًا. وهكذا قس على سائر الفضائل الأُخرى.

عاب بعض فلاسفة العصر القديم، بخاصة أرسطو، على عقلانيَّة سقراط الأخلاقيَّة مماهاتها الفضيلة مع الجزء العاقل من النَّفْسِ الإنسانيَّة وتعاميها الفاضح عن جزءها غير العاقل. وبالفعل، تجاهل سقراط الجزء غير العاقل من النَّفْسِ الإنسانيّة، ولكنه لم يجهله ولم ينكر وجوده. والحقُّ، إنَّه لم يغب عن باله البتَّة أنَّ النَّفْسَ الإنسانيَّة تنطوي في ذاتها على أصل أو جزء غير عاقل. والدَّليل على ذلك هو كلام سقراط المتواصل على الطَّبيعة غير العقلانيَّة للقرين أو الصَّوت الدَّاخليّ والإلهام الأخلاقيّ الغامض الَّذِي لم يتوانَ لحظًة واحدة عن تأنيبه عندما كانت تزيِّن له نَفْسُهُ مسايرةَ التَّصوُّرات المُشَوَّهة عن الفضيلة أو الإقدام على بعض التَّصرُّفات المشينة. وعلى الرَّغْمِ من إصرار سقراط على البحث عن ماهيَّة الفضيلة في فضاء المعرفة، وأنَّ قُوَّةً ما أوحت إليه وأملت عليه ذلك، إلاَّ أنَّ هذه القُوَّة نَفْسها لم تكن معرفة بالمعنى الحصريّ والدَّقيق للكلمة. ذلك أنَّ هذا القرين (سواء أكان إلهامًا ووحيًا أم حدسًا أم ضميرًا)، وإنْ حذَّر سقراط عند الضَّرورة من مغبة القيام ببعض الأفعال ونهاه عنها، فإنَّه لم يُعَلِّل البتَّة الأسباب الكامنة وراء تحذيراته ونواهيه. واللافت أنَّ توجيهاته كانت صائبة على الدَّوام رغم كل الغموض الَّذِي يكتنف طبيعته المتمايزة عن أنوار العقل الكاشفة. فقد حدثَ أنْ بلغ هذا الصَّوت الباطنيّ كُنْهَ الفضيلة على نحو أعمق من عقل سقراط المبدع لأروع التُّحف الفكريَّة الفائقة الجودة. بعبارة أُخرى، كان سقراط متيقنًا من وجود أعماق غير عقلانيَّة للحياة ومصادر غير عقليَّة للمعرفة الأخلاقيَّة، لكنَّه آثر عدم إيلائهما أهمِّيَّة حاسمة لئلا تفلت الأخلاق من عِقَالِهَا وتتملَّص حُرِّيَّة الإنسان من المسؤوليَّة والمساءلة. فالمعرفة هي القناة الرَّئيسة الَّتِي يضفي الإنسان من خلالها مقاييسه على الأشياء. وهي، تحديدًا، ما يتيح له العمل على نحو حُرٍّ ومسؤول.

إذا كانت الحياة الفاضلة تتوقَّف بالتَّمام والكمال على المعرفة وتتعلَّق بها، فإنَّ السُّؤال الَّذِي يتبادر إلى الذِّهن فورًا هو: هل حَظِيَ سقراط نَفْسه أو أيُّ واحد آخر غيره بمثل هذه المعرفة؟ الجواب هو بالنَّفي لاعتبارين اثنين: أوَّلهما واقعيّ؛ وثانيهما منطقيّ. فإذا كانت الفضيلة هي المعرفة، وكان هناك من يعلن جازمًا امتلاكه هذه المعرفة، فإنه يكون قد صار فاضلاً، ولكان في مستطاع الآخرين عندئذ الاقتداء به ليصيروا بدورهم فضلاء وسعداء. غير أنَّ واقع الحال هو خلافُ ذلك تمامًا، حيث أنَّ الخُلُقيات السَّائدة بين النَّاس أبعد ما تكون من الفضيلة، وحياتهم أتعس وأشقى من أنْ تُنْعَت بالسَّعيدة. علاوة على ذلك، إنَّ امتلاك معرفة كهذه يبدو مُمْتَنَعًا حَتَّى من منظور منطقيّ بحتْ إذا ما أخذنا بعين الاعتبار أنَّ المضمون الحقيقيّ لمصطلح الفضيلة الإنسانيَّة عند سقراط هو الكمال الإنسانيّ بالذَّات. وعليه، فالكلام على كمال متجسد وناجز هو تمامًا كمثل الكلام على حدٍّ ما لا يُحَدّ وعَدِّ ما لا يُعَدّ. وما هذا وذاك إلاَّ لَغْو فارغ لا معنى له. وتحت وطأة  هذه الاعتبارات وغيرها وجد سقراط نَفْسَهُ مضطرًا إلى اختتام نَسَقِهِ الأخلاقيّ بالقول صراحًة: "أعرف أنَّني لا أعرف شيئًا". وبالفعل، فإنَّ هذا القول-المُفَارَقَة لا يُعَبِّر عن حكمة سقراط كلها ومشروعه الأخلاقيّ فحسب، وإنَّمَا عن مأزقه أيضًا. فهو، وفي الوقت الَّذِي أكَّدَ فيه مرارًا وتكرارًا  إمكان معرفة الفضيلة عقليًّا، ما لبث أنْ خلُص إلى اعتبارها شأنًا عَصِيًّا على الحدِّ والتَّقييد، وأعظم من أنْ تُدرَك بالعقل وتُشْرَح حقيقتها بالنطق.

صحيح أنَّ هذه الخلاصة السقراطيَّة حمَّالة أوجه تأويليَّة شَتَّى، لكن إذا ما صرفناها إلى معنى معياريّ تحتمله، فإنَّها، بلا أدنى ريب، دعوة إلى التَّواضع المعرفيّ والورع الأخلاقيّ تفتح آفاقًا رحبة لترقِّي الإنسان وتساميه أخلاقيًّا. فإذا كانت الفضيلة هي المعرفة، وكان الإنسان "عارفًا لا معرفته" ومُدْرِكًا مَوَاطِنَ نقصه وجهله، فإنَّ التَّحَدِّي الأبرز الَّذِي ينتصب أمامه هو مضاعفة الاشتغال على الذَّات ومتابعة البحث وتجديد الفهم والأدوات.

 لكن ومع ذلك، فإنَّ المهمة المباشرة والمُلِحَّة الَّتِي وضعها سقراط نُصْبَ عينيه والمتمثلة في إضاءة فضاء الحياة الأخلاقيَّة بنور العقل السَّاطع بقيت عالقة من دون حَلٍّ. إذ سرعان ما آلت عقلانيته الأخلاقيَّة إلى نتيجة سلبيَّة تجلَّت إخفاقًا في بناء صرح الأخلاق على أساس عقلانيّ متين. فهو لم يُوفَّق لا في حَلِّ إشكاليَّة أصل المفاهيم الأخلاقيَّة وما يطابقها في العالم الواقعيّ، ولا في تحديد طبيعة تلك القُوَّة الَّتِي أوحت إليه التَّنقُّل بين أزقَّة أثينا وأروقتها مُعْرِضًا عن مغريات الحياة وملذَّاتها طمعًا في القبض على ماهيَّة الفضيلة. وإذا كانت معرفة الفضيلة قد أشكلت واستعصت على سقراط، فهل سيفلح تلميذه الألمعي أفلاطون حيث أخفق المُعَلِّم؟

وبالفعل، يتابع أفلاطون البحث ويستأنف التَّساؤل عن الأصل الَّذِي صدرت عنه تصوُّرات البشر عن العدالة والخير وغيرهما من الفضائل والقِيَم في هذا العالم الممتلئ بالشُّرور والأباطيل والظُّلم والفساد. ألا تهبط هذه التَّصَوُّرات من عالم السَّماء يا ترى؟ ولِمَ لا؟ فإذا كان حضور الفضيلة باهتًا وضعيفًا، والحَيِّز الَّذِي تشغله في هذا العالم محدودًا وضئيلاً، فأليس، من المُرَجَّحِ، وجود عالم آخر يكون بمنزلة موطنها الحقيقيّ، وتُشَكِّل، بالتَّالي، مفاهيمنا وتصوُّراتنا الأخلاقيَّة انعكاسًا له وتعبيرًا عنه؟

وبالاتِّفاق مع هذا الافتراض المتوقَّع، شَرَعَ أفلاطون يمدُّ الجُسُور بين عالم الأرض وعالم السَّماء عاقدًا العزم على اكتشاف مصدر القِيَم والمُثُل الأخلاقيَّة، وبناء موطن لائق لها حرصًا منه على ألاَّ تبقى ضائعة في الفضاء بلا هُوِيَّة وعنوان. وهذا بِالضَّبْطِ ما أقْدَمَ عليه أفلاطون بعدما أنْ وجد نَفْسَهُ أمام خيارين اثنين لا ثالث لهما: إمَّا التَّخَلِّي عن المفاهيم الأخلاقيَّة والعبث بها تعسُّفيًّا على ما يحلو  للسوفسطائيين فعله أو المبادرة إلى إصلاح ما أفسده هؤلاء وايجاد عالم آخر جديد يليق بمقامها وتليق به. وهكذا، بدأ أفلاطون بتشييد عالم المُثُل الَّذِي تتبوأ فيه فكرة الخير أسمى المراتب وأقدسها. ومملكة المُثُل هذه ليست أفضل من العالم الواقعيّ فحسب، بل هي أفضل العوالم الممكنة وأكملها أيضًا. كما أنَّها تُشَكِّل بالنسبة إلى الأخير المبدأ والسَّبب، المَثَل والمثال. والفرق بين العالَمَين هو تمامًا كالفرق بين الأصيل والوكيل، بين المعدن النَّفيس والمعدن الخسيس. فما من شيء رائع وجميل في هذا العالم إلاَّ وهو صورة لشيء أروع من ذلك العالم. وهكذا، ينحو أفلاطون إلى تأمل معنى الفضيلة والحقيقة والجمال من خلال المتعاليّ والمُطْلَق والثَّابت والمماثل.

وإلى جانب الاعتبارات النَّظريَّة المحض فقد كان لمثاليَّة أفلاطون الأخلاقيَّة أسبابها الشَّخصيَّة-السيكولوجيَّة. إذ حفرت محاكمة سقراط الجائرة وإعدامه في نَفْسِ أفلاطون جرحًا لا يُلأم ولوعًة لا تسأم من الاستهجان والإدانة والتَّساؤل: كيف ولِمَ يقتلون أشرف الخلق وأنبلهم خُلُقًا؟!!! وما يفاقم المأساة ويزيد الطِّين بِلَّةً أنَّهم لم يقتلوه بمحض المُصادَفة والخطأ، بل عن سابق إصرار وتصميم وبمقتضى أحكام قوانين النِّظام الدِّيمقراطيّ. ثم ما هي دلالات هذا الحدث الجلل المتمثل في عجز العالم عن تَحَمُّلِ إنسان فاضل وتَقَبُّل مواطنٍ صالحٍ من أمثال سقراط؟!!! أيُّ عالَمٍ هو هذا الَّذِي ترتد فيه الفضيلة على صاحبها وَبَالاً ونَكَالاً، وتُفضي بِدَاعِيَتها الموهوب إلى الشَّقاء والهلاك رائيًا بأم عينه أملاكه وأمواله قد صودرت، وسُمْعَتَه قد شُوِّهت، وعائلته قد اُذِلَّت وتحطمت؟ أيُّ عدالةٍ هي هذه الَّتِي ينقلب فيها الحقُّ باطلاً، والباطل حقًّا وتُكَافِىء الفاسدين وتُعاقبُ العصاميين؟ أليس من الحقِّ والعدل أنْ ينال أمثال سقراط السَّعادة القصوى وأرفع أوسمة التَّقدير وأسمى آيات الثَّناء والتَّبجيل، وأنْ تُقام له أجمل الأنْصَاب التِّذكاريَّة والتَّماثيل؟ ألا تبرهن مأساة سقراط بوضوح أنَّ الطُّغاة والأنذال هُمْ أعلى النَّاس شأنًا وقيمًة، وأسعدهم حظًّا في كل مكان وزمان، وأنَّ السَّعادة على تضاد مع الحياة الفاضلة؟ وفي خِضَمِّ هذه التَّساؤلات المُثْقَلة بالأسى والمرارة، وعلى درب الوفاء لسقراط وإعادة الاعتبار للحقيقة الأخلاقيَّة انقدحت في ذهن أفلاطون فكرةٌ مفادها أنَّ العالَم الَّذِي يقتل الأفاضل الأبرار ويذل الأخيار ليس جديرًا ولا من المعقول بأنْ يكون هو العالَم الوحيد الممكن والحقيقيّ. وعليه، يُرَجِّح أفلاطون وجود مملكة أُخرى لا يُظلَم فيها سقراط وأمثاله، بل يُبَجَّلون، ولا يشقى فيها الفضلاء، بل يُسْعَدون.

وعلى هذا الطَّريق يُؤكِّد أفلاطون إمكان تأصيل الأخلاق على المستويين المعرفيّ-النَّظريّ والعمليّ. فيعمد على المستوى الأوَّل إلى استحضار أسطورة تقمُّص النُّفُوس والتَّذَكُّر، ويلجأ على المستوى الثَّاني إلى بناء أوتوبيا ثكنيَّة أو ما يُسَمَّى بالجمهوريَّة الفاضلة تضمن تجسيد المُثُل الأخلاقيَّة في الواقع وتكفل عَقْدَ قران وثيق ورباط وطيد بين الفضيلة والسَّعادة. إذ لا مجال عند أفلاطون للفصل بين السِّياسة والأخلاق. فلا سعادة للفرد إلاَّ في كنف دولة عادلة، ولا دولة عادلة من دون فرد فاضل. وانطلاقًا من هذا يتعرض أفلاطون بالنَّقد الحاسم لجميع أشكال أنظمة الحكم السِّياسيّ الَّتِي تفتقر، في رأيه، لأبسط مقومات العدالة والفضيلة. والأنظمة الَّتِي يرميها أفلاطون بسهامه النَّقديَّة هي: النِّظام الدِّيمقراطيّ؛ والأوليغارشيّ(حكم الأغنياء)؛  والثيموقراطيّ (حكم العسكر)؛ والاستبداديّ(5). أمَّا السَّبب في افتقار الأنظمة المذكورة إلى العدالة هو تكريسها لأنماط وضروب معيَّنة من اللامساواة الاجتماعيَّة مغايرة كُلِّيًّا ومُخَالِفَة تمامًا لنظام اللامساواة الطَّبيعيَّة الحقَّة بين النَّاس. فالنظام الاجتماعيّ-السِّياسيّ الأمثل والأصلح هو فقط ذاك النِّظام الَّذِي يحاكي الفوارق والتَّفاوتات الطَّبيعيَّة بين النَّاس ويتطابق مع تراتبيَّة قوى الإنسان الجسمانيَّة والنَّفْسيَّة واختلاف وظائفها. وبالاتِّفاق مع هذا اتَّخذ أفلاطون من التَّراتبيَّة الهَرَمِيَّة لقوى النَّفْسِ الإنسانيَّة الثَّلاث: القُوَّة العاقلة؛ والقُوَّة الغضبيَّة؛ والقُوَّة الشَّهوانيَّة أنموذجًا قياسيًّا لما ينبغي أنْ تكون عليه البِنْيَة التَّراتبيَّة لِكُلٍّ من الجمهورية الفاضلة وأمَّات الفضائل على حدٍّ سواء. فلكل قُوَّة نَفْسيَّة ما يَخُصُّها من الكمال واللَّذَّة، وما يناسبها من الفئات الاجتماعيَّة، وما يليق بها من الفضائل. فالقُوَّة العاقلة تُنَاسِبها من المدينة-الدَّولة فئة الفلاسفة، ومن الفضائل الحكمة. أمَّا القُوَّة الغضبيَّة فتقابلها اجتماعيًّا فئة الحُرَّاس(الجند)، ومن الفضائل الشَّجاعة. وأخيرًا في أدنى سُلَّم قوى النَّفْس الإنسانيَّة تأتي القُوَّة الشَّهوانيَّة وتُنَاسِبها اجتماعيًّا طبقة الحرفيين والزرَّاع، وفضيلتها العِفَّة. وفي ما يخص العدالة وهي الفضيلة الرَّابعة من أمَّات الفضائل الأفلاطونيَّة فليس لها من قوى النَّفْس الإنسانيَّة ومن الفئات الاجتماعيَّة قُوَّة وفئة خاصَّتَين بها. فهي ليست فضيلة خاصَّة وجزئيَّة مثل الحكمة والشَّجاعة والعِفَّة، إنَّمَا هي فضيلة عامَّة على الصَّعيدين الفرديّ والجماعيّ. وعلى الصَّعيد الفرديّ، فهي تُعَبِّرُ عن مدى تناغم وانسجام قوى النَّفْس الإنسانيَّة في ما بينها وإذعانها لإمْرَةِ العقل وإشارته، في حين أنَّها ترمز، على الصَّعيد الجماعيّ، إلى مقدار تآلف فئات المدينة-الدَّولة في ما بينها، والتزام كل واحدة بوظيفتها الخاصَّة بها من غير أدنى تعدٍّ على أدوار الآخرين وتَصَرُّفٍ بملكهم، وانقيادها لأمْرِ الحاكم-الفيلسوف. ولما كانت القُوَّة العاقلة هي مزيَّة الإنْسَانِ وخاصِّيَّته وأعلى وأشرف ما فيه، كانت الحكمة رأس الفضائل كلها وأعظمها شأنًا باعتبارها الخير الأسمى وكمال العقل وذروة ارتقائه في معارج معرفة الحقيقة والخير والجمال، وكان الفلاسفة هُمْ درَّة تاج الجمهوريَّة الفاضلة والأجدر برئاستها لما يمتازون به من مَلَكَات نادرة ومواهب فائقة تؤهَّلهم للتَّماهي مع عالم المثل-الأصل وتَعَقُّل ماهيَّة الأشياء والخير بالذَّات. باختصار، هذه هي الصُّورة أو البِنْيَة الحقيقيَّة لما ينبغي أنْ يكون عليه كل اجتماع إنسانيّ يطمح لأنْ يكون اجتماعًا فاضلاً. فقط في رحاب هذا النِّظام "الفيلوصوقراطيّ" (الحاكميَّة الفلسفيَّة) الَّذِي يرأسه الفلاسفة لا الدَّهْمَاء، العقل لا الأهواء يستقيم أمر العدالة ويطيب العيش وتحيا كل فئة وطبقة حياتها وسعادتها بما يتوافق مع طبيعتها الخاصَّة وموقعها في التَّقسيم الاجتماعيّ للعمل.

لا شَكَّ في أنَّ اشتراط أفلاطون تسليم مقاليد الحُكْم وتنظيم المجتمع وإدارة شؤون الدَّولة للفيلسوف إنَّمَا ينهض على جملة مسلَّمات مترابطة، ومن أبرزها: أ- القول بأوَّليَّة العقل على الوجود؛ ب- القول بأوَّليَّة الوجوب على الوجود، والأخلاق على الإنسان؛ ج- الاعتقاد أنَّ أهمِّيَّة الفيلسوف ونسبته إلى المدينة-الدَّولة كنسبة الإله إلى الموجودات، وكأهمِّيَّة العقل إلى الإنسان؛ د- الاعتقاد أنَّ النَّاس ليسوا سواء لا في استعدادتهم الفكريَّة وقرائحهم المعرفيَّة ولا في طُرُقِ التَّصَوُّر والتَّصديق، وكلما كان الإنسان أكثر حذاقًة وتفعيلاً لملكاته العقليَّة ازداد حَظُّهُ في الرِّئاسة وقَلَّ نصيبه من الخدمة، والعكس صحيح؛ ه- الفصل الحاد والجوهريّ بين المحسوس والمعقول، بين الجسمانيّ والرُّوحانيّ، بين العمل اليدويّ والعمل الذِّهنيّ مصحوبًا بالثَّناء على الرُّوحيّ وازدراء الماديّ؛ و- اعتبار الفيلسوف هو الجهة الأدق تمثُّلاً والأصدق تمثيلاً للحقيقة الخيِّرة والخير الحقيقيّ.

لنعد الآن إلى سؤالنا الأساسيّ: هل نجح أفلاطون باختراعه الجمهوريَّة الفاضلة، واختراعه عالم المُثُل في حَلِّ ما أشْكَل على سقراط وأحْكَمَ وصْل ما انفصل بين الفضيلة والسَّعادة، القيمة والمنفعة، بين المعرفة والسِّياسة والأخلاق؟ والجواب هنا أيضًا هو بالنَّفي. والإخفاق مردَّه على مستوى المدينة الفاضلة إلى إيغال أفلاطون في المثاليَّة والطوبى بالقدر الَّذِي تَصَوَّر فيه اجتماعًا إنسانيًّا تَسُودُهُ الأُلْفَة والتَّعاون والتَّكامل لا تَشَاكُس فيه، ويَسُوسَه فلاسفة تجرَّدوا بالكُلِّيَّة من العيوب والنَّواقص البشريَّة. ولعلَّ امثولة الحوذي والجوادين الأفلاطونيَّة الشَّهيرة في بُعدها السِّياسيّ تُعَبِّرُ أبلغ تعبير عن الآمال الاستثنائيَّة الَّتِي عقدها أفلاطون على الدَّور الحاسم للفلاسفة في سَوّْسِ المجتمع وتحديد وجهة التَّاريخ. ومن غير أنْ نبخس الفلسفة والفلاسفة حقَّهما واسهاماتهما الخلَّاقة في تفسير العالم وتغييره نشير إلى أنَّ الرَّؤية الأفلاطونيَّة هذه تعاني عيوبًا عِدَّة لا يُستهان بها تضعها في مرمى النَّقد على غير مستوى وصعيد. ومن هذه العيوب والثَّغرات ما يتَّصل بالمسكوت عنه، ومنها ما هو ذو طبيعة منطقيَّة وأُخرى واقعيَّة. فعلى مستوى المسكوت عنه يمكن القول إنَّ أفلاطون سكت، أقلَّه، عن ثلاثة أمور جوهريَّة في المسألة. الأمر الأوَّل، إذا كان أفلاطون قد أحْسَنَ الإفصاح عمَّا يريده الحوذي (الفيلسوف، العقل) من الجوادين (يرمزان إلى القُوَّة الغضبيَّة والقُوَّة الشَّهوانيَّة في النَّفْسِ الإنسانيَّة، وإلى كُلٍّ من الجند والحرفيين والزرَّاع في المجتمع)، فإنَّه لم ينبئنا بشيء عمَّا يريده الجوادان من الحوذي ولا عمَّا يريده كُلُّ جواد من الجواد الآخر. إذ إنَّه ليس من المُؤكَّدِ وجود تَوَافُق بين رغبات هؤلاء الفرقاء أو وجود وئام وانسجام بينهم. والأمر الثَّاني المسكوت عنه يتعلَّق بكيفيَّة نشوء السُّلْطَة السِّياسيَّة وانتقالها إلى يد الفيلسوف. فأفلاطون لا يقول شيئًا في هذا الخصوص غير التَّعويل على صدفة سعيدة ما والرِّهان على أمل خروج عاشق حقيقيّ للفلسفة إلى النُّور من أصلاب الحُكَّام وأوساط القياصرة(6). وإذا كان ترؤوس الفلاسفة للمدينة الفاضلة نتيجة متوقَّعَة لنظرة أفلاطون الأنثروبومورفيَّة إلى الاجتماع  والسِّياسة الفاضلَين (وهي النَّظرة الَّتِي تتَّخذ من صورة الإنسان ومثاله وتراتبيَّة قواه النَّفْسِيَّة واختلاف وظائف أعضائه الجسمانيَّة أنموذجًا قياسيًّا لما ينبغي أنْ تكون عليه بِنْيَة المدينة الفاضلة)، فإنَّ هذا لا يعني بعد أنَّ رياح عالم السِّياسة تجري بما تشتهيه سفن طموحات فيلسوفنا. فالسُّلْطَة السِّياسيَّة ليست نشاطًا معرفيًّا ولا هي جائزة كبرى يفوز بها صاحب البرهان الأروع والبيان الأبلغ، إنَّمَا هي حصيلة صراع قوى متنافسة ومصالح اقتصاديَّة متضاربة. والسُّلْطَة لمن غلب. والغلبة تُكْتَب للأقوى، أيْ لمن امتلك الثَّروات وقبض على وسائل الإنتاج ومفاصل الحياة. فالمصالح تدير العالَم، والاجتماع ميدان لازدحام الأغراض تتصارع فيه الآراء كما المصالح والأهواء. وإذا ما دخلت مصالح النَّاس الأنانيَّة في تعارض مع الحقائق الرِّياضيَّة الَّتِي لا غبار على موضوعيَّتها، فإنَّهم يميلون، في الأغلب، إلى طمس الأخيرة وتكذيبها أكثر منه إلى إعادة النَّظر في مشروعيَّة مصالحهم ذاتها. فَهُمْ يُؤثِرون المنفعة على القيمة، المصلحة على الحقِّ والحقيقة. وهذا واقع تاريخيّ مُعاش لا مجال لإغفاله أيًّا يكن موقفنا منه، وسواء أحببناه أم كرهناه، قبلناه أم رفضناه. والأمر الثَّالث المسكوت عنه هو تعامي أفلاطون عن التَّباينات والتَّناقضات (مع معرفته العميقة بهما) الَّتِي تعتمل داخل معسكر الفلاسفة المُعَوَّل عليهم تصدُّر راية الإصلاح ورئاسة المدينة الفاضلة. فالفلاسفة ليسوا كتلة متجانسة من جهة مذاهبهم الوجوديَّة والمعرفيَّة والإيديولوجيَّة، ولا هُمْ سواء في تصوراتهم للخير والعدالة. لذا لا يبدو أنَّ حُكْمَ الفلاسفة، على افتراض حدوثه، يمكن أنْ يُشَكِّل  ضمانًة موثوقة لقيام دولة عادلة ومدينة فاضلة بالمعنى الَّذِي قصده أفلاطون. وفي ما يتعدَّى المسكوت عنه ثَمَّة خلل مُرَكَّب آخر يخترق الأساس الَّذِي بنى عليه أفلاطون تنظيره لأحقِّيَّة الفلاسفة الحصريَّة في الاستئثار برئاسة الجمهوريَّة الفاضلة على نحو دائم ومطلق. وكما هو معلوم، فقد جعل أفلاطون من تفوُّق الفلاسفة الفكريّ وتَصَدُّرهم للمشهد المعرفيّ أساسًا كافيًّا لِسُمُوِّهم  الأخلاقيّ وامتيازهم السِّياسيّ. والمشكلة في هذا الادِّعاء أنَّ لا شيء في الواقع يؤيده، ولا شيء في المنطق يُسَوِّغه، بل الأقرب إلى الصَّواب هو قول الفيلسوف أبي حامد الغزالي: "إنَّ الحاذق في صناعة واحدة ليس يلزم أنْ يكون حاذقًا في كل صناعة، فلا يلزم أنْ يكون الحاذق في الفقه والكلام حاذقًا في الطِّبِّ ولا أنْ يكون الجاهل في العقليَّات جاهلاً في النَّحْوِ، بل لكل صناعة أهل بلغوا فيها رتبة البراعة والسَّبق، وإنْ كان الحمق والجهل قد يلزمهم في غيرها"(7). زيادة على ذلك، يمكن القول حَتَّى إنَّه "ليس من المُحَقَّقِ أنَّ العالِم أو الفيلسوف يستخدم عقله في تدبير معاشه على نحوٍ أتَمَّ وأفضل مما يفعله أيُّ واحد من سائر النَّاس، على ما يُعَبِّر الفيلسوف علي حرب"(8). وقياسًا على ذلك يمكن القول إنَّه لا يلزم أنْ يُشَكِّل التَّفَوُّق العقليّ أساسًا حاسمًا لتفاضل النَّاس الأخلاقيّ، وللتمييز في حقوقهم المدنيَّة والسِّياسيَّة. وفي المقابل، ليس يلزم أنْ يُتَّخَذ من السُّمُوِّ الأخلاقيّ دليلاً قاطعًا على مدى تفوُّق الإنسان العقليّ. صحيح أنَّ البلادة ليست زينة ولا فضيلة، وأنَّ الجهل ليس مأثرة ولا مفخرة، لكن المهارات والمواهب العقليَّة ليست هي هي الخصال والشَّمائل الأخلاقيَّة، ولا هذه الأخيرة هي هي الأولى. إضافة إلى ذلك، إنَّ إسناد أفلاطون سُدَّةِ القِيَم إلى العقل والحكمة قاده، موضوعيًّا، إلى إزاحة الخير وتنحية الأخلاق عن عرش القِيَم والكمالات واستبدال المعرفة والحقيقة بهما، وإلى التَّوَرُّطِ، بالتَّالي، في تناقض منطقيّ فاضح مع مصادرته الرَّئيسة القائلة بأنَّ لا شيء يعلو مثال الخير عَظَمًة ومقامًا. فأفلاطون الَّذِي ما اِنْفَكَّ يُؤكِّد كُلَّمَا تطرَّق إلى موضوع المُثُل أنَّ مثال الخير هو رأس الكمالات والمُثُل كلها عاد ونَقَضَ، من حيث لا يحتسب، ما كان قد وَضَعَهُ وأقَرَّهُ مُوَطِّدًا تَقَدُّم العقل على الأخلاق بالطَّبع والسَّبب والشَّرف. وما كان لهذا التَّهافت إلاَّ أنْ ينعكس إخفاقًا في حَلِّ أفلاطون لمعضلة تأسيس الأخلاق. فالعقل الَّذِي أخذ على عاتقه تبيان ما تكونه الفضيلة انتحل شخصيَّتها وأعلن نَفْسه وصيًّا عليها كَمَثَلِ اللِّصِّ الَّذِي سرق من تعهَّد حراسته وما اؤتمن عليه. وهكذا، استحال التَّفسير المعرفيّ للأخلاق على يد أفلاطون تقديسًا وتأليهًا أخلاقيًّا للمعرفة. فقد رام فيلسوفنا إثبات أوَّليَّة الخير وأولويَّته فأثبت أوَّليَّة الحقيقة وأولويَّتها. ورام إثبات أنَّ الأخلاق عقلانيَّة، لكنه أثبت، في المحصلة، أنَّ العقل أخلاقيّ. والفرق بين القولين عظيم جدًا.

قد يبدو، للوهلة الأولى، أنَّ ما أفسدته جمهوريَّة أفلاطون الفاضلة في حَلِّ معضلة تأسيس الأخلاق يمكن أنْ يصلحه افتراض عالم المُثُل. لكن أفلاطون بافتراضه هذا لم يأت بجديد آخر غير قلب المشكلة ذاتها رأسًا على عقب ووضع عربة الأخلاق أمام حصان الوجود الاجتماعيّ للإنسان. فما أنْ عَدَّ أفلاطون الأخلاق بديهًة ومُسَلَّمًة أوَّليَّة حَتَّى انقلبت المسألة عنده من البحث عن جذرها الدُّنيويّ وأصلها الأرضيّ، ومن الكشف عن أسُسها الموضوعيَّة إلى البحث في المصداقيَّة الأخلاقيَّة للعالم ومدى مطابقته  للأصل المثاليّ-المتعالي وموافقته له. وبذلك يكون أفلاطون قد قلب المُقَدَّمَ تاليًا، والتَّالي مُقَدَّمًا، والسَّبب نتيجًة، والنَّتيجة سببًا، والأصل نُسْخًة، والنُّسْخَة أصلاً.

وبالانتقال إلى أرسطو الذي أتْقَنَ فنون فكِّ رموز الشِّيفرة السِّرِّية لتعاليم أفلاطون فقد انْصَبَّ اهتمامه في مجال الأخلاق على وضع حدٍّ لشطحات صديقه ومُعَلِّمه الفلسفيَّة الجامحة واستبعاد كل ما يتعذر برهنته منطقيًّا والتَّحقُّق منه عمليًّا. وعلى هذا الطَّريق يبادر أرسطو إلى تشذيب أجنحة النَّفْس الأخلاقيَّة الأفلاطونيَّة المرفرفة بعيدًا وعاليًا فوق سماء العالم الواقعيّ حرصًا منه على أنْ تبقى في الوسْط بين حدَّي الإفراط والتَّفريط المذمومَين، بين الإلهيِّ والطَّبيعيِّ. وللإبانة عن ذلك لا بدَّ من الوقوف على حدِّ الفضيلة وسِمَاتها وشروطها وأنواعها.

بادئ بدء ينبغي القول إنَّ الأخلاق عمومًا والفضائل خصوصًا، وَفْقًا لأرسطو، هي بُعدٌ مميَّز أو سِمَة خاصَّة بالوجود الإنسانيّ وحده. فالإلهة أعلى من الفضائل، لأنَّها عقل محض غير مشوب بالشَّهوات والأهواء، أمَّا الحيوانات فهي أدنى من الفضائل، لكونها كائنات شهوانيَّة خالصة لا عقل لها. أمَّا جعل الفضائل والرَّذائل الأخلاقيَّة حكرًا على الإنسان وحده فيعزوه أرسطو إلى طبيعة الإنسان الفريدة وبنيته المُرَكَّبَة وموقعه الوسطيّ في هَرَمِيَّة الوجود. فالإنسان هو الكائن الوحيد الَّذِي يجمع بين البُعدين الطَّبيعيّ والإلهيّ، بين الجوهرين الجسمانيّ والرُّوحانيّ، ولديه ما يتماهى به مع النبات والحيوان من جهة، وما ينفتح به على الأفق الإلهيّ من جهة أُخرى. وإلى ذلك يربط أرسطو نشوء الفضائل الأخلاقيَّة بالبنية المعقَّدة للنفْس الإنسانيَّة والصِّراع بين ميول اجزائها المختلفة، وتحديدًا، بين الجزء العاقل (مُمَثَّلاً بالعقل العمليّ وبالعقل النَّظريّ) والجزء غير العاقل (مُمَثَّلا بقوى النَّفْس النُّزوعيَّة كالقوى الشَّهوانيَّة والغضبيَّة). وليس نشوء الفضائل وحده هو ما يرتبط ارتباطًا وثيقًا بالبنية التَّراتبيَّة للنفس الإنسانيَّة، وإنَّمَا تقسيمها وتفاضلها أيضًا. وبالاتِّفاق مع تقسيم النَّفْس الإنسانيَّة إلى جزءين أساسيَّين عاقل وغير عاقل مَيَّزَ أرسطو بين نوعين من الفضائل: فكريَّة من مثل الحكمة والفطنة وجودة الذِّهن؛ وأخلاقيَّة من مثل الكَرَم والشَّجاعة والعِفَّة. هذا وتؤلِّف الفضائل الفكريَّة السَّعادة القصوى والخير الأسمى، في حين تؤلِّف الفضائل الأخلاقيَّة السَّعادة الثَّانية. والفضائل كلها مُكْتَسَبَة الفكريَّة منها والأخلاقيَّة. وهي ليست معطاة لنا من الطَّبيعة ولا بالضدِّ منها. فالمعطى للإنسان من الطَّبيعة هو شرط إمكان الفضيلة والقابلية لها فقط. فالفضيلة، على ما يرى أرسطو، هي صفات محمودة مُكْتَسَبَة للنفس(9). لكن ولئن كان كلا النَّوعين من الفضائل متشابهين في طابعهما الاكتسابيّ، فإنَّهما متباينَين في التَّوجُّه والغاية، وفي طريقة التَّحصيل والاكتساب أيضًا. ذلك أنَّ غاية الفضائل الفكريَّة هي غاية معرفيَّة-نظريَّة خالصة، وتُعَبِّر عن كمال القُوَّة العالمة في تأمل مبادئ الوجود الأولى، بينما تنطوي الفضائل الأخلاقيَّة على توجُّه عمليّ، وتصف سلوك الإنسان وانفعالاته من منظور المكانة الَّتِي يحتلها كل من العقل والأهواء الحِسِّيَّة فيهما. وفي ما يَخُصُّ الاختلاف بين طريقة تحصيل الفضائل الفكريَّة وتلك الأخلاقيَّة يقول أرسطو إنَّ الأولى تُكْتَسَب بالعلم والتَّعَلُّم المتواصل، وأمَّا الثَّانية فيجري تحصيلها بالعمل والاعتياد على طول الزمان. فالإنسان لا يولد صالحًا أو طالحًا، فاضلاً أو رذيلاً، حكيمًا عالمًا أو غافلاً، إنَّمَا يصير كذلك. وفي الحقيقة، يبدو لأرسطو أنَّ لا فرق جوهريًّا بين الكيفيَّة الَّتِي يزخرف بها الفنان المبدع لوحاته والكيفيَّة الَّتِي يصقل بها الإنسان الفاضل طباعه ويهذب أخلاقه ويُنَمِّي مَلَكَاته.

بَيْدَ أنَّ القول بالطَّابع الاكتسابيّ للفضائل لا يستنفد حقيقتها ومعناها. ثَمَّة عناصر أو محمولات أُخرى يُدخلها أرسطو في تعريف الفضائل الأخلاقيَّة. وفي مقدم هذه المحمولات يأتي الاعتدال والحُرِّيَّة والعلم والثَّبات (المواظَبة) والرَّويَّة. فالفضيلة الأخلاقيَّة هي اعتدال النَّفْس وكمالها. وبعبارة أكثر دِقَّة، الفضيلة هي الوسْط الذَّهبيّ المحمود بين حالتين متضادتين مذمومتين، بين رذيلتي الإفراط والتَّفريط. وهي ليست وَسَطًا حسابيًّا يقع على مسافة واحدة متساوية من الحدَّين المتقابلين، بل هي وَسْط أقرب دائمًا إلى حدِّ التَّفريط منه إلى حدِّ الإفراط. فالشجاعة، مثلاً، هي وَسْط الجبن والتَّهوُّر، لكنها أقرب إلى التَّهوُّرِ منه إلى الجبن، والعِفَّة وسْط الخمود والشَّرَه، والكَرَم وسْط التَّقتير (البخل) والتَّبذير (الإسراف). وقس على ذلك سائر الفضائل الأخلاقيَّة الأُخرى. كما أنَّ لكل فعل ولكل انفعال وَسْطه الخاص به، فكذلك هي الحال بالنسبة إلى الإنسان. فالوسْط ليس واحدًا لجميع النَّاس. وإذا ما صدرت الأفعال عن إنسان فاضل في أوانها، وفي الموضع والظَّرْف المناسِبَين، وفي حقِّ من يستحقها، ولأسباب وجيهة، فإنَّها تُوافِق، عندئذ، الوسْط الذَّهبيّ وتُعَدُّ أفعالاً كاملة فاضلة. وما يليق بإنسان قد لا يليق بإنسان آخر، وما يَحسُن بفعل أو شيء قد لا يَحسُن به آخر (10).

وتمتاز الفضائل الأخلاقيَّة أيضًا بطابعها الإراديّ-القصديّ والواعي. ومن أجْلِ أنْ نُحْسِنَ فهم نمط تصرُّفات الشَّخصيَّة الإنسانيَّة وتقييمه أخلاقيًّا لا بدَّ، على ما يرى أرسطو، من التَّمييز بين ضربين من الأفعال: الأفعال الإراديَّة والأفعال غير الإراديَّة. وهذه الأخيرة هي تلك الأفعال الَّتِي يقع مبدؤها خارج الشَّخص الفاعل وتجري بالرغم من إرادته وبالضدِّ منها إمَّا عن طريق الإكراه المباشر أو الجهل أو بتأثير عوامل قاهرة وظروف طارئة. وهي، غالبًا، ما تتَّسم بالقلق والتَّوتُّر والمعاناة. وأما الأفعال الإراديَّة فهي تلك الأفعال الَّتِي يقع مبدؤها في الشَّخص الفاعل نفسه وتحدث عندما تكون الحيثيَّات والظُّروف المتعلقة بها معلومًة له(11).  بعبارة أُخرى، إنَّ الأفعال الإراديَّة هي التَّرجمة العمليَّة الطَّوعيَّة والحُرَّة لرغبات الفاعل الخاصَّة وخياراته. لكن الرَّغبات نَفْسها غاية في التَّنَوُّع ويمكنها أنْ تتعارض كما في ما بينها، كذلك مع العقل أيضًا. لذا، ولئن كانت جميع الأفعال الفاضلة دائمًا إراديَّة، فليست كل الأفعال الإراديَّة فاضلة. وعلى الرَّغْمِ من كون الأفعال الإراديَّة شرطًا أوَّليًّا ضروريًا للإلزام الأخلاقيّ، إلاَّ أنَّه غير كاف. فإلى جانب الطَّابع الإراديّ للأفعال المحمودة هناك أيضًا الرَّويَّة والقصد (العزم) اللَّذان يشكلان حَلْقَة الوصل الأساسيَّة بين الرَّغبة والفعل. فالرَّغبات لا تتحوَّل إلى فعل إلاَّ بعد أنْ يقرُّها العقل وينعقد عليها العزم. وإذا كان التَّمييز بين الأفعال الإراديَّة والأفعال غير الإراديَّة يبين أين يقع السَّبب القريب للأفعال- داخل الفرد أم خارجه- فإنَّ مفهوم العزم يُبَيِّن الدَّافع إلى الفعل في الفرد ذاته.

ويمضي أرسطو قُدُمًا في سبر أغوار الفضيلة الأخلاقيَّة وصولاً إلى البحث في مسألة معيار التَّمييز بين الأفعال المحمودة والأفعال القبيحة المرذولة. وأبرز ما يقوله الخطاب الأرسطي في هذا الشَّأن إنَّه لا وجود لمعايير ثابتة تتخطى الأشخاص والفروقات بينهم، تصلح لأنْ نقرر بموجبها مسبقًا أيُّ الأفعال هو الحسن وأيُّها هو القبيح. فلا يكفي أنْ تمتلك الأفعال سِمَات معيَّنة لكي يحق لنا نعتها بالفاضلة ولِتُعَدّ، بالتَّالي، أفعالاً واجبة وحسنة من الوجهة الأخلاقيَّة. فالعامل الحاسم في التَّقييم الأخلاقيّ للفعل بالنسبة إلى فيلسوفنا ليس طبيعة الفعل- لكونه فعلاً من نوع معيَّن- بل الشَّخص الفاعل نفسه. وهنا من المهم والضَّروريّ جدًا معرفة ما إذا كانت الأفعال صادرة عن قناعة وهيئة راسخة في نَفْسِ الشَّخص الفاعل أم أنَّها عرضيَّة تمَّت بمحض المُصادَفة أو على سبيل الرِّياء أو من باب الإكراه؟ وما هي دوافع الفاعل وغايته؟ ومن هُمْ الأشخاص المستهدَفون بهذه الأفعال؟ وهل تُؤتَى هذه الأفعال في موضعها وأوانها؟ واللافت هنا هو إصرار أرسطو على أنَّ السُّؤال عن حُسْنِ هذا الفعل أو ذاك، وخيرية هذا الإنسان أو ذاك ينبغي أنْ يُحَلَّ في كُلِّ مَرَّةٍ وفي كُلِّ حالةٍ على حدةٍ وبشكل ملموس مُشَدِّدًا على استحالة استواء الفصل مع التواء الأصل، واستقامة الظِّلِّ (الفعل) مع اعوجاج صاحب أو مصدر الظِّلِّ (الإنسان الفاعل). فالفاضل والرَّذيل، الصَّالح والطَّالح، الطَّيِّب والخبيث هُمْ النَّاس بأعيانهم، لا الأفعال بحدِّ ذاتها. وعلى الرَّغْمِ من المغالطة الَّتِي ينطوي عليها هذا الاستنتاج الأرسطي، فإنَّه يزخر بمعنَيين عقلانيَّين ثمينَين. ويتمثل المعنى الأوَّل في وقوف أرسطو، موضوعيًّا، ضد الفكرة السُّقراطيَّة-الأفلاطونيَّة القائلة بوجود قوانين وتعريفات أخلاقيَّة مُطْلَقة عامَّة وفوق شخصيَّة متعالية على الوجود الاجتماعيّ للإنسان، وهي الفكرة الَّتِي شَكَّلَت، في المناسَبة، قدرًا مشؤومًا لعلم الأخلاق في كل الأزمنة اللاحقة. ويتمثل المعنى الثَّاني في التَّأكيد أنَّ الأفعال الأخلاقيَّة هي، في الحقيقة، تلك الأفعال الاختياريَّة الَّتِي ينبغي أنْ تحظى بِمُسَوِّغها في الوعي الذَّاتيّ للإنسان الفاعل، ويتحمَّل كامل المسؤوليَّة عنها. ولتقييم التَّصرُّف على نحو صحيح من الضَّروريّ جدًا تبيان الدَّوافع والنِّيات الكامنة خلفه. لكن إذا كان الإنسان هو مصدر القيمة الأخلاقيَّة للأفعال ومقياسها، على ما يصرُّ أرسطو، فإنَّ السُّؤال الَّذِي لا مهرب منه هو: وبم يُحْكَم أخلاقيًّا على الإنسان نَفْسِهِ؟ الجواب الَّذِي يزوِّدنا به أرسطو هو أنَّ الإنسان يصير عادلاً بإتيانه أفعالاً عادلة، كريمًا بإتيانه فعل الجود. فالأفعال هي مصنع الفضيلة ومقياس خُلُقيَّة الإنسان والتُّرجُمان الحقيقيّ لنياته ودوافعه. لكن هذا ما لا يمكن استجلاؤه من خلال فعل واحد. فأرسطو مُحِقٌّ تمامًا في عدم جواز الحكم على الإنسان أخلاقيًّا بالاستناد إلى فعل جزئي منفرد، لأنَّه ليس من المُسْتَبْعَد قيام الإنسان الفاضل بعمل شنيع أخلاقيًّا، وكذلك ليس من المحال إتيان الإنسان الفاسق، لسبب أو لآخر، عملاً مُسْتَحَبًّا من الوجهة الأخلاقيَّة. وكما أنَّ خطَّافة (سنونو) واحدة تائهة مغرِّدة خارج سربها لا تدل على الرَّبيع ولا تُبَشِّر بإطلالته، لا هي ولا يوم صحو واحد، فكذلك لا يجعل فعل واحد الإنسان فاضلاً أو فاسدًا. فالإنسان لا يُنعَت بالسعيد لمجرد أنَّه ذاق طعم السَّعادة ليوم واحد أو حَتَّى لو عاش سعيدًا بعضًا من الزَّمن(12). ولكي نرسم لوحة أخلاقيَّة مطابقة عن الإنسان لا مناص من التَّمَعُّنِ مَلِيًّا في خَطِّ سلوكه ونهج أفعاله في مختلف مجالاتها وتنوُّع أشكالها وعلى امتداد فترة طويلة من الزَّمن.

ومع أهمِّيَّة الأفكار الَّتِي يتحفنا بها أرسطو في مبحث الفضيلة، إلاّ أنَّه لم ينجح في تجاوز ما انطوت عليه من مغالطات وشُبهات. وأولى هذه المغالطات هي وقوع أرسطو في فخ دوامة الحَلْقَة المنطقيَّة المفرغة في معرض تعريفه لكل من الإنسان الفاضل والأفعال الفاضلة: "الأفعال يمكن أنْ تُسَمَّى عادلة ومعتدلة حينما يأتيها إنسان عادل ومعتدل، والإنسان يصير عادلاً بإتيانه أفعالاً عادلة، ومعتدلاً بإتيانه أفعالاً معتدلة. وإذا كان الإنسان لا يمارس البتَّة أفعالاً كهذه فمن المحال عليه أيًّا كان أنْ يصير فاضلاً"(13). وثاني هذه الشُّبهات يكمن في إنكار فيلسوفنا وجود معايير أخلاقيَّة خارج شخصيَّة. فهو وإذ يغالي في التَّشديد على البُعد الذَّاتيّ-الشَّخصيّ للأخلاق، إنَّمَا يُجَرِّدها، فعليًا، من مضمونها القيميّ العام والمشروط موضوعيًّا. بالطَّبع، لا جدال في أنَّ كل فعل أخلاقيّ مرتبط على نحو وثيق بالذَّات الإنسانيَّة الفاعلة، إلاّ أنَّه لا ينفصل، في الوقت عينه، عن المنطق الموضوعيّ للعلاقات الاجتماعيَّة. وإذا كان فصل القِيَم والأفعال الأخلاقيَّة عن الإنسان وَهْمًا، فإنَّ فصلها عن الشُّروط الحياتيَّة والثَّقافيَّة المحيطة به هو وَهْم أكبر وأخطر. فالفعل بذاته بما هو فعل من نوع معيَّن وبصرف النَّظر عن فاعله والآمر به سواءً أكان فردًا أم جماعات (ممارسات المنظمات والطَّبقات الاجتماعيَّة وما شابه) يخضع للتقييم والحكم الأخلاقيّ. والشَّيء ذاته يسري على المؤسَّسَات والسَّيرورات الاجتماعيَّة والتَّاريخيَّة. وثالث هذه الشُّبهات يختصُّ بتعيين الوسْط المحمود. فالفعل الفاضل، حسبما يرى أرسطو، هو الفعل المتوافق مع العقل والحكم الصحيح، وأمَّا معيار الاتِّفاق فهو إذعان الجزء غير العاقل من النَّفْسِ لأمر العقل وسلطانه. لكن إذا ما ذهبنا إلى ما هو أبعد من ذلك وتساءلنا علاَم يرتكز العقل نفسه في سيرورة المفاضلة بين مختلف الرَّغبات المتنافسة؟ وكيف نقرر متى وأين تكون الانفعالات والأهواء سائرة على مقتضى العقل ومتناغمة مع أوامره؟ فعن هذه الأسئلة الممكنة والمشروعة يجيب أرسطو بالقول: " فذلك تعيينه أمر ليس بالسَّهل، إنَّمَا ينبغي لإجادة فهمه الشُّعُور به، والحكم لا يمكن أنْ يتعلق إلاَّ بالإحساس الَّذِي يشعر به كُلُّ واحد". إذ إنَّ إدراك الوسْط (الفضيلة) في كل أمر عسير جدًا. فهذه كفاءة ليست لجميع النَّاس وليس من السَّهل حيازتها"(14). وهكذا يمكن القول إنَّ أرسطو، وفي مبحث الفضيلة الأخلاقيَّة، وصل إلى تلك النُّقطة حيث صار الحُكْمُ البرهانيّ مُمْتَنَعًا، لذا، تَحَتَّمَ تَقَبُّل الحقيقة مُسْبَقًا من دون الإشارة إلى أسُسِها والأخذ بأسبابها.

