دراسات وبحوث

دراسات وبحوث

- (نحن نعيش في زمان شديد الغرابة، أصبحنا نلاحظ فيه وباستغراب أن التقدم قد عقد تحالفا مع النزعة الهمجية والبربرية)[1]... سيغموند فرويد

- (بدأت الحضارة عندما قام رجل غاضب لأول مرة بإلقاء كلمة بدلا من حجر).. سيغموند فرويد

مقدمة:

كتب ألبيرت أينشتاين A. Anstien في أعقاب الحرب العالمية الأولى، وكانت نذر الحرب العالمية الثانية تحوم في السماء، خطابا مفتوحا إلى فرويد لا يخلو من سخرية مبطنة، يقول فيه ما الذي يمكن فعله لحماية الجنس البشري من الحرب ولعنتها؟ ثم يسأل فرويد: هل يمكن لنظريتك في التحليل النفسي أن تقدم شيئا لمنع أي حرب عالمية في المستقبل وتعمل على إيقاف التدمير والعنف في المجتمع الإنساني؟ وفي معرض الرد على هذه الرسالة المفتوحة لأينشتاين يعترف فرويد بصعوبة هذه المسألة ولكنه حسم أمره وقدم إجابته المشهورة التي تتقطر تشاؤما قائلا: للأسف هذا مستحيل لأنني رأيت جذور الحرب في طبيعة الإنسان نفسه ([2]).

ولم تذهب نبوءة فرويد عبثا فلم تمضي عدة سنوات حتى اندلعت الحرب العالمية الثانية، وأعلن هتلر حربا ضروسا ضد الإنسان والإنسانية وكانت حربا متوحشة مجنونة أدت إلى تدمير منجزات الحضارة الإنسانية وثرواتها الهائلة وانتهت إلى جبال من جثث البشر من شيوخ وأطفال ونساء ([3]).

كتب دولار Dollar وميلير Miller في الصفحة الأولى من كتابهما الكلاسيكي في علم النفس التجريبي "الإحباط والعدوان" 1939 (Frustration et agression) "أنه يجب أن نخص فرويد بالشكر وذلك لأنه صاحب الفضل في تقديم رؤية علمية شاملة ساعدت على تشكيل فرضياتنا الأساسية ورؤيتنا العلمية لمسألة العنف والعدوان ([4]).

يكتشف فرويد في نسق جهوده العلمية وبصورة مبكرة سلسلة من السلوكات العدوانية التي تتغلغل في أعماق الإنسان. ومع أهمية هذا الاكتشاف لم يستطع أن يوجه اهتمامه لدراسة هذه الأنماط السلوكية العدوانية في المراحل الأولى من عطاءاته العلمية. ويعود ذلك إلى أنه لم يكن باستطاعة معالجة أشياء متعددة في وقت واحد. حيث ترتب عليه في البداية أن ينصرف كليا لتدعيم اكتشافاته الأولى ولا سيما اكتشافيه الأولين الأساسيين وهما: العمليات اللاشعورية وأهمية الجنس. لقد اكتشف أثناء خلال أبحاثه الأولى وجود علاقة بين العدوانية والمظاهر السيكولوجية الأخرى التي عكف على دراستها.

يستعرض فرويد في المرحلة الأولى من نظريته في العنف والعدوانية المظاهر النفسية الأكثر تواترا في حياتنا الإنسانية مثل المنافسة الأخوية وهو في هذا السياق يؤكد كراهية الأخ الأكبر للأخ الأصغر الذي يليه في الولادة والذي يبدو له كمنافس شديد البأس. ويشير في هذا السياق إلى أمر بالغ الأهمية يتمثل في القول بأن درجة الغيرة التي يعانيها البكر تكون أكثر شدة كلما كانت الفترة الزمنية الفاصلة بينه وبين أخيه الذي يليه بالولادة صغيرة جدا. ويلاحظ في هذا السياق أن لاكان Lacan يباشر هذه الظاهرة بالتحليل ويطلق عليها عقدة الطفالة "Complexe de l'intrusion".

هذا ويشكل إحساس الكراهية المتنامي تجاه الأب من الجنس نفسه مسألة حرجة ومعقدة. ففي معرض تحليله لهذه الظاهرة يبدأ فرويد بالتنويه إلى السبب الأول الذي يبدأ في صيغة خصومة: فالأب من الجنس نفسه يشكل عقبة تعوق حرية الطفل وبخاصة حريته الجنسية، وهذا يؤدي إلى ولادة العداء بين الطرفين. ومن أجل إدراك العنف الذي ينجم عن هذه العداوة يجب أن نأخذ بعين الاعتبار المنافسة التي تجري على المستوى العاطفي. إذ يجري كل شيء كما يقول فرويد وكأن الأب من الجنس نفسه يطرح نفسه منافسا للطفل في معركة حبه للأم. ونجد العرض الأول لفرويد والذي سيطلق عليه فيما بعد "عقدة أوديب Complexe d'Œdipe". وسنلاحظ فيما بعد أن العقدة الأوديبية لم تقدم بوصفها قصة حب أو قضية

جنسية: حيث تظهر هذه العقدة في عناوين مثل "أحلام الموت" والتي تشكل إلى حد ما رغبة في القتل هي مسألة تمت الإشارة إليها من قبله شخصيا.

لقد أخرج فرويد مفهوم الانحرافات الجنسية وخاصة السادية Sadisme من كهوفها المظلمة. ومع الاعتراف بوجود تمايز بين الطبيعي والمرضي فإن فرويد يعطي مفهوم السادية أبعادا جديدة وذلك بطريقة يشعر فيها كل فرد بأنه معني بالأمر. وهو في سياق ذلك يبرر شرعية بعض أشكال هذه السادية وخاصة هذه التي تعد امتدادا للحياة الجنسية الطبيعية. كتب فرويد يقول: "تتضمن الحياة الجنسية عند أكثر الأفراد نوعا من العنف وهي نزعة من أجل السيطرة، وتكمن الدلالة البيولوجية لهذه النزعة في ضرورة الانتصار على المقاومة التي يبديها موضوع الجنس حتى ولو كان ذلك بطريقة الإغراء.

ولكن فرويد ومع ذلك لا يوضح معنى النزعة السادية وأصولها. فهو ينظر إليها بوصفها مجرد تعبير لبيدي LIBIDINAL وأحيانا يعيدها إلى مصدر مستقل عن الجنسية. وهو في الحالة الأولى ينظر إلى السادية كنزعة تحقيق متعة عضلية، وكنزعة من النشاطات ذات الطابع التدميري. أما في الحالة الثانية فإنه ينظر إليها بوصفها أداة من اجل السيطرة ومهما يكن الأمر فإن فرويد يكشف عن طبيعة النزعة العدوانية وعن أبعاد السادية وذلك عبر العلاقة الأولى التي تقوم بين الطفل ومحيطه. كتب فرويد في هذا الخصوص يقول: "يمكننا القول إن النزعة إلى العنف تتحدد انطلاقاً من دافعية السيطرة التي تظهر في إطار الحياة الجنسية وذلك قبل أن تأخذ الأعضاء الجنسية دورها الكامل وذلك في مستوى نموها.

العدوانية والتناقضات الوجدانية:

يعتقد فرويد أن الطبيعة غير كافية بذاتها من اجل إرضاء وإشباع الرغبة الجنسية. وهذا ما تشير إليه ببساطة الممنوعات الثقافية. فبعض الدوافع الجنسية لا يمكنها في اغلب المجتمعات أن تجد لها إشباعا كاملا. وهناك ملاحظة خاصة بالعلاقة بين الجنس وعالم الاستيهام أو التصورات الهوامية والتي تعبر عن الصلة بين الدوافع الأوليّة الليبيدية ومرحلة النضج الجنسي، وهناك سبب آخر يتعلق بالقدر البائس للجنسية الإنسانية ذلك الذي يعبر عن الخسارة المؤكدة للموضوع الأصلي (الأم في مرحلة الطفولة).

وإذا كان إدراك التوازنات الداخلية للدافع الجنسي يشكل غايتنا فإنه يمكننا العودة إلى فرويد الذي أعطى هذه التوازنات جلّ اهتمامه وذلك عندما كان يحاول اختبار المضامين الجنسية لدافع العنف. كتب يقول في هذا الخصوص: "يجب أن ندرك أهمية الجانب الكبير الذي تلعبه دافعية العنف في السلوك الاجتماعي للمريض وذلك عبر العلاقة القائمة بين هذه الدافعية والليبيدوLibido والتي يمكنها أن تفسر عملية تحول الحب إلى حقد والمشاعر الودية إلى مشاعر عدوانية وهذا ما تتميز به مجموعة الحالات الخاصة بالأمراض العصابية وخاصة السمات الخاصة بالهوس الجنوني (paranoïa) في جملتها.

وبالتالي فإن التداخل الذي يتم بين المشاعر الودية والعنف لا يوجد فحسب داخل الحياة النفسية للمرضى. فالعلاقات على سبيل المثال بين الصهر والحماة كما يلاحظ فرويد هي علاقات متوازية عامة تتداخل فيها مشاعر المحبة والكراهية في آن واحد. ويمكننا أن ندرك ذلك بكل بساطة ومن خلال المحاكمة المنطقية: فالأم تريد دوام سيطرتها على ابنتها، وهي حذرة من هذا الغريب الذي يسيطر على طفلتها. والصهر من جانبه يشعر بالغيرة من الأشخاص الذين يبدون تعلقاً بزوجته وذلك يشكل إحدى الأسباب القوية القهرية لغيرته. وهنا يترتب على التحليل النفسي أن يبين وبدرجة عالية من العمق وجود صراع هوامي أوديبي في داخل النشاطات السيكولوجية الدفينة. فالأم تتقمص شخصية ابنتها كما يقول فرويد حيث تقع أم الزوجة في حب صهرها. وهي تستطيع لاحقاً أن تحطم هذه المشاعر الودودة وان تتواصل مع مشاعر سادية ذات إثارات عاطفية مندفعة هذا ويشعر الصهر بصراعات مماثلة وذلك حين يلامسه هوام قوامه أن الحماة تحتل مكان الأم وذلك يوقظ في نفسه ميلاً دائماً إلى المحرم. وهو بالتالي يتلخص من هذه الوضعية بطريقة سادية ذات طابع جنسي.

ويعزز فرويد تحليله لهذه المسألة حين يحاول أن يتبين أن حالة الهيجان تأتى تعبيراً عن صراع نفسي وهنا نجد الملاحظات الأولى حول ظاهرة المزاج والطبع المتسلط حيث يذهب فرويد هذه المرة بعيداً جداً في تفسيره وذلك حينما يريد أن يبرهن بان النزعة إلى العنف يمكن أن تظهر بطريقة وكأنها الجانب الوحيد الذي يمكن مشاهدته كتعبير عن العلاقة اللبيدية.

لقد استخدم فرويد وللمرة الأولى مفهوم الازدواج الوجداني Ambivalence والذي يشير إلى نزعات نفسية متعارضة وغير قابلة للتوافق في آن واحد. وعلى الرغم من غياب هذا المفهوم في مفرداته السابقة فإن الفكرة كانت تطرح ثقلها في إطار أعماله الأولى. وكان فرويد يستدعي الاهتمامات والملاحظات القديمة حول الكائن الإنساني. وبالتالي فإن اكتشافه العملاق انطلق من فكرة الصراع النفسي ومن التناقضات العاطفية المتعلقة بالكبت Refoulement.

ومن أجل تحليل مفهوم الازدواج الوجداني Ambivalence وقوامه ثنائية مشاعر الحب والكراهية والذي لا يعدو أن يكون أكثر من حالة خاصة للصراع النفسي قام فرويد بإجراء تحليل نفسي لمجموعة من المشاهير وانصرف لتأملاته ودراساته حول الدوافع. ونجد في هذا السياق أن تفسير مفهوم الثنائية الوجدانية Ambivalent كان يتأرجح عند فرويد بين تفسيرات ذات طابع بيولوجي وأخرى ذات طابع بسيكولوجي. ففي مقالته السابقة "دينامية التحول" على سبيل المثال يقول فرويد أن القوة الفاعلة للصراع الوجداني كما تتجلى عند العصابيين الوسواسيين تقتضي تفسيرا في ضوء المعطيات الدافعية حيث توجد تعارضات ملازمة لحياة الدوافع.

وفي مرحلة لاحقة يشير فرويد - في كتابه "التوتم والتابو Totem et Tabou ([5]) وذلك انطلاقا من تحليل الصراعات الانفعالية عند مشاهير الأوديبيين- إلى أن الفرصة كانت مهيأة لإدراك مفهوم التناقض الوجداني Ambivalence بالمعنى الخاص للكلمة والذي يتمثل في الحضور المتكافئ للحب والكراهية في آن واحد وبالنسبة للشخص الواحد والذي يوجد في أصل الصيغ الثقافية الهامة للحضارة. ولكننا مع ذلك فإننا لا نعرف شيئا كثيرا عن أصول هذه الثنائيات الوجدانية. ولكن يمكن الافتراض بأن هذه الثنائية تشكل ظاهرة أساسية لحياتنا الانفعالية. ومن الممكن لفت النظر إلى إمكانية أخرى مفادها أن الازدواجية الوجدانية كانت موجودة في الأصل بعيدا عن حياتنا الانفعالية وأنها فيما بعد اكتسبت أهمية خاصة لمصلحة العقدة الأبوية Complexe paternel. وهنا تكمن تحديدا قدرة التحليل النفسي في الكشف عن أهمية هذا الازدواج الوجداني Ambivalence وفاعليته.

فالأشياء كما ينظر إليها فرويد في حالة صراع وهذا الصراع لا ينتهي بالضرورة إلى صيغة توافق فلا يوجد هناك تناسق مسبق ولا يوجد هناك توازن أبدا. فالصراع هو في قلب الوجود وقدر الإنسان أن يحيا في وضعية صراع مأساوية لا حدود لها. ساويىة

الإكراهات والتسلط والعدوانية:

يشير فرويد إلى أن الاندفاعات العدوانية غالبا ما تنجم، منذ مرحلة الطفولة، عن حصارات وكبت وإكراهات مشابهة لما يحصل بالنسبة للدوافع الجنسية. ويبين بالتالي عن علاقة ترابط بين ثلاثة متغيرات في هذا المستوى: الثقافة Culture والقمع Répression والكف Inhibition أو الصد النفسي. وكلما كان الفرد أكثر ثقافة استطاع أن يسيطر على نفسه بدرجة أكبر وكلما كان محروما أكثر من لذة العدوان العفوي. والحلة النفسية تسمح للفرد بالوصول أو اللاوصول إلى هذه الملذات المحكوم عليها من الخارج (السلطات) من الأهل (الكبت والنواهي الأخلاقية والجمالية). ويفهم من ذلك أن القريحة الأدبية لا تتأتى لأشخاص فحسب بل توجد عند كل هؤلاء الذين يعيشون خبرات سارة تتصل بالمبادئ والقيم والقواعد الأخلاقية والدينية.

هذا ويمكن للنزعات الجنسية أن تتبدى في إطار الجانب الهزلي والفكاهي لحياة الناس. فالضحك الذي ينجم عن الهزل يعبر عن مشاعر السخرية من الآخر والانتصار عليه. ويلاحظ أن الفكاهة (وهي التعبير الأرقى بالنسبة لأواليات الدفاع) هي أكثر الأشكال ميلا إلى خفض شأن التأثيرات المؤلمة بالنسبة لهؤلاء الذين يميلون إلى الغضب والنزعة إلى العنف.

ومع ذلك كله لا يمكن إرجاع كل من النكتة والهزل والفكاهة كليا إلى مجرد نزعات انفعالية عاطفية. وغني عن البيان أن التعبير الجنسي لا يكون مضحكا. وهناك بالتأكيد دعابات تظهر في صيغ بريئة ساذجة. وهنا يجب البحث في اتجاهات أخرى إذا أريد حقا اكتشاف جوهر هذه الظاهرة.

ويوضح فرويد بدقة وجود مسافدة روحية كامنة في لعبة الكلمات وفي الصيغ الشفوية، ومع ذلك إذا كان صحيحا أن النفس تتجلى في طريقة توظيف اللغة فإن هناك ظلال اختلاف دائم في تحولات العنف. فكل طرفة أو نكته، كما يستخلص فرويد، تشكل محاولة جادة لتجاوز عقبات الحصول على متع ممنوعة ولتوفير الجهود الشاقة التي تقضيها المحظورات والممنوعات.

فالنكتة احتجاج موجه ضد القواعد الأخلاقية والمؤسسات والسلطة القائمة، وهي أيضا رفض للعقل والأحكام النقدية ولرمزية اللغة. وهي تشكل بالتالي واحدة من الاستعراضات الأكثر قوة والأكثر اجتماعية لمردود فعل الكائن المهذب المحروم من واحد من أبعاده والمجهد في عملية بحثه عن اللذة.

ب - لقد أبدى فرويد في أعماله المتعاقبة الأسرار التي يمكن أن تفسر لنا كيف يعبر الكائن الإنساني بما يخالف المعايير الأخلاقية والثقافية السائدة. لقد أبدى فرويد في مقالة له حول "الأخلاق الجنسية والأمراض العصبية في الأزمنة المعاصرة Morale sexuelle et la maladie nerveuse dans le temps moderne معارضته لمتطلبات التحريم الاجتماعي المفرطة وهو في هذا السياق يطور مقولات ايرنفيل (Ehrenafels) الرافضة لوباء وخبث الأخلاق الجنسية التي يقال عنها متحضرة.

ويطور فرويد فيما بعد فكرة قوامها أن الثقافة تقوم على أساس قمع الدوافع وخاصة الدوافع الجنسية ثم الميول والنزعات العدوانية. لقد أدرك فرويد منذ زمن بعيد العلاقة العميقة بين الكبت Refoulement والتقدم الثقافي ولكنه في هذه المرة يحاول أن يدرس التناسب المكن بين التضحيات والفوائد. ويتحدد موقف فرويد هنا بالقول إن الأنظمة الاجتماعية لا يمكنها أن تستمر من غير إكراهات ولكن صلابة القوانين في عصره بدأت تأخذ اتجاهات تدميرية الى حد ما.

يعتقد فرويد أنه لا يمكن لجميع النزعات الدافعية أن ترتفع إلى مستوى التسامي. إذ لا بد من الوصول إلى إشباع مباشر في الحدود الدنيا للميول وذلك تجنبا للاضطرابات الأكثر خطورة والتي يمكن أن تترتب على عملية الكبت هذه. فالأخلاق الفرويدية هي الاستسلام المنظم والمحدد للضرورة النفسية، فالطهرية المفرطة قد تكون في نهاية المطاف العدو الحقيقي للإنسانية.

الجروح النرجسية ([6]) (Le Blessure Narcissique):

لنذكر أن مشاعر الكراهية لا تتداخل كليا مع المواقف العدوانية، فالحقد ينطوي على نزعة تدميرية، بينما يشير العدوان (Agression) إلى حالة دفاعية أو تأكيد للأنا في مواجهة الأخر. ومع ذلك فإن غياب التمييز بين الجانبين في نص فرويد يبدو لنا جوهريا ففي واقع الأمر لا يتوقف الأنا (Le moi) الموصوف بعظمته عند حدود الدفاع وتأكيد الذات. حيث يلاحظ في إطار الحياة اليومية أن النزعة العدوانية والكراهية تترابطان دائما. فعندما يشعر الأنا (le moi) بأنه يتعرض بطريقة ما لمضايقة ما، فإنه يعمل على إزالة وتدمير ما يضايقه، وقليل من الانتصار قد يرضي الأنا المجروح. وهو بذلك ينطوي على نزعة كراهية دائمة. ويصف لنا فرويد هذه الخصوصية في إحدى نصوصه المعاصرة: " فقانون اللاشعور Inconscient هو القتل لأتفه الأسباب والتفاصيل "وهو بذلك شبيه إلى حد كبير بنظام دراكون Dracon التشريعي في أثينا القديمة، وهو نظام لا يعرف تعذيبا آخر يعاقب عليه المجرمون غير الموت، ومن هنا تبدو منطقية اللاشعور وذلك لأن أية معاناة يعشيها "الأنا" كلي القدرة "هي جريمة أساسية يعاقب عليها بالموت".

يقول فرويد في هذا الخصوص أيضا " الأنا يحقد ويكره ويسعى إلى تدمير كل الأشياء التي تشكل بالنسبة إليه مصدرا يعيق إشباع الحاجات الجنسية أو إشباع حاجات المحافظة والاستمرار. ومن هنا يمكن التأكيد بأن النماذج الحقيقية لعلاقات الحقد والكراهية لا تصدر عن الحياة الجنسية بل عن نضال الأنا من أجل المحافظة على الوجود وتأكيد الذات (...) فالكراهية تصدر عن رفض أصيل يعلنه الأنا النرجسي في مواجهة العالم الخارجي بمختلف مثيراته ومحرضاته. وهنا يعطي الجرح النرجسي أهمية خاصة من أحل الإشارة إلى إصابات الأنا النرجسية والتي يمكن أن تترجم بكلمة الإحباط (Frustration) في اللغة الفرنسية.

يشكل الأفراد الذين يعتقدون بقدرتهم الاستثنائية على خرق المعايير الاجتماعية - من قوانين أو مبادئ - مثالا لحالة الجرح النرجسي. حيث يكتشف فرويد أن هؤلاء الأشخاص سبق لهم التعرض إلى صدمات وآلام كبيرة وهم في حالة ضعف ومن غير إمكانية للدفاع عن النفس ومن هنا فإن هذه الحالة النرجسية تدفع صاحبها إلى محاولة التعويض الشامل على مدى الحياة برمتها. ولذلك يعتقد أن فرويد أن ما تزعمه بعض النساء من امتلاكهن لامتيازات استثنائية يمكن أن يفهم في ضوء تداعيات الجروح النرجسية المشار إليها. فالنساء المشار إليهن كما يعتقد فرويد عانين خلال طفولتهن من مهانات بالغة وإجحافات خطرة وهن لا يستطعن الاعتراف بذلك إلا بصعوبة بالغة. فشروط وجودهن البيولوجية وحالتهن في مجرى المعاناة السابقة والعلاقات الجنسية السادية تبدو إلى حد كبير كجروح نرجسية يعبرن عنها أحيانا في صيغة كراهية واضحة وفي أغلب الأحيان في صورة برودة جنسية ساخطة.

ومن هذا المنطلق بالذات يمكن تفسير المقاومة التي يبديها المرضى إزاء التحليل النفسي والتي يمكنها أن تكون تعبيرا واضحا عن ردود فعل. فالإحباط الأول يمكنه أن ينجم ومن غير شك عن فعل الاكتشاف نفسه. وقد وصف فرويد هذه المسألة في عام 1895. إذ يجب على المرء أن يكون مستعدا لمواجهة مقاومة الآخرين في كل مرة يقدم لهم شيئا يستطيعون هم بأنفسهم اكتشافه أو الحصول عليه. ومن المعروف أن فرويد نفسه قد وقع عدة مرات في فخ نرجسية الاكتشاف وخاصة عندما قدم أفكار فلييس Fliess الخاصة بازدواجية الجنس Bisexualité على أنها أفكاره الخاصة.

يواجه التحليل النفسي انتقادات حامية جدا حول هذه النقطة وهي انتقادات تدفع إلى المزيد من الجهود لتقديم تفسيرات. فالمظاهر العدوانية كما يعتقد فرويد لا تعدو أن تكون غير نتاج لجروح نرجسية عميقة. وفي هذا الخصوص يتبين أنه عندما لا يستطيع الأنا أن يهيمن ويسيطر فإن ذلك يؤدي إلى مخاطر الأحقاد نفسها التي يذكرها كل من غاليليه Galilée ودارون (Darwin).

ويشير النص الذي سجله فرويد عام 1915 حول الدوافع أيضا إلى أن السادية - مثل الكراهية والعدوان - تعرقل نشاط الأنا وفعالياته. وبعد أن يمايز فرويد بين السادية الأصلية التي تظهر في استعراضات القوة إزاء شخص آخر - أي ما تطلق عليه بكل بساطة عدوان - وبين السادية الحقيقية التي تدفع الآخرين إلى دائرة الألم وذلك من أجل الحصول على اللذة الجنسية. ومن هنا وفي إطار التمييز بين النوعين يبين فرويد أن المتعة لا يمكن أن تتم إلا عندما تتم عملية التوحد مع الشخص المعذب نفسه.

ويبين زعيم التحليل النفسي أنه لا يمكن لعلم الفيزيولوجيا الجنسية أن يمكننا من تفسير مناسب للسادية بالمعنى الدقيق للكلمة. وهو إذ يتحدث من التقمص Identification يبين أنها عملية تشتمل على دينامية الأنا وتنطوي على العلاقات الذاتية الداخلية والخارجية. إن تعبير "الدافع السادي" لا يمكن له أن يجعلنا نفسر أن الكائن الإنساني مرهون دائما بوجود اهتمامات وعلاقات مرتبطة بالعالم الخارجي. فالسادية المرضية والتي يمكن أن يقال عنها بأنها سادية غير إنسانية هي نوع من السلوك الذي يفتقر إلى أرومته الإنسانية وهي سلوك حيواني يختلف حتى عن سلوك الغريزة. ويعني ذلك أن السادية تنتصر عند الإنسان الذي تهيمن عليه علاقات طفولية وهي علاقات مرتبطة ببنية الأنا le moi.

الحرب والموت La guerre et la mort:

يلخص لنا عمل فرويد الموسوم "اعتبارات راهنة حول الحرب والموت عام (1915) ([7]) جوهر تأملاته وتفكيره في هذا الخصوص. وتبدو أفكاره هنا مكافئة لأفكاره حول العدوان في مقالته عام 1908 والمكرسة لدراسة علاقات الجنس في إطار الروابط الاجتماعية. ويكاد يعلن فرويد في النصين أن الحضارة تقوم على أساس ردع الدوافع وقهرها. ويبين أن القدرة على مجافات الدوافع تختلف من شخص لآخر، وأن مجافاة الدوافع لا يمكن أن تكون كلية وشاملة وأن هناك جرعات من الإشباع ضرورية ولا يمكن تخفيفها. والنقطة الأخيرة التي يمكن استنتاجها من خلال المقابلة بين النصين تتعلق بنمط الاضطرابات الناجمة عن عجم إشباع الدوافع المعنية. حيث يبين فرويد في هذا الصدد أن المراقبة المبالغ فيها للجنسية تؤدي إلى العصاب Névrose بينما يؤدي كبح العدوانية إلى اضطرابات نفسية أساسية.

لا يطمح فرويد إلى تقديم تفسير نهائي قطعي للحرب ولكنه يشير إلى بعض المعالم الأساسية لتفسير مقترح. تعود الحرب في أحد أسبابها الأصلية ومن غير شك إلى وجود تباينات واختلافات فردية وإلى تعدد الخصوصيات القومية. لقد وجد فرويد نفسه مأخوذا بالفكرة التالية وهي: لا يمكن لفكرة الحرب أن تزول طالما يعيش الناس شروط حياة مختلفة تجعل النفور بين هذه الشعوب بأخذ صيغة العنف وهنا تأتي الحرب لتصبح قدرا لا مفر منه. ووفقا لذلك تأخذ فكرة ظهور العنف والعدوان كنتاج للتباينات الفردية والقومية مسارها في مجال علم النفس.

يقول فرويد في سياق آخر: "إن الاختلافات القائمة بين الأفراد تضع الأنا le moi في دوامة التساؤل. ففي حالات التنافر والكراهية التي تظهر بوضوح ضد الغرباء الذين يجرى الاحتكاك معهم تستطيع أن تدرك معنى حب الذات "Amour de soi" ومعنى النرجسية النازعة إلى تأكيد الأنا التي تسلك، وكأن ظهور ما يباين وجودها الخاص يشكل نفيا لها وإكراها يهدف إلى تغيير بعض سماتها.

ونحن لا نستطيع في هذا المقام أن ننظر إلى موضوع الاختلاف بوصفه جرحا نرجسيا دون أن نستدعي إلى الذاكرة التعبير الفرويدي الخاص "نرجسية الاختلافات الصغرى" وفي اللحظة التي يتساءل فيها عن سر العداوة بين الإسبانيين والبرتغاليين، وبين الإنكليز والسكتولانديين لا يستطيع فرويد في مقالته "Narzissmus der Kleinen derenzen" أن يقدم وضوحا كبيرا. ومن أجل أن ندرك حجة ودوامية العنف يجب علينا أن نستند - وكما يعتقد فرويد - إلى العمليات الدافعية. وهي الفكرة التي تضرب جذورها في مقالته حول الحرب، وهي المقالة التي سنعود إليها حاليا.

ومن أجل تحليل همجية الصراعات العسكرية يستدعي فرويد التفسير الأخير والذي يقع في قلب النزعات الدافعية التي تأخذ صيغة كمونية وذلك عند جميع الكائنات الإنسانية على الرغم من النهوض الحضاري والثقافي للإنسان. ويمكن الإشارة بالإضافة إلى ذلك أن فرويد رغم مكانته الهامة لم يتحدث بوصفه رجل أخلاق مانوي (نسبة إلى ماني). يقول في هذا المقام أن الانفعالات الغريزية الفطرية ليست خيرة أو شريرة بذاتها وأن المجتمع بأنظمته هو الذي يحدد قيمة هذه الدوافع.

لنترك الآن الحرب جانبا بوصفها ظاهرة نفسية اجتماعية اقتصادية معقدة لا يستطيع عالم النفس في الواقع أن يقدم لها تفسيرات ولننظر الآن في العنف كما يتبدى ويظهر في مضمار الحياة اليومية.