يتَّضح مما سبق أنَّ أرسطو يمنح الفضائل الأخلاقيَّة طابعًا عمليًّا-وسيليًّا لخدمة الفضائل الفكريَّة. فالنَّموذج القياسيّ الَّذِي يرسمه أرسطو للإنسان الكامل هو على صورة إنسان مالك لزمام أموره، متحرر من عبوديَّة الأهواء ومراوغاتها وأفانين الشَّهوات وغواياتها، يأبى العيش خبط عشواء، مقبل بكل همة وعزم على بلوغ غاية رئيسة مطلوبة لذاتها لا لغيرها. فما هي هذه الغاية الَّتِي لا تعلوها قيمًة وسُمُوًّا  وشرفًا أيُّ غاية أُخرى؟ الإجابة عن هذا السُّؤال تنقلنا إلى مبحث الخير الأسمى، وهو، في المناسَبة، المبحث الَّذِي يستهل به أرسطو مؤلَّفه الثَّمين "علم الأخلاق إلى نيقوماخوس".

في الحقيقة، ثَمَّة مفاهيم عدة ترد في تعريف هذه الغاية من مثل الكمال الأقصى والخير الأسمى والسَّعادة العظمى. إذ قَلَّما ذكر أرسطو أحدها من دون الآخر. وترد هذه المفاهيم دومًا متحايثة إنْ لم نَقُلْ مترادفة. فإذا ما بلغ الإنسان كماله الأقصى كان قد بلغ خيره الأسمى ونال سعادته العظمى. لكن لمزيد من الوضوح لا مناص من تحديد معنى الكمال ذاته. فالكمال هو حضور الصِّفات المحمودة واللائقة بالشَّيء والموافقة لخاصِّيَّته الجوهريَّة الَّتِي تميزه من غيره من الأشياء والكائنات. ولكل نوع من الكائنات كماله الخاص به وذلك تبعًا لطبيعته ووظيفته والغاية التي وُجِدَ وخُلِقَ من أجلها. فكمال العين وفضيلتها، مثلاً، تختلف اختلافًا لا لَبْسَ فيه عن كمال الحصان. فالعين كمالها في حُسْنِ الأبصار وتأدية وظيفتها الخاصَّة بها على أتَمِّ وجه. أمَّا الحصان فكماله في سرعة الْعَدْوِ وحمل فارسه ومقاومة صدمة الأعداء. وإذا كانت الكمالات تختلف باختلاف الماهيَّات، فإنَّها تتفاوت بتفاوتها أيضًا. ولكن ما هو الكمال الخاص بالإنسان؟ وما هي خاصِّيَّته؟

يضع أرسطو تعريفين للإنسان: فهو كائن عاقل؛ وهو كائن مدنيّ سياسيّ. وهذان التَّعريفان مترابطان في ما بينهما على نحو وثيق. وطبيعة الصِّلة بينهما مهمة جدًا لفهم تعاليم أرسطو الأخلاقيَّة. فالإنسان لا يكتسب كينونتة الأخلاقيَّة إلاَّ في المدينة وبفضلها. إذ ليس في مقدور الإنسان أنْ يلبي أبسط حاجاته وأنْ يبلغ أفضل كمالاته إلاَّ بالاجتماع والتَّعاون مع أبناء جنسه. وبالاتِّفاق مع التَّعريف الأوَّل الذي مَيَّزَ الإنسان بالعقل وخصَّه به تصبح سعادة الإنسان العظمى وخيره الأسمى وكماله الأقصى مماثلة مفهوميًّا لمزاولة ملكاته الفكريَّة وتفعيل قدراته العقليَّة في تحصيل العلوم واكتساب المعارف وتأمل الجواهر الميتافيزيقيَّة، أيْ المبادئ الثَّابتة للوجود. ومن ثُمَّ، فإنَّ نصيب كُلِّ إنسان من الكمال والخير والسَّعادة يتناسب طرديًّا مع قدر ما نال من العلم وحضر من الحكمة. وإذا كانت العلوم والمعارف تتباين بتباين موضوعاتها، فإنَّها تتفاضل أيضًا في ما بينها من جهة القِيمَة والشَّرف. ذلك أنَّ العلوم تُشَكِّل جملة متراتبة متفاضلة تتدرج تصاعديًّا من الأدنى إلى الأعلى، من العلوم العمليَّة والنَّظريَّة-الجزئيَّة ارتقاءً إلى العلم الكُلِّي والفلسفة الأولى. ولئن كانت العلوم الجزئيَّة أكثر ضرورة عملانيًّا من الفلسفة الأولى، فإنَّ لا واحد منها يعلوها قيمًة وشرفًا(15). فقيمة العلم، على ما يرى أرسطو، رهن بجلال قدر موضوعه. والفرق بين الفلسفة الأولى والعلوم الجزئيَّة هو تمامًا كالفرق بين مكانة الإنسان الحُرِّ ومكانة العبيد. وكما أننا ننعت الإنسان الَّذِي يعيش من أجْلِ نفسه، لا من أجْلِ الآخر، بالإنسان الحُرِّ، فكذلك بالضَّبْطِ، هو مقام الفلسفة، فهي العلم الوحيد الحُرُّ، لأنَّها توجد من أجْلِ ذاتها(16).  يبدو أنَّ هذه التَّشبيه الَّذِي يعقده أرسطو بين العلوم الجزئيَّة والعبيد، وبين الفلسفة الأولى والإنسان الحُرِّ ليس البتَّة من باب الاستعارة والمجاز، بل يُعَبِّر حقيقًة عن مدى تأثير الإيديولوجيا والواقع الاجتماعيّ حَتَّى في شأن موضوعيّ بحت إلى أبعد الحدود كمسألة تصنيف العلوم.

والحال، إنَّ انحياز أرسطو الإيديولوجيّ الأرستقراطيّ يتجلَّى بأوضح ما يكون في تعاليمه الأخلاقيَّة والسِّياسيَّة. فالنموذج القياسيّ الَّذِي رسمته هذه التَّعاليم للشخصيَّة الفاضلة والإنسان الكامل هو، في حقيقة الأمر، نموذج نخبوي أرستقراطيّ بامتياز مُفَصَّل بإتقان على مقاس الطَّبقة العليا المهيمنة. وذلك لأنَّ شروط إمكان تجسيده في ظِلِّ نمط الإنتاج العبوديّ غير متاحة واقعيًّا سوى للأحرار والأسياد (مالكي العبيد). ولتوضيح ذلك لا بدَّ من تذكير القارئ، وباختصار شديد، بالمنطلقات الأساسيَّة لمنظومة أرسطو الأخلاقيَّة: أ) القول إنَّ الخير الأسمى الَّذِي يبحث فيه علم الأخلاق ليس مُطْلَقَ خيرٍ أو أيَّ خيرٍ اتُّفق، بل الخير اللائق بالإنسان والموافق لخاصِّيَّته والممكن له؛ ب) الاعتقاد بوجود علاقة لزوميَّة ضروريَّة بين تحقيق الإنسان لمعناه كإنسان وتفعيله لماهيَّته الحقَّة على قاعدة أنَّ الإنسان وُجِدَ من أجْلِ غاية معيَّنة، والغاية هذه تقررها ماهيَّته الجوهريَّة، وبتطويره وتنميته لها يبلغ الإنسان أفضل كمالاته؛ ج) مماهاة الخير الأسمى الخاص بالإنسان وكماله وسعادته القصوى بالحكمة والعلم؛ د) اعتبار الخير الأسمى هو الغرض العام لجميع آمالنا والغاية القصوى المطلوبة لذاتها لا لغيرها. فهو غاية الغايات وموحِّدها والبحر الَّذِي تصبو إليه وتصبُّ فيه جميع أنهار مساعي الإنسان على تنوُّعها واختلافها. فالخير الأسمى باتِّفاق الجميع وإجماعهم هو السَّعادة، حسبما يُؤكِّد أرسطو(17).

وإدراكًا منه بأنَّ هذه الغاية العليا ليست هِبَةً تهبط من علٍّ ولا هي عَطِيَّة مجَّانيَّة سارع أرسطو إلى تحديد شروط إمكانها الموضوعيَّة والذَّاتيَّة، وإلى تبيان الوسائل الضَّروريَّة الموصلة إليها. ومن جملة هذه الشُّروط والأسباب الَّتِي يُسَمِّيها أرسطو أيضًا فضائل وخيرات، لأنَّ الموصل إلى الخير خير، والمُعِين على الفضيلة فضيلة، يذكر فيلسوفنا الفضائل البدنيَّة كالصِّحَّة والقُوَّة والجمال وطول العمر، والفضائل الخارجيَّة كالأصدقاء والثَّروة والنُّفوذ السِّياسيّ والحظِّ. وهذه الأمور جارية مجرى آلات المسهلة للمقصود. فهي تُيَسِّر وتُذلِّل للإنسان من الصِّعاب الحياتيَّة ما يطول أو حَتَّى يتعذر عليه إنجازه لو افتقر إليها أو عاش في عزلة. فحال الفقير في طلب الكمال كحال السَّاعي إلى الهيجاء بغير سلاح، والبازي المتصيد بلا جناح. ومن عُدم الثَّروة والجاه والمال صار مستغرق الوقت والجهد والبال في طلب القوت واللباس والمسكن وضرورات الحياة، وبالتَّالي، لن يتمكن البتَّة من التَّفَرُّغِ لاقتناء العلم وتحصيل سعادته الخاصَّة. إذ كلما تخففت الأشغال والهموم الحياتيَّة ازداد حَظُّ الإنسان في التَّفَرُّغِ للعلم والتَّأمل على اعتبار أنَّ العلم لا يعطينا بعضه ما لم نعطه كلنا. لكن هذه الشُّروط لا تفي وحدها بالغرض ما لم يكن الإنسان ذاته حُرًّا مريدًا لأفعاله ومُدْرِكًا لغاياته وخياراته. إذ لا أمل في الوصول إلى أمَّات الفضائل الَّتِي عدَّها أرسطو مكتسبة بامتياز بالبطالة والعطالة والجهالة. وإذا ما أخذنا الآن بعين الاعتبار كل هذه المعطيات والشُّروط، فسرعان ما تنجلي الهُوِيَّة الطَّبقيَّة-الأرستقراطيَّة للسعداء "المحظيين والمبشَّرين بالنَّعيم والفوز العظيم". وأمَّا الطَّبقات الاجتماعيَّة الدُّنيا المستعبَدة الَّتِي سُلِبَت إرادتها وصودرت حُرِّيتها، والمُقَيَّدة بأصفاد الإنتاج الماديّ والعمل الجسديّ المضني فهيهات حَتَّى أنْ تحلم بالسَّعادة فما بالك أنْ تستطيع سبيلا إلى الاستضاءة بنور شمس المعارف الكبرى وعزف لحن سعادتها القصوى.

يَدُلُّ مجمل ما سبق من قول على السُّمُوِّ المطلق للعقل في العصر القديم. فالإنسان لا يتجوهر ولا يتألق إلاَّ بقدر ما يهتدي بنور العقل ويعشقه أولاً وأخيرًا. وليست قوة الإنسان وحدها مرتبطة بالعقل، إنَّمَا عزَّته وكرامته أيضًا. لكن ماذا عن الأخلاق وتطلعاتها إلى المطلق والاستقلاليَّة والقدسيَّة؟ وفي هذه المسألة يحذو أرسطو، ببساطة شديدة، حَذْوَ مُعَلِّمه أفلاطون ويقوم بنقل هذه المطامح الأخلاقيَّة إلى سلطان العقل والمعرفة. فالعقل لا ينتج معرفة فحسب، وإنَّمَا يعطينا أيضًا كل ما هو نافع وجميل ولذيذ ولائق. هذا فضلاً عن أنَّ الأخلاق نفسها، شأن جميع المقاصد الإنسانيَّة، لا يمكن أنْ تتمتَّع بالقبول والشَّرعيَّة إلاَّ بعد اجتيازها إمتحان الجدارة العقلانيَّة. ومن شأن هذه المقاربة الأرسطيَّة الَّتِي تَرُدُّ الخير الأسمى إلى المعرفة باعتبارها الغاية القصوى المطلوبة لذاتها أنْ تفضي إلى منح علم الأخلاق والفضائل الأخلاقيَّة طابعًا تطبيقيًّا وظيفيًّا وثانويًّا، وإلى استبعاد النَّظر في مسألة المبادئ الأخلاقيَّة والمعايير العامَّة للتمييز بين الخير والشَّرِّ. وبذلك يكون أرسطو قد اشترى مطلقيَّة العقل مقابل نسبنة الأخلاق وعلى حسابها. ولا عجب في ذلك ما دام العقل هو قدس الأقداس الَّذِي لا تُبخَل ولا تعزُّ على مذابحه كل الأضاحي والقرابين بما فيها الأخلاق ذاتها. فلا حرج، وَفْقًا لأرسطو، في المجاهرة: "اننا لصالح الحقيقة ننتقد حَتَّى آراءنا الخاصَّة، خصوصًا، ما دمت أدَّعي أنِّي فيلسوف. وعلى هذا فبين الصَّداقة وبين الحقيقة اللَّذَين هما كلاهما عزيز على أنفسنا نرى فرضًا علينا أنْ نُؤثِر الحقيقة على كل ما عداها"(18). هذه القناعة ليست مجرد عبارة ذائعة ومشهورة، إنَّمَا هي كلمة سِرِّ العصر القديم ورُوحه.

تثير أطروحات أرسطو في مبحث الخير الأسمى كما في مبحث الفضيلة إشكالات وتساؤلات منطقيَّة ومفهوميَّة وإبستيميَّة شَتَّى سبق أنْ اُشِيرَ إلى بعضها تكرارًا ومرارًا في المجرى اللاحق لتطوُّر الفكر الأخلاقيّ. وأبرز هذه الإشكالات هي تلك المتعلقة بأطروحة أرسطو الرَّئيسة القائلة بوجود علاقة ضروريَّة بين ماهيَّة الإنسان وخيره الأسمى وكماله الأخلاقيّ. والمشكلة هنا هي أنَّى يمكن أنْ نحوِّل حُكْمًا وجوديًا إلى حُكْمِ قيمة، أيْ كيف يمكن، استدلاليًّا، تسويغ الانتقال من الوجود إلى الوجوب، من معرفتنا لما هو كائن إلى ما ينبغي أنْ يكون؟ لنفترض أنَّ الشَّرَّ في الجَدِّ القديم غريزةٌ وفي كُلِّ نَفْسٍ منه عِرقٌ ضاربُ، وأنَّنا عدوانيون وأنانيون بالطبع والطَّبيعة، بالفطرة والسَّليقة، فهل ما يتوجب علينا فعله أخلاقيًّا في هذه الحالة هو مجاراة طبيعتنا وإطلاق العنان لها؟ الجواب هو طبعًا بالنفي. فإذا كانت طبيعتنا على النَّحو الَّذِي افترضناه، فإنَّ ما ينبغي لنا فعله، من منظور أخلاقيّ، هو العكس تمامًا، أيْ السِّباحة في الإتِّجاه المعاكس لتيارها. ومن هنا، فإن معرفتنا لما هو كائن في الواقع لا تكفي بمفردها لكي نستنتج منها حُكْمًا وجوبيًّا بالمعنى الأخلاقيّ للوجوب(19).

ثَمَّة إشكال آخر ويطال هذه المَرَّة التَّضارب الحاصل في الموقف الأرسطي من أطروحة سقراط المركزيَّة القائلة بوحدة الفضيلة (الخير) والمعرفة. من المعلوم أنَّ أرسطو يعيب وبِحَقٍّ على سقراط مقولته هذه مُؤكِّدًا أنَّها تخالف أبسط البداهات وتتعارض مع وقائع الحياة. فليس بالمعرفة وحدها يصير الإنسان فاضلاً. فالعلم بالدَّاء وحُسْن الإصغاء إلى نصائح الأطبَّاء، من دون تناول ما يناسبه من دواء، لا يكفيان البتَّة للشفاء. فأنْ يعرف المرء أنَّ الشَّجاعة هي وسْط بين رذيلتين مذمومتين لا يعني بعد تَمَكُّنه من ايجاد هذا الوسْط في الواقع، ولا يعني أيضًا أنَّه صار شجاعًا بالفعل. فإلى جانب معرفة الإنسان لما هو الخير، على أهمِّيَّتها الكبرى، لا بدَّ له كذلك من أنْ يريد ويرغب في مزاولة ما يعرفه، ومن أنْ يقدر على ترجمة ما يعرفه ويريده، ومن أنْ يُحْسِن المواءمة بين ما يعرفه وما يريده وما يستطيعه. صحيح أنَّ الفضيلة والمعرفة على تماسٍ وإتِّصال إلاَّ أنَّهما ليسا شيئًا واحدًا. قد يتساءل القارئ أين مكمن تخبُّط أرسطو وتهافته في المسألة الَّتِي نحن في صددها؟ للإجابة عن هذا التَّساؤل الممكن والمشروع أوَدُّ أنْ ألفت عناية القارئ إلى أنَّ تناقض أرسطو لا يكمن في نقده لأطروحة سقراط المذكورة أعلاه، وهو النَّقد الَّذِي لا غبار عليه، ولا لَبْسَ فيه، إنَّمَا في تَبَنِّيه وإثباته لما ينكره ويعيبه عليها. فالتمييز الَّذِي خَطَّهُ أرسطو بين العلم والعمل، بين الفضيلة والمعرفة لم يعصمه البتَّة لا من إعادة إلقاء الأخلاق في حضن المعرفة ولا من إسباغ الأخيرة بمعانٍ ونعوت أخلاقيَّة. فبأيِّ حقٍّ وعلى أيِّ أساس يصف أرسطو التَّأمل النَّظريّ بأنَّه الفضيلة والسَّعادة الأولى والخير الأسمى؟ ومن أين صدر مفهوم الفضيلة ذاته؟ فهل هو من قاموس المعرفة وحقلها المعجمي؟ وهل يُشَكِّل الخير النَّواة السِّيمانتيَّة الجوهريَّة لمفهوم المعرفة؟ ثُمَّ ألم تظهر الفضيلة ممارسًة ومصطلحًا حَتَّى قبل أنْ يبادر النَّاس إلى النَّظر العقليّ في مدلولها ومحتواها؟ وقصارى القول، يقع أرسطو في تناقض لا يُغتفر لشيخ المناطقة وزعيمهم الأوَّل: فهو يضع المعرفة في مرتبة أعلى من الأخلاق، لكنه لتأسيس هذا وتسويغه يقوم بتفسير المعرفة مستعينًا بالمفاهيم الأخلاقيَّة.

  وفي المرحلة اللاحقة على أرسطو اخذت الشَّخصيَّة الفاضلة بالانفصال تدريجيًا عن حياتها المدينيَّة، على ما يتجلَّى ذلك في المنظومات الأخلاقيَّة لكل من الرَّيبيَّة والرُّواقيَّة والأبيقوريَّة. فقد أعطت هذه المذاهب الشَّخصيَّة الإنسانيَّة أهَمِّيًّة غائيَّة قائمة بذاتها. فقد حاولت هذه المدارس الأخلاقيَّة إثبات الفكرة القائلة بقدرة الإنسان الذَّاتية على إيجاد سعادته في السَّكينة الدَّاخليَّة وحدها فقط، وذلك من خلال اللامبالاة تجاه العالم الواقعيّ ونفيه. صحيح أنَّ الفلسفة اليونانيَّة الَّتِي ربطت عَظَمَة الإنسان بنشاطاته ومؤهلاته العقليَّة-الإبداعيَّة حفَّزت التَّقدُّم في شَتَّى مناحي الحياة والمعرفة، إلاَّ أنَّها، وعلى الرَّغْمِ من تَنَوُّع البدائل والنَّماذج الأخلاقيَّة الَّتِي رسمتها، كانت تعاني قصورًا فاضحًا في مواكبة تغيرات الواقع الاجتماعيّ واستيعابها، وكانت أوهن من أنْ تتحمل أثقال مآسي العصر القديم وويلاته، وأبعد من أنْ تُعَبِّر عن آمال المُضْطَهَدين والمُعَذَبين الَّذِينَ سحقتهم الآلة العسكريَّة الجبارة للأمبراطوريَّة الرُّومانيَّة وممارسات أباطرتها المَرَضِيَّة-الجنونيَّة والدَّمويَّة. وبالفعل، فقد كانت هذه النَّماذج المعياريَّة، بحكم طابعها الأرستقراطيّ ونزوع بعضها إلى الانعزال عن العالم والتَّقوقع على الذَّات المُكابر، عَصِيًّة جدًا على أفهام العوام وبعيدة من همومهم الحياتيَّة والإمكانات المتاحة لهم واقعيًّا. فقد اقتضت ضرورات الكفاح ضد البؤس القاتل والمستشري والاستعباد المتزايد البحث عن مُخَلِّصين وسبل أُخرى للخلاص غير تلك الَّتِي نجدها في التَّيارات الأخلاقيَّة السَّائدة من مثل الإيديمونيَّة (مذهب السَّعادة)، والهيدونيَّة (مذهب اللَّذَّة)، والأتاراكسيا (مذهب الطَّمأنينة الدَّاخليَّة). وهذا الأمل بالخلاص هو، بِالضَّبْطِ، ما بَشَّرت المسيحيَّة به حاملًة على أكتافها صليبه وآخِذًة على عاتقها إنارة معالم طريقه: "تعالوا إليَّ يا جميع المُتْعَبِين والثَّقيلي الأحمال، وأنا أريحكم"(20). لذا، لم يكن من قبيل المُصادَفة أنْ تُعمِل المسيحيَّة، من منطلق شعبيّ-إنسانيّ سليم، مبضع التَّشهير الأخلاقيّ بكل الشُّرور المؤلِّفة للحم مجتمع الإمبراطوريَّة الرُّومانيَّة العبوديّ ودمه، وأنْ تتوعَّد مرتكبيها بسوء الخاتمة وبئس المصير. ومن جملة هذه الخطايا والشُّرور الَّتِي ذمَّتها المسيحيَّة وَدَعَت إلى اجتثاثها غير المشروط نذكر، على سبيل المثال لا الحصر: القتل والعنف، تكديس الثَّروة، الكراهية، الزِّنا، الكذب، الاضطهاد السُّلْطَوي، التَّمييز القوميّ والتَّفرقة القَبيلِيَّة. ولم تكتف المسيحيَّة بالإدانة والذَّمِّ اللَّفظيَّين لهذه الشُّرور وغيرها، بل سارع رجالاتها الأوائل، على ما نقرأ في أعمال الرُّسُلِ، إلى مواجهة العلاقات الاستغلاليَّة ومناهضتها عبر تفعيل أنماط جديدة من العلاقات الحياتيَّة مفعمًة بالمحبة والتَّفاني والرُّوح الجماعيَّة-التَّشاركيَّة: "وكان لِجُمْهُورِ الَّذِينَ آمنوا قلبٌ واحدٌ ونَفْسٌ واحدةٌ، ولم يكن أحدٌ يقول إنَّ شيئًا من أمواله له، بل كان عِنْدَهُمْ كُلُّ شيءٍ مُشْترَكًا. إذ لم يكن فيهم أحدٌ محتاجًا، لأنَّ كُلَّ الَّذِينَ كانوا أصحابَ حقول أو بيوتٍ كانوا يبيعونها، ويأتون بأثمان المبيعات ويضعونها عند أرْجُلِ الرُّسُلِ، فكان يُوزَّعُ على كُلِّ أحدٍ كما يكون له احتياج"(21). وفي موازاة هذه الإجراءات العمليَّة، فقد أحْدَثَ ظهور المسيحيَّة وانتشارها السَّريع انقلابًا جذريًّا في فلسفة الأخلاق غَيَّرَ جهازها المفهوميّ ورُوحها العامَّة وجملة الأفكار الَّتِي نهض عليها صرحها كله. أمَّا الإضاءة العيانيَّة على مختلف جوانب هذا الانْقلِاب الجذريّ الدِّينيّ وما يثيره من إشكالات فلسفيَّة فتتطلب بحثًا معمَّقًا ومستفيضًا ومستقلاً لا يتَّسع له المجال في هذا المقال.

***

د. علي صغير / كاتب وباحث لبناني

.........................

المراجع والهوامش:

1- أوفيديوس ببليوس ناسو: التَّحوُّلات. موسكو، دار الأدب الرِّوائيّ. 1977. ص 170. (باللُّغة الرُّوسيَّة).

2- أبو العلاء المعرِّي: اللُّزُوميَّات. تحقيق أمين عبد العزيز الخانجي. الجزء الأوَّل. منشورات مكتبة الهلال- بيروت/مكتبة الخانجي-القاهرة. ص 113.

3- دليل الفلسفة العالميَّة الشَّامل. المُجَلَّد الأوَّل، الجزء الأوَّل. موسكو. دار الفكر. 1969. ص 316. (باللُّغة الرُّوسيَّة)

4- في المناسَبة، لقد بدت الدِّيمقراطيَّة الأثينيَّة المباشرة، من بعض الوجوه، أكثر شفافية من أيِّ نظام ديمقراطيّ معاصر على الرَّغْمِ من آفتها النُّخبويَّة الطَّبقيَّة الخطيرة المتمثلة في اقصائها العبيد والإماء عن المشاركة في تقرير سياسات الشَّأن العام الدَّاخليَّة منها والخارجيَّة على حدٍّ سواء.

 5- لمزيد من التَّفصيل حول آفات هذه الأنظمة السِّياسيَّة من المنظور الأفلاطوني أنظر الكتاب الثَّامن من مُؤَلَّف أفلاطون: الجمهوريَّة (المحاورات الكاملة). المُجَلَّد الأوَّل. نقلها إلى العربيَّة شوقي داود تمراز. بيروت. دار الأهليَّة للنشر والتَّوزيع. 1994.

6- المصدر السَّابق. ص ص 263، 298.

7- أبو حامد الغزالي: المنقذ من الضَّلال والموصل إلى ذي العزَّة والجلال. بيروت. اللَّجنة اللُّبنانيَّة لترجمة الرَّوائع. الطَّبعة الثَّانية. 1969. ص 21.

8- علي حرب: التَّأويل والحقيقة (قراءات تأويليَّة في الثَّقافة العربيَّة). بيروت. دار التَّنوير. الطَّبعة الأولى، 1985. ص 149.

9- أرسطو: علم الأخلاق إلى نيقوماخوس. الجزء الأوَّل. نقله إلى العربيَّة أحمد لطفي السَّيِّد. القاهرة. مطبعة دار الكتب المصرية. 1924. الكتاب الثَّاني، الباب الأوَّل. ص 226.

10- أنظر المصدر السَّابق. الكتاب الثَّاني، الباب السَّادس. ص 247.

11- أنظر المصدر السَّابق. الكتاب الثَّالث، الباب الأوَّل. ص 266-267.

12- المصدر السَّابق. الكتاب الأوَّل، الباب الرَّابع. ص 195.

13- المصدر السَّابق. الكتاب الثَّاني، الباب الرَّابع. ص 238-239.

14- المصدر السَّابق. الكتاب الثَّاني، الباب التَّاسع. ص 264.

15- أنظر أرسطو: الميتافيزيقا. الكتاب الأوَّل، الباب الثَّاني. ص 22. (باللُّغة الرُّوسيَّة).   

16- المصدر السَّابق.

17- أرسطو: علم الأخلاق إلى نيقوماخوس. الكتاب الأوَّل، الباب الثَّاني. ص 175.  

18- المصدر السَّابق. الكتاب الأوَّل، الباب الثَّالث. ص 181. 

19- كان الفيلسوف الاسكتلندي ديفيد هيوم (1711-1776) أول المُنَبِّهين على لامشروعية وعدم جواز ما يجري في الدِّراسات الأخلاقيَّة من انتقال من أحكام أنطولوجيَّة إلى أحكام معياريَّة، من ما هو كائن إلى ما ينبغي أنْ يكون: لا يمكن أنْ نستنتج حُكْمًا متَّصلاً بالرابطة "يجب" أو "ينبغي" من أحكام ومُقْدِّمات خالية تمامًا على نحو صريح أو مُضْمَر من الرَّابطة "يجب". وإلى المعنى نفسه ذهب الفيلسوف والرِّياضي الفرنسي الشَّهير هنري بوانكاريه(1854-1912) بقوله: إنَّ استنتاجًا أمريًّا لا يمكن أنْ يُشْتَق من استدلالٍ ليس فيه أيُّ مُقَدِّمَةٍ أمريَّة.

20- الكتاب المقدَّس. العهد الجديد. إنجيل مَتَّى، الإصحاح 11: 28.

21- الكتاب المقدَّس. العهد الجديد، أعمال الرُّسُلِ، الإصحاح 4: 32، 34، 35.

ما أكثر الكتابات المعاصرة التي تتجاهل أو تتهكم على تلك الفلسفة التي رسم بناؤها وأسس بنية أفكارها رواد التنوير في الثقافة الإسلامية الحديثة خلال الفترة الممتدة من النصف الأول من القرن التاسع عشر إلى بداية النصف الثاني من القرن العشرين وأعني مدرسة (حسن العطار ١٧٦٦م – ١٨٣٥م ، رفاعة الطهطاوي ١٨٠١م – ١٨٧٣م، أحمد فارس الشدياق ١٨٠٤م – ١٨٨٧م، عبد القادر الجزائري ١٨٠٨م – ١٨٨٣م، خيرالدين التونسي ١٨٢٠ م – ١٨٩٠م، بطرس البستاني ١٨١٩م – ١٨٨٣م) ثم المدارس المنبثقة في مطلع القرن العشرين التي يمثلها مدرسة (محمد عبده ١٨٤٩م – ١٩٠٥م، الشيخ حسين الجسر ١٨٤٥م – ١٩٠٩م، محمود شكري الألوسي ١٨٥٦م – ١٩٢٤م، ابن باديس ١٨٨٩م – ١٩٤٠م) ثم شبيبة الرواد الذين قادوا حركة التنوير والتجديد والإصلاح في شتى أنحاء العالم الإسلامي منذ النصف الأول من القرن العشرين، منهم المشاهير ومنهم الذين حجبوا في دائرة الظل بقصد أو عن غير قصد، وذلك ليتعملق الأقزام والأدعياء في الربع الأخير من القرن العشرين، والربع الأول من القرن الحادي والعشرين، ويدعون أنهم أصحاب مشروعات وخطابات تنويرية وثورات تجديدية حداثية تأمرت جميعها على التشكيك في أصالة ومكانة الفكر الإسلامي بعامة والتشريع الربّاني على وجه الخصوص.

ولعلّ أفضل من تصدى لهذه الحملة الجائرة من شبيبة هذه المدرسة هو “ابن عاشور” : رائد علم المقاصد الإسلامية الحديث وهو المجدد الذي سوف نفرد له بعض المقالات التي تكشف عن آثره ومدى حاجتنا لنهجه العقلاني في دراسة الشريعة وسط غُلة القضايا التي نعيش فيها دون حل شافي أو جواب كافي لإصلاح ما فسد وتقويم ما جنح في حياتنا الإجتماعية والسياسية والإقتصادية، بل وعوائدنا الدينية.

وخليقُ بي توضيح أنه من الخطأ الحديث عن التجديد عند “محمد الطاهرابن عاشور ١٨٧٩ م- ١٩٧٣م” بمعزل عن مصادر وجهته في دراسة الفكر الإسلامي بوجه عام.

ولعل (محمد عبده، ومحمد الخضر حسين ١٨٧٦م – ١٩٥٨م، وعبد العزيز الثعالبي ١٨٧٦م – ١٩٤٤م) من أكثر المفكرين المسلمين الذين كان لهم عظيم الآثر في تحديد وجهته وتقويم منهجه في دراسة النصوص الشرعية ذلك المنهج الذي رَغِب عن المحاكاة والتقليد إلى إعمال العقل والبحث الحر بغية الإصلاح والتجديد حتى بات شعاره في معظم كتاباته هو (إنّ الأمة التي تسعى إلى التنوير وتجديد الدين وإصلاح مقاصد الشريعة في أذهان العوام والمقلدين، هي التي يسود في نهوجها النقدية روح التثاقف الحر والرغبة الصادقة في البناء على قاعدة عريضة من الأصول الشرعية الموافقة بطبيعتها للعقل الواعي بدروب التطور من جهة والعلم الإلهي الذي يستلهمه المجددون والمصلحون عند تصديهم لقضايا الواقع المعيش في المجتمع الإسلامي من جهة اخرى)، وباتت دعوته لمستمعيه وقرائه (الله يضئ آرائكم بالحكمة).

وقد أشتهر شيخنا بتجديد “علم المقاصد” وذلك بغربلة الكتابات الفقهية السابقة عليه بحجة أن أحكامها قائمة على المسائل الظنية وبضع الأحاديث الضعيفة، في حين أنه أراد إقامة “علم المقاصد الشرعية الجديد” على أمرين:

أولهما: الأحكام القطعية في المنقول – أي قاطعة الثبوت والدلالة في النص القرآني والأحاديث النبوية الشريفة – والآراء التي تتفق في التأويل والتفسير مع صريح المعقول، ويعني ذلك أنه أراد تفعيل نهج “محمد عبده” في إستنباط الأحكام الفقهية على قاعدة ترمي إلى إيضاح المقصود من النص القرآني، أو الصحيح من الحديث الشريف إستناداً على التأويل العقلي الذي لا يتعارض مع قطعي الثبوت وقطعي الدلالة، وقد تأثر في ذلك بما كتبه “العز بن عبد السلام ١١٨١م – ١٢٦٢م”، و” شهاب الدين القرافي ١٢٢٨م – ١٢٨٥م ” في حديثهما عن المقاصد الشرعيّة.

وثانيهما: مراعاة التطور الدلالي للحكم الشرعي على نحوٍ لا يتعارض مع المقصد الذي قصده الله تعالى في آياته أو في الأحاديث التي أجراه على لسان نبيه صلوات الله وسلامه عليه وقت نزول النّص، ثم مقابلة دلالة هذا المقصد والمُراد منه أو العلة المباشرة الكائنة وراء الحث أو المنع مع ما يناظره أو مساوٍ له في ثقافة الأزمنة المعاصرة، ساعياً لإستنباط المقاصد من كليات الضروريات والحاجيات الأنسب، وبَيّن أن خطأ السابقين عليه يرجع إلى إنتصارهم إلى تقليد السلف دون غربلة أو تعميم المقاصد الجزئية في سياقات كلية وعمومية وذلك تبعاً للنظرة السائدة في عصره، وقدّم في ذلك كله (قاعدة دفع الضرر مُقدّم على جلب المصلحة)، كما بَيّن أن الإحتكام إلى الإستقراء والتطبيق والتجربة العملية خيرٌ معين على تحديد المقصد الشرعي من عملية الإستنباط الظاهري أو القياس اللغوي أو الإنتصار إلى تقليد مذهب بعينه أو رأي شائع، ولاسيّما في الأمور المتعلقة بالسياسة والحكم وقضايا الأمن والعدالة والسلم الإجتماعي، وإن تعارضت هذه المقاصد العامة المرجوحة على غيرها من المصالح الجزئية الراجحة، وقد أحتج في نهجه هذا على بعض الأحداث والمواقف الإجتهادية التي قام بها أكابر الصحابة والتابعين، وذلك ليقنع  الرأي العام بأن تجديده في علم المقاصد ليس بدعة أو تجديف أو خروج عن ثوابت العقيدة الإسلامية، ويبدو ذلك كله في ما جاء في مقدمته لكتابه “مقاصد الشريعة الإسلامية”: (هذا كتاب قصدتُ منه إلى إملاء مباحث جليلة بي من مقاصد الشريعة، والتمثيل لها، والإحتجاج لإثباتها، لتكون نبراساً للمتفقهين في الدين، ومرجعاً بينهم عند إختلاف الأنظار، وتبدل الأعصار، وتوسل إلى إقلال الإختلاف بين فقهاء الأمصار، ودربة لأتباعهم على الإنصاف في ترجيح بعض الأقوال على بعض عند تطاير شرر الخلاف، حتى يستتب بذلك ما أردناه غير مرة من نبذ التعصب والفيئة إلى الحق إذا كان القصد إغاثة المسلمين ببُلالة – أي ما يرطب الحمية ويُليَن الجمود – تشريع مصالحهم الطارئة متى نـزلت الحوادث، وإشتبكت النوازل، وبفصل من القول إذا شجرت حجج المذاهب، وتبارت في مناظرتها تلكم المقانب – أي المستورة الملتبسة -).

ونستخلص من ذلك؛ أن غاية شيخنا “ابن عاشور” هو فتح باب الإجتهاد في علم الفقه وأصوله وتأسيس علم المقاصد الشرعية على قواعد نقدية عقلية وربط معيار المفاضلة بين المقاصد بالتجربة العملية والإستقراء الواعي لنتائج التطبيق والمألات، ويعني ذلك أن خطاب شيخنا التجديدي منبثق من مشروع “محمد عبده” الإصلاحي؛ ذلك المشروع الذي أشرنا إليه في غير موضع من كتابتنا.

وليس هناك اوضح من تصريح “ابن عاشور” نفسه بأن الغاية التي يرمي إليها هي تجديد الدين ودفع تهمة الجمود عن علومه الشرعية والتأكيد على أن القانون الإسلامي أيسر وأصلح من غيره للتطبيق في المجتمعات الإسلامية؛ بل في المجتمعات الإنسانية وذلك لمرونة قواعده الثابتة وواقعية وعقلانية ترغيبه وحثه ومنعه أو تحريمه وغير ذلك من الأمور التي تنشد صلاح المجتمع وهداية الأنفس مع توضيحه أن كل ذلك يتعذر إستيعابه وتطبيقه في ظل جمود الرأي العام وغلق باب الإجتهاد والتجديد وإستحسان أصحاب الرأي لسُنة التقليد وتشرذم النخبة وإنقسامهم إلى فرق وجماعات وطوائف، لذا نجده يحرض شبيبة المسلمين ويحث أمراء المنابر على إنتهاج ضربه في تجديد الدين والإعتماد على علم المقاصد الشرعية في التصدي والإضطلاع بإصدارالأحكام الخاصة بالمعاملات الإجتماعية بداية من تربية الأطفال إلى أحكام النكاح وفقه الحدود والقضاء وسَن القوانين وإنتهاء بنصوص المعاهدات والإتفاقات الدولية، ويقول في ذلك : (إنّ غاية  البحث ورسالته عن مقاصد الإسلام من التشريع هي الكشف عن قوانين المعاملات والآداب التي أرى أنها الجديرة بأن تخص باسم الشريعة لمراعاة مصالح الأمة فيها، ولحفظ نظام العالم وإصلاح المجتمع، وهو مظهر لعظمة الشريعة الإسلامية بين بقية الشرائع والقوانين والسياسات الإجتماعية، … إني أريد به – أي علم المقاصد – ما هو قانون للأمة، ولا أريد به مُطلق الشيء المشروع، … إنّ أحكام الشريعة كلها مشتملة على مقاصد الشَارِّع وهي حُكم ومصالح ومنافع، ولذلك كان الواجب على علمائنا تعرف عِلل التشريع ومقاصده، ظاهره وخفيه، … إنّ معرفة مقاصد الشريعة نوع دقيق من أنواع العلم، وحق العالم فهم المقاصد، والعلماء متفاوتون في ذلك على قدر قرائحهم، ودقة فهومهم، وعلى قدر حظهم من التمكن من العلوم الشرعية).

ومقصدي غير الأحكام الجزئية ولا فقه الحلال والحرام في العبادات؛ بل أسعى إلى إصلاح ما فسد من عادات وأخلاقيات وسُنَن في المجتمع الإسلامي وإشتهرت بأنها من الدين ومستنبطة من الشرع وإحتج المروجين لها بنصوص مبتورة ودلالات مضللة إلى درجة إتهام الدين بما ليس فيه، في كتابات المغرضين والمشككين وأعداء المِلة من غلات المستشرقين.

ويترأى لي أن خطاب “ابن عاشور” الفقهي – الذي ألمحنا إلي جانب منه – قد أجتاز علم أصول الفقه منطلقاً إلى أفق أوسع يمكن أن نطلق عليه فلسفة الفقه الإسلامي أو الحِكم العقلية للقوانين الشرعية، وهو جدير بأن يدرج ضمن المقررات الدراسية للفلسفة الإسلامية وجل معاهد ومدارس الفكر الإسلامي، وقد ألمح إلى ذلك “محمد إقبال ١٨٧٧م – ١٩٣٨م”، و”مصطفى المراغي ١٨٨١م – ١٩٤٥م، و- معاصره وصديقه – الشيخ “مصطفى عبدالرازق ١٨٨٥م – ١٩٤٧م”، في كتابه (تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية ١٩٤٤م) وفي محاضراته في الجامع الأزهر وكلية الآداب بالجامعة المصرية، ومعظم المؤتمرات والندوات التي شارك فيها منذ أوخريات الثلاثينيات من القرن العشرين، ويعني ذلك أن علم المقاصد الذى دعى إليه “ابن عاشور” عام ١٩٤٦م  كان من العلوم المُدرجة في مشروع “محمد عبده” والعقل الجمعي لتلاميذه، غير أن معظم الدراسات التي تحدثت عن آثر هذه المدرسة في تونس لم تشر إلى فضل “ابن عاشور” في تطبيق تلك الفكرة وإرشاد الرأي العام القائد إليه، وقد ترتب على ذلك خلو مقررات الفلسفة الإسلامية والفكر الإسلامي الحديث من ذلك الآثر.

وحسبي أن أشيد بدراسة العالم البحاثة “عمار الطالبي” عن مكانة “ابن عاشور” في ميدان التجديد التي أشار فيها إلى الجانب المنهجي الذي أوصى به شيخنا في كتاباته وجعله شرطاً لفهم النصوص الشرعية المنقولة، ومن ثَم كان الضروري على الفقهاء المعاصرين والدارسين المحدثين إنتهاجها والإلمام بأبعدها والإحاطة بمسالكها ..

إنْ واجب الباحث عن المقاصد كما يراه الإمام ابن عاشور (أن يطيل التأمل، ويجيد التثبت في إثبات مقصد شرعي. وحذر من التسرع والتساهل في ذلك فلا يعين مقصداً ما  إلا بعد استقراء التصرفات الشرعية في النوع الذي يريد أن يستقي منه مقصده الشرعي، ويرجع أيضا إلى إجتهادات أئمة الفقه ليستنير بممارساتهم وآرائهم، فيكسبه ذلك قوة إستنباط بها يدرك المقاصد إدراكاً واضحاً، وقد يصل الباحث إلى علم قطعي أو قريب منه، وإذا لم يصل إلاّ لظن ضعيف فليرفضه لباحث بعده يزيده فقهاً وربما كان أفقه ممّن سبقه).

وأعتقد أن هذا القول يجعل “ابن عاشور” رائداً من رواد التفكير الناقد وفن قراءة القراءة وفلسفة التأويل الإسلامي.

وللحديث بقيّة عن إجتهادات وتجديد شيخنا في العلوم الإسلامية.

*** 

د. عصمت نّصار

 

ـ هنالك شبه ديمومة في نوعية العلاقة بين الاوطان، بتأثير ديمومة الجغرافيا والبيئة التي تحدد العقلية والمصالح ومسار التاريخ.

من المعلوم ان ضفتي البحر المتوسط: (الشرقية: العالم العربي الحالي)، و(الغربية: قارة اوربا)، هي اهم منطقة لعبت الدور الاكبر، ولا زالت، في تاريخ البشرية وخلق حضاراتها الكبرى. ان هذا البحر كان اشبه بالبحيرة التي تتواصل وتجتمع حولها شعوب هاتين الضفتين، سلميا وحربيا. وكانت الملاحة هي وسيلة التواصل الاولى والكبرى بينهما. عدى وسيلة تواصل ارضية واحدة، الا وهي شمالي (سوريا والعراق) حيث التواصل عبر سواحل و(هضبة الاناضول: آسيا الصغرى: تركيا الحالية) ثم اليونان. وقد لعبت خصوصا السواحل السورية دورا كبيرا بانتقال البشر مع المؤثرات الحضارية الشرقية (المصرية العراقية الشامية) الى اليونان ثم باقي اوربا.

من ابرز دلائل التواصل السكاني القديم جدا، بين الضفتين، ان ما يسمى بـ(الانسان العاقل: Homo sapiens : أي البشر الحالي)، قد وصل (اوربا) قادما من (الشام) قبل حوالي 40 الف عام. ثم استمرت التنقلات البشرية بين الطرفين، بدليل وجود نسبة بين (10 الى 15%) من (الجينات الاوربية والشرقية) لدى الطرفين. ففي العالم العربي الحالي، هنالك الجينتان اللتان تشكلان غالبية سكان اوربا: (i و R). اما في (اوربا) فهنالك الجينتان اللتان تشكلان غالبية سكان العالم العربي:(E وJ).(1)

ان اوضح امثلة على مدى ارتباط اوربا بالشرق، ان جيوش (اليونان: الاسكندر) لم تحتل أي بلد اوربي بل احتلت (الشام والعراق مصر) وباقي آسيا. كذلك (روما) التي احتلت فقط اجزاء اوربا المجاورة لها، ولكنها احتلت جميع (الضفة الشرقية: العالم العربي)، كذلك فعلت (الدولة البيزنطية). اما هذا (الشرق) كما هو منطقي، قد ظلت علاقته بـ(اوربا) اقل حاجة وحيوية، لانه بعلاقة جغرافية مباشرة مع: (افريقيا السوداء) و(عموم قارة آسيا).

***

العلاقات (الحضارية والاحتلالية) بين الضفتين العربية والاوربية

للتسهيل والوضوح ارتأينا تقسيم هذه العلاقات بين العالمين، الى مجالين تاريخيين اساسيين، حيث كل طرف تميز بدوره وتأثيره على الطرف الآخر: الحضاري والاحتلالي

اولا، العلاقات الثقافية الحضارية

ـ الانجازات الثقافية والحضارية التي قدمتها (الضفة الشرقية: العالم العربي) الى اوربا:

1ـ اسم (اوربا: Europe: غوربا) الفينقي: (2) يتفق الباحثون الاوربيون على ارجاع اصل هذه التسمية الى الأسطورة اليونانية، المأخوذة من الفينقيين الشاميين، والتي مختصرها: أن (أوربا ـ Erbe:عوربا، غوربا، اوربا)، أميرة فينيقية، ابنة ملك صور(لبنان)، عندما كانت تتمشى على شاطئ البحر، شاهدها (زيوس، اله اليونان) وانبهر بجمالها، فتنكر على هيئة ثور واختطفها نحو الشواطئ الغربية من البحر المتوسط. وتخليدا لذكرى هذه الاميرة، اطلق الفينقون واليونان اسمها على (قارة اوربا). هذه الاسطورة تُعبّر عن (مشكلة غياب الشمس)، اي اختطاف(الاميرة غوربا: غروب) نحو الشواطئ البعيدة في (الغرب: اوربا: ارض الغروب).(3) وعكسها الكلمة السامية الاكدية (اسو: Assu)، بالعربي(واسا، اسّ: شيّد، رفع) بمعنى (شروق الشمس وارتفاعها)، ومنها اتت تسمية(آسيا)، وهي(عكس اوربا)، اي الجهة التي (تتأسس وترتفع) منها الشمس بالنسبة لشعوب (شرق) البحر المتوسط.(4)

2ـ انتقال اول ثورة زراعية وتدجينية من الشام الى اوربا: قبل حوالي 10 آلاف عام انتقلت اكبر ثورة حضارية في التاريخ نشأت اولا في الشام وشمال العراق: (العصر الحجري الحديث: Neolithic).(5)

3ـ انتقال اسس (الحضارة الشرقية: المصرية البابلية الفينقية) ثم(الابجدية الكنعانية الفينقية): من المعلوم ان اول (اول حضارة اوربية) نشأت في اليونان اواسط الالف السابق، والتي نشأت من خلال تأثير انجازات (الحضارة الشرقية) السابقة لها بأكثر من الفي عام. ثم هنالك معلومة مهمة في هذا السياق: ان المعقل الاول للحضارة اليونانية ليس في (اليونان) نفسها بل في (آيونيه: Ionia ، ومنا اتى اسم اليونان) وهي على ساحل تركيا الحالية. وهذا يعني ان اليونان كانت في الاساس على على علاقة جغرافية حدودية مباشرة مع الحضارتين البابلية والكنعانية. ان التحليل الجيني لسكان اليونان يكشف عن ان حوالي نصف جيناتهم هي (شرقية: سامية حامية: j و E). والاكثر من هذا ان تحليل جينات رفات الرومان القدماء تبين ان اغلبها من الشام.