غالبا ما ينفر المتحضرون من ذكر الموت سواء أكان ذلك يشير إلى موت الأصدقاء أو الأعداء على حد سواء. ولكنهم على المستوى اللاشعوري يمارسون عملية القتل بسهولة بالغة وبسرور لأتفه الأسباب يقول فرويد: "إننا نتحدر عن سلسلة لا متناهية من أجيال آباء مارسوا القتل والذين كانوا - كما نحن ربما - يعشقون الموت في وسط الدماء.

ويسجل فرويد في هذا السياق ملاحظة مهمة جدا فنحن مدانون بأجمل معاني حياتنا العاطفية إلى ردود أفعالنا إزاء الدافع العدواني الذي نشعر به في عمق حياتنا الداخلية. وبعد عدة سنوات جاء علماء الأخلاق ومنهم لورنز Loranz على سبيل المثال ليؤكدوا هذه الرؤية داخل العلاقات القائمة عند الحيوانات. إذا يلاحظ أن الأكثر عدوانية (الذئاب على سبيل المثال) هي التي تبني العلاقات "الشخصية" الأكثر ديمومة استمرارية.

تشير مقالة فرويد حول الحب والموت في نهاية الأمر إلى فكرة أساسية وهي أن الرجل البدائي يسقط مشاعر العداء على أشكال شيطانية، وهي الصور التي تعذبه فيما بعد. وعلى خلاف ذلك فإن الرجل المتحضر يستبطن دوافعه العدائية ليجد نفسه فيما بعد مشبعا بالندم الذاتي وتكبيت الضمير.

لقد أشرنا منذ قليل إلى أن فرويد اكتشف مبكرا جدا تأثير العدوانية في مختلف الاضطرابات النفسية مثل: القسر Compulsion الذهان Paranoïa الاكتئاب [8]Mélancolie... الخ. ولكنه مع ذلك لم يعترف بأهمية هذه الظاهرة قطعيا إلا من خلال انعكاساتها على الحياة الاجتماعية كردود الأفعال الخاصة بالألم والنزعة إلى التدمير الذاتي. ويبقى علينا في هذا السياق أن نتحدث عن الملاحظات الأخرى المسجلة فيما بعد هذه المرحلة.

دوافع الموت Les pulsions de mort:

شكل إدخال مفهوم دوافع الموت في النظرية الفرويدية عام 1920 المرحلة الثانية من التعديل الذي انعكس على جملة عناصر البنية الفكرية للنظرية. لقد جرى الاعتقاد بأن النظرية الفرويدية وجدت كمالها ونضجها في الكتابات الميتاسيكولوجية لعام 1915. يعلن فرويد في هذه المرحلة عن ضرورة الأيروس (Eros) (غريزة الحب) وأهميتها في تأكيد متطلبات الحياة. وانطلاقا من ذلك بدأ يفكر في العدم وفي ميل الإنسان اللاشعوري إلى الفناء (Anéantissement). لقد ناضل فرويد سابقا من أجل فكرتين أساسيتين هما: الجنس واستقلالية الوعي. وهو الآن أي في هذه المرحلة يناضل من أجل فكرة جديدة ثالثة هي: الموت. وهنا يميز بين موت الآخر الذي هو موت الأعداء والغرباء وموت الشخص الثاني الأحبة ثم موت الشخص الأول أي موتنا فناؤنا الخاص.

لقد حاول فرويد أن يحلل المظاهر الخاصة باشتهاء الموت ومظاهر التدمير وهو يفترض في إطار تفسيره لهذه الظواهر وجود دينامية سيكولوجية داخلية أطلق عليها دافع الموت (Pulsion de mort).

يأخذ الشكل الأول لدوافع الموت صورة القسر الذي يفرضه التكرار. لقد واجه فرويد في واقع الأمر الظواهر المتكررة منذ بداية تقصياته ويتبدى هذا الموضوع في مضامين أعماله جميعا والتي بدأت مع مقالته الشهيرة: الهيستريون يعانون من الذكريات" (1893) حتى محاولاته الأخيرة في كتابه المهد L’Oise وهي المحاولات التي يوظفها من أجل تقديم تفسير لتاريخ الإنسانية. وفي عام 1920 وجد فرويد نفسه تحت حصار الافتراضات بوجود نزعة مستقلة تفسر عملية إعادة تكرار التجارب المؤلمة مثل الإخفاق والأحلام المزعجة وبعض الحالات التي لا حدود لها.

ويبدو أن النكوص Régression هو الصيغة الثانية لدافع الموت. وهنا نلاحظ أن هذه الظاهرة ترتبط بسابقتها: توجد نزعة لتكرار التجارب الأولى وأنماط العلاقات التي كانت سائدة خلال مرحلة الطفولة.

ويمكن للقارئ أن يذكر هنا أن فرويد في عرضه الأول للدوافع كان يؤكد أهمية طابعها الدافعي. ومع ذلك كله كتب في النص الذي أدخل فيه مفهوم دافع الموت قائلا: " تصبح الأم النموذج لكل العلاقات العاطفية وبالتالي فإن البحث عن موضوع الجنس ليس في النهاية سوى البحث عن هذا النموذج. لقد أشار فرويد منذ البداية أن مستقبل هذا الدافع مرهون بأصوله فالإنسان يسعى دائما، كما يعتقد فرويد، للعودة نحو الخلف (النكوص الوقتي) إلى أن يحلم أو أن يتخيل وذلك بدلا من العمل العقلاني (نكوص نموذجي) ومن هنا فإنه يحاول عبر فرضية ما بعد مبدأ اللذة (Au de la du principe de plaisir) ([9]). أن يدرس هذه النزعة التي لا تعني ببساطة أبدا الشلل النفسي الذي يتحدث عنه يونج Jung.

ويتبدى الوجه الثالث الدافع لموت في الميل إلى التدمير. من المعروف أن بعض المحللين النفسيين الأمريكيين يفهمون واقع الموت على أنه نزعة عدوانية. حيث نجد هارتمان Hartman وكريس Kris ولوينشتاين Lowuenstien على سبيل المثال يتحدثون دائما عن التعارض بين الليبيدو والعدوان. ولكن الفحص السريع لأعمال فرويد هنا يبين وجود حالة تبسيطية مبالغ فيها. فالمعطيات الأساسية التي تقود فرويد إلى إعادة نظرية هي التكرار والعودة إلى الأصول الأولى وبالتالي فإن مسألة التدمير تأتي في المرتبة الثانية.

فالملاحظة السريرية بدأت تشكل الحجة الدامغة لصالح التعديل الذي أجري في العشرينات ويظهر ذلك في رفض بعض المرضى للعلاج وفي ردود الفعل العلاجية السلبية (تعظيم الاضطرابات المرضية أثناء المعالجة. لقد كان لغموض الماسوشية الأخلاقية هذا بالإضافة إلى الماسوشية الجنسية أن يقود لفرويد إلى هذه التعديلات. فالماسوشية الجنسية تجد شرحها في إطار الازدواجية الأولى. لقد أشار فرويد عام 1905 إلى أن العمليات الانفعالية المكثفة - الألم في هذه المناسبة- تجد صداها في الحياة الجنسية ويمكن لها أن تتحول إلى مصدر للسعادة.

وقد هدفت النظرية الجديدة إلى تحليل ما يسميه اوكتاف مانوني Octav Mannonie عار الإحساس بالذنب. ومن أجل إعطاء نظرية دافع الموت أهميتها يستند فرويد إلى بوليموس Polemos وإلى تاناتو Thanato فالشخصية الهامة فيما بعد مبدأ اللذة ليست إلى حد ما الشخصية السادية المنحرفة بقدر ما هي الشخصية الكئيبة المقهورة تحت تأثير أنا أعلى Sur moi. وهنا في إطار هذه الصورة الأخيرة نجد الثقافة الخالصة لدافع الموت.

ويلاحظ في مجرى السنوات اللاحقة لظهور كتاب Genseit حدوث مجموعة من التغيرات الهامة حول مفهوم دافع الموت. حيث وجهت الأهمية المتزايدة ومن الناحية المنهجية إلى الظواهر السريرية وذلك بالقياس إلى الجوانب التأملية. وفيما يخص موضوعات التفكير فإن الأهمية التي أعطيت للجوانب البيولوجية تركت مكانها للجوانب الثقافية. وفي النهاية يلاحظ أن مؤسس التحليل النفسي بدأ يوجه اهتمامه إلى نزعة التدمير بدرجة أكبر من التكرار والنكوص.

ويبدو أن التحول القطعي ظهر في كتاب Unbehaggen حيث يدافع فرويد عن وجود دافع عدواني مستقل (1930). وهنا كتب أيضا يقول "تصدر النزعة العدوانية عن بنية فطرية دافعة منظمة ومستقلة عن الكائن الإنساني. وتشكل هذه العدوانية الأولية الخطر الأساسي ضد الحضارة وضد الأنواع الإنسانية.

ويأخذ كل من دافع التدمير (Pulsion de détruire) ثم دافع الموت (Pulsion du mort) مكان الصدارة في نصوص فرويد اللاحقة. ويقول فرويد: إن المبدأين الأساسين وهما: الحب (Amour) والانفصال (Discorde) يشكلان بالاسم والوظيفة نظيرين لدوافعهما الأصلية وهما الآيروس Eros والتدمير Destruction.

لا يمكن بسهولة التمييز بين دافع العدوان ودافع الموت فالعدوان في جملته لا يمكنه أن يؤدي إلى دافع الموت. وبالتالي فإن دافع الموت لا يمكن أن يختزل إلى دافع العدوان. ومن أجل العودة إلى استخدام تعبير لم يستخدمه فرويد إلا في إطار النظرية الدافعية الأولى. وهو أن دافع العدوان يبدو إلى حد ما انعكاسا جزئيا لدافع الموت.

ومن أجل الدخول في عمق المسألة يجب أن نتساءل ما الفائدة من العمومية التي تنطوي عليها استخدام تعبير "دافع الموت" (Pulsion du mort). نحن نعتقد أن فرويد كان يريد أن يعلمنا بان الإنسان مسكون بطاقة سلبية نافية. وبدقة أكبر يمكن القول انه كان يرغب في أن يشد الانتباه إلى وجود علاقات بين مختلف جوانب السلبية الإنسانية مثل الكراهية التكرار والنكوص والميل إلى التدمير الذاتي والعدوانية. وفي هذا الإطار يمثل دافع الموت المفهوم المفصلي لهذه المفاهيم.

فمفهوم مفهوم غريزة الموت يؤكد على العلاقة بين الثبات والميل إلى التدمير الذاتي. إذ تبين التجربة الاكلينيكية أن العدوانية تتجه إلى تبسيط وتثبيت تجسداتها. وعلى خلاف ذلك يلاحظ أن الثبات النفسي يثير العنف فهناك جزء كبير من نزعة المنحرف التدميرية كالعصاب، والذهانات النفسية تصدر عن تصلب الوجود النفسي وجموده وذلك يعني الإحساس بالانغلاق وضياع معنى الوجود.

يشير مفهوم دافع الموت في النهاية إلى العلاقة القائمة بين العدوان ونزعة التدمير الذاتي. لقد أشار فرويد دائماً ومنذ زمن طويل إلى علاقات التماثل القائمة داخل الذات (soi-même) وبين هذه التي تقوم مع العالم الخارجي، وتتضح هذه العلاقة القائمة بين الجانبين في السلوك العدواني على نحو خاص. فالفنان على سبيل المثال يعد شاهداً على هذه الخصوصية لأنه يتأرجح بين نزعتين نزعة القتل ونزعة الانتحار. وفي إطار نظرية الموت يمكن النظر إلى هذه العلاقة بوصفها قانوناً عاماً فالعدوان يمكن أن يكون القناع الذي يخفي نزعة التدمير الذاتية. فالفرد يهاجم الآخر من اجل ألا يدمر نفسه. وعلى خلاف ذلك قد تمثل نزعة التدمير الذاتية عدوانية تتجه هذه المرة إلى، ويلاحظ فرويد في هذه الخصوص انه كلما حاول الفرد بشكل شعوري أو لاشعوري، كبت عدوانيته كلما أدى ذلك إلى ولادة إحساس لديه بالذنب والتصلب. فالفرد من منظور التحليل النفسي مكان للجدل والصراع الذي قد يكون مدمرا ًللفرد نفسه. كما هو الحال بالنسبة للآخرين. فالفرد في إطار هذه الصورة كائن ملغوم بدوافعه المميتة، وهو في غالب الأحيان أمام خيارين: إما أن يكون عنيفاً تجاه الآخر أو أن يكون عنيفاً تجاه ذاته. وهو بذلك أمام نتيجتين: إما أن يصاب بالعصاب (névrose) أو بالانحراف (délinquance)

يعتقد فرويد بان دافع الموت يقوم في داخل النزعة السادية بتحويل الهدف الايروتيكي لصالحه وذلك مع إشباع النزعة الجنسية بشكل كامل. وهذا يمكننا من إدراك جوهر دافع الموت في علاقته بوضوح مع الأيروس (نزعة الحياة). وإذا كان دافع الموت يظهر من غير غايات جنسية فإنه لا يمكن لنا أن نجهل بان إشباعه لا يرتبط بلذة نرجسية مرتفعة. ويعزى ذلك إلى انه يعطي الأنا مشهد تحقيق رغباته القديمة البالغة القوة. وعندما يتعرض هدف دافع للتدمير للصد والكبت فإنه وهو في إطار توجهه نحو موضوعاته يتوجب عليه أن يشبع الرغبات الحيوية للأنا في مجال السيطرة على الطبيعة. وهنا يميز فرويد بين ثلاثة أشكال للعنف وذلك في إطار العلاقة مع دافع الموت: السعادة السادية والغضب التدميري والعنف الظاهر الذي يتبدى في مجال نشاطات الهيمنة وخاصة في مجال العمل. ثم العدوان في إطار المعنى النوعي لهذا المفهوم الذي يتوافق مع الحالة الثانية. ويمكن الملاحظة هنا أن فرويد يتحدث بوضوح عن النرجسية (Narcissisme)

لقد بين فرويد هنا بأن التوحد هو شكل العلاقة الانفعالية مع الموضوع: وهو يقدر في هذا الصدد أن هذه العلاقة هي العلاقة الأكثر أولوية وبدائية. فالتوحد يمكنه أن يساعد على إدراك الآخر وأن يعمل على خفض درجة العدوانية. ويشير علم النفس الاجتماعي في هذا الخصوص وبقوة إلى أن الأفراد لا يظهرون عدوانيتهم أبدا إزاء هؤلاء الذين يتوحدون معهم مثل زعيم الجماعة وأعضاءها وبالتالي فإن هذه العدوانية تتجه إلى موضوعات خارجية. ويشير فرويد أيضاً في نص آخر إلى أهمية التوحد من اجل تجاوز العدوانية، وخاصة فيما يتعلق بخفض مستوى التنافس الأخوي (بين الأخوة). كتب فرويد يقول في هذا الخصوص:" لا يمكن للعداوة أن تجد إشباعا لها حيث ينشأ في مكانها نوع من التوحد بالنسبة للمنافسين الأوليين وتشير الملاحظات الجارية حول الجنسية المثلية "الهوموسيكومول" ان اختيار موضوع الحب قد احتل اتجاه الفرد نحو العداء والعدوان. ومع ذلك فإن فرويد يعترف أن التوحد يمكنه أن يأخذ اتجاه المحبة كما يمكنه أن يأخذ رغبة الاستيلاء على الموضوع.

هذا ويمكن للنزعة الأوديبية أن تكون مثالاً جيداً لهذه العملية. فالطفل يتوحد مع والده من الجنس نفسه، وذلك قبل إدراك مرحلة الأزمة الأوديبية. ومثل هذا التوحد لا يشعره وعلى نحو فوري أن الأب منافس له ولكن هذه الحالة تتطور مع ذلك باتجاه المنافسة. فالصبي الذي ينظر إلى أبيه بوصفه مثله الأعلى يصل إلى حد الرغبة في الحصول على مكانه وإلغائه. ويمكن لنا أن ننوه في إطار هذا المسار العنف الذي يظهر في هذه الظروف يتحول إلى مظاهر مسالمة: ولأن العنف لا يتجه إلى التدمير الذاتي فإنه يقطع حلقة الترابط التوحدي ويساعد على بناء التنوع والفردية.

وفيما يتعلق بمسألة العدوانية فإننا نعتقد أن فرويد وعلى الرغم من الأهمية الخاصة التي يعطيها لدوافع الموت لا يطرح على بساط البحث أهمية البعد النرجسي لظاهرة العدوان. إذ يتكامل البعدان -علاقة الفرد بأناة من جهة ودوافعه من جهة أخرى. وفي هذا الخصوص يمكن القول إن طبيعة الظواهر النفسية تتطلب من المحلل النفسي أن يجري عمليتين هما: تحديد هدف الأنا وتحليل دينامية الدافعية. ونحن نعتقد في هذا الصدد أن فرويد استطاع أن يقلص المسألة التي تفصل بين هذين الجانبين. فهو يؤكد ألا وجود لغايات خالصة وألا وجود لعمليات عمياء. فالمحركات الدافعية تحمل وبشكل مسبق دلالة ما قبل شخصية. بينما وعلى خلاف ذلك فإن المعنى الممكن إعطاؤه للأنا والذي يقدم نفسه للإدراك يبقى تابعاً أو يأتي فيما بعد. والسؤال الذي يبقى هنا هو مشروعية الحديث عن دافع الموت أو دافع العدوان. وفيما يلي سنعمل على إعادة النظر في هذه المسألة في ضوء المعطيات المعاصرة للأبحاث العلمية.

الأنا الأعلى LE SUR-MOI:

يشكل كل من الإحساس اللاشعوري بالذنب ومناهضه العلاج ظاهرة ينطلق منها فرويد لبناء اثنين من أهم تصوراته هما: دافع الموت ومفهوم الأنا الأعلى sur moi Leويبدو لنا أن الفكرتين متكاملتين.

ففي واقع الأمر لا يمكن للحياة الدافعية أن تفسر لنا بمفردها أشكال تجلياتها الخاصة بينما يستطيع المفهوم البسيط للأنا الأعلى أن يبين، كما يعتقد فرويد الطابع الشيطاني للمقاومات والعقاب الذاتي (Auto - Punition).

يجد التحليل الفرويدي لمفهوم الأنا الأعلى (Sur-moi) تبريره هنا وذلك ليس لأنه يكمل نظرية دوافع الموت بل لأنه يؤكد العلاقات القائمة بين التأنيب الداخلي والعنف. ويمكن تلخيص الطروحات الفرويدية التي تهمنا هنا في ثلاثة مسارات: أ-يسعى الأنا الأعلى (Surmoi) بشكل رئيسي إلى مواجهة العدوان ب - وهو وكالة تقوم بعملية الهدم الذاتي. ج - ويمكنه أن يتحول إلى مصدر للسلوك العدواني.

تعود فكرة الصراع بين الوعي والانفعالات إلى العهود القديمة. ومن هنا يستعرض فرويد وجهات نظر جديدة حول هذه المسألة وحول أصالتها، وهو في صدد ذلك يسجل منذ البداية تلميحات مهمة حول هذه المسألة. ففي رسالة له إلى فلييس (Fliess) عام 1897 وهو العام الذي كان خصباُ بالنسبة لفرويد كتب يقول:" إن هناك رقابة مشابهة لهذه التي توجد في الصحف الرسمية تمارس دورها في مجال الحياة النفسية وان هذه الرقابة مسؤولة عن العبثية التي تظهر في الهذيانات، وتكمن الفكرة الجوهرية لفرويد هنا في رأي قوامه أن الإنسان يتمثل معايير وقيما تشكل منطلق التأنيب الذي يظهر في الحلم والجنون. وفي هذا الصدد يشير فرويد بان الفرد الذي لا يمكن أن يتجزأ هو منذ اللحظة التي يبدأ فيها التأنيب كائن ممزق في داخله.

ينظر فرويد إلى الجنسية بوصفها المجال المفضل للتبكيت النفسي، وبالتالي فإنه يعترف تدريجيا بأهمية النضال ضد الاندفاعات العدائية والحقد والرغبة في التدمير. ويبدو النص الواضح حول هذه المسألة ومن غير شك في مقالته حول بؤس في الحضارة (Malaise dans la civilisation) حيث يطور فرويد هنا الفكرة التي تفيد بأن الأنا وبمساعدة العدوانية يتحول ضد نفسه ويراقب وبشدة العدوانية.

ولا يعني ما سبق أن أصالة فرويد كامنة في اكتشافه للحواجز الداخلية المناهضة للنزعات الجنسية وللعدوان، أو في اكتشافه أن هذه الحواجز الداخلية تشكل جانبا من الحياة النفسية فحسب، بل تكمن هذه الأصالة في أهمية أبحاثه الخاصة بالجانب الدينامي للمراقبة أيضاً. فالأنا الأعلى يؤدي عمله وكأنه يقوم بدور يعمل من خلاله الكائن على مراقبة نفسه وبطريقة يمكنه فيها أن يفخخ نفسه أو أن يعمل على تدميرها. فالأنا الأعلى ليس مجرد كابح: بل هو أحيانا عامل من عوامل الهدم الذاتي (auto destruction)

ما كنا لننتظر علم نفس الأعماق لنعرف بان الإنسان ومن اجل أن يجسد إنسانيته يجب عليه أن يوجه العنف إلى ذاته، ومع ذلك فإن تعاليم فرويد تجاوزت هذه الفكرة وحدودها. لقد تحدث فرويد منذ عام 1901 عن انطلاقة التكامل الخاص وعن التشويه الذاتي والانتحارات اللاواعية. فهو يعلن أن عنف الإنسان الموجه إلى ذاته يمكن أن يتحول إلى صيغة لا إنسانية فالأنا الأعلى الموجه الضروري للفرد خلال سنوات حياته يتحمل وبسهولة في هذه الحالة إلى خائن كبير.

لقد استطاع فرويد أن يعيد بناء مشكلته القديمة الخاصة بمقاومة المرضى للجهود العلاجية المبذولة من أجلهم. ففي الصفحات التي يكرسها لدراسة حالات تبعية الأنا، وفي الفصل الأخير من كتاب الأنا والهو (Le Moi et le Ca) يعلن فرويد كما هو الحال في منشوراته الأولى:" أنه لا يمكن لنا بسرعة أن نفسر ردود الأفعال السلبية للمرض وذلك بمعنى الإرادة اللبيدية أو الكبرياء. فالمرضى المستائين -وذلك عندما يظهر التحليل وجود تقدم صحي - يعانون من إحساس بالذنب لم يعترفوا به فهم ضحايا أنا أعلى لا يرحم.

خلال الفترة الأخيرة من عمله، وحتى اللحظة التي كرسها لدراسة المجتمع، يؤكد فرويد شيئا فشيئا على أهمية العدوانية والسادية، التي يظهرها الفرد إزاء نفسه، ومن غير شك فإن الأنا الأعلى المفروض إلى حد ما من قبل الآباء يعزز قيم العقاب والثواب، ولكن مع ذلك يوجد هناك عند الأفراد عملية بناء ذاتية خاصة بالحجج النقدية فالفرد هو في نهاية الأمر أن لم يكن حذراً يصبح عدواً لنفسه.

يعبر أريكسون (Erikson)جيداً عن فكرة أساسية في النظرية الفرويدية عندما كتب يقول:" إن بقاء الوعي الإنساني في مستواه الطفولي خلال حياة الإنسان برمتها يشكل موطن المأساة الإنسانية (1950) فالأنا الأعلى يبدو في حقيقة الأمر وفي وقت واحد بوصفه مصدراً ممكناً للتدمير الذاتي والعنف الموجه إلى الآخر.

ذكرنا منذ قليل، وفي محاور عدة، أن السلوك العدواني انعكاس لصراعات نفسية ولتعارضات بين الدوافع، ولا بد لنا من المرور على تتمة مهمة وقيّمة لفرويد حول هذه الفكرة. يبين فرويد أن الفرد لا يتحول إلى العدوان من أجل تدمير من يهاجمه أو من يجعله مذنباً فحسب بل يصبح عدوانياً بالتحديد لأنه يشعر بالذنب. لقد اكتشف فرويد في تحليله لحالة الصغير هانس (Hans) أن الأطفال يظهرون شراستهم من اجل أن يتعرضوا للعقاب والتخلص من إحساس الذنب الصادر عن توهماتهم. ويلاحظ فرويد بالتالي أن هناك أفعالا قاسية ترافق أحيانا عملية انخفاض الضغط النفسي. وهو يفسر هذه الحالة المدهشة بوصفها طريقة لإعطاء الأفكار الوهمية (Fantasmes) مضموناً موضوعياً ولبناء إحساس عميق بالذنب على المستوى الأوديبي، وفي هذا الإطار تلاحظ الشدة التي يمارسها الأنا الأعلى الجانح وفي المكان الذي قلما ينتظر توقعه.

وفي هذه المناسبة يمكن الإشارة إلى مساهمة فرويد في مجال علم الجريمة وإلى قدرته العبقرية في قلب التصورات الجارية حول السلبية النفسية، وهو من هذه الزاوية يعلن بان السلوكات الرقيقة يمكنها أن تخفي هوامات Fantasmesقاتلة، وان العدوانية الظاهرة هي في بعض الأحيان انعكاس لنضال الفرد ضد اندفاعاته النفسية الخاصة.

العنف في الثقافة:

يبين فرويد في كتاباته الأخيرة ترابط مفهوم العدوان بمفهوم الثقافة. ويحاول فرويد في هذا المستوى أن يبرهن أنه على مدى التاريخ كانت العملية الثقافية تستمد طاقتها من الدافع الجنسي ودوافع العدوانية. ومع ذلك لا يمكن لهذه الدوافع أن تعبر عن نفسها بطريقة موضوعية: فالإنسانية لم تتكون في واقع الأمر إلا من خلال عملية تسامي Sublimation خاصة بالدوافع الأولية. ويشرح لنا فرويد في كتابه المهد Le moise أن التطور في مجال الحياة الروحية يتطلب إبعاد الدافعية وصدها. هذا ويقدم تطور القيم الثقافية كالأخلاق والدين على أساس صد الطاقة الشبقية والدافعية.

فالدوافع الجنسية ونزعات تأكيد الذات والعنف والتي تبدو في مجموعها كمحركات للحضارة Moteurs تشكل في الوقت نفسه المخاطر الأساسية التي تهدد المجتمع. ففي البداية يتحدث فرويد عن التضاد بين الدافع الجنسي والحضارة ولكنه وفي محصلة لاحقة يعترف بأهمية الضغط بين الاندفاعات العدوانية والمجتمع في بناء الحضارة نفسها. ومن أجل استجلاء هذه المسألة سنذكر بعض المقاطع المستلة من ثلاثة كتب أساسية له.

يشرح في كتابه مستقبل الوهم Avenir D` une Illusion بأن المعاناة والردع الدافعي لا يعنيان تخطي ضرورة العمل الحيوية وان هناك نزاعات تدميرية لا اجتماعية وضد ثقافية عند جميع الناس ([10]).

وتشكل هذه الفكرة واحدة من المحاور الأساسية لكتابه شقاء الحضارة حيث كتب فرويد في هذا الخصوص: إن نزعة العدوان التي تستطيع أن نلمس وجودها في أنفسنا وفي الآخرين تشكل العامل الأساسي الذي يشوش علاقتنا مع المقربين وهي تؤدي إلى نوع من الهدر في الطاقات الثقافية الممكنة وهي بذلك تشكل تهديدا لأسس المجتمع المتمدن (...) حيث يتوجب على الثقافة أن توظف فعالياتها لكي تضع حدا لاندفاعات الناس العدوانية وان تعمل على احتواء مظاهر هذه العدوانية بمساعدة التأهيل النفسي الخاص بردود الأفعال.

يدافع فرويد في إطار محاضراته الجديدة عن هذه الفكرة ذاتها وخاصة في الوقت الذي يستعرض فيه تصوره لدافع الموت؟ وهو يحدد ذلك بدقة عالية عندما يستعرض ملاحظاته حول مفهوم الإحساس بالذنب. فالثقافة تنمو على حساب الدوافع الجنسية التي تتعرض لكبت المجتمع من جهة والتي تغدو قابلة للتوظيف من أجل أهداف أخرى من جهة أخرى. وهذا يعني أن اعترافنا بالدوافع الجنسية هو شرعي وينسحب ذلك بدرجة أكبر على الدوافع الأخرى وخاصة الدوافع العدوانية وهي الدوافع التي تجعل الحياة الاجتماعية شاقة وتهددها بصورة مستمرة. فالإلزام الذي يفرضه المجتمع على الفرد لتحديد عدوانيته يمثل ربما تضحية الفرد الأولى والأهم.

ويبدو لنا أن تصور فرويد للإنسان مشبع بالتزمت والتراجيدية. فالكائن الإنساني يتأرجح بين نزعتين إحداهما تشده نحو الآخر والأخرى تشده إلى نفسه، وهو في معاناته هذه لا يجد الحلول المتوازية. فحب الآخرين يقوده إلى خيبة الأمل الشديدة بينما يؤدي به غياب هذا الحب إلى النرجسية التي تدفع إلى المرض أو إلى خيبة الأمل أو إلى الموت ولا يمكن تركه هنا في هذه الحالة لسيطرة نزعاته العدوانية. ولكن المنع والرفض الخالص للعنف يؤدي إلى نزعة التدمير الذاتي، وفي هذا السياق يمكن القول إن العصاب Névrose والألم النفسي ليسا مجرد حادثة عابرة بل هما تعبير عن وضعية سيكولوجية محكومة بعواملها الموضوعية.

ومن بين المصادر الأساسية الثلاثة للألم الإنساني: الاضطرابات الفيزيولوجية، وصعوبات الحياة الاجتماعية، والكوارث الطبيعية، تعد صعوبات الحياة الاجتماعية هي الأكثر إيلاما. فالثقافة الخاصة بالنوع الإنساني تشكل مصدرا حقيقيا للآلام والمعاناة. وتأخذ هذه القضية أهميتها في كتاب فرويد (Das unbehagen) الذي يبين العوامل الاجتماعية للأمراض النفسية، وهو يتساءل في هذا الصدد إذا كانت الثقافة والتقدم الحضاري يبرران شرعية الآلام المعاصرة.