لقد اطلق المؤرخون على حقبة تأثير الشرق على اليونان وتشكيل حضارتها، تسمية: (فترة الاستشراق: Orientalizing period)(6). بفضلها تمكنت اليونان من احداث قفزة جديدة في التفكير البشري بابتكار: (التفكير المنطقي: الفلسفة والتجريد). علما ان جذوره الاولى تعود الى(ابتكار الابجدية) من قبل الشاميين (قبل الالف السابق لليملاد) من خلال تطوير الكتابتين الصوريتين المصرية والعراقية. من هذه الابجدية الكنعانية الفينقية (والآرامية) المنطقية جدا، تشكلت الابجدية اليونانية ثم اللاتينية وعموم الابجديات الحالية في اوربا والعالم.(7) ولازال الاوربيون تستخدم اسمها الفينقي (الف باء: الفا بيتا: ـ Alphabet). كذلك عبدو اله الذكورة الفينقي: (ادونيس: ادون: Adonis : الدائن: السيد). وهنالك العدد الكبير من العلماء اليونان من اصول فينقية، من ابرزهم: (طاليس: Thales of Miletus) و(فيثاغورس:Pythagore) و(وزينون: Xenon) و(ديوجانس البابلي: Diogenes of Babylon). كذلك وجود هذا الكم الكبير من المفرادات اليونانية واللاتينية من اصول فينقية.(8)

وكانت (مصر) قبلة المفكرين اليونان حيث زرارها وتعلم فيها(افلاطون وفيثاغورس، والعديد غيرهم)، وليس صدفة ان (ايزيز: Isis) الهة الانوثة المصرية اصبحت مقدسة لدى اليونان والرومان. ومن المعارف الشرقية المعروفة التي نقلها الاوربيون: نظام الابراج والتنجيم البابلي السائد حتى الآن، ونظام التقويم المصري..

4ـ ابداع (الروحانية الفلسفية) في (الشام: انطاكيا) و(مصر: الاسكندرية): لقد ازداد التأثير الشرقي بعد احتلال اليونان للعراق والشام ومصر في القرن الثالث ق.م، حيث حصل جمع مباشر وبشري بين (الثقافة اليونانية والثقافة الشرقية) والتي اطلق عليها المؤرخون الاوربيون، في العصر الحديث، ولأسباب عنصرية، تسمية (ثقافة العصر الهلنستي:Hellenistic period)(9)، بينما هي تستحق بكل بساطة تسمية: (الثقافة الشرقية المكتوبة باليونانية) لانها انجزت خصوصا في (الشام ومصر) وغالبية مبدعيها منهما وان كتبوا باليونانية، وكانت (الاسكندرية: الجامعة والمكتبة) معقل هذه الثقافة اليونانية الشرقية.(10) خلال هذه الحقبة، امتزج (المنطق اليوناني) مع(روحانية الشرق) لينتج نوعا من (الروحانية الفلسفية) شاعت عنها حينها تسميات عديدة اشهرها: (الغنوصية: Gnosticism: العرفانية). ان هذا (التيار الفلسفي الروحاني) توزع الى جماعات مختلفة شرقية تحت مسميات مختلفة مثل: (الرواقية، الفلاطونية المحدثة، الهرمسية، الاسينية،)، حتى بلغت ذروتها في ظهور(المسيحية الشامية)(11) و(المانوية العراقية)(12). ثم في الحقبة العربية الاسلامية، اصبحت هي الفلسفة السائدة، حيث ترجمت غالبية كتبها الى العربية ومال اليها غالبية الفلاسفة من الكندي حتى الغزالي، وبرز حضورها خصوصا في (تيار التصوف والاشراق والمعتزلة واخوان الصفا.. الخ).(13)

5ـ انتقال اليهودية والمسيحية الى اوربا: بعد احتلال الاسكندر للعراق والشام ومصر، وتكوين امبراطورية يونانية عالمية، بدء انتقال(اليهود) الى ضفاف البحر المتوسط بين مصر واليونان. ثم مع الاحتلال الروماني في القرن الاول الميلادي لعموم البحر المتوسط وتحويلة الى (بحيرة رومانية)، تمكنت المسيحية من الانتشار في جميع ضفاف البحر المتوسط الشرقية والاوربية، حتى اصبحت في القرن الرابع م الديانة الرسمية لجميع الاوربيين، بالاضافة الى جميع الشرقيين. علما بأن هذه المسيحية ظلت حتى مجيئ الاسلام تقدم شخصيات مقدسة كبرى للمسيحية الاوربية، يكفي القول بأن ستة من البابوات يطلق عليهم(البابوات السوريون: Syrian popes) ، كذلك لعبت(الاسكندرية) دورا اساسيا في صنع اللاهوت المسيحي.(14) . ولا ننسى ان شمال افريقيا قدمت فلاسفة مسيحيين كبار(من اصول فينقية)، امثال: (القديس اوغسطين "الجزائري": Augustine of Hippo) و(اريوس "الليبي": Arius). مع ما لايحصى من الكلمات والمسميات السامية المستخدمة في المسيحية، مثل: (المسيح: الممسوح: Messiah) و(هلولويا: هلّ ايل: alléluia) مع غالبية الاسماء المقدسة: (سمعان: سميع: سيمون)، (متي: معطي: ماتيو)، (عيسى: عياش: جيزو)، (يوحنا: حنون: يوهان، جون، جان، ايفان..).. الخ..

6ـ انتقال الحضارة العربية الاسلامية الى اوربا: كما اسهمت (الحضارة الشرقية) في خلق (الحضارة اليونانية ـ الرومانية)، التي بدورها اسهمت في خلق (الحضارة العربية الاسلامية)، التي ايضا بدورها اسهمت في خلق (النهضة الاوربية) ثم (الحضارة الغربية الحالية). وقد انتقلت الى اوربا عن طريق الاندلس وصقليا العربية، والامارات الصليبية في الشام، وكذلك العلاقات التجارية.(15)

الانجازات الحضارية والثقافية التي قدمتها (اوربا) الى (الضفة الشرقية: العالم العربي):

1ـ تأثير الحضارة اليونانية ـ الرومانية في (العالم الشرقي: العربي): ان (الحضارة اليونانية ومكملتها الرومانية) هي اول حضارة نشأت في اوربا، تقريبا بين القرن الخامس ق.م حتى القرن الثالث م، وسادت اساسا باللغة اليونانية ثم بصورة اقل باللغة اللاتينية. بفضل الاحتلال المباشر للشرق، من قبل اليونان ثم الرومان، حصل تمازج ثقافي حضاري كبير بين شعوب الضفتين. خلاله اكتسب الشرقيون اهم انجاز فكري: (المنطق والفلسفة اليونانية)، بالاضافة الى علوم كثيرة، كان الشرقيون قد اسسوها وطورها قبل الاوربيين خلال الفي عام، مثل: (الفلك والرياضيات والهندسة وفنون النحت والتجميل، الخ..)، لكن الاوربيين اضافوا اليها الكثير من التطويرات التي ساهمت فيما بعد في خلق(الحضارة العربية الاسلامية).

2ـ التاثير(ايجابا وسلبا) للحضارة الغربية على العالم العربي: في مختلف المجالات الثقافية والتقنية والعلمية.. الخ.. وقد بدأ الانتقال البطيئ للحضارة الغربية حوالي 1700 م ، مع اصلاحات السلطان العثماني(سليم الثالث)، وتركزت اولا على الصناعات الحربية وطباعة الكتب العربية. وكانت حملة نابليون لاستعمار مصر(1798-1801م)، البداية الحقيقية لانتقال انجازات الغرب مع الجيوش الاستعمارية.

***

العلاقات السياسية الاحتلالية

اولا: احتلالات الشرق لاوربا:

ان الشرق، عكس اوربا، طيلة تاريخه لم يكن متحمسا ولا محتاجا لأحتلال (الضفة الاوربية)، وذلك لاسباب جغرافية عديدة، منها: ان الارتباط الجغرافي المباشر للشرق مع آسيا وافريقيا، يضعف حاجته الاقتصادية والاستراتيجية للضفة الغربية. ثم هنالك السبب التضاريسي والمناخي الذي يجعل من الصعوبة جدا على الشرقيين احتلال اوربا: شدة البرد والامطار والثلوج وكثرة الغابات والتضاريس الجبلية الصخرية الصعبة، بالاضافة الى شدة سكان اوربا وقواهم البدنية والحربية بسبب المناخ البارد والصعب الذي لا يسمح بالبقاء احياء سوى الاشداء. لهذا اكتفى الشرقيون طيلة التاريخ بالعلاقات التجارية والسكانية السلمية. وقد اشتهر (الفينقيون: الكنعانيون) من الشام وشمال افريقيا(قرطاجة) الذين انتشرت قواعدهم التجارية في غالبية الضفاف والجزر الاوربية، وهذا يفسر انتشار الجينات (الفينقية: J و Eالسامية الحامية) بين سكان اوربا. وقد دام هذا النشاط لحوالي الف عام، حتى تم قمعهم وتدمير مركزهم(قرطاجة) من قبل الرومان في القرن الثالث ق.م. لكن الاحتلال الاول والحقيقي لاوربا من قبل اهل الشرق، تمثل بالفتح العربي الاسلامي للأندلس الذي دام عدة قرون حتى سقوط(غرناطة: 1492). وكذلك سيطر العرب على(جزيرة صقليا) حتى عام 1060 حيث سيطر عليها النورمنديون.

ثانيا: احتلالات اوربا لـ(العالم الشرقي: العربي):

كما وضحنا، فأن جغرافية (اوربا) التي جعلتها مجاورة فقط لـ(العالم الشرقي)، ومن خلاله وحده يمكنها الاتصال التجاري بآسيا وافريقيا، اضطرها طيلة التاريخ الى احتلال (الضفة الشرقية للبحر المتوسط). لهذا فأن هذه الاحتلالات الاوربية للشرق كانت اطول زمنيا باضعاف الاضعاف وتجاوزت الالف عام، وشملت جميع الضفة الشرقية من العراق والشام ومصر حتى ليبيا وتونس والجزائر والمغرب وموريتانيا. بل في العصور الحديثة شملت العالم العربي كله. وهذه جردة تذكيرية سريعة:

1ـ الاحتلال اليوناني: بين القرن الرابع ق.م حتى الاحتلال الروماني حوالي القرن الاول م: وقد شمل خصوصا العراق والشام ومصر، حيث تقاسمتهما سلالتان يونانيتان: السلوقية والبطلمية.

2ـ الاحتلال الروماني: بين القرن الثالث ق.م حتى القرن الرابع م: حيث استبدلت بها(الامبراطورية البيزنطية). علما بأن هنالك العديد من الكنعانيون الفينقيون قد اصبحو اباطرة في روما. ان مؤسس هذه السلالة الفينقية هو: (سيبتيموس سيفيروس: الفينقي الليبي) ثم ابنيه (كركلا، وغيتا) و(ماكرينوس: الجزائر) و(إيل جبل: سوريا) و(سيفيروس ألكسندر: لبنان) و(فيليب العربي: سوريا).(16)

3ـ الاحتلال البيزنطي، حوالي 400 م وحتى الفتح العربي الاسلامي : يتوجب توضيح مسألة مهمة: ان (الدولة البيزنطية)، من الناحية الجغرافية المكانية هي نفسها تماما (الدولة العثمانية) التي مركزها في (الاناضول: تركيا الحالية) وعاصمتها هي نفسها(اسطنبول العثمانية) والتي كانت تحمل اسم (القسطنطينية: Constantinop). لحالة استثنائية ولاسباب (دينية وثقافية)، فأنه يصح احتساب (الدولة البيزنطية: المسيحية اليونانية) على (اوربا)، واحتساب (الدولة العثمانية: المسلمة التركية) على آسيا والشرق.

4ـ الاحتلال الصليبي: 1096 - 1291م: لقد تركزت الحملات الصليبية على بلاد الشام بحجة تحرير (القدس وقبر المسيح)، حيث تشكلت خلالها اربعة امارات صليبية استمرت قرنين، في (الرها وانطاكيا وطرابلس والقدس).

5ـ تغيير الجغرافية، والاحتلالات في العصر الحديث:

حتى نهايات 1400م وحركة الكشوفات البحرية عن طريق(المحيط الاطلسي) واكتشاف امريكا واستراليا، وبلوغ الهند، كان (البحر المتوسط) هو الوسيط الوحيد لتواصل (اوربا) مع آسيا وافريقيا. وهذا يعني ان (الضفة الشرقية: العربية حاليا) بقسميها الافريقي وألآسيوي، كانت الجار الوحيد والمجال الحيوي المحتم الذي يتوجب التعامل معه سلما او احتلالا، كي تعيش اوربا وتتواصل اقتصاديا وبشريا وحضاريا مع باقي العالم. لكن بعد الكشوفات البحرية، ضعفت اهمية البحر المتوسط، وهبطت ايطاليا، وظهرت قوى اوربية استعمارية جديدة، كلها تقع على الاطلسي: البرتغال واسبانيا وفرنسا وبلجيكا وهولندا وبريطانيا. ثم تشكل عالم جديد هو (العالم الغربي) الذي يجمع اوربا الغربية وامريكا الشمالية واستراليا. اثنائها بدأ (عصر النهضة الاوربية) وهي الحقبة التي ادت الى نهاية الاندلس وسقوط غرناطةعام (1492). وبدأت الحملات الاستعمارية نحو (العالم العربي)، وبدأت باحتلال البرتغاليين لثغر سبتة المغربي عام 1413. وقد تمكن(المغاربة) من تحقيق اول واكبر انتصار ضد الاوربيين في العصر الحديث: (معركة وادي المخازن: 1578) التي انهزم فيها الجيش البرتغالي وقّتل فيها ملكهم مع حاشيته.

منذ اعوام 1500 توسعت هذه الاحتلالات الغربية من شواطئ الاطلسي المغربية حتى البحر الاحمر والخليج العربي. وكان حملة نابليون على مصر(1798) اكبر هذه الخطوات الاستعمارية. ثم الاحتلال الفرنسي للجزائر(1830). وبلغ الاجتياح الاستعماري الاوربي للعالم العربي ذروته مع الحرب العالمية الاولى ونهاية الدولة العثمانية، بالاحتلال الفرنسي البريطاني لبلدان الشام والعراق. ولا زالت (اسرائيل) دليلا مستمرا على هذا الاستعمار الغربي. وفي الحقبة الاخيرة ونهاية المعسكر السوفيتي، حصل الهجوم(الديمقراطي التقدمي؟!) الغربي بعمليات اشعال الحروب الاهلية للانتقام من الدول التي عارضت السياسة الاستعمارية: الجزائر والعراق واليمن وليبيا وسوريا..

***

سليم مطر

......................

لمطالعة دراستنا هذه مع الصور والخرائط والمصادر العربية والاجنبية، في موقعنا الشخصي:

www.salim.mesopot.com/hide-feker/160

المصادر:

ملاحظة تذكيرية: لقد تعودنا في بحوثنا، الاستفادة من الامكانيات المعلوماتية المتوفرة رقميا، ذكر المصادر المتوفرة رقميا، كي يسهل على القاريء مطالعتها بسهولة، بدلا من المصادر الموجودة في كتب ورقية صعب جدا العثور عليها.

(1) ـ لمعرفة النسبة التقريبية لهذه الجينات المشتركة بين(العالم العربي واوربا)، طالع:

List of Y-chromosome haplogroups in populations of the worldـ

- Haplogroupes chromosome Y par populations

(2) ـ من غرائب التاريخ، ان اسم اوربا: Europe: نفس اصل تسمية (عرب: غرب: Ereb) بمعنى (اهل الغرب، وقد اطلقها الآشوريون على بدو البادية الغربية " بادية الشام والعراق".

جميع المصادر تتفق على الاصل الفينقي لاسم اوربا. ابحث في العربي: (اسطورة اسم اوربا)، بالانكليزي(Myth of Europa)

كذلك ابحث عن(Europa) في الموقع الانكليزي العالمي الخاص باصل الكلمات: Online Etymology Dictionary). وتقول موسوعة ويكيبيديا بالانكليزية(Europe): يربط اسم (أوروبا) بأصل سامي بمعني"الغرب"، وهذا من الكلمة الأكادية erebu معنى "أن يذهب إلى أسفل، ومجموعة" (قال من الشمس) أو الفينيقية "ereb " (غروب) وهي أصل (المغرب) وبالعبرية (معرب). وجد (Michael A. Barry) ذكر ان كلمة Ereb توجد على لوحة آشورية بمعنى " غروب: مساء" ، على عكس Asu "شروق" ، أي آسيا Asia.

(3) ـ في السنوات الاخيرة هنالك محاولات فاشلة(معادية للعرب)، لاعطاء (اصل هندواوربي: يوناني) لاسم(اوربا) وتقسيمه الى مقطعين، ويعني: (الوجه العريض)، لكن غالبية الباحثين لا يعترفون بها الاصل بسبب لا منطقيته.

(4)ـ عن الاصل الاكدي الفينقي لاسم (آسيا)، طالع مثلا ويكيبديا الانكليزية:

(List of continent name etymologies):

It could derive from the borrowed Semitic root "Asu", which means varyingly "rising" or "light", of course a directional referring to the sunrise, Asia thus meaning 'Eastern Land'.

ـ والفرنسية(Asie) تقول نفس الكلام:

La première mention connue du mot proviendrait d'une stèle assyrienne qui distingue les rivages de la mer Égée par deux mots phéniciens : Ereb, le « couchant », et Assou, le « levant ».

(5) ـ ابحث بالعربي والاجنبي، عن: (العصر الحجري الحديث: Neolithic)

(6) ـ ابحث بالعربي والاجنبي عن: فترة الاستشراق: Orientalizing period

ـ من ابرز مؤسسي التيار الروحاني(الميتافيزيقي) في الفلسفة اليونانية : افلاطون وفيثاغورس، قد زارا وتعلما في مصر.

(7) ـ ابحث بالعربي والاجنبي عن : تلاقح حضاري: الفينيقيون سعاة بريد حضارات ما حول المتوسط/ ـ تلاقح حضاري: أثينا بنت الشرق وأوروبا أميرة شرقية/ فرج العشة/ ـ تاريخ الابجدية/ كذلك دراسة جيدة: تراث الشرق في حضارة اليونان: عادل زيتون

(8) ـ طالع: بين اللغة العربية و لغة الإغريق : محمد رشيد ناصر ذوق

ـ List of English words of Semitic originـ

Semitic Loanwords in Greekـ

Are there well-assimilated Latin words from Semiticـ

(9) ـ ابحث عن:(العصر الهلنستي :Hellenistic period)/ ان مصطلح (هلنستية) استحدث في القرن التاسع عشر من قبل المؤرخ الالماني (يوهان جوستاف دريزن: Johann Gustav Droysen).

(10) ـ من أشهر العلماء فى جامعة الإسكندرية " إقليدس" عالم الهندسة، و" بطليموس" الجغرافى و" مانيتون" المؤرخ المصرى و"هيباتيا الاسكندرية" والرياضي الفلكي "إراتوستينس" والفيلسوف "فيلون السكندري" ..الخ..

ابحث عن: Hellenistic Greece - Wikipedia

(11) ـ من اكبر رموز هذه (الروحانية الفلسفية)،(افلوطين المصري الصعيدي الاسكندري: Plotinus: 205 - 270 م)

ـ لقد تجلت(الروحانية الفلسفية) في (المسيحية) خصوصا في (رسائل القديس بولص)

(12)ـ المانوية: ديانة روحانية عراقية مؤسسها(ماني البابلي: القرن الميلادي الثالث) الذي قال عن العرب: «نبي الله الذي أتى من بابل» الذي صلبه الملك الايراني بهرام، بسبب تضايق الكهنة المجوس.

(13) ـ ابحث عن: (أفلاطونية محدثة: Neoplatonis)

(14) ـ طالع مثلا : مدرسة الإسكندرية المسيحية

ـ عن سيطرة المسيحية على اوربا، وعن حضورها الغالب بين شعوب(شرق المتوسط: العالم العربي) حتى الفتح ، طالع دراستنا:

ـ نحو رؤية جديدة لتاريخ الاديان: مثال المسيحية والاسلام../ سليم مطر

(15) ـ ابحث عن: (أثر الحضارة العربية في النهضة الأوروبية). كذلك:(التأثير الإسلامي على أوروبا في العصور الوسطى: Islamic world contributions to Medieval Europe)

(16) ـ ابحث عن موضوع: قصص الأباطرة العرب الذين حكموا روماقصص الأباطرة العرب الذين حكموا روما

الأختلاف الواسع والأفتراضات المتعددة بين العلماء والباحثين حول أصل الأكراد وأسلافهم، والمواطن التي استوطنوها بعد انتشارهم من مهدهم، إلاّ إننا نستطيع أن نقول بصورة عامة، أن الأكراد والجبال لا يفترقات، كلما بدأت السهول يترك الأكراد الأرض للعرب، وحوالي بحيرة وان للأرمن، هذا ما يؤكده العالم الآثاري مينورسكي، أما كردستان فهي قديمة قِدم الزمان.

كانت لي الرغبة منذُ أكثر من عشرة سنوات بالبحث في هذا المجال، فبدأت بتوفير المصادر للبحث والتحليل للوصول إلى قناعة تامة ورأي قاطع بصدد هذا الموضوع، وقد اطلعت على رأي الباحثين والمستشرقين امثال: جليلي جليل ومحمد أمين زكي والدكتور شاكر خصباك والدكتور عبد الرحمن قاسملو والاستاذ جلال الطالباني والدكتور كمال مظهر أحمد والمقدم السوري منذ الموصلي والدكتور جمال رشيد أحمد والدكتور فوزي رشيد والأستاذ حمه رشيد، والروسي الأصل ق. ف. مينورسكي، وباسيل نيكيتين، م.س لازاريف، ن،أ خالفين، مايكل إم غينتر، مارتن فان بروينسن، كيو موكرياني، كريس كوجيرا، سي جي. ادموندز، ستيف لونكريك، ديفيد ادامسن.

إن أكثر المعلومات القيِّمة عن الكُرد موجودة بشكل رئيسي في المؤلفات المكتوبة باللغة العربية خلال الفترة الممتدة ما بين القرنين التاسع والخامس عشر الميلاديين. ومن المعروف أن اللغة العربية في الفترة ما بين القرنين الثامن والتاسع خرجت عن كونها لغة البلاط وأصبحت بشكل رئيسي اللغة الرسمية للعالم الإسلامي.

كلما راجعت تاريخ الشعب الكُردي واطلعت على ما حملهُ من هموم واضطهاد، اشتدت بيّ الحاجة للبحث أكثر في هذا المجال. فالشعب الكُردي تعرض للنزعة الشوفينية القومية على مدار تعاقب الحكومات، وعلى مر الأزمان، لذلك تعرضت حركة التحرر الكُردية لأضطهاد وتهجير دائم، حتى وصل الأمر بحكومة البعث إلى استخدام السلاح الكيمياوي الفتاك وضرب المدن والقرى الكُردي، وخاصة مدينة حلبجة، حيث قتل خمسة آلاف من سكانها، ثم ابتدعت حكومة البعث اسلوباً قذراً آخر بمطاردة المدنيين الكُرد والتي اطلقت عليه عمليات (الأنفال)، فكان لقوات الجيش والمرتزقة المسلحين من الخونة ما يسمى (الجاش) بمحاربة ابناء الشعب الكُردي في المناطق والقرى، فضلاً عن تخريب حوالي (4500) قرية ومدينة كُردية، فقبضت على الرجال والنساء والأطفال بأكثر من مائة ألف، لتقتلهم بأساليب بشعة، وكذلك صور المقابر الجماعية شاهدة على إجرام النظام السابق، من خلال دفنهم في خنادق وهم أحياء، وأرض صحراء السماوة شاهدة على ذلك، كل هذه الأعمال الوحشية والعالم صامت وساكت دون استنكار، فضلاً عن قيام نظام البعث بتعريب المناطق الكُردية من خلال اسكان العرب واجلاء أهل الأرض الأصلاء الكُرد، وخاصة في مدينة كركوك وخانقين وسهولهما.

يقول الجنرال (بيير روندوث Rondot) في كتابه (كُردستان قلعة منسية): "في قلب آسيا القديمة وفي سالف الزمن، تقف قلعة كبيرة حيث ينتظر ملايين الرجال الأشداء إشارة من القدر، ولكن تلك القلعة ليست بين حساباتنا، فلم تكن كردستان دولة... كما أن اسمها لا يوجد في معظم أطالِسِنا، بل وتخترقه الحدود وحيث نسينا أصوله ووحدته النفسية، بل ووجوده حتى... وها هي أربعة قرون قد مضت حيث كوزنوفون عن قيمة الكاردوك Karduques أجداد الأكراد الحاليين".

لقد نال الظلم وأنواع مظاهر الجور الشعب الكُردي، وهو الشعب الذي يمتلك تأريخاً مشرقاً ومكتوباً بالدم، وكانوا عرضة للتشنيع والسَب والقدح على مر الحكومات السابقة، ولذلك كانت الحركة الوطنية الكُردية اسباباً لوجودها، وتستند قوميتهم على حق جميع الشعوب وكل الأمم في تقرير مصيرها، والتحكم في مواردها الخاصة، كما أقرت ذلك الأمم المتحدة في قرارها الصادر في السادس من ديسمبر 1952م. فالمجتمع الكردي المعاصر اليوم يختلف كلياً عما كان عليه الوضع قبل خمسين عاماً خَلت.

ويرى الدكتور كاظم حبيب حول الموقف من المسألة الكُردية قد "نشأ مع نشوء الدولة العراقية، هذا النشوء غير الديمقراطي والتربية العثمانية الاستبدادية والرؤية القومية والدينية المتعصبة والقاسية والعنيفة في آن واحد.. وأزداد في الطين بلّة موقف سلطات الاحتلال البريطانية الاستبدادي والاستعمار الاستغلالي من القضية الكُردية، وسعي هذه السلطات إلى تهميش دور الكُرد في المنطقة ومنع إقامة دولتهم الوطنية المستقلة على أرض كُردستان، والإصرار على تجزئتها.. وهذا يعني أن النُظم السياسية التي وجدت في العراق كانت كلها تسير على خط واحد إزاء المسألة الكُردية، إذ بَرز بعض التباين عند النُظم المختلفة، ولكن الموقف الجوهري من حقوق الشعب الكُردي ومن حقه في تقرير مصيره.

علماً أن الآراء حول أَصْل الأكراد، ونشأتهم لم تتوحَّد، وكذلك في بداية ظُهورهم في كُردستان؛ فقد ظهرت العديد من الفرضيّات، والدراسات حول أَصْل الكُرْد، وتاريخهم القديم، عِلماً بأنَّ بعض هذه الدراسات استدلَّت على أَصْل الكُرْد من خلال رَبْط الخصائص القوميّة للشعب الكُرديّ، كتَسمِيَة "كُرْد" التي كان لها مفاهيم ومعانٍ مُختلِفة عمَّا هي عليه اليوم، أو من خلال استكشاف التأثيرات الحضاريّة التي ظهرت في الحياة اللُّغويّة، والدينيّة، والثقافيّة لمُختلَف شُعوب الشرق الأدنى القديم، أو من خلال تحليل حوادث التاريخ القديم للأكراد، ودراستها، مُنذ العُصور القديمة، وحتى العَصْر الحالي وبمفهوم الكُرْد بصيغته القَوميّة الحاليّة، وبالنظر إلى المُعطَيات التاريخيّة، واللُّغوية، فإنَّ تصنيف الكُرد يعود إلى ما هو ضِمن الشُّعوب الإيرانيّة، إلّا أنَّ هذا لا يعني ثَبات أَصْل الأكراد بأنَّهم من إيران؛ فقد يكون عُنصر الكُرد قد امتدَّ من منطقة غرب بلاد فارس (إيران) إلى أواسِط كُردستان، أو قد تكون هناك قَوميّة أُخرى ذات تَسمِيَة مُشابِهة للكُرد، ولكن من أَصْلٍ مُختلِف ظهرت قَبل مَجيء الكُرد من إيران، واندمجت معهم، ومن الجدير بالذكر أنَّ كُلَّ ذلك كان دافعاً لظهور آراء، واعتقادات عِدَّة حول أَصْل الأكراد.

وحول أصل الأكراد يَعتقد مُعظمهم أنَّ نَسبهم وأُصولهم تعود إلى الكوتيّين الذين عاصروا السُّومريّين، وسكنوا مَدينة (بَابِل) الواقعة في العراق، واستطاعوا السيطرة عليها في عام 2649 ق.م، إلّا أنَّه مع مُرور الوقت سَقَط حُكمُهم، وتراجعوا إلى الجِبال، واستقرُّوا فيها، وأنشأوا نظاماً داخليّاً خاصّاً بهم، ويَعتقد الكُرديّ (مُحمَّد أمين زكي) أنَّ الأكراد القُدَماء هم من الشُّعوب القوقازيّة، إلّا أنَّهم تحوَّلوا إلى آريّين، واقتبسوا اللُّغة الميديّة الآريّة؛ وذلك بسبب اختلاطهم مع الأكراد الجُدُد (الميديّين)، ويَذكُر المُؤرِّخ الكُرديّ (محمود بايزيدي) أنَّ أَصْل الأكراد يعود إلى العرب، حيث يَرى أنَّ الأقوام الكُرديّة تعود في الأصل إلى القبائل البَدَويّة، وأنَّهم تحدَّثوا لُغتَهم (اللُّغة العربيّة)، ومع مُرور الوقت انفصل جُزءٌ من الأكراد عن البَدو، واستقرُّوا في مَناطِقهم الحاليّة.

أما رأي المُستشرقين فهناك بعض الفرضيّات المُتضارِبة التي تتَّفق فيما بينها ببعض النقاط، إلّا أنَّها تختلف في كثيرٍ من مَضامينها حول تحديد أَصْل الأكراد، ومن أهمّ هذه الفرضيّات: نظريّة مينورسكي: وهي نظريّة وَضَعها السيّد مينورسكي، وأكَّد فيها أنَّ أَصْل الأكراد يعود إلى الفُرس؛ أي الأَصْل (الهندو-أوروبّي)، وقد صنَّفهم مع الشعب الإيرانيّ، كما أنَّه اعتقد أنَّ الأكراد انتقلوا في القرن السابع عشر من منطقة (بُحيرة أرومية) إلى جزيرة (ابن عمر)، إلّا أنَّ مينورسكي في فرضيّته هذه لم يأخذ بالحُسبان أَصْل السُّلالات المُعقَّدة التي لم تختلط بالأكراد. أما فرضيّة السوفيتي مار: والتي تَنصُّ على أنَّ الأكراد الأصليّين لهم طبائع مُشابهة لطبائع الأقوام الآسيويّة الأُخرى، مثل: قبائل الأرمن، والكلدانيّين، والقوقازيّين. وتجدُر الإشارة إلى أنَّ أَحد المُؤرِّخين المُستشرقين يرى أنَّ الأكراد هم في الأصل أحفاد الخالديّين الإيرانيّين من سُكّان الجِبال، وقد اشتهروا بشِدَّتهم، وقُوَّتهم. في حين يَرى البروفيسور (لهمان هوبيت) أنَّ الأكراد هم أجداد الجورجيّين، وهناك من يُرجِّح أنَّ أصل الأكراد يعود إلى الميدويستي، عِلماً بأنَّ البعض يعتقد أنَّهم يعودون إلى سُلالة الكاردوخيّين.

أما الدكتور حسين قاسم العزيز فيعتقد أن الأكراد هم من أصول السومريين، وقد هاجر بعضهم إلى بلاد الرافدين وأسسوا الحضارة السومرية فيها. أما رأي عُلَماء الأجناس والتاريخ يعتقد بعض عُلَماء الأنثروبولوجيا أنَّ الأكراد هم الجماعات البشريّة التي زَحفت إلى مناطق وَسَط آسيا ذاتها، وهي الأقوام (الهندو-آريّة)، وقد استدلُّوا على ذلك من خلال مُلاحَظة الصِّفات الخَلقيّة للأكراد الحاليّين؛ حيث إنَّهم يتَّصفون بطول القامة، وطول الرأس، وقِلَّة استدارته، بالإضافة إلى مُشابهة لون بشرتهم، وعيونهم، وشعرهم للصفات ذاتها لدى تلك الجماعات، ويرى الجغرافيّ (سترابو) أنَّ بِلاد الكُرد تَقَع في أرض فارس، وميديا، كما تُشير اللوائِح الطينيّة التي وُضِعت في عام 2000 ق.م إلى أنَّ الكُرد هم أقدم المُجتمعات الأرستقراطيّة في العالَم، كما يرى المُؤرِّخ الإغريقيّ (هيرودوت) أنَّ الشعب الكُرديّ ينحدر في الأصل من سُلالة الكروديوني، والعِرْق الآريّ.

فضلاً عن إن ما هو لافت للنظر أسماء بعض الأماكن التي ورد ذكرها مراراً في المصادر العربية، لكن تحت تسميات مختلفة نسبياً. فجبال منطقة كوردوك، نجدها قد وردت بعدة أشكال مثل (قردى) أو (قرد) أو (بقردى)، إن هذه التسميات المتعددة لذلك المكان المذكور هي التي شدت انتباه الباحثين في الدراسات الكُردية في سياق بحثهم لتحديد أصل نشأة العرق الكُردي. وقد أشار الجغرافي ابن رسته إلى أن أول المواقع التي شيدها نوع وأبناؤه هو (قرية بقردى) وتسمى (سوق الثمانين).

ومما تجدر بالاشارة هو أن الأموريين حاولوا الاستيطان في مناطق كركوك وأربيل وعَبرَ قسم منهم نهر دجلة، لكن الملك (ادي سين) ملك (سيمورروم) المتاخمة لكركوك، وكان قسم من كردستان الجنوبية تحت حكمه قاتلهم وهزمهم وأسرَ خمسة من رؤسائهم وردهم على أعقابهم، وذلك منذ حوالي أربعة آلاف سنة. خلد الملك (ادي سين) انتصاره المنسي هذا على لوحة حجرية عثرت عليها اسرة مام ناصر في مزرعتها بقرية (قه ره چه تان) الواقعة في شمال غرب السليمانية بقرب جبل پيره مه گرون وذلك سنة 1984م.

أما اللهجات الكردية الحالية فتنقسم إلى أربع لهجات رئيسية هي: الكرمانجية والجوزانية والكلهرية والسورانية. كما توجد لهجة الزازا ما بين ديار بكر وأذربيجان. فاللهجة الكرمانجية يستعملها أكثر من 50% من الأكراد وتستعمل في الكتابة والتعليم خاصة في المنطقة الكردية الشمالية في العراق، كما يتكلم بها معظم الأكراد في تركيا وسوريا والاتحاد السوفياتي. وأمّا في المنطقة الجنوبية من كردستان العراق فتوجد بها قسمان من اللهجات:

أ– القسم الموكري: أي لهجة قبائل الموكري وسوران.

ب– القسم السليماني: أي قسم السليمانية وأردلان ويلاحظ أن اللهجات الكردية جميعاً مقسّمة جغرافياً.

وتعتبر لهجة موكربان التي هي أساس اللهجات المحلية التي يتكلم بها أكراد مناطق موكربان وسنه وسقز والسليمانية وأربيل وكركوك أنقى اللهجات الكردية وهي اللهجة الأكثر تطوراً في منطقة السليمانية حيث هي غنية باشتقاقات ومصطلحات جديدة خاصة خلال الخمسين عاماً المنصرمة وبها تكتب الكتب والقصص والمجلات. فلهجة سليماني تمّ الإجماع على أنها التعبير الأدبي الأول لا في العراق وحده، بل في الجهة الأخرى من الحدود الإيرانية. وربما عزى جانب من هذا التفوق اللغوي إلى الرعاية التي بسطها أمراء بابان على الأدب الكردي في النصف الأول من القرن التاسع عشر كما يعزى بعضه إلى إنشاء الأتراك مدرسة عسكرية في السليمانية يرسل خريجوها إلى كليتي الأركان والحربية في إسطنبول، فوصلت الثقافة إلى مستوى لم يبلغ شأوه مجتمع كردي آخر. والأكثر من هذا أن اللغة الكردية اعتبرت سنة 1918م ولأول مرة في السليمانية مصدراً لتخريج عدد كبير من موظفي الأقاليم الكردية ومنذ العام 1925م؛ بدأت مطابع السليمانية وأربيل وراوندوز، فضلاً عن مطابع بغداد تصدر صحفاً ومجلات أسبوعية وشهرية مستمرة بأعداد كبيرة جداً. وطبعت أيضاً دواوين شعرية قديمها وحديثها وكتب تاريخية ودينية وسياسية.

ومن خلال ما ذكرت سابقاً من معلومات، والتي أوردناها في هذه الدراسة، فإن قضية الأمة الكُردية تتعلق بحقيقة اساسية هي أن شمال وادي الرافدين ومرتفعات جبال زا گروس (سوبارتو) هي المهد الذي نشأت فيه، وإن كنية ولغة ودين الكُرد، وعُرف وعاداته توفرت نتيجة امتزاج دم وثقافة السكان المحليين القدماء كالكوتيين والخوريين والكاشيين مع دم وثقافة المهاجرين من الهنود الآريين الذين سادوا على هؤلاء سياسياً في البداية. وهكذا فالكُرد المعاصرون ما هم إلا حصيلة الأحداث التأريخية التي شهدتها بلاد سوبارتو عِبرَ التأريخ.

وإذا كانت كُنية (كوردا) هي أقدم صيغة خورية للتسمية القومية الكردية، فإن اللغة الكُردية المعاصرة ظهرت وتكاملت في إطار هندي-إيراني، بينما سادت التأثيرات الدينية السامية من خلال البابليين والآشوريين واليهود والمسيحيين والمسلمين على البنية الذهنية لأغلب شرائح المجتمع الكُردي. وبمرور الزمن، وبعد أن أدى حلف القبائل الذي صاحبه تعزيز الصلات الاقتصادية والثقافية بين أفرادها، امتزجت بطون القبائل المهاجرة مع أُسر السكان المحليين تدريجياً، واستبدلت الروابط الدموية بينهم بروابط اقليمية حيث ظهر على إثر هذه الظاهرة شكل جديد للتجمع في شمال وادي الرافدين عُرف بـ(الكُرد) توفرت اساسه من وحدة الاقتصاد والسوق والإقليم واللغة والحضارة المشتركة.

وقد ألتزمنا في دراستنا هذه بمبدأ النهج العلمي مع مناقشة كل الآراء المطروحة حول المواضيع التي نحن بصددها، وابتعدنا بقدر ما يسمح لنا هذا النهج عن العواطف والأحاسيس القومية والدينية التي تسود أوساط الكُرد. وعلى كل حال فإن المواضيع التي ستطرح في هذا الكتاب تتعلق بنشأة الشروط القومية الكُردية في مرتفعات جبال زا گروس وكُردستان التي شهدت أحداثاً تأريخية معقدة لا يمكن الالتزام بجانب واحد منها. وبناءً على الحقائق فإن القاعدة التي نمت عليها القومية الكُردية في التأريخ لم تكن في موطن الآريين بجنوب روسيا أو في إيران أو في أواسط آسيا وإنما في مرتفعات جبال زاگروس وطوروس وسهول سوبارتو بشمال وادي الرافدين، ففي الوقت الذي بدأت القبائل الميدية تستقر في مرتفعات جبال زاگروس وشمال وادي الرافدين سائدة لهجتها على السكان المحليين لهذه البلاد خلال القرن السابع وخاصة بعد انهيار الإمبراطورية الآشورية عام 612 ق.م كانت هناك عدد من مقومات الأمة الكُردية متجسدة في هذه المقاطعات منذ أمد بعيد ومنها:

أ‌- وجود الكُنية الطوبوغرافية الحورية القديمة (مات كوردا كي- mat Kurda ki ) أي (أرض بلاد كوردا)، التي كانت تقع حوالي مناطق جغجغه وتل الأسود في حوض نهر خابور (بكردستان الغربية)، كما حددتها لنا السجلات السومرية والأكدية في الألف الثالث قبل الميلاد. وعندما بدأت هذه الكُنية الطوبوغرافية تُعبر قبل العصر الهللنستي عن مفهوم أثني، بدأت تتوسع حدودها، فشملت المقاطعات الوسطى والشمالية من كردستان الحالية، حيث دَوّنَ المؤرخون الكلاسيكيون اسمها بصيغة Cordya, Kordya.

ب‌- استقرار العناصر الآرية (الميتانية) في أرض كوردا منذ الألف الثاني قبل الميلاد وتجسيدهم لقاعدة لغوية ودينية هندية- آرية فيها، وعند حلول انسبائهم من الميديين في أواسط الألف الأول قبل الميلاد في هذه الأرض حدثت عملية أمتزاج بين المجموعتين بشكل طبيعي حيث تطورت لهجتيهما (وهما من نفس الشعبة اللغوية) معاً واصبحتا قاعدة لأولى بوادر اللغة الكُردية.

ت‌- بما أن موطن الزاگروسيين الذي جرت عليه عملية الامتزاج الحضاري بين الهنود الآريين القدماء من الميتانيين مع الميديين فيما بعد، كان يتمتع برقي حضاري منذ قيام الثورة الزراعية في مرتفعاته، فإن ظهور بوادر المجتمع المدني القديم في سهوله كان أمراً طبيعياً، ومُنذ هذا العهد المبكر غدت بلاد كورديا Kordya ومرتفعات جبال زاگروس المهد الذي استكرد فيه أقدم المستوطنين الزاگروسيين من الكوتيين واللولوبيين والحوريين والكاشيين تحت ظل طغيان اللهجات الميتانية والميدية على لغات هؤلاء الأقوام، ونمت في هذا المهد الشروط القومية للكُرد المعاصرين من كُنية ولغة وأرض مشتركة.

***

نبيل عبد الأمير الربيعي

.....................

المصادر:

1- فلاديمير مينورسكي، الأكراد، ترجمة: معروف خزندار، بغداد، 1968، ص15.

2- أرشاك بولادان، حول مسألة أصل الكُرد، دار آراس للطباعة والنشر، أربيل، بالاشتراك مع دار الفارابي، بيروت، ط1، 2013، ص10.

3- بيلياييف ف.ن، المصادر العربية حول تاريخ التركمان وتركمانيا في الفترة ما بين القرنين التاسع والثالث عشر، في كتاب: معلومات حول تاريخ التركمان، المجلد الأول، موسكو- لينينغراد، 1939، ص12.

4- عصمت شريف وانلي، كُردستان العراق هوية وطنية (دراسات في ثورة 1961)، ترجمة: سعاد محمد خضر، السليمانية مطبعة شقان، 2012، ص19. منقول عن كتاب الجنرال بيير روندو، كُردستان قلعة منسية، مركز الدراسات الإدارية العليا الحديثة حول آسيا وأفريقيا.

5- كاظم حبيب، لمحات من نضال حركة التحرر الوطني للشعب الكُردي في كُردستان العراق، منشورات ئاراس، اربيل، ط2، 2005، ص22.

6- سمر فضلاً عبد الحميد محمد، أكراد العراق تحت حكم عبد الكريم قاسم (1958-1963م)، رسالة ماجستير مقدمة إلى جامعة الزقازيق، كلية الآداب- قسم التاريخ، 2010، ص36-47.

7- عمار عباس محمود، القضية الكُردية.. إشكالية بناء الدولة، ص 18-22.

8- حسين قاسم العزيز، دراسات عن بعض الأصول الكُردية، دار آراس للطباعة والنشر، أربيل/ أقليم كردستان العراق، ط1، 2012، ص81-90.

9- أحمد بن أبي يعقوب بن واضح الكاتب اليعقوبي، المجلد السابع، تصنيف أبي علي أحمد بن عمر، ابن رسته، الاعلاق النفيسة (كتاب البلدان)، مدينة ليدن، مطبعة بريا، 1843م ص195.

10- عبد الرقيب يوسف، حدود كردستان الجنوبية تاريخياً وجغرافياً خلال خمسة آلاف عام وما ترتب على الحاقها بالعراق، السليمانية، مطبعة شفان، ط1، 2005، ص62.

11- عايدة العلي سري الدين، الأكراد في العالم تاريخهم ومستقبلهم، ج1، الدار العربية للعلوم، ط1، 2018، ص60-62.

12- جمال رشيد أحمد، ظهور الكورد في التاريخ، ج1، دار ئاراس للطباعة والنشر، اربيل، مطبعة وزارة التربية، ط1، 2003، ص36-37.

تمهيد: الحديث عن الحرب العادلة يعني أيضاً دعم بناء السلام؛ ويعمل الجيش، بشكل يومي، في مجتمعاتنا المفتوحة والديمقراطية، كبناة للسلام، ويمنعون اندلاع العنف ويضمنون، قدر استطاعتهم، حماية السكان. فهل ينبغي لنا أن نؤكد كيف أنه من خلال تقديم الدعم للكيان الصهيوني المحتل للأرض الفلسطينية والمروع للسكان والأطفال والنساء في غزة، ومن خلال منح الجنود المهاجمين الوسائل اللازمة للدفاع عن أنفسهم وعن بنيتهم التحتية التي تعرضت للقصف، تنشأ دائما هذه الرغبة في خدمة وحماية الأضعف؟

فماهي المعايير التي يمكن اعتمادها للتمييز بين الحرب العادلة والحرب الظالمة؟ وكيف يتم لجم الحرب الظالمة وتفاديها واحترام العدل عند الحرب؟ وبأي معنى تعتبر الهجوم الصهيوامبريالي على فلسطين حربا ظالمة؟ والا تجرم من وجهة نظر كونية ارتكاب المجازر والابادة الجماعية بحق سكان غزة؟

الترجمة:

كيف يمكن أن نفهم الأهمية التي يحظى بها موضوع الحرب العادلة في الفكر السياسي المعاصر؟ هذا هو السؤال الذي حفز في البداية البحث الجماعي، والذي نعرض نتائجه هنا. ويهدف هذا المبحث في الواقع إلى التفكير في مفهوم “الحرب العادلة” بأدوات النظرية السياسية. ولتحقيق هذا الهدف، وتقديم المنهج الذي اعتمدناه في هذا العمل، لا بد من العودة أولا إلى ظروف ظهور أو، بشكل أدق، إعادة ظهور موضوع الحرب العادلة في الفترة الأخيرة. وسنقوم بعد ذلك بعرض القضايا النظرية المرتبطة بتسمية الحرب قبل تسليط الضوء على الأهمية السياسية لهذا الموضوع.

أطروحة مايكل والزر

منذ عام 1977، عندما ظهرت الطبعة الأولى من العمل الذي أصبح منذ ذلك الحين "كلاسيكيًا" لمايكل والزر، "الحروب العادلة وغير العادلة"، أصبح الموضوع موضوعًا لعدد لا يحصى من المنشورات والمناقشات المكثفة. يبدو أن مايكل فالزر بالنسبة لنظرية الحرب العادلة هو ما يمثله جون راولز بالنسبة لنظرية العدالة: المؤسس الذي أعاد فتح النقاش الكلاسيكي في النظرية السياسية. لكن والزر يختلف عن راولز سواء في طريقته أو في أهدافه. وفي حين ينوي رولز أن يبني، بأساليب الفلسفة التحليلية، نظرية سياسية عالمية خالية من الأحداث التاريخية، يعتمد فالزر على إنجازات التقليد الفلسفي والتجربة التاريخية لمواجهة الأحداث الجارية والسياسة التي يتم صنعها. إن استخدامه لنظرية الحرب العادلة له موقع تاريخي ومُناقش سياسيًا؛ يعبر عن موقفه من المشاكل الدولية والاستراتيجية في عصره.

ماذا نسمي "الحرب العادلة"؟

يشير مصطلح "الحرب العادلة"، حسب الموقف، إلى تقليد فكري وعقيدة عمل ومشكلة فلسفية. باعتبارها تقليدًا فكريًا، يتم تحديد الحرب العادلة من خلال مجموعة نظرية تعود إلى العصور القديمة لمؤلفين معاصرين مثل مايكل فالزر، وجيمس تورنر جونسون، وأليكس بيلامي، وبريان أوريند (الذين ننشر هنا المساهمة الأصلية لهم، وهي أول مساهمة تظهر (بالفرنسية). إن تقليد الحرب العادلة، المتماسك من الناحية المفاهيمية، ولكنه متباين فلسفيًا، لا يطور صيغة محددة للعلاقة بين الحرب والأخلاق. بل المقصود منه أن يكون صدى لمشروع متجدد باستمرار للتعبير بين هذين المصطلحين. إن الحرب العادلة هي أيضًا عقيدة عمل تشكك في شروط استخدام القوة من قبل السلطات السياسية (كما رأينا فيما يتعلق بالتدخل في العراق عام 2003، أو مؤخرًا في ليبيا). إن هدفها، من هذه الزاوية، سياسي أكثر منه نظري: فهو يتعلق بتنظيم استخدام القوة بشكل ملموس، وبالتالي الحد منه، فيما يتعلق بمعايير محددة تبرر الدخول في الحرب (قانون الحرب)، وسلوكها (قانون الحرب). في الحرب (وشروط السلام) قانون ما بعد الحرب). وأخيرًا، وبشكل أكثر عمومية، تعد الحرب العادلة مشكلة فلسفية، أو بشكل أكثر دقة، المكان الفلسفي الذي تقع فيه التوترات بين الحرب والأخلاق. وهكذا، على مر العصور، شكك منظرو الحرب العادلة في العلاقة بين الحرب والأخلاق من منظور وصفي ومعياري. وبالتالي فإن أي تفكير في الحرب العادلة يجمع بين ثلاثة عناصر متميزة ومترابطة بشكل وثيق: الحرب كتجربة ووسيلة للسياسة؛ العدالة كمصدر أساسي للحياة في المدينة؛ الجدل الفلسفي الأبدي حول أخلاقيات الحرب، لقد شكلت فكرة وجوب تبرير الحرب أخلاقيًا دائمًا قضية مركزية في جميع المجالات الثقافية. وفي هذا الصدد، من المهم تسليط الضوء على النقش التاريخي والسياسي لنظريات الحرب العادلة في السياق الغربي. وهكذا فإن تقليد الحرب العادلة قد نشأ في أوروبا خلال العصور الوسطى، ولكن أصوله تعود إلى العصور اليونانية الرومانية القديمة. وهو يرافق تطور القانون الكنسي، ولكنه يعتمد بشكل أعمق على مزيج دقيق من العناصر اللاهوتية والقانونية والسياسية المستعارة من التجربة الرومانية والاقتراح المسيحي. في هذا السياق، يلعب القديس أغسطينوس دورًا رئيسيًا لأنه يقيم العلاقة بين التقليد الإمبراطوري الروماني والمسيحية القديمة، أي بين القانون الروماني ولاهوت الكتاب المقدس. بعد شيشرون، يتساءل أسقف هيبو عما إذا كان المؤمنون، في الإمبراطورية الرومانية التي أصبحت مسيحية الآن، قادرين على شن الحرب بشكل شرعي، وبالتالي المساهمة في ازدهار روما الزمني، دون الإضرار ببنيان المدينة السماوية (حيث الحرب محظورة بحكم التعريف). . بالاعتماد على النصوص الكتابية، العهد القديم بشكل رئيسي لأن العهد الجديد، على أقل تقدير، متحفظ وغير ودود تجاه الحرب وكذلك لغة القانون الرومانية، يشرح أوغسطين، في نصوص مختلفة، كل سلسلة من المبادئ اللاهوتية والفلسفية. الحجج لتأطير الدخول في الحرب: على مر القرون، تمت قراءة المصدر الأوغسطيني وتطويره وإعادة تفسيره وتحويله من قبل مؤلفين آخرين أخذوا في الاعتبار في كل مرة مشاكل عصرهم. وهكذا، تم تنظيم النظرية القديمة للحرب العادلة بموجب مرسوم جراتيان، المكتوب في القرن الثاني عشر، والذي أعاد القديس توما الأكويني تفسيره، ولكن أيضًا فرانسيسكو دي فيتوريا والمدرسين، ثم "تم تشريعه" وعقلنته من قبل المنظرين المعاصرين للقانون مثل. غروتيوس، وبوفندورف، وفاتيل، قبل أن يُعاد اكتشافها في الستينيات من قبل المفكر البروتستانتي بول رامزي، وفي السبعينيات من قبل مايكل والتزر. وأخيرا، في الفترة الحالية، حدث أن تم استعادة تقليد الحرب العادلة سياسيا. وكان هذا هو الحال بشكل خاص في الولايات المتحدة بعد الهجمات الإرهابية في 11 سبتمبر 2001. "وفي أعقاب هذا الحدث، اعتمد الرئيس جورج دبليو بوش على معجم الحرب العادلة لتبرير «الحرب على الإرهاب»، ومن ثم التدخل المسلح في العراق. ومع ذلك، فإن الرئيس الأمريكي الحالي باراك أوباما، الذي انتقد هذا الخطاب وهذه الاستراتيجية، أشار إلى الحرب العادلة خلال خطابه عند حصوله على جائزة نوبل للسلام في عام 2009، في الوقت الذي أعاد فيه، بعد انتخابه مؤخرًا، إطلاق الهجوم في أفغانستان. وباكستان، الأمر الذي وضع المسرح العراقي في الخلفية. وعلى هذا فإن تاريخ نظريات الحرب العادلة في أوروبا هو في المقام الأول تاريخ الاستقبال المعقد والمثير للجدل للتراث الروماني والمسيحي في الأساس. في كل مرة تظهر فيها الحرب في التاريخ، يتم التشكيك في تقليد الحرب العادلة، واختباره، وصقله، وتصحيحه، ولكن أيضًا يتم استغلاله كأداة، أو التشهير به أو رفضه. الحروب الصليبية، والحروب الدينية، وغزو العالم الجديد، وحرب الثلاثين عامًا، والحربين العالميتين، وحرب فيتنام، والتدخل في ليبيا: أمثلة كثيرة جدًا على صراعات شديدة التنوع في التاريخ السياسي أدت إلى ظهور تفسيرات متنوعة، ومتباينة في كثير من الأحيان، لماهية الحرب العادلة أو ما ينبغي أن تكون عليه. هذه المحادثة الفلسفية الطويلة، التي بدأت مع شيشرون وأوغسطينوس، لم تنته اليوم بعد. باختصار، إذا كان تقليد الحرب العادلة يعتبر دائمًا مرجعًا فلسفيًا مؤسسًا، فإنه يشكل أيضًا مصدرًا أيديولوجيًا لأولئك الذين لديهم قرار بدء الحرب وشنها.

تراث مثير للجدل

ومن الملفت للنظر أن المفكرين السياسيين قدموا مثل هذه التفسيرات المتباينة لما يمكن أن تكون عليه "الحرب العادلة". على سبيل المثال، عندما يحاول الفكر المسيحي للحرب، الذي تشكل في الأوغسطينية السياسية والتوماوية، التوفيق بين المؤمن والجندي، فإن النظريات الواقعية، التي ولدت مع ثوسيديدس وشكلت على يد مكيافيللي وهوبز، تعتبر أن المنطق السياسي والمنطق الأخلاقي هما في الأساس مستقلة، حيث تعتبر الحرب عملاً سياسياً قبل أن تكون عملاً أخلاقياً. لا توجد حرب عادلة بالنسبة للواقعيين، لأن كل الحروب بحكم تعريفها مدمرة وكارثية على المستوى الإنساني. هناك فقط حروب مبررة سياسيا، أي تهدف إلى تحقيق هدف سياسي؛ في أغلب الأحيان، من المنظور الواقعي، يتعلق الأمر بالحفاظ على سلامة الدولة أو القيام بالفتوحات لتعظيم قوتها. في الآونة الأخيرة، انتقد بعض الواقعيين "الدفاعيين" مبدأ الحرب العادلة ذاته، والذي اعتبروه شكلاً خطابيًا من التلاعب يستخدمه الزعماء السياسيون لتبرير الحرب وفقًا لمصالحهم. في القرن العشرين، يمكن القول إن كارل شميت هو المعارض الأكثر حزماً لنظريات الحرب العادلة التي تسعى إلى الحد من الحرب من خلال الأخلاق والقانون. بالنسبة له، هذا الهدف وهمي، لأن السياسة وحدها هي القادرة على وضع الإطار والحد والنهاية للحرب. إن خطاب الحرب العادلة خطير لأنه يميل إلى جعل العدو ليس تهديدا خارجيا يجب محاربته بالأسلحة العادية، بل مجرم يجب أن يعاقب باسم المبادئ الأخلاقية. ومن ثم فإننا نتذكر التمييز الشميتي بين العدو العام ، الذي تشن الدولة ضده الحرب، والعدو الخاص ، الذي يمكن أن تنشأ من خلاله مشاجرات فردية أو عائلية على سبيل المثال. بالنسبة لشميت، فإن الدولة وحدها هي التي تمتلك "حق الحرب" (قانون الحرب)، مما يجعل من الممكن حصره في المجال المشترك بين الدول. واليوم، يلهم شميت المفكرين الذين يعارضون بشدة "عودة الحرب العادلة" في شكل تدخل إنساني. وبالنسبة لهم فإن فكرة التدخل "الإنساني" التي يتم تحديدها على مستوى المؤسسات الدولية هي في حد ذاتها مغالطة ومخادعة، حيث لا تتمتع الأمم المتحدة أو حلف شمال الأطلسي بأي شرعية للقول إن بعض الحروب أكثر "عدلاً" من غيرها. ولذلك فإن شميت هو مرجع لأولئك الذين يدافعون، من منظور محافظ، عن شرعية الدولة وأسبقيتها في مسائل الحرب، ولكن أيضًا لأولئك الذين، من منظور نقدي، يدينون ادعاء الديمقراطيات الغربية بفرض سياستها النموذجية على الحرب. أما بقية العالم، سواء من خلال الحوافز الاقتصادية أو من خلال استخدام القوة المسلحة. أما منظرو القانون المعاصرون فقد اعتمدوا، على خطى جروتيوس، على المبادئ الأخلاقية واللاهوتية للحرب العادلة من أجل صياغة نظام قانوني متماسك. هدفهم هو تطوير سلسلة من المعايير المعيارية المقبولة من قبل الجميع، وفي المقام الأول من قبل الدول، التي تعتبر جهات فاعلة شرعية في القانون الدولي باسم مفهوم منطقي و"أنسنة" للقانون الطبيعي الحديث. وفيما يتعلق بقانون الحرب، فإن الأمر يتعلق على سبيل المثال بتعريف "الأسباب العادلة" للحرب، أي الأسباب التي تبرر، بالنسبة لدولة ما، الدخول في الحرب، مهما كانت الظروف الخاصة للنزاع. وبالمثل، فيما يتعلق بقانون الحرب، فإن الأمر يتعلق بتعريف ما هو مشروع وما هو غير مشروع في أوقات الحرب، وفقاً للمعايير القانونية، وذلك لتجنب "الصعود إلى التطرف" الذي يخاطر بتأجيج الكراهية بين الأعداء وبالتالي تعريض الفرص للخطر. عن السلام. إن نهج غروتيوس طموح للغاية ويقع بوضوح شديد في سياق حرب الثلاثين عامًا، والتي نعرف إلى أي مدى كانت حربًا دموية: ظهر قانون الحرب والسلام في عام 1625، في خضم الصراع، وقد ظهر قانون الحرب والسلام في عام 1625، في خضم الصراع. وانتهت في عام 1648 بسلام وستفاليا، الذي افتتح نظامًا دوليًا يقوم على الاعتراف المتبادل بين الدول. لا يسعى الفقيه الهولندي إلى بناء نظرية فلسفية وقانونية للحرب المحدودة، حيث تشكل المعايير الرسمية المقبولة عمومًا للحرب العادلة (التناسب، والنية الصحيحة، والسلطة الشرعية، وما إلى ذلك) العوامل الأساسية للحرب العادلة. القيد. وفي هذا النظام الدولي، تعترف الدول ببعضها البعض باعتبارها شرعية في السلام كما في الحرب. بالنسبة لغروتيوس، وبوفندورف، وفاتيل، ثم فيما بعد لمهندسي القانون الإنساني الدولي، فإن الأمل في السلام يجب أن يأتي من خلال تدوين العادات وإتمام الاتفاقيات بين الأمم. وبالتالي فإن طموحهم يتلخص في تجاوز العادات والأخلاق الفارسية، التي لم تعد كافية لوقف الهمجية، في سياق حيث يؤدي تقدم التسلح إلى جعل الحروب دموية وقاتلة على نحو متزايد.

السلمية، الواقعية، الحرب العادلة

بطريقة معينة، تسعى نظرية الحرب العادلة، عبر التاريخ، إلى تجاوز التعارض المؤسس، ولكن بشكل تخطيطي للغاية، بين المسالمة والواقعية. في مجال الفلسفة الأخلاقية للحرب، غالبًا ما نقارن هذين التقليدين الفكريين. إن السلمية تدين دون قيد أو شرط جميع الحروب، التي ينظر إليها دائما على أنها غير أخلاقية؛ ومن ناحية أخرى، ترى الواقعية أنه من الضروري الفصل بين مسألة الضرورة السياسية للحرب ومسألة تقييمها الأخلاقي. الحرب في حد ذاتها ستكون غير أخلاقية. بالنسبة للواقعيين كما بالنسبة للمسلمين، يبدو العمل العسكري أمرًا بديهيًا لاستبعاد النظر المنهجي في القضايا الأخلاقية، معتبرين أن الحرب، باعتبارها موقفًا سياسيًا متطرفًا، تعني بالضرورة "وحشية" العلاقات الإنسانية وتعليق الأخلاق المشتركة. ترى نظرية الحرب العادلة أنه من المستحيل الفصل بين الأخلاق والحرب، وبالتالي من الضروري إقامة روابط بين المصطلحين. وهي تشكل “مجموعة من الأفكار والقيم المتعلقة بالمبرر الأخلاقي للحرب. فهو يقدم سلسلة من القواعد الأخلاقية التي يجب على المجتمعات تطبيقها في بداية الحرب وأثناءها وفي نهايتها. ولأنه يقع على مفترق طرق بين القضايا الأخلاقية والسياسية، فهو يسلط الضوء على حقيقة مفادها أن السياسيين الذين يقررون شن الحرب، مثل الجنود الذين يشنونها، بعيدون كل البعد عن تجاهل الأهمية الأخلاقية لعملهم. يدرك المدافعون عن نظرية الحرب العادلة أن الحرب تمثل تحديًا دائمًا للأخلاق، لكنهم يدافعون عن موقف يُقصد به عمومًا أن يكون أكثر اعتدالًا، وبهذا المعنى أكثر "واقعية"، من دعاة السلام والواقعيين. إنه أمر ثابت في تاريخ البشرية، ولكنه أيضًا موقف متطرف تسعى المجتمعات السياسية إلى تجنبه. وبالتالي فإن هدف هذه النظرية هو تطوير المعايير ذات الصلة لتبرير التدخل العسكري (قانون الحرب، قانون الحرب) وتنظيم الأعمال العسكرية في حالة وقوع النزاع (قانون الحرب، قانون الحرب)، أو حتى ضمان خروج عادل من الحرب (قانون ما بعد الحرب). إن قانون الحرب وقانون الحرب هما اللذان أدىا إلى ظهور الأدبيات الأكثر وفرة. يتم استخدام ستة معايير بشكل عام في قانون حق الحرب: السلطة الشرعية (هل أعلن القادة الشرعيون للمجتمع السياسي الحرب؟)؛ القضية العادلة (هل نخوض الحرب لأسباب وجيهة، على سبيل المثال للانتقام من العدوان، أو لوضع حد لمذبحة سكان بلد آخر، أو للهجوم الوقائي في حالة وجود تهديد وشيك؟) ؛ التناسب (هل يمكننا أن نتوقع من الحرب فوائد أكثر من الأذى؟)؛ فرص النجاح المعقولة (ليس من المبرر الدخول في حرب خاسرة)؛ الملاذ الأخير (يجب أن تكون قد استكشفت جميع المبادرات الدبلوماسية والاقتصادية قبل الذهاب إلى الحرب)؛ النية الصحيحة (ما هو الهدف، أو ما هي دوافع الحرب؟). إن أهمية كل من هذه المعايير هي بالطبع موضع نقاش. أما بالنسبة لقانون الحرب، فهو يفي بشكل أساسي بمعيارين: أولاً، نجد مبدأ التناسب، الذي يسعى إلى تحديد ما إذا كانت العملية العسكرية متناسبة مع الهجوم الذي تعرضت له أو التهديد. المعيار الثاني هو التمييز. ويميز قانون الحرب بين المقاتلين وغير المقاتلين. فهو ينص على حماية المدنيين، الذين يجب ألا يستهدفهم المقاتلون، حتى لو كان من الممكن التسامح مع بعض التجاوزات، نظراً لحالة عدم اليقين الخاصة بأي صراع، وهو ما يسميه كلاوزفيتز "ضباب الحرب". ومع ذلك، فإن الخلافات التي أحاطت بحرب العراق الثانية عام 2003 سلطت الضوء بوضوح على الطبيعة الإشكالية لمعايير الحرب العادلة. إن نظرية الحرب العادلة يمكن أن تخدم في الواقع أغراض قوة سياسية لا تسعى إلى تطبيق معايير عالمية بقدر ما تسعى إلى إضفاء الشرعية على استراتيجية ما في نظر الرأي العام. وعلى هذا فقد استخدمت إدارة بوش معايير حق الحرب لتبرير الحرب الوقائية، رغم أن الحرب العادلة هي حرب دفاعية في المقام الأول، إذا اتبعنا أوغسطينوس. أما بالنسبة لمعايير قانون الحرب، فقد رأينا في فضيحة صور أبو غريب أن خطاب الحرب العادلة لم يمنع بأي حال من الأحوال اللجوء إلى التعذيب، المزعوم أحياناً والمقبول في جميع الأحوال. ومن جانبه، واصل الرئيس أوباما استخدام الطائرات بدون طيار، الأمر الذي أثار مناقشات حول مدى قبول الوفيات بين المدنيين وشرعية الاغتيالات المستهدفة. وفي هذا الصدد فإن أطروحة غيوم دورين الأخيرة تظهر بوضوح مدى أهمية الحالة الأميركية، إلى الحد الذي اضطرت الولايات المتحدة إلى مواجهة مشكلة التبرير الأخلاقي والسياسي للحرب منذ حرب فيتنام. فبالنسبة لأمة أميركية تريد أن تكون نموذجاً، وتعتزم الدفاع عن الديمقراطية كنظام سياسي على الساحة الدولية مع ضمان مصالحها وأمن أراضيها، ماذا يعني شن حرب عادلة؟

التاريخ والشؤون الجارية للحرب العادلة

تُظهر هذه الأمثلة الحديثة أن نظريات الحرب العادلة، بعيدًا عن البقاء في الماضي الغابر، لا تزال حية بالنسبة لنا اليوم. ولا تزال مشكلة التبرير الأخلاقي للحرب قائمة بالنسبة للدول الديمقراطية، كما رأينا في عملية ليبيا، التي أثارت جدلا بين مؤيدي التدخل (الذين اعتبروه عادلا) ومعارضيه (الذين انتقدوا الحماقة السياسية للتدخل) سابق). سواء اعتبرت الحرب العادلة تقليدًا للفكر الفلسفي، أو عقيدة عمل، أو خطاب تبرير، فإنها تظل في مركز الاهتمام السياسي. في عام 2012، بلغ حجم المنشورات حول هذا الموضوع لدرجة أنه سيكون من الافتراض وحتى الوهمي الرغبة في إعطاء صورة منطقية. ومن ناحية أخرى، نعتقد أنه من الممكن تسليط الضوء على الجدل الدائر حول الحرب العادلة من خلال اتباع مسار مزدوج: من خلال المساهمات المختلفة لهذا الملف، فمن ناحية يتعلق الأمر بالعودة إلى خيط التاريخ. من خلال إظهار كيف تعامل التقليد الفلسفي مع مشكلة الحرب العادلة؛ ومن المهم أيضًا تسليط الضوء على مركزية الحرب العادلة كمشكلة سياسية، في سياق دولي واستراتيجي يتسم بـ "عودة الحرب" أو "حالة الحرب". وبالتالي، يجمع هذا الملف بين النهجين النظري والتجريبي للحرب العادلة، ويتمثل التحدي في الجمع بين الأسئلة الفلسفية والأخلاقية والقانونية مع التفكير في المشاكل الحالية للحرب. يتم التركيز على المعالجة الدولية الحازمة للموضوع، ومؤلفو المساهمات القادمة من مختلف البلدان (إسبانيا والولايات المتحدة وكندا وفرنسا) والتقاليد الفكرية. كما فضلنا التوجه عبر الأطلسي في التعامل مع مفاهيم الحرب العادلة، من أجل تسليط الضوء على ما يجمع وما يفرق بين الولايات المتحدة وأوروبا. إن نظرية الحرب العادلة، التي صيغت في القارة الأوروبية، حاضرة بقوة في الخطاب السياسي والمحادثات المدنية في الولايات المتحدة، في حين تظل مصدرًا لأسئلة الفكر السياسي في أوروبا. وهكذا يبدو أن التفكير في الحرب العادلة يمس مشاكل حاسمة بالنسبة للنظرية السياسية، ولكن أيضًا لتاريخ الأفكار والفلسفة الأخلاقية وحتى نظرية القانون. إن التفكير في الحرب العادلة يعني التشكيك في التقاليد التي تقوم عليها المفاهيم الأخلاقية والقانونية للعمل العسكري، ولكنه يعني أيضاً التفكير في الدوافع التي توجهه. وهذا على أية حال هو هدف هذا الملف الذي يتمحور حول ثلاثة خطوط من التحقيق. إنها أولاً مسألة إعادة تموضع تاريخ الحرب العادلة في التاريخ العام للنظريات السياسية. إن إعادة بناء نسب الحرب العادلة بأكبر قدر ممكن من الدقة، وإدراجها في التاريخ السياسي، هي مهمة حاسمة إذا أردنا أن نفهم الجذور العميقة لهذا التقليد واستخداماته المعاصرة. على سبيل المثال، جيمس تورنر جونسون، الذي اتخذ من القديس أوغسطين والقديس توما الأكويني نقطة محورية لتقليد الحرب العادلة، أصبح فيما بعد أحد مؤيدي عقيدة الرئيس بوش الاستراتيجية. في هذا الصدد). يصر هوغو كاستينياني، في مساهمته، على تطور خطاب الحرب العادلة في الإمبراطورية الرومانية. لفهم المبادئ التي تقوم عليها الحجة الأوغسطينية والعودة الحالية لخطاب الحرب العادلة في الولايات المتحدة وأوروبا، من الضروري أن نحلل بعناية هذا التسلسل الذي يمثل جزءًا أساسيًا، غالبًا ما يتم إهماله، من سلسلة نسب الحرب العادلة. في الواقع، صيغت في روما نظرية الحرب العادلة وأطروحة الإمبريالية الدفاعية، والتي نجدها بعد عدة قرون، بعد أخذ كل الأمور في الاعتبار، في التأملات الإستراتيجية الأمريكية حول الحرب الوقائية والحمائية. أما الخط الثاني من البحث فيتعلق بالحرب العادلة في القضايا السياسية المعاصرة. وهكذا يستحضر مقال دانييل برونستتر الدور الذي لعبه خطاب الحرب العادلة في السياسة الأمريكية بين عامي 2000 و2008. وسنرى أن مفهوم الحرب العادلة في الولايات المتحدة يختلف باختلاف التقاليد الفكرية والحساسيات السياسية. في الواقع هناك طرق عديدة للتعامل مع هذا الموضوع من منظور سياسي. لا توجد نظرية واحدة، بل عدة نظريات للحرب العادلة، ولا توجد نظرية واحدة، بل عدة طرق لتفسير هذه النظريات والاستيلاء عليها سياسياً. ومن جانبه، أقام جان فنسنت هولين صلة بين طفرات الحرب في الفترة المعاصرة وتطور نظريات الحرب العادلة. تشكل الحرب العادلة مشكلة أساسية للنظرية السياسية الدولية، التي تشكك في تطور الصراع. في الوقت الذي تميل فيه الحرب بين الدول إلى أن تحل محلها أشكال أخرى من الحرب (التدخلات الإنسانية غير النظامية والمدنية والمسلحة، وما إلى ذلك)، هل لا يزال خطاب الحرب العادلة فعالاً؟ إذا كان الأمر كذلك، كيف يتم إعادة تشكيلها؟ وهكذا سوف نرى أن مفهومين للحرب العادلة يواجهان بعضهما البعض: الأول، الموروث من جروتيوس، والذي يحاول الجمع بين معايير الحرب العادلة والنظام الدولي للدول؛ والآخر يهدف إلى تجاوز وجهة نظر الدولة باسم فلسفة عالمية لحقوق الإنسان، حيث يعتبر التدخل الإنساني المسلح، في هذه الحالة، النموذج الأصلي للحرب العادلة.

الخاتمة

أخيرًا، يتعلق السطر الأخير من البحث بشكل مباشر أكثر بقضايا معيارية تتوافق مع لحظتين حاسمتين في أي صراع: الدخول في الحرب والخروج من الحرب. وعلى هذا فإن تطبيق مبدأ بوش أثناء حرب العراق الثانية في عام 2003، كان سبباً في إثارة المناقشة حول الوقت "المناسب" لبدء الأعمال العدائية. ونظراً للتكاليف البشرية والعسكرية والاقتصادية المترتبة على الحرب في العراق، فضلاً عن شبح المواجهة المماثلة مع إيران التي تسعى إلى الحصول على الأسلحة النووية، فإن تحديد متى يتم التدخل، وبالتالي متى يتم استنفاد الخيارات غير العسكرية، يشكل ضرورة أساسية. وهكذا يعود جان بابتيست جانجين فيلمر إلى معيار الملاذ الأخير في قانون حق الحرب ليتساءل عن اللحظة التي يقرر فيها المرء التدخل. ينتهي الملف بمساهمتين حول قانون ما بعد الحرب، عدالة ما بعد الحرب. بعد حرب العراق، كان أحد الانتقادات الرئيسية الموجهة إلى الرئيس بوش من قبل المرشحين الرئاسيين في عام 2008 (ماكين وأوباما) هو الافتقار إلى استراتيجية ما بعد الحرب. في الواقع، عندما يكون لقانون الحرب وقانون الحرب وظيفة عدم تعريض فرص السلام للخطر، فإن قانون ما بعد الحرب يهدف إلى إحلال السلام على المدى الطويل وضمان الانسجام بين الدول، الأمر الذي من شأنه أيضًا تعزيز تنمية السلام. مجتمع دولي قائم على القانون. وفي هذا الصدد، فإن قانون ما بعد الحرب هو مجال ولّد بعض العمل التحفيزي في السنوات الأخيرة، ولكن يمكن القول إنه موضوع يستحق المزيد من البحث. ومن هذا المنطلق، تدرس جولي سعادة المعايير التي تروج لها نظريات قانون ما بعد الحرب والعدالة الانتقالية. وأخيرا، يدعو برايان أوريند إلى تطبيق اتفاقية جنيف الجديدة على حالات الخروج من الحرب. إن ما فعله اللاهوتيون والفلاسفة والقانونيون من أجل قانون الحرب وقانون الحرب، حان الوقت الآن للقيام به من أجل قانون ما بعد الحرب. لأنه ربما تكون أفضل طريقة لتجنب الذهاب إلى الحرب هي معرفة كيفية الخروج منها. " أليست الحرب المروعة على قطاع غزة هي من نوع الحرب الظالمة ويجب ايقافها على الفور ودون شروط؟ الا ينبغي التفكير بجدية في قرار الخروج من الحرب وانهاء العدوان الغاشم ووقف التهجير القسري؟

***

د. زهير الخويلدي - كاتب فلسفي

......................

المصدر:

Daniel R. Brunstetter, Jean-Vincent Holeindre, La guerre juste au prisme de la théorie politique,Dans Raisons politiques 2012/1 (n° 45), pages 5 à 18

رؤية نخبةٌ من العلماء والفلاسفة.. مقدمة كتاب لغز الألوهية

منذ فجر البشرية وإلى يوم الناس هذا كان الثالوث " المحير الله، الدين، العلم" يثير الخوف والخشية، وفيه طرفان يدّعيان امتلاك الحقيقة المطلقة بينما يعمل الثالث على اكتشاف الحقيقة النسبية القابلة للتغيير والتطور كلّما تقدّمت التكنولوجيا والنظريات العلمية التي بحوزته ولكن هل توجد حقًا «حقيقةٌ مطلقة »؟ فالإله يأخذ أشكالاً وتعاريف وماهياتٍ وصفاتٍ مختلفةً من طرفٍ لآخر، ولا ندري إن كان موجودًا حقًا أم هو مجرد فرضيةٍ أو ضرورةٍ سيكولوجيةٍ أوجدتها الأديان والمعتقدات البشرية وعَزتها لذاتٍ متعاليةٍ متساميةٍ أسمتها الله، بكلِّ لغات الأرض.

أمّا الدين فقصته أكثر غموضًا وخطورةً. فلقد حكم وسيّر سلوك البشر وما يزال منذ آلاف السنين، وأوجد مؤسساتٍ دينيةً أفرزت كافة أنواع الشرور والعنف والحروب والبَطش والقتل الوحشي والتكفير والسيطرة على عقول البشر باسم الإله أو الرب أو الله، أمّا الطرف الثالث فهو ما يزال يحبو ويجرّب، يفشل هنا وينجح هناك، على نحوٍ نسبيٍ ويسعى إلى تحسين الوعي البشري والبحث عن أجوبةٍ للأسئلة الكُبرى التي تطرحها الإنسانية على نفسها، عن الأصل والمصير، عن المستقبل والمآل الذي ينتظر البشرية ويبقى صعبًا على الإدراك والفهم العام عدا نخبةٍ قليلةٍ من العلماء، ويواجه دومًا جملةً من التحديات والظواهر التي يعجز عن فهمها وتفسيرها ومنها أصل الحياة و سِرّها.

ما معنى الحياة؟ أو ما معنى وجودنا بشكلٍ عام؟ من الوهلة الأولى يبدو أنّه سؤالٌ ينتمي إلى حقل الفلسفة والدين والفكر المجرّد، ولا علاقة له بالعلم. لكن الكثير من موضوعات الفلسفة والدين صارت تقع الآن تحت طائلة العلم، وبالأخص علم الفيزياء. وما هذا الكتاب سوى محاولةٍ متواضعةٍ للغوص في هذه الأقانيم المجهولة لإيقاد شمعةٍ في ظلمة الوجود.

توطئة

تساءل الفيلسوف الإغريقي المُلحد أبيقور: «إذا كان الله على استعدادٍ لمنع الشر، لكنه غير قادرٍ على ذلك، فهو ليس كليُّ القدرة، وإذا كان قادرًا، ولكن لا يريد فعل ذلك، فهو خبيث، وإذا كان قادرًا وذا مشيئة، فمن أين يأتي الشر؟ وإذا كان لا يقدر على أولا يريد درء هذا الشر، فلماذا ندعوه الله؟»

قصارى القول إن الفلاسفة كلّما أرادوا إثبات وجود الفكر في ذاته أو وجود العقل الكامل المجرّد من جميع النواحي الحسّية، أطلقوا على أسمى قمم هذا العقل اسم الإله.

ومعنى هذا أنّه إذا كان الفكر المتفلسف قد تحوّل عن الديانات التقليدية فلم يكن ذلك منه إلا لقصد تأسيس نوعٍ من العقيدة الفلسفية، لها يقينياتها وفيها إلهها الذي هو على رأس الطبيعة ويدبّر كلّ شيء، وبمرور الزمن لاحظت هذه الفلسفة أنّ الديانات الشعبية تأمر بالإذعان للقوانين والأمانة للواجب واحترام الموتى، فاعتبرتها معينةً للعقل على مهمّته، فهادنتها وجعلت تُنقّب في أساطيرها عمّا عسى أن يكون مختبئًا بين طياتها من آثارٍ عقليةٍ أو عناصر فلسفية. وعندما توثّقت عُرى هذه الصلات بين الفلسفة والديانات هبّت طائفةٌ من مُفكري الجهتين وطفقتْ تُعلن في صراحةٍ حقّ الوجدان الفردي في أن يتصل بالإله اتصالاً مباشراً دون أي تدخلٍ من جانب المجادلات الفلسفية أو الطقوس الدينية، وجعلت تُحارب النظر المنطقي بالإيمان والحب، وتعض الطقوس الظاهرية بالتأمل الباطني وهو جوهر التنسّك. وبهذا تمت هيكلة الطرق الثلاثة التي تقود نحو الإله، أو المظاهر الثلاثة: الاجتماعي والفلسفي والتنسُكي، وهي التي تبدو فيها الألوهية على مسرح الوجود البشري ولاريب أننا - إذ نعرض للألوهية في هذا السفر من خلال هذه المظاهر الثلاثة – سنقتصر على وجهات النظر الاجتماعية والعقلية والروحانية مُعْرضين مؤقتًا عن العقائد التي استقت مبادئها من الوحي، لأننا الآن بصدد منتجات الفكر الإنساني فحسب.

غير أنّ سموّ هذه المعضلة على بقية عناصر ما بعد الطبيعة، ووجودها لدى جميع الشعوب منذ بدء تواريخها لم يحولا بينها وبين أن تكون غايةً في التعقيد، وأن تبدو في صورٍ متباينةٍ تسترعي كلّ واحدةٍ منها انتباه الذهن البشري، ففي عهد اليقظة الأولى للعقل، وعندما وجد الفكر نفسه أمام هذه الأسئلة وهي من أين أتى العالم؟ ومن أين جاء الإنسان؟ لم تكن الإجابات البدائية التي نعثر عليها متناثرةً في تعليلات كهنة الديانات الوثنية، ولم تكن ردود شرّاح النواميس الكونية الطبيعية، كافيةً أو قادرةً على أن تقدّم عن الألوهية فكرةً كاملةً تُمثّل الإله كأساس الموجودات وعلّة العلل ونهاية النهايات وما إلى ذلك ممّا تشتمل عليه فكرة الألوهية اليوم من معتقدات، وإنّما كانت تُصوّر الإله في صورةٍ تلتئم مع عقليات تلك العصور الضاربة في القِدم. ولقد مضى زمنٌ غير قصيرٍ قبل أن تتكون عن الألوهية تلك النظريات الفلسفية التي يتطلبها العقل البشري الذي كان – منذ أن تنبه إلى رسالته في الحياة – في نضالٍ دائمٍ ضد تلك القوى التي كانت تبدو كأنها نواميسُ متباينةٌ تتنازع العالم وهي الضرورة العاتية والمصادفة الهوجاء، والصيرورة الأبدية. ومبدأ هذا

السير نحو الهُدى، هو أنّ طلائع الفلاسفة قد اعتدّوا بعقولهم إلى حد الافتتان، وأيقنوا أنّ بإمكانها كشف أسرار الكون واضحةً جليةً من وسط هذا الخليط الكثيف الذي يشتملها. وصدورًا عن هذا المبدأ لم يروا في هذه الفوضى التي يموج بها العالم إ لّا مظهرًا خارجيًا للكائنات وأعلنوا أنّ من يعرف كيف يتأمّل في هذه الموجودات سيجد العقل والنظام ممثلين فيها بأكمل معانيهما وهكذا اعتصموا برباطٍ متينٍ مؤداه أن يكتشفوا كلّ قوى ذلك العقل العام الذي استنبط الأولون منهم دوره من أحداث الطبيعة وظواهرها ثم أخذوا يجرّدونه ويسمون به شيئًا فشيئًا ويُلحّون على إبراز المفارقات التي تميّزه عمّا عداه حتى جعلوا البون بينه وبين غيره من الكائنات التي لها علائق بالمادة هائلًا، وأبانوا رفعته على آلهة الأساطير والديانات البدائية، وبرهنوا على أنّه أجدر منهم بالألوهية وأحقّ بإحراز أوصاف الكمال. ومصدر سموّه على ما عداه هو أنّه عقلٌ وأنّ «الطبيعة» – كما يقول أرسطو «– متعلّقةٌ بالعقلِ، ولكنّها عاجزةٌ عن أن تساويه.»

كانت نقطة انطلاق هذا الكتاب جملة نشرها الروائي والشاعر والفنان برهان شاوي يقول فيها على لسان أبطال متاهاته "أن العدم موجود وهو الذي أوجد الوجود.. والوجود إحدى إشاراته ودليل وجوده.. وليس كما يعتقد البعض.. العدم العظيم اللامتناهي هو الله في الأديان.. لكنه خارج توصيفاتها له وتجسيداتها الغبية له وأوصاف طرق الخلق.. حتى وإن صدر كل هذا عن حسن نية وتبجيل". لقد تعلمنا في المدرسة في درس الفيزياء في أواسط القرن العشرين " أن الطاقة لا تفنى ولا تستحدث، أو تخلق، من العدم"، وهذا قانون علمي فيزيائي لا يمكن دحضه أو الطعن به. وتعلمنا أيضاً أن المادة والطاقة وجهان، أو حالتان " لجوهر" واحد، ويمكن تحويل أحدهما إلى الآخر . ثم عرفنا فيما بعد أن هناك عدة حالات للمادة وعدة أنواع من المادة والطاقة، فهناك المرئي منهما وهناك المظلم أو الأسود أو المعتم أو الداكن أو اللامرئي، وإذا كان غير مرئيا فهذا لا يعني أنه غير موجود. فهناك المادة التي نعرفها والمادة المضادة التي نعرف بوجودها ويمكننا إنتاجها في المختبرات لكنها غير متوفرة في حياتنا اليومية ولا نعرف عنها الكثير، وهناك الطاقة التي نعرفها بكل أشكالها، وهناك الطاقة السوداء أو المعتمة أو المظلمة التي تقف وراء ظاهرة التوسع الكوني .وهناك الوجود، بمفهومه العلمي وبمفهومه الفلسفي وبمفهومه اللاهوتي أو الثيولوجي، وهذا المفهوم الأخير يفرض علينا الإيمان والاعتقاد بموجد لهذا الوجود، ولكن المعضلة هي في ظاهرتي الزمن والمكان، أو الزمكان، كما أسماه آينشتين مبدع النسبية العامة والخاصة، فهل هذا " الموجد" للوجود موجود؟ وأين يمكن أن يتواجد؟ هل في المكان الذي نعرفه بأبعاده الهندسية المألوفة؟ هل هو داخل الوجود أم خارجه، أو في مكان آخر؟ وهل هو موجود قبل الوجود؟ ومنذ متى؟ هل هو موجود في نطاق الزمن الذي نعرفه أم في زمن آخر كان موجوداً قبل عملية الخلق؟ فهناك زمان كوني وزمان وجودي وزمان نسبي وزمان مطلق الخ.. ، وفق هذه الرؤية الميثولوجية. وهناك الكون المرئي الذي نعرفه وندرسه ونتعاطى معه بأدوات علمية ورياضياتية، وهناك ماقبل هذا الكون المرئي، المعروف فيزيائياً بما قبل الانفجار العظيم أو ما قبل البغ بانغ، ما يعني وفق منطق الفيزياء أنه لا بد من وجود ما هو أكبر وأسع واشمل من الكون المرئي كما تقول أطروحة تعدد الأكوان،أي أن هناك حيز مطلق لا حدود له و لا بداية ولا نهاية له، وهذا الحيز المطلق هو الذي يحتوي كل ما هو موجود بما في ذلك كوننا المرئي، و معه الأكوان المتعددة، اللامحدودة أو اللامتناهية العدد، ولو اعتبرنا أن هذا " المطلق الوحيد" حي واعي وفي حالة حركة دائمة وتجدد مستمر منذ " الأزل" وإلى " ألأبد" أو إلى ما لا نهاية، فيمكننا اعتباره " الله" وفق المنطق الرياضياتي العلمي ولكن ليس في صيغته الميثولوجية لأنه لم يخلق ولا يخلق وهو الوجود الحقيقي الوحيد الممكن الوجود والواجب الوجود على حد تعبير المتصوفة، وكل شيء ما هو إلا جزء منه، سواء كان ظاهراً أو خفياً، مرئياً أو غير مرئي، ما يعني أن هذا المطلق " الله" ليس سوى طاقة، لم يخلقها أحد وليس لها موجد و لا توجد في مكان و لا في زمن محدودين، ومنها انبثق وينبثق دوماً كل شيء، وكال ما يوجد إن هو إلا جزء من تكوينها، سيما في جانبه المادي الذي نعرفه، بما فيه نحن البشر وكافة الكائنات الأخرى، وهناك الكثير من المكونات التي لا يعرفها البشر، فهناك مواد مجهولة من قبل البشر وتستعصي على إدراكه المحدود وقابليته العلمية البدائية، و لا يعرفها إلا الحضارات الكونية الأقدم والأكثر تطوراً، لأن كل ما هو موجود مادياً أو فيزيائياً يكون قابل للحساب والقياس ويكون كمومياً quantifiable أو ويمكن التعبير عنه من خلال العلاقات والمعادلات والأرقام والأعداد الرياضياتية التجريدية ما يعني أن الواقع المادي قابل للرقمنة لذا لا يمكننا القول " أن الله موجود" لأن ما هو موجود بالمعني الحسي يكون محدوداً ومعرضاً للقدم والشيخوخة والاستهلاك و لا يمكن تصوره أو إدراكه إلا مكانياً وحصره بحدود الأبعاد المكانية الهندسية الإقليدية، أي في إطار المحدود الوجودي، أي ما هو إلا شيء من بين الأشياء، في عالمنا المحسوس والقابل للإدراك والفهم والاستيعاب البشري. ولكن هناك بالتأكيد أشياء تختفي وراء الواقع الظاهر الذي نعيش فيه، هناك عالم آخر غير مرئي كما يقول مورفيوس لنيو في فيلم ماتريكس وعلينا إدراكه بالعقل . فإذا غاب العقل ظهرت الخرافة وإذا سادت الخرافة ضاع العقل كما يقول سبينوزا لذا يجب إتباع منهج ديكارت وسبينوزا، على غرار منهج تفسير الطبيعة المبني على الملاحظة والتجربة والبرهان وعلى كافة المعطيات اليقينية، فلا يمكننا عن طريق الخرافة والمعجزات معرفة الله واثبات وجوده أو سبر ماهيته. إن عملية الخلق للجزيئيات والموجودات النسبية، لم تجر وفق السيناريو الميثولولجي الديني الخرافي الذي قدمته النصوص الدينية المتمثل بخلق الله لآدم ومن ضلعه أخرج حواء التي أغوت آدم بارتكاب الخطيئة الأولى وأكله ثمرة الشجرة المحرمة كما تقول الأسطورة الدينية. فكوننا المرئي لم يأت جراء إرادة إلهية خارقة تجسدت عملياً تلبية لمقولة كن فيكون من العدم واللاشيء. وبأن اللاشيء الذي انبثق منه الشيء المادي الملموس هو في حقيقة الأمر الخواء الكمومي أو الكوانتي والمعروف لدى العامة بالفضاء الفارغ والذي يمكن التعامل معه بنظريتي النسبية العامة والميكانيك الكمومي أو الكوانتي، فالنسبية العامة تتعاطى مع قوة الثقالة أو الجاذبية لكنها في جوهرها نظرية المكان والزمان أو الزمكان وتشرح وتفسر ديناميكيات حركة الأجسام خلال الفضاء الكوني بل وتتناول ديناميكيات الفضاء نفسه وتوضح تطوره، أي تعمل في نطاق اللامتناهي في الكبر. بينما نظرية الكموم أو الكوانتوم تتعامل مع الجسيمات ما دون الذرية واصغر المكونات المادية والطاقوية للكون المرئي، أي اللامتناهي في الصغر.

الروحانيون والمتدينون وأصحاب العقل الخرافي لايمكنهم أن يستوعبوا فكرة نشوء شيء من لاشيء الذي هو في الحقيقة انبثاق شيء ما من فضاء فارغ ظاهريا لكنه مليء بالجسيمات الافتراضية غير المرئية وغير القابلة للرصد حالياً وهو فراغ سابق للوجود المادي وهو بدوره ناشئ من اللامكان، وبالتالي تراهم يركنون لتصور مثالي رومانسي عن إله يسمونه الله هو الوحيد القادر على أن ينتهك المستحيل ألا وهو إخراج أو صنع شيء من لاشيء حسب اعتقادهم. و هو الأمر الذي ردده طيلة آلاف السنين علماء اللاهوت وقالوا بضرورة وجود قوة وراء الطبيعة وخارج الكون واعتبروه الممكن الوحيد. لكنهم عاجزون عن الرد والإجابة على سؤال لماذا وجد الوجود؟.. وماذا كان قبل وجود الوجود؟ وماذا كان الله يفعل قبل وقوع حدث الانفجار العظيم الذي يتحدث عنه العلم..؟.

يقول برهان شاوي من خلال شخصياته الروائية:" ما يشغلني هو العدم.. أنا مهووس بهذا العدم العظيم اللامتناهي الذي أوجد الوجود.. أعرف أنني لن أعرفه ولن أحيط به بل ولن أدركه ولا يمكنني حتى تخيله لكنني على يقين من وجود هذا العدم" ويواصل المبدع برهان شاوي" أعرف أن الفلاسفة منذ القدم مروراً بالإغريق تحدثوا عن الهيولي.. وعن الماهية.. وانشقت الفلسفة بين الماديين والمثاليين.. بين من يقول بأسبقية الوجود على الماهية وبين من يقول بأسبقية الماهية على الوجود.. لكنني لست من هؤلاء.. فأنا لا أعرف الماهية ولا الهيولي لأفترض أنها تسبق الوجود.. ! أنا أدرك الجوهر الحر كما عند سبينوزا، كما العدم العظيم عند بعض علماء والفيزياء الكونية، وعلى قناعة بأن الوجود تجلى بإرادته.. فالوجود تمظهر للعدم.. ! تجسيد لإرادته الحرة.. جزء منه ومندغم فيه وليس منفصلا عنه.. !وحين أقول إن العدم موجود ولكن ليس بمعنى الوجود المادي وإنما الحضور.. كل هذا الوجود هو في موقف الحضور عند العدم العظيم المفكر.. عند الروح المطلق كما أشار إلى ذلك هيغل.. لكننا لن نعرفه.. وكل حديث عنه ليس سوى ضرب من العبث والجنون. وهذا قريب من مفهوم سبينوزا.. اي ان الوجود والعدم متداخلان.. الطبيعة هي تجسيد لإرادة العدم وجزء منه.. لا انفصال وحدود بين الوجود والعدم.. ولا بين الطبيعة و(الله) كما يعتقد سبينوزا . .والا كيف نفهم ما وراء حافات الكون".. في اي حيز تتحرك المجرات في حركتها الاضطرادية.. وكيف نفهم ما موجود قبل الانفجار الكبير وتشكل الوجود الذي نعيشه ونراه.. وهو سؤال قرب العلم من الفلسفة.. ماذا كان قبل لحظة الانفجار الكبير.. وكيف تشكلت القوانين الكونية كالجاذبية و الكهرومغناطيسية والقوة النووية الكبيرة أو الشديدة والقوة النووية الصغيرة.. والقوانين الأخرى غير المكتشفة لحد الآن والتي تحدث عنها العلماء بمن فيهم ستيفن هوكينغ عندما صرح بان ما وراء الثقوب السوداء والمادة المظلمة على حافة المجرة الجارة أندروميدا ظواهر لا تخضع للقوانين الكونية التي نعرفها.. بل حتى الأديان تجد نفسها في ورطة هنا.. فلو ذهبنا معها إلى أن الله خلق السماوات والأرض والوجود.. فالسؤال ماذا كان قبل خلق الوجود؟.. وهذا ما بحث فيه الفيلسوف الديني توما الاكويني الذي أكد على استحالة معرفة الله.

ويختتم برهان شاوي تصوره الميتافيزيقي بالقول " العدم هنا ليس بمعنى الهيولي في الفلسفة والكلمة في التوراة وانما هو حضور الإرادة في قوانين الطبيعة كما فسرها سبينوزا"، بيد أن هناك بون شاسع بين الرؤية اللاهوتية أو الدينية والرؤية العلمية لمسألة الكون والوجود والنسبي والمطلق. وإن ما ورد في كتاب موجز تاريخ الزمن لهوكينغ بهذا الصدد بات قديماً في أطروحاته وتجاوزه التقدم العلمي والاكتشافات والمشاهدات الفلكية والكوسمولوجية الحديثة ــ هناك المعنى الفلسفي السارتري لمفهوم العدم كمرادف للكينونة أو الوجود كما جاء في عنوان مؤلفه الشهير الوجود والعدم أو الكينونة والعدم، حسب المترجم، ــ فله ترجمتان إحداهما للكبير الراحل عبد الرحمن بدوي ـــ، وبالطبع هناك تعريف سبينوزا الذي تبناه آينشتين نفسه عن الله والوجود والعدم وهو أن مأصطلح عليه بــ " الله" لا علاقة له بالطبيعة والبشر والكائنات الأخرى ولا يتدخل في شؤونها وتفاصيل حياتها ومصيرها، وهناك المعنى الديني الذي يعرفه الجميع ولا حاجة للخوض فيه فيما عدا محاولة فهم الطرح البوذي الراقي جداً لمفهوم الوجود والعدم فهو الأقرب إلى الأطروحات العلمية المعاصرة، ونحن نعلم أن لا وجود لــ " الله" في الديانة البوذية . في علم الكوسمولوجيا والفيزياء النظرية المعاصرة لا يوجد ما يمكن أن نسميه " اللاشيء" ولا ما يمكن أن نسميه " العدم" بالمعنى السائد في الأذهان الذي هو النقيض للوجود. فإدراك البشر محدود ومختزل بقدر محدودية فهمهم وقابليتهم للإستيعاب التي هي مرتبطة بحواسهم الخمسة وربما الستة وما يمتلكونه من حدس وقدرة على العقلنة والقيام بمقاربات مختلفة لفهم الظواهر. العلم يقول لنا أن الوجود، بمعناه المطلق، ليس محدوداً بالظواهر المادية الملموسة التي ندركها ونلمسها أو نراها أو نحسبها ونقيسها، فهناك واقع ظاهر وهناك واقع خفي لا ندركه كما أن هناك كون مرئي نعيش فيها وأكوان خفية لا ندركها مع أن العلم يبحث فيها ويضع لها النظريات والمعادلات الرياضياتية. فنحن نتحدث هنا عن " وجود" محدود ومحدد بما يحيط بنا من واقع ومحتويات مادية ولا مادية توصلنا إلى " وجودها الفعلي أو الافتراضي أو النظري من خلال الحسابات والتجارب والمشاهدات الفلكية، لكننا في الحقيقة لا نعرف حتى ماذا يوجد وراء نظامنا الشمسي سوى الافتراضات والتخمينات فنحن لسنا متأكدون علميا لحد الآن ما إذا كان هناك كوكب تاسع أو عاشر غازي ضخم على تخوم نظامنا الشمسي يحاول العلماء إثبات وجوده من خلال تأثيراته الثقالية . أي مازلنا نعاني من فهمنا لمسألة " الحدود " أو التخوم" ولكن في العلم لا يوجد " قبل أو بعد" فهذه مفاهيم أرضية " فالزمن ليس موجوداً بذاته مستقلاً عن صنوه المكان والفضاء والحيز الكوني، هناك زمكان لامتناهي الأبعاد له نسيج خاص ينبعج بتأثير الكتل الكبيرة والثقالة الكونية، وهو ما يزال لغزاً ولا نعرف منه سوى الجزء المتعلق بواقعنا وكوننا المرئي في حدود لا تتجاوز ربما مجرتنا درب التبانة وأقصد به الزمكان الآينشتيني وعلينا أن نقرأ ونطلع على كتابات العالم الفيزيائي براين غرين صاحب كتاب الكون الأنيق وكتاب سحر الكون أو نسيج الكون وكتاب الواقع الظاهر والواقع الخفي في الكون المرئي وهو أحد علماء الصف الأول في نظرية الأوتار الفائقة وكذلك كتاب الكون الرياضياتي لماكس تغمارك وغيرها لكي نتجاوز محدودية المفاهيم البشرية للزمن والمكان والكينونة والعدم. فإحساسنا البشري بالواقع المحيط خداع ومجرد وهم أو على أقل تقدير ناقص . هناك الواقع التقليدي والواقع الرقمي والواقع الافتراضي والواقع النسبي والواقع الكمومي والواقع المطلق، ففي الكون المرئي لاوجود لماضي وحاضر ومستقبل فهذه مفاهيم أرضية ليس إلا وترتبط بالحركة والسرعة والاتجاه وزاوية النظر والقياس، أي أن الزمن كما نعرفه ليس له وجود خارج مجموعتنا الشمسية أو ليس هو نفس الزمن الذي يجري خارج نظامنا الشمسي في مجرتنا درب التبانة وفي باقي مجرات كوننا المرئي. المجال لايسمح هنا بتطوير هذه المسائل العميقة والجوهرية والتساؤلات الوجودية فهذا يتطلب إعادة صياغة العلم والفلسفة والدين ويحتاج لمجلدات كثيرة وهذا ما يحاول أن يفعله المبدع برهان شاوي في نطاق الإبداع الروائي وهذه ليست مهمة سهلة على الإطلاق.