أ - يكمن السبب الأول للألم الذي يعزى إلى الثقافة في وجود صراعات ساخنة بين الدوافع الفردية ومتطلبات الحياة الاجتماعية. ولا يوجه فرويد هنا إصبع الاتهام إلى المعايير السائدة وشدتها المفرطة - وذلك ما يطلق عليه ماركو القمع المفرط Sur - répression بل إلى جوهر الثقافة والصراعات الأساسية الناجمة عنها.

لقد أكدنا منذ قليل على أهمية هذه النقطة، وهنا يمكن القول أيضا بأن قوانين الحياة الاجتماعية - التي تجسد بجوهرها رموز العنف - لا تستطيع أن تمارس دورها من غير اللجوء إلى العنف. وبالإضافة إلى ذلك فإن السلطة القائمة لا تكتفي بمنع إشباع بعض الحاجات الدافعية بل تعمل أيضا على إحداث تغيرات حقيقية داخل الفرد نفسه.

ب - يؤدي النقد الرئيسي الذي يوجهه فرويد إلى التنظيم الاجتماعي - ولا سيما في داخل المجتمعات التي يقال عنها متحضرة - إلى ولادة وتعزيز إحساس الإنسان بالذنب. ففي كتابه التوتم والتابو Totem et Tabou يعلن فرويد أن النظام الاجتماعي يقوم على الإحساس بالذنب الخاص بجريمة قتل الأب الأول، وفي هذه المرة يعترف بأهمية العقيدة الدينية ولكنه يعترض على الشكل الاستبدادي الذي يأخذه الأنا الأعلى على أثر التعزيزات الاجتماعية.

لقد أعلن فرويد على مدى حياته مبدئين متناقضين ظاهريا ولكن مع ذلك يمكن النظر إليهما من زاوية التكامل وهما: مبدأ التقشف والزهد Renoncement ثم مبدأ التسامي Sublimation وهما المبدآن اللذان يشكلان شرط الوجود الإنساني. ومع ذلك لا يمكن وضع حد نهائي لعملية إرضاء بعض النزعات الدافعية وخاصة في مجال الحياة الجنسية لأن ذلك يؤدي إلى إحداث اضطرابات نفسية ويؤدي إلى تعزيز العصاب والميل إلى التدمير.

يسير فرويد في أعماله اللاحقة إلى مصدر آخر للألم والقلق وهو الخطر الناجم عن الإنسانية نفسها: دمار الإنسانية الناجم عن الإنسانية نفسها. وهنا يدهش المرء لقدرة فرويد التنبئية وخاصة لأن هذه النبوءة سبقت حادثة هيروشيما Hiroshimaبخمسة عشر عاماً وهي التي يعبر عنها فرويد بالصيغة التالية: لقد استطاع البشر حالياً أن يتقدموا كثيراً في مجال السيطرة على الطبيعة ولكن ذلك يشكل مصدراً جديداً للدمار وما يؤسف له انهم يعرفون ذلك ومن هنا ينجم التوتر الحالي والبؤس والقلق.

هذا ويعتقد فرويد أن قدر الإنسان مأساوي وانه لا يمكن لأي نظام سياسي أن يحقق السعادة الكاملة للجميع. وهو في هذا السياق يصف البديهيات الماركسية بأنها أوهام لا تستند على أسس موضوعية. وهو على سبيل المثال لا يعتقد أن مبدأ إلغاء الملكية الخاصة يمكنه إيجاد الحلول لمشكلات العنف بمفرده. ولكن هذا كله يبقى بالنسبة له نوعاً من اليوتوبيا وذلك لأن دافع العدوان ونزعات المحافظة ذات سلطان راسخ الجذور في سلوك البشر.

ولنا الحق هنا أن نتساءل إذا كان فرويد يسعى عبر محاولاته هذه، التي يرى فيها أن بؤس الحياة الاجتماعية ينبع من الثقافة ومن الطبيعة الفيزيائية للإنسان، إلى إيجاد الحلول الأساسية لمسائل الحياة السياسية والاجتماعية. وبدقة أكبر ألا يمكن لفطرية “دوافع الموت “ أن تكون أيديولوجية رجعية تسعى إلى إخفاء أسرار العنف الكامن داخل البنى الاجتماعية، أو إلى تبرير العنف والعدوان والبؤس الاجتماعي.

حاول كثير من الباحثين التأكيد على أن نظريات فرويد كانت صيغة فكرية للأيديولوجية السائدة في عصره، ولا سيما هذه التي تعبر عن وضعية المجتمع الصناعي. وأفضل مثال على ذلك ما نجده في السوسيولوجيا المعرفية عند ريسمان David Resman الذي يدرس الاتجاهات الرئيسة في فكر فرويد ويبين إلى أي حد تبدو جدية فرويد في أعماله وإلى أي حد كان يغلب عليه طابع السخرية والهزل.

ويجدر بنا في هذا السياق أن نشير إلى نقد فروم Frommالذي يوجه انتقاداته إلى رأي فرويد في التوازن بين مبدأ الواقع ومعايير المجتمع الأبوي المستغل. لقد استطاع فرويد أن يصف بدقة أن هدف التحليل النفسي، وأن يعلن بأن التربية هي مساعدة الفرد على أداء حياة متوازنة قدر الإمكان ومساعدته على تحقيق التكيف في عمله. إن تأكيده على الضرورة وشكوكيته في المحاولات الثورية توحيان بأنه كان متأثراً بمثاليي مجتمع يسيطر فيه ما يسميه ماركوز Marcuse مبدأ الريع والعائدات Principe de rendement.

ينطوي التحليل النفسي على مفهوم " تحليل عقيدة التحليل النفسي " Analyse de la doctrine de la Psychanalyse. وعلى سبيل المثال يمكن الربط بين مفاهيم عديدة مع مفهوم الضرورةNécessité e والمركب الأبوي Complexe paternel عند فرويد. وفرويد نفسه يقدم إمكانية مثل هذا التفسير وذلك عندما يحاول البرهنة على أن القدر (المصير)Destin هو إسقاط للصورة الذهنية الأبوية، أو انه تجسيد مادي للأنا الأعلى. ونحن هنا لن تتوغل في هذا المسار المحفوف بالمصاعب.

نعتقد أن نظرية فرويد التي لم تصل إلى كمالها قابلة لرؤى نقدية كما يقول فرويد نفسه. وهي بنفسها قادرة على إجراء سلسلة من التصفيات الخاصة بطروحاتها. فالمفاهيم الفرويدية تقود في نهاية المطاف إلى طرح تساؤلات ذات طابع راديكالي. وإذ يلاحظ أن فرويد يتبنى منهجا يعتمد على التحديد الموضوعي وعلى رفض التلميحات الغامضة في نسق توجه دائم نحو نزعة نقدية. وذلك كله يجعلنا نعترف بأن التحليل الماركسي الذي تناول الجوانب العلمية لنظرية التحليل النفسي يبرر وجودها ويقف في عونها نحو نمو يقظ.

خلاصة:

في رسائله إلى ماري بونابرت Marie Bonaparts في مغرب حياته بصدد العدوانية يعلن فرويد أن هذا الموضوع لم يحظ بالأهمية الكاملة، وأن هذا الإهمال يتبدى في الكتابات السابقة التي عالجت المسألة بطريقة فجة وسطحية وهي كتابات لا تستحق الانتباه.

لقد حاول مؤسس التحليل النفسي أن يضع إطارا تفسيريا قادرا على تحجيم أوهام العقل وإسقاط أقنعة الرغبة. وحاول في هذا السياق أن يرسم خداع الآيروس Erose ومع ذلك فإن منهجه في التفسير يسمح أيضا بالاعتراف بعمل تاناتوس Thanatos الذي يجري بصمت.

لقد بينت محاولاته كيف يمكن للرغبة أن تسيطر على الذكاء، وهو في هذا الاتجاه يسلط الضوء على الأشكال المعقدة لبنية العنف، ويسعى عبر هذه المحاولات إلى رسم حدود العلاقة التي تربط الفرد بالجماعة. ومن هذا المنطلق فإن فرويد يأخذ مكانه بين المفكرين الذين عملوا على تفسير حوادث القرن العشرين مثل ماركس Marx ونيتشه Nietzsche وهو كسابقيه (ماركس ونيتشه) أبدع طريقة جديدة في التحليل حظيت بإعجاب الجميع واحترامهم. حيث قدر له أن يتناول الحقائق الجوهرية لعصره وبين أن الافتراضات القائمة والتفسيرات الجارية مجرد أوهام أو أكاذيب.

لقد قدر لفرويد- كماركس ونيشته - أن يسقط القناع عن العدوانية والعنف المجهول الناجم عن الإرادة الطبيعية والروح النبيلة. لقد بين نيتشه كيف يُصنَّع العبيد بآلية ضعفهم وكيف ينظم هؤلاء العبيد رؤيتهم للخير والشر من خلال هذه الفضيلة: فضيلة الضعف الوجودي الشامل. أما ماركس فقد أدرك عبر دراساته الاقتصادية علاقات الفائدة والربح والسيطرة. أما فرويد فإنه استطاع أن يعلّمنا الطريقة التي نصغي فيها إلى نداء الليبيدو Libido والكراهية La haine وكيف نكتشف خداعهما. وأنه لمن المؤكد أننا نستطيع أن نجد تأملات من هذا النوع عند باسكال وعند روشوفلد Rochefould وعند فولتير Voltaire ومع ذلك يمكننا القول إن التفسير العلمي لهذه الظواهر بدأ يتكون في مطلع القرن العشرين على يد فرويد الذي يعتبر وبدون منازع وأحدا من أبرز أنصار التفسير العلمي للسلوك الإنساني.

ولم يتوقف فرويد عند حدود الكشف عن شيفرة العنف ورموزه. بل تعدت جهوده حدود الكشف إلى مقامات التفسير. لقد قدر فرويد عاليا رأي أناتول فرانس Anatole France الذي أصاب كبد الحقيقة عندما كتب يقول " إنه لمن الصعب جدا لرجل يملك السلطة أن يمتنع عن الإفراط في ممارستها.

يبين فرويد، في إطار النص المخصص لعلم النفس الذي وصف بالتوحش بأن المعالج يرتكب خطأ كبيرا وذلك عندما يفاجئ المريض بتنبؤاته. وهنا هذا الخصوص يرسم فرويد الطريق نحو نظرية متكاملة للممارسة التحليلية. حيث يطالب تلامذته أن يمارسوا نوعا من التحليل الذاتي لسلوكهم وبواعثهم اللاشعورية التي تحركهم.

لقد علمنا مؤسس التحليل النفسي بأنه يجب أن نسمع الكلمات من خلال الحروف، وأن الإشارة البسيطة جدا تنطوي على دلالة تتكلم. يقول مالديني Maldiney في هذا الخصوص" إن التحليل النفسي يتهيأ دائما ليأخذ الآخر من خلال الكلمة والإشارة وأي تعبير وذلك لأن هدفه ليس أن يأخذ المرء بل أن يفهم. وتأسيسا على هذه المنهجية ظهرت استراتيجية تحليل نفسي صارمة تعتمد الصرامة النفسية والتشدد. وهي مواقف ليس له أية علاقة مع الموقف الذي بدأه فرويد وسار على هديه. فالتحليل هو من حيث المبدأ استسلام كلي لسماع ما يقوله المريض وإدراك للدلالة وسعي إلى تحرير اتجاهات جديدة للمعاني من أجل إيصال المريض إلى حقيقته الخاصة.

لقد دشن فرويد نموذجا علاجيا يذكرنا فيه " بأنه لا يجب أن نرد على الحديث العنيف بالعنف بل الاستماع والاحترام والمسالمة، وبالتالي فإن عالم النفس - الذي يهتدي بإضاءات هذا النموذج - يدرك بأن العدوانية والعنف هما فخان لا يجب عليه أن يمتلك إزاءهما ردود فعل وفقا لاندفاعاته الأولية الساذجة. إذ يجب عليه أن يستمع دون حكم الأفكار المسبقة، ودون انفعال ويتوجب عليه إزاء العنف الذي يبديه المريض أن يتخلى عن القول المنظم وعن قوة التدخل. فهو يشاهد لعبة العنف ولكنه يدرك جيدا أن العنف مجرد إشارة وأن الخوف والعدوان يتلاشيان عندما يجد المريض كلماته المناسبة للتعبير والاستماع.

لقد حاولنا أن نحلل المعطيات الأساسية لفرويد حول العدوانية ولم نشأ أن ننهك أنفسنا في عرض نصوص أدبية أو نقدية. وعندما يريد أحدنا أن يعرف ما يقوله فرويد حقاً عليه أن يلجا من البداية حتى النهاية إلى أعمال فرويد الأساسية في هذا الخصوص وسيدرك بعمق وأصالة هذه المعاناة العلمية التي أحاطت فرويد من أجل بناء رؤيته العلمية إلى مسألة العنف والعدوان.

لقد شاهدنا واستمعنا كثيرا قبل أن نأخذ موقفا من نظرية فرويد في العدوانية. لقد جاء موقفنا من فرويد على صيغة حوار كما يحدده دومينيك (Dominique Pir) قائلاً: "يجب على كل واحد منا أن يضع جانبا ما هو عليه وما يفكر به وذلك من أجل فهم وتقييم وجهة نظر الآخر إيجابيا وذلك من غير أن يشاركه الرأي".

"ومع ذلك كله فإننا لا نريد أن نصنف أنفسنا بين هؤلاء التلاميذ الذين اندفعوا بكل حماس ليرددوا بطريقة قهرية ما قاله المعلم، وكأن أقواله وتعاليمه نهائية وإلى الأبد. هؤلاء التلاميذ يتابعون النظر إلى نصوص فرويد بوصفها نصوصا مقدسة تمتلك على المعرفة المطلقة، وهم ينتهون بذلك أيضاً إلى الاعتقاد بأن البحث التحليلي المعاصر توجهه الحكمة القائلة "أنا موجود إذن أنا أفكر" فنحن نعلم اليوم أن فرويد الذي قضى حياته برمتها وهو يتساءل يدعونا اليوم وعلى خلاف ما ذهب إليه هؤلاء إلى موقف معارض هو تجاوز الأفكار الأولى المكتسبة ثم إعادة تشكيلها وإعادة بنائها"

ونحن في النهاية ندرك بأنه لا يمكن لجميع عناصر نظرية ما أن تكون قد برهنت واختبرت على نحو كلي، وندرك أيضا أن خصوبة نظرية ما مرهونة في نهاية الأمر بمدى رقيها التجريدي، ومدى تماسكها المنطقي، ومدى امتلاكها للمفاهيم المعقلنة والمفاهيم القابلة للملاحظة، ومن غير ذلك فإن النظرية تتحول إلى ميثولوجيا أسطورية أو إلى نوع من الخطابة البلاغية.

***

علي أسعد وطفة

كلية التربية – جامعة الكويت

................

هوامش المقالة ومراجعها:

[1] Sigmund FREUD, Moïse et le monothéisme, traduit par Anne Berman, Paris. Gallimard. P 75.

-[2]Jacques Van Rillaer: L’agressivité Humaine , Ed. Pierre Mardaga , Paris, 1988.

[3] علاء اللامي، خرافة العنف الدموي في ضوء العلوم الحديثة: رؤية تحليلية في غرائز التدمير والانتقام والحروب، مجلة الزمان الجديد، العدد 36، ديسمبر/كانون الأول، 2002، صص 68-81، ص69.

[4] - Dollard J., DoobL., Miller N., Et Autres, Frustration et agression, University Press 1939.

[5]- FREUD (S.) Totem et tabou, trad. S. Jankélévitch, 7e éd. Payot, Paris, 1977.

[6]- النرجسية Narcissisme عشق الذات: يقصد بها التحليل النفسي تلك المرحلة التي يتميز بها الفرد إلى اتخاذ الفرد إلى اتخاذ ذاته موضوعا لعشقه. وهو ميل يشتد في الحالات المرضية وخاصة الأمراض العقلية. في الأسطورة القديمة كان نارسيوس مأخوذا بجمال صورته التي تنعكس ماء النبع الذي سقط فيه، ثم تحول إلى زهور تحمل اسمه كما تقول الأسطورة القديمة.

[7] - FREUD (S.), Considérations actuelles sur la guerre et la mort, [1915], in Essais de psychanalyse, Payot, Paris,1981.

[8] - الاكتئاب Mélancolie: مرض عقلي من أهم أعراضه انخفاض النشاط الحركي والانطواء وانعدام الاهتمام بالعالم الخارجي والأرق والرغبة في الانتحار.

[9]-Freud S., «Au-delà du principe de plaisir» [1920], in Essais de psychanalyse , Payot, paris,1981.

[10] -FREUD (S.), L’Avenir d’une illusion, trad. M. Bonaparte, 5e éd., P.U.F., Paris, 1980.

 

من أعجب العجب أن تتقدّم العلوم الكونية والعلمية ويتأخر العلم بالإنسان، وربما كان موضع العجب في تلك الصعوبات التي تمَّ منذ القدم “تجهيل” الإنسان من أجلها : تجهيله بحقيقة ذاته، فهو لن يعرف سرَّ الحياة ولا سرّ الموت أبداً، ولم يدرك أبداً سِرَّ الرُوح الإنساني، ولن يعرف شيئاً من أسرار التكوين البشري. إنّ علم الإنسان بالإنسان متأخرُ جداً عن علم الإنسان بالطبيعة والفلك والكيمياء والميكانيكا والأسلحة النووية والبيولوجية!

صحيحُ أن هنالك محاولات شاقة ومُضنية بُذِلتْ من جانب العقل البشري لمعرفة الحقائق الكبرى، ولكن المدى لا يزال بعيداً، والوصول إلى سرِّ الحياة يكاد يكون من المستحيلات، وذلك لأن تركيب العقل نفسه – فيما يقول برْجُسون – يتصفُ بعجز طبيعي عن فهم الحياة. فلا يعني مطلقاً تقدُّم العلم المادي معرفة الإنسان نفسه بنفسه؛ فتأخُّرُه في هذا المجال مقدَّمُ على تقدُّمه في العلم المادي.

لكن القرآن الكريم عنى عناية بالغة بالإنسان، والتفكير في الدّين مجموعٌ بين دفتي القرآن ومحمول عليه، يتحرّك في إطاره ولا يخرج عنه. وما من تفكير في الدين لا يمسّ القرآن في صميم الصميم لا يعوّل عليه؛ لأنه بالحقيقة يبني الإنسان من جهة النفس والعقل والقلب والروح والسر كما يبنيه من جهة البدن والهيئة والجسم والقالب سواء.

ولا بدّ لقائل أن يتسأل فيقول : إذا كان التفكير في الدين نفسه أوسع عناية وأشمل خطاباً من الدين الإسلامي وأعمّ من ذلك بكثير من حيث إنه يتجاوز القرآن إلى سائر الأديان الكتابية الأخرى السابقة عليه من يهودية ومسيحية، ناهيك عن الديانات الغير كتابية ممّا تضمّنه الفكر الشرقي القديم في مصر والهند وفارس والصين وغيرها من أمم الأقوام البدائية والحضارات السالفة، فهل يجوز على هذا كله، اختزال كل تفكير في الدين في الإسلام فقط أو في الدّين الإسلامي، وهل يقتصر التفكير في الدين على الإسلام وحده أو على القرآن، مُهملاً بذلك سائر الأديان والعقائد الأخرى؟

بداهةً؛ لا يمكن لقارئ لديه أدنى اضطلاع على مقارنة الأديان، ولا لباحث في القرآن على التعميم، أن تغيب عنه مثل هذه اللفتة، فإنّ الفرق كبير جداً بين تراث بشري قام على الدين، وبين أصل الدين نفسه حين أظهره الله تعالى بالهدى ودين الحق على الدين كله. غير أن المنطقة التي نتحدّث منها ولا نغفلها لم تكن بغائبة عن هذا التفكير في الدين عموماً، وعلينا من ثمّ تحديدها بما يناسب علّة هذا التفكير في الدين، وبما يخضعه لها من حيث كونها مبعث شمولٍ لحركة الوعي الخاصّ بها على الجملة فضلاً عن التفصيل.

لم تكن منطقة الإظهار في القرآن بالمنطقة التي ينفصل فيها الوعي الكوني عن هيمنة المقدّس واحتوائه.

ــ منطقة الإظهار:

في القرآن الكريم نقرأ قول الله تعالى :”هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، وكفى بالله شهيداً” (الفتح : 28). لا حظ التعقيب أنه سبحانه أشهد نفسه على هذا الإظهار كما أشهدها على الإرسال. وقوله تعالى : “هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، ولو كره المشركون ” (التوبة : 33، والصف : 9). ولا بدّ لهم من كراهة. ويشدّد على نفس الآية في سورة الصف في حين لم يذكر آية سورة الفتح إلا مرة واحدة، ولم يكررها كما كرر التعقيب “ولو كره المشركون” مرتين في التوبة وفي الصف، فهو سبحانه إذ أرسل رسوله بالهدى ودين الحق أشهد نفسه على الإرسال والإظهار؛ فأعجز وتحدى، ولم يكررها في القرآن كله في حين كرر التعقيب “ولو كره المشركون” في آية التوبة وآية الصف، لتوكيد الإعجاز وتشديد التحدي، وتكفي شهادته سبحانه على منطقة الإظهار : أشهد نفسه على حكمه، وتحدى وأعجز، وكفى بالله شهيداً.

أما كراهة المشركين للإرسال والإظهار في آيتين؛ فتنبيه لتحدي الإعجاز : إظهار دين الحق على الدين كله.

من هذه المنطقة يظهر الدّين الحق برسالة الرسول الخاتم مهيمناً على سائر الكتب السماوية الأخرى بمطلق ما جاء فيه من هدى، ومن دين الحق. وعليه؛ يصبح التفكير في الدين هو بالأساس تفكيرٌ في القرآن مع كفاية الله للشهود الذي أرسل، وللهداية التي أوجب، وللدين الحق الذي ارتضاه.

وما دام تفكيراً في القرآن فهو لا شك تفكير يصدر عن منطقة الإظهار. تلك المنطقة التي أرسل الله منها رسوله بالهدى ودين الحق؛ ليظهره على الدين كله؛ فالتفكير فيها ومنها هو تفكير بهذه المثابة في الدين كله، لكن ليس أي دين ولا كل دين بل دين الحق، بمشكاةٍ من الوعي النبوي، على هداه، وعلى شرطه، لا على هدى غيره ولا على شرط سواه.

لم يكن تفكيرٌ في الدين بخارج عن منطقة الإظهار. ومنطقة الإظهار هذه هى أكمل درجة تتحقق فيها الخاصّة الذاتية للقرآن لتستولي على جميع الخصائص الذاتية فيه؛ لأنها منطقة الوحي الذي أظهر الله فيها رسوله بالهدى ودين الحق ولأن الدين إذا كان فيه الحق ففيه الباطل الذي خضع لتحريفات أصحابه وتبديلات رؤسائه.

غير أن الإسلام ظهر من منطقة الإظهار بدين الحق وكمل بهذا الظهور هدى، ثم هيمن بالرقابة والنقد والتصحيح على ما سبق من أديان، هيمن عليها بإضافة وجه الحق منها واستبعاد الباطل الذي تم تشويهه بأيدي رجاله ممِّن أقاموا فيه قيام الأوصياء. وفي منطقة الإظهار التي أرسل الله فيها الوحي الإلهي، نزل بالقرآن الروح الأمين على قلب رسول الله صلوات الله وسلامه عليه؛ ففي القرآن خلاصة الكتب السماوية المتقدّمة. وقد جاء بالناموس الأعظم لكمال الحالتين الدنيوية والأخروية، وآخى بين طبيعتي الإنسان الجسدية والروحية، وأنه أنزل للعالمين أجمعين، وروعيت فيه مصالحهم على قسطاس مستقيم. وقد رُبيت على أسلوب هذا القرآن أمة قبل بضعة عشر قرناً؛ فنالت به على مدى سنين قليلة ما لم يصل إليه غيرها في القرون العديدة، وبلغت من بسطتي العلم والملك، ما لم يتهيأ لغيرها في مثل الزمن القصير الأمد.

وبما أن الإسلام آخر الأديان الموحاه فقد امتاز على غيره امتياز الأخير من كل شيء؛ فأصبح له على سائر الأديان امتيازاً؛ لأن الأخير من كل شيء مزيّة ليست لما تقدّمه. وقد صرح القرآن الكريم أن محمداً رسول الإسلام آخر المرسلين، وأنّه أرسل للناس كافة أجمعين :” وما كان محمدٌ أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم المرسلين” (الأحزاب :40) ..”وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيراً ونذيراً” (سبأ : 28). وهذا ما لم يصرح به كتاب منزل حتى الكتب الموجودة بيننا للآن، فقد يؤخذ من كتاب “بوذا” أنه أرسل لإصلاح ديانة البراهمة. ويؤخذ من كتاب “موسى” أنه أرسل لبني إسرائيل. وكذلك كتاب عيسى عليه السلام بأنه أرسل إلى بني إسرائيل أيضاً. فلم تكن هنالك دعوة في هذه الكتب إلى أمم العالمين. ولكن نبوته صلوات الله وسلامه عليه، عامة، تامة، شاملة، عالمية. وهذا ممّا يجب أن يلفت النظر لدين الإسلام ولنبي الإسلام، ويجعل له مزية على غيره من الأديان. وبما أن الإسلام دين عام فقد شرّعه الخالق لربط الشعوب، أبيضها وأصفرها وأحمرها وأسودها.

محا الله امتيازات الأجناس والعناصر بمنطقة الإظهار والهيمنة، فأرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، ولو كره المشركون، فلم يعد من هدى ولا من دين الحق سوى دين الإسلام ونبي الإسلام. أمّا من حيث الهيمنة، فإنَّ القرآن الذي نزل بالحق أشتمل على الصحيح الثابت من الأحكام وهو مصدق لما بين يديه من الكتب السماوية السابقة كالتوراة والإنجيل، وهو مُهيمن عليها، رقيباً وشاهداً على ما سبقه من الكتب، يقرُّ الحق ويظهر خطأ ما حرَّفوه : “وأنزَلْنَا إلَيكَ الكتابَ بالحق مُصَدِّقاً لِمَا بينَ يديه من الكتاب ومهيمناً عليه؛ فَاْحْكُم بينهم بما أنزل اللهُ، ولا تتَّبع أهواءَهم عمَّا جَاءَكَ منَ الحق، لكل جعلنا منكم شرعةً ومنهاجاً، ولو شاء الله لجعلكُم أمةً واحدةً ولكن ليَبلُوَكُم في ما آتَاكم، فاستبقُوا الخيرات، إلى الله مرجعُكُم جميعاً فيُنبّئُكُم بما كنتُم فيه تَختَلفُونَ” (المائدة :48).

وفي حديث ابن عباس أن بعض علماء اليهود قالوا : يا محمد : نحن أحبار اليهود، ولو اتبعناك لاتبعك اليهود كلهم، وإنّ بيننا وبين أناس من قومنا خصومة، ونريد أن نتحاكم إليك، فإنّ قضيت لنا أعلنا صدقك. فلم يقبل عليه السلام فأنزل الله فيهم ذلك إقراراً له على ما فعل.

قضى الإسلام بما تقرّر في كتابه العزيز من أوامر ونواهٍ على العصبيات، وقرّر مبدأ المساواة العامة، وصرح بأن الإنسانية كلها في ظل هذا الدين أسرة واحدة، أبوها آدم وأمها حواء، وأنه ما صارت شعوباً وقبائل للتنازع وللتقاتل ولكن للتعارف ولتبادل المنافع، فقال تعالى مخاطباً النوع الإنساني كله :”يأيّها الناس إنّا خلقناكم من ذكر وأنثى، وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا، إنّ أكرمكم عند الله أتقاكم” (الحجرات : 13).

ومن منطقة الإظهار هذه، قصد القرآن تربية الإنسان؛ ليكمل بنيانه الجسدي والروحي والعقلي والنفسي والخُلقي، وجعله صالحاً لمواجه ضروب الحياة المنوعة بكل ما فيها من حق وباطل، ومن خير وشر، ومن رزيلة وفضيلة، ونهج في تربيته مناهج يجب تمييزها جملة، ثم مشارفتها تفصيلاً، وفيما أشار الأستاذ الفاضل محمد فريد وجدي في مقدمة المصحف المفسر، فقد خاطب العقل، وناجي العواطف، وحاسب السرائر، وآخذ الضمائر، وأدب الحواس، وهذّب الملكات، وعدّل القوى، وقرر العقائد، ودعمها بما يناسب كلا منها من براهين، وحكى حال العالمين من حيث الدين، وأرى مواقع البطلان من معتقدات سائرها، وقاد الكتائب، ودوّخ الممالك، ومَصّر الأمصار، وشيّد المدنية الفاضلة، وسنّ الشرائع الكاملة، ووضع دستور الحكومة، وصبّ الأمة على قالبه المحكم، ووضع للمعاملات ناموسها، وشرع للبصيرة شرعتها، وركب للأفئدة علاجها، وخاطب كل نفس على قدر وسعها، وأتى بذلك كله منثوراً في السور على النحو الذي أراد الله عز وجل، بحيث إن بعضه يكمل بعضه الآخر ويوضحه، أو يرى وجهاً آخر منه.

ولا شك كان المقصد السامي الذي نزل القرآن من أجله فأصابه (هو تربية الإنسان تربية صحيحة، وإبرازه أمام الوجود بشراً سويّاً، حاصلاً على كمال طبيعته الجسدية والروحية، متمتعاً بجمال حالتيه الصورية والمعنوية، وهو لأجل إبلاغ الإنسان هذه المكانة العليا عملياً فعلياً، لم يتوجه إليها من قبيل النصائح المجرّدة، والمواعظ العارية؛ بل حاولها من كل مظانها العمليّة؛ بإدخال الإنسان في مقتضياتها ولوازمها، وتوريطه في متعلقاتها وأسبابها؛ ليدفع الإنسان إليها اندفاعاً طبيعياً قسرياً؛ ليكون في كماله الديني سائراً على منهاج كماله الجسمي كيما يكون مسوقاً بنواميس طبيعة لا يستطيع أن يتخلص منها.

ومعنى هذا أن القرآن من منطقة الإظهار كاشف لقارئه عن خصائصه الذاتية التي توجد فيه وحده ولا توجد في سواه، وأنه في أمره لنا أن نتديَّن بالدين الحق الذي لا يقاربه باطل لأنه مرسل بالهدى على حكم الاعتقاد؛ لم يتركنا عند الأمر بالتدين وكفى نؤوله كما نشاء؛ بل علمنا كيف نبحث عنه، وهدانا للأعلام التي تستدل بها عليه، وعيّن لنا القسط الذي نستطيعه من إدراكه، ونصب لنا ميزاناً نزن به محصول الفكر والنظر في جميع ما ذكر.

(وللحديث بقيّة)

***

بقلم: د. مجدي إبراهيم

هل للإنسان إمكانية القيام بالفعل والاختيار باراته الحرة، أم أن هناك قوة غيبية تجعله مجبرا على أفعاله واختياراته؟

عودة إلى نقاش قديم الجواب الكلامي الإسلامي، في تصورات لاتجاه الاعتزالي والأشعري أنموذجا، من خلال الدراسة التحليلية للدكتور عبد الحكيم أجهر1.

لن نختلف إلى حد ما أن الممارسة الكلامية لم تكن ممارسة لاهوتية في جوهرها وأساسها، إذ حاولت أن تتجاوز تلك القضايا والإشكالات اللاهوتية التيولوجية بمعناهما التقليدي وتوسلت بالمناهج الفلسفية العقلية المنطقية خلال انفتاح الحضارة الإسلامية على الثقافات الأخرى، خاصة اليونانية وما أبدعته في مجال المنطق؛ طبعا في مرحلة نضج الممارسة الكلامية. ومن بين الإشكالات التي أثارت الفكر الإنساني منذ قرون هي إشكالية العناية الإلهية بالعالم، وبتعبير آخر هل الصانع حينما أبدع هذا العالم هل وضعه تحت عنايته أم لا؟ وهذا الإشكال سيعبر عليه في التراث الكلامي بمسألة الاختيار والجبر، بعبارة أخرى هل الإنسان مجبر على اختياراته ومسير في كل أفعاله، أم أن له حيز من الحرية والإرادة؟

لقد حاول العديد من الفلاسفة والمفكرين بل حتى الفقهاء ورجال الدين الإجابة عن هذه الإشكالية، وطبعا معهم العديد من المتكلمين، ومادام القرآن والسنة هما مصدري التشريع لدى المسلمين، ومادام علم الكلام كما قيل عنه "قنية2 إسلامية خالصة" فقد لجأ المتكلمون لهما، أي للقرآن والسنة، كمحاولة للإجابة عن هذا الإشكال. ولكن ما واجههم في البداية هي إشكالية التناقض والتعارض بل التضاد الظاهر بين الآيات القرآنية، ولهذا وجدوا أنفسهم مضطرين لإعمال التأويل لرفع كل تناقض وتعارض ظاهر، وكان من نتائج ذلك أن كل فرقة كلامية قادتها مسألة التأويل إلى نتائج مخالفة لنتائج الفرق الأخرى رغم انطلاقهم من نفس العقيدة.

إن الذين يقولون بالجبرية يعودون إلى النصوص الدينية التي تؤكد على أن قدرة الله قدرة مطلقة في العالمين السماوي والأرضي، والذين يقولون بالإرادة يعودون كذلك للنصوص التي تدعم تصورهم. وانطلاقا من ذلك فإن الطائفة الأولى ترى أن الإنسان مجبر في كل أفعاله واختياراته؛ واستدلالهم على ذلك أننا إذا نسبنا للإنسان القدرة على الفعل وقلنا إنه هو الذي يفعل فمعناه أنه يخلق، وبالتالي سيكون مشاركا لله في الخلق، وتجنبا لهذه النتيجة التي هي مناقضة لصفة من صفات الله، ومخالفة لأصل من أصول العقيدة أرجعوا كل الأفعال إلى الله. أما الفرقة الثانية فإنها تقر بالإرادة الإنسانية الحرة واستدلالهم على ذلك أننا إذا أقررنا بالجبرية فإننا سنسب إلى الله الظلم، إذ من الغير المعقول أن يحاسب الله عبدا على فعل لم يرتكبه بإرادته. وكما هو معلوم فإن من التوحيد أن ننزه الله عن كل الصفات القبيحة، وفي مقدمتها صفة الظلم، ومن العدل أيضا أن ننزه الله عن القيام بالأفعال القبيحة وفي مقدمتها أن يظلم عباده بعقابهم على فعل لم يرتكبونه، وبذلك أقروا بالعدل الإلهي كي يتجنبوا مخالفة أصل من أصول العقيدة.

لقد تركت لنا الحضارة الإسلامية إرثا كلاميا فلسفيا منطقيا كبيرا بخصوص هذه الإشكالية، وإذ سنشير فيما يلي لتصور كل من المعتزلة والأشاعرة فإننا بذلك لا نحاول أن نقزم من شساعة التصور الكلامي للفرق الكلامية الأخرى، لأن المسألة تحتاج إلى وقت وجهد وتفرغ للبحث، لذلك سنقتصر على فرقتين بارزتين أشار لهما الدكتور عبد الحكيم أجهر في الفصل الأول من كتابه3.

لقد اختلف المعتزلة مع الأشاعرة في مسألة قدم أو حدوث صفة الإرادة، بحيث عرفها المعتزلة بأنها "ما يتم التخصيص بها، تخصيص وقوع الفعل على وجه دون وجه" وبذلك اعتبروها مخلوقة أو حادثة لأن القول بأزليتها يشمل تعلقها بأفعال الشر والقبح في العالم، باعتبار أن المعتزلة يربطون بين الإرادة والفعل، ذلك لأن جميع أفعاله يجب أن يريدها لكونها أفعال خيرة وأنه لا يصدر عنه إلا ما هو حسن، وبالتالي تصبح الشرور والقبائح في العالم من مسؤولية الإنسان وليس الله، أي أنها تنسب للإنسان وليس لله. وعلى خلاف ذلك فإن الأشاعرة قالوا بقدم الإرادة واعتبروها شاملة ومطلقة مثلها مثل القدرة والعلم. إن أفعال الله حسب التصور الكلامي الأشعري لا يرتبط بما هو أصلح فقط بل يرتبط بكل ما هو حسن وقبيح، ذلك أن إرادة الله إرادة شاملة ومطلقة لكل شيء، لأن القول بعكس ذلك يقودنا لاعتبار أن الله مستكرها ومغلوبا لأن البشر قد يرتكبون بعض المعاصي التي حرمها الله عليهم وبالتالي إذا نفينا شمولية إرادة الله فإن الله بذلك سيكون مغلوبا ومستكرها.

أما بخصوص القدرة الإلهية كصفة فقد أجمع جل المتكلمين على قدمها وأزليتها. كما اتفق المعتزلة فيما بينهم على مبدأ أساسي وهو قولهم باستحالة مقدور بين قادرين، بمعنى أن الفعل الواحد لا يمكن أن يقوم به أكثر من فاعل واحد وهذا الفاعل الواحد إما أن يكون الله وإما أن يكون الإنسان ولا يجوز القول بأنهما يشتركان في الفعل الواحد لأن أي محاولة للإشراك بينها سيؤدي حتما إلى تقليص دور القدرة الإنسانية، وبالتالي ستطرح إشكالية المسؤولية الأخلاقية في العالم وعن أصل القبح والشر. من دون أن يعني هذا أن القدرة الإنسانية هي قدرة لها استقلالية مطلقة باعتبار أن مصدرها هي القدرة الإلهية ذاتها، هذه القدرة الأخيرة توزعت في العالم حقيقة وليس مجازا وحينما تقبع هذه القدرة أو القوة الإلهية في محل ما في العالم، يصبح هذا المحل فاعلا بتلك القدرة ومتصرفا بها على نحو مستقل.

كما اتفق معظم المتكلمين على أن الإنسان لا يستطيع القيام بأي فعل حتى تتوفر فيه الاستطاعة للقيام به، والاستطاعة هو عرض يخلقه الله في الإنسان ليصبح قادرا على القيام بالفعل، ولكن في المقابل إختلفوا في إشكالية الزمن، أي الوقت الذي يخلق فيه الله عرض الاستطاعة هذا، فالأشاعرة وغيرهم من الفرق الكلامية كالطحاوية والماتريدية أقروا بأن الله يخلق عرض الاستطاعة في الإنسان مع نفس الوقت الذي يقوم فيه بالفعل، وبذلك أبدعوا مفهوما جديدا في الممارسة الكلامية وهو مفهوم "الكسب" ذلك أن الإنسان قبل قيامه بأي فعل يحتاج لعنصرين أساسين وهما الإرادة والقدرة، فأما الإرادة فهي من الإنسان وأما القدرة فإنه يكسبها من الله وبالتالي فإن الكسب هو منزلة بين منزلتي الجبر والاختيار، باعتبار الحرية التامة والمطلقة هي لله وحده كما أن الإنسان ليس مسيرا ومجبرا في كل أفعاله واختياراته، وبالتالي تكون نتيجة ذلك أن الإنسان يتحمل كامل مسؤوليته في قيامه بأفعاله دون أن يؤثر ذلك على إرادة وقدرة الله. أما المعتزلة فقد اعتبروا أن الحرية والإرادة الإنسانية هي لطف ثان من الألطاف الإلهية بعد لطف العقل والنقل وفي ذلك يتجلى عدله تعالى بأن لا يعاقب عباده إلا بعدما يهب لهم العقل ويرسل لهم الرسل ويهب لهم الإرادة ويحاسبهم بقدر القدرة التي وهبها لهم، ويستدلون على ذلك أن الله إذا كان يسير العبد في كل أفعاله فهذا يعني أن الذي يعصي الله يطيعه وأن المؤمن والغير المؤمن كلاهما يطيعان الله والأكثر من ذلك أن الغير المؤمن يكون يوم القيامة مستحقا للثواب بدخوله للجنة لأنه أطاع الله. وبذلك قالوا المعتزلة بأن عرض الاستطاعة يخلقه الله في الإنسان قبل قيامه بالفعل بزمن، وهذا الزمن يخول فيه للإنسان القيام بالفعل وممارسته سواء القيام بنفس الفعل أو بضده أو حتى تركه.

وانطلاقا من كل ذلك فإن الأشاعرة قد وقفوا موقف وسط بين "النقيضين" وذلك حينما اعتبروا أن القدرة مخلوقة من الله لأن الله خالق لكل فعل بوصفه الخالق المباشر للقدرة، كما أن الله هو من خلق الإنسان وكل ما يصدر عن هذا الإنسان إنما هو مخلوق من عند الله، دون أن يعني هذا أن الأشاعرة يعتبرون أن الله هو من يقوم بالفعل بدلا من الإنسان أو أن الإنسان مقصي من الفعل تماما، ذلك أن الفعل يعود للفاعل. إضافة لذلك فإن تأكيدهم على أن الاستطاعة يتم فقط زمن القيام بالفعل ووقوعه يتم من خلاله ضمان شمولية القدرة الإلهية وعدم استقلال القدرة الإنسانية عنها. وبذلك سيؤكد الأشاعرة على أن القدرة الإنسانية ليست قادرة على الإحداث والإيجاد ولكنها مؤثرة بوصفها امتداد للقدرة الإلهية ذاتها عكس المعتزلة، خصوصا تصور أبي علي الجبائي، حيث أكدوا أن القدرة الإنسانية تمكنه من الخلق والإبداع وهي قدرة فاعلة حرة مستقلة عن مصدرها، أي عن القدرة الإلهية.

***

يونس موحيا - باحث مغربي

الكلية متعددة التخصصات الناظور، جامعة محمد الأول بوجدة

...................

1- عبد الحكيم أجهر، التشكلات المبكرة للفكر الإسلامي وتحولها الى أنساق عقلية دراسة في الأسس الأنطولوجية لعلم الكلام الإسلامي، المركز الثقافي العربي، (ط1)، الدار البيضاء، المغرب، 2005.

2- بمعنى أن علم الكلام نشأ في البداية من رحم الثقافة الإسلامية قبل أن ينفتح على التراث الأجنبي، اليوناني بالخصوص، لذلك فهو علم إسلامي خالص.

3- عبد الحكيم أجهر، (م س)، ص 43 وما بعدها، ص 73 وما بعدها.

"لا بد من مسحة جنون في عقل الحكيم" (أرسطو).

"لكل حصان كبوة ولكل صارم نبوة ولكل حكيم هفوة" مثل سائر

1- مقدّمة: لم يعرف الفكر الإنساني نظيرا للسمو الأخلاقي الذّي نجده في فلسفة كانط وأعماله، وقد لقب بفيلسوف الواجب الأخلاقي لإبداعاته الرّائدة في تقديم نظرية أخلاقية لا مثيل لها في تاريخ الفكر الإنساني. وقد تجلت مواقفه الفلسفية الأخلاقية في جليل أعماله وعظيم مؤلفاته ولا سيّما في كتبه: "أساس ميتافيزيقا الأخلاق ((1785[1]ونقد العقل العملي (1788)[2]، وميتافيزيقا الأخلاق (1797)[3]. وبرز هذا الاتّجاه أيضا في كتابه "رسالة في الأخلاق والدين"[4]، كما تناول هذا الجانبَ في كتابه المعروف" في التربية"(On education) وكرّس أهم محاوره للتربية الأخلاقية، وقد اتّضحت هذه الأخلاق في كتابه السلام الدائم "Perpetual Peace"(1795)[5]. وكان هذا الموضوع الأخلاقيّ متواترا في معظم أعماله غالبا عليها بصورة مستمرة وثابتة، لذلك استحقّ لقب فيلسوف الأخلاق بكلّ جدارة وامتياز كنتيجة طبيعة للجهود الجبارة الّتي بذلها في هذا المجال.. ومن الطبيعي أن نظرية كانط الأخلاقية بلغت أرقى مستوى من مستويات التفكير الأخلاقيّ الذي يبحث في الفضيلة وشروطها الإنسانية. وقد جعل من الأخلاق غاية الوجود بل غاية الخلق الكوني للطّبيعة والإنسان. وعلى هذه الصورة من الإنتاج السامي في مجال الأخلاق والواجب تبدو نظرية كانط وكأنها دعوة نبوية رسولية إلى تمثل الأخلاق كدين عالمي.

ولكن على الرّغم من هذا السّموّ الأخلاقيّ الّذي وسَم فلسفة كانط وحمله على أن يجعل الإنسانَ غاية قصوى والقانونَ الأخلاقيّ قيمة إنسانيّة عليا، وعلى الرّغم من قوّة الدّعوة إلى السّلام الإنسانيّ والتّآلف بين البشر من أجل نصرة هذه القيم، فإنّ هذا الفيلسوف لم يستطع أن يُخفي البعد العنصريّ الّذي رشح بوضوح في فلسفته الأنثربولوجية. ولم يكن للسماء الصافية في فلسفة كانط إلاّ أن تتلبّد بغيوم سوداء مخيفة تمثلت في مواقف عنصرية مُشينة في تفكيره. ولا يخفى على من اعتاد أن يتأمل في السمو الأخلاقي لفلسفة كانط أن يصاب بالذهول والصدمة عندما يتعرّف إلى أفكاره العنصريّة التي أثارت عاصفة من النقد والتحليل والتفكير. والمشكلة الكبرى التي تواجه القارئ قبل الفيلسوف أنه لا يمكن التوفيق إطلاقا بين نقيضين متطرفين لا يمكن الجمع بينهما أبدا؛ أي بين السمو الأخلاقي الذي عرفت به فلسفة كانط والأنثروبولوجيا العنصريّة الّتي صرح بها في بعض مقالاته وأعماله.

وقد مثّلت آراء كانط العرقية العنصرية صدمة أيضا للمفكرين والباحثين الّذين حاولوا بشتى الطرق أن يجدوا تبريرا مقبولا لهذا الانشطار الهائل ما بين القيمة الأخلاقية التي يجسّدها كانط والتوجهات العرقية التي ظهرت بوضوح في بعض أعماله الفكرية. وتبعث مثل هذه المفارقة الحادّة المُحيّرة على الشّكّ في فلسفته بمجملها.

2 - نزعة عنصريّة صريحة:

شابت أعمال كانط الأنثروبولوجية كثير من الإشارات العنصرية التي لا تليق بمقامه الفلسفي السامي. وتتمثل هذه النزعة العنصرية في دعوته إلى تصنيف الأجناس البشرية بحسب المعايير العرقية وفق سلم سيكولوجي وفيزيائي يحتل فيه أصحاب البشرة البيضاء المكانة العليا في مراتب التفوق والذكاء، مشيرا إلى أنهم أكثر الأنواع البشرية ذكاءً وفاعلية ومقدرة على بناء الحضارات. ثم يأتي أصحاب اللون الأصفر في الدرجة الثانية، ويأتي أصحاب البشرة السوداء في الدرجة الثّالثة، وفي الأسفل الهنود الحمر الذين صنفهم على أنهم أسوأ الأجناس وأقلهم تطوراً وذكاءً [6]. وعلى هذا النّحو يقسّم كانط البشر إلى أربعة أعراق متباينة في سلم انحداري من حيث القدرة والقدر:

1-العرق الأبيض أو ذوو البشرة البيضاء الّذين لديهم كل المواهب السيكولوجية وكل السمات العقلية والقوى الحافزة على بناء الحضارة وفهم العالم عقليا.

2-العرق الآسيويّ أو ذوو اللون الأصفر، وهم يمتلكون قابلية للتعليم المجسد وليس للتعليم الفلسفي المجرد.

3-العرق الأسود، هم من أصحاب اللون السود الذين يمكن تعليمهم بوصفهم خدما.

4-العرق الأحمر، وهم السكان الأصليّون لأميركا غير القابلين للتعليم على الإطلاق[7].

وعلى الأرجح فإنّ هذا الهرم العرقي هو أكثر الجوانب وضاعة في تفكير كانط عن العرق. وبالرغم من غموض نوايا كانط لتصميم هذا الهرم وإطلاقه فإنه لا يمكن لأحد أن ينكر حقيقة أن هذا الهرم يقرّ بالأفضلية للعرق الأبيض[8]. ويبدو أن هذا التّصنيف قد تمّ تحديده ليس على أساس اللون فحسب بل على أساس المواهب الفطرية المختلفة بين الأعراق الإنسانية، ويشرح "آيز" (Emmanuel Chuckwud Ieze ) هذه النقطة جيدًا فيقول:

“الموهبة حسب المفاهيم الكانطية في العرق والأخلاق هي عنصر تضمنه الطبيعة للعرق الأبيض؛ فهم الأعلى مراتب فوق كل الأنواع البشرية والمخلوقات الأخرى، يليهم بعد ذلك “الصُّفر”، ثم “السُّود”، وأخيرًا “الحُمر”. يمثل لون البشرة عند كانط العامل الفارق الذي سيحدد ما إن كان العرق مستقرًا في درجة عليا أو دنيا، ويحدد كذلك الموهبة من انعدامها، وأيضًا القدرة على استيعاب المنطق وإدراك الفكر الأخلاقي. لذلك لا يمكن القول إنّ لون البشرة عند كانط ما هو سوى جزء بسيط يشكل المظهر الخارجي، بل العرق بالنسبة إليه بمثابة الدليل لمثلٍ أخلاقية ثابتة وغير قابلة للتغيير، قد يُحرم الإنسان الأسود على سبيل المثال من وصفه كـ” إنسان كامل” بما أن الإنسانية الكاملة لدى كانط تنطبق فقط على الأوروبيين البيض" [9]. ثم يصرح كانط بذلك في كتابه “الجغرافيا الطبيعية” إذ: “تتجلى الإنسانية بشكلها الأمثل في العرق الأبيض. الهنود الصُّفر لديهم قدر أقل من الموهبة، والزّنوج أقل من الصُّفر منزلة، والأدنى مستوىً بينهم هم الأمريكيون" [10].

ومثل هذه الصورة العرقية - وهي صورة تقليدية - تدل بوضوح على أن كانط، الملقب برائد التنوير والنقد، لم يستطع أن يمارس النقد أو التفكير العقلي النّقديّ في هذه الوضعية، ولم يستطع أن يكون على مستوى الفكر التنويري في هذا الجانب بل كان متأثّرا بالنزعة العرقية الشوفينية، وغرق في نزعة تفوّق الرجل الأبيض. وفي هذا الأمر إدانة لفلسفته الأخلاقية برمّتها، لأنّ التقسيم العرقي القائم على احتقار بني البشر وازدرائهم لا يليق بالنظام الأخلاقي والقيم الأخلاقية التي نادى بها كانط في مختلف أعماله الفلسفية ولا سيّما الأخلاقية منها. فأي أخلاق هذه التي يزدري فيها الفيلسوف الأعراق البشرية ويحقرها ويدنس طهارتها؟ وقد كان كانط فظا متوحشا في هجومه على الأعراق الأخرى ولا سيّما العرق الأسود، فاستخدم أفظع النعوت وأبشع الصفات في وصف العرقين الأسود والهنود الحمر. وقد جاء في كتابه "الإحساس بالجميل والجليل "[11] وصف مؤذ ومخيف للسّود. بقوله:

“زنوج القارة الإفريقيّة بطبيعتهم لا يملكون إحساسا يدفعهم للارتقاء فوق التفاهة والوضاعة. السيد هيوم يتحدى أن يأتي أحد بمثالٍ واحد على زنجيٍ أظهر أدنى قدر من الموهبة، كما أنه يؤكد أن من بين مئات الألوف من السود الذين انتقلوا من مواطنهم (وبالرغم من أن الكثير منهم قد تحرر من العبودية) لم يبرز أيٌ منهم، ولو فردًا واحدًا، أو يطرح ما فيه منفعة للمجال العلمي أو الفني، أو متضمنًا لما يستحق الإشادة به. وبالرغم من أن الكثير من البيض كانوا من طبقاتٍ فقيرة، فإنه من خلال مواهبهم الفذة نالوا مكانةً محترمة في العالم"[12].

ويُشتَهر عن كانط موقف مخجل يكشف سعارا عرقيّا أبداه عندما قام بتقييم تصريح أدلى به رجل إفريقيّ، فأعرب بتهكم شديد اللهجة قائلا: "كان ذلك الوغد أسود البشرة بالكامل من أعلى رأسه إلى أخمص قدميه، وهو أكبر دليل على غباء ما قاله. وهذا يعطي تفسيرًا منطقيًا لِمَ نعتنا ما قاله هذا الرجل الأسود بالغباء أو الجهل..... لذلك، لا يمكن المجادلة بأن لون بشرة كانط كان مجرد خاصية فيزيائية. بل هو، بالأحرى، دليل على صفة أخلاقية ثابتة وغير قابلة للتغيير"[13].

وعلى هذا الأساس يستنتج كانط وبطريقة مهينة للإنسان والإنسانية "أن زنوج إفريقيا لا يثيرون في النفس الإنسانية أيا من المشاعر الراقية، وهذا يجعل التخلص منهم أمرا لا تهتز له المشاعر الإنسانية، ومن ثم لا يمكن تجريم ما يفعله المستعمر الأوروبيّ في إفريقيا "[14]. ويتمادى كانط بشكل استفزازي ومقرف في هجومه العرقي ضد السود وينصح بأن يُجلَدوا “باستخدام عصا البامبو أفضل من السوط، حتى يعاني الزنجي آلامًا مضاعفة، فجلد الزنوج سميك ولن تضنيه ضربات السوط الخفيفة، والحرص واجب في حال استخدام البامبو حتى لا يموت"[15].

ويبدو لنا أن كانط كان وفيا لنظرية ديفيد هيوم العنصرية التي يعلن فيها تحقيره للعرق الأسود وللأفارقة. وهو ما يوضّحه قوله المذكور سابقا في كتابه "ملاحظات" في عام 1764. ويقول كانط في سياق آخر "إنني ميال إلى الظن بأن الزنوج متدنون بشكل طبيعي عن البيض، فنادرا ما سمعنا عن أمة متحضرة تنتمي لهذا البشرة، ولا أيّ فرد بارز في نطاق الفعل والتأمل العقلي، وليس ثمة صناع مبدعون بينهم، ولا فنون ولا علوم، ومن ناحية أخرى فإن أكثر الشعوب غلظة وبربرية بين الجنس الأبيض كالألمان القدامى والأتراك الحاليّين لا يزال لديهم شيء سام"، ولعلّه يتبين أن هيوم يستبعد السود من دائرة البشر، ولا يتصور أن يخرج من بينهم مبدعون "[16].

ولم يتوقف هجوم كانط المتوحش ضد السود فقط، إذ لم تسلم منه أي من الأعراق الأخرى، وهو يطعن في السمات الأخلاقية والسيكولوجية للآخر من بوابة الإشادة والتمجيد بالعرق البيض منتج الحضارة والتاريخ.

ويقول مؤرخ العبودية مايكل زيوسكي (Michael Olszewski): “إذا كان المرء جاداً في توضيح العنصرية، وهدم آثارها، يجب عليه أيضاً أن يعيد النظر في فلسفة كانط؛ لأن هذا الفيلسوف أسهم في كتاباته الأنثروبولوجية في تأسيس العنصرية الأوروبية". [17] في الواقع، ميَّز كانط بين العديد من “الأجناس”، وأصدر أحكاماً قيميّة حول تفوّق العرق الأبيض وقدراته الفكريّة، مشيراً "إلى أن العرق الأبيض يتميز بقدرته على تحقيق كمال النوع الإنساني لأنه يسمو على باقي الأعراق ويتفوق عليها. وقد تناولت بولين كلينغيلد (Pauline Klingeld) [18] أستاذة الفلسفة في جامعة غرونينغن (University of Groningen) هذه المسألة وبينت بوضوح بأن الغاية الأولى من تقسيم كانط للبشرية إلى “أعراق” كان في البداية من أجل استكشاف الخصائص الفيزيائية للكائنات الإنسانية، مثل: القضايا المتعلقة بلون البشرة والعيون والشعر والطول وحجم الدماغ والسمات الفيزيائية والفيزيولوجية الأخرى.

ويحثنا رونيه أوغيغا (Renee Ogiga) على التساؤل في هذا السياق: ما الذي يجب أن يتبادر إلى أذهاننا ونحن نُفكر في فيلسوف ندين له بأعظم نظرية في الأخلاق عندما يعلن أن السود “ليس لديهم شعور بالطبيعة”، وعندما يشدد على القول بأن الأمريكيين الأصليين ليست لديهم القدرة على التحضر [19]. وماذا يخطر في بال المتلقي إذ كان فيلسوف الأخلاق ينال أيضا العرق الأصفر ويطعن في أهل الصين، ويقلل من شأنهم ولاسيما عندما ينظر باحتقار ودونيّة إلى الفيلسوف الصيني "كونفوشيوس" حيث أنكر ذات مرة وجود فلسفة في سائر بلاد المشرق، وقال إنّ "الكونفوشيوسية" لم تضف أية تعاليم جديدة على العقيدة الأخلاقية المصممة في الأصل للملوك والأمراء الصينيين. بل ذهب إلى حد اعتباره أن أيّا من مفاهيم الفضيلة والأخلاق لم يدخل عقول الصينيين أبداً"[20].

ولا يتورع كانط عن مهاجمة الأمريكيين الأصليين (الهنود الحمر) فيرى "أن مَلكة العقل لديهم ناقصة بطريقةٍ أو بأخرى، ويصفهم في كتابه الجغرافيا الطبيعية، فيقول: تثقيف الأمريكيين وتعليمهم أمرٌ مستحيل؛ فهم لا يملكون دوافع تحفيزية، إذ تنقصهم العاطفة والشغف. لا يقعون في الحب وبذلك لا يشعرون بالخوف أيضًا، لا يلاطفون بعضهم البعض، وكلامهم قليل جدًا، لا يهتمون بأي شيء، وهم بطبيعتهم كسالى"[21].

ثم يقارن بازدراء بين الأمريكيين الأصليين والزنوج، فيقول:" يستطيع المرء أن يصف الزنوج بأنهم عكس الأمريكيين تمامًا؛ إنهم عطوفون وشغوفون، حيويّون جدًا، ويتحدثون كثيرًا. تعليمهم أمرٌ قابل للتحقيق، لكن كخدم وعبيد فقط. هناك مجالٌ لترويضهم وتدريبهم، فهم يملكون دوافع تحفيزية كما أنهم حساسون للغاية، ولأن لديهم حِسٌ بالكرامة والشرف فهم يخافون الجَلد"[22]. وما الذي يتبادر إلى الذهن عندما ينتقل كانط إلى الهجوم العرقي على الهندوس فيقول أيضا: "أما بالنسبة للهندوس، فإنّ طبيعتهم تقترب كثيرا من طبيعة البيض، لكن حدودهم تظهر عندما تأتي المسألة المتعلّقة بتعلّم المعارف... ويصفهم كالتالي:

“دوافعهم التحفيزية قوية لكنهم يقفون عند حد معين من الكمون. جميعهم يبدون كالفلاسفة، ومع ذلك يمكن القول إنّهم ميّالون لمشاعر الغضب والحب، وهذا سبب تفوقهم في التعليم بدرجاتٍ عالية، لكن تفوقهم يقتصر على مجالاتٍ معينة كالفنون، أما إجادة العلوم فليست من مميزاتهم، فقدراتهم لا تسع لفهم النظريات والأفكار المجردة. الرجل الهندوستاني الناجح هو من وَصلَ لمنزلة رفيعة في الفنون المضللة وحصل على ثروة طائلة، وعلى الرغم من بدء تعليمهم مبكرًا إلا أنهم دائمًا ما يبقون على حالهم، فيصلون لمرحلة محدودة من التقدم ليقفوا عندها" [23]. أوليس غريبا أيضا عندما يمضي فيلسوف الواجب ليطعن عرقيا في سكان تاهيتي واصفا إياهم بالعقم الحضاري، وفي ذلك يقول: “لم يقم سكان تاهيتي بزيارة مناطق أخرى أكثر تحضرًا، وهكذا مقدرٌ لهم أن يعيشوا في خمولهم لآلافٍ من القرون. لا يستطيع أي شخص أن يقدم إجابة مرضية للسؤال (لِمَ هم موجودون في الأساس؟) ويتابع كانط هجومه العرقي الشرس ضد هذه الفئة من البشر ليقول "فالحال لن يتغير سواء كان سكان هذه الجزيرة مجموعة من الخراف والماشية أو رجالا منشغلين بالمتعة فقط" [24].