الله: بورتريه تجريدية، غائمةٌ ومضبّبةٌ وغير واضحة المعالم:

لقد شُوِّهت عبارة (الله أكبر) وأصبحت كنايةً للرعب والجريمة والعنف والإرهاب والوحشية والبطش والقتل باسم الله الذي أورد في نصوصه المقدّسة للأديان التنزيلية السماوية آياتٍ في القتل والتدمير والإبادة والعنف، ولكن هل صحيحٌ أنّ تلك النصوص تنطُق عن الله وهو الذي أرسلها؟ النصوصُ الدينية تعمل -من حيث وعت أم لم تعِ ذلك- على تجسيد وشخصنة الله وتشبيهه بالبشر على اعتبار أنّه خلقهم على صورته، فهو مثلهم يغار ويفرح ويغضب وينتقم ويعطف ويسامح ويعفو ويكافئ وبيده العقاب والثواب.

فمن هو هذا الله؟ ما هي صفاته؟ ما هي طبيعته؟ ما هي ماهيته؟ ما هو جوهره؟ ما هو دوره؟ هل هو كينونةٌ موجودةٌ في المكان والزمان، أم خارج الزمان والمكان؟ أين يتواجد؟ وهل هو موجودٌ حقًا؟ متى ظهرت فكرة الألوهية ولماذا؟ من الذي ابتكر فكرة الإله الواحد الأعلى المتسامي الخالق الخالد القادر على كل شيء؟ هل هم اليهود؟ هل هو مُذكرٌ أم مؤنّث؟ هل يعلم كلّ ما كان ويكون وسيكون؟ أي يحيط بعلمه الماضي مهما قَدِمَ، والحاضر والمستقبل مهما بعُد؟ هل إله اليهود والمسيحيين والمسلمين هو نفس الإله وإن اختلفت التسمية؟ ما علاقة إله الأديان التوحيدية بمجمّع الآلهة القديمة في عصر الحضارات الأولى السومرية والأكدية والآشورية والبابلية، والفرعونية والإغريقية، والهندية، والصينية، والفارسية؟ مَن كَتب الكتب والنصوص المقدّسة التي تحدثت عن يهوه والإلوهيم والربّ ذي الأقانيم الثلاثة والله الإسلامي؟ ماهي الأوصاف التي أسبغتها الأديان على الله وأسبغتها الفلسفة الربوبية عليه، وأخيرًا العلم كيف يراه وما هي المقاربة العلمية التي يتعاطى بها العلم مع مفهوم الله .. إلخ؟ هناك أسئلةٌ لا تنتهي بخصوص الإله (الله).

المطلق الذي أوجد الوجود وعبّرت عنه نظرية وحدة الوجود الصوفية. في الحقيقة هناك شبه استحالةٍ للإجابة على أيٍّ من هذه الأسئلة على نحوٍ قاطعٍ ومثبتٍ ومبرهنٍ لا يمكن دحضه، ف «الله » هو لغزٌ غامضٌ حتى لمن يؤمن به، فما بالك بمن يُنكر وجوده.

ظهر الإله (Dieu) متأخرًا في تاريخ البشرية. فالإنسان الموجود على الأرض منذ عدة ملايين من السنين لم يكن يمتلك فكرةً واضحةً ودقيقةً عن شيءٍ أو كينونةٍ تدعى «الله أو الرب أو الخالق » ومن الناحية العلمية تشير التنقيبات الأثرية الآركيولوجية أنّ أوّل تمثلٍ لفكرة الألوهية ظهر قبل حوالي عشرة آلاف سنة. كانت هناك ربّاتٌ أنثوية ) déesses (سبقت ظهور الإله، أو الآلهة. الإله الواحد الأحد الذي لم يلد ولم يولد، كما يقول المسلمون، وهو الذي يُعبد في أركان الأرض اليوم. أما الأديان التوحيدية الثلاثة الرئيسية، اليهودية والمسيحية والإسلام، فقد ظهرت متأخرًا، وأول فكرةٍ توحيديةٍ كانت قد تبلورت في زمن الفراعنة في

مصر في القرن الرابع عشر قبل الميلاد تحت حكم الفرعون أمنحوتب الرابع Amenhoteb، والذي غيّر اسمه إلى «أخناتون »Akhénaton إشارةً إلى عبادة إله الشمس «آتون »Aton والذي فرضه الفرعون كإلهٍ وحيد، لكن عبادة الآلهة المتعددة سرعان ما عادت بعد وفاة الفرعون أخناتون، كما ذكر ذلك سيغموند فرويد في كتابه «موسى والتوحيد».

واحتاج الأمر انتظار منتصف الألف الأول قبل الميلاد كي تُختبر الديانة التوحيدية في إسرائيل من خلال عبادة يهوه Yahvé، وفي بلاد فارس من خلال عبادة آهورا مازدا (Ahura Mazda)، فالأقوام البدائية في حقبة ما قبل التاريخ لم يعرفوا مفهوم الإله أو الآلهة، فلا توجد آثارٌ آركيولوجيةٌ أحفوريةٌ أثريةٌ عن الدين الذي يُسيِّر حياة البشر آنذاك .وهي الحقبة التي سبقتْ التحول إلى العصر الحجري الحديث Néolithique قبل حوالي اثني عشر ألف عامٍ عندما بدأ أسلافنا بالتوطين والاستقرار في بقعٍ أرضيةٍ وتأسيس تجمعاتٍ على هيئة قرًى، تطورت فيما بعد إلى مدن، ولكن توجد بعض المؤشرات التي تسمح لنا بتصورٍ ما عن وجود معتقداتٍ يمكن أن نسمّيها «دينيةً » لدى إنسان ما قبل التاريخ. أهم تلك المؤشرات طقوس الموت، ففي وقتٍ ما بدأ البشر بممارسة طقوسٍ تصاحب الموت، الأمر الذي لم تقم به باقي الكائنات الحية، وقد عُثر على أقدم قبرٍ في فلسطين يعود تاريخه إلى حوالي المائة ألف عام. الهوموسابين Homosapiens، الإنسان الحديث المنتصب كان يضع جثث موتاه في وضع الجنين في اللحد بعنايةٍ فائقةٍ ويغطيهم باللون الأحمر قبل دفنهم وبجانبهم بعض الأدوات البدائية التي كانوا يستعملونها في الصيد لأنهم ربما كانوا يعتقدون أن أمواتهم سيعودون للحياة وسيحتاجون لتلك الأدوات، وهو تفكيرٌ رمزيٌّ كان يميّز البشر عن باقي الكائنات الحية، فتلك الألوان وتلك الأدوات والأسلحة البدائية، ما هي إلا رموزٌ لاعتقادٍ أو معتقدٍ بدائيٍّ لدى البشر عمّا بعد الموت ولا نستطيع إثبات ذلك.

في البدء كانت هناك الآلهة الأنثوية وفي السبعة آلاف سنةٍ قبل الميلاد ظهرت في الأناضول منصاتٌ للقرابين ذات طابعٍ دينيٍ تجرى أمامها مراسمُ وطقوسٌ دينيةٌ بدائيةٌ وعليها رسوماتٌ لرباتٍ يلدن ثيرانًا ثم انتشرت في منطقة المتوسط وفي الهند أيضًا حيث سادت عبادة الربة الأم الكبرى culte de la Grande Déesse – Déesse-Mère التي تمنح الحياة ورمز الخصوبة في الطبيعة بجانب الثور رمز الذكورية، والملفت للنظر أن الثور كان دائمًا خاضعًا ومستسلمًا للربّة الأم الأنثوية فهو في وضعٍ أدنى، كما يظهر ذلك بوضوحٍ في الرسومات والتخطيطات التي عُثر عليها في التنقيبات الأثرية في منطقة الأناضول وفي بعض مناطق الهند.

لم يكن العبرانيون أول من اختلق فكرة التوحيد كما ورد في كتاب عالم اللغويات والأنثروبولوجيا المبشر الكاثوليكي فلهيلم شميدت Wilhelm Schmidt في كتابه " أصل فكرة الإله »L’Origine de l’idée de Dieu الصادر سنة 1912 م، فإنسان ما قبل التاريخ عبد إلهًا واحدًا قريبًا منه داخل الطبيعة وأتخذ أشكالًا وهيئاتٍ مختلفةً، قبل أن يبتعد عنه ويغدو مفهومًا تجريديًا ليترك مكانه لآلهةٍ وآلهاتٍ متعددةٍ مذكّرةٍ ومؤنّثة، ومن ثم عاد من جديدٍ في النصوص العبرية أو اليهودية القديمة، ولقد سبق أن طُرحت هذه الفكرة، فكرة الانعزال والابتعاد عند إله وادي الرافدين ميزوبوتاميا - وهو الإله «آنو »Anu وبسبب إحاطته بعددٍ كبيرٍ من الآلهة الثانوية المذكرة والمؤنثة حيث نساه البشر، وبعد ذلك جاءت تجربة التوحيد اليتيمة الوحيدة في عهد الفرعون توت عنخ أمون ولكنبعد موته عاد الناس للتعدد الإلهي بضغطٍ من رهبان الإله آمون .Amon ويُعتقد أن هذه التجربة أثّرت في «موسى » حيث لجأ هو الآخر إلى الإله الواحد المتعالي الذي عبده أجداده من آدم ونوحٍ مرورًا بإبراهيم وإسحق- الذي أصبح اسمه إسرائيل- وإسماعيل ويعقوب والأسباط الاثني عشر الذين أوجدوا القبائل الاثني عشر اليهودية أو العبرية، وكان كتاب التوراة اليهودي هو أول من تحدّث بالنص عن الإله الواحد، وهو كتابٌ تمّ تأليفه بتجميع خليطٍ من الأساطير والخرافات والسرديات التاريخية لأحداثٍ متخيلةٍ أو مستوحاةٍ من أساطيرَ وخرافاتٍ لحضاراتٍ قديمةٍ ونصوصٍ وحكمٍ وتنبؤاتٍ وقصائدَ وأدعيةٍ وصلواتٍ وترانيم، وتخبرنا الأبحاث التاريخية المعاصرة أنّ العهد القديم أو التوراةLa Bible hébraïque دُوِّن في القرن السابع قبل الميلاد اعتمادًا على تراثٍ شفهيٍّ ما يجعل حقيقة أبطاله وشخصياته تاريخيًا مشكوكٌ فيها وهذا ينطبق على نوحٍ وإبراهيم (آبراهام) وموسى نفسه. هناك إشارةٌ تاريخيةٌ لمملكة إ سرائيل في عهد الفرعون مينبتاح Méneptah حوالي 1200 قبل الميلاد ورد فيها “ أن إسرائيل مُحيت ودُمرت ولم يعد فيها بذرة (semence)، وهناك نصٌّ آراميٌ في القرن التاسع قبل الميلاد ورد فيه ذكرٌ ل” بيت داود يشهد بوجود مملكة داود حوالي القرن العاشر قبل الميلاد. وهي ليست مملكةً بالمعنى الحقيقي وإنمّا شبه مدينةٍ أقرب للقرية منها لحاضرةٍ متطورةٍ ولا يوجد أثرٌ للمعبد الكبير الذي شيّده الملك سليمانSalamon ابن دافيد Davidداود.

أشاع اليهود أنّ التوراة هي كلام الله لكن المنتقدين والمعارضين لهذا الطرح رغم إيمانهم وتدينهم يقولون أنّ الله لم يكتبه أو يُمليه وإ نّما هو نتيجةُ إيحاءٍ أو استلهامٍ ربانيٍّ جاء لأذهان الأنبياء القدماء وبالتالي يجب تفسيره وتأويله لأنّه ليس نصًا منزّلًا ومقدّسًا لأنّه ورد في الكثير من النصوص الموضوعة والمؤلَفة من قِبل البشر وهناك الكثير من التزوير والإضافات فيه. ثمّ جاء يسوع المسيح عيسى بن مريم كما يُسميه المسلمون وكان يهوديًا متدينًا في صِباه وشبابه ومتمسكًا بالتوراة قبل أن يَجهَر بنبوته ورسالته المُصحّحة والمُكمّلة للديانة اليهودية. ولقد جُمعت آثاره وأقواله وقصّته ومقتله في مجموع نصوصٍ سُميت بالأناجيل الإنجيل يعني البشارة وهي كثيرةٌ لم تحتفظ المؤسسة الدينية الكنسية منها سوى بأربعة، هي إنجيل مرقص Marc ومتى Mathieu ولوقا Luc ويوحنا Jean المكوِنة لما يُعرف بالعهد الجديد المُكمّل للعهد القديم. ولقد اعتبر عددٌ كبيرٌ من المسيحيين أنّ يسوع المسيح إلهٌ وهو ابن الربّ الخالق وقالوا بالأقانيم الثلاثة «الآب والابن والروح القدس »، وأنّ للمسيح طبيعتين، ناسوتيةٍ ولاهوتية، الأولى بشريةٌ والثانية ربانية، وألصقوا به الكثير من المعجزات وأضافوا عليه الكثير من المزايا الفريدة وعزوا إليه الكثير من الأعمال الخارقة للطبيعة كإحياء الموتى والسير على الماء وشفاء المرضى ووصفوه برب المحبّة والصفح والتسامح .. إلخ. غالبًا ما يُقدَّم إله التوراة على أنّه كلّّي القدرة وحاضرٌ أو متواجدٌ دومًا في كلّ مكانٍ وزمانٍ ويتدخل على نحوٍ مباشرٍ في شؤون البشر. وتُفسّر آياتُ التوراة ما يتعرض له اليهود من مصائب وكوارث بأنّه عقابٌ أرسله الله لهم أو سمح بحدوثه بسبب خطاياهم التي ارتكبوها بحقّه، فرديًا أو جماعيًا، ما يعني أنّ هناك تفسيرًا ثيولوجيًا للشر ومصدره هو الله الخالق للخير والشر معًا والمسيح المُنتظر هو المحرِّر الذي يمتلك قدراتٍ إلهيةً وينتظره الشعب اليهودي لكي يُحرره من الاحتلالات الأجنبية المتعاقبة عليه.

الإيمان بوجود إلهٍ خالقٍ متعالٍ، يتخذ أشكالًا متنوعةً، من الإيمان الفطري أو الاعتقاد الديني، مرورًا بالطرح الفلسفي والمنطقي، وانتهاءً بالفرضيات العلمية يطرح السؤال الأهم وهو: هل بالإمكان التوصل إلى وجود الله بالعقل وحده؟

شغلَ هذا السؤال تاريخ الفلسفة برمّته لغاية القرن التاسع عشر. منذ العصر الإغريقي الذي يؤ شّّر لبداية التفكير الفلسفي الغربي. كان المفكرون والفلاسفة الإغريق في غالبيتهم يعيشون في عالمٍ متديّنٍ تحفُّ به الخرافات والأساطير والمعتقدات المشركة وكانت جهود الفلاسفة التنويريين تصبّ في محاولات تجاوز تلك المعتقدات الخرافية والتمعّن بالمسألة من الناحية العقلية الصرفة.

كان العديد من الفلاسفة القدماء يحترمون الآلهة، ولكن ما هو مفهومهم للإله؟ أول نقطةٍ مشتركةٍ بينهم هي دحض الصفة الأنثروبومورفية Anthropomorphique التجسيمية واللاأخلاقية لآلهة الأولمبياد،Les Dieux de l’Olympe لأنّ هذا التصور يجعل الآلهة يشبهون البشر كثيرًا مما يُفقدهم بعض المصداقية خاصةً وأنّهم يتصفون بالكثير من صفات وردود أفعال وسلوكيات البشر كالفسوق والعجرفة والتكبر وروحية الانتقام والخداع والمكر والتقلب والخداع ونقض العهود .. إلخ. أي على النقيض من الكمال، فهناك فلاسفةٌ رفضوا هذا النموذج التشبيهي والتجسيمي للإلهة الإغريقية أبيقور Epicure، وآخرون لا يعتقدون حتى بوجود الآلهة مهما كان كمالها، لكن ذلك لم يمنعهم بالاعتقاد بوجود حكمةٍ متعاليةٍ شموليةٍ إلهيةٍ تحكم العالم ومتجليةً من خلال سلوك بعض البشر المتميزين المصطفين.

فهناك تيارٌ فكريٌ وفلسفيٌ إغريقي رومانيٌ وُلد في القرن الرابع قبل الميلاد يُعرف أتباعه بالمتحملون Stoïciens يعتقدون بوجود كينونةٍ ما بين العالم الدنيوي والعقل الإلهي وهي عقيدة الوجوديين الذين يعتقدون بوحدة الوجود Panthéistes ومِن أشهر من يتبنون ذلك فيلسوف النهضة باروخ سبينوزاBaruch Spinoza وقبلهم كان الفلاسفة المشهورون مثل سقراط وأفلاطون وأرسطو قد أدلوا بدلوهم في مسألة الألوهية. وكذلك فلاسفة الأفلاطونية الجديدة Néoplatoniciens، وعلى رأسهم أفلوطين Plotin الذي عاش في القرن الثالث قبل الميلاد وهذا الأخير أكد وجود ثلاثة مبادئ عليا، التي ينحدر منها العالم الحسي وهي: الواحد L’Un، الذكاء Le Noos، والروح أو النفس L’Ame، والواحد هو المبدأ العلي الأعلى وهو متسامٍ وغير قابلٍ للتعريف والتحديد وثابتٍ لا يتغير، لا يشيخ و لا يموت، خالدٌ وخيّرٌ إلى حدّ الكمال، ومكتفٍ بذاته. والذكاء أو العقل الأول، ينبثق من الواحد المتسامي حيث تتجلى الحقيقة. والنفس أو الروح تنبثق من الوعي أو العقل الأول ككينونةٍ أو مبدأٍ للوحدة التي تُحرك العالم المحسوس، فهناك روح العالم الجمعية، وهناك روحٌ جزئيةٌ لكل كائنٍ حي، وهذا الطرح يتميز ويختلف عن الطرح التوحيدي الذي جاءت به الأديان التوحيدية الكلاسيكية الثلاثة. وهناك في ذلك الوقت فلاسفةٌ ملحدونٌ لا يعتقدون بوجود مبدأٍ أو كينونةٍ خالقةٍ ربانيةٍ أو إلهيةٍ عليا Athéistes أو لا أدريون Agnostiques، ويوجد فَرقٌ كبيرٌ بين إله الفلاسفة الإغريق وإله الأديان التوحيدية لأنّ هذا الأخير فيه الكثير من الصفات والمزايا البشرية كما نصّت على ذلك النصوص المقدّسة المنزّلة.

أمّا مسألة إثبات وجود الله فهناك عدة حججٍ وحالاتٍ أحدها يسمى بالدليل الأنطولوجي حيث يكون التفكير بالله باعتباره الكائن الأكثر كمالًًا من أي كائنٍ آخر في الوجود وبما أنّه من الكمال بمكانٍ فهو إذن يوجد أكثر مما كونه لا يوجد وسيترتب على ذلك بالضرورة أنه موجود عقلا إلاّ أنّ هذه الحُجة لا تنطلي على المفكرين والمثقفين، ما عدا ديكارت، ولا تُقنع أحدًا سوى المؤمنين الذي لا يحتاجون لحجّةٍ لإقناع أنفسهم. ولقد حاول عددٌ من الفلاسفة، وبأسلوب المنطق إثبات وجود الله ومن بينهم )لايبنز( الذي سعى لتقديم ما يسمى بالبرهان الكوسمولوجي والسبب الكافي الذي يقول: لا يوجد شيءٌ بدون سببٍ ولا علةٍ بدون معلول. من هنا لابد من وجود كائنٍ يسمى الله لضرورة وجوده. وهناك حجّةٌ ثالثةٌ قدّمها الميتافيزيقيون وتسمى البرهان الفيزيقي الثيولوجي Physicothéologique وينطلق من مراقبة ومشاهدة النظام المعقّد والذي يقود حتمًا إلى ضرورة وجود عقلٍ ذكيٍ خالقٍ ومنظّمٍ إذ لا يمكن لهذا النظام أن يكون ثمرة الصُدفة. لذلك لا بدّ من وجود عقلٍ علويٍ ذكيٍ يكون هو الأصل الموجد للكون، ولقد علّق الفيلسوف الفرنسي فولتير قائلًًا: «الكون يحيرني ولا يمكنني أن أقبل بأنّ هذه الساعة الكونية موجودةٌ بدون ساعاتي صانعٍ لها .»

وبعد ظهور نظرية الانفجار العظيم )البنغ بانغ( المبنية على نظرية النسبية العامة لآينشتاين انبرى عددٌ من المثقفين المتشبثين بالإيمان بوجود الله تحت يافطة «التصميم الذكي »Design intelligent ليجيزوا مقولة التنظيم الدقيق للكون وللقوانين الفيزيائية التي تنظّمه وتسيّّره، إلى جانب ظهور الحياة الذكية العاقلة ونشوء جنس البشر وتطوره لا سيما العضو الأكثر تعقيدًا فيه ألا وهو الدماغ، وقالوا بأنّ ذلك يشهد على وجود تصميمٍ ذكيٍ ومصممٍ خارقٍ لهذا الكون، دون أن يغرقوا في وصفه على غرار الأديان السماوية التي قلّلت من قيمته دون أن تعي أو تقصد ذلك. وحاول هذا التيار الثقافي والفكري أن يمحو مُسَلّمة الصراع بين الدين والعلم بخصوص مسألة الإله الخالق للكون. ولكن لا يوجد في الكون المرئي الجمال والهارمونية والتنظيم الدقيق فقط، بل تزخر الطبيعة بالفوضى والكوارث الطبيعية والمذابح وهيمنة الشر الذي لا يعرف أحدٌ مصدره سوى أنه خالق الكون نفسه إذا آمنا بأنّ للكون المرئي خالقًا، أي أنّ الله هو مصدر الشر وبهذا الصدد علّق الفيلسوف لايبنز في كتابه دراساتٌ وأبحاثٌ في الثيولوجيا الربانية Essais de théodicée وطرحَ تساؤله على نحوٍ مباشرٍ وصريحٍ قائلًا: «كيف نفهم، في حالة وجود الله، وإنّه إلهٌ طيبٌ وخيّرٌ، وجود هذا الكم الهائل من الشر والسوء والفظاعة والبؤس في الأرض؟ » فيما يسخر فولتير من هذا الإله في رائعته كانديد Candide 1759 من خلال شخصية البروفيسور بانغلوس وهو يردّد وسط الكوارث والمساوئ والشرور أنّ كلّ شيءٍ نحو الأحسن في أفضل العوالم الممكنة.

وفي التصوف العبري، الكابالا، هناك أطروحةٌ تقول أنّ الله بعد أن انتهى من خلق الكون تجرّد من إلوهيته وانسحب من العالم لكي يتيح المجال لشيءٍ آخر أن يحدث أو يوجد. فبعملية الخلق وافق الله ألاّ يكون هو كلّ شيءٍ واختزل كينونته حتى يتيح للعالم أن يفرض نفسه ويمكّن لشيءٍ آخر أن يتواجد غيره وبالتالي يوجد الشر بالضرورة في هذا العالم الذي يفتقد للكمال . فلاسفة عصر الأنوار انتقدوا الأديان بشدةٍ لكن جزءًا كبيرًا منهم لم يكن ملحدًا ولديه مفهومه الخاص عن الله، فأغلب الربوبيون Déistes على غرار الفلاسفة في العصور القديمة، يؤمنون بوجود «مبدأٍ عليّ » خارقٍ وخالقٍ ينظم الكون وليس إلهًا شخصيًا يهتم بشعبٍ معينٍ على حساب شعوبٍ أخرى ويُظهر نفسه لهم من خلال أنبياءٍ ونصوصٍ مقدّسةٍ يؤمنون بالإلوهية Théismes وهكذا تستمر دائرة الصراع بين العلم والدين حول موضوع إثبات وجود أو عدم وجود الله، ولقد عبّر غاليلو غاليله، ضَحية الكنيسة الكاثوليكية بسبب أفكاره وآرائه، عن ذلك، قائلًا: "إنّ العلم والدين يجيبان على سؤالين مطروحين في سياقٍ مختلفٍ ولا يُفترض أن يدخلا في معركةٍ أو صراعٍ بينهما، فالدين يُخبرنا كيف يمكننا أن نذهب إلى السماء في حين أنّ العلم يُخبرنا ما هي أحوال السماء .» أمّا في وسط الإلحاد والملحدين Athéismeفكان أوّل مُلحدٍ علنيٍّ هو الراهب جون ميسليه،Jean Meslier وكان فولتير قد نشر وصيّته في سنة وفاته 1729 م وهو نصٌّ معادٍ للدين بقوةٍ واحتدامٍ تحت عنوان مذكرات وأفكار ومشاعر جون ميسليه وهو عبارةٌ عن دراسةٍ فكريةٍ مُطّعّمةٍ بالبراهين والحُجج المنطقية والعقلية التي تنفي وجود إلهٍ وألوهيةٍ تتحكّم بالعالم والواقع الوحيد الموجود هو الواقع المادي، فمسيليه كان ملحدًا وماديًا في نفس الوقت بعد أن كان رجل دينٍ متعمّقٍ بدينه.

حصيلة ذلك أنّنا مازلنا وسنظل نجهل حقيقة هذا اللغز وهذه الفرضية المسماة " الله » وهل هي ضروريةٌ لوجودنا أم لا؟ لأنّ الله رُغم جهوده في الاتصال بنا عبر أنبيائه ورسله ونصوصه، لم يكشف لنا عن حقيقته وطبيعته وماهيته وصفاته وقدراته إلّا من خلال نصوصٍ لا يمكن الجزم أنّها صادرةٌ عنه، بل ربّما وضَعَها مؤلِفون بشرٌ باسمه.

***

د. جواد بشارة

أرض الميعاد: تشكل أرض فلسطين، الجغرافيا المركزية للعقيدة الصهيونية؛ فهي «أرض الميعاد» ونواة «إسرائيل الكبرى»، وهي الحلم الذي يدغدغ المشاعر التاريخية للصهاينة بالعودة وبنهاية مرحلة الشتات. وهي في مجملها أوهام تأسست على أساطير تاريخية كما يقول المفكر الفرنسي المسلم «روجيه غارودي»، وبكلمة أخرى فهي لي لعنق بعض النصوص اليهودية التاريخية.

ومن هنا جاءت تسمية (الصهيونية) نسبة إلى جبل (صهيون) في فلسطين، وهو جبل مقدس لديهم، وقد أطلق هذه التسمية اليهودي الألماني «ناتان بيرنياوم» في عام 1890، ويقصد بها الحركة والأيديولوجية التي تعبر عن هدف الشعب اليهودي في العودة إلى فلسطين، وهذا الهدف القومي التاريخي يمثل - كما يزعمون - إرادة إلههم (يهوه) الذي اصطفى «فلسطين وطناً لبيته وسكانه»؛ فقد جاء في سفر التكوين: «قال الرب لإبرام: اذهب من أرضك وعشيرتك ومن بيت أبيك إلى الأرض التي أربك، فذهب إبرام كما قال الرب، فأتوا إلى أرض كنعان وظهر الرب لإبرام وقال: لنسك أعطي هذه الأرض من نهر مصر إلى النهر الكبير، نهر الفرات»(1). وحينها حلّ العبرانيون في فلسطين كمهاجرين أو مغتربين كما يقول النص التوراتي: «وتغرب إبرام في أرض الفلسطينيين أياماً كثيرة»(2).

وقد حدد المؤتمر الصهيوني الأول في مدينة بال بسويسرا عام 1897 هدف «المنظمة الصهيونية العالمية» التي تأسست بقرار من المؤتمر بهذه العبارة: «إنّ هدف الصهيونية هو إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين يضمنه القانون العام»(3). وسوغت المنظمة - نظرياً - كل أساليب العدوان والعنف لتحقيق هذا الهدف، بما في ذلك الهجرة الجماعية والغزو والاحتلال والاستيطان ومصادرة أراضي السكان الأصليين وتشريدهم واستباحة المقدسات والأعراض والقتل والتعذيب، كما قررت المنظمة أن تكون فلسطين أرضاً يهودية خالصة(4)، وأن تكون أراضي الدول المجاورة (لبنان، سوريا والأردن) عمقاً أمنياً وامتداداً حيوياً لها، تمهيداً لتحقيق هدف «إسرائيل الكبرى: من النيل إلى الفرات».

والتقت المصالح الصهيونية - البريطانية في بدايات القرن العشرين عند نقطة إيجاد وطن قومي لليهود في فلسطين، وهو ما أعلنه «آرثر جيمس بلفور» وزير خارجية بريطانيا عام 1917، لتكون الدولة اليهودية الجديدة في فلسطين عبارة عن خندق استعماري بريطاني في قلب العالم العربي والإسلامي، لحماية أهداف بريطانيا في المنطقة. ثم تحقق هذا الوعد (البريطاني وليس الإلهي) بإعلان «بن غوريون» عن قيام (دولة إسرائيل)، والذي بدأه بكلمة: «أرض إسرائيل هي مهد الشعب اليهودي». محققاً بذلك الأسطورة التاريخية التي تبدأ بعودة العبرانيين لأرض الميعاد وتنتهي بإبادة الكنعانيين والفلسطينيين والشعوب العربية المجاورة. وأعادت الحركة الصهيونية حينها تأكيدها على أن القدس (أورشليم) هي عاصمة (إسرائيل) الأبدية، وهو خيار تاريخي لا تمتلك العصبية اليهودية باتجاهاتها العلمانية والدينية خياراً آخر له.

تهويد فلسطين

«تهويد فلسطين» هو العنوان الرمزي للإستراتيجية العليا للحركة الصهيونية، والتي بدأت بتنفيذها منذ أواخر القرن التاسع عشر الميلادي، أي أعقاب انعقاد المؤتمر الصهيوني الأول مباشرة. وهذا لا يعني عدم وجود خطوات سابقة بهذا الشأن؛ فقد قام بعض أصحاب رؤوس الأموال اليهود في بريطانيا وأمريكا بدعم مشاريع بناء الأحياء والمستوطنات والكنائس اليهودية في فلسطين ابتداءً من عام 1842، بينها حوالي (27) مستوطنة في القدس وحدها، ونشط هذا التحرك بعد مؤتمر بال عام 1897، تصاحبه صيحات رواد المنظمة الصهيونية، ولا سيما «هرتزل» و«نوردو» بتفريغ فلسطين من سكانها ونقلهم إلى البلدان المجاورة. وأخذ الاستيطان شكلاً منظماً في أعقاب وعد بلفور عام 1917 برعاية حكومة بريطانيا وبدعم مباشر من سلطة الانتداب البريطاني الذي بدأ في فلسطين عام 1920.

وكان الغزو البشري اليهودي يتصاعد تصاعداً مطرداً، حتى بلغ عدد اليهود في فلسطين عام 1925 حوالي (75) ألف نسمة، أي ما نسبته 10% فقط من عدد سكان فلسطين، وقفز العدد إلى (250) ألف عام 1929، ثم ما يقرب من (350) ألف عشية تقسيم فلسطين عام 1947 بقرار منظمة الأمم المتحدة. وخلال حرب 1948 والعام الذي يليه ارتفع العدد إلى (600) ألف نسمة، وهو ما يعادل 31% من عدد السكان.

وتسبب قرار التقسيم وإعلان قيام دولة (إسرائيل) إلى تهويد القسم الذي أصبح جزءاً من الكيان الصهيوني، ومنه القدس الغربية (التي تشكل حوالي 84% من مساحة مدينة القدس). وبالتدريج أصبح الفلسطينيون أقلية في هذه المناطق، وهم الذين يطلق عليهم فلسطينيو 1948 أو عرب الداخل. وتمدد الكيان الصهيوني على القسم الذي أقرت الأمم المتحدة بقاءه عربياً، فاحتلت سلطاته قطاع غزة ومناطق الضفة العربية خلال حرب 1967، بل وتجاوزت حدود فلسطين لتحتل شبه جزيرة سيناء (المصرية) ومنظمة الجولان (السورية)، ثم وحدت شطري القدس تحت سيطرتها، وطبقت في هذه المناطق أيضاً إستراتيجية التهويد، مستخدمة كل أساليب العدوان والشر.

واستمر عدد الفلسطينيين بالتناقض من خلال التشريد والهجرة المعاكسة، وعدد اليهود بالتصاعد، حتى بلغت نسبة العرب في فلسطين المحتلة (أراضي العام 1948) حوالي 17% واليهود 83% عام 1989، وهي النسبة التي كانت عكسية عام 1947(5). وبرغم هذه الحقائق التي يقر بها الجميع، حتى أولئك الذين زرعوا الصهاينة في فلسطين ودعموهم بالمطلق، غلا أن زعماء الحركة الصهيونية يجنون على التاريخ والجغرافية وهم يرفعون شعار: «فلسطين أرض بلا شعب لشعب بلا أرض»، وهو ما ترجمته «غولدا مائير» في عام 1969 بقولها: «ليس هناك من شعب فلسطيني، وليس الأمر كما لو أننا جئنا لنطردكم من ديارهم والاستيلاء على بلادهم، انهم لا وجود لهم»(6). وبالطبع فإن إستراتيجية التهويد لا تقتصر على تهويد الأرض والسكان، بل تستهدف أيضاً التهويد الثقافي والتعليمي، وتهويد الأماكن التراثية والمقدسات الإسلامية، ويبرز ذلك بشكل أكثر وضوحاً في مدينة القدس وغيرها من المدن المقدسة كالخليل.

الاعتداءات الصهيونية على الإنسان والمقدسات

جاء الغزاة الصهاينة إلى فلسطين وهم يحملون البنادق ويبيتون الشر لأهلها وأرضها ومقدساتها. ففي مطلع القرن العشرين الميلادي بدأ اليهود الصهاينة بتسليح أنفسهم وتنظيم صفوفهم، وانتهت هذه الإرهاصات إلى مبادرة الوكالة اليهودية في فلسطين إلى تأسيس منظمة عسكرية سرية في عام 1907 شعارها: «سقطت يهودا بالدم والنار، وستنهض بالطريقة نفسها»، وحملت اسم «هاشومير» بعد عامين، ثم أعيد النظر في برامجها ونشاطها عام 1920 لتظهر في إطار منظمة عسكرية جديدة أكثر قوة وعنفاً هي منظمة «هاغانا»، ثم اندمجت المنظمتان عام 1948 ليتشكل منهما جيش الكيان الصهيوني.

وفضلاً عن الأعمال الإرهابية التي مارستها هذه العصابات، ومن ثم عرف بـ «جيش الدفاع الإسرائيلي» داخل فلسطين، فإن الحركة الصهيونية العالمية مارست إرهاباً منظماً آخر خارج فلسطين، لكنه استهدف هذه المرة اليهود أنفسهم، فقد التقت المصالح الصهيونية مع مصالح حكومات بعض الدول الكبرى عند نقطة إجبار اليهود على الهجرة إلى فلسطين، ومن ذلك التنسيق الصهيوني مع النازية في ألمانيا، ومع الشيوعية في الاتحاد السوفيتي، والصليبية الاستعمارية في بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية: لاستفزاز اليهود في أوروبا والمنطقة العربية والإسلامية، من خلال محاصرتهم سياسياً واجتماعياً واقتصادياً، والقيام بأعمال عنف وإرهاب ضدهم: بهدف ترحيلهم عنوة إلى فلسطين، ولا سيما بعد أن رفض كثير من اليهود الموزعين على دول العالم المختلفة فكرة الهجرة إلى فلسطين، حتى اضطر هؤلاء للجوء إلى فلسطين هرباً من الاضطهاد المفتعل. وبهذا المخطط تمكنت الحركة الصهيونية العالمية من حشد اليهود في فلسطين.

وفي داخل فلسطين، تعرض الإنسان والمقدسات إلى أبشع أعمال العنف والإرهاب والعدوان على يد العصابات الصهيونية المسلحة القديمة والجديدة، والسلطات المدنية والعسكرية الصهيونية. ولا شك أن الكتب والبحوث والإحصاءات التي تحدثت عن الجرائم والمجازر التي قام بها الصهاينة في فلسطين تعد بالآلاف، وقد لا نأتي بجديد في هذا المجال، ولكن نختصر الطريق إلى الحقيقة من خلال عرض نماذج للاعتداءات التي قام بها الصهاينة على المقدسات الإسلامية في القدس والخليل، وتحديداً على المسجد الأقصى والحرم الإبراهيمي، على اعتبار أن اليهود يطلقون على المسجد الأقصى اصطلاح «شناعة الحزب»، ويعنون بذلك معبد الأصنام والتماثيل، مهو مصطلح قديم أسقط المسجد الأقصى، فيما يعتبرون الحرم الإبراهيمي حرمهم وكنيسهم الذي لا يحق للمسلمين دخوله.

مخطط هدم المسجد الأقصى

وهو مخطط قديم، وله علاقة ببعض أساطير الإيديولوجيا الصهيونية، إذ تعتقد هذه الأساطير بأن هيكل النبي سليمان(ع) يقع تحت المسجد المقدس، وأن المسجد بني على أنقاض الهيكل. واليهود ينظرون إلى إعادة بناء الهيكل نظرةً قومية وليست دينية، على اعتبار أن سليمان عندهم ملك قومي ابن ملك قومي، وليس نبياً ابن نبي.

وبدأ الصهاينة بتنفيذ هذا المخطط بمصادرة العقارات المحيطة بالمسجد وهدمها أو تصديعها تحت مختلف الذرائع، ثم أخذ المخطط طابعاً جاداً ومعلناً بعد نكسة حزيران/ يوليو 1967؛ ففي أواخر هذا العام بدأ الهدم والتنقيب في المساحة الملاصقة لحائط البراق (المبكى)، وعلى امتداد الأسوار الغربية والجنوبية لحرم المسجد، وكان (حي المغاربة) هدفاً مباشراً للهدم، وبلغ عمق الحفريات حوالي (14) متراً.

وفي عام 1969 استمرت عمليات الهدم من حيث انتهت، وبلغت (80) متراً على طول سور الحرم، وفي العام التالي أخذت الحفريات تمتد بطول (180) متراً أسفل المنطقة المارة بأسوار الحرم وأبوابه، وعلى شكل أنفاق. وبحلول عام 1972 وصل التنقيب إلى أسفل ساحة المسجد، ورافقها الاستيلاء على مبنى المحكمة الشرعية الإسلامية الملاصقة للمسجد، وتحويل جزء منها إلى كنيس. وفي الأعوام التالية اخترقت الحفريات المساحة التي تقع أسفل السور الغربي، وصولاً إلى السور الجنوبي باتجاه السور الشرقي، وتوقفت عند الأروقة السفلية وأروقة المسجد الجنوبية الشرقية، ورافقها إزالة مقبرة تاريخية للمسلمين تضم رفاة بعض الصحابة. وفي عام 1977 بلغت عمليات التنقيب المساحة التي تقع تحت مسجد النساء داخل المسجد الأقصى، فضلاً عن تعميق ساحة البراق. ثم تبعتها حفريات جديدة تحت السور الغربي، والبدء بشق نفق يبدأ في شرق المسجد الأقصى، وتقرر أن يصل إلى غربه، وكذلك حفريات أخرى تحت الجدران الجنوبية بحثاً - هذه المرة - عن مدافن لملوك بني إسرائيل. وحاولت وزارة الأديان الصهيونية (المعنية بعمليات التنقيب - الهدم) في عام 1981 أن توصل حفرياتها بنفق إسلامي قديم تحت السور الغربي للحرم.

وتوقفت الحفريات بضع سنوات؛ حتى عام 1986؛ حين استؤنفت بصورة واسعة، أدت إلى إغلاق بعض المنشآت العربية العامة والخاصة، وطرد أعداد كبيرة من السكان العرب خارج القدس القديمة (التي تضم المسجد الأقصى). واتخذ «آرييل شارون» الذي كان وزيراً حينها؛ أحد البيوت المصادرة القريبة في المسجد الأقصى منزلاً شخصياً له، لتأكيد عملية تهويد منطقة الحرم القدسي.

وفي التسعينات أيضاً شهدت عمليات الحفر والتنقيب مرحلة أخرى؛ إذ وسعت مساحة الأنفاق تحت المسجد، وتم إيصال قسم منها إلى الجانب المقابل، فيما تم تفريغ كميات هائلة من التراب في مناطق الحفر، الأمر الذي كان سيؤدي إلى انهيار أجزاء من المسجد فيما لو استمرت عملية التفريغ على هذه الوتيرة.

حرق المسجد الأقصى

وهو العمل الإجرامي الكبير الذي قامت به العصابات الصهيونية في آب/ أغسطس من عام 1969، وأدى إلى اشتعال النيران في أروقة المسجد. ومن أجل التغطية على جريمتها، فإن السلطة الصهيونية سجلت الجريمة ضد فاعل واحد صهيوني (من أصل أسترالي) الذي نفذ العملية.

محاولات اقتحام المسجد الأقصى

تكررت محاولات اقتحام المسجد الأقصى ابتداءً من عام 1979؛ حين حاولت جماعة (أمناء جبل الهيكل) بزعامة الحاخام «غورشون سلمون» اقتحام المسجد الحرام، وأعقبتها محاولات جماعة (هاتحيا) وجماعة (كاخ) بقيادة الإرهابي «مائير كاهانا»، وهي المحاولات التي شجعت المؤتمر الديني اليهودي الذي عقده الحاخامات الصهاينة في القدس في نيسان/ أبريل 1980 لاتخاذ قرار بالسيطرة على المسجد الأقصى، تمهيداً لتدميره وإعادة بناء هيكل سليمان على أنقاضه. وتسببت محاولات جماعة الحاخام «كاهانا» في تدنيس المسجد الأقصى إلى وقوع صدامات عنيفة في ساحته بين الفلسطينيين المدافعين عن حرماتهم ومقدساتهم والإرهابيين الصهاينة المهاجمين.

وكانت محاولتا نسف المسجد الأقصى وقبة الصخرة في آب/ أغسطس وتشرين الأول/ اكتوبر من عام 1982 من قبل جماعة (كاخ) أهم المحاولات التي جرت في عقد الثمانينات. أما المحاولة الأبرز التي أعقبتهما فهي محاولة شارون (الوزير الصهيوني حينها) في أيلول/ سبتمبر 2000 بدخول المسجد الأقصى مع الكثير من أنصاره وحراسة وتغطية عسكرية مكونة من (3000) جندي صهيوني، وهي المحاولة التي أدّت إلى استشهاد وجرح العشرات من الفلسطينيين، وكانت نتيجتها المباشرة اندلاع (انتفاضة الأقصى).

وفي السياق نفسه تدخل محاولات بعض الصهاينة المتدينين أداء طقوسهم اليهودية داخل المسجد الأقصى، وهو ما حدث لأول مرة وبشكل رسمي في آب/ أغسطس 1989، حين أدى بعض اليهود طقوسهم على أبواب المسجد الأقصى. وبعدها بعشر سنوات تقريباً افتتح رئيس وزراء الكيان الصهيوني موقعاً جنوب المسجد الأقصى يؤدي فيه اليهود طقوسهم؛ الأمر الذي شجع بعض الزعماء الصهاينة للمطالبة بتقسيم المسجد الأقصى رسمياً بين اليهود والمسلمين. وقد سبقها محاولات غير رسمية، حين طاف ثلاثة صهاينة داخل قبة الصخرة عام 1969، ثم أداء زعيمين صهيونيين لطقوس دينية داخل المسجد الأقصى عام 1973.

الاعتداء على المصلين

في تشرين الثاني/ نوفمبر 1979 افتتحت الشرطة الصهيونية مسلسل الاعتداء على المصلين داخل المسجد الأقصى، بعد أن أطلقت الرصاص عليهم. وفي نيسان/ أبريل 1982 أطلق جندي صهيوني النار بشكل عشوائي على المصلين. وخلال انتفاضة الحجارة كانت الاعتداءات تتكرر باستمرار، ولا سيما خلال صلوات الجمعة. وفي آب/ أغسطس عام 1990 اقتحمت الشرطة الصهيونية الحرم القدسي خلال صلاة الفجر وقتلت (22) مصلياً وجرحت ما يقرب (200) آخرين. وبعد اندلاع انتفاضة الأقصى استمرت الاعتداءات على رواد المسجد الأقصى، ابتداءً من منعهم دخول المسجد لأداء الصلاة وانتهاءً بملاحقتهم في ساحات المسجد وإطلاق الرصاص عليهم، وهو الأمر الذي لا يزال مستمراً حتى الآن.

الاعتداءات على الحرم الإبراهيمي

يضم الحرم الإبراهيمي في مدينة الخليل (في الضفة الغربية) رفات أنبياء الله إبراهيم ويعقوب وإسحاق(ع)، ويدّعي الصهاينة أنهم أحق بالسيطرة على الحرم، ومن هنا بدأوا مخططهم بالسيطرة على مدينة الخليل بعد حرب حزيران/ يونيو 1967، إذ زرعوا في العام التالي عدداً من المستوطنات حول المدينة، أعقبة إقامة حي يهودي فيها (حي الدبويا)، وانتهى الأمر إلى مصادرة السلطات الصهيونية (24) ألف دونم من مساحة المدينة (حوالي ثلث مساحة المدينة)، وخلال ذلك كان الصهاينة يدخلون الحرم الإبراهيمي لأداء طقوسهم الدينية، وتحول الأمر إلى قرار رسمي في عام 1972، واستغلت جماعة (كاخ) القرار لاستباحة حرمة المقام الإبراهيمي واقتحامه أثناء أداء المسلمين الصلاة، الأمر الذي شجع السلطات الصهيونية بالسماح لليهود بأداء طقوسهم أثناء أداء المسلمين الصلاة في الحرم الإبراهيمي. وبالتدريج تم تقليص ساعات حضور المسلمين في الحرم وإطلاقها لليهود، وتحويل الجزء الأكبر منه - ومنه المسجد الداخلي - إلى كنيس يهودي، ومشاركة اليهود المسلمين في مصلاهم، تمهيداً لتهويد الحرم نهائياً. وخلال ذلك مارس الصهاينة مختلف الأعمال الإرهابية ضد رواد الحرم الإبراهيمي، كالتهديد والمضايقة والملاحقة والاعتداء بالضرب والقتل، وكانت المذبحة التي تعرض لها المصلون في الحرم على يد المستوطنين الصهاينة في شباط/ فبراير 1994 هو العمل الإرهابي الأبرز، الذي شهدته مدينة الخليل، فقد قتل في هذه العملية (29) مصلياً وجرح العشرات.

المسلمون بين الفعل ورد الفعل

ظلت الاعتداءات الصهيونية على الإنسان والمقدسات تتصاعد بمرور السنين، وخاصة ضد فلسطينيي القدس والضفة الغربية وقطاع غزة. ولم يكتف - كما كانت دائماً - بالإنسان الفلسطيني والمقدسات في فلسطين، بل تعدته منذ عام 1956 لتشمل الإنسان في دول الجوار أيضاً (مصر، سورية، لبنان، والأردن). وبرزت مؤشرات عقيدة العدوان الصهيونية بشكل أكبر في لبنان أعوام 1982 و1996 و 2006 و2023، هذه الأعوام التي مارس فيها الصهاينة أبشع ألوان الجرائم ضد جنوب لبنان وميادين المقاومة في سائر لبنان.