ويُستنتج ممّا تقدّم أن كانط رسخ نمطا من التفكير العنصري، فجعل من الاختلاف بين البشر اختلافا عرقيا فطريا، وقد شجع على تأسيس ما يسمى بالبيولوجيا العنصرية، وزعم أنّ الأعراق الإنسانية المختلفة لا يمكنها أن تصل إلى درجة واحدة من التحضر. وعلى هذه الصورة يبدو لنا أن الفكر التنويري الأخلاقي عند كانط كان منسوجا إلى حدّ ما بخيوط العنصرية والعرقية البغيضة المتعارضة في جوهرها مع العقل والتّنوير كليهما.

وقد أودع كانط كثيرا من أفكاره العنصرية هذه في مقال له نشره في عام 1775 حمل عنوان "في الاختلاف العرقي بين البشر"(On the Different Races of Man). وقد أكّد كانط في هذا المقال على ثبوت العرق وديمومته، ووضّح كيفية اختلافه مع مفكرين آخرين مثل فولتير[25]. وهذه النظرية باتت محل شكٍ لدى غالبية العلماء في عصرنا الحالي[26]. ويبدو أن كانط كان يريد أن يقيم البرهان على أن العرق الأبيض هو العرق الوحيد القادر على الاستئثار دون سائر البشر بالفضائل العقلية والثقافية فيقول “العرق الأبيض بطبيعته يمتلك كل المواهب والدوافع، لذلك هو يستحق المعاينة والدراسة عن كثب أكثر من غيره" [27].

ويتلخص رأي كانط العنصري في العبودية بقوله: "بعض الناس، بطبعهم، غير قادرين على السعي وراء مصالحهم، ومن الأنسب لهم أن يكونوا "أدوات حية" ليستخدمها أشخاص آخرون. وقال: "العبد جزء من السيد، جزء حي لكنه منفصل عنه جسديا"[28].3019 كانط

3 - المأزق العنصري:

كان هذا التّناقض الحادّ في فلسفة كانط بين التّعالي الأخلاقيّ والانحدار العرقيّ العنصريّ مثار اهتمام العلماء والمفكرين والفلاسفة حول الكيفية التي يمكن بها النظر إلى هذا الانشطار. وهو الأمر الذي لم يحدث في التاريخ؛ لأن كانط تميّز بنظريته الأخلاقية على خلاف الفلاسفة العنصريين الذين لم يقدموا نظرية أخلاقية سامية، فجاءت نزعتهم العنصرية على نحو لا يثير الاستغراب بالنّظر إلى منطلقاتهم الفلسفية مثل: هيوم (Hume)، وفولتير (Voltaire)، وهيغل (Hegel)، وشوبنهاور (Schopenhauer)، وتشارلز داروين (Charles Darwin)، وآرثر دو غوبينو (Arthur de Gobineau).، ومن بين هؤلاء جميعا ينفرد كانط بفلسفته الأخلاقيّة السامية فلسفة الفضيلة والحق والواجب. وهنا نقع في مواجهة انشطارية بين العمق الأخلاقي لنظرية كانط من جهة ونزعته العنصرية من جهة أخرى، وهذا التناقض الحاد قد يؤدي إلى اهتزاز كبير وخلل عظيم في منظومته الفلسفية، ويشكك متابعيه في القيمة الأخلاقية لفلسفته على نحو كلي. وقد يتعذر التوفيق ما بين الأمرين وإيجاد الجسور بين جنبات الانشطار المعرفي: أي ما بين السمو الأخلاقي في فلسفته الصفائية والنزعة العنصرية في توجهاته الأنثروبولوجية. وإذا كان هذا الأمر يدخل في بوابة الاستحالة فسنجد أنفسنا أمام موقفين أحلاهما مرّ: إما أن نرفض كانط كليا كنتيجة طبيعية للانشطار الفكري والتعارض المطلق ما بين العنصرية والفضيلة، وإما أن ننظر في ثنائية النزعتين العنصرية والأخلاقية وكأننا أمام فيلسوفين مختلفين في شخص واحد، أي كانط فيلسوف الأخلاق أو كانط فيلسوف العنصرية.

ويوقعنا هذا الأمر في إشكال مأزقي معقد يأخذ الصورة التالية: إذا رفضنا كانط بكليته كنتيجة لهذا التناقض الانشطاري بين الخير والشر في فلسفته، فإننا سنخسر القيمة الفلسفية الهائلة التي يتضمنها فكره الفلسفي، ونضيّع ما حققه من إنجازات مذهلة في مجال الفكر الفلسفي، ولا سيّما الفكر الأخلاقي الذي يتميز بسموه ومطلق نزعته إلى الخير والحق والفضيلة والجمال. وليس هذا مرغوبا أبدا، إذ لا نملك إلاّ أن نعجب بما قدمه كانط للفلسفة والمعرفة الفلسفية. أمّا الخيار الباقي أمامنا فهو يتمثّل في الأخذ بكانط الأخلاقي وتجاهل كانط الشرير. وهذا ما يحدث عمليا، فأغلب المفكرين والباحثين يقومون بتجاهل مقصود للجانب العنصري الشرير في فلسفة كانط.

وهذا ما خبرناه نحن أنفسنا في جامعاتنا، فعندما درسنا في الجامعة في قسم الفلسفة في جامعة دمشق كان كانط الأخلاقي حاضرا، وتم إسدال الستار من قبل أساتذتنا على الجانب العنصري في شخصيته. وعندما اكتشفنا هذا البعد الشرير في شخصه انتابتنا موجة من القلق والصدمة والتّوتّر، حتى إنّني كنت من الّذين لم يصدّقوا بأن كانط كان على هذه الصورة الشريرة في نزعته العرقية.. لقد كان كانط يومض في قلوبنا وعقولنا على صورة منارة أخلاقية تتوهج بالفضيلة، وفجأة اكتشفنا بعد تخرجنا من الجامعة أن جانبا آخر شريرا يتلبس شخصه كانط، وأنّه يرتدي ثوبا مخيفا مختلفا عن الصورة المثالية التي رسمناها له.

وعلى خلاف أساتذتنا، رأينا نحن ألاّ نخفي هذه الحقيقة عن طلابنا ومريدينا، فقدمنا كانط في صورته الأخلاقية، وأردنا أن يعرفوا ويعرف قرّاؤنا أنّ هذا الفيلسوف العظيم وقع في إثم العنصريّة المقيتة ولم يستطع التّحرّر من ردائها الثّقافيّ، ولم نغفل هذه الخلفيّة لدى فلاسفة التنوير في القرن الثامن عشر.

ومن الطبيعي أن يقوم بعض المفكرين بتطهير كانط من أدرانه الأخلاقية وتقديم الأعذار المتمثلة في السياق التاريخ والثقافي للعصر الذي عاش فيه مع هيمنة الثقافة العنصرية التي كانت قائمة، ومثل هذه الأعذار الّتي تُصطنع لا تستطيع أن تصمد أمام حقيقة أخرى وهي أن كانط كان فيلسوف النقد والتنوير، وهو الذي حثّنا على تحكيم العقل ورفض التقاليد الفكرية القائمة التي لا يمكنها أن تصمد أمام العقلانية والعقل المتوقد، وقد كان يتهكم من هؤلاء الذي لا يُعملون عقولهم ولا يفكّرون بطريقة نقدية.، وها هو الفيلسوف العملاق لم يستطع أن يفكر نقديا أو علميا أو حتى أخلاقيا في الظاهرة العنصرية فكرّسها، بدلا من أن يقوم بنقدها وتصفيتها ومهاجمتها من منطلق أن العنصرية العرقية أمر شرير وقاتل وخطير، ولا يمكن أن يقبل في العقل الموضوعي والأخلاقي. وكما أن هذه الفكرة تتناقض كلّ التّناقض مع فكرة الإخاء الإنساني التي نادى بها كانط وأشاد بعظمتها. وفي كل الأحوال نحن لا نريد أبدا للفكر أن يضيّع ذلك الوميض الأخلاقيّ والفكري الجميل المتوهج في فلسفة كانط النقدية والتنويرية. ويقتضي منّا تمشّينا في هذه السّبيل أن نكون على حذر في طَرق المسألة لنوضّح أبعادها ولنُبقيَ على القيمة الفكريّة الأخلاقيّة لهذا الفيلسوف الرّائد.

حاول بعض المفكّرين تبرئة كانط فذهبوا إلى أن مواقفه العنصرية جاءت في مرحلة من مراحل تفكيره، وإلى أنّه قد تراجع في مراحل لاحقة عن هذا النمط من التفكير العنصري الّذي شكل ثغرة كبيرة معيبة في فلسفته. وقد أشارت بولين كلينغيلد إلى أنه بينما كان كانط بالفعل مدافعًا قويًا عن العنصرية العلمية (Scientific racism)[29] في معظم حياته المهنية، فإن "آراءه حول العرق قد تغيرت بشكل كبير في الأعمال المنشورة في العقد الأخير من حياته على وجه الخصوص، لقد رفض كانط بشكل لا لبس فيه الآراء السابقة المتعلقة بالتسلسل الهرمي العرقي والحقوق المتضائلة أو الوضع الأخلاقي لغير البيض في السلام الدائم "[30]. ففي السلام الدائم يقدم كانط حججا قويّة ضد الاستعمار الأوروبي، ويرى أن هذا الاستعمار يتناقض مع الأخلاق ويتعارض مع الحقوق المتساوية التي يتمتع بها السكان الأصليون. وترى كلينغيلد" أن هذا التحول في وجهات نظر كانط في وقت لاحق من الحياة غالبًا ما يتم نسيانه أو تجاهله في الأدبيات حول الأنثروبولوجيا العنصرية لكانط، وأن هذا التحول يشير إلى اعتراف متأخر بحقيقة أن التسلسل الهرمي العرقي كان غير متوافق مع إطار أخلاقي عالمي[31]. وتقول كلينغيلد في هذا السياق: “لقد دافع كانط عن التسلسل الهرمي العرقي، على الأقل حتى بداية تسعينيات القرن الثامن عشر”. ولكن لاحقاً، ابتعد عن هذه الفكرة، في عمله "نحو مشروع السلام الأبدي” (1795)، وفي “ميتافيزيقا الأخلاق” (1797) انتقد الاستعمار وقدم فئة جديدة من “المواطنة العالمية".. [32] وهنا أيضا يمكن اللجوء إلى المنهج الانتقائيّ فنسقط كانط الفيلسوف الشاب ونحيي كانط فيلسوف الكهولة والمشيب فنتغاضى عن طيشه الشبابي باستحضار حكمته الّتي وجدها في مشيبه فغفرت له قديم خطاياه.

ومن اللاّفت للاهتمام أن كانط قضى معظم حياته العلمية يحاضر في الأنثروبولوجيا والجغرافية، وقد درّس هذين المقررين في الجامعة على مدى اثنين وسبعين فصلا دراسيّا كاملا. والغريب في الأمر أن كانط نفسه لم يبتعد عن مدينته الصغيرة "كونيغسبرغ"(Königsberg) التي ولد فيها وعاش ومات، ومع ذلك يعطي لنفسه أهلية الحكم على الشعوب وتصنيفهم عرقيا دون أن يشاهد أيا من هذه الشعوب في الواقع والميدان ليختبر ذكاءها ويرسم سماتها السيكولوجية ويحدد قدراتها العقلية ويصنفها في فئات متباينة، وليحكم على بعضها بالعقم الحضاري والسقوط العرقي.

ويؤخذ على كانط في هذا السياق أنه اعتمد كليا على الروايات والحكايات والأساطير والصحف والرحالة الذين كتبوا عن عادات الشعوب وأخلاقهم. ومنهجية الحكايات غالبا ما تكون باطلة كليّا ولا يُعتدّ بها علميا في تقرير خصائص الشعوب وتحديد مصائرها العرقية. وقد عرفنا منهجيا كيف يرحل الأنثروبولوجيون بعيدا إلى مقار الشعوب ومناطق سكنها البعيدة ليعيشوا ويتعايشوا مع السكان الأصليين لهذه الأمم والشعوب والقبائل سنين طويلة، بغرض دراستها واستكشاف عاداتها واستلهام ثقافاتها. من أمثال: إدوارد بيرنت تايلور ( E. B. Tylor)، وجيمس فريزر(James George Frazer)، وفرانز بواس (Franz Boas)، وبرونسيلاف مالينوفسكي (Bronislav Malinowski)، ورادكليف براون ( Radcliffe Brown)، ومارغريت ميد (Margaret Mead)، وزورا نيل هيرستون (Zora Neale Hurston)، وروث بندكت (Ruth Benedict)، وكلود ليفي ستروس(Claude Levi-Strauss)، وكليفورد جيرتز (Clifford Geertz). هؤلاء الذين قضوا حياتهم يتعايشون مع الشعوب البدائية البعيدة حتى أصبحوا جزءا منها، وبعضهم ضحى بحياته من أجل التماس الحقيقة وفهم ثقافات الشعوب التي درسوها. وما يراد قوله هنا إن الأنثربولوجيا الحقيقية هي هذه التي تلتمس حياة الشعوب وتلامس ثقافتهم وتغوص في ملابسات حياتهم ووجودهم، وليست هي الأنثروبولوجيا المتعالية على الواقع، كهذه التي رأيناها عند كانط والتي تبدو لنا أنها تسبح في فضاء عاجي فترى الكون على صورة سراب أرضي أو سديم سماوي.

والغريب أن أنثروبولوجيا كانط لم تكن أكثر من حكائيّة تقوم على تصورات واهية وغير علمية على الإطلاق. ومن المتعارف عليه علميا أن الأنثروبولوجيا تعتمد منهجا علميا أساسه التفاعل بين الباحث وموضوع دراسته، وهو المنهج الذي ينطلق من أن اكتشاف الحقيقة لا يكون إلا بالتعايش معها، وأنّ إدراكها لا يكون إلا عندما يصبح الباحث نفسه جزءا من الحقيقة. ويقصد بذلك حالة التماهي بين الباحث وموضوع دراسته. ولكن أنثروبولوجيا كانط قد سجلت ودونت في غرفته الصغيرة التي تطل على واجهة القلعة في مدينته الصغيرة. ومهما يكن الأمر فإن هذه الأنثروبولوجيا لم تكن إلا عرقية واهمة قائمة على الأساطير والحكايات والأوهام العنصرية الماثلة في عقل كانط.

فالمصادر التي اعتمدها كانط كانت قاصرة ومحدودة، إذ كان يكتفي بمنشورات السفر التي عُرفت بنمطيتها منذ ذاك الوقت، لدرجة أنّه هو نفسه اعترف بضعف دقتها، يقول مكارثي: في هذا السياق “كان كانط يتكالب على قراءة تقارير الرحلات كافة، سواء كانت مكتوبة من قبل مستكشفين، أو تجار، أو مبشرين، أو مستوطنين، أو مَن كان على اتصال مباشر مع نفوذٍ من خارج البلاد. كانت هذه التقارير حينها المصدر الأساسي في أوروبا لمعرفة طبيعة البلدان الواقعة وراء البحر. وقد حذّر كانط مرارًا من ضعفها، إلا أنه استند إليها في أفكاره العرقية[33].

ومن المؤكد أن كانط كان منغمسا في الثقافة الفلسفية التي سادت في زمانه، في حين كان من المتوقع لفيلسوف النقد هذا أن يوظف أدواته في تمحيص هذه الظاهرة والكشف عن أبعادها العنصرية ورفضها لتتناسب مع نظريته الأخلاقية المتسامية، ولكن كانط فوت هذه الفرصة ووضع نفسه تحت رهان الاغتراب الثقافي والعنصري الغالب على عصره، وكأنه كان يريد أن يتفوق على هيوم في رؤيته العنصرية ويبزه في هذا الميدان. ومن مخاطر هذه الرّؤية العنصريّة عند كانط أن قارئه سيتأثّر بما في هذه الرّؤية من انفعاليّة وتجنّ، فيتّخذ بصفة مطلقة موقفا سلبيّا من مجمل فلسفته.، وقد يجر هذا الكثيرين المهتمّين بهذا الشّأن إلى احتقار الفلسفة والفلاسفة ولا سيّما الفلاسفة العنصريّين الذين سقطوا في الحضيض.

ليس لنا أن نتجاهل إذن تأثير السّياق التّاريخيّ في تلوين التّفكير الكانطيّ بصبغة عنصريّة. لكنّ قَصْدَنا أن نرى مسألة التّعارض المشار إليه - بين سموّ كانط الأخلاقيّ وانحطاطه العنصريّ - من جانب آخر يتيح حلّ الإشكال أو على الأقلّ التّخفيف من حدّته. ومن ثمّ المساعدة على قراءة فكر هذا الفيلسوف بما لا يُفقد وميضه وألقه.

لقد اجتهد المفكرون في إلقاء حبال الإنقاذ لانتشال كانط من سقطته الأخلاقية المميتة. وظهرت مئات المقالات التي حاولت أن تعيد الاعتبار للفيلسوف وأن تقدم له طوق النجاة. وتركزت هذه المحاولات في المقارنة بين كثير من الفلاسفة العمالقة الذين قدموا تصورات عرقية ومع ذلك بقيت فلسفتهم شامخة ولم يؤثر ذلك التقليل من قيمة الفيلسوف أو فلسفته، وخير مثال على ذلك الإشارة إلى أرسطو (Aristotle)[34] الذي كان متشبعا بالأفكار العنصرية ضد المرأة والعبيد والأمم الأخرى. ويشار إلى أن أرسطو كان يدافع عن العبودية ويراها ضرورة حضارية، ووصل به الأمر إلى اعتبارها مفيدة للعبيد، أما نظرته إلى المرأة فكانت مخيفة في عنصريتها، إذ كان يرى أن "المرأة من الرجل هي بمثابة العبد من السيد وكالعمل اليدوي من العمل العقلي، وهي رجل ناقص توقف نموه في مرحلة دنيا من مراحل التطور الإنساني، والذكر متفوق بالطبيعة على المرأة، والمرأة دون الطبيعة، والأول حاكم والثانية محكومة، وهذا المبدأ ينطبق بالضرورة على جميع أفراد الجنس البشري"([35]).

والسؤال هل يجب علينا أن نسقط فلسفة أرسطو لأن جانبا عنصريا قد تخللها نقطة استفهام [36]. وبناء عليه، هل يجب أن نسقط فلسفة كانط لما تخللها من عيوب عنصرية؟ ألا يؤدي هذا الإسقاط إلى خسارة كبيرة في الفكر الفلسفي بما يحمله من قيمة معرفية أصيلة؟

هل يجب أن نسقط فلسفة أرسطو وأفلاطون وهيوم وفولتير وهايدجر وهيغل والآخرين لأنهم كانوا عنصريين في بعض توجهاتهم الفلسفية؟ ألا يعني ذلك إسقاطا للفلسفة برمتها؟ والإجابة بالطبع أنه لا يمكن للتوجهات العنصرية التي تخللت هذه الفلسفات بل لابستها أن تؤدي إلى إسقاطها كلّيّا؛ فالقيمة المعرفية لهؤلاء الفلاسفة العنصريين أكبر بكثير من أن تتعرض للسقوط كنتيجة لوجود جوانب عنصرية فيها. وجل ما يمكن أن نقوم به هو أن نتجاهل هذا البعد العنصري، وننطلق في رحاب هذه الفلسفة استكشافا لما تنطوي عليه من قيم معرفية عظيمة. علينا أن نسائل الفلسفة الكانطيّة بالأدوات النّقديّة الّتي نستلهمها منها، فنصير قادرين على تنزيلها في سياقها والتّمييز بين جوانبها المختلفة المضيئة والقاتمة، وإجراء الاختيار بين ما هو من متعالياتها وما هو من سقطاتها... وبذلك نساهم في تجاوز المأزق الّذي يعترضنا ونحن نقرأ آراء كانط وفلسفته العنصرية.

وهناك عدد كبير من هؤلاء الذين انبروا للدفاع عن كانط وتبرير موقفه المخل بالقيمة الأخلاقية لفلسفته السامية، فذهب بعضهم في هذا الاتّجاه إلى القول إنّه "لا يُعقل أن نتوقع أن يثبت الفيلسوف دون زلة أو تناقض في كل مؤلفاته. لذلك علينا أن نعيّن أقاويل كانط العنصرية كأخطاء أو انحرافات لا بدّ من تجاهلها أمام فلسفته. علاوةً على ذلك، عندما ننظر لشخصية كانط نرى أنها تعكس فلسفته الأخلاقية وليس فكره العرقي، وهذا ما يجب أخذه بعين الاعتبار"[37].

كما يوجد من يحاول - في مواجهة هذا المأزق المعرفيّ الأخلاقيّ - الفصل بين شخصية كانط وفلسفته، وهذا يعني أن الموقف العنصري ينتسب إلى شخصية كانط وليس إلى فلسفته. وهذا الموقف التبريري يعاني من الضعف ولا يمكن التعويل عليه أبدا لأنه يأخذنا إلى استنتاجات مضللة، إذ لا يمكن الفصل موضوعيا بين شخص الفيلسوف وفلسفته، وما قيمة فلسفة لا يلتزم بها صاحبها ولا يأخذها بعين الاعتبار؟ فالفكر لا يمكن أن ينفصل عن المفكر ولا سيّما في الأنظمة الفلسفية الكبرى، والنّبيّ ألزم من غيره بواجبات دعوته.

ولعلّ هذه الفكرة الّتي تدعو إلى الفصل بين الإنتاج الفلسفيّ وصاحبه مماثلة لما يفعله دارسو الأدب البنيويّون في تعاملهم مع النّصّ الإبداعيّ. إذ هم ينظرون إليه في ذاته ومقطوعَ الصّلة عن صاحبه. بل يذهبون إلى اعتبار كاتبه كائنا غائبا لا وجود له فلا يُؤبَه له. وكذلك حَقّ - بكثير من التّجوّز - الإقبالُ على نصّ كانط وتبيّن قيمته، وأمكن الوقوف على عظمة الفيلسوف كانط بغضّ الطّرْف عن شخصه وتفكيره العنصريّ.

وذهب فريق آخر من الباحثين إلى حل أزمة الانشطار والتّناقض بين موقف كانط العنصري وموقفه الأخلاقي، معتقدين أن "عنصرية كانط ببساطة تنطلق من اعتقاده أن الآدمية توجد في العرق الأبيض فقط أما باقي الأعراق فلا. وهذا يعني أن كل شخص لا ينتمي للعرق الأبيض لا يعتبر إنسانا، وهنا تكمن الكارثة العنصرية بأكثر مظاهرها الوحشية. وهنا يمكن أن نجد حلا يتمثل في العمل على تعميم مفهوم الإنسان ليشمل جميع الأعراق دون استثناء. وإذا لم يستطع كانط أن يواكب مُثل عصر التنوير وقيمه التسامحية كالمساواة، لأنه حصر الإنسانية والكرامة في العرق الأبيض دون سواه، فإنه ينبغي علينا أن نصحح توجّهه الأخلاقي للنظر إلى الإنسانية كلها بوصفها عرقا واحدا هو العرق الأبيض، أو أن نوسع مجال فلسفته لتشمل جميع الأعراق. وهذا يعني أنه يجب علينا أن نسقط الجانب العنصري في فلسفة كانط لتستقيم هذه الفلسفة وتصبح أكثر فعالية في توجيه الإنسانية نحو الفعل الأخلاقي. ويستطيع "أصحاب هذا الموقف أن يطرحوا حجة إدراكنا المسبق أنه لا جدال في حقيقة تساوي الجميع، وإنما يكمن الخطأ في الاعتقاد أن ليس الكل يندرج تحت مسمى الـ”إنسان”، ويعتبر هذا اعتقادًا بعديًّا خاطئًا، وبهذه الطريقة نكون صُنّا الجوهر بعيدًا عن الآراء الخبيثة"[38].

4- خاتمة:

لقد حاولنا في هذا العمل تناول الجانب المظلم في العطاء الفلسفي لكانط فيلسوف النقد والتنوير، وقمنا باستجواب بعض المواقف العنصرية التي تميزت بالعنف والمشاكسة العرقية. فحاولنا تفسيرَ هذا التناقض الانشطاري بين فلسفة الواجب في صفائها وأنثربولوجيا التعصب العرقي كنموذج لأكثر الوجوه الظلامية في المنظومة الفلسفية عند كانط. ومهما يكن الأمر فإن تقييم موقف كانط يجب أن يأخذ بلا شكّ بمختلف وجهات النظر، والمهم في ذلك كله أن نجعل من فهم التناقض بين السمو الأخلاقي والسقوط العنصري عند كانط أمرا ممكنا... والشيء الذي يبقى حيّاً في الأذهان أن فلسفة كانط عصيّة على السقوط لما تتمتع به من حصانة فكرية عالية المقام فيما يتعلق بسموها الأخلاقي. وعلينا أن نغض النظر – مع التحفظ - عن جانب السقوط الأخلاقي في مستنقع العنصرية، ونحاول أن نرتقي إلى شموخ الفلسفة الكانطية التي تشكل قوّة تنوير هائلة لا تغيب عنها شمس الحضارة الفلسفية على وجه الإطلاق ولا تخبو جذوتها لأنّ الحاجة إليها مستمرّة.

لا بدّ إذن من تقدير متكامل الأبعاد للفكر الكانطيّ الّذي أضاف إلى الإنسانيّة منهجَ النّقد والتّنوير، ولم يسلم رغم ذلك من الوقوع في بعض الأخطاء. فأثبت أنّه إنتاج إنسانيّ نسبيّ قابل لأن يُتجاوَز ويُطوّر. ومن هنا راهنيّته وتحدّيه للقرّاء بأن يسائلوه. ولا يكون ذلك إلاّ بالإمعان في قراءته وفهمه.

***

بقلم : د. علي أسعد وطفة

................

[1]- Immanuel Kant, Groundwork for the metaphysics of morals, tr. T. K. Abbott, edited with revisions by Lara Denis. Peterborough, ON: Broadview Press. Canada. 2005.

[2]- Emmanuel KANT, Critique of Practical Reason, in The Cambridge Edition of the Works of Immanuel Kant: Practical Philosophy, ed. by M. Gregor (Cambridge: Cambridge University Press)1996.

[3]- Immanuel Kant, The Metaphysics of Morals, Op.

[4]- Emmanuel Kant, Lettres sur la morale et la religion, Op Cit.

[5] - Immanuel Kant, Perpetual Peace and Other Essays, Op. cit.

[6] - حسن العاصي، عنصرية الفلسفة، ليّ الأعناق في صراع الأعراق، شبكة النبأ، ا لأحد 28 نيسان 2019 https://annabaa. org/arabic/authorsarticles/19083

[7] - لويد ستريكلاند، كيف أصبحت الفلسفة الغربية عنصرية، بايتل، 10 يناير 2019, http://bitly. ws/oqsn

[8] - Immanuel Kant, On the Different Human Races. “Kant and the Concept ofRace: Late 18 th Century Writings."Trans. and ed. by Jon M. Mikkelsen. Albany: StateUniversity of New York Press. New York, 2013, P 46.

[9] - Emmanuel Chuckwudi Eze, The Color of Reason: The Idea of “Race” in Kant’s Anthropology. “Postcolonial African Philosophy: A Critical Reader."Ed. Emmanuel Chuckwudi Eze. Lewisburg, PA. Blackwell Publishing. 1997. pp103- 140. P 119.

[10]- فيكتور أبو نذير غويرا، كيف نتعامل مع عنصرية كانط داخل القاعة وخارجها، ت: فاطمة مصطفى، تدقيق: دليلة ميمون حكمة، 19/9/2010 ,. http://bitly. ws/oq23

[11] - يميز كانط بين الشّعور بالجميل والشّعور بالجليل، فالشعور بالجميل ( the beautiful) هو شعور مبهج يبعث على الفرح والابتسام، أما الجليل (Sublime) فهو شعور مبهج مصحوب بالخوف والرهبة كأن يقف المرء أمام أمر عظيم فيشعر أمامه بالإعجاب والرهبة،

[12] - Immanuel Kant, Observations on the feeling of the Beautiful and the Sublime,trans. John T. Goldthwait. Berkeley: University of California Press, 1960. P. 111-113.

[13] - Immanuel Kant, Observations on the feeling of the Beautiful, ibid.

[14] - محمد عبد الرحمن، مبدعون عنصريون وقتلة.. ديفيد هيوم طالب بقتل أصحاب البشرة السمراء.. وكانط يدّعي أنّ الزنوج لا يستحقون الحياة.. مارك توين تمنى إبادة الهنود الحمر.. نيتشه أستاذ هتلر وهايدجر روج للنازية.. وسارتر دعم الصهاينة ضد العرب، الناشر موقع: اليوم السابع، الأحد، 28 يوليه 2019. http://bitly. ws/oqgU

[15]- فيكتور أبو نذير غويرا، كيف نتعامل مع عنصرية كانط داخل القاعة وخارجها، مرجع مذكور.