ولسنا بحاجة إلى تأكيد أهمية موقع فلسطين والقدس عقائدياً وسياسياً في الخارطة الإسلامية، كأي أرض إسلامية مقدسة أخرى، أو غيرها من الأراضي المحتلة، كالجولان وجزء من جنوب لبنان. وتأكيد المسلمين أن فلسطين هي القلب في القضايا الإسلامية يكفي مؤونة البحث في هذا المجال. ولكن هناك نقطة لا بد من التذكير بها، وهي أن احتلال فلسطين يعني احتلال جزء من الوطن الإسلامي، وبالتالي فقدان الوطن الإسلامي جزءاً من استقلاله السياسي والجغرافي، وتعرض الأُمة الى الاستهداف في عقيدتها وهويتها، واستباحة المقدسات التي اؤتمن عليها المسلمون، ولا سيما أن الذي يقوم بهذه المهام ليس عدواً تقليدياً، بل هو مشروع كبير في حجمه، وعميق في نظريته وأهدافه العقائدية والسياسية والتاريخية والجغرافية، فضلاً عن خطورته العظمى التي تتمثل في جرأته وطموحه وجديته، ولا سيما أنه ينفذ مخططه في إطار مفارقة يصعب تصورها فضلاً عن تصديقها، إذ إنّ أصحاب المشروع الذي يتجاوز عددهم (13) مليون نسمة (فيما لو افترضنا جدلاً أن التيار الصهيوني يستوعب جميع اليهود)، يستهدفون وجود وعقيدة وكيان مليار و600 مليون إنسان؛ فهل يمكن تصور هذه المفارقة حتى لو وضعنا لها آلاف المسوغات؟!.

ومن هنا؛ فإنّ جميع الحلول التي تأتي عبر التفاوض أو التعايش مع هذا العدو وصولاً إلى السلام والأمن في فلسطين والمنطقة الإسلامية هي حلول لا تلامس إلا سطح القضية، والمنطقة الإسلامية هي حلول لا تلامس إلا سطح القضية، ولعلها لا تدرك أن فيها عمقاً بالغاً: لكي تغوص فيه وتجد من خلال هذا الحل المناسب. فهذا العدو بقبوله التفاوض أو الصمت - أحياناً - حيال بعض ردود الفعل الإعلامية والسياسية (المحلية أو العربية والإسلامية) فإنه يسخر من خصومه؛ لأنه لن يرضى بما استولى عليه من أرض ومقدسات، ولن يكتفي بما حققه حتى الآن، لكي يقال إنه سيلتزم بعدم القيام بأي عمل عدواني، في حال الدخول معه في اتفاقيات ومعاهدات؛ فالصهيونية لن تتنازل عن هدف «إسرائيل الكبرى».. هذه الإمبراطورية التي يراد لها الانطلاق من العدوان على الأمة الإسلامية جغرافياً وأمنياً وسياسياً باتجاه تدميرها عقائدياً وثقافياً.

والحقيقة أن المسلمين ظلوا طوال قرن كامل يتعاملون مع موضوع الصراع الإسلامي - الصهيوني بردود الفعل، باستثناء بعض مواقف الفعل المنفردة، وهذا يدل على أن كثيراً من المسلمين لم يدركوا عمق المشكلة في الواقع، بل في حدود التنظير والأعمال الإعلامية والبحثية. وهو الأمر الذي سمح للمشروع الصهيوني بالتوسع والتمدد والتضخم، ليس في فلسطين وحدها، بل تعداه إلى معظم الدول المجاورة. فبعد أن أعلنت دولة إسرائيل عن نفسها عام 1948، في أعقاب هزيمة الجيوش العربية، زحفت شيئاً فشيئاً على أراضي فلسطين الأخرى، حتى استولت عليها بالكامل عام 1967، فضلاً عن شبه جزيرة سيناء المصرية والجولان السورية وجزء من أراضي الأردن، في حرب استمرت ستة أيام فقط، هزم الصهاينة الجيوش العربية المشتركة في الحرب مجتمعة. وأعقبت ذلك غزو لبنان عام 1982 ثم مهاجمته ثانية عام 1996، وأعقبتها الحرب الشاملة ضد المقاومة الإسلامية اللبنانية وشعبها في تموز/ يوليو 2006، وصولاً الى الحرب الهمجية الرهيبة على غزة في تشرين الأول/ أكتوبر 2023.

المقاومتان الإسلاميتان اللبنانية والفلسطينية: الاستثناء التاريخي

لم يكتف المشروع الصهيوني بالوسائل العسكرية في انتشاره وفرض هيمنته ونفوذه، بل استخدم وسائل أخرى لا تقل خطورة، كالحرب النفسية والدعائية، والتطبيع الثقافي، والنفوذ السياسي والدبلوماسي، والتمدد الاقتصادي. ولم تبخل كثير من أنظمة البلدان العربية والإسلامية في توفير الفرص للمشروع الصهيوني في محاولته لتحقيق أهدافه.

وتسوغ هذه الأنظمة فعلها بتبني ما تسميه بالواقعية السياسية التي فرضت الكيان الإسرائيلي أمراً واقعاً في المنطقة لا بد من التعامل معه، بل وإرضاءه، وهي في الحقيقة واقعية سياسية ترتبط بالتخطيط الأمريكي للمنطقة الإسلامية، تحت أسماء ومسميات كثيرة، ليس أولها ولا آخرها: النظام الإقليمي الأمني في الشرق الأوسط أو (خرائط الطرق) أو الشرق الأوسط الجديد. وهو التخطيط الذي لا يمكن لأنظمة المنطقة التحرر منه؛ لأن نتيجة التمرد عليه أو على جزء من تفاصيله يعد تحدياً للإرادة الأمريكية، وبالتالي إعلان حرب، تنتهي بسقوط المتمرد، وهو ما لا يريده أي نظام يريد المحافظة على رأسه. ومن هنا فالهزيمة العربية ظلت الثابت في معادلة الصراع الإسلامي - الصهيوني بكل أشكاله ومضامينها، منذ بدء الصراع.

والاستثناء التاريخي الوحيد الذي ظل يكسر المعادلة منذ عام 1982 هو فعل المقاومة الإسلامية في لبنان، التي لا تزال حالة نادرة منذ بدء الصراع؛ الأمر الذي يحتم تحوّل هذه الحالة إلى مادة للدرس والبحث على مختلف الأصعدة: الدينية والعسكرية والسياسية والنفسية والعلمية، للإفادة من تجربتها في ميدان الصراع. فالمقاومة الإسلامية في لبنان حطمت بصمودها العنجهية الإسرائيلية عام 1996، وألحقت هزيمة ساحقة بالجيش الإسرائيلي عام 2000، ثمّ عملت مواجهتها الأسطورية لقوات الغزو الإسرائيلي في 2006 إلى تحويل مقولة الجيش الإسرائيلي الذي لا يقهر مجرد وهم؛ إذ تمكنت فئة مؤمنة قليلة من أبناء المقاومة الإسلامية اللبنانية من دحر الجيش الإسرائيلي، ثم إجبار الكيان الإسرائيلي على إيقاف الحرب والانسحاب من جنوب لبنان، بعد أكثر من شهر من الجريمة الوحشية المتواصلة التي ارتكبها الصهاينة ضد المدنيين العزّل والبنية التحتية للجنوب اللبناني والبقاع والضاحية الجنوبية لبيروت، وهو ما يؤكد نوعية العدوانية الصهيونية المستندة إلى أصول عقيدة راسخة في العقيدة الصهيونية.

كما أثبتت المقاومة الإسلامية الفلسطينية في تشرين الأول/ أكتوبر 2023 خلال عملية «طوفان الأقصى» أنها ظاهرة استثنائية أُخرى، وقلبت موازين القوة على الأرض، وتشي بمستقبل جديد لمعادلات الصراع العسكري والاستراتيجي بين الفلسطينيين والكيان الإسرائيلي. ومن هنا؛ فإن حالة المقاومة الإسلامية اللبنانية بعد العام 2000، والمقاومة الإسلامية الفلسطينية بعد العام 2023؛ هما حالتان للاعتبار ومعيار لقابلية المؤمنين على النصر فيما لو وفروا لأنفسهم شروط النصر، برغم قلة عددهم وضعف إمكاناتهم المادية وتآمر المحيط ضدهم. ولم تكن ردود الفعل العربية والإسلامية بحجم صمود المقاومة وانتصارها، على الرغم من أن موقف الشارع كان أكثر التصاقاً بواقع الصمود والنصر.

موقف فقهاء الأمة

لقد أثبتت وقائع سنوات الصراع في فلسطين، منذ العام 1948 وحتى الآن، بأن الرهان على الأنظمة العربية في دعم الشعب الفلسطيني لاستعادة أرضه وحقوقه، هو مجرد وهم، وخاصة بعد فرض الولايات المتحدة الأمريكية نظامها الإقليمي والسياسي الاستراتيجي في الشرق الأوسط، بعد العام 1991، وهو النظام الذي باتت فيه أغلب الأنظمة العربية جزءاً منه، هذا عدا عن تحوّل العلاقات السرية بين الكيان الإسرائيلي وهذه الأنظمة، الى علاقات دبلوماسية علنية ومعاهدات سياسية وثقافية واقتصادية، وصولاً الى التفاهمات الأمنية؛ الأمر الذي حوّل القضية الفلسطينية الى عبء ثقيل على كاهل هذه الأنظمة، تريد التخلص منه بأي ثمن، خاصة بعد أن ظهور محور قوي جديد عنوانه محور المقاومة، والذي جعل من القضية الفلسطينية مركزاً لعقيدته الإنسانية الدينية السياسية.

كما أن الرهان على الشعوب العربية والإسلامية هو رهان ناقص، لأنها مكبلة بقيود أنظمتها المصطفة ضد المقاومة الفلسطينية وعموم محور المقاومة، ولا يكتمل هذا الرهان إلّا بأخذ فقهاء المسلمين زمام المبادرة، والتحرر من إملاءات الأنظمة، لأن الواقع أثبت أن فتوى الفقيه وكلمته وتوجيهه، هو الأكثر تأثيراً والأقوى تحريكاً.

ويمسك الفقهاء الأمة بمساحات واسعة لتحريك الأمة، وتحكيم الغطاء الشرعي لوسائل المقاومة بكل ألوانها، وتوفير شروط الفعل الإسلامي المنتصر، وهو تحرك في غاية الأهمية على الصعد كافة؛ إذ أن هذا التحرك ربما يتحول آليا من التنظير إلى الفعل فيما لو أصرّ فقهاء الأمة وعلماء دينها على إثارته، ومارسوا من خلال مواقعهم العلمية والدينية والاجتماعية، ضغطاً عقلانياً على المجتمعات السياسية والمدنية الإسلامية، من أجل تنفيذ ما يترتب عليه؛ إذ يأخذ هذا التحرك شكل التثقيف للأحكام والفتاوى الشرعية الجماعية، ومنها ما يمكن اقتراحه:

1- إصدار فتاوى بحرمة أي شكل من أشكال التعامل مع الكيان الصهيوني من قبل المسلمين (أفراد وجماعات وحكومات)، وبمقاطعته ومقاطعة جميع المؤسسات الصهيونية في كل العالم، مقاطعة شاملة: دينية وسياسية واقتصادية وثقافية وإعلامية.

2- إصدار فتاوى بحرمة التعامل مع المؤسسات الاقتصادية والمالية والثقافية والإعلامية التي تدعم الكيان الصهيوني.

3- إصدار فتاوى بوجوب دعم الشعب الفلسطيني والمقاومة الفلسطينية والمقاومة اللبنانية بكل مستلزمات البقاء والصمود؛ لأنهما يعدان خيار تحرير الإنسان والهوية والمقدسات والأرض في فلسطين ولبنان وسورية، وجواز صرف الحقوق الشرعية في هذا السبيل.

4-  إصدار فتاوى بقدسية أرض فلسطين بكاملها، ككل الأراضي الإسلامية الأخرى، وحرمة التنازل عن أي شبر منها إلى الصهاينة أو غيرهم، وبأنّ فلسطين والقدس وكل المعالم الإسلامية فيهما هي حق شرعي للمسلمين ولأهلها الأصليين، وليست مساحات قابلة للمساومة، أي أن التنازل عن أي شبر من فلسطين حق لا يمتلكه الفلسطينيون وحدهم.

5- التأسيس لآلية متكاملة تستوعب علماء الإسلام أو أغلبهم؛ بهدف تجميع الأدوار الفردية في دور جماعي موحد، الأمر الذي يكرس موقعهم المركزي في معادلة الصراع الإسلامي - الصهيوني؛ وصولاً إلى الإمساك من جديد بإسلامية المعادلة وأبعادها الشرعية، ولعله الخيار الوحيد من أجل أن تنعتق المعادلة من أسر الأدبيات والأفكار التي تحاصرها منذ عشرات السنين.

ولا يخفي الكيان الصهيوني وحماته، خوفهم من إمكانية تمسك المسلمين بالخيار الإسلامي لقضية فلسطين، وقد عبر عن ذلك «بن غوريون» مؤسس الكيان الصهيوني بقوله: ((نحن لا نخشى الاشتراكيات ولا الثوريات ولا الديمقراطيات في المنطقة، نحن فقط نخشى الإسلام، هذا المارد الذي نام طويلاً وبدأ بتململ من جديد))(7).

وقد أثبت الواقع - وليس «بن غوريون» - ومن خلال مئات الوقائع؛ أن الإسلام هو الذي يستطيع وحده حسم الموقف لصالح الفئة المؤمنة في معادلة الصراع الإسلامي - الصهيوني؛ وهو ما أثبتته المقاومتان الإسلاميتان اللبنانية منذ ثمانينات القرن الماضي وحتى الآن؛ فقد باتتا القوتان المتفردات في تحريك الشارع الفلسطيني والعربي والإسلامي، وفي تحقيق الإنجازات العسكرية والسياسية والإعلامية لمصلحة القضية الفلسطينية، بدعم محور المقاومة والممانعة، وهم يستنطقون كلام الله ووعده بحق قتلة الأنبياء ((وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ۚ ذَٰلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُوا يَعْتَدُون))(8).

***

د. علي المؤمن

............................

الإحالات

(1) سفر التكوين، 12/1.

(2) المصدر السابق 21/34.

(3) ألن بوابيه، «أصول الصهيونية».

(4) للمزيد انظر: أسعد عبد الرحمن. «المنظمة الصهيونية العالمية».

(5) للمزيد انظر: بسام محمد العبادي، «الهجرة اليهودية إلى فلسطين 1880 - 1990م».

(6) من تصريحات لصحيفة صاندي تايمز.

(7) نقلاً عن: عبد الوهاب المسيري، « الايديولوجيا الصهيونية»، ج 1 ص 119.

(8) سورة آل عمران، الآيتان 111 - 112.

منذ مطلع القرن العشرين ظلت المسألة اليهودية بصياغتها الصهيونية، إحدى أهم أسباب التوتر على مستوى العالم أجمع. وكان منظِّرو العقيدة الصهيونية - آنذاك - يطرحون المسألة بثلاثة وجوه:

الأول: المظلومية التاريخية التي عاشها اليهود قرون طويلة منذ انهيار سلطتهم في أرض كنعان (قبل الميلاد)، وما رافقها من اضطهاد ونكبات وتشتت، استمر حتى بدايات القرن العشرين.

الثاني: تسويغ كل أساليب الرد على المظلومية، وهو ما أسموه بإحقاق الحق، والمتمثل في ممارسة أقصى مظاهر العنف والإرهاب والعدوان ضد الآخرين. فضلاً عن الوسائل التقليدية كالتآمر والمال والجنس: من أجل بلوغ الأهداف التي حددوها.

الثالث: الحصول على تعويضات مجزية لما تعرض له اليهود من اضطهاد، وفي مقدمة تلك التعويضات إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين؛ باعتبارها الأرض التي يمكنها لم شتاتهم.

هذه التوجهات شكّلت مساحة مشتركة مع طموحات الإمبراطورية البريطانية، والتي عملت من خلال وزارة المستعمرات على تحويلها ورقة عمل استراتيجية، تهدف إلى زرع كيان صهيوني في قلب المنطقة الإسلامية، ليكون خندقاً استراتيجياً متقدماً للخارطة الاستعمارية البريطانية، وبؤرة توتر دائمة تشكل أداة استثمار لبريطانيا تحفظ لها حضورها المتواصل في المنطقة، على العكس من كل المستعمرات الأخرى التي يمكن أن تحصل على استقلالها في يوم ما. وهكذا نجح المخطط الغربي في تطويع المسألة اليهودية باتجاه تحقيق أهدافه، ولم يكن هناك أدوات أهم وأكثر تأثيراً من اليهود الصهاينة؛ بالنظر لوحدة الهدف بين الطرفين.

ومع بدء العصابات الصهيونية في تنفيذ مخطط إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين؛ تكون المرحلة الرابعة من التاريخ اليهودي قد بدأت. ويمكن ترتيب هذه المراحل على النحو التالي:

المرحلة الأولى: مرحلة الطغيان:

رافقت هذه المرحلة هيمنة بني إسرائيل على السلطة في أرض كنعان وبعض الأراضي المجاورة، وهي المرحلة التي طبعت تاريخ اليهود وساهمت في تكوينهم، جرّاء نوعية الممارسات التي قاموا بها، والتي لم تقف عند حدود قتل الأنبياء والصالحين وأبنائهم، وتسويغ كل ألوان العدوان ضد الأقوام الأخرى، بل تعدتها إلى الافتراء على الله وإلى كثير من أنواع الفساد في الأرض، وهو ما تشير إليه كثير من الآيات القرآنية والمدونات التاريخية.

المرحلة الثانية: مرحلة القهر:

في هذه المرحلة اضطر اليهود للتنظير لأساليب سليمة للتعايش مع الأغيار (الشعوب غير اليهودية) ومع قوى الاحتلال والغزو (البابليون والرومان تحديداً)، حفاظاً عل حياة اليهود ووجودهم. وكان ممن نظّر لهذه الأساليب الحاخام «يوحنا بن راكاي»، الذي عاش الحصار الروماني للقدس في القرن الأول قبل الميلاد. وكذلك الحاخام «يهوذا الأمير» الذي وثّق علاقته بالإمبراطور الروماني «انتونيوس». وقد سعى عشرات الحاخامات الآخرين في القرن الثالث الميلادي، يرأسهم «يهودا هاناسى» عبر تحرير كتاب «المنشاه» إلى دعوة اليهود لتجنب الاستعمال المفرط للعنف والقوة ضد الآخرين، والذي كان يقضي على وجودهم. وطالبت تعاليم هذا الكتاب اليهود باتِّباع الوسائل السلمية في مرحلة الضعف والشتات. وبقيت هذه النزعة سائدة غالباً قرون طويلة، مقترنة باستثمار ثلاثة عوامل بديلة: المال والجنس والتآمر السياسي والاجتماعي.

المرحلة الثالثة: مرحلة الاستقرار:

وهي التي بدأت مع انتشار الإسلام واتساع رقعة دول المسلمين؛ فقد عاش اليهود أفضل حالات الاستقرار والأمان والرخاء في ظل مجتمعات المسلمين سواء في البلدان العربية أو تركيا أو إيران أو الأندلس، على الرغم من استمرار تآمر شرائح من اليهود ضد المسلمين، منذ فجر الإسلام وحتى الآن.

المرحلة الرابعة: مرحلة استدعاء الطغيان:

وقد بدأت مع التحالف المصيري بين وزارة المستعمرات البريطانية واليهود الصهاينة وتأسيس المنظمة الصهيونية العالمية، إضافة إلى تحرك اليهود الروس. وقد ساهمت أحداث العنف التي استهدفت يهود أوروبا وروسيا القيصرية في القرن التاسع عشر الميلادي وبدايات القرن العشرين، وخاصة المذابح الجماعية الروسية (البوغروم) عام 1903، بدوافع عنصرية وسياسية ودينية، ساهمت في دفع يهود أوروبا وروسيا إلى إيقاظ تعاليم وتقاليد العنف والإرهاب اليهودية التاريخية، التي ظلت نائمة غالباً قرون طويلة. وكان هذا الاستدعاء براغماتياً ولوناً فاقعاً من ألوان الدجل السياسي؛ لأن هذه الفئة من اليهود التي بادرت إلى هذا العمل كانت في غالبيتها علمانية وملحدة. ولم يكن يربطها بتعاليم التوراة أو اليهودية المتدينة رابطة تذكر، إذ أنها عمدت إلى انتقاء بعض التعاليم اليهودية التي تدعو إلى القتل والعنف واستباحة دماء (الأغيار) وأموالهم وأعراضهم، واستخدام أية وسائل لا أخلاقية ولا إنسانية بهدف الوصول إلى الغايات المرسومة.

وهكذا ولدت الصهيونية في رحم جمهرة من السياسيين والمثقفين والمحامين اليهود العلمانيين، يتقدمهم «هرتزل»، والذين دعوا اليهود إلى الثورة أيضاً ضد الديانة اليهودية وتعاليم أنبياء اليهود، باعتبارها تقف عقبة دون تحقيق طموحات اليهود؛ بسبب بعض أوامرها إلى اليهود بالتعايش مع الآخرين، ومن هؤلاء الشاعر الروسي اليهودي الصهيوني «بياليك» الذي طالب قبضات اليهود أن «تطير مثل الأحجار ضد السماء وضد العرش السماوي»، وكذلك الأديب اليهودي الصهيوني الروسي الذي طالب اليهود بمخالفة التوراة بقوله: «يا إسرائيل ليس العين بالعين، إنّما عينان بعين، بل أسنانهم كلها أمام كل إهانة».

وما نريد أن نخلص إليه هنا هو أن الممارسات العدوانية لليهودية الصهيونية لا تمثل استثنائية، أو مجرد ردود أفعال على أحداث أو اعتداءات: بل هي تعبير عن بنية فكرية ومنظومة عقيدية لا ترى إلا نفسها وأهدافها، ولا تعترف بأي ندٍّ أو نظير لها في الإنسانية، وبالتالي لا تعترف بأي حق للآخر في أي شيء. وليس مسلسل العدوان المستمر ضد البشر والحجر والقيم في فلسطين ولبنان وسوريا ومصر، منذ مطلع القرن العشرين، وصولاً الى العدوان على لبنان وشعبه ومقاومته الإسلامية في تموز/ يوليو 2006، وحتى العدوان على غزة وجنوب لبنان في تشرين الثاني/ أكتوبر 2023، إلّا تطبيقات ميدانية لهذه المنظومة.

ولعل من أكبر الإنجازات التي حققتها الصهيونية اليهودية العالمية، فضلاً عن استيلائها بالقوة على فلسطين، هو الدعم المطلق الذي ظلت تحصل عليه من الصهيونية المسيحية في الغرب، التي تعتمد في بنيتها النظرية مجموعة من النصوص المنتقاة من التوراة، إضافة إلى تفسيرات ونبوءات تلمودية وأخرى مسيحية تعود إلى مرحلة الحروب الصليبية. وبالتالي؛ فإن التحالف الديني السياسي المالي بين الصهيونية المسيحية والصهيونية اليهودية، يستند غالباً إلى رؤى ايديولوجية مشتركة، تتمظهر في وحدة النظرة إلى شكل العالم ومضمونه وحاضره ومستقبله، وما ينطوي عليها من قضايا دينية غيبية لها علاقة بآخر الزمان. ولا شك أن ذلك التحالف وهذه الوحدة والرؤية الكونية يمثل وجهي الصهيونية، وينتج عنه بالضرورة وحدة في المواقف السياسية والإستراتيجية. ووفقاً لذلك يمكن فهم خلفية ربط الصهيونية المسيحية الغربية مصيرها بمصير إسرائيل ووجودها.

ولا يستند الغرب، وخاصة بريطانيا التي خلقت الكيان الإسرائيلي، والولايات المتحدة الأمريكية التي تحميه بالمطلق، الى العقيدة الصهيونية المسيحية، كنزعة دينية، إنما تستند الى التوصيف الجيوستراتيجي للكيان الإسرائيلي، بوصفه المعسكر الاستعماري الذي بنته بريطانيا في قلب العالم العربي والإسلامي، ليكون خندقاً متقدماً يحمي مصالحها. ولذلك؛ فإن الغرب عموماً، وبريطانيا وأمريكا خصوصاً، يعتبر الكيان الإسرائيلي جزءاً لا يتجزء من وجوده وأراضيه وجغرافيته، وليس مجرد مستعمرة غربية أو مجالاً حيوياً. ولعل بعض الجماعات اليهودية غير الصهيونية، ومنها جماعة (ناتوري كارتا) التفتت الى ماهية هذا المشروع الغربي الاستكباري المسمى (إسرائيل)، واعتبرته مؤامرة على اليهود والدين اليهودي، وأن الغرب يريد التضحية بالأُمة اليهودية من أجل مصالحه.

ومن المهم أن نشير هنا إلى أن النزوع المتجذر في الشخصية اليهودية التاريخية أو مجتمع اليهود التاريخي التقليدي نحو العدوان والإفساد والتآمر، لا علاقة له بالديانة اليهودية وتعاليمها الأصلية، فهناك فرق بين اليهود كعصبية تاريخية وبين اليهودية كديانة سماوية، وفرق آخر بين اليهود كأفراد ومجتمعات إنسانية قائمة وبين العصبية اليهودية التاريخية، فاليهودي كإنسان لا يمكن أن يتحمل أوزار العصبية التاريخية خلال ثلاثة آلاف عام، غلا إذا أصبح جزءاً منها وامتداداً لها، أي أنّ اليهودي له كل الحق في العيش في هذا العالم وممارسة ما يفرضه عليه انتماؤه من حقوق وواجبات، ومن ذلك عباداته وطقوسه، حتى داخل الدولة الإسلامية، فذلك ما تقره الشريعة الإسلامية بكل حزم، وتبيّنه سيرة المسلمين طيلة مئات من السنين. وبالتالي فإننا حين نتحدث عن اليهود؛ فإننا لا نقصد بذلك اليهودية كديانة أو اليهودي كإنسان، بل العصبية اليهودية التاريخية وتطبيقها المعقد المعاصر المتمثّل في العقيدة الصهيونية، التي تمثل نتاجاً مشتركاً لليهود العلمانيين واليهود المتدينين القوميين.

خصائص العقيدة الصهيونية

من أكبر الآثام التاريخية التي ارتكبها اليهود بحق ديانتهم هو التحريف الذي ألحقوه بها، وهو ما لا تخفيه مصادر الفكر اليهودي؛ فالتوراة المختلَف عليها والتي تشتمل على خمسة أسفار من العهد القديم؛ بعد أن فُقدت عقيب وفاة النبي موسى، عمد بعض الكهنة بعد عدة قرون على وفاة الكليم، إلى إملاء بعض التعاليم والأسفار ونسبوها إليه. كما أن أسفار الأنبياء والكتابات في العهد القديم منسوبة - هي الأخرى - إلى كهنة وأخبار عاشوا متأخرين بعد قرون عن هؤلاء الأنبياء. ولا نريد الدخول في تفاصيل عملية الاختلاق والتحريف هذه، إذ إنها من القضايا التي أُشبعت بحثاً(1). ويكفي أن «ول ديورانت» يؤكد أنه لم تبق من شريعة موسى سوى الوصايا العشر(2). أي إنّ العهد القديم ضمّ بين دفتيه الصحيح والمحرف والموضوع، مع عدم إمكانية الفصل بينها؛ بعد أن اختلطت ببعضها وانتهت إلى مضمون وشكل موحد. كما وضع الأخبار كتاب التلمود بعد حوالي قرنين على ولادة النبي عيسى، وجعلوه شريعة بني إسرائيل، وهو يحوي على تعاليم شفوية وشروحات وتفاسير كتبها الأحبار في أزمان مختلفة، وأصبح التلمود قريناً للتوراة(3).

واستمرت مصادر الفكر اليهودي بالتبلور بظهور عدد من المؤلفات، أهمها ما كتبه الفيلسوف اللاهوتي اليهودي موسى بن ميمون في القرن الثامن الهجري، ثم اكتملت بما عرف بـ «بروتوكولات حكماء صهيون»(4)، الذي يعد النظام الأساسي المعاصر للعصبية التاريخية، والتي أطلقت عليها فيما بعد «الصهيونية»، وهو ما سنأتي عليه لاحقاً.

أنواع اليهودية

بناءً على ما سبق فقد مرت اليهودية بمخاضات متعددة في مسارها التاريخي، نتج عنها عدة أنواع من اليهودية، هي:

1- اليهودية السماوية:

وهي دين أنبياء بني إسرائيل، ولا سيما النبي موسى وكتابها التوراة الأصلية التي أوحى الله بها إلى موسى، وبعض أسفار الأنبياء الصحيحة وزبور داود وأمثال سليمان وغيرها من المدونات الأصلية. وهي ديانة يتعامل معها الإسلام كآية ديانة سماوية أخرى ((وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَىٰ وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِّلْمُتَّقِين))(5)، ((وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَىٰ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِين))(6)، ((إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَىٰ نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ ۚ وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَىٰ وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ ۚ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا))(7)، ((قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَىٰ وَعِيسَىٰ وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ))(8). وهذه اليهودية اندثرت بمرور الزمن بسبب ما تعرضت له من تحريف شامل.

2- اليهودية المحرفة:

وهي النسخة المحرفة عن اليهودية السماوية التي طالتها أيدي الرهبان والكهنة وفلاسفة اليهود عبر التاريخ، وامتزجت بالأساطير والخرافات والادعاءات الغربية، وبرزت بالتدريج على شكل «عصبية يهودية» مزجت بين العصبية الدينية والعصبية القومية والثقافة الأرضية الخاصة. وقد تحدث القرآن الكريم صراحةً عن هذا الاتجاه الذي بلغ فيه اليهود مقدراً غير محدود من الجرأة على الله حتّى في زمن موسى، بل وفي وقت نزول آيات الله تعالى ((وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُون))(9)، ((أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ وَيُرِيدُونَ أَن تَضِلُّوا السَّبِيل * وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَىٰ بِاللَّهِ نَصِيرا * مِّنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَٰكِن لَّعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا ))(10)، ((فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَٰذَا مِنْ عِندِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا))(11). هذا فضلاً عن ضغط الحوادث التاريخية التي مرّ بها اليهود، والتي ساهمت في خلق هذه (العصبية) المركبة، ومن أبرزها صراعهم الدائم مع الرسالات وقتلهم الأنبياء، وممارسات أو ردود أفعال الشعوب المجاورة لهم أو المتعايشة معهم، والذي نتج عنها اضطهاد وقهر وتشتت اجتماعي وجغرافي.

وتولّد عن هذه العصبية مشاعر متفردة متناقضة لدى المجتمعات اليهودية أصبحت جزءاً من عقيدتها وتكوينها النفسي، من أبرزها التمايز عن باقي شعوب العالم والتعالي عليها، باعتبار بني إسرائيل هم «أحباب الله»، و«شعب الله المختار» الذي يتفرد بحمل الرسالة الإلهية التاريخية التي لا بد أن يطبقها على كل الأرض دون استثناء، وإن أدى ذلك إلى تدمير كل شيء!، وقد تحمل اليهود - كما يتصورون - بسبب هذه الرسالة كل أنواع الاضطهاد والاحتقار، فشحن ذلك فيهم ألوان معقدة من الحقد والكراهية للآخرين، والتعطش للانتقام والانكماش والانعزال وغيرها من العقد والأزمات النفسية المتأصلة(12). يقول تعالى: ((قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِن زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِين))(13)، ((لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا))(14).

وهذه اليهودية هي التي ظلت العقيدة السائدة في المجتمعات اليهودية، ولم تنفع معها حتى تعاليم الأنبياء ونصائحهم وأساليبهم في التعبير، وهي اليهودية التقليدية.

3- اليهودية الصهيونية:

وهي وريث «العصبية اليهودية التاريخية» أو «العقيدة اليهودية المتوارثة»، إلّا أنها ليس وريثاً دينياً، بل وريثاً علمانياً استعمارياً، وإن وجدت بعض النزاعات الدينية في داخلها، كتلك التي توصف بـ «الصهيونية القومية المتدينة»، وهي نزعة أصولية تختلف عن اليهودية التقليدية. ولا تدين كل المجتمعات اليهودية بالصهيونية، بل هناك حركات يهودية (علمانية ودينية) مناهضة للصهيونية، مثل جماعة «القدس» وطائفة «ناتوري كارتا».

وقد جمعت العقيدة الصهيونية كل أسباب الإفساد والاستكبار والعنصرية والشر والعدوان والقسوة من من العصبية اليهودية التاريخية الموروثة، بصورة لم يشهدها التاريخ الإنساني من قبل، بل ولم يألفها التاريخ اليهودي نفسه.

مصادر العدوان في العقيدة الصهيونية

اعتمد الفكر الصهيوني الحديث في تشكيله وفي إسباغ الشرعية اليهودية على نفسه، على ثلاثة ألوان من المصادر، تعبّر عن ثلاث مراحل زمنية:

المرحلة الأولى: المصادر الدينية التاريخية:

وهي المصادر التي حرفها وكتبها الكهنة اليهود على مدى تسعة قرون وبعدة لغات (قبل الميلاد وبعده)، وهي التراث الديني اليهودي الذي يشتمل على العهد القديم بأقسامه الثلاثة وأسفاره التسعة والثلاثين، والتلمود بقسميه: (المنشاه) و(الجمارا). وقد سوغت بعض نصوص هذه المصادر ارتكاب كل ألوان العنف والعدوان ضد الشعوب غير اليهودية. فهذه النصوص تقسم البشرية إلى قسمين:

1 - «اليهود» أو «العبرانيون»، وهم شعب الله المختار وأبناؤه وأحباؤه وأُمته المقدسة، ولا تقبل العبادة إلا منهم.

2 - «الجوييم» أو «الأميون» أو «الأغيار»، أي اليهود، وقد خلقوا من طينة شيطانية، والهدف من خلقتهم خدمة اليهود، ولم يمنحوا الصورة البشرية إلا بالتبعية لليهود ليسهل التعامل بين الطائفتين، وذلك تكريماً لليهود(15).

وقد أرّخت هذه المصادر للتاريخ اليهودي المتخم بالحروب والفتن والمصائب. ومن خلال نوعية الحروب التي قادها أنبياء بني إسرائيل وملوكهم - كما تصف هذه المصادر - أو الفتن والمصائب التي تعرضوا لها أو تسببوا فيها، سوغت الصهيونية لنفسها العدوان بكل الصور على «الجوييم»، سواء العدوان الذي يستهدف الأخلاق والعفاف والجانب المعنوي والروحي، أو العدوان الذي يستهدف الابتزاز المالي والكسب اللا مشروع للثروات، أو العدوان والعنف والإرهاب الذي يستهدف مقدسات الآخرين وأراضيهم وأرواحهم وأعراضهم، وذلك بدافع الاستكبار والكراهية والحقد والانتقام، إضافة إلى دافع البحث عن الحقوق التاريخية الموهومة.

ومن هذه النصوص نص ورد في سفر الخروج في العهد القديم، يخاطب فيه إله بني إسرائيل نبيِّه موسى: «حين تقترب من مدينة لكي تحاربها استدعها للصلح وإن فتحت لك، فكل الشعب الموجود فيها يكون لك للتسخير ويستعبد لك. وإن لم تسلمك بل عملت معك حرباً فحاصرها، وإذا دفعها الرب إلهك إلى يدك فاضرب جميع ذكورها بحد السيف»(16). وهذا النص الموضوع يسوغ للعبرانيين استرقاق الكنعانيين واستعبادهم وقتل جميع ذكورهم.

وهناك نص موضوع آخر، فيه أمر أكثر وحشية وهمجية: «انتقم نقمة بني إسرائيل من المدنيين، فقاتلوا مدين كما أمر الرب موسى، واقتلوا كل ذكر فيها، وسبى بنو إسرائيل نساء مدين وأطفالهم، ولم يرضى موسى عن كل ما حصل، فقد ترك جنده الأطفال أحياء فسخط موسى وقال لهم: فالآن اقتلوا كل ذكر من الأطفال، وكل امرأة عرفت مضاجعة رجل اقتلوها»(17). وفي سفر يوشع أنه قاد العبرانيين باتجاه أريحا «فقتلوا جميع ما في المدينة من اجل رجل وامرأة وطفل وشيخ حتى البقر»(18).

وقد لا نحتاج هنا إلى إثبات كذب ما ينسبه العهد القديم من روح شريرة إلى الأنبياء، ولا سيما النبي موسى الذي قال فيه الله: ((وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَىٰ ۚ إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَّبِيّا))(19)، وهو الذي طالما نهى قومه عن الكذب والافتراء عليه وعلى الله (تعالى): ((قَالَ لَهُم مُّوسَىٰ وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا))(20).

كما جاء في التلمود مجموعة فقرات تنص على أرواح اليهود تتميز عن باقي أرواح البشر بأنها جزء من الله، والابن جزء من أبيه، وأنّ المسيحيين من نسل الشيطان، والإسرائيلي معتبر عند الله أكثر من الملائكة، والفرق بين درجة الإنسان والحيوان بقدر الفرق بين اليهودي وغير اليهودي، والله ذنباً ليهودي يرد للأممي (غير اليهودي) ماله المفقود(21).

المرحلة الثانية: المؤلفات الوسيطة:

وهي المؤلفات التي وضعها حكماء اليهود في عصر ازدهار الحضارة الإسلامية، ولا سيما مؤلفات موسى بن ميمون، إذ يؤكد ابن ميمون في كتابه «الاضطهاد» انفراد عنصر بني إسرائيل في قربه إلى الله وكونه معصوماً، وإن الله عاقب بعض الأنبياء لأنهم انتقدوا بني إسرائيل وطالبوهم بتجنب الفساد، ومنهم الأنبياء لأنهم انتقدوا بني إسرائيل وطالبوهم بتجنب الفساد، ومنهم النبي «إيليا»، الذي نفاه الله إلى برية دمشق، والنبي «أشعيا» الذي قتله الله على يد الملك «المنسي»، وكذلك النبي موسى والنبي هارون اللذان عاقبهما الله بأن فصلهما عن بني إسرائيل ومنعهما دخول فلسطين(22)؛ إذ جاء في سفر العدد: «فقال الرب لموسى وهارون: بما أنكما لم تؤمنا بي ولم تقدساني على عيون بني إسرائيل، لذلك لن تدخلا أنتما هذه الجماعة إلى الأرض التي أعطيتها إياها»(23).

وفي نصوص ابن ميمون تبرز العصبية اليهودية التاريخية بأبشع صورها، وعلى حساب الأنبياء والأوصياء، ولا يكتفي ابن ميمون بذلك، بل يقول بأن «الفرق بين المسيحية والإسلام وبين اليهودية كالفرق بين إنسان حي وبين صورته المنحوتة في خشب أو فضة أو ذهب أو حجر»(24).

المرحلة الثالثة: النصوص الحديثة:

وهي التي دوّنها أو قالها مؤسسو اليهودية الصهيونية وحكماؤها وروادها وقادتها، وهي مجموعة قولبة عصرية لمقولات تاريخية منتقاة وأدلجة علمانية لتعاليم دينية منتقاة أيضاً؛ إذ أعادت الصهيونية الروح للمقولات والتعاليم اليهودية التي تدعو للاستعلاء والاستكبار وممارسة الفساد والشر والقتل والتدمير، وفعّلتها بصورة ممارسات وأساليب على الأرض. ولعل قراءة استعراضية لما نشر تحت عنوان «بروتوكولات حكماء صهيون» وبعض مقولات «هرتزل» و«جابوتنسكي» و«بن غوريون» و«بيغن»، تتيح الوقوف على هذه الحقيقة بكل وضوح، ففي البروتوكول الأول من «بروتوكولات حكماء صهيون»(25)، جاء بأن «حكم العالم يُنتزع بالحرب والإرهاب... الغاية تبرر الوسيلة، وعلينا ونحن نضع خططنا ألاّ نلتفت إلى ما هو أخلاقي وما هو خير... يجب أن نعلم كيف نصادر الأموال بلا أدنى تردد، إذا كان هذا العمل يمكننا من السيادة والقوة، وأن دولتنا لها الحق أن نستبدل بأهوال الحرب أحكام الإعدام، والإعدام ضرورة تولد الطاعة العمياء، فالعنف وحده العامل الرئيسي في قوة الدولة... يجب أن يكون شعارنا: كل وسائل العنف والخديعة. أن هذا الشر هو الوسيلة الوحيدة للوصول إلى هدف الخير. ولذلك يجب ألا نتردد لحظة في أعمال الرشوة والخديعة والخيانة»(26).

وجاء في البروتوكول السابع: «من أجل أن نظهر استعبادنا لجميع الحكومات الأممية في أوروبا، سوف نبين قوتنا لواحدة منها متوسلين بجرائم العنف، وذلك هو ما يقال له حكم الإرهاب»(27). وفي البروتوكول التاسع: «لقد خدعنا الجيل الناشئ من الأمميين، وجعلنا فاسداً متعفناً به علمناه من مبادئ ونظريات معروف لدينا زيفها»(28).

ويقول «جابوتنسكي» (أحد رواد الحركة الصهيونية)، وهو يؤدلج للعنف والقتل: «أن الاقتتال بالسيف ليس ابتكاراً ألمانياً، بل إنه ملك لأجدادنا الأوائل... أن التوراة والسيف أنزلا علينا من السماء» ويضيف: «أن العالم لا يشفق على المذبوحين، لكنه يحترم المحاربين». ويقول أيضاً: «أن الأحذية الثقيلة هي التي تصنع التاريخ»(29).

ووظّف زعماء الكيان الصهيوني أفكار «جابوتنسكي»، من «بن غوريون» وحتى «أولمرت»، وكتبوها على الأرض بدماء ضحاياهم الأبرياء، حتى أن «مناحيم بيغن» ذكر بأن «التنكر أو حتى تجاهل أفكار جابوتنسكي يعني الخيانة»(30)، ويقول أيضاً: «من الدم والنار والدموع والرماد سيخرج نموذج جديد من الرجال... اليهودي المحارب أولاً وقبل كل شيء، يجب أن نقوم بالهجوم»(31).

وقد نفذت العصابات الصهيونية منذ العقد الأول للقرن العشرين هذه المهمة في فلسطين على أبشع وجه، ثم ورثها جيش الكيان الصهيوني والأحزاب الصهيونية على مختلف اتجاهاتها، التي تبدأ بأقصى اليسار وتنتهي بأقصى اليمين، حتى اندفع «بن غوريون» وهو يرى نجاح مشروع الإرهاب الصهيوني ليقول: «أن أمام عرب إسرائيل ثلاثة خيارات: اعتناق الدين اليهودي، الطرد خارج البلاد، الإبادة التامة»(32).

علمانية العقيدة الصهيوني

برغم أن العقيدة الصهيونية اعتمدت في بنيتها الفكرية وصياغة خطابها العنصري وسلوكياتها العدوانية، على أساطير وخرافات منتقاة من التراث الديني اليهودي ومصادر العصبية اليهودية التاريخية، إلّا إنها عقيدة علمانية قومية لا يمت بصلة مباشرة لأي من ألوان التدين أو الفكر الديني أو السلوك الديني. وبالتالي؛ فالايديولوجية الصهيونية هي استثمار سياسي علماني لأساطير دينية يهودية؛ وهو ما أقرّه ودعا إليه رواد الحركة الصهيونية؛ فمثلاً المؤسس «هرتزل» يقول: «إنني لا أخضع لأي وازع ديني»(33) و«إنّ المسألة اليهودية لا تعني بالنسبة لي مسألة اجتماعية أو مسألة دينية.. إنها مسألة قومية»(34)، كما لا يخفى كون مشروعه الصهيوني هو مشروع استعمار(35)، وهو أيضاً حركة سياسية كما يقول ناشروا تراثه بقولهم: «منذ عام 1986 أصبح مصطلح الصهيونية مرادفاً للحركة السياسية التي أسسها ثيودور هرتزل»(36).

كما أن زعماء الكيان الصهيوني أكدوا منذ قيام (إسرائيل) على أرض فلسطين علمانية دولتهم، وأنها دولة قومية تستند إلى معتقدات العصبية اليهودية التاريخية، وليست دولة دينية، وهو ما يعبر عنه مطلب تحويل فلسطين إلى «وطن قومي لليهود».

وعلى هذا الأساس فإن ادعاءات «الحقوق التاريخية» و«شعوب الله المختار» و«إسرائيل الكبرى» و«حدودك يا إسرائيل من الفرات إلى النيل» و«التميز العرقي» و«إحياء مملكة داود» و«إعادة بناء هيكل سليمان» والتجمع حوله، تدخل كلها في حسابات الفكر القومي الصهيوني وليس الديانة اليهودية، بل إن زعماء الحركة الصهيونية - وكثير منهم ملحدون - سلخوا هذه الادعاءات أو المقولات من مضامينها الدينية ووضعوها في خانة المقولات القومية السياسية؛ لتسويغ علمانية العقيدة الصهيونية وعلمانية كيان (إسرائيل)، ولعل هذا هو من أهم أسباب الخلاف بين الأحزاب العلمانية الأساسية (الليكود، شاس، أبيض أزرق، كاديما، ميرس، العمل، إسرائيل بيتنا وكولانو) من جهة، والأحزاب السياسية الدينية (مثل كاخ، البيت اليهودي وتكوما) من جهة أُخرى، والاتجاهات اليهودية غير الصهيونية من جهة ثالثة.

ومما يؤكد هذه الحقيقة الإحصاءات الرسمية وغير الرسمية التي تصدر بين فترة وأخرى في الكيان الصهيوني؛ فالذين صوتوا للأحزاب الدينية في الانتخابات البرلمانية عام 1949 كانت نسبتهم 12% فقط، وأصبحت 13% عام 1992، بينما ظلت تحصل الأحزاب العلمانية على ما يقرب من 85%  معدلاً عاماً. أما نسبة الـ90% من اليهود الإسرائيليين فهم غير متدينين (علمانيون أو ملحدون أو غير مبالين)، ولكنهم جميعاً يعتقدون أن فلسطين هي منحة إليهم من ألههم (يهوه) الذي لا يؤمن به معظمهم(37).

والنتيجة المهمة التي ينبغي الخروج بها من هذه الحقيقة، تتمثل في التوصيف الصحيح للصراع؛ فهو ليس صراعاً دينياً، أي ليس صراعاً بين الدينين الإسلامي واليهودي، ولا بين القوميتين العربية واليهودية، بل هو صراع إنساني عقدي، بين أهل فلسطين وعموم العرب والمسلمين ومن يتعاطف معهم من المستضعفين وعموم البشر، وبين العقيدة الصهيونية وأتباعها وحماتها المتمثلين بالاستكبار الغربي.

***

د. علي المؤمن

..........................

الإحالات

(1) أُنظر: في هذا المجال: د. أحمد شلبي، «اليهودية»، ورحمة الله الهندي، «إظهار الحق»، وعصام الدين حفني، «محنة التوراة على أيدي اليهود»، ود. جعفر هادي حسن، «فرقة القرائين اليهود».

(2) قصة الحضارة، ج2 ص 371. انظر أيضاً: موريس بوكاي، «التوراة والإنجيل والقرآن والعلم».

(3) للمزيد أُنظر: «التلمود شريعة إسرائيل: الكنز المرصود في قواعد التلمود». ترجمة د. يوسف نصر الله.

(4) أُنظر: «الخطر اليهودي: بروتوكولات حكماء صهيون»، ترجمة: محمد خليفة التونسي، وعبد الله التل، «خطر اليهود على الإسلام والمسيحية».

(5) سورة الأنبياء، الآية 48.

(6) سورة هود، الآية 96.

(7) سورة النساء، الآية 136.

(8) سورة البقرة، الآية 75.

(9) سورة النساء الآيات 44 - 46.

(10) سورة البقرة، الآية 79.

(11) سورة البقرة، الآية 79.

(12) للمزيد أُنظر: د. شاد عبد الله الشامي، «الشخصية اليهودية الإسرائيلية والروح العدوانية».

(13) سورة الجمعة، الآية 1.

(14) سورة المائدة، الآية 82.

(15) أُنظر: د. إبراهيم العاتي، «الأديان والمذاهب» ص 31.

(16) التوراة، سفر الخروج، 33/27.

(17) المصدر السابق، سفر العدد، 31.

(18) المصدر السابق، أسفار الأنبياء، سفر يوشع، 8/27 - 28.

(19) سورة مريم، الآية 51.

(20) سورة طه، الآية 61.

(21) للمزيد أُنظر: عبد الله التل، «خطر اليهودية العالمية على الإسلام والمسيحية».

(22) أُنظر: سامي محمد عبد الحميد، «القدس في اليهودية والمسيحية والإسلام»، ص 61 - 62.

(23) التوراة، سفر العدد، 13/20.

(24) نقلاً عن: سامي عبد الحميد، ص 63.

(25) قرارات سرية اتخذها زعماء الحركة الصهيونية العالمية في مؤتمرهم الذي عقد في مدينة بازل السويسرية عام 1897، ونشرت ابتداء باللغة الروسية عام 1902، وترجمها للعربية محمد خليفة التونسي. ورغم اللغط الذي أحيط بالبروتوكولات وحقيقة انتسابها للحركة الصهيونية، إلّا أنّ تراث العصبية اليهودية والواقع الذي رسمته حوادث القرن العشرين يثبت انتماء هذه البروتوكولات إلى العقيدة الصهيونية.

(26) «الخطر اليهودي: بروتوكولات حكماء صهيون»، ص 108 - 109.

(27) المصدر السابق، ص 128.

(28) المصدر السابق، ص 156.

(29) «الايديولوجية الصهيونية»، ج1 ص 266.

(30) من كتاب «التجربة والأمل»، انظر: «يوميات الإرهابي مناحيم بيغن»، ترجمة: معين أحمد محمود، ص 6.

(31) المصدر السابق.

(32) عبد الوهاب المسيري، «الايديولوجية الصهيونية: دراسة حالة في علم اجتماع المعرفة»، ج1 ص 265.

(33) أُنظر: علي جريشتي، «حاضر العالم الإسلامي 2»، ص 102.

(34) أُنظر: روجيه غارودي، «الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية»، ص 24 نقلاً عن: هرتزل، اليوميات.

(35) المصدر السابق، ص 26، نقلاً عن هرتزل، «دولة اليهود».

(36) المصدر السابق، ص 26، نقلاً عن هرتزل، «اليوميات»، ج3 ص 105.

(37) المصدر السابق ص 24 نقلاً عن «موسوعة الصهيونية وإسرائيل»، ص 1262.

قراءة في المعادلة الطبقيّة للتعليم

(الحكومات لا تريد شعبا يملك روحا ناقده، انها تريد عمالا مطيعين، تريد اشخاصا اذكياء فقط بما يكفي لتحريك الآلات، واغبياء بما يكفي لقبول الوضع الذي يعيشونه)... جورج كارلين

1- مقدّمة:

ينطوي الفعل التربويّ في تكويناته على فيض من الوظائف الخفيّة والأسرار المغلقة الّتي تأخذ طابعاً اجتماعيّاً وسياسيّاً مركّباً في تكويناته معقّداً في آليّات اشتغاله. فما نعرفه عن المدرسة ووظائفها يرتهن لرؤية مبسّطة قوامها أنّ المدرسة كيان تربويّ يجتمع فيه الأطفال والناشئة من أجل التحصيل والتكوين والإعداد للحياة. ويتضمّن هذا التصوّر البسيط بأنّ المدرسة مؤسّسة تربويّة تكرّس قيم العدالة والتكافؤ والمساواة بين الأطفال دونما تمييز مهما تكن عناصر هذا التمييز الاجتماعيّ الممكن. تلك هي صورة المدرسة في ظاهر الأمر، وتلك هي حقيقيّة من حقائقها. ولكنّ الدراسات السوسيولوجيّة تكشف اليوم عن حقائق خفيّة ومعقّدة في بنية الفعل المدرسيّ، وهذه الحقائق تتناقض مع الصورة المشرقة لمفهوم المدرسة ووظائفها.

فالمدرسة في وظيفتها الاصطفائيّة تترجم آليّة النظام الحياتيّ لمجتمع قائم على الاصطفاء والانتخاب، وهي بموجب هذه الوظيفة الاصطفائيّة تتبنّى نسقاً من القيم والمعايير الاجتماعيّة الّتي تتّصل بعمليّة تقويم التحصيل المعرفيّ والعلميّ والمهنيّ. ويتمّ هذا التقويم على أساس مناهج يفترض أنّها موضوعيّة، ومثل هذه العمليّة تقود إلى اصطفاء المتعلمين وتصنيفهم في طبقات وفئات مختلفة. فالمدرسة وكالة اجتماعيّة ترتهن وظيفتها بالأنظمة الاجتماعيّة الّتي تهيمن وتسود التي تقوم بتحديد وظائف المدرسة على مقاييس النظام الاجتماعيّ القائم. وهذا يعني أنّ المدرسة لا يمكنها أن تنفصل عن السياق الاجتماعيّ الّذي يحتضنها، ومن ثمّ فإنّ وظائفها لا يمكن في نهاية الأمر أن تتناقض مع الضرورات الوظيفيّة والاجتماعيّة للمجتمع الّتي توجد فيه. وهي غالباً ما تكون على صورة المجتمع الّذي يحتضنها. وتأسيساً على ذلك تلعب المدرسة دوراً اصطفائيّاً في مجتمع يقوم على الاصطفاء، وهي تمارس دوراً طبقيّاً في مجتمع تحرّكه نوازع الصراع الطبقيّ.

2- الإقصاء المدرسي والاصطفاء:

شكّلت الدور الاصطفائي للمدرسة موضوعا مركزيا في مجال علم الاجتماع التربوي الذي استطاع أن يستكشف الجوانب الخفيّة في وظائف المدرسة التي تقوم على تأكيد القيم والممارسات الطبقيّة في المجتمعات الإنسانيّة. فالمستقبل الّذي تعدّه المؤسّسة المدرسيّة لأطفال العمّال يختلف ويتعارض مع المستقبل الّذي تعدّه لأطفال الصناعيّين والتجّار في المجتمعات الرأسماليّة. ففي الولايات المتّحدة الأمريكيّة، وغيرها من المجتمعات الرأسماليّة، تضع المؤسّسات التربويّة شروطا مجحفة ومنظّمة ضدّ أطفال الفئات الاجتماعيّة الفقيرة: فمدارس الأحياء الفقيرة تفتقر إلى مختلف شروط الحياة المدرسيّة الّتي نجدها في مدارس الأحياء البرجوازيّة. ويتجلّى هذا التباين في مستوى التجهيزات المدرسيّة، وفي مستوى المعلّمين بين الأحياء العمّاليّة والأحياء البرجوازيّة. ومثل هذه المدرسة، لا يمكنها أن تجسّد مبدأ المدرسة الواحدة للجميع، المدرسة الّتي تقدّم تعليماً متكافئاً إلى جميع التلاميذ والطلّاب.

فالمدرسة الرأسمالية تسعى - وفقاً لقانونيّة المجتمع الرأسماليّ - إلى تحقيق الحدّ الأدنى من التحصيل الثقافيّ الّذي يسمح به مبدأ تقسيم العمل الحاليّ، هذا المبدأ الّذي أخذ أشكالاً عديدة في العقد الأخير من القرن العشرين المنصرم، ومن أجل تحقيق ذلك، ومهما تكن التصريحات، فإنّ المدرسة تحبط شريحة واسعة من الأطفال الفقراء وتحدّد لهم أنماطاً معيّنة متجنية من التعليم المدرسيّ وتحرمهم من توفير المناخ التربويّ المناسب لتحصيلهم المدرسي. وتسعى الأيديولوجيا التربويّة الرأسماليّة السائدة إلى إفقار الوسط الاجتماعيّ الّذي يعيش فيه أطفال الأوساط الشعبيّة (فقراء وعمّال وفلّاحون ومهمّشون)، وهي بالتالي تكرّس لديهم كافّة أشكال القصور والعجز والإعاقة. ويقينا فإن الأطفال الفقراء ليسوا معاقين أو قاصرين، ولكنّهم محرومين من الشروط المناسبة لنموهم، وهناك تباين كبير بين مفهومي الحرمان والإعاقة.

إنّ التعليم المهنيّ بأشكاله المتعدّدة يكرّس ويعدّ بشكل مسبق لأبناء الطبقة العاملة، وتسعى الطبقة المهيمنة في هذا المستوى إلى تقليص الطموح العلميّ والمعرفيّ عند أبناء العمّال، كما أنّها تسعى إلى تقليص درجة الطلب الموجّه إلى هذه المعرفة العلميّة لدى الفئات الاجتماعيّة الفقيرة. وهي بالتالي توظّف وكالاتها الاجتماعيّة ومؤسّسات الضبط الاجتماعيّ لتنفيذ هذه الغاية. إنّ الانتقال من التعليم المهنيّ إلى التعليم العامّ، أو من المعاهد الجامعيّة المتوسّطة والمهنيّة إلى الدراسات الجامعيّة طريق محفوف بالأخطار وشائك بالمصاعب. إنّ الحراك بين الفروع الدراسيّة يعتبر شذوذاً في عرف أرباب العمل: إذ لا يجب على العمّال تحصيل المعارف النظريّة غير الضروريّة، كما أنّه لا يجب عليهم التفكير في أمور لا تطلب منهم، ومن ثمّ فإنّ اتّساع معارفهم أمر يهدّد بالخطر. وهذا يعني أن أرباب العمل من الطبقة البرجوازية يدركون بدقّة خطر اتّساع معارف أبناء العمّال والطبقات المهيضة في المجتمع، ولذا فإنهم يرون أنّ المعرفة العلميّة في أفضل وجوهها يجب أن تكون من نصيب الخاصّة من الناس أي الطبقات الرأسمالية، وذلك ليس لأنّ هذه المعرفة العلميّة تمثّل أداة فعاليّة في السيطرة على الطبيعة والمجتمع، بل لأنها تمثل أداتهم في التفوّق وضمان هيمنتهم الطبقيّة.

فالمعرفة العلميّة تأخذ صورة ملكيّة وحيازة، ولا توجد في النظام الرأسماليّ السائد أسباب وجيهة تبرّر توزيع هذه الملكيّة العلميّة على أطفال العمّال الّذين يراد لهم أن يكونوا عمّال الغد. إنّ "اللاملكيّة" هي عمليّة متوارثة وحالها في ذلك لا يختلف عن حال الملكيّة، وبعبارة أخرى، يوجد هناك حرمان تربويّ بالمعنى الحقيقيّ لهذه الكلمة.

إنّ النظام المدرسيّ الرأسمالي القائم يسعى إلى إيجاد شرائح مدرسيّة أو متعلمين على المقياس، مقياس لأجل الأذكياء والمتفوقين، وواحد لهؤلاء الّذين يتعثرون في متابعة مسيرتهم المدرسيّة، وآخر لهؤلاء الّذين يرجى لهم مستقبل فنّيّ ومهنيّ. إنّ المدرسة بهذه المعنى نظام قد تمّ إعداده بشكل مسبق ليقوم بوظيفة دفع العدد الأكبر من الناس للعمل في مصلحة البعض الآخر وخدمته. ويحظى هذه النظام بشرعيّة ورسميّته. إنّه يترك للصعوبات والظروف الاجتماعيّة الصعبة أن تحدّد المصير الاجتماعيّ والمستقبليّ لشرائح واسعة جدّاً من التلاميذ والطلّاب والمتعلمين، ويترك لهذه الصعوبات أن تعمل على إقصاء عدد كبير من التلاميذ والطلّاب خارج أسوار المدرسة أو في المساقات المهنية.

ولا يمكن هنا إهمال الدور الكبير الّذي تلعبه الظروف الموضوعيّة الّتي تحيط بالأطفال، كالصعوبات الّتي يعانيها هؤلاء الأطفال على المستوى اللغويّ والثقافيّ.

فمنذ اللحظات الأولى لدخولهم إلى المدرسة يخضع الأطفال المهمشين إلى تأثير عمليّة اللامدرسيّة، ونعني بمفهوم "اللامدرسيّة" (Déscolarisation) منظومة من العمليّات التربويّة- النفسيّة الّتي تدفع الطفل إلى الإخفاق، كما وتضعه في مواجهة عدوانيّة مع المدرسة بمختلف رموزها وتجلّياتها. وتعتمد اللامدرسيّة هذه على نسق من عمليّات الازدراء والتهميش والتبخيس، وما نعنيه بالتبخيس هو جملة الآواليّات الّتي تدفع شخصاً ما إلى التقويم الذاتي السلبيّ لإمكانيّاته واستعداداته النفسيّة والعقليّة(1).

لقد أدرك دوركهايم برؤيته المنهجيّة الرصينة أنّ المدرسة تؤدّي وظيفتين متعارضتين جوهريّاً متكاملتين وظيفيّاً، فهي تعمل على تحقيق الوحدة والتجانس بين منتسبيها في المراحل التعليميّة الأولى من جهة، وفي المقابل تعمل على توليد التباين والاختلاف بينهم في المراحل العليا والجامعيّة من جهة أخرى من جهة أخرى. فالوظيفة الأولى تهدف إلى تحقيق التجانس الفكريّ والأيديولوجيّ المشترك بين أفراد المجتمع لتحقيق وحدة المجتمع وتكامله. أمّا الوظيفة الثانية فهي وظيفة اصطفائيّة تعمل على توليد التنوّع والاختلاف والتباين وتكريس هذا التباين بين روّادها لاعتبارات طبقيّة وأيديولوجيّة تستجيب لوظائف اجتماعيّة مختلفة ناجمة عن تقسيم العمل الاجتماعيّ وتنوّع سلّم الطبقات الاجتماعيّة بدءاً من هذه الّتي تهيمن إلى هذه الّتي تخضع للهيمنة (2).

فالمدرسة تفرض على منتسبيها نوعاً من التجانس الثقافيّ الكبير في مستوى المعايير والقيم والاتّجاهات، ومع ذلك كلّه فهي تمارس دوراً اصطفائيّاً أي أنّها تميّز بين أعضائها على أساس الطبقة والجنس والعمر والانتماء ومستوى الدخل ومستوى الذكاء. ففي الوقت الّذي تقوم فيه المدرسة بتحقيق التجانس الثقافيّ بين هؤلاء الّذين ينتمون إليها، تعمل من جهة أخرى على التمييز والاصطفاء في صفوفهم، وهي تؤدّي هذه الوظيفة المزدوجة بوصفها وسطاً أخلاقيّاً منظّماً بحسب تعبير دوركهايم(3).

إنّ إحدى الوظائف الأساسيّة للمدرسة هي إنتاج النظام الاجتماعيّ، أو على الأقلّ المساهمة مع المؤسّسات الأخرى في إيجاده على الصورة المثاليّة له. وهي تفترض بأنّ الفرد هو في الوقت نفسه سلبيّ وقابل للتشكيل بسهولة، ومن ثمّ يمكن للمدرسة انطلاقاً من هذه الرؤية أن تكيّف روّادها بالشكل الّذي يريده المجتمع.

فالمدرسة تترجم آليّة عمل وحياة المجتمع بصورة واقعيّة، وهي، عندما تؤكّد الجانب الفرديّ والهويّة الفرديّة في حياة الناس، تمارس وظيفة الاصطفاء الاجتماعيّ والتربويّ، ولكنّها عندما تعمل على طبع الأفراد بنظام أخلاقيّ واحد، فهي تعمل على تحقيق الوحدة والتجانس في الوقت ذاته.

تمارس المدرسة وظيفتها الاصطفائيّة عندما تترجم آليّة النظام الحياتيّ لمجتمع قائم على الاصطفاء، والّذي يعبّر عن جملة من الظواهر والوقائع والإجراءات العمليّة المؤثّرة في تحصيل الكفاءات العلميّة أو الأدبيّة. فالمدرسة تتبنّى نسقاً من القيم والمعايير الاجتماعيّة الّتي تتّصل بعمليّة تقويم التحصيل المعرفيّ والعلميّ والمهنيّ. وتعتمد في ذلك على أساس مناهج يفترض أنّها موضوعيّة، وهذه المناهج تؤدي إلى تصنيف المتعلمين في طبقات وفئات مختلفة تتناسب مع تقسيم العمل في المجتمع الطبقي. والمدرسة تعطي في سياق ذلك الأهمّيّة للتباين في الكفاءات المعرفيّة والعلميّة الحاصلة على أساس جملة المعايير الثقافيّة والنفسيّة والاجتماعيّة: كالعمر والجنس والطبقة الاجتماعيّة الّتي ينتمي إليها التلاميذ.

ويلاحظ في هذا السياق أنّ المدرسة تمارس دوراً في المراحل الأولى الابتدائيّة والإعداديّة يختلف في الدرجة والنوعيّة عن هذا الدور الّذي تمارسه في المراحل العليا من التعليم. فالدور الأساسيّ الّذي تمارسه المدرسة في المراحل الأولى هو دور وحدويّ يؤكّد أهمّيّة التجانس بالدرجة الأولى، وهذا يعني تحقيق التجانس الثقافيّ والاجتماعيّ والأخلاقيّ بين روّادها، وهذا بالطبع يعبّر عن حاجة المجتمع الملحّة إلى تحقيق مثل هذه الوحدة الثقافيّة كضرورة اجتماعيّة. ولكن هذا الدور يختلف في المراحل التعليمية العليا، إذ يتمحور حول وظيفة الاصطفاء والتقسيم الاجتماعيّ. ففي هذه المرحلة – أي في المستويات العليا من التعليم - تمارس المدرسة دوراً كبيراً في تعزيز الموقف الطبقيّ في مجال الحياة الاجتماعيّة، إذ تمارس نسقاً من المعايير المنظمة الّتي تؤدّي في نهاية الأمر إلى عمليّة فرز حقيقيّة بين التلاميذ والطلّاب على أساس انتماءاتهم الاجتماعية والطبقية. وهذا يعني أنّه أن المدرسة في المراحل الأولى للتعليم تكثف دورها في التأكيد على تحقيق التجانس، وعلى خلاف ذلك كلّما اتّجهنا صعوداً في السلّم التعليميّ يتعاظم الدور الاصطفائيّ للحياة المدرسيّة.

فالنظام المدرسيّ لم يوجد، على حدّ تعبير جاك هالاك (Jacques Hallak)" من أجل تلبية احتياجات المجتمع إلى اليد العاملة فحسب، وإنّما من أجل تطبيع أطفال المدارس وإعدادهم لقبول النظام السياسيّ والاقتصاديّ القائم على أسس اللامساواة الاجتماعيّة" (4). ويمكن المماثلة في هذا السياق بين النظام المدرسيّ القائم والكنيسة، أوو لنقل بأن النظام ألمدرسي قد اصبح أصبح بديلاً للكنيسة في تعزيزه للأنظمة الاجتماعيّة القائمة. فالمدرسة، وفقاً لمنظور هالاك،" تقوم بدور مزدوج فهي تقوم بتلبية احتياجات النظام الرأسماليّ لليد العاملة من جهة، وإضفاء الشرعيّة على البنية الطبقيّة من جهة أخرى: وعلى هذا النحو يرى الرأسماليّون في اتّساع النظام التعليميّ امتداداً لسلطتهم ونفوذهم " (5).

في عمله الشهير: "معاودة الإنتاج" (La reproduction) يرى بيير بورديو (Bourdieu) "أنّ بنيّة النظام المدرسيّ ووظيفته يعملان على ترجمة اللامساواة من مستواها الاجتماعيّ بشكل متواصل وفقاً لرموز متعدّدة، إلى اللامساواة في المستوى المدرسيّ" (6). وليس للمدرسة من مهمّة " سوى تعزيز وتأكيد قيم الطبقة الاجتماعيّة السائدة والعمل على إعادة إنتاج العلاقات الطبقيّة القائمة ثمّ إعطائها طابع الشرعيّة في آن واحد "(7).

3- الدعوة إلى  إلغاء المدرسة:

ومما لا ريب فيه أن الانتقادات الموجّهة ضدّ المدرسة استطاعت أن تشكّل مخاض ولادة اتّجاه فكريّ جديد ينادي بإلغاء المؤسّسة المدرسيّة والمؤسّسات التربويّة الأخرى. ويعتبر المفكّر التربويّ إيفان إيليتش (Ivan Illich) من أبرز دعاة وممثّلي ذلك الاتّجاه. ينطلق إيليتش، وغيره من الداعين إلى إلغاء المؤسّسات المدرسيّة في هجومهم على المدرسة، من الأطروحة الّتي تقول إنّ الثقافة الّتي تبثّها المدرسة ثقافة شكليّة لا صلة لها بالحياة الاجتماعيّة أو بالواقع الاجتماعيّالّذي يعيشه أطفال المدارس. ويذهب إيليتش بعيداً في تصوّراته ليعلن مجدّداً إنّ “المجتمع الّذي يخلو من المدرسة سيخلو من العقبات الّتي تقف في وجه أبناء الفئات الاجتماعيّة المهيّضة(....) أنّ الدعوة إلى مشروع تربويّ متكافئ عادل ما هي إلّا حماقة وهراء برجوازيّين (8).

ويعدّ كلّ من بودلو (Baudelot) واستابليه (Estabelet) في كتابهما المشهور المدرسة الرأسماليّة في فرنسا (L’école capitaliste en France) من أبرز المتطرّفين المعاصرين في التأكيد على الدور الاصطفائيّ الطبقيّ للمدرسة، إذ يعتقدان أنّ المدرسة في فرنسا ليست سوى آلة برجوازيّة في خدمة الطبقة البرجوازيّة الفرنسيّة، وذلك لأنّ وظيفتها تكمن في دفع أطفال العمّال إلى الإخفاق المدرسيّ، وإلى مواقعهم الاجتماعيّة المحدّدة لضمان عمليّة استغلالهم وتكريسها. وأنّ المدرسة الرأسماليّة تعمل على ترجمة التباين الاجتماعيّ القائم بين الأفراد في المجتمع إلى تباين مدرسيّ يتجلّى في المستويات المختلفة للنتائج المدرسيّة. وفي المحصّلة يرى الكاتبان أنّ المدرسة تعمل على إعادة إنتاج علاقة الإنتاج الرأسماليّة وتعزيزها (9).

فالمدرسة، كما تبيّن الدراسات الجارية لا تمثّل، في أيّ حال من الأحوال ذلك المكان الّذي تتحقّق فيه الديمقراطيّة التربويّة، وذلك بحكم بنيتها الطبقيّة ووظائفها الإيديولوجيّة. وإذا كانت المدرسة تخضع الأطفال حقّاً لمعايير واحدة وقوانين واحدة، فإنّ الأطفال من حيث المبدأ يتباينون في قدراتهم الأوّليّة، أي قبل الدخول إلى معترك الحياة المدرسيّة، على خوض التجربة المدرسيّة والنجاح فيها.

وإذا كانت المدرسة تسعى إلى تحقيق التجانس الثقافيّ في إطار المجتمع فإنّها، كما يبيّن دوركهايم، تسعى إلى تحقيق التباين، في مرحلة لاحقة، وخاصّة في مراحل التعليم العليا. وتتجسّد اللامساواة التربويّة في أبعاد مختلفة أبرزها: تسرّب عدد كبير من التلاميذ خارج النظام المدرسيّ، وإخفاق عدد آخر، وتوجّه التلاميذ والطلّاب نحو فروع علميّة ودراسيّة متباينة الأهمّيّة على المستوى الاجتماعيّ.

لقد بدأت سهام النقد توجّه إلى المدرسة من كلّ حدب وصوّب بوصفها جهازاً إيديولوجيّاً يسعى إلى تكريس التفاوت بين التلاميذ وفقاً لمعايير الانتماء الاجتماعيّ والطبقيّ السائد في المجتمع. فالمدرسة على حدّ تعبير بورديو " تترجم اللامساواة الاجتماعيّة إلى صيغتها المدرسيّة عبر صيرورة من العمليّات والأوّليّات المختلفة " (10). وهي في عرف بودلو أداة في خدمة البرجوازيّة تعمل على دفع أطفال العمّال إلى الإخفاق واتّخاذ مواقعهم في مراكز الاستغلال الاجتماعيّ، وهي بالإضافة إلى ذلك كلّه تسهم في معاودة إنتاج العلاقات البرجوازيّة القائمة (11).

ولا يقف المفكّر الأمريكيّ إيفان إليتش عند حدود اتّهام المدرسة، بل يدعو إلى إلغائها؛ لأنّها أداة تسعى إلى تكريس التباين بين الناس اللامساواة بين الأطفال. وفي هذا السياق يقول إليتش” إنّ المدرسة الواحدة من أجل الجميع مجرّد وهم خالص" (12).

4- عمليّات الاصطفاء وعوامله:

في صلب عمليّة الاصطفاء المدرسيّ تجري عمليّات اجتماعيّة وثقافيّة بالغة الصعوبة والتعقيد، وتوجد في أصل هذه العمليّات الاصطفائيّة منظومة متكاملة من المتغيّرات، الّتي ترسم في إطار جدلها وتكاملها طابع واتّجاه ومضمون الاصطفاء الّذي يتمّ في قلب المؤسّسات المدرسيّة والتعليميّة.

ينطلق الاصطفاء المدرسيّ غالباً على فعاليّات النجاح والرسوب والترك والتخلّي والتوزّع في التخصّصات المدرسيّة. وكلّ صورة من هذه الصور الاصطفائيّة تأتي تحت تأثير مظلّة من العوامل والمتغيّرات الّتي تتدرّج في أهمّيّتها، وتتنوّع في طبيعتها لترسم الصورة الكلّيّة لحركة الاصطفاء التعليميّ واتّجاهاته.

ويشكّل الأصل الاجتماعيّ بمتغيّراته الأساسيّة منطلق الاصطفاء الاجتماعيّ في المدرسة. ويضاف إلى ذلك العامل الفرديّ الّذي يعدّ أيضاً من العوامل المثيرة للجدل، والّتي تؤدّي دوراً قد لا يقلّ أهمّيّة عن العوامل الاجتماعيّة في تحديد مستقبل الطلّاب وحياتهم المدرسيّة والمهنيّة لنتحدّث الآن عن الأصل الاجتماعيّ ودوره في عمليّات النجاح والإخفاق المدرسيّين (13).

4-1- الأصل الاجتماعيّ:

تؤكّد الأبحاث الميدانيّة والأمبيريقيّة الجارية، الّتي تتناول مسألة الأصل الاجتماعيّ والنجاح المدرسيّ، وجود علاقة ترابط قويّة وإيجابيّة بين النجاح المدرسيّ والأصل الاجتماعيّ للتلاميذ، ويلاحظ في مسار هذه النتائج، أنّه كلّما تمّ التدرّج في المستوى الاجتماعيّ للأطفال، ازدادت تصاعديّاً احتمالات نجاحهم المدرسيّ.

وفي هذا الصدد يشير كولمان (Colman) في أعماله حول مسألة تكافؤ الفرص التعليميّة، بأنّ الأصل الاجتماعيّ هو الوحيد الّـذي يظهـر تـأثيره بوضوح في مستوى النجاح المدرسيّ. وإنّه لمن الصعوبة بمكان استخلاص نتائج قطعيّة وواضحة فيما يتعلّق بتأثير العوامل الاجتماعيّة والمدرسيّة الأخرى، حيث تبدي نتائج الأبحاث في هذا الخصوص نوعاً من التذبذب الكبير الّذي يقفز أمام العيون بين دراسة وأخرى.

وتشير الدراسات الجارية في ميدان اللامساواة المدرسيّة إلى تدخّل منظومة من العوامل الاقتصاديّة والثقافيّة والاجتماعيّة في موازنة تحقّق العدالة التربويّة، ومن أهمّ النتائج الّتي تطرحها هذه الدارسات يمكن أن نسجّل المحاور التالية:

1 -غالباً ما يكون النجاح والتفوّق المدرسيّان من نصيب أبناء الفئات الاجتماعيّة الميسورة. وعلى خلاف ذلك، غالباً، ما يكون التسرّب والإخفاق في المدرسة من نصيب أبناء الفئات الاجتماعيّة الفقيرة.

2- يلعب مستوى دخل الأب وثقافته دوراً كبيراً في تحديد مستوى نجاح التلاميذ في المدرسة.

3 - يلعب الأصل الاجتماعيّ للأب دوراً متزايداً في كافّة عمليّات ومراحل التحصيل المدرسيّ.

4- تمارس مجموعة من المتغيّرات الاجتماعيّة دوراً كبيراً على مستوى تحصيل الأطفال مثل: حجم الأسرة، ودرجة تماسكها، ومستوى لغة الأسرة وطابعها، ومكان السكن الخ…

ويتمّ في المستوى السوسيولوجيّ، تحديد الأصل الاجتماعيّ للأطفال، بعدد من المتغيّرات مثل: مهنة الأبوين، ومستواهما الثقافيّ والعلميّ، ومستوى دخلهما. وتقاس درجة النجاح المدرسيّ بمعدّلات النجاح في امتحانات الشهادات المدرسيّة، أو من خلال الدرجات الّتي ينالها الطالب في عمليّة الانتقال من صفّ لآخر، أو بمدى الفترة الزمنيّة الّتي يتمّ فيها للطالب اجتياز المراحل الدراسيّة، أو بعدد مرّات الرسوب خلال تحصيله العلميّ.

هذا وتبيّن الدراسات والأبحاث الاجتماعيّة الجارية حول تكافؤ الفرص التعليميّة أنّ الأصل الاجتماعيّ للأطفال يؤدّي دوراً كبيراً في مستوى نجاحهم المدرسيّ. فأطفال الكوادر العليا (محامون قضاة أطبّاء مهندسون مدراء أساتذة)، يسجّلون نجاحاً مدرسيّاً مرتفعاً جدّاً بالقياس إلى أطفال الفلّاحين والعمّال الّذين يخفقون غالباً في الوصول إلى المراحل العليا للتعليم. وتجدر الإشارة في هذا السياق إلى أنّ النجاح المدرسيّ الّذي نعنيه هو نسبة النجاح المتوسّط لأطفال فئة اجتماعيّة محدّدة. وفي هذا السياق يمكن القول بأنّ أبناء الفئة الأولى يحوزون نجاحاً أفضل قياساً إلى المجموعات الأخرى.

ومن المهمّ في هذا السياق ألّا نقارن بين حالات فرديّة لنجاح أطفال ينتمون إلى هذه الفئة، أو تلك من أجل الوصول إلى نتيجة ما، أو الطعن في النتيجة العلميّة الّتي تقرّها الدراسات. وغنيّ عن البيان أنّ الواقع يبيّن وجود حالات لا حصر لها يكون فيها نجاح أطفال من الفئات غير الميسورة أفضل من نجاح أطفال الفئات الاجتماعيّة العليا أي المحظوظة اجتماعيّاً. وغنيّ عن البيان أيضاً أنّ عدد العباقرة والمفكّرين الكبار الّذين ولدوا في بيئات اجتماعيّة فقيرة قد يكون أكبر من عددهم في البيئات الاجتماعيّة الميسورة. وتجدر الإشارة إلى أنّ الأبحاث تأخذ بالمعايير الإحصائيّة ذات الطابع الممثّل أو الجمعيّ. حيث تتمّ المقارنة كما ذكرنا منذ قليل بين متوسّط نسب النجاح للفئات الاجتماعيّة المهنيّة. كأن نقول على سبيل المثال وليس الحصر: أنّ نسب نجاح أبناء الأطبّاء أو المهندسين تصل إلى 70% وهذا يعني أنّه من كلّ مئة طالب ينتمون إلى آباء يمارسون مهنة الطبّ أو الهندسة ينجح منهم 70 طالباً في الامتحان. وقد لا تصل هذه النسبة إلى 30% عند أبناء العمّال.

ويتحدّد الانتماء الاجتماعيّ للأطفال والناشئة بعدد كبير من المتغيّرات والعوامل مثل: المستوى الثقافيّ للأبوين وعملهما، حجم الأسرة، مكان إقامتها، دخل الأسرة، القطاع الّذي يعمل فيه الأبوان... الخ.

وتقتضي المنهجيّة العلميّة عند دراسة العلاقة بين الأصل الاجتماعيّ والنجاح المدرسيّ ألّا نأخذ هذه العلاقة بصورة أحاديّة الاتّجاه، وهذا يعني أنّه يجب أن تؤخذ هذه العلاقة في إطار نسق من المتغيّرات الاجتماعيّة والفرديّة الأخرى المتدخّلة، والّتي يمكنها أن تؤدّي دوراً في تحديد مستوى النجاح المدرسيّ؛ وبعبارة أخرى يجب التأكّد من أنّ علاقة الترابط القائمة بين الأصل الاجتماعيّ والنجاح المدرسيّ هي علاقة حقيقيّة، وليست علاقة ترابط وهميّة أو خادعة. وهذا يجنّب الباحث من إطلاق تعميمات علميّة خاطئة.

إذ يجري أحياناً تفسير العلاقة بين الأصل الاجتماعيّ والنجاح المدرسيّ بصورة أحاديّة الاتّجاه مع أنّ هذه العلاقة قد تتحدّد بوجود علاقة بين هذين العاملين مع عامل ثالث لم يؤخذ بعين الاعتبار في الدراسة. ولنفترض بأنّ الانتماء الاجتماعيّ والنجاح المدرسيّ يفسّران عامل الوراثة. ومن جديد هنا يجري التأكيد على أهمّيّة العلاقة الدائريّة المتعدّدة الاتّجاهات في دراسة العلاقة بين الأصل الاجتماعيّ والسيرة المدرسيّة للأطفال روّاد المدرسة.

4-2-تأثير العوامل المدرسية:

في جدل العلاقة بين المتغيّرات الأساسيّة الحاكمة لعمليّة النجاح المدرسيّ يمكن التمييز من حيث المبدأ بين العوامل الاجتماعيّة والعوامل المدرسيّة، ويمكن دراسة طبيعة هذه العلاقة الّتي تقوم بين مجموعتي العوامل المشار إليها.

والسؤال الّذي يطرح نفسه هنا لماذا تلعب العوامل المدرسيّة دوراً أكثر أهمّيّة أحياناً من العوامل الاجتماعيّة في عمليّة الاصطفاء المدرسيّ؟ إنّ متابعة الدراسة في الفروع العلميّة والمؤسّسات التعليميّة الأكثر حظوة وأهمّيّة تخضع إلى عمليّة اصطفاء قاسية وجديد. وهذه التصفية تتمّ وفقاً لمستوى النجاح المدرسيّ السابق وبعض العوامل غير المدرسيّة كالأصل الاجتماعيّ. وهنا يشار إلى نوع آخر من العمليّات الاصطفائيّة النيّ تتنوّع وفقاً للحالات المختلفة الّتي يتمّ فيها الاصطفاء المدرسيّ. فهناك نسّق من عمليّات الاصطفاء الّتي يختلف بعضها عن بعض مثل: الاصطفاء الذاتيّ، والاصطفاء المركّز، والاصطفاء الطبيعيّ... الخ. فالنظام التعليميّ يتضمّن معايير اصطفائيّة مضمرة أو صريحة، ويترتّب على ذلك أنّه كلّما كانت الشبكات المدرسيّة والفروع العلميّة واضحة المعالم كلّما كانت المعايير الاصطفائيّة للنظام التعليميّ واضحة، وهذا يكون لصالح التلاميذ الّذين يتّحدون من أصول اجتماعيّة فقيرة.

في الحقيقة نجد بأنّ المعرفة الجيّدة لمبادئ العمل في النظام المدرسيّ ومعاييره يعطي للأفراد إمكانيّة الربط العقلانيّ بين الوسائل والغابات المرغوبة، ويتمّ هذا الربط عبر وضع إستراتيجيّة واضحة للمتابعة في المدرسة وفقاً لمبدأ المجازفات والنفقات والفوائد. فعندما تكون قوانين الحياة المدرسيّة، والعلاقة السببيّة بين الوسائل والغايات غير واضحة، فإنّ ذلك يؤدّي إلى المجازفة والمغامرة.

ولا بدّ من الإشارة في هذا الخصوص أيضاً إلى وجود عوامل أخرى، غير مدرسيّة أو اجتماعيّة، تؤثّر في مستوى النجاح المدرسيّ: كالعمر، والجنس ومكان الإقامة، والتركيب الاجتماعيّ للوسط المدرسيّ، وهي عوامل ترتبط مع العوامل الثلاثة الرئيسيّة والمشار إليها سابقاً.

4-3- الاصطفاء الذاتيّ

يشير مفهوم الاصطفاء الذاتيّ (Autosélection:)  إلى قرار يتّخذه الطالب أو أسرته، أو كلاهما معاً، بالتخلّي عن متابعة التحصيل المدرسيّ نهائيّاً، أو العدول عن الدراسة في فرع علميّ معيّن والانتقال إلى فرع علميّ آخر. وغالباً ما يستند مثل هذا القرار على متغيّرات مدرسيّة واجتماعيّة مختلفة. ويمكن الإشارة في هذا الخصوص إلى الاصطفاء المكثّف( Sursélection) الّذي ينبّه إلى درجة عالية من المعاناة الاصطفائيّة العالية الّتي تواجهها مجموعة اجتماعيّة مدرسيّة (مثل أطفال العمّال أو الفلّاحين) حيث تخضع المدرسة روّادها ومنتسبيها لعمليّات اصطفائيّة تكون شديدة الوقع على بعض أبناء الفئات الاجتماعيّة الّتي تعيش وضعيّة اجتماعيّة صعبة (14).

ومن الآليّات الّتي تحدّد معالم الاصطفاء الذاتيّ يمكن الإشارة إلى ما يلي:

- قلّما يتّجه أطفال الفئات الاجتماعيّة للتسجيل في الفروع العلميّة الهامّة بالمقارنة مع أبناء الفئات الاجتماعيّة الميسورة.

- يترك أبناء الفئات الاجتماعيّة المتواضعة (فلّاحون وعمّال) المدرسة مبكّراً قياساً إلى أبناء الفئات الأخرى.

- عندما يكون الأطفال المنتسبون إلى المدرسة في عمر واحد ومستوى نجاح مدرسيّ واحد يلاحظ أنّ أطفال الفئات الاجتماعيّة المتواضعة يواظبون بدرجة أقلّ في متابعة دراساتهم في المراحل العليا.

- تبيّن الدراسات والأبحاث الّتي أجراها المعهد القوميّ للدراسات أو الأبحاث في فرنسا، ولا سيّما الأعمال الّتي قام بها جيرار وكليرك نتائج بالغة الأهمّيّة في هذا المستوى، ومنها هذه النتيجة العيانيّة:

إنّ طفلاً صغير السنّ (عمر مثاليّ) بسيرة مدرسيّة ممتازة (نجاح مدرسيّ ممتاز) سيكون له فرص أقلّ بثلاث مرّات للتسجيل في المراحل الجامعيّة إذا كان هذا الطفل يتحدّر من وسط عمّاليّ. وبعبارة أخرى، يكون للأطفال من الوسط الاجتماعيّ الجيّد ثلاث فرص إضافيّة للتسجيل في الجامعة بالمقارنة مع أطفال من وسط عمّاليّ وبافتراض تكافؤ الشروط والمتغيّرات الأخرى بين الأطفال جميعاً.

وتجدر الإشارة في هذا السياق إلى وجود نظريّتين تحاولان أن تشرحا الاصطفاء الذاتيّ للأطفال بناء على ما يسمّى بالحدس الداخليّ اللاشعوريّ لإمكانيّات النجاح والإخفاق الدراسيّ في المستقبل.

ويعدّ المفكّر الفرنسيّ المعروف بيير بورديو (Bourdieu) أحد كبار الممثّلين لهذه النظريّة (15). قد يقول فالتلميذ أو الطالب لنفسه عندما يفكّر في متابعة تحصيله العلميّ وفق مونولوج داخليّ: إنّني أعرف جيّداً الصعوبات الّتي تعترض طريقي وأمثالي عندما أريد أن أتابع تحصيلي العلميّ في هذا الفرع، أو في هذا المستوى، نعم ما سيحدث أنّ المدرسة بقوانينها وصرامتها ستستبعدني كلّيّاً من الدراسة مستقبلاً، نعم سأخفق وسأفشل ولن أستطيع المتابعة، فلماذا إذن أجازف وأغامر بالوقت والجهد؟ أليس من الأفضل لي أن أبحث عن فرع آخر؟ أو عن شيء آخر؟

ويجيب الشخص المعنيّ نفسه بصورة حدسيّة عن هذه الأسئلة المرّة تحت مظلّة الظروف الصعبة الّتي يعانيها، وبتأثير الضوابط الّتي خبرها جيّداً في وسطه الاجتماعيّ، وعبر القوانين الحاكمة لطبيعة الحياة الاجتماعيّة والمدرسيّة الّتي تسود وسطه الاجتماعيّ، وبالطبع وانطلاقاً من هذا الحوار الصامت اللاشعوريّ أحياناً، الغامض في أحيان كثيرة، والّذي يأخذ طابعاً حدسيّاً في الأحوال كلّها، يستجيب الطفل التلميذ الطالب لإرادة سلبيّة تدفعه إلى التخلّي والترك المدرسيّ بعيداً عن أجواء المغامرة والمجازفة.

وعلى خلاف النظريّة الحدسيّة هذه تبيّن النظريّة العقلانيّة أنّ الاصطفاء الذاتيّ يتمّ على أساس محاكمات عقليّة بالغة الدقّة والخصوصيّة. ويعدّ المفكّر الفرنسيّ بيير بودون Pirerres Boudons من أشهر ممثّلي هذا الاتّجاه في مجال تحليل الاصطفاء المدرسيّ. فالتلميذ يقرّر هنا بصورة واعية ما يترتّب عليه في الشأن المدرسيّ. ومن ثمّ يدرس الظروف والعوامل والمتغيّرات المختلفة، ويقدّر إمكانيّة المتابعة أو أفضليّة الترك والتخلّي عن الدراسة. وهو في الأحوال كلّها لا يتّخذ قراره بناء على فرضيّة الحدس والاستبطان أو العفويّة الحرّة في اتّخاذ القرار. وهنا يبدو أنّ اتّخاذ القرار بالتخلّي أو الترك يعتمد على موازنة دقيقة تأخذ بعين الاعتبار المخاطر وحدود النفقات والعائدات، وغنيّ عن البيان أنّ مثل هذا القرار يتباين اتّجاهه ودرجته ومدى موضوعيّته بتباين عوامل ومتغيّرات عديدة أبرزها عامل المرحلة المدرسيّة الّتي يتّخذ فيها ولها القرار.

4-4- الاصطفاء الاجتماعيّ:

يؤكّد دوركهايم Durkheim E. مؤسّس علم الاجتماع التربويّ في كتابه التربية والمجتمع (Education et sociologies) على الهويّة الاجتماعيّة للمؤسّسات التربويّة. يقول في معرض ذلك إنّ “الأنظمة التربويّة ترتبط ارتباطاً عميقاً بالأنظمة الاجتماعيّة”(16). وهو بذلك ينطلق من مقولته الشهيرة الّتي ينظر من خلالها إلى التربية بوصفها “ظاهرة اجتماعيّة في بنيتها وفي وظيفتها” ”(17). وفي موضع آخر يقول دوركهايم أنّ التربية” هي قبل كلّ شيء الوسيلة الّتي يعتمدها المجتمع في تجديده المستمرّ لشروط وجوده الخاصّة ”(18).

لقد كان لآراء دوركهايم، في تحديد طبيعة الصلة بين الظاهرة التربويّة والظاهرة الاجتماعيّة، أثر كبير في ولادة اتّجاه فكريّ آخر يرى أنّ” المدرسة ليست مسؤولة عن اللامساواة الاجتماعيّة والتربويّة وهي غير قادرة على التأثير في هذه المسألة أو تغييرها" (19). وفي سياق ذلك الاتّجاه الفكريّ يرى كريستوفير جينكيس (Jenkis Christopher) أنّ قدرة المدرسة على المساهمة في تحقيق المساواة مرهون إلى حدّ كبير بتغيّر عميق في البنى الاقتصاديّة والسياسيّة القائمة. وتجد آراء كريستوفي تعزيزاً لها في فلسفة المفكّر الفرنسيّ جورج سنيدر (Snyders George) الّذي يرى أنّ "اللامساواة الاجتماعيّة مصدر لكافّة أشكال اللامساواة التربويّة والمدرسيّة"(20). وهو ينطلق في مقولته هذه من الأطروحة الماركسيّة المعروفة الّتي ترى "أنّ المدرسة في مجتمع طبقيّ لن تكون ولا يمكن أن تكون إلّا مدرسة طبقيّة" (21).

ويميل سنيدر إلى الاعتقاد باستحالة وجود المدرسة "اللاسياسيّة" الّتي لا ترتبط بمصالح طبقة اجتماعيّة تكرّس لخدمة جميع الفئات الاجتماعيّة دون استثناء، والّتي تسعى إلى تحقيق مبدأ الازدهار والتكامل في شخص الأطفال دون تميّز، هذه المدرسة ليست في نهاية الأمر سوى أكذوبة برجوازيّة هدفها خداع الجماهير” (22).

ونجد صدى مثل هذه المقولة عند هيتان رايمون (Raymon Huitin) في كتابه” فرص للجميع" (Des chances pour tous) حيث يميل إلى الدقّة الإمبيريقيّة في تحليل العلاقة بين وظيفة المدرسة الاصطفائيّة والبنية الطبقيّة للمجتمع. وفي معرض ذلك يشير هيتان إلى أنّ وظيفة المدرسة الاصطفائيّة تفرض على المؤسّسة المدرسيّة وفقاً لمعايير الطبقة السائدة في المجتمع” وهي بذلك تستبعد الأطفال الّذين يخفقون في سيرتهم المدرسيّة وتعزيز مسيرة هؤلاء الّذين يسجّلون سيرة مدرسيّة ناجحة، وذلك كلّه وفقاً لمعايير اجتماعيّة محدّدة بشكل مسبق" (23).

لقد كان لذلك التباين، في وجهات النظر حول دور كلّ من المدرسة والمجتمع في تكريس اللامساواة الاجتماعيّة والتربويّة، أن يغنّي المضمون العلميّ لجدل العلاقة بين التربية والحياة الاجتماعيّة على مستوى البنية والوظيفة. وبعبارة أخرى تكمن القيمة العلميّة لتباين هذه الاتّجاهات الفكريّة في إعطاء صورة كلّيّة متكاملة لطبيعة العلاقة بين النسق التربويّ في مختلف مؤسّساته التربويّة وإطار الحياة الاجتماعيّة في جوانبها السياسيّة والاقتصاديّة المتعدّدة. ويعود هذه التعارض بين الاتّجاهات الفكريّة إلى نوع من الغنى في مناهج البحث المستخدمة، وإلى نوع من تباين الحالات المدروسة، أو إلى نوع من التناقض في الخلفيّات الثقافيّة الإيديولوجيّة للباحثين والمفكّرين. ورغم ذلك كلّه نستطيع أن نلاحظ سمات من التجانس والوحدة في إطار ذلك التنوّع الفكريّ الكبير، وهنا تكمن الأهمّيّة العلميّة للجدل الدائر حول مسألة اللامساواة الاجتماعيّة.

وحين يتسنّى لنا أن ننطلق من إطار الوحدة والتجانس بين هذه الاتّجاهات، يمكن لنا أن نحدّد بعض المحاور المشتركة لذلك التنوّع الفكريّ. وفي هذا السياق يبدو لنا ضروريّاً أن نبرز بعض النقاط المشتركة الّتي تمثّل حصادنا الفكريّ لطبيعة العلاقة بين المدرسة والمجتمع:

1-المدرسة لا تمثّل عالماً منفصلاً عن الحياة الاجتماعيّة، وهي في كافّة أحوالها مؤسّسة اجتماعيّة تخضع لجدل العلاقات القائمة بين المؤسّسات الاجتماعيّة.

2- وإذا كانت وظيفة وبنيّة المؤسّسة المدرسيّة، مرهونة بالشروط الاجتماعيّة القائمة، فإنّ ذلك لا يتعارض مع هامش من الاستقلال النسبيّ الّذي تتمتّع به هذه المؤسّسة التربويّة، ويبقى مثل ذلك مرهوناً بمستوى وعي العاملين في الحقل التربويّ وطبيعة انتماءاتهم الاجتماعيّة وخلفيّاتهم الثقافيّة.

3- هذا ويمكن للمدرسة أن تؤدّي أدواراً متعدّدة ومتباينة، فهي قادرة على تكريس اللامساواة الاجتماعيّة التربويّة كما يمكن لها أن تسهم في تقليص اللامساواة الاجتماعيّة والحدّ منها، وذلك مرهون بجملة من الظروف الاجتماعيّة والسياسيّة القائمة.

5- في تفسير الاصطفاء المدرسيّ:

هناك مجموعتان من النظريّات الّتي تحاول تفسير طبيعة النجاح المدرسيّ وقضايا تكافؤ الفرص التعليميّة. هناك النظريّات الحتميّة (Déterminisme) التي يمثلها كلّ من باسيل برنشتاين (Bernstein)وبيير بورديو اللذين يؤكّدون الأهمّيّة القصوى لتاريخ الفرد وماضيه في تحديد مصيره المدرسيّ والتعليميّ. كما أنّهم يؤكّدون أهمّيّة ظروف الحياة الطبقيّة والاجتماعيّة في تحديد مستقبل الأطفال في المستويات المهنيّة والمدرسيّة أيضاً(24).

وتأخذ المجموعة النظريّة الثانية بعين الاعتبار أهمّيّة الفرد ودوره في صنع المصير. ويطلق على أصحاب هذه النظريّة "الفردانيّون" (Individualistes) الّذين يرفضون حتميّة الظروف الاجتماعيّة، ويعتقدون أنّ الأفراد قادرون على صناعة مصيرهم المدرسيّ والمهنيّ تأسيساً على مبادراتهم وفعاليّاتهم الاجتماعيّة. ومن أهمّ الاتّجاهات الأساسيّة لهذه النظريّات يمكن الإشارة إلى مدرسة المفكّر الفرنسيّ (Boudon) الّذي لطالما يركّز في دراساته وأبحاثه على أهمّيّة العوامل المستقبليّة في تحديد مصير الفرد ومستقبله24. فإذا كان الماضي عند الحتميّين هو الّذي يحدّد ملامح المستقبل، فإنّ المستقبل عينه هو الّذي يرسم المصير عند الأفراد وفقاً لأنصار النظريّة الفرديّة. ومن هذا المنطلق يوجّه الفردانيّون انتقاداتهم الشديدة إلى الثقافويّين الّذين يعتقدون أنّ هدف الاصطفاء هو إعادة إنتاج البنى الاجتماعيّة القائمة وبأنّ المدرسة قادرة على فرض قوانينها على الأفراد.

ومع أهمّيّة هذه الرؤى ورصانتها وقدرتها على تقديم التفسيرات المناسبة لقضايا المدرسة، فإنّها لن تستطيع أن تفسّر لنا التغيّرات الجارية إطار الزمن، والّتي تتعلّق باللامساواة المدرسيّة للأفراد، والّذين ينتمون إلى الفئات اجتماعيّة مختلفة. إنّ نظريّة الفردانيّين تعكس اهتمامات الفرد الواحد واهتمامات الفرد الواحد لا يمكنها أن تنفصل عن عائلته والظروف الّتي تحيط به. إنّ العوامل الفرديّة وبدون شكّ تؤدّي دوراً أساسيّاً، ولكنّ تأثيرها يتميّز بالقوّة في المرحلة الأولى من سنوات الدراسة أكثر من المراحل اللاحقة. وعلى خلاف وضعيّة الفرد تكون الفئات الاجتماعيّة هي على الأغلب من طبيعة اقتصاديّة، وكلّما كان الوضع الاجتماعيّ للأسرة أكثر يسراً كلّما كانت احتمالات نجاح الفرد مرتفعة من أجل الوصول إلى مركز اجتماعيّ أو مدرسيّ مرتفع. إنّ الإخفاق غالباً ما يكون من شأن الأطفال الّذين ينتمون إلى واقع اجتماعيّ الأكثر تواضعاً.