[16] - محمد عبد الرحمن، مبدعون عنصريون وقتلة، مرجع مذكور.

[17]- رينيه أغويغا، ما علاقة الفيلسوف كانط بمقتل جورج فلويد العنصري في الولايات المتحدة الأمريكية؟ كيوبوست، الإثنين 21 سبتمبر، 2020. http://bitly. ws/oqc8

[18] - Pauline Kleingeld is Professor of Ethics and its History. She is internationally renowned for her work in the area of the philosophy of Immanuel Kant, contemporary Kantian ethics and philosophical cosmopolitanism and its history.

[19]- رينيه أغويغا، ما علاقة الفيلسوف كانط بمقتل جورج فلويد العنصري، ذ مرجع مذكور.

[20] - حسن العاصي، عنصرية الفلسفة، ليّ الأعناق في صراع الأعراق، شبكة النبأ،

الأحد 28 نيسان 2019 https://annabaa. org/arabic/authorsarticles/19083

[21]- فيكتور أبو نذير غويرا، كيف نتعامل مع عنصرية كانط، مرجع مذكور.

[22]- فيكتور أبو نذير غويرا، كيف نتعامل مع عنصرية كانط، المرجع نفسه.

[23]- فيكتور أبو نذير غويرا، كيف نتعامل مع عنصرية كانط، المرجع نفسه.

[24]- فيكتور أبو نذير غويرا، كيف نتعامل مع عنصرية كانط، المرجع نفسه.

[25] - Immanual Kant, on the Different Races of Man. In E. W. Count, This Is Race, 16–24. New York, Shuman. 1775.

[26] - Ibid, Immanual Kant, on the Different Races of Man1775.

[27]- فيكتور أبو نذير غويرا، كيف نتعامل مع عنصرية كانط، مرجع مذكور ..

[28] - أغنيس كالارد، عارض فكرة المساواة الإنسانية.. هل يجب أن نلغي أرسطو ونعتبره عدوًا؟ ترجمة وتحرير نون بوست، 3-8-2020، https://www. noonpost. com/content/37842

[29] - العنصرية العلمية (Scientific racism): اعتقاد علمي يعطي أدلة بتفوق بعض الأعراق على غيرها. وقد حظيت هذه النظريات العرقية بكثير من المصداقية في الأوساط الفكرية تاريخيا. لكنّها فقدت مصداقيتها في العصر الحاضر. وتعتمد العنصرية العلمية على توظيف الأنثروبولوجيا (علم الإنسان) وبالأخص علم الإنسان الحيوي المختص بدراسة التطور البشري، وعلم القياسات البشرية، وعلم قياس الجماجم، وغيرها من التخصصات أو التخصصات الزائفة، في دعم نظرية تصنيف البشر إلى أجناس بشرية منفصلة جسديًا، بحيث تكون أجناس معيّنة أكثر رقيًا من أجناس أخرى.

[30]- رينيه أغويغا، ما علاقة الفيلسوف كانط بمقتل جورج فلويد، .. مرجع مذكور.

[31]- رينيه أغويغا، ما علاقة الفيلسوف كانط بمقتل جورج فلويد، .. مرجع مذكور.

[32]- رينيه أغويغا، ما علاقة الفيلسوف كانط بمقتل جورج فلويد، .. مرجع مذكور.

[33]- فيكتور أبو نذير غويرا، كيف نتعامل مع عنصرية كانط، مرجع مذكور.

[34] - أرسطو "Aristotle" ويُسمى بـ "أرسطوطاليس" عند الفلاسفة العرب عاش في الفترة (384م - 322م)، وهو فيلسوف وعالم موسوعي ومؤسس لعلم المنطق، ومن أشهر فلاسفة اليونان. له العديد من الإنجازات في العلوم الطبيعية مثل: الفيزياء والطب. درس في مدرسة أفلاطون التي تُسمّى بأكاديمية أفلاطون لمدة تزيد عن العشرين عامًا. قال عنه الفيلسوف كارل ماركس وغيره من فلاسفة الفلسفة الحديثة إنّه من أعظم مفكري العصور القديمة في تاريخ الفلسفة.

[35]- ويل ديورانت، قصة الفلسفة، مرجع مذكور، ص 97.

[36] - أغنيس كالارد، عارض فكرة المساواة الإنسانية، مرجع مذكور.

[37]- فيكتور أبو نذير غويرا، كيف نتعامل مع عنصرية كانط، مرجع مذكور.

[38]- فيكتور أبو نذير غويرا، كيف نتعامل مع عنصرية كانط، مرجع مذكور.

 

ملخص البحث: إن العصر الوسيط لم يكن مرحلة غير مهمة في تاريخ الفكر الإنساني، بل كان عصرا غنيا بالمجادلات والتحليلات الفلسفية والعلمية، وطبعا لن نستثني ضمن هذه المرحلة الفلسفة في العالم الإسلامي. لقد كانت الفلسفة الإسلامية جامعة لكل العلوم العقلية، وأن ما أنتجته لم يكن إعادة تعريب الفكر اليوناني أو “أسلمة” تلك القضايا الفلسفية والإشكالات العلمية وإضفاء طابع “الأسلمة” عليها، وهذا هو مقصدنا من هذا البحث الذي يتناول أهم التصورات التاريخية والفكرية لأهم الباحثين والمستشرقين..

تمهيد

إن التراث العلمي والفلسفي للحضارة الإسلامية يمثل معلما بارزا من معالم شخصيتها وحضورها على المستوى الإنساني؛ فقد تمكّنت هذه الحضارة إبّان قرون ازدهارها الحضاري بالعبور من ثقافة التلقي إلى ثقافة الإبداع والابتكار ونقلها نقلة نوعية جعلتها تحتل الصدارة في البحث العلمي ردحا من الزمن، إذ تمكّنت من استقطاب العديد من المبدعين من كل الأعراق والحضارات والأديان والطوائف، مما أدّى ذلك إلى إحداث ثورة علمية وفلسفية كبيرة لم يشهد لها التاريخ القديم مثيلا، كما أنه مؤشر من مؤشرات تفردها وخصوصيتها، إضافة إلى حضورها على المستوى الإنساني. وقد كان من مخرجات هذه الثورة؛ مخزونا تراثيا ضخما يمثل كنوزا علمية كبرى في كل المجالات وذلك بشهادة القريب والبعيد. ويتجلى هذا التراث الضخم في اهتمامهم بالعديد من القضايا الفلسفية والإشكالات العلمية؛ وذلك بعد عودتهم إلى ما خلّفته الحضارات الأخرى ومحاولة الاستفادة منها، وقد كان من نتائج هذه العودة أن اتهمهم العديد بأنهم مجرد نقلة للعلم والفلسفة الموجودان في الحضارات الأخرى، بل راح البعض إلى اعتبار العصر الوسيط بأكمله عصر الجهل والظلام. فبأي معنى اعتبر هؤلاء بأن العصر الوسيط عصر الجهل والظلام؟ وما صحة حكمهم هذا؟ وهل فعلا العرب/المسلمين في السياق الوسيطي مجرد نقلة للعلم والفلسفة؟ وما دعواهم في ذلك؟ وما أهم تصوراتهم والاعتراضات التي وجّهت لهم؟

1- العصر الوسيط: تحديدات تاريخية كمدخل لمعالجة إشكالية "الجمود الفكري"

يعد العصر الوسيط مرحلة مهمة في تاريخ الفكر الفلسفي والإنساني بشكل عام، حيث يلي المرحلة اليونانية.[1] ويبدأ العصر الوسيط -من الناحية الفكرية- انطلاقا من القرن التاسع الميلادي. وفي المقابل نجد اختلافات واضحة، وتباينات كبيرة لدى المؤرخين للتأريخ لهذه المرحلة -من الناحية التاريخية-. وبسبب هذا الخلط بين المرحلتين (التاريخية والفكرية) تعاطى العديد من المؤرخين المعاصرين على الفلسفة الوسيطية (الإسلامية والمسيحية) دون تدقيق بحثي ومعرفي، ولم يؤرخوا لها إلا باعتبارها واسطة بين المرحلتين، اليونانية والحديثة، ويظهر ذلك بشكل واضح في تسميتها ب”الوسيط” فهي بمثابة قنطرة نعبرها ولا نعمرها أو هي عبارة عن مرحلة تخزين فقط، ولهذا نجد أن المؤرخ الفرنسي (إيمييل برييه) يعتبر في كتاباته التأريخية لتاريخ الفلسفة بأن العصر الوسيط قد أخفى معالم العقلانية اليونانية، كما ”أدان هيغل فلسفة العصور الوسطى”[2] وفي عمله التأريخي نجده من ”بين ألف وثلاثمائة صفحة رصد فيها تاريخ الفلسفة رصدا زمنيا خصص مائة وعشرين صفحة فقط للحقبة الوسطى التي استمرت ألف عام، وأفرد ثمانمائة صفحة للفكر القديم الذي امتد عبر ألف ومائتي عام، وأربعمائة صفحة للفلسفة الحديثة التي استمرت لمائتي عام”[3] كما نجده أيضا (أي هيغل) قد أعطى صورة سيئة عن الفلسفة في السياق الإسلامي، حيث اعتبر أن لا أهمية لها من حيث المحتوى وأشار في المقابل إلى أنها ليست بفلسفة حقيقية،[4] والأكثر من ذلك اعتبار (أنتوني جواليب) أن ”النتاج الفلسفي للحقبتين القديمة والمعاصرة بشكل عام ليس أكثر إبداعا فحسب، بل أسهل فهما بالنسبة إلى القارئ المعاصر من التعليقات المطولة والممارسات الجدلية التي لفظتها العصور الوسطى. وفي ظل ضِيق الوقت والمساحة، فمن الأفضل أن نترك فلسفة العصور الوسطى تتيه في غاباتها المظلمة التي تغطيها الأشواك”[5]. وبالتالي، فإن هؤلاء المؤرخين ينظرون إلى الفلسفة في السياق الوسيطي بنظرة تحكمها القطيعة الابستمولوجيا، واعتبار العصور الوسطى عصور الجهل والظلام، إلا أن الحقيقة التاريخية-الأكاديمية العلمية تؤكد عكس ذلك تماما، إذ لا يمكن الحديث عن وجود فراغ في التاريخ؛ لأن الإقرار بذلك لا ينسجم لا منطقيا ولا عقليا باعتبار أن تاريخ المعرفة الإنسانية هو تاريخ تراكمي عبر العصور؛ لأن كل استشهاد يتبعه اشتهاد وتقود تلك الاشتهادات إلى اكتشافات ترغمنا بالضرورة عن اتخاذ مسارات أخرى.

وانطلاقا من كل ذلك، فقد اعتدنا كثيرا السماع بأن العرب/ المسلمين في السياق الوسيطي لم يبدعوا في أي شيء خاص بهم، وأن كل ما أنتجوه عبارة عن نقل وترجمة للعلوم التي كانت موجودة عند الحضارات الأخرى التي سبقت الحضارة الإسلامية، بل إن البعض قد اعتبر بأن هذه الحضارة قد فشلت حتى في شرح تلك المؤلفات التي تعود إلى الحضارات الأخرى. إلا أن الحقيقة التاريخية تخبرنا عكس ذلك؛ إذ أكد العديد من الباحثين والدارسين للعصر الوسيط الإسلامي بأن للعرب/ المسلمين فضلا كبيرا في إحياء الفلسفة والعلم من جديد بعدما كانتا مهملتين -نوعا ما- في عصر الحضارة الرومانية لكونهم قد تألقوا في الجانب القانوني أكثر من جهة، ومن جهة ثانية لم تدعم هذه الإمبراطورية الفكر الفلسفي بشكل كبير؛ لأنها لم تكن مرغوبة لدى جميع الفئات، بالخصوص القادة السياسيين وبعض الأباطرة، باعتبارها كانت محط شبهة، وهذا ما يفسر غياب اهتمام رسمي بها[6]، ومن جهة ثالثة ما خلّفته هذه الإمبراطورية إثر سقوطها والتي نتج عنها انقسام المجتمع الغربي بين القبائل الجرمانية وساد فيها نوع من الحروب وعدم الاستقرار السياسي، وهو الأمر الذي انعكس بشكل سلبي على العلم والفلسفة بشكل عام، حيث تمتد هذه الفترة من النصف الثاني من القرن الخامس الميلادي إلى النصف الثاني من القرن الثامن الميلادي، وهي نفس الفترة التاريخية التي يمكن أن تسمى بعصر الفوضى والعشوائية وأحيانا يجوز لنا وصفها بمرحلة الجهل والظلام وبعصر الجمود الفكري؛ لأن الوضع السياسي والاجتماعي المضطرب أثر على المجال الفكري، وكان هذا التأثير واضح فيه الجانب السلبي أكثر، فانتقلت بذلك الفلسفة (وقد كانت الفلسفة آنذاك جامعة لكل العلوم العقلية) من مكانتها وأصبحت “مشردة” وما كان أمامها من حل سوى الرضى بالقبول بأن تكون خادمة للاهوت والاحتماء في الكنيسة ومدارسها التي كانت تسمى ب “الدير” (جمع أديرة) التي حاولت أن تقزّم من مهام الفلسفة فجعلتها حبيسة تفسير بعض القضايا اللاهوتية التيولوجية والاستغناء عن تلك الجرأة التي كانت تملكها الفلسفة بتحليلها للإشكالات في المرحلة اليونانية، ويعبر (أنتوني جواليب) عن هذه المسألة بالقول: ”فبعد أن التقت الفلسفة بالعقيدة المسيحية غرقت في سبات عميق”.[7] ويقول المؤرخ (ديفيز) عن بداية العصر الوسيط -من الناحية التاريخية- ”يبدأ التاريخ الوسيط بالانهيار الذي حل بالإمبراطورية الغربية وبخضوع العالم اللاتيني لغزاته الجرمان”[8] ويضيف قائلا: ”إن الأسباب المباشرة الواضحة التي أودت بالإمبراطورية الغربية هي أسباب عسكرية وإدارية، ترجع إلى نقائص وعيوب في نظام الجيش وفي نظام الموظفين الإداريين ... إن بداية ونهاية تلك الكارثة التي حلت بالإمبراطورية هي الإغارات الموفقة التي قام بها الجرمان على إيطاليا.”[9]

2- المقاربة الاستشراقية للفلسفة والعلم في السياق الوسيطي الإسلامي

إن من أهم المقاربات التأريخية التي تهمنا في موضوعنا هذا هي المقاربة الاستشراقية لإشكالية الفلسفة والعلم في السياق الوسيطي الإسلامي، والتي حاولت أن تجيب عن التساؤل الآتي {هل فعلا هناك إضافة علمية إلى تلك العلوم التي أخذتها الحضارة الإسلامية من الحضارات الأخرى، أم إن الأمر يقتصر فقط على “نقل للأمانة العلمية”}. يمكن أن نميز في هذا التصور الاستشراقي بين مرحلتين أو بين مدرستين كبيرتين؛ فالمدرسة الأولى هي المدرسة الاستشراقية الكلاسيكية التقليدية التي اعتبرت بأن دور العرب/ المسلمين في السياق الوسيطي قد انحصر على نقل التراث العلمي والفلسفي من الحضارات الأخرى، خاصة اليونانية، إلى الحضارة الغربية في العصر الحديث، والمدرسة الاستشراقية الجديدة التي قامت على رؤية مخالفة للمدرسة الأولى وذلك بداية من خمسينات وستينات القرن الماضي، بحيث لامست هذه المدرسة جوانب من الإبداع والتجديد في الفلسفة والعلم العربي-الإسلامي وأن الأمر لا يقتصر على النقل والترجمة فقط.

أ- التصور الاستشراقي الإتباعي:

المستشرقين الكلاسيكيين التقليديين يعتبرون بأن لا فضل للعرب/ للسلمين ليشكروا عليه إلاّ فيما يتعلق بنقل وحفض الأمانة العلمية وردها لأصحابها. فهؤلاء المستشرقين الكلاسيكيين التقليديين يقرّون بأن العرب/ المسلمين في السياق الوسيطي كانوا مجرد نقلة وسعاة بريد بلغتنا المعاصرة، ويستدلون على ذلك بأن فكرهم ومنهجهم لا يتضمن أي جديد وتجديد، باعتبار أن دورهم الأساسي قد انحصر على تقديم مجموعة من الترجمات للعديد من المؤلفات العلمية والفلسفية التي تعود إلى الحضارات الأخرى، اليونانية خاصة، إلى اللغة العربية والحفاض عليها. فرغم اعتبارهم أن الحضارة الإسلامية كان لها فضل كبير في الحفاض على هذا التراث العلمي والفلسفي الضخم والتي ساهمت في بناء وتأسيس العلم الحديث وقضاياه، إلا أنهم بالرغم من ذلك يحاولون تقزيم دور هذه الحضارة في اعتبارها مجرد مرحلة تخزين فقط. وقد عبّر عن هذه النزعة الباحث في العلوم العربية (رشدي راشد) بما يمكن تسميته ”بالنزعة الغربية”، بحيث لخص موقفهم من خلال القول بالنزعة الغربية التي تدعي بأن العلم علم غربي ولا يمكن أن يكون إلاّ غربي. ويتجلى هذا بشكل واضح فيما عبّرت عنه الباحثة (يمنى طريف الخولي)[10] بالقول ”وعبر فجوة باهتة مظلمة هي العصور الوسطى قام فيها العرب بدور ساعي البريد أو حفظ الأمانة العلمية الذي أدخل عليها بعض التجديدات، انتقل العلم من الإغريق إلى أحفادهم وورثتهم الشرعيين في غرب أوروبا. هكذا تبدو قصة العلم من ألفها إلى يائها قصة غربية خالصة”[11]

ولعل من بين الأسماء البارزة في هذا التيار الاستشراقي الكلاسيكي ذو الرؤية السلبية اتجاه العصر الوسيط الإسلامي، نجد (أرنست رينان Ernest Renan) الذي تعتبر أطروحاته من بين الأطروحات التي أثّرت في العديد ممن عاصروه وقد ساروا على نهجه، خاصة بعد إحدى المحاضرات التي ألقاها بجامعة السوربون عام 1883م والذي أعلن فيها بصريح العبارة أن ”العرق السامي لم يشتهر إلاّ بخصائص سلبية تقريبا فهو لم ينتج لا ميثولوجيا، ولا ملحمة، ولا علم، ولا فلسفة، ولا أدب، ولا فن تشكيلي، ولا حياة مدنية”،[12] ويضيف في كتابه “ابن رشد ومذهبه“ قائلا ”ما يكون لنا أن نلتمس عند الجنس السامي دروسا فلسفية، ومن عجائب القدر أن هذا الجنس الذي استطاع أن يطبع ما ابتدعه من الأديان بطابع القوة في أسمى درجاتهم لم يثمر أدنى بحث فلسفي خاص، وما كانت الفلسفة قط عند الساميين إلاّ اقتباسا صِرفا جدِيبا وتقليدا للفلسفة اليونانية”.[13] فتصوره هذا قد انعكس على مجموعة من أطروحات المستشرقين الأوائل ممن عاصروه، حيث صرّح في كتابه ”تاريخ اللغات السامية” أنه أول من قرر أن الجنس السامي دون الجنس الآري، لذلك وثق به بعض ممن عاصره بسبب معرفته باللغات السامية وزيارته لبلدانها.[14]

كما نجد (بيير دوهيم Pierre Duhem) الذي أرخ لمسيرة تطور العلم لم يعطي للعلم في السياق الإسلامي أهمية كبيرة. وقد توقف (مصطفى عبد الرازق) عند مجموعة من هذه الأطاريح الاستشراقية وخصّ منها قدرا كبيرا ل (أرنست رينان) باعتبار أن أطروحاته قد تلقت تأثيرا كبيرا على الدراسات اللاحقة. غير أنه لم يسلم من الانتقادات سواء من قِبل بني جلدته أو غيرهم، إذ اتهموه بكونه يحمل معاداة للسامية (وهذا واضح من خلال ما أشرنا إليه سابقا) وللإسلام، كما اعتبروا أن حكمه هذا ناتج عن جهله لِما للعرب/المسلمين من مصنفات ومؤلفات وإبداعات غير ما ترجموه وشرحوه.

وإلى جانب هؤلاء، نجد أطروحة المستشرق (تينمان Tennemann) الذي اعتبر أن المسلمين قد فشلوا حتى في شرح مؤلفات أرسطو نفسه وأن شرحهم هذا شرح مضعف، بل مشوّه لمذهبه. ويخلص إلى كون المسلمين قد عجزوا عن إبداع فلسفة خاصة بهم وذلك راجع لِما يتضمنه القرآن الذي يعوق النظر العقلي الحر وسيطرة حزب الأغلبية، أي حزب السنة، إضافة إلى سيطرة سلطة أرسطو المستبدة على عقولهم وميلهم نحو التأثر بالأوهام.[15]

كما نجد المستشرق الهولندي (دي بور) قد أصدر حكما قاسيا نوعا ما على الفلسفة الإسلامية، فقد نزع عنها القدرة على الإبداع والابتكار، ويعتبر أنها لا تتجاوز مستوى النقل والاقتباس من الفلسفة اليونانية.[16]

إن هذا المشروع الفكري لـ(مصطفى عبد الرازق) من خلال كتابه (تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية) تمكّن من الوقوف عند العديد من أطروحات المستشرقين بل حتى أطروحات المسلمين التي تنفي عن الفلسفة الإسلامية أي إبداع وتجديد واعتبارها مجرد (علوم دخيلة) حيث قام بتفنيدها عبر توسله بعدة مناهج مختلفة وبمنهجية صارمة ودقيقة،[17] ولعل أهم منهج اعتمده (مصطفى عبد الرازق) في مشروعه الفكري هذا هو منهج المقارنة وذلك عبر استحضاره لعدة أراء استشراقية ومقارنة بعضها مع بعض، ليبدي بعد ذلك رأيه وملاحظاته بخصوص أوجه التشابه والاختلاف والتناقض بين كل تلك التصورات.

وقد كان غرضه الأساسي من كل ذلك؛ تأكيده على أن الفلسفة الإسلامية لم تكن مجرد إتّباع للفلسفة اليونانية وغيرها، بل هناك فعلا فلسفة إسلامية خالصة، وهذه الفلسفة الإسلامية تتضمن كل من تلك الفلسفة بمعناها التقليدي و علم الكلام ثم علم أصول الفقه إضافة إلى التصوف، وهذا ما يؤكده بالقول ”وعندي أنه إذا كان لعلم الكلام ولعلم التصوف من الصلة بالفلسفة ما يسوغ جعل اللفظ شاملا لهما فإن (علم أصول الفقه) المسمى أيضا: (علم أصول الأحكام) ليس ضعيف الصلة بالفلسفة، ومباحث أصول الفقه تكاد تكون في جملتها من جنس المباحث التي يتناولها علم أصول العقائد الذي هو علم الكلام، بل إنك لترى في كتب أصول الفقه أبحاثا يسمونها (مبادئ كلامية) هي من مباحث علم الكلام، وأظنّ أن التوسع في دراسة تاريخ الفلسفة الإسلامية سينتهي إلى ضم هذا العلم إلى شُعَبها”[18]

إذن، فالمقاربة المنهجية المتّبعة من قِبل (مصطفى عبد الرازق) هي مقاربة تقوم على ركيزتين أساسيتين؛ إحداهما هي نقد التصور الاستشراقي المجحف في حق الفلسفة الإسلامية الذي حاول -كما وضحنا- نزع الاصالة والإبداع عن الفلسفة العربية الإسلامية واعتبارها مجرد تقليد واستنساخ للفلسفة اليونانية، أمّا الثانية فتتعلق بإثبات الأصالة للفلسفة الإسلامية من خلال اعتباره أن الفلاسفة المسلمين لم يكتفوا بالترجمة والشرح والتلخيص للمؤلفات اليونانية بل أضافوا عليها عدة إضافات إبداعية مهمة من جهة، ومن جهة ثانية اعتباره أن العرب/المسلمين قد أبدعوا فلسفة إسلامية خالصة وهم لم يطّلعوا بعد على التراث الفلسفي اليوناني، وتتجلى هذه الفلسفة في كل الإنتاجات الفكرية للمذاهب الفقهية والكلامية والصوفية، حتى وإن تأثّرت هذه المذاهب فيما بعد بالإنتاجات اليونانية (المنطق، الإلهيات، ...) فإن ذلك لم يمحو جوهرها وروحها.

ب- التصور الاستشراقي الإبداعي:

إن هذه التصورات الاستشراقية الكلاسيكية التقليدية ذو الرؤية السلبية اتجاه الفلسفة والعلم في السياق الوسيطي الإسلامي ستبدأ أطروحاته في الاضمحلال شيئا فشيئا وذلك ابتداء من خمسينات وستينات القرن الماضي بظهور جيل جديد من المستشرقين، إذ ما يميزهم بشكل عام هو محاولتهم ”اعتبار الأشياء كما هي وليس كما يجب أن تكون” أو بعبارة أخرى ”دراسة العلوم العربية لذاتها”[19]. فقد قامت هذه المدرسة الاستشراقية الجديدة بدراسة العلم والفلسفة في الحضارة الإسلامية في العصر الوسيط في سياقاته الثقافية، الاجتماعية، السياسية، الدينية ... وذلك بمعزل عن مقارنتهما بما أنتجته الحضارة الغربية في الأزمنة الحديثة، باعتبارها ليست المعيار الذي من خلالها نقيس به علمية وفلسفية القضايا والإشكالات، إضافة إلى أن البيئة الحضارية والسياق التاريخي مختلفين، لذلك فمن الغير المعقول إقامة مقارنة بينهما، بل حتى وإن كانا في سياق زمني واحد فإن تلك المقارنة لا تجوز أيضا لأن الحاجة الفكرية هي من تفرض علينا البحث عن إشكالات ومحاولة حلها دون غيرها. وما ميّز هذه المدرسة الاستشراقية الجديدة بشكل خاص؛ كونها قد انتقدت نزعة التمركز الغربي للعلم واعتباره نتاج له فقط. فقد أصبحنا نتحدث لأول مرة -مع هذه المدرسة- عن تعميم هذا العلم وإعطائه بعدا كونيا، ومحاولة ”رد الاعتبار” للحضارات الإنسانية جميعها لكونها قد ساهمت في تطور هذا الصرح العلمي والمعرفي الضخم الذي وصل إلى العصر الحديث بشكل أو بآخر. ومنه، لا يمكننا الحديث عمّا يسمى بالقطيعة الإبستمولوجيا مع العصر الوسيط بشكل عام، ومع السياق الوسيطي الإسلامي بشكل خاص، وانتقال المعرفة والاجتهاد الفلسفي والعلمي من الحضارة اليونانية مباشرة إلى العصر الحديث، لأن ذلك يصعّب علينا فهم هذين العنصرين [أي الفلسفة والعلم] في السياقين الحديث والمعاصر، إذ لا يتم هذا الفهم إلا في ضَوء ما أنتج في العصر الوسيط الإسلامي، وفي ارتباطها بسياقاتها وشروطها الحضارية وخصوصيتها الثقافية.

إذن، إذا كان الجيل الأول من المستشرقين يتميّزون بنزعة “غربية العلوم” واعتبارهم القرون الوسطى، الإسلامية خاصة، مرحلة فراغ عبارة عن واسطة لانتقال العلم والفلسفة من المرحلة اليونانية إلى الحديثة، واعتبارها مرحلة تخزين فقط بالرغم ما فيها من حركة علمية، فإن هؤلاء المستشرقين الجدد قد نفوا ذلك تماما. إذ اعتبر الأوائل [في سياق دفاعهم عن نزعة غربية العلوم] أن العلم الحقيقي هو ذلك العلم التجريبي الذي يمكن أن نتحقق من فرضياته ونتائجه تجريبيا، ويؤكدون على كون هذه الخاصية لم تعرف في العصر الوسيط الإسلامي وأنها موجودة فقط في العلم الحديث والتي تمتد جذورها مباشرة إلى العلم اليوناني، غير أن (رشدي راشد) على لسان (باسكال كروزيت Pascal Crozet) يرفض هذه الأطروحة ويعتبر أن حتى هذه المقارنة ليست بالمقارنة العلمية، وقد أكد على وجود مجموعة من مظاهر العلم التجريبي في الحضارة الإسلامية، كما يؤكد على أن هذه الدراسات الاستشراقية الكلاسيكية التقليدية لهذه الحقبة الزمنية وما أبدع فيها من علوم ومعارف، كان الغرض الأساسي منها اكتشاف الأصول الهيلينينية والهلنستية لهذه العلوم،[20] أي ما معناه أن هذه العلوم لم تتم دراستها دراسة موضوعية، أو كما عبرنا عنها سابقا بأنه يجب ”اعتبار الأشياء كما هي وليس كما يجب أن تكون: أي دراسة العلوم العربية لذاتها”[21] كما أن هذه الحقبة الزمنية تمت دراستها بخلفية مسبقة وذلك يتعارض مع الشروط العلمية للأبحاث والدراسات الأكاديمية المحكمة. وبالتالي فإن (رشدي راشد) يرفض من جهة اعتبار العلم ذو نشأة القرن السابع عشر الميلادي وما بعده من جهة، ومن جهة أخرى يرفض حصر البعد العلمي في العلوم الغربية فقط.

تركيب

عموما، يمكن القول بشكل عام بأن أطروحات المستشرقين الكلاسيكيين التقليديين كانت متهافتة في جوهرها وأساسها من جهة، ومن جهة ثانية كونها قد طرحت في فترة زمنية كان الشائع فيها حول الفلسفة الإسلامية أنها مجرد نقل وترجمة وشرح للفكر العلمي والفلسفي اليوناني وغيره، لذلك انساق العديد من المستشرقين في تلك الفترة وراء هذه المغالطة التي كان أساسها مبني على تهافت عرقي وإيديولوجي، ومن جهة ثالثة صعوبة الوصول إلى تلك الإبداعات الإسلامية الخالصة في تلك الفترة إلى جانب تلك الشروحات والتعليقات على العلوم والفلسفات التي تعود إلى الحضارات الأخرى. وبالتالي يجوز لنا أحيانا أن نقول بأن موقفهم -نوعا ما- مبررا باستثناء بعض الأطروحات ذات البعد الإيديولوجي والعرقي أكثر منه علمي. فهذه الدراسات كان لها دور سلبي على مجال التأريخ للعلوم، لكونها تضع إسهامات الحضارة الإسلامية في العلم والفلسفة خارج التاريخ، وهو أمر يصعّب علينا فهم العلم والفلسفة في السياق الحديث باعتبار أن العديد من الفلاسفة والعلماء قد عالجوا مجموعة من القضايا والإشكالات التي طرحت بالأساس في العصر الوسيط الإسلامي، حتى وإن لم تطرح فيها فإن إشكالاتها قد تبلورت بشكل واضح في تلك المرحلة، لذلك فإن تلك القضايا والإشكالات في العصر الحديث هي امتداد لتلك الإشكالات التي طرحت في العصر الوسيط الإسلامي، ولابد من وضعها في سياقها التاريخي من أجل فهم مضمونها جيدا.

3- الإرث العربي الإسلامي مساهما في تشكل الفلسفة الغربية المتأخرة:

إن تلك الدراسات الاستشراقية الكلاسيكية التقليدية تسقط عن الحضارة الإسلامية مساهمتها في النهضة العلمية الحديثة من خلال ما قدمته من ترجمات وشروحات وتعليقات وتأويلات للمؤلفات الفلسفية والعلمية التي تعود إلى الحضارات الأخرى، خاصة اليونانية، إضافة طبعا للنقد والتشكيك والتصويب والتصحيح والترميم الذي رافق هذا الشرح. لأن البومة[22] بعدما فشلت بالمرور عبر روما وعبر بيزنطا بمضيق البوسفور إلى باقي بلاد أوروبا لكونها قد اصطدمت بموانع كثيرة أبرزها الحروب بين القبائل الجرمانية إثر سقوط الحضارة الرومانية -كما أشرنا إلى ذلك سابقا- حيث صعّب عليها ذلك المرور بارتياح، لذلك عادت للانطلاق مجددا بالعبور من البلدان الإسلامية رغم أن المسافة طويلة، حيث تطلّبت قسطا غير يسير من الزمن لأن الحكمة كما يقول الباحث (محمد اشو) ”لا تمر في أي مكان كان، وإنما تسير في المسالك الآمنة، والحضائر العامرة، والمراكز الثقافية النشيطة”[23] وبسبب مرورها على البلدان الإسلامية فقد توقفت عند العديد من المحطات، وداخل هذه المحطات تعرّضت للترجمة والشرح والتأويل والتعليق والتجديد ... لتنتقل بعد ذلك إلى الغرب الأوروبي في صورة جديدة قابلة للفهم والإدراك بعكس ما كان متصورا في ذهن الأوروبيين. ولعل أبرز هذه المحطات التي ترجم من خلالها هذا الإرث العربي/الإسلامي إلى اللغة اللاتينية نجد صقيلية التي اهتمت بشكل كبير بما هو علمي، ثم طليطلة التي ترجم من خلالها العديد من المؤلفات الفلسفية وعن طريقها وصلت إلى أوروبا، وكان هذا سببا رئيسيا للأوروبيين في فهم بعض الفلسفات ذات البعد العقلاني والمنطقي، خاصة الفلسفة الأرسطية التي اعتبروها فلسفة صارمة غير قابلة للتأويل لكونها تتعارض مع المبادئ المسيحية، وفي هذا الصدد يقول (أنتوني جواليب) ”... لم يكن ألبرت ليجد الكثير ليقوله لو اتّفق دائما مع ارسطو. فالعقيدة المسيحية جعلت الاتفاق التام ضربا من المستحيل. لقد قال أرسطو إنّ العالم كان موجودا على الدوام، ولكن المسيحيين كانوا يعرفون أنه لم يكن موجودا. وقد قال أرسطو إنّ الرّوح لا تبقى بعد الموت، ولكن المسيحيين كانوا يعرفون أنها تبقى. وما قاله أرسطو عن المادة تضمّن أن القربان المقدس كان أمرا مستحيلا من الناحية المنطقية، وهو ما لم يكن مقبولا. ولم يكن ربّ أرسطو مهتما تماما بما يفعله الإنسان، ومن الواضح أن هذا كان مشكلة في حدّ ذاته” ويضيف بالقول أنه ”دائما ما كانت أفكار أرسطو يتلقاها الجمهور بحذر وجدّيّة، فقبل كل شيء كان يجب توفيقها مع تعاليم الإيمان، ولم يعْنِ هذا حذف بعض الفقرات المسيئة فحسب بل التوفيق بين مبادئ المسيحية والمبادئ الأرسطية“[24] ولهذا السبب تبنّت الكنيسة الأفلاطونية في زيّها الأوغسطيني كمذهب رسمي لها لحوالي ثمانية قرون متتالية لكونها تتميز بالمرونة في فكرها وبالتالي فهي قابلة للتأويل بما ينسجم مع اللاهوت. غير أن هذا الغموض الذي كان يكتنف حول الأرسطية سيزول بدخول الترجمات والشروحات والتأويلات العربية الإسلامية على الفكر الأرسطي إلى الغرب الأوروبي، يقول (أنتوني جواليب) في هذا السياق ”وصلت مقالات أرسطو إلى الغرب الأوروبي مصحوبة بتعليقات ضخمة ومثيرة ألفها الباحثون العرب. وبالكاد شرَع أساتذة الجامعة المسيحيون في تعلّم كل هذه الحكمة ونقلها دون أن يكون لهم رأيهم الخاص؛ ولذلك لم تُسْتَقْبَل أفكار أرسطو وتُقَدَّم كما هي بأي شكل”.[25] والمقصود بالعبارة الأخيرة (لم تستقبل أفكار أرسطو وتقدّم كما هي بأي شكل) أي أن الأوروبيين لم يتعرفوا على الأرسطية مباشرة ممّا قاله أرسطو نفسه، بل تعرفوا عليها من خلال تلك الترجمات والشروحات العربية الإسلامية التي حاولت أن تخفف من حدة وصرامة الفكر الأرسطي. وانطلاقا من ذلك سيعتبر العديد من الدارسين للعصر الوسيط أن دخول الأرسطية للغرب الأوروبي فجر القرن الثالث عشر الميلادي بمثابة نهضة علمية وفكرية حقيقية ثانية بعد النهضة الفكرية والأدبية الأولى بزعامة القائد (شارلمان) والتي تُعرف ثورته بالثورة الكارولينجية بداية من القرن التاسع الميلادي. ودخول هذه الأرسطية بواسطة الحضارة الإسلامية إلى الغرب الأوروبي؛ مهّدت الطريق ومكّنت هذه المجتمعات بالعبور إلى الأزمنة الحديثة.

كما ساهم العديد من علماء الفلك العرب/المسلمين في هذه النهضة العلمية في العصر الحديث من خلال ما قدموه من تشكيكات وتصحيحات وتصويبات وترميمات على العديد من النماذج الفلكية التي تعود إلى الحضارات الأخرى منها الهندية والفارسية وخاصة اليونانية من خلال كل من نموذج أفلاطون وأرسطو وخصوصا النموذج الفلكي الذي قدّمه (بطليموس) في كتابه “المجسطي”، إذ حاولوا التأكد من صحة المعطيات الفلكية الواردة فيه فلجأوا إلى المراصد، وقد كان من نتائج ذلك؛ أن صاغوا العديد من النظريات الفلكية كمحاولة منهم لإصلاح المجسطي وقد قادهم ذلك حسب بعض الدارسين للعصر الوسيط الإسلامي أن مهدوا الطريق لما أصبح يُعرف بالثورة الكوبرنيكية، ويُمكن العودة إلى بعض النماذج الفلكية في هذا الإطار كالنموذج الذي قدّمه ابن الهيثم في كتابه “الشكوك على بطليموس”، نصير الدين الطوسي في كتابه “التذكرة في علم الهيئة”، مُؤيد الدين العُرضي، ابن الشاطر، ثابت بن قرة وغيرهم العديد. وهكذا يتضح لنا كيف ساهمت هذه الحضارة الإسلامية في النهضة العلمية الحديثة، وهي الفكرة التي انطلقنا منها لعرض هذه المعطيات التي تؤكد على الإسهام الكبير الذي لعبته هذه الحضارة في بناء الحضارة الغربية.[26]

4- إنصافا للتاريخ:

قبل ختم هذا الموضوع لزام علينا أن نوضح ثلاث نقاط أساسية، إذ يتعلق الأمر:

النقطة الأولى: اعتبار العلم والفلسفة في السياق الإسلامي مجرد نقل للتراث العلمي والفلسفي اليوناني وغيره، وإعادة البحث في قضاياه وإشكالاته، هي في آخر المطاف مسألة عادية باعتبار أن المعرفة الإنسانية بشكل عام ليست ذو نشأة محددة، ويمكننا الاستدلال على ذلك من خلال نموذج الحضارة اليونانية نفسها؛ إذ أكد العديد من الباحثين في حقل الفلسفة أن الحضارة اليونانية قد استفادت بالكثير من حضارات الشرق القديم بحيث حاولت تكييف تلك العلوم والمعارف وفق خصوصياتها الحضارية وشروطها الثقافية وظروفها السياسية، وهو نفس الأمر الذي قامت به الحضارة الإسلامية، ولكننا نجد بعض المؤرخين يعتبرون أن الفلسفة والعلم في السياق الوسيطي الإسلامي مجرد نقل وتقليد للفلسفة والعلم اليوناني ولكنهم لا يقولون ذلك عن الحضارة اليونانية، وهذا نوع من التناقض. إضافة إلى كون أن المعرفة الإنسانية مرتبطة في سياقها التاريخي وأن الأمر لا يقتصر على أن كل حضارة أو مرحلة بحثت في إشكالات مخالفة للأخرى، بل هي مرتبطة في جوهرها وأساسها، لأن كل إبداع معرفي هو نتيجة للعديد من الأسباب التي سبقته وهو رهان للإشكالات التي ستأتي من بعده، وهذا ما يؤكده المؤرخ (ديفيز) حين حديثه عن الأحداث التاريخية بالقول “إن أي تقسيم للتاريخ إلى عصور أو فترات لهو تقسيم غير طبيعي، وكلما زاد التقسيم دقة، كلما بعد عن أن يكون طبيعيا، فكل حدث تاريخي هو نتيجة لعدد لا يحصى من الأسباب، وهو بالتالي نقطة بداية لعدد لا يحصى من الآثار المترتبة عليه. فاللغة والفكر ونوع الحكم والسلوك والعادات- كل هذا يطرأ عليه تغير تدريجي غير محسوس، حتى لنستطيع القول بأن كل عصر هو مرحلة انتقال للعصر الذي يسبقه، ولا يمكننا فهمه فهما تاما إلا إذا نظرنا إليه على أنه وليد الماضي ووالد المستقبل”[27]

إن عودتنا للتصورات الفلسفية القديمة مثل عودة الفلاسفة المسلمين للإبداعات الفلسفية، اليونانية خاصة، لا يعني كما يقول (إتيان جيلسون) أن الفلاسفة حراس المقابر لأن العودة المتكررة إلى الماضي لا يعني إخراج الموتى من قبورهم، وإنما مرد ذلك إلى أن في فلسفتهم أجوبة لأسئلتنا في الحاضر، وهذا ما يفسر عودة الفلاسفة المسلمين إلى الفلاسفة الذين سبقوهم للاستفادة منهم لأن الأفكار الفلسفية لا تموت بموت أصحابها.

لقد أكد العديد من الباحثين والدارسين على أصالة الفلسفة الإسلامية من جهة، ومن جهة ثانية التأكيد على وجود فلسفة عربية إسلامية، مثل الباحث (محمد اشو) الذي اعتبر أن الفلسفة العربية الإسلامية أسهمت، بشكل أو بآخر، في صناعة التاريخ الفكري للبشرية، وأن الأمر أصبح بمثابة مسلمة.[28]

النقطة الثانية: تتجلى أساسا في اكتشاف العديد من المستشرقين الجدد المحايدين لعدة نصوص تؤكد فعليا على وجود لمسة إبداع عربي إسلامي على تلك العلوم والفلسفات. والمفارقة العجيبة في هذا السياق تكمن حينما يتم اكتشاف بعض المخطوطات والكتب، بل حتى بعضا من صفحات كتاب ما يعود إلى العصر الوسيط بشكل عام، يتهافت عليه الجميع حتى أصحاب الدعوة القائلة بظلامية وسوداوية القرون الوسطى، الإسلامية خاصة. لذلك لا يجب علينا أن ننساق وراء هذه المغالطات الإيديولوجية والادعاءات الباطلة، وأن نحتكم في المقابل للدراسات الأكاديمية العلمية.

النقطة الثالثة: تتعلق بتهافت الأطروحة القائلة بأن الحضارة الإسلامية قد انحصر دورها على الترجمة والشرح فقط، وهذه المسألة مسألة خاطئة لأن هذه الحضارة مرّت على ثلاث مراحل أساسية يتعلق الأمر ب:

المرحلة الأولى: هي مرحلة الترجمة فقط، وذلك بترجمة العديد من المؤلفات الفلسفية والعلمية حسب الحاجات الفكرية والحضارية التي كانت مطروحة آنذاك عبر العديد من المؤسسات العلمية الكبرى التي ستسهر على تقديم العديد من الترجمات العالية الدقة، أو بلغتنا المعاصرة اليوم؛ ترجمات علمية أكاديمية صارمة، من خلال رعاية هذه الترجمة من قبل العديد من الأمراء والسلاطين مما شجّع هذه الحركة العلمية وشيوع الفكر الفلسفي والعلمي عموما، وبذلك ساهمت في إعطاء دفعة للفكر الفلسفي العقلاني، ومن بين أشهر هذه المؤسسات نجد ”بيت الحكمة”.

المرحلة الثانية: تتعلق بمرحلة الاستيعاب، وذلك باستيعاب تلك العلوم والفلسفات التي ترجمت إلى اللغة العربية من الحضارات الأخرى.

المرحلة الثالثة: هي مرحلة الإبداع، وذلك بعد التشكيك في تلك النظريات التي تمت ترجمتها واستيعابها وتصحيحها عبر ترميم هفواتها، فأدى ذلك بهم إلى تأليف العديد من الكتب والمؤلفات التصحيحية والتصويبية والتي تشكل لبّ وجوهر الإبداع عندهم.

خاتمة

خلاصة القول، إن المسلمين في السياق الوسيطي قد اهتموا بالعلوم وبالفلسفة إذ قاموا بترجمة العديد من المؤلفات التي تعود للحضارات الأخرى، لكنهم لم يكتفوا بنقلها فقط، بل توسعوا فيها وأضافوا إليها إضافات علمية هامة والتي تعتبر أساس البحث العلمي الحديث. ولهذا السبب وجدنا في تحليلنا لهذا الإشكال العديد من المؤرخين المنصفين والمحايدين الذين اعترفوا بذلك رغم بعض التصورات التي حاولت جاهدة نزع الأصالة والإبداع والتجديد عن الحضارة الإسلامية، وبالتالي فإن هذه الحضارة تمثل حلقة مهمة في سلسلة الحضارات الإنسانية لكونها قد أسهمت في وضع أساس للحضارة الإنسانية الحديثة بنصيب موفور وأن فضلها عليها واضح غير منكور، والحق أن هذه الحضارة قد أحدثت ثورة علمية وفلسفية عمّ خيرها كل أرجاء العالم الإنساني ككل. وفي الأخير لا يسعنا إلا أن نقول بأنه واجب علينا جميعا محاولة كشف أسرار تلك الدراسات والأبحاث التي أنجزت في العصر الوسيط الإسلامي، فهي تستحق أن ننفض عنها غبار السنين بالدراسة والفهم والتحقيق … لعلّنا نكشف بذلك عمّا تحتويه من كنوز لاتزال فاعلة حتى اليوم.

***

يونس موحيا

باحث مغربي- الكلية متعددة التخصصات الناظور

جامعة محمد الأول بوجدة

 ............................

قائمة المراجع

باللغة الأجنبية

Ernest Renan, L’islamisme et la science: conférence faite à la Sorbonne, le 29 mars 1883.

Pascal Crozet, (les sciences arabes entre Antiquité et âge classique: la constitution d'un nouveau champ en histoire des sciences), 2004. ffhalshs-01191455f (CNRS), communication faite a l'occasion de la journée (Hommage a Roshdi Rashid), le 15 juin 2004.

باللغة العربية

أ- الكتب:

أنتوني جواليب، حلم العقل، ترجمة يوسف كرم، دار فاروس للنشر والتوزيع، القاهرة، 2016.

مصطفى عبد الرزاق، تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية، مؤسسة هنداوي، 2021.

ه. و. ديفيز، أوروبا في العصور الوسطى، ترجمة عبد الحميد حمدي محمود، الطبعة الأولى، منشأة المعارف، الإسكندرية، 1958.

يمنى طريف الخولي، فلسفة العلم في القرن العشرين. الأصول_الحصاد_الآفاق المستقبلية، عالم المعرفة، 264، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، ديسمبر 2000.

ب- الأبحاث:

محمد اشو، غيوم المربكي وتوما الأكويني أصداقة أم مظاهر (حمّى تاريخية)، مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث، قسم الفلسفة والعلوم الإنسانية، 06 يناير 2023.

محمد الشبة، منهج مصطفى عبد الرازق في دراسة الفلسفة الإسلامية، مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث، قِسم الفلسفة والعلوم الإنسانية، 17 نوفمبر 2022.

ت- الندوات:

فؤاد بن أحمد، ندوة حول: الفلسفة والكلام وتاريخ العلوم في سياقات المسلمين: أسئلة التاريخ والراهن، الجلسة الأولى، المداخلة الرابعة بعنوان: البحث في الفلسفة في مجتمعات المسلمين: تقليد حديث وموضوع في طور البناء، الكلية متعددة التخصصات الناظور، جامعة محمد الأول بوجدة، المغرب، 28 مايو 2022.

محمد اشو، ندوة حول: الفلسفة والكلام وتاريخ العلوم في سياقات المسلمين: أسئلة التاريخ والراهن، الجلسة الاولى، المداخلة الأولى بعنوان: الفلسفة العربية الإسلامية في صلب التاريخ الإنساني، الكلية المتعددة التخصصات الناظور، جامعة محمد الأول بوجدة، المغرب، 28 مايو 2022.

هوامش

[1] إذا استثنينا المرحلة الهيلينينية والهلنستية ومرحلة الأباء وخطباء روما، باعتبارها كمراحل وصل بين المرحلتين الأساسيتين (اليونانية والوسيطية)

[2] أنتوني جواليب، حلم العقل، ترجمة يوسف كرم، دار فاروس للنشر والتوزيع، القاهرة، 2016، ص308

[3] نفسه

[4] فؤاد بن أحمد، ندوة حول: الفلسفة والكلام وتاريخ العلوم في سياقات المسلمين: أسئلة التاريخ والراهن، الجلسة الأولى، المداخلة الرابعة بعنوان: البحث في الفلسفة في مجتمعات المسلمين: تقليد حديث وموضوع في طور البناء، الكلية متعددة التخصصات الناظور، جامعة محمد الأول بوجدة، المغرب، 28 مايو 2022. ولمراجعة تقرير الندوة يمكن الإطلاع عليه إلكترونيا من خلال موقع : مؤسسة البحث في الفلسفة والعلوم في السياقات الإسلامية، (ندوة) الفلسفة والكلام وتاريخ العلوم في سياقات المسلمين: اسئلة التاريخ والراهن.

[5] أنتوني جواليب، حلم العقل، مرجع سابق، ص 308-309

[6] محمد اشو، غيوم المربكي وتوما الأكويني أصداقة أم مظاهر (حمّى تاريخية)، مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث، قسم الفلسفة والعلوم الإنسانية، 06 يناير 2023، ص 9

[7] أنتوني جواليب، حلم العقل، مرجع سابق، ص 307.

[8] ه. و. ديفيز، أوروبا في العصور الوسطى، ترجمة عبد الحميد حمدي محمود، الطبعة الأولى، منشأة المعارف، الإسكندرية، 1958، ص 13.

[9] نفسه، ص 14.

[10] أستاذة فلسفة العلوم ورئيسة قسم الفلسفة بكلية الآداب بجامعة القاهرة، وقد أسهمت في نشر الثقافة العلمية وأصول التفكير العلمي والعقلاني بالعشرات من المقالات والبرامج التلفزيونية والمحاضرات العامة.

[11] يمنى طريف الخولي، فلسفة العلم في القرن العشرين. الأصول_الحصاد_الآفاق المستقبلية، عالم المعرفة، 264، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، ديسمبر 2000، ص 34.

[12] Ernest Renan, L’islamisme et la science: conférence faite à la Sorbonne, le 29 mars 1883.

[13] مصطفى عبد الرزاق، تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية، مؤسسة هنداوي، 2021، ص 16.

[14] نفسه

[15] مصطفى عبد الرازق، مرجع سابق، ص 12-13.

[16] محمد الشبة، منهج مصطفى عبد الرازق في دراسة الفلسفة الإسلامية، مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث، قِسم الفلسفة والعلوم الإنسانية، 17 نوفمبر 2022.

[17] من أجل معرفة موسعة وصارمة حول هذا الموضوع، يمكن مراجعة البحث المحكم ل: محمد الشبة، منهج مصطفى عبد الرازق في دراسة الفلسفة الإسلامية، مرجع سبق ذكره.

[18] مصطفى عبد الرازق، تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية، مرجع سابق، ص 27.

[19] Pascal Crozet, (les sciences arabes entre Antiquité et âge classique: la constitution d'un nouveau champ en histoire des sciences), 2004. ffhalshs-01191455f (CNRS), communication faite a l'occasion de la journée (Hommage a Roshdi Rashid), le 15 juin 2004.

[20] نفسه

[21] نفسه

[22] ترمز البومة في الثقافة اليونانية القديمة وفي أوروبا إلى الحكمة والفلسفة.

[23] محمد اشو، غيوم المربكي وطوما الأكويني أصداقة أم مظاهر (حمّى تاريخية)، مرجع سابق، ص 8.

[24] أنتوني جواليب، حلم العقل، مرجع سابق، ص 314-315.

[25] نفسه، ص 315.

[26] لابد من الإشارة أننا لا نؤكد على ما يسمى بالأطروحة الإتصلانية التي تنفي القطيعة الابستمولوجيا أو عن الأطروحة الإنفصلانية التي تدافع عن القطيعة الابستمولوجيا لأن هذا موضوع آخر ومختلف.

[27] ه. و. ديفيز، أوروبا في العصور الوسطى، مرجع سابق، ص 9.

[28] محمد اشو، ندوة حول: الفلسفة والكلام وتاريخ العلوم في سياقات المسلمين: أسئلة التاريخ والراهن، الجلسة الاولى، المداخلة الأولى بعنوان: الفلسفة العربية الإسلامية في صلب التاريخ الإنساني، الكلية المتعددة التخصصات الناظور، جامعة محمد الأول بوجدة، المغرب، 28 مايو 2022.

لمراجعة تقرير الندوة يمكن الإطلاع عليه إلكترونيا من خلال موقع : مؤسسة البحث في الفلسفة والعلوم في السياقات الإسلامية، (ندوة) الفلسفة والكلام وتاريخ العلوم في سياقات المسلمين: اسئلة التاريخ والراهن.

لقد أقدم علماء الغرب وغيرهم البحث التاريخيو - الفكري والاجتماعي مثل أطروحات شبينجلر وهيجل وبارك ورودنسون وكما يسقط أرنست وجيرتز في منهج هيرمينيتيكي يبحث في اعماق الفكر وكواليس السلوك ومبادىء المجتمع وأفكاره وعقائده التي تحرك الاجتماعي ثقافيا في الدولة القطرية أو دولة – الأمة المعاصرة والحديثة، فكان أن انتهى الاستعمار إلى إدراك خفايا الشعائر والطقوس الإسلامية وإثرها فهم الدرس وأخذ المنهج الروحي عنهم ولكن بتحور متغطرس، كما بدأ بتدرس القيم والعادات والافكار والعقل الإسلامي وجعل من ألاف المسلمين المهاجرين، دفعة روحية وتغذية مانعة للميوعة ورافعة للتعالي الإنساني.

يشكل الصوفية كشكل من الخطاب التقليدي، وهو ممارس بديل عن الخلل السياسي والميع الإجتماعي في بعض تطورات التاريخ والحضارة؛ داخليا وعالميا ... أي هو خطاب لاحق مباشرة للحدث الانفصالي للدين عن الدولة، ونشأة الأمة الاسلامية وظهور الفتن وسيطرة الطوائف وتدخل الأجانب في حكم المناطق العربية، بالاضافة إلى سيادة ظروف القمع والظلم والقهر الاجتماعي، وبالتالي إنكسار نفسي وروحي لمعظم الطبقات الاجتماعية التي ابتعدت عن السلطة طوعا أو كرها، فهي إما رافضة لسلطة جديدة ناشئة أو داعية لفكرة سياسية جديدة مما يؤكد شدة العلاقة القائمة بين التصوف والسياسة في المجتمع الإسلامي . فالتصرف كان شاهدا ظرفيا في الحدث السياسي الإسلامي، بحيث ابتعد عن ملاذ الدنيا وحياة الرفاه ولجأ إلى التقليد الديني أو للدعوة السرية أو البحث النظري والفلسفي في ظواهر الكون والطبيعة وقراءة الفلسفات القديمة وتفسير القرآن والسنة النبوية تفسيرا باطنيا وعميقا .

وقد المشرق والمغرب وفارس وتركيا، مراكز توسع أفقي وعمودي للصوفية، عكس الخليج والحجاز نحيث مجدت الصوفية ضربات فكرية وتهرب إجتماعي منها حيث التصادم المباشر والسريع مع الغرب المتوسطي والتعدد الثقافي، مايلزم لأخذ الموذج الصوفي لتساهليته لحفظ الدين وتماسك المجتمع.. لقد حلل الخطاب الصوفي إشكالية العلاقات السائدة بين الله والبشر ودرجات الإيمان وأنواع الكائنات كالجن والملائكة وعلاقتهم بالله والبشر، وتفسير الظواهر الطبيعية كالريح والمطر والعواصف والزلازل والأمراض وتحليل القدر والمكتوب وحادثة خلق الإنسان وأصله، وكيفية نشوئه وكيفية حلوله في ذات الله وحلول روح الألوهية وتناهي الإنسان فيها، الشيء الذي أحدث ضجة كبيرة بين أهل الكلام والمعتزلة والأشاعرة والفلاسفة في الفكر الاسلامي القديم، حيث نسجل المناظرات بين أبن عربي وابن رشد والغزالي وأبي حامد والبسطامي وأبي القاسم الجنيد، وأبي طالب الملكي والحلاج وصهيب الرومي وحتى ابن خلدون كان فقيها وقاضيا ومتصوفا .

شكلت الحركة الصوفية مظهرا ثقافيا متقدما وروحيا متعاليا على المجتمع الإسلامي وعلى قواعده الأخلاقية مثل الخروج عن السياسة وأنظمة الحكم وابتعادا عن الظواهر العادية والحقيقية. وانقسموا إلى فئات منها:

- التصوف الأشعري: السني وما حفظ الفروض والنوافل الأساسية وترك الحرية لإضافات غير محرفة.

- التصوف الشيعي: وهو ما ظهر أول الإسلام من مراقد وخلوات وحوزات شيعية كتجمع فكري وعائلي.

- التصوف الفلسفي: الذي نجده عند الحلاج والسهروردي وإبن عربي.

وهكذا تأثر بالفلسفة والأديان الفارسية والهندية والصينية. وكانت لهم مواقف متعددة ومتغيرات حول المجتمع وحول المواقف السياسية . فمنهم من شكل معارضة، ومنهم من اعتكف ولجأ إلى الزهد، ومنهم من لزم الصمت، وكان ذلك تجنبا للفوضى والعنف وبهدف نشر السلم الاجتماعي في مجتمع يتميز بسيطرة مختلفة . حيث كان المجتمع الاسلامي " .في وضعيات كرستها مقولات نجد في كتاب جاك بيرك وعلنر وجيرتز في فلسفة العمق العقائدي في المغرب الإسلامي الحديث.

وهنا يمك الرجوع إلى تقديمات حليم بركات وعبد القادر جغلول وهواري عدي ونور الدين حقيقي وهشام جعيط والعروي؛ من حيث المقاربة الإجتماعية للفعل التكاملي للمجتمع، وليس تنميط فلسفي حسب الوردي أو الجابري، وإنما حسب مقاربىة إبن خلدون من خلال الدين والعادة والرابط المعاشي وهو تحليل حول الطابع الروحي والتقليدي للمجتمع العربي والمغاربي والعالم الثالث . ونظرية ابن خلدون الذي وصفت المجتمع الإسلامي بالرعوية والقبلية. كما يقول أن " هناك من المرابطين من كان طرفا في النزاعات والصراعات ولكنهم لم يستطيعوا أن يكونوا قضاة وأعضاء في الحل "

وقد كانت لهم مكانة علمية وسياسية في الأمر والنهي وحل النزاعات حسب عدي ." فقد كان دور المرابط ليس أساسيا في السلم عندما ينشأ النزاع بين قبيلتين فقط ولكن أيضا داخل القبيلة الواحدة "، حيث يرى لويس غاردي ذلك وهو الباحث الكبير في التراث الإسلامي وتاريخه الذي واجه عدة انتقادات علمية ومنهجية من طرف البعض، وخاصة المفكرين العرب الحداثيين الذين نهلوا من الفلسفة الغربية ودرسوا التاريخ العربي والإسلامي على يد هؤلاء المستشرقين .