إنّ علـم اجتمـاع المؤسّسـات الصغـرى "الميكروسوسيولوجيّ" (Microsociologie) يتناول المؤسّسة المدرسـيّة كمجتمع مستقلّ عن إطاره الاجتماعيّ العامّ، ولا يخلو ذلك من الأهمّيّة العلميّـة والمنهجيّـة لتحليل الظواهر التربويّة الّتي تتمّ في إطار المؤسّسة المدرسـيّة. وفي هذا المستوى من الدراسات السوسيولوجيّة المصغّرة يـذهب بعض الباحثين في مجال التربية وعلم النفس التربويّ إلى المبالغة في اتّهـام المدرسـة، وفـي تحميلهـا مسؤوليّة اللامساواة التربويّة وفقاً لعمليّات وفعاليّـات تربويّـة مـن شـأنها تكريس التفاوت والتباين بين أطفال المدارس وروّادها.

وعلى خلاف ذلك يميل بعض علماء الاجتماع في دراستهم السوسيولوجيّة الّتي تتميّز بالشـموليّة "المايكروسوسيولوجيّ" (Macrosociologie) إلى تجاهل ما يحدث في إطار المدرسة من عمليّـات تربويّـة وممارسات الّتي من شأنها تكريس التفاوت التربويّ، ويذهبون إلى التـأكيد عـلى الـدور الحاسـم لشـروط الحياة الاجتماعيّة غير المدرسيّة في إنتاج ظاهرة اللامساواة التربويّة.

ومـا بيـن دور المدرسـة ودور المجتمع، وما بين مسؤوليّة المدرسة مسؤوليّة المجتمع، في تكريس أو تقليص اللامساواة التربويّة، تدور المجادلات الفكريّة بيـن فـريقين مـن الباحثين. وبين هذين الاتّجاهين،

يبرز اتّجاه آخر يتميّز بالاعتدال، ويأخذ مكاناً وسطاً بين التيّارين السابقين، إذ يرى أصحاب الاتّجاه المعتـدل أنّ اللامساواة التربويّة هي مسؤوليّة المدرسة والمجتمع في آن واحد، وأنّ لكـلّ دوره، ولكـلّ منهمـا أهمّيّته فـي إنتاج اللامساواة التربويّة بين الناشئة.

6- خاتمة:

إنّ مسألة تكافؤ الفرص المدرسيّة تتدرّج في الإطار العامّ لمسألة المساواة. إنّ السياسات الاجتماعيّة تتّجه في أغلب البلدان نحو إيجاد حلّ لمسألة اللامساواة المدرسيّة بين المواطنين، وذلك عبر إعداد وسائط مدرسيّة متعدّدة، مثل برامج المساعدات الاجتماعيّة، ودروس التقوية والبرامج الإعلاميّة الممكنة.

في المدن اليونانيّة، في روما القديمة، وفي المجتمعات ما قبل الصناعيّة، حيث تكون التربية مهمّة من مهمّات الأسرة، يبدو الحديث عن التكافؤ في الفرص بين الأطفال دون معنى. ولكنّ هذه المسألة تختلف في إطار أنظمة اجتماعيّة لم تعد فيها الأسرة تشكّل وحدة الإنتاج الاقتصاديّة، كما أنّها قاصرة أيضاً عن توفير مكان النشاط المهنيّ لأطفالها. وهذا ما يجبر الأسرة على البحث في مكان آخر عن مصدر للدخل. وعلى هذا الأساس، فإنّ التدريب المهنيّ لا يمكن بعد أن يتمّم كما كان سابقاً في إطار العائلة. إنّ ذلك يصبح مسؤوليّة كافّة المؤسّسات، ويصبح منذ هذه اللحظة مسؤوليّة ربّ العمل والمؤسّسات الاجتماعيّة، ولا سيّما الدولة.

إنّ الأنظمة التربويّة للبلدان النامية تتباين بدرجة كبيرة، وذلك وفقاً لمعايير متعدّدة. فتكافؤ الفرص المدرسيّة لا يحمل المعنى نفسه الّذي نجده في البلدان ما قبل الصناعيّة، وذلك لأنّ اللامساواة التربويّة توجد في قلب الأنظمة التربويّة القائمة. بالتالي فإنّ المطالبة الاجتماعيّة بمدرسة واحدة من أجل الجميع يطرح مسألة التكافؤ في الفرص الّتي تحدّد بمجموعة من العوامل أهمّها:

1- تربية مجّانيّة وعامّة للأطفال جميعهم في سنّ المدرسيّة

2- نشر معرفة واحدة للجميع.

3-تحقيق التجانس في البيئة الاجتماعيّة والأخلاقيّة للوسط المدرسيّ.

4- المساواة في النتائج المدرسيّة : يجب أن يتاح للتلاميذ جميعهم الّذين ينتمون إلى أصول اجتماعيّة واحدة أو مختلفة فرصاً متكافئة في النجاح المدرسيّ.

إنّ كلّ نقطة من هذه المتطلّبات تستند إلى مقولة التعليم المجّانيّ في المدرسة الّتي تقلّص نفقات الدراسة للتلميذ الواحد إلى الصفر. واقعيّاً وفي عدد من الحالات يشكّل الطفل عنصراً في قوّة العمل ومصدراً للدخل بالنسبة لبعض العائلات، وهذا يعني أنّ الالتحاق المدرسة من شأن أن يشكّل خسارة اقتصاديّة، وقد عرفت أوروبا هذه الوضعيّة منذ قرن مضى، ولكنّ هذه الوضعيّة تمثّل اليوم واقع الحال في عدد كبير من البلدان النامية.

إنّ العمل على نشر معرفة متجانسة وواحدة بالنسبة للأطفال جميعهم مسألة على درجة قصوى من التعقيد. ففي واقع الأمر نجد أنّ من الصعوبة بمكان إيجاد مناهج دراسيّة صالحة للجميع. إنّ اقتراح منهج عامّ وواحد للجميع يعني بناء نموذج واحد من التلاميذ، ومن ثمّ فإنّ إعداد مناهج مدرسيّة متنوّعة يعزّز اللامساواة بين التلاميذ. لقد كان للتعليم الكلاسيكيّ أن يهيمن على التعليم الثانويّ، ولكنّ الإصلاحات المتلاحقة في غضون القرن التاسع عشر أدّت إلى ظهور فروع تعليميّة بدأت تعتمد أسساً جديدة ولا سيّما اعتماد العلوم والتقنيّات الحديثة الجديدة في التعليم المدرسيّ، وتأمين فرص مهنيّة للتلاميذ الّذين لا يستطيعون متابعة دراستهم الجامعيّة حيث يتمّ تدريب الطلّاب على تعلّم مهنة ضروريّة ومتوسّطة المستوى حين خروجهم من المدرسة، وإتاحة الفرصة للطلّاب الّذين لا يريدون الالتحاق بالدراسات العليا، فرصة أكبر لمتابعة الدراسة في فروع خاصّة متوسّطة المدى.

*عليّ أسعد وطفة

كلّيّة التربية جامعة الكويت

.......................................

هوامش الدراسة ومراجعها:

(1) - Regardez :  Ivan  Illich, Une Société sans école, Paris, Seuil, 1971.

(2)- Regardez : Émile Durkheim, L'Éducation morale, Paris, Presses universitaires de France, réed. 1992 .

(3)- Regardez : Émile Durkheim, L'Éducation morale,Ibid..

(4) - Jacke Hallak, A qui profite l'école? P.U.F, Paris, 1974.

(5) - Jacke Hallak, A qui profite l'école, Ibid , p120.

(6) - Pierre  Bourdieu & Jean-Claude Passeron,  La reproduction, Paris.Minuit1970,   P.192 .

(7) - Pierre Bourdieu & Jean-Claude Passeron, La reproduction, Ibid, p246.

(8) - Ivan Illiche, Une société sans école, Seuil, Paris, 1971 ,  P.26

(9) - Christian Baudelot  et Roger Estable , L'école capitaliste en France, Paris, Maspero, 1971 .

(10) -Goerge Snyders  , Ecole classe et lutte des classes, P.U.F, Paris, 1982,112.

(11) - Christian Baudelot  et Roger Estable, L'école capitaliste en France, Op.cit.

(12) - Ivan Illiche, Une société sans école, Op.cit., P.26.

(13) - Raymond Boudon , L'inégalité des chances. La mobilité sociale dans les sociétés industrielles, Paris, Hachette, 1985.

(14)- Pierre Bourdieu & Jean-Claude Passeron,  Les étudiants et la culture, Paris, Éd. de Minuit, 1966.

(15)- Pierre Bourdieu & Jean-Claude Passeron , Les étudiants et la culture, Paris, Éd. de Minuit, 1966

(16)- Émile Durkheim, Education et sociologie, Paris,. U.F. 1966 , P.86

(17) - Émile Durkheim, Education et sociologie , Ibid., P.87

(18) - Émile Durkheim, Education et sociologie , Ibid., P.82.

(19) - Jencks  Christopher et  et Marie Duru-Bellat , Sciences Po Paris., School and inquility saturday Revît et Washington post,17 avril  1972 ,In Gras  A. , Sociologie de l'éducation: Textes fondamentaux, Paris, Larousse, 1974 , p.311 .

(20) - Jencks  Christopher et  et Marie Duru-Bellat , Sciences Po Paris., School and inquility saturday Revît et Washington post,17 avril  1972 ,In Gras  A. , Sociologie de l'éducation: Textes fondamentaux, Paris, Larousse, 1974 , p.311 .

(21) - Goerge Snyders  , Ecole classe et lutte des classes,ibid,p.29

(22) -Goerge Snyders  , Ecole classe et lutte des classes , pp 30-31 .

(23) - Raymon Huitin, Des chances pour tous, Genčve, 1979,  P.30 .

(24) Pierre Bourdieu & Jean-Claude Passeron, La Reproduction. Éléments pour une théorie du système d'enseignement, Paris, Éd. de Minuit, 1970.

لم تقف جهود شيخنا “الطاهر بن عاشور” عند تجديد “علم المقاصد”؛ بل نجد له باعاً ومقاماً بين المُفسرين المحدثين، إذْ بدأت رحلته مع تفسير آيات القرآن الكريم والتأويل المقاصدي لآياته في مطلع القرن العشرين عام ١٩٠٥م، وقد شرَع في ذلك عقب إضطلاعه بتدريس علم التفسير بجامع الزيتونة بتونس، فحثه تلاميذه وأصدقائه على جمع محاضراته وأقواله في علم التأويل في كتاب أوسع مجالاً من ميدان البحث والدرس، فشرع في إعداد كتاباً يضم إجتهاداته في تفسير القرآن الكريم بداية من عام ١٩١٣م، وقد فرغ منه عام ١٩٥٦م، وهو كتاب “تفسير التحرير والتنوير” الذي ظهرت طبعته الأولى في تونس في عام ١٩٨٤م، في ٣٠ جزء، وتُشير بعض الدراسات أنه عكف على إنجاز هذا العمل وطباعته خلال ٣٩ عام ونصف. وقد جمع في أسلوب تفسيره بين التفسير اللغوي الذي حفلت به كتابات المعنيين بإبراز الإعجاز البلاغي للقرآن وكتابات الإعجاز العلمي والروحي والخبري والنسقي الذي إنصرفت إليه جهود المفسرين المتأخرين وشيوخ المعتزلة والصوفيّة والمناطقة والأدباء.

وقد حاكى أسلوب تفسير المنار الذي بدأه “محمد عبده” وأكمله تلميذه “محمد رشيد رضا ١٨٦٥م – ١٩٣٥م ” من عام ١٩٢٧م إلى قبيل وفاته عام ١٩٣٥م وهو (تفسير شامل جامع لصحيح المأثور وصريح المعقول، وازن بين ما عليه المسلمون اليوم وبين متطلبات التشريع العظيمة التي جاء بها الكتاب المبين، وقد راعى رشيد رضا السير في أسلوبه ونسقه على نهج الأستاذ الإمام في تفسيره وسهولة العبارة وطلاوتها ولم يثقله بذكر المصطلحات والعبارات التي لا يدرك معناها إلا المشتغلون والمتفقهون بالتفسير، وقد جعله في اثني عشر كتاباً بتفسير فاتحة القرآن الكريم مبيّناً وجوه الإعجاز في آيات القرآن من حيث الأسلوب والبلاغة وبما فيه من علم الغيب، وسلامته من الإختلاف، موضحًا دلالة القرآن على نبوة النبي صلى الله عليه وسلم كما يُعتبر هذا التفسير الوحيد الجامع بين صحيح المأثور وصريح المعقول، الذي يبيّن حكم التشريع وسُنن الله في الإنسان، وكوّن القرآن هداية للبشر في كل زمان ومكان، مراعياً فيه السهولة في التعبير، مجتنباً مزج الكلام بإصطلاحات العلوم والفنون، وهذه هي الطريقة التي جرى عليها دروس الأستاذ الإمام محمد عبده في الأزهر).

وقد تأثر تفسير “ابن عاشور” كذلك بتفسير الجواهر للشيخ “طنطاوي جوهري ١٨٧٠م – ١٩٤٠م” الذي شرع في كتابته من عام ١٩٢٢م إلى عام ١٩٣٥م، هذا التفسير الذي يصفه مؤلفه في مقدمته بأنه (التاج المرصع بجواهر القرآن والعلوم … فإني خُلقت مغرماً بالعجائب الكونيّة معجباً بالبدائع الطبيعية مشوقاً إلى ما في السماء من جمال وما في الأرض من بهاء وكمال آيات بينات وغرائب باهرات، ثم إني لما تأملت الأمة الإسلامية وتعاليمها الدينية ألفيت أكثر العقلاء وبعض جلة العلماء عن تلك المعاني معرضين، وعن التفرج بها ساهين لاهين، فقليل منهم من فكر في خلق العوالم وما أودعت من الغرائب فأخذت أؤلف لذلك كتابي).

ولا يفوتنا الإشارة إلى تأثر شيخنا بكتاب “فخر الدين الرازي ١١٥٠م – ١٢١٠م” وهو من أئمة المُفسرين بالرأي (التفسير الكبير أو مفاتيح الغيب الواقع في ثمانِ مجلدات وقد أكمله “نجم الدين أبو العباس القمولي ١٢٥٥م – ١٣٢٦م” المصري الشافعي – بعد مقتل الرازي -)، وقد تميزت تأويلاته بالوقوف على بنية التشريع الإسلامي وغاية العقيدة الربانية من تنزيل آياته على أصحاب العقول من البشرية والجمع بين المعارف العلميّة والآراء الكلامية والفلسفية ذات الصلة بالمسألة أو الموضوع المطروح، فقد أجتهد في تبسيط المسائل والقضايا في الآيات القرآنية على نحو موسوعي في سرد المعارف والمُلتبس من الأحكام، فضلاً عن الإعجاز البلاغي والبياني.

وقد تأثر “ابن عاشور” كذلك بتأويل “أبو القاسم الزمخشري ١٠٧٤م – ١١٤٣م” (الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل) وهو من أهم التفاسير التي أتخذت من التثاقف الكلامي والتحليل والإستنباط والنقد والإستدلال آليات لمناقشة القضايا وبسط المعاني وتوضيح المفاهيم بمنهج عقلي جدلي، وقد صرح بهذا النهج في مقدمة كتابه شأنه في ذلك شأن “الرازي”، مع تبايّن وجهتيهما الكلامية.

ونَخُلص من ذلك إلى أمرين:

أولهما: أن شيخنا “الطاهر بن عاشور” قد أنتهج نهج مدرسة “محمد عبده” في التفسير والتأويل بَغَيّة الإصلاح والوصول إلى الحقيقة بدرب تنويري، يهدف إلى إيقاظ الأذهان وفتح باب الإجتهاد وغربلة الموروث والإحتكام لنسق عقلي يكشف عن مقاصد الشرع بمنأى عن التقليد والوضع والتحريف الذي أصاب جانب من التفاسير بفعل الدس والإسرائيليات المُغرضة.

وثانيهما: الجمع بين النهج الأشعري والإعتزالي وطريقة “أبي حنيفة النعمان ٦٩٩م – ٧٦٧م، و” محمد بن إدريس الشافعي ٧٦٧م – ٨٢٠م ” في الإستدلال وإستنباط المقاصد الشرعية، وإثبات في الوقت نفسه أن اتخاذ العلوم العقلية والعلوم الطبيعية والرياضية كآليات مَعِينَة على فهم النصوص القرآنية ليس من باب البدع أو الجنوح بل اقتفاء آثر أكابر المؤولين المسلمين مثل (الزمخشري، والرازي).

وقد اجتهد “ابن عاشور” في التمييز بين مصطلح علم التفسير وعلم التأويل، فبيّن أنّ الأول معنيّ بالمعاني والدلالات في المقام الأول، والثاني ينصب على المفاهيم والمقاصد إعتماداً على الرأي والإجتهاد إستناداً على قناعات المؤول ومعارفه وإستدلالته العقليّة، ويرى أنه لا غنى لمن يطلب الفهم الصحيح للإعجاز القرآني من الإحاطة بالعِلميّن معاً، ثم بيّن في مقدمة كتابه (التحرير والتنوير) أن غايته من تأويل القرآن على النهج السالف هو تهذيب النفس وتقويم السلوك وإصلاح ما فسد من عوائد ومعتقدات والرد على الشُبّه والأغاليط وتبيّان مقاصد الآيات القرآنية والكشف عن أوجه الإعجازالقرآني دون إعلاء وجه على آخر من وجوه، ومن أقواله في ذلك: (إنّ القرآن أنزله الله تعالى كتاباً لصلاح أمر الناس كافة رحمة لهم؛ لتبليغهم مراد الله منهم؛ فكان المقصد الأعلى منه صلاح الأحوال الفردية، والجماعية، والعمرانية، فالصلاح الفردي يعتمد تهذيب النفس وتزكيتها، ورأس الأمر فيه صلاح الاعتقاد لأن الاعتقاد مصدر الآداب والتفكير، ثم صلاح السريرة الخاصّة، وهي العبادات الظاهرة كالصلاة، والباطنة كالتخلق بترك الحسد والحقد والكِبّر، وأمّا الصلاح الجماعي فيحصل أولاً من الصلاح الفردي؛ إذ الأفراد أجزاء المجتمع، ولا يصلح الكل إلا بصلاح أجزائه، ومن شيء زائد على ذلك: وهو ضبط تصرف الناس بعضهم مع بعض على وجه يعصمهم من مزاحمة الشهوات ومواثبة القوى النفسانية، وهذا هو علم المعاملات، ويعبر عنه عند الحكماء بالسياسة المدنية. وأما الصلاح العمراني فهو أوسع من ذلك؛ إذ هو حفظ نظام العالم الإسلامي، وضبط تصرف الجماعات والأقاليم بعضهم مع بعض على وجه يحفظ مصالح الجميع، ورعيّ المصالح الكلية الإسلامية، وحفظ المصلحة الجامعة عند معارضة المصلحة القاصرة لها، ويسمى هذا بعلم العمران وعلم الإجتماع، فمراد الله من كتابه هو بيان تصاريف ما يرجع إلى حفظ مقاصد الدين وقد أودع ذلك في ألفاظ القرآن التي خاطبنا بها خطاباً بيّناً وتعبدنا بمعرفة مراده والإطلاع عليه).

ويُشير البحاثة الجزائري “عمار طالبي ١٩٣٤م- أطال الله في عمره – إلى نهج “ابن عاشور” في تفسير القرآن فبيّن أنه يقوم على عدة أسس، تبدأ بضرورة – من يتصدى في تفسير القرآن وتأويل آياته – التَمكّن من أسرار اللغة العربية وعلومها البيانية، مع الإحاطة بجل ما انتهت إليه العلوم الطبيعيّة، والثابت من نظرياتها وقوانينها، ذلك فضلاً عن الإحاطة بأهم المدارس العقلية في شتى الثقافات قديمها وحديثها سواءاً في الحضارة الشرقية القديمة أو الفكر الغربي الحديث، والإلمام بما يميز الأديان الوضعية والمِلل السماوية عن بعضها ودروب علم مقارنة الأديان والمذاهب، ثم الإطلاع على التفاسير السابقة للقرآن وكتابات المستشرقين ذات الصلة، بالإضافة إلى التبحر في علوم القرآن والفقه والذوق العرفاني.

ومع إدراك “ابن عاشور” صعوبة هذا النهج، فنجده يؤكد على إعتبار ما أورده من ميادين تلك المعارف بمثابة الأليات التي لا غنى عنها لوقوف المؤول على مقاصد الحكمة الإلهية المتضمنة في آيات القرآن، الأمر الذي يفسر نقده للمفسرين السابقين عليه مُبَيّناً عجزهم عن إستيعاب تلك المعارف أو عزوفهم عن بعضها أو عزلتهم عن قراءة الواقع وقضايا العصر الذي يعيشون فيه.

ويرى “عمار طالبي” أن إهتمام “ابن عاشور” بعلم المقاصد الذي يشغل جوهر فلسفته والمصدر الرئيس لإبداعاته في العلوم الإسلامية قد أنعكس بوضوح في نسقية تفسيره وبنيّة تأويله للآيات القرآنية على نحوٍ لم يسبقه إليه أحد من القدماء والمحدثيّن، الأمر الذي يرشحه عن جدارة بوجوب تدريسه في شتى المعاهد الإسلامية وترجمته للغات الحديثة ليُبَصِر شبيبتنا دعاة المستقبل، والأغيار بحقيقة الدستور الإسلامي وما يحويه من قيم أخلاقية وثوابت شرعية تعمل على إصلاح المجتمع الإنساني وتهدي في الوقت نفسه المرتابين والمتشككين إلى المقاصد الشرعية بنهج عقلي يسهل على أواسط المثقفين إستيعابه وأكابر المتخصصين تَفَهم أسراره، ويرد كذلك على طعون الطعانين في سلامة متونه ومقدرة مضمونه على مسايرة التطور الحضاري والتأقلم مع مختلف الثقافات التي تنشد الإستقرار والإستقامة والسلم.

ويؤكد “عمار طالبي” أن تأويلات “ابن عاشور” تُعد أبلغ رد على كتابات الحداثيين العرب الذين ساروا في رِكَاب المتفلسفين الغربيين الماديين والملحدين الذين اعتبروا القرآن مجرد كتاب تاريخي أو نص خبري إنشائي قابل للنقد والغربلة وإستبعاد ما لا يتوافق مع ثقافة العصر وإحتياجاته ونزاعات الإنسان وميوله ورغباته.

وأعتقد أن هذا النهج يثبت أصالة إنضواء “ابن عاشور” تحت رأية المفكرين المسلمين التنوريين، وإنتمائه لمدرسة “محمد عبده” التي أعلت من شأن الحوار العقلاني والتثاقف العلمي في ميدان الدعوة، وبرهنت أيضاً على وجود فلسفة عقلية للقرآن تُمَكِن الدعاة من الدفاع عن عقيدتهم وأصالة قرآنهم بأسلوب لا يمجه الأغيار ولا يرفضه الأدعياء من الجانحين والمتشيّعين للفلسفات الغربية المعاصرة.

وقد ساير “ابن عاشور” في ذلك “محمد فريد وجدي ١٨٧٨م – ١٩٥٤م”، و” عباس محمود العقاد ١٨٨٩م – ١٩٦٤م”، و”محمد يوسف موسى ١٨٩٩م – ١٩٦٣م”، و”عبدالمتعال الصعيدي ١٨٩٤م – ١٩٦٦م” .

وجديرُ بي أن أؤكد على أن تلك المدرسة الإسلامية هي الجديرة بالبحث والدرس لمن يَرّد الوقوف على المشروع الحقيقي لتقدم هذه الأمة المُعطل، ويرجع ذلك إلى العديد من المبررات،

أولها: أن في أبحاث روادها المتنوعة سواء في العلوم الشرعية أو في القضايا الإجتماعية والسياسية والأخلاقية أفضل الأجوبة العاقلة على مئات الأسئلة التي مازالنا نطرحها للوقوف على آليات النهضة والوصول إلى حلول للمشكلات التي نعاني منها في ثقافتنا المعاصرة – كما ذكرت آنفاً – وثانيها: أن تواصل أفكار هذه المدرسة ووحدة برنامجها التنويري وسعة أفق روادها وتكامل بنيّة مشروعها مازال هو الأقوم والأقيم والأصلح من بين الخطابات التي تلوكها الألسنة ونسمعها من حين إلى آخر على ألسنة المتعالمين من هنا أو هناك، أولئك الذين يدعون أنهم أصحاب مشروعات تقدُّميّة وخطابات ثورية وحركات تنويرية سوف تقود الأمة إلى ما يُحيّي مجدها ويؤكد تواجدها في عالم ما بعد العلم والفلسفة والدين.

وللحديث بقيّة حول إبداعات “الطاهر بن عاشور” الفلسفيّة .

***

بقلم: د. عصمت نصار

احتلت فكرة المجتمع الجديد مكاناً مركزياً في المنظومة الفكرية والفلسفية لمعظم فلاسفة ورواد الفكر الاجتماعي على مَرِّ التاريخ الإنساني، الذين سعوا إلى تقديم تصورات جديدة لمجتمع مثالي تكون بديلة عن تصورات المجتمع القائم، مجتمع تنتفي فيه كافة أشكال استغلال الإنسان لأخيه الإنسان، وتختفي منه شرور الواقع، ويتحرر الإنسان فيه من مختلف أشكال القلق، من الشكل الميتافيزيقي إلى الشكل الاجتماعي، ويتم فيه أيضاً وضع حد نهائي للبواعث والقوى اللاعقلانية التي تسيطر عليه والتي يعجز عن ضبطها أو حتى إدراكها، وبذلك تتحقق أحلام الإنسانية بالسعادة والكفاية والعدل. لكن السؤال الذي يطرح نفسه علينا... .

” هل اليوتوبيا هروب من الواقع أم إعادة صياغة لواقع مؤلم؟ منذ أن سطر" أفلاطون " أول يوتوبيا في التاريخ الإنساني في كتابه " الجمهورية "، مروراً بـ " الفارابي " الذي بشر في مدينته الفاضلة - وإن كان مصطلح يوتوبيا لم يظهر إلا مع " توماس مور " - وحتى العصرِ الحديث، يطرح الفلاسفة اليوتوبيا بشروط ومقومات مختلفة، غير أن العنصر المشترك فيها جميعاً أنها كلها وليدة عصرها، فهي انعكاس للظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية. وقد تجلت اليوتوبيا في الشرق كما في الغرب، لكن تحت اسم " المدينة الفاضلة ". ولطالما تساءل الإنسان: هل اليوتوبيا فكر يمكن تحقيقه، أم أنه واقع افتراضي يحاول فيه الفلاسفة الإطلال علينا من فوق برج عاجي لا يمت إلى الواقع بصلة؟ “. (ماريا لويزا برنيري، المدينة الفاضلة عبر التاريخ، (1950.

- تمهيد:

جاء الإسلام كشريعة ودين وسطي له فكر اجتماعي واقتصادي وسياسي وثقافي مميز، وهذه السمة المميزة للأديان السماوية التي تهدف إلى تغيير نمط الفكر البشري لما فيه الخير والصلاح. فلقد ركز الإسلام كدين سماوي على ضرورة تغيير العادات والتقاليد والنظم الجاهلية البالية، ويطرح للعقل البشري البدائل الممهدة لطريق تخلص هذا العقل من الشرور والآثام، وهذا بالفعل ما ظهر بوضوح في طبيعة الدين الإسلامي وتركيزه على وضع أسس جديدة للنظم الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، التي تقوم على المساواة والتكافل والعدالة، تحديد الحقوق والواجبات، ووضع نظم محددة لأساليب العقاب والجزاء.

 كما ناقش قضايا هامة تشغل اهتمامات العقل البشري حتى يأتي يوم القيامة مثل، الفقر، والمساواة والعدالة، والتكافل الاجتماعي، والملكية العامة والخاصة، والعمل والإنتاج، وتوزيع الثروة، والحرية وغيرها من القضايا الهامة. وعلى العموم يمكن إرجاع الفكر الاجتماعي الإسلامي إلى الجذور التالية:

1. الموروث الاجتماعي، وما كان عليه المجتمع العربي قبل ظهور الإسلام من بنية اجتماعية.

2. التعاليم التي جاء بها الدين الإسلامي، لا سيما ما يخص منها الجانب الاجتماعي من حياة أفراد المجتمع.

3. ما ترجم إلى اللغة العربية من تراث أجنبي (يوناني) خاصة خلال القرنين الثامن والتاسع الميلاديين (الثاني والثالث الهجريين).

وفي هذا السياق سنحاول مناقشة الأفكار الاجتماعية عن الفارابي (ذات الأبعاد الدينية والفلسفية) باعتباره من أهم المفكرين الإسلاميين الذين ظهروا في العصور الوسطى، وكيف ساهمت أفكاره في ازدهار الفلسفة الإسلامية. يعتبر" الفارابي " الفيلسوف الملقب ﺑ " المعلم الثاني " أول من تبلور لديه مفهوم متكامل للمدينة الفاضلة من منظورٍ عربي إسلامي، وهو موضوع مقالنا الحالي. وسنحاول من خلاله تتبع ملامح التفكير الاجتماعي عند الفارابي من خلال كتابه آراء أهل المدينة الفاضلة الذي سعى من خلاله أن يصوغ صورةً مُثلى للتعاون بين أفراد المجتمع من أجل مدينةٍ فاضلةٍ يسود فيها العدل، وينعم سكانها بالسعادة، حيث تمكنهم فضائلهم من الصمود في مواجهة المدن الجاهلة.                                                                                   

في بداية الأمر من هو الفارابي؟ هو أبو نصر محمد بن محمد بن طرخان بن أوزلغ الفارابي. ولد في مدينة فاراب 259هـ / 870 م في بلاد ما وراء النهر في أقليم تركستان (كازاخستان حالياً) وتوفي في دمشق 339 هـ / 950 م.

 يعتبر الفارابي واحداً من مؤسسين الفلسفة العربية والإسلامية. ويلقب بالمعلم الثاني لأنه تبنى الكثير من آراء أرسطو المعلم الأول. كما يمثل الفارابي الاتجاه المثالي (اليوتوبيا) في الفكر الإسلامي. ويؤكد ما ذهب إليه أرسطو من أن الإنسان مدني بطبعه وأن الاجتماع الإنساني يعتبر ضرورة لإشباع حاجات الأفراد. وعلى العموم تتمثل الإسهامات السوسيولوجية للفارابي من خلال كتابه " آراء أهل المدينة الفاضلة "، حيث يتضمن ذلك الكتاب العديد من آرائه الاجتماعية.

صحيح أن آراء الفارابي الاجتماعية قد اختلطت لديه بالكثير من الآراء الفلسفية والفقهية... وخصوصاً ما اتصل منها بالفلسفة اليونانية والإسلامية، إلا أن هذه الآراء إن دلت على شيء، إنما تدل على اجتهاد سوسيولوجي مبكر اتجه نحو دراسة المجتمع والعمل على صلاحه وفقاً لأسس مثالية تزاوجت خلالها الفلسفة بالدين، ومثلت آراء افلاطون حجر الزاوية فيها. من أهم مؤلفاته ما يلي:

- آراء أهل المدينة الفاضلة .

- كتاب الموسيقى الكبير.

- الجمع بين رأي الحكيمين (حاول فيه التوفيق أفكار أفلاطون وأرسطو).

- التوطئة في المنطق.

- السياسية المدنية.

- إحصاء العلوم والتعريف بأغراضها.

- جوامع السياسية.

- عيون المسائل.

- ما يصح وما لا يصح من أحكام النجوم.

- مقالة في أغراض ما بعد الطبيعة لأرسطو طاليس. 

- ملامح المدينة الفاضلة عند الفارابي محاولة في التفكير الاجتماعي:

أوضح الفارابي من خلال إيمانه بالكثير من آراء أفلاطون وأرسطو، أن الاجتماع الإنساني ضروري، وذلك راجع إلى أن الإنسان مفطور على حاجته إلى الاجتماع الإنساني والتعاون " وكل واحد من الناس مفطور على أنه محتاج في قوامه وفي أن يبلغ أفضل كمالاته إلى أشياء كثيرة لا يمكنه أن يقوم بها كلها وحده، بل يحتاج إلى قوم يقوم له كل واحد منهم بشيء مما يحتاج إليه " ولا يتأتى ذلك إلا باجتماعات جماعة كثيرة " يقوم كل واحد ببعض ما يحتاج إليه قوامه ". 

 كما تناول الفارابي أشكال التجمع الإنساني وبيّنها على أساس فريد، حيث تتصف الأولى منها بأنها اجتماعات إنسانية كاملة، والثانية منها بأنها غير كاملة.

سعى الفارابي إلى ترتيب المجتمعات الكاملة تدريجياً إلى ثلاثة مستويات تتراوح ما بين العظمى والوسطى والصغرى، وارتكز في تقسيمه لأشكال التجمعات الإنسانية على حجم كل منها ومقدرته على سد وإشباع احتياجات أعضائه.

 ويرى الفارابي أن المجتمعات العظمى تتمثل في اجتماعات الجماعة كلها على المستوى الإنساني في المعمورة، أما المجتمعات الوسطى فيمثلها اجتماع أمة على المستوى القومي في جزء من المعمورة، أما المجتمعات الصغرى فتمثل اجتماع أهل مدينة على المستوى الإقليمي أو المحلي وفي جزء من مسكن أمة. أما عن المجتمعات غير الكاملة فيصنفها الفارابي أيضاً إلى ثلاثة مستويات أكملها اجتماع أهل القرية وأهالي الحلة، الجيرة أو الحي، ويليها في المرتبة الثانية اجتماع في السكة " الشارع "، أما المستوى الثالث للمجتمعات غير الكاملة فيمثله في رأي الفارابي اجتماع في المنزل.

وفيما يتعلق بطبيعة المدن عند الفارابي نجد أنه قد قسّمها إلى مدن فاضلة، أو غير فاضلة. والفيصل بين هذه وتلك كما يقول الفارابي أن يكون هدف الاجتماع الإنساني خلالها هو التعاون على الأشياء التي تنال بها السعادة، وإذا ما تحققت تلك السعادة القائمة على الحقيقة، فتكون تلك " هي المدينة الفاضلة ".

1- المدينة الفاضلة: شبهها الفارابي بأعضاء الجسد الواحد الكامل والصحيح، حيث تتعاون كل الأجزاء لحفظ الحياة واستمرارها تحت رئاسة عضو أساسي وهو القلب الذي تعاونه بعض الأعضاء، ومنها ما يدانيه مرتبة وما يقل عنه مراتب، كذلك حال المدينة الفاضلة، تتكون من أجزاء مختلفة ومتمايزة ويشكل الرئيس رأس هذه المدينة وزعيمها ومصدر الحياة فيها.

وتكون المدينة فاضلة – حسب الفارابي - إذا ما أدى كل فرد فيها دوره كما يجب، فضلاً عن شيوع علاقات التوافق والتعاون والانسجام بين مختلف هيئاتها علاوة على ضرورة أن يتوافر في رئيس المدينة الفاضلة العديد من الشروط منها المطبوع (بالوراثة) ومنها المكتسب.

 وحدد الفارابي الشروط التي يجب أن تتوافر فيمن يتولى رئاسة المدينة الفاضلة في اثني عشر شرطاً أو فضيلة على حد تعبير الفارابي، منها ست فضائل مطبوعة أو موروثة ومنها ست أخرى تعود إلى الملكة الإرادية أو الاكتساب. وعن الصفات الموروثة في الرئيس، فيجب أن يكون:

أ- تام الأعضاء.

ب- وأن يكون سليم العقل، وسلامة العقل تعني كما حددها الفارابي.

ج- جودة الفهم وجودة الحفظ وجودة الفطنة والذكاء.

د- وأن يكون حسن العبارة.

ه- محباً للعلم وعلى خلق حميد ومحكات الخلق الحميد عند الفارابي تتمثل في عدم الشراهة باللذات الدنيوية، حب الصدق، عفة النفس، الزهد في أعراض الدنيا، وحب العدل.

و- وأخيرا قوة العزيمة مع الجسارة والإقدام .

أما عن الصفات المكتسبة، فهي أن يكون حكيماً فيلسوفاً لتُعينه حكمته وفلسفته على تسيير أمور مدينته الفاضلة. وأن يكون عالماً بالشرائع والسنن والسِيَر، وأن يكون قادراً على الاستنباط والقياس ليمكنه أو ليفيده ذلك عند الاستفادة من تراث السلف، وأن يكون قادراً على الاختراع حتى يبتكر من الشرائع ما يعينه على صلاح مدينته، وأن تكون لديه القدرة على تعليم الناس في مدينته، وعلى الرئيس أخيراً أن يكون على قوة بدنية تمكنه من أن يكون القائد الأعلى للمحاربين في مدينته. ولكن هل يشترط أن يكون الرئيس واحداً ؟ والجواب عند الفارابي. أن ذلك مستحب، لكنه ليس ضرورياً، لأن الشروط إن لم تتوافر في واحد. وتوافرت في اثنين، صارا رئيسين، وإن لم تتوافر في اثنين وتوافرت في ثلاثة أو حتى في جماعة، صارت لها الرئاسة، المهم هو توافر تلك الشروط، فيمن يكون أو يكونون رأساً لتلك المدينة الفاضلة.

2- المدينة غير الفاضلة: وهي بالضرورة مدينة أو مدن لا تتوافر لها نفس مواصفات المدن الفاضلة سواءً من حيث طبيعة التكوين أو من حيث الرئاسة، ولكن الفارابي قسم المدينة غير الفاضلة إلى خمس مراتب أساسية تتراوح ما بين المدن المستقلة أو الكاملة وهي مدن الجاهلية والمدن الفاسقة والمدن المتبدلة والمدن الضالة، حتى يصل إلى الثوابت، أي النتوءات الشاذة التي تبرز خلال المدينة الفاضلة ذاتها.

وعلى كل حال فإن الفارابي قد رتب المدن غير الفاضلة بحسب درجة بعدها عن معرفة السعادة إلى خمس مراتب، والسعادة هنا هي سعادة العقل وفعل الخير والقرب من الله.

أ- فأهل مدينة الجاهلية لم يعرفوا السعادة يوماً ولم يعرفوا من الخيرات إلا الحسي منها، وعاشوا في بوهيمية بدنية، ولم يعرفوا الله ولا تقربوا إليه سبحانه.     

ب- أما أهل المدينة الفاسقة، فهم يعرفون السعادة والخير والله ولكن معرفتهم لا تتعدى حدود المعرفة النظرية، بينما أفعالهم هي نفس أفعال أهل مدينة الجاهلية. والخلاصة أنهم يعملون بغير ما يعتقدون.

ج- أما أهل المدينة المتبدلة، فكما هو واضح من الاسم، فقد بدل الله بهم من حال إلى حال. أي كانوا أهل مدينة فاضلة ثم انحرفوا نتيجة لشيوع تيارات شاذة وانحرافات بدلت معتقداتهم وأفعالهم وحولتهم من الفضيلة إلى الرذيلة.

د- أما أهل المدينة الضالة، فأهلها أهل ضلال وخداع وغرور، لا يؤمنون بالله ولا بالعقل ولا بالسعادة، وقد ضيعتهم الأفكار الفاسدة.

هـ - وأخيراً نصل مع الفارابي إلى ذلك النتوء أو الخلل الذي قد يصيب المدينة الفاضلة ذاتها، وقد أطلق عليه الفارابي مصطلح " النوابت " وقد شبهها الفارابي بالأشواك أو الحشائش التي تنبت وسط الزرع وتضره بغير أن تنفعه، ولا شك أن تلك  " الثوابت " الشاذة إن هي إلا بؤر للجريمة والفساد داخل مجتمع المدينة الفاضلة وغيرها من المدن.

وفي سياق متصل تناول الفارابي من خلال حديثه عن المدينة الفاضلة مقومات وعوامل توحّد المجتمع وصنفها في عوامل جنسية عرقية، كوحدة الجنس والسلالة والانحدار من أب واحد، وعوامل ثقافية كالاشتراك في المعتقدات أو اللغة أو اللسان، وعوامل طبيعية كالاشتراك في الصقع أو البيئات الطبيعية، وعوامل اجتماعية كالاشتراك في النسب المصاهرة، وأخيراً عوامل نفسية كتشابه الخلق والشيم الطبيعية.

كما تعرض الفارابي للسلطة من حيث نشأتها ووظيفتها في المجتمع، واعتبرها قانوناً ينهض في المجتمع ليمنع العدوان، والغصب، والظلم، وليحقق العدل، وضرب لذلك العديد من الأمثلة من واقع الحياة الاجتماعية للمجتمع وخصوصاً ما تعلق منها بعمليات البيع والشراء والأمانة في رد الودائع والكف من الجور والظلم. وأبرز الفارابي كذلك أهمية الخوف الناتج عن السلطة ودورها في استمرار التزام الناس بالخصال الحميدة.

وفي النهاية ناقش الفارابي العوامل الموحدة للمجتمع، وتعرض أيضاً للعوامل التي تؤدي إلى تحلله وفنائه، ولعل أهم عامل في فساد المجتمعات أو المدن كما أوضحه الفارابي هو بعدها عن أسباب الفضيلة وعدم قدرتها على تحقيق السعادة بالمفهوم الذي قصد إليه الفارابي، علاوة على عدم توافر الرئيس القادر على القيادة والريادة، فضلاً عن غياب رابطة القهر والقوة التي تمثلها السلطة.

خلاصة القول، اعتبر الفارابي في كتابه " آراء أهل المدينة الفاضلة " أن الغلبة والقهر هما من خاصيات المدينة الضالة، أي " مدينة التغلب "، التي يقصد أهلها أن يكونوا قاهرين لغيرهن وممتنعين عن أن يقهرهم غيرهم، ويكون كدهم اللذة التي تنالهم من الغلبة فقط.

والسياسة عن الفارابي لا تقترن، بالضرورة بالعنف. ففي المدينة الفاضلة يسود العقل الكامل والقيم المثلى، وتكون السياسة فيها حكيمة وقويمة وتهدف إلى إسعاد الإنسان. ومن خصال رئيس هذه المدنية كما بيننا أعلاه " أن يكون بالطبع محباً للعدل وأهله ومبغضاً للجور والظلم وأهله يعطي النصف من أهله ومن غيره ويحدث عليه، ويؤثر من حل به الجور مؤاتياً لكل من يراه حسناً وجميلاً، ثم أن يكون عادلاً غير صعب القياد، ولا جموحاً ولا لجوجاً، إذا دعي إلى العجل، بل صعب القياد إذا دعي إلى الجور وإلى القبيحة ". ومن خلال ما تقدم يمكننا تقييم التفكير الاجتماعي عند الفارابي، من خلال التركيز على النقاط التالية:

1- كان شديد الإعجاب والتقليد لأفلاطون سواء من حيث الأفكار المعروضة أو المنهج المستخدم في الاستدلال المعروف باسم " تحليل المعاني "، وهي طريقة طبقها كل من أرسطو وأفلاطون وتعرف بالطريقة الأرسطو طاليسية.

2-  شكل اتجاهاً متميزاً في الفكر السوسيولوجي الإسلامي وهو ما يعرف بالاتجاه المثالي أو اليوتوبي، ومن أبرز عيوب ذلك الاتجاه أنه ليس ممكن التطبيق على الإطلاق لا في ظل المجتمع الإسلامي ولا في ظل غيره من المجتمعات أو الأمم.

3- كان الفارابي مدفوعاً للمغالاة في مثاليته كرد فعل للحياة المجتمعية المضطربة اجتماعياً وسياسياً وأخلاقياً التي عايشها، والتي لم يجد معها الخلاص إلا بالرجوع إلى المثالية التامة في مدينة فاضلة على رأسها حاكم أو رئيس له من صفات الأنبياء أو الملائكة أكثر مما له من صفات الناس العاديين البشر.

4- على الرغم من كل ما قيل عنه وعن فلسفته الاجتماعية. فإنه بغير شك سعى لأن يعود المجتمع الإسلامي إلى سابق مجده صفاءً وفضيلةً وسعادةً من خلال ما أرساه من قواعد المدينة الفاضلة، ولعله أول من دق ناقوس الخطر حتى يتنبه ولي الأمر ويتخذ أولى خطوات الإصلاح.

5- أرسى دعائم الاتجاه العضوي السوسيولوجي عندما شبه المجتمع بالكائن الحي وأقام مماثلة عضوية بين وظائف أعضاء الإنسان ككائن حي وبين وظائف وحدات المجتمع البشري.

6- أثر الفارابي في الفكر الاجتماعي الإسلامي إلى حد بعيد. ويكفيه فخراً أنه لقب بالمعلم الثاني بعد أرسطو، وأن تلاميذه نهجوا على منهجه لفترات طويلة عمقت ذلك الاتجاه اليوتوبي ونمته.

7- يعد الفارابي أول من أثار الانتباه إلى وجود المجتمعات الهامشية أو العشوائية وبيّن خصائصها وأسباب وجودها، ونبه إلى خطورتها وشرح كيفية مواجهتها وتحجيمها درءاً لمخاطرها ليس فقط على نفسها بل على مجتمعاتها الأصلية وكذلك على المجتمعات الأم.

وفي المجتمعات المعاصرة يظهر النقد الاجتماعي على السطح عندما يعيش المجتمع أزمة عميقة، فيقوم (النقد) بممارسة وظيفته حتى يتمكن المجتمع من تجاوز الأزمة، فيكون له دوره المؤثر في تشخيص الواقع الاجتماعي في مختلف أبنيته حتى يتسنى للقائمين في المجتمع من معرفة معوقات تقدمه، بهدف تغيير الواقع الاجتماعي إلى ما هو أفضل. فالفكر بطبيعته فكر حر حتى في أشد الظروف الاجتماعية والسياسية قهراً وتسلطاً. والعقل بطبيعته يسأل قبل أن يجيب، ويتساءل قبل أن يستلهم، ويتشكك قبل أن يحكم. فالنقد هو مفتاح الفكر والمجتمع، وشرط حركة التاريخ. يحمل لواء المعارضة، والتشكك في الوضع القائم في المعرفة والسلوك.

إن النقد البنّاء هو النقد الذي يفترض مسبقاً وجود معايير تكون حاضرة في الواقع الاجتماعي ذاته، أي معايير تحكم من خلالها على الواقع الاجتماعي ذاته، وتتساءل إذا ما كانت تلبي سبب وجودها وتفي به، وبذلك يكون هدف النقد أن يشد الواقع الاجتماعي نحو ما ينبغي أن يكون عليه.

خلاصة القول، سعت المذاهب الفكرية والفلسفية ذات الطابع النقدي المشبع بالنزعة الإنسانية إلى تصور أسس المجتمع الإنساني الجديد، الذي ينتفي فيه ظلم الإنسان لأخيه الإنسان بالقضاء على جميع مظاهر الاستغلال والاغتراب الإنساني التي تعتري المجتمعات الإنسانية المعاصرة، مما يؤدي إلى الإعلاء من شأن الإنسان كفرد والإنسانية كمفهوم سامي تحقيقاً للأهداف والغايات، التي قامت من أجلها الاتجاهات النقدية (الكلاسيكية، والحديثة، والمعاصرة) في الدفاع عن حقوق الإنسان في العيش الكريم، الذي يحفظ كرامته وكينونته بغض النظر عن انتماءاته، الإيديولوجية، والمذهبية، والطبقية، والطائفية، لأن مفهوم الإنسانية مفهوم لا يتجزأ. فهل ستتحقق فكرة المجتمع الجديد يوماً ما على أرض الواقع الاجتماعي " الفردوس الأرضي المنتظر "؟

***

د. حسام الدين فياض

الأستاذ المساعد في النظرية الاجتماعية المعاصرة

قسم علم الاجتماع كلية الآداب في جامعة ماردين- حلب سابقاً

......................

- المراجع المعتمدة:

1- أبو نصر الفارابي: كتب آراء أهل المدينة الفاضلة، تقديم وتعليق ألبير نصري نادر، دار المشرق، بيروت، ط2، 1968.

2- أبو نصر محمد الفارابي: آراء أهل المدينة الفاضلة ومضاداتها، مؤسسة هنداوي، المملكة المتحدة، ب. ط، 2016.

3- علي عبد الواحد وافي: المدينة الفاضلة للفارابي، نهضة مصر، القاهرة، ط1، بدون تاريخ.

4- ماريا لويزا برنيري: المدينة الفاضلة عبر التاريخ، ترجمة: عطيات أبو السعود، مؤسسة هنداوي، المملكة المتحدة، ط1، 2022.

5- نبيل عبد الحميد عبد الجبار: تاريخ الفكر الاجتماعي، دار دجلة ناشرون وموزعون، ط1، 2009.

6- صلاح مصطفى الفوال: المدخل إلى علم الاجتماعي الإسلامي، دار غريب، القاهرة، ط1، 2000.

7- حسام الدين فياض: فكرة المجتمع الجديد... الخلاص النهائي للإنسان، صحيفة العرب الدولية، العدد: 12327، لندن، الأحد 13/02/ 2022.

8- إبراهيم الحيدري: سوسيولوجيا العنف والإرهاب، دار الساقي، بيروت، ط1، 2015.

9- حسام الدين فياض: مقالات نقدية في علم الاجتماع المعاصر (النقد أعلى درجات المعرفة)، دار الأكاديمية الحديثة، أنقرة، ط1، 2022.

الصفحة 1 من 5

في المثقف اليوم