يقول غاردي: "إن التصوف كان مهمشا في الحياة العامة . فقد كان عنصرا من الحياة الاسلامية الحضرية في العصور الكلاسيكية، وقد كانت هناك حلقات كبيرة . مثل حلقة رابعة العدوية التي تعزف الناي وتدعو إلى العشق الإلهي في مدينة البصرة في عهدها". ولكن يجب ملاحظة أنه تواجدت إلى جانب الصوفية، كجماعة علمية ودعوية للإسلام، جماعات معادية لها، وهي جماعات سياسية وأخرى فلسفية ولاهوتية وأصولية وفقهاء من المعتزلة وفقهاء الحنفية، أي أنصار المذهب الحنفي الذي أنشأه أبو حنيفة النعمان في العهد العباسي ليضع نظاما متطورا من الشرائع والقواعد الإسلامية. إن الحالة الروحية للصوفية هي حالة توحد مع الله بالتجربة، لهذا اعتبرت الصوفية فرقة كافرة وخارجة عن الدين.وتقوم بالزندقة، إذ حاربها العلماء والفقهاء . وهكذا شاركت السلطة ورجالها وأهل العلم في محاربة الحلاج الذي اعتمد نظرية الحلول والتماهي مع الله وطرد من الأماكن المقدسة وقام الناس بتكفيره .

وقد نلاحظ في بداية ظهورها صرامة القضاء الإسلامي مع هذه الجماعة وتعليماتها ومواقفها وبالتالي شكلت تيارا هامشيا في الواجهة الإسلامية لتلك الفترة التي يسود فيها الإسلام الرسمي . منذ ذلك الحين نشأت مؤلفات ضخمة تدافع عن تلك الحركة وذلك المذهب وتؤسس له مبادئه وتعاليمه المذهبية التي تميزه عن الإسلام السني والإسلام الرسمي المسيطر .

كان تطور الفكر الغربي الحديث والأدب الأوروبي مرتبطا بكل جدارة بالإنتاجات الاهوتية المسيحية واليهودية من العهد الأو والثاني، ثم الفلسفة اليونانية قليلا ثم بالمنتوج الإسلامي الذي ترجم أهم إنتاجات اليونان . وهكذا تحمل الإسلام عبء التثاقف الكوني لمرحلة عشرية قرنية، وحمل الثقافات العربية والفرسية والامازيغية والتركية والإفريقية بكل ذكاء وكل إشتمال معنوي ومادي ورمزي في تفاعلية وتناظرية متوازية ومتواصلةمع التاريخ.فكان نتيجتها أن تكامل تصور العقل والإنسانية ووحدة التفاعل الإنساني الحضاري وضرورته.

وقد مثلت مرابع فكر النهضة متكأأ عضيما على التجذر الإسلامي على إنسانيات القرون الوسطى مثلما نجد عند مقالات وميكيافيلي وكتب توماس مور وبودان والحركة الإنسانية للنهضة.

وتواصل المسار حتى ظهرت المشاعر الأوروبية من حيث الملامح، طبق نزعات التوجهات الدينية والفكرية للثقافة الحداثية الصاعقة المختلفة عن المدونات المسيحية وتقاليدها، مما جعل هذا التيار، يجد مقاومة شديدة من طرف علماء الإسلام وعلماء اللاهوت المسيحي وعلماء الفقه أحيانا لأنه هناك طرفين في البحث العلماني المتحرر. ونتج عنه تيارين. فكان منه:

تيار غرائبي ساخر

وتيار غرائبي إيجابي

وتيار إغرابي وإستلابي، يريد الإحتواءوإستيلاء على حضارة الإسلام....

لقد كان البحث العلمي ومنجم عنه من رفاهيات فنية وروائية، دافعية للترقي الإقتصادي لإعادة بعث للهجوم الصليبي أحيانا بصورة فكرية ولكنه في الجانب الآخر لعب الطرف المدني والحيادي الإنساني إعادة احياء التراث الإسلامي والأمازيغي والإفريقي إلى الحياة، وهذا لا يمكن إنكاره، .

وجعل البحث عن المجتمع المدني والدولة الوطنية وسيادة الأمة؛ اساليب للتكتل والتنميط الهوياتي للمجنمع الغربي ثم بناء اطر التنمية والتطوير ونقل التكنولوجيا والديمقراطية وحقوق الإنسان ولإستشراف محطات لتوقف ونبذ الذات الىثمة حين الإستعمار والفكر الدائري النرجسي .مع العلم أن المسلم اليوم لم يقرأ الكل فكري الغربي والذي لازال غامضا في عدائيته أو عشقه للمنتوج الإسلامي .

***

عتيق العربي - الجزائر

الوقوف أمام الخطابات الدينية التي تناولت آية وأخبار ضرب المرأة يكشف لنا بوضوح عمق مشكلة الخطاب الديني التقليدي والتنويري، فيشعرك بالحيرة هل هو يتجمل أم يُخادع! هل يجتزأ عن عمد أم أنه وقع في الاجتزاء دون قصد! ويظل السؤال الذي يؤرق من يُطالع كتب المفسرين والفقهاء ومعاجم اللغة وأشعار العرب لماذا الخطاب الديني يُخفى أنه يقوم بعملية اختيار للمدلول وأنه يسكت عن مدلولات أخرى؟ لماذا يُغفل البعد الاجتماعي للآية القرآنية؟!

أبدأ بتناول المدرسة الإخبارية أو مدرسة الحديث كما تحب أن تُسمّى نفسها، فسنجدها أكثر صراحة وأكثر إيلاما في طرحها، فسنة الله في كونه من منظورهم أنّ للرجال قوامة بمعنى ولاية وسلطة وإمارة على النساء، ويمتنع أن تكون للمرأة مثل ذلك على الرجل، وعلة ذلك من منظورهم أن الله فضل جنس الرجال بقوة الجسم والعقل والإنفاق بقدرة على السعي للكسب لا تستطعها النساء لضعف قدرة الجسمية والعضلية، وهذا من منظوري صحيح إذا كنا سنتكلم عن مجتمع عرب الجزيرة العربية الأول حيث كان الرجل لا المرأة هو الذي يُحارب ويأتي بالغنيمة وهو الذي يخرج للصيد وفي رحلات تجارية تخترق الصحارى المقفرة وليست المرأة لكن حركة الاجتماع انتقلت بنا إلى مكان آخر ينبغي أن تتغير معه مفهوم القوامة التي تحمل مدلولا اجتماعيا وليس دينيا كما حاول الفقهاء والإخباريين، فالرجل والمرأة في مجتمع اليوم يستويان أمام القانون كلاهما مواطن تتولى الدولة حمايته، كما أنه لم يعد الكسب قاصرا على ما كان شائعا في البيئة العربية الأولى بما يمنح الرجل تفوقا، فالقوامة الاجتماعية التي تُؤسس لتفوق ذكوري حلّ بدلا منها قوامة المشاركة.

وإذا عدنا إلى تناول مدرسة الحديث لقضية ضرب المرأة فسنجدها ترى المرأة أمّا قانتة طائعة لزوجها أو ناشزة غير طائعة لزوجها، وأن النشوز داء دواؤه ثلاث: عظة ثم هجر في المضاجع ثم ضربٌ، فتُضرب ضربا يحصل به تأديبها، ولا يحصل به جُرح امتثالا لقول الرسول صلى الله عليه وسلم "اتَّقوا اللهَ في النِّساءِ؛ فإنَّكم أخذتُموهنَّ بأمانِ اللهِ، واستحلَلْتُم فُروجَهنَّ بكَلِمةِ الله، ولكم عليهنَّ أنْ لا يُوطِئْنَ فُرُشَكم أحدًا تَكرَهونَه، فإنْ فعَلْنَ ذلك فاضرِبوهنَّ ضَربًا غيرَ مُبَرِّحٍ". [أخرجه مسلم ١٢١٨]. ويتوقف الزوج عن الضرب التأديبي إذا حصلت الطّاعة الظاهرة. وإذا انتقلنا إلى المدرسة الأصولية/ الفقهية فسنجد المذاهب السنية الفقهية الأربعة متفقة على أن علاج نشوز المرأة هو الضرب إذا لم ترجع بالوعظ والهجر، واشترطوا باتفاق بينهم ألا يكون الضرب مبرِّحا.

نخلص من ذلك إلى أن المدرسة الإخبارية/مدرسة الحديث، والمدرسة الأصولية/ الفقهية وأقوال المفسرّين الأوائل اتفقت على أن الضرب غير المبرّح بغرض تأديب الزوجة الناشز مشروع ومأمور به، على ألا يكون الضرب على الوجه والمهالك لقول النبي صلى الله عليه وسلم "لا تضرب الوجه، ولا تقبح، ولا تهجر إلا في البيت". [أخرجه أبو داود والنسائي وابن ماجة في سننهم].

هذا عن التراث فإذا عدنا إلى الخطاب الديني المعاصر فسنجده في مأزق بين التراث ومدلول الآية من جانب وما انتهت إليه العرف الإنساني الذي يُبشّع أي شكل من أشكال العنف ضد المرأة، ويراه انتهاكا لحقوق الإنسان والحريات الأساسية، وأمام الخطاب الإنساني العام وحركة الاجتماع المندفعة للإمام وجدت الخطابات الدينية نفسها مضطرة إلى اتّخاذ موقف من التراث والآية القرآنية بين متجاهلٍ يقفز إلى الأمام.. وبين مجتزئ يُحاول أن يُخفي جانبا من المدلولات والأخبار ويستدعى بحماسة جانب من تلك المدلولات والأخبار بما يتسق مع واقعه، وليس لديه مانع أن يلوى عُنق اللغة.

فدار الإفتاء المصرية على صفحتها اكتفت بنشر هذه العبارة: "الرجال لا يضربون النساء"، وهي عبارة تحمل إشكالية أكثر منها حلا؛ لأنها تتعارض مع الأمر القرآني للمؤمنين في سورة النساء بضرب الزوجة اللاتي يخافون نشوزهن، فما فعلته دار الإفتاء المصرية أنّها قفزت إلى الإمام حيث انتهى الخطاب الإنساني، فإذا كان المجتمع الدولي ومواثيق حقوق الإنسان ترى ضرب الزوجة ضد معاني الإنسانية فالمسلمون قفزوا إلى هذا المكان يقفون معهم على خط واحد، ولن تدخل في جدال مع النّص القرآني الكريم.

ومن أمثلة القفز إلى الأمام المادة الإعلامية التي قدّمها الداعية الشاب الأستاذ مصطفى حسني، فعند حديثه عن ضرب الزوجة لم يقترب من الآية لكن تناول الموضوع من منظور الإحصائيات والدراسات الاجتماعية فآليات خطابه يختارها بما يُناسب ذوق جمهوره، فتجاهل الآية القرآنية، والتراث المصطدم مع الواقع وانطلق إلى الآثار العلمية والاجتماعية لضرب الزوجة، مؤكدا أن ضرب الزوجة الحامل يُفقد جنينها كثيرا من وزنه، كما أن الأولاد يتوارثون العنف.

والقفز إلى الأمام ليس الطريقة الوحيدة المتّبعة لمواجهة إشكالية اصطدام التراث الفقهي والآية القرآنية مع حركة الاجتماع، فهناك تأويليات للنص القرآني من أشهرها ما بدأه الدكتور طه علواني الذي أوّل فاضربوهن بمعنى فأبعدوهنّ، وهذا يتنافى مع الاستعمال العربي، فإفادة "ضرب" معنى الإبعاد يرتبط بالفعل "ضرب" اللازم الذي لا يتعدى إلا بحرف جرّ مثل "يضربون في الأرض" بمعنى يتنقلون ويبتعدون، أما ضرب المتعدي إلى مفعول عاقل بلا حرف جرّ فلا يُفيد سوى الضرب وهو كما قال ابن منظور صاحب لسان العرب: "الضرب معروف" به جاءت لغة العرب ونطقت أشعارهم.

وفي محاولة لنزع فتيل الأزمة بين التراث والآية القرنية من جانب والحاضر والخطاب الإنساني المعاصر الرافض لضرب المرأة مهما كان الدافع من جانب آخر أكّد شيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيب أن ضرب الزوجة مباح مقيد أو استثناء من أصل ممنوع، فالضرب ممنوع إلا أنه يُباح للزوج كدواء لمرض النشوز، فالشيخ سكت عن قول الإخباريين والفقهاء بمشروعية الضرب بغية التأديب بضابط ألا يكون مبرّحا، وميّز فضيلته بين فقه صحيح وفقه غير صحيح، وقال إنّ ضرب الزوجة لا يعدو عن كونه ضرب الضرورة أو الاستثناء ثم عاد، وجعله تأديبا عندما ضرب مثالا بضرب الأم لابنتها وضرب المربّي اليتيم الذي يحتاج تأديبه إلى الضرب إلا أنه اشترط أن تكون النية التأديب وليس العدوان، فعاد مرة أخرى إلى معنى التأديب في لغة الفقهاء، ثمّ سكت فضيلة الإمام عن الماضي، وانطلق من الواقع متمنيا أن يُجرّم الضرب في حياته، وأكّد على أن الإنسانية لا تقبل أن يضرب إنسان إنسانا، والإسلام بوصفه دين الفطرة لابد أن يتسق مع الإنسانية، يذهب معها حيث ذهبت.. إلا أنه عاد وقال بمشروعية الضرب فـ"هو الدواء لعلة النشوز، فالمرأة الناشز هي المرأة المتكبرة، والضرب هو رمز لجرح كبرياء تلك المرأة، حتى لا ينهدم المعبد/ الأسرة فنلجأ إلى أخف الضررين، وهو الضرب حفاظا على الأسرة، فالضرب على إطلاقه لأي سبب من الأسباب لا يُمكن أن تأتي به الشريعة أو نظام يحترم الإنسان، فضرب الزوجة استثناء من أصل ممنوع وُضع له شروط من أهمها النشوز، أما المرأة غير الناشز فلا يجوز ضربها، حتى لو وصل الخلاف إلى شتمها الزوج". وجانب من طرح الإمام يُمكن أن يُبنى عليه فحركة الاجتماع والإنسانية حكَمٌ على نتاج الفقهاء وأقوال الإخباريين الذين شرّعوا ضربَ المرأة ضربا غير مبرّح تأديبا لها، فيقول فضيلة الإمام صراحة "من يُشرّع لضرب الزوجة على الإطلاق فقد ظلم للقرآن الكريم والفقه الإسلامي الصحيح". ويحذر القائمين على الفتوى من إباحة ضرب الزوجة على إطلاقية الحكم.

وتعليقا على ما قاله شيخ الأزهر جاء ردّ الأستاذ إسلام البحيرى، بأنّ النشوز في الآية بمعنى الخيانة، فهو ميل الزوجة عن زوجها، فيكون الضرب في هذا السياق الاجتماعي مشروعا، وليس النشوز بمعنى الاستعلاء عن طاعته، ويؤكد قوله بسياقات الآية السابقة واللاحقة، ويرى أن رأيه على نقيض ما وصفه بأقوال التراثيين التي تُرددها المؤسسة الدينية.. والواقع أن ما طرحه البحيري هو قول تراثي هو الآخر حملته بعض مرويات ابن جرير الطبري في تفسير الآية، فتفسير ابن جرير الطبري جمع العديد من المرويات المتناقضة، فمن يريد أن يتحدث عن اللطف والرقة في الضرب سيختار مروية ابن عباس عن الضرب بالسواك التي تستدعيها الخطابات الدينية كثيرا. ومن يريد أن يتحدث عن العنف فسيختار ما روي عن الزّهري بأن الرجل لا يقتصّ منه لزوجته في ضرب ونحوه فلا قصاص منه إلا إذا قتلها، وما دون ذلك لا قصاص فيه، وإلى جوارهم مروية ابن جرير الطبري في تفسيره رواية أبي جعفر والسدي الشارحة لقوامة الرجال بأنّها سلطة تأديب النساء، ورواية لقتادة تقول إن الآية نزلت لأن رجلا من الأنصار لطم امرأته فجاءت تلتمس القصاص، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم بينهما القصاص، فنزلت الآية "الرجال قوامون على النساء" لتمنع النبي صلى الله عليه وسلم من القصاص، وإن كانت هذه مروية مرسلة لا يعتد بصحتها، فتفسير الطبري موسوعة جمعت بين الصحيح وغير الصحيح والمتطرف والمعتدل من الآراء.

وكما اختار الأستاذ إسلام البحيري من مرويات تفسير بن جرير الطبرى، اجتزئ الشيخ عبدالله رشدي هو الآخر فالضرب عنده بالسواك فحسب، وكأننا أمام مروية واحدة وليس عشرات المرويات والأخبار، فالضرب بتعبير الشيخ رشدي "ضرب على أطراف الأصابع كما تفعل مع ابنك الصغير وتقول له هذا كخ.. الضرب كده حاجه لطيفه ليس بالمعنى الذي يتبادر إلى ذهنكم". فهو فرّغ الضرب من ملوله اللغوي ومدلوله الفقهي، وابتعد به عن أجواء البيئة العربية التي قال الرسول صلى الله عليه وسلم مستنكرا: "لا يجلد أحدكم امرأته جلد العبد، ثم يجامعها في آخر اليوم". [أخرجه البخاري ٥٢٠٤، مسلم ٢٨٥٥].

من ناحية ثانية لا يخلو تناول الشيخ عبدالله رشدي من الهجوم على المختلف معه، فلسنا أمام اختلاف تأويلات وإنما هو من منظوره شغبٌ على القرآن الكريم، فالمخالف له في مواجهة مع القرآن وليس معه، وينطلق من استعلاء بالتراث الذي يُدخله في بنية المقدس، فيقول عن التراث الفقهي "نُظمٌ لا وجود لها إلا في الدين الإسلامي"، ولا يخفى ما في هذا من مغالطة خلط المقدس بغير المقدس؛ لذا يُخفى ويجتزئ ليصل إلى نتيجة مقررة عنده سلفا وهي أن "من يقول: بإباحة الضرب هذا خبل وجنون وضحك على العقول". وكأننا لسنا أمام طرح مستقر في بنية خطابنا التراثي الفقهي والإخباري لضرب الزوجة الناشزة تأديبا لها ضربا غير مبرّح، ويكرر الشيخ عبدالله رشدي الخلط بين المقدس وغير المقدس بتكراره لتعبير "الشرع الشريف" إشارة منه إلى كلام الفقهاء، وهذا على خلاف طرح فضيلة الإمام الأكبر الذي جعل الفطرة الإنسانية ضابطا في الفهم وأداة في نقد الفقه لمعرفة الصحيح منه وغير الصحيح، وكما قدّم الأستاذ إسلام البحيرى وجها في كلمة ناشز حملته آراء التراث إلا أنه بعيد عن المعجمية العربية والذاكرة الشعرية، فعل الشيخ رشدي الأمر نفسه فالنشوز عنده ليس تكبرا عن الطاعة ولا خيانة زوجية لكنه على حد تعبيره: "فقدان المرأة لمعاني الأدب بتطاولها على زوجها بالسبّ والضرب"، وهذا بعيد عن المعجمية العربية.

أخيرا يظل المدخل اللغوي المعاصر والمدخل المقاصدي الأكثر علمية والأقدر على تفكيك إشكالية آية الضرب مع الواقع الاجتماعي المعاصر، فالطرح المقاصدي يتحدث عن زوال الحكم بزوال علته، فالضرب لا يحقق غايته من إصلاح بل يؤدى إلى نقيضه مما يؤدي إلى زوال حكم الآية، ويرى المدخل اللغوي أن الآية خطاب له سياقات تاريخية وثقافية لمجتمع عربي ما زالت حديث عهد بجاهلية على حد قول النبي صلى الله عليه وسلم للسيدة عائشة لولا أن قومك حديثو عهد بجاهلية لهدمت الكعبة وجعلت لها بابين" فالآية لا تقدم مقاربة لأحكام سيكون لها صفة الديمومة كالمعنى الإنساني في آية "وجعلنا بينكم مودة ورحمة" لكنها خطاب يشتبك مع واقع اجتماعي في أول سلم الإنسانية يحاول ترشيده وفق آليات الاجتماع وثقافة العرب في تلك اللحظة التاريخية، فلا نقيس حركة اجتماع المندفعة نحو التغيير وتعزيز القيم الإنسانية بما كانت عليه المجتمعات الأولى، ولا نطالبها بأن تفكر بعقلية إنسان اليوم، فالإسلام لا يتعجل الإصلاح الاجتماعي، وإن حثهم وحثنا على أن نمضي في طريق تعزيز المعاني الإنسانية والأفكار العقلانية، فتلك الغاية التي ينبغي أن ينطلق نحوها المسلمون في تشريعهم المتغير استجابة لحركة الاجتماع، المستفيد من كل الطروحات الإنسانية أيا كان مصدرها.

***

أ. د. عبدالباسط سلامه هيكل

نورمان فيركلف نموذجاً

"في واقعنا المعاصر يتعرض الإنسان في مجتمعاتنا، كغيره من المجتمعات الإنسانية، إلى مجموعة من الخطابات في حياته اليومية. وتزداد الخطابات كثافة في أوقات الأزمات. ولا نستطيع الجزم ببراءة الخطابات من أغراض الهيمنة على وعي متلقيها، لاسيما إذا كان منتج الخطاب من حائزي السلطة أو ممن يسعون إلى حيازتها، وخصوصاً إذا كان سياق إنتاج الخطاب وتداوله سياق أزمة يبلغ فيها الاستقطاب بين الأطراف ذروته "(1).

لقد ظهر التحليل النقدي للخطاب critical discourse analysis منذ تسعينيات القرن العشرين بوصفه توجهاً جديداً في تحليل الخطاب في الأوساط الأكاديمية في أوروبا الغربية. ومع نهاية القرن كان يمثل أحد أكثر توجهات تحليل الخطاب استقطاباً للباحثين. ويحدد فان دايك (أحد مؤسسي التحليل النقدي للخطاب) موضوع التحليل النقدي للخطاب بأنه دراسة الكيفية التي يقوم بها النص والكلام بتقنين وإنتاج ومقاومة اعتداءات السلطة الاجتماعية وهيمنتها ولا مساواتها. وأن المحلل النقدي للخطاب يسعى إلى فهم اللامساواة الاجتماعية والكشف عنها تمهيداً لمقاومتها. ومن ثم فإن التحليل النقدي للخطاب له توجه عام يستهدف توعية البشر بالتأثيرات المتبادلة بين اللغة والبنى الاجتماعية، تلك التأثيرات التي لا يعيها البشر غالباً(2).

وفي ذات السياق، كتب نورمان فيركلف عام 1985 مقالاً بعنوان: الأهداف النقدية والوصفية في تحليل الخطاب، داعياً إلى نزع الألفة عن الإيديولوجيات التي تتجسد غالباً في تشكيلات خطابية إيديولوجية، وذلك بتبني تحليل خطاب ذي أهداف نقدية، يبرز كيفية تحديد البنيات الاجتماعية لسمات الخطاب، وكيفية إسهام الخطاب بدوره في تحديد البنيات الاجتماعية. وبعد عدة سنوات، يؤلف فيركلف كتابه المؤسس لمقاربة الجدلية العلائقية في التحليل النقدي للخطاب تحت عنوان: اللغة والسلطة عام 1989، وفيه تظهر النزعة النقدية في دراسة اللغة واضحة، خاصةً في دراسة العلاقات غير المتساوية في السلطة الاجتماعية. ويظهر كذلك البعد النضالي المقاوم لهذه العلاقات غير المتساوية في السلطة(3).

تعتبر اللغة جزء من المجتمع، وليست خارجة عنه بصورة ما، كما أن اللغة عملية اجتماعية، يتحكم فيها المجتمع، أي إنها تخضع لتحكم جوانب أخرى (غير لغوية) في المجتمع، فأما الظواهر اللغوية فهي اجتماعية، بمعنى أنه حيثما تكلم الناس أو أنصتوا أو كتبوا أو قرؤوا، فإنما يفعلون ذلك بطرائق يحددها المجتمع، ولها آثار اجتماعية، وحتى حين يصل وعي الناس بفرديتهم إلى ذروته ويتصورون أنهم برئوا إلى أقصى حد من الآثار الاجتماعية – في أحضان الأسرة على سبيل المثل – فإنهم يستخدمون اللغة أيضاً بطرائق تخضع للأعراف الاجتماعية، والظواهر الاجتماعية لغوية، من ناحية أخرى، بمعنى أن النشاط اللغوي الذى يجري في السياقات الاجتماعية – شأن جميع ألوان النشاط اللغوي- ليس مجرد انعكاس أو تعبير عن العمليات والممارسات الاجتماعية، بل يمثل جزءاً من هذه العمليات والممارسات، كالمنازعات حول معنى بعض العبارات السياسية(4).

في حقيقة الأمر بات مصطلح " الخطاب " مصطلحاً شائعاً في عديد من أفرع المعرفة، منها النظرية النقدية وعلم الاجتماع وعلم اللغة والفلسفة وعلم النفس الاجتماعي وغير ذلك حتى إنه أصبح يترك دون تعريف كأنه صار من المسلمات. وهو يرد بكثرة في تحليل النصوص الأدبية وغير الأدبية، وربما كان له النطاق الأوسع من الدلالات الممكنة بين المصطلحات النظرية الأدبية والثقافية(5).

يشار إلى الخطاب عموماً بأنه وحدة تواصلية إبلاغية، متعددة المعاني، ناتجة عن مُخاطِب معين، وموجهة إلى مُخاطَب معين، عبر سياق معين. وهو يفترض وجود سامع يتلقاه، مرتبط بلحظة إنتاجه، لا يتجاوز سامعه إلى غيره، وهو يدرس ضمن لسانيات الخطاب، وفي معجم أكسفورد يعرّف الخطاب بأنه: عملية الفهم التي تمر بنا من المقدمة حتى النتيجة اللاحقة، وهو أيضاً الاتصال عبر الكلام أو المحادثة، القدرة على المناقشة. ويعتقد اللساني الفرنسي إيميل بينفينيست بأن الخطاب هو كل تلفّظ يفترض متحدثاً وسامعاً يكون للطرف الأول نيّة التأثير في الطرف الثاني بطريقة ما، ومن ثمة فهو يميز بين نظامين من التلفظ هما الخطاب والحكاية التاريخية. فالخطاب قوامه جملة الخطابات الشفوية المتنوعة ذات المستويات العديدة وجملة الكتابات التي تنقل خطابات شفوية أو تستعير طبيعتها وهدفها شأن المراسلات والمذكرات والمسرح والأعمال التعليمية، ويختلف عن الحكاية التاريخية في مستويين اثنين هما الزمن وصيغ الضمائر(6). ويعرف جيوفري ليتش ومايكل شورت الخطاب بأنه " تواصل لغوي يُنظر إليه باعتباره عملية تجري بين متكلم ومستمع، أو تفاعل شخصي يحدد شكله غرضه الاجتماعي. والنص تواصل لغوي (سواء شفاهي أو مكتوب) ينظر إليه باعتباره رسالة مشفرة في أداتها السمعية أو البصرية ". ومن المفكرين من يضعون الخطاب في تضاد مع الإيديولوجيا، فيقول روجر فاولر على سبيل المثال: " الخطاب كلام أو كتابة ينظر إليه من منظور المعتقدات والقيم والمقولات التي يجسدها، فهذه المعتقدات والقيم تمثل طريقة للنظر للكون، تنظيم للتجربة أو عرضها – الإيديولوجيا- بالمعنى المحايد غير الازدرائي. وأنماط الخطاب تحيل مختلف صور عرض التجربة رموزاً، ومصدر صور العرض هذه هو السياق الصريح الذي يرد الخطاب ضمنه "(7).

كما يعرف فوكو الخطاب بأنه النطاق العام لكل الجمل، أحياناً باعتباره مجموعة متفردة من الجمل، وفي أحيان أخرى باعتباره عملية منضبطة تفسر عدداً من الجمل. أي إن كل كلام أو نصوص ذات معنى وتأثير في عالم الواقع تعد خطاباً(8). وأخيراً الخطاب في البحث النقدي هو فعل النطق أو فاعلية تقول، وتصوغ في نظام ما يريد المتحدث قوله، هو كتلة نطقية لها طابع الفوضى، وحرارة النفس، ورغبة النطق بشيء ليس هو تماماً الجملة، ولا هو تماماً النص بل هو يريد أن يقول. انطلاقاً من هذا، فالنص غير الجملة، والجملة عبر الخطاب غير الخطاب، لأن الخطاب هو فاعلية يمارسها مخاطب يعيش في مكان، وفي زمان تاريخي تسود فيه العلاقات الاجتماعية بين الناس(9). وتحليل الخطاب النقدي حسب فيركلف هو تحليل النصوص والحوار بالاستعانة بعلم اللغة من منظور ملتزم سياسياً(10).

يعتبر التحليل النقدي للخطاب أحدث مقاربات تحليل الخطاب ذي التوجه اللساني. وتعني بدراسة العلاقات الجدلية بين اللغة والخطاب والمجتمع، والسلطة التي تكرسها تلك العلاقات على صعيد الممارسة الاجتماعية، وما تحدثه من تغيرات اجتماعية. طبيعي أن تتعدد الرؤى وزوايا النظر لدى المتخصصين الأوائل داخل هذه المقاربة، لأن الممارسات الاجتماعية، وسياقاتها الفعلية متعددة ومتقاطعة (عنصرية، تربية، تعليم، سياسة، إعلام، فن، تاريخ، فلسفة، العالم الرأسمالي، العولمة... ). ويعزى هذا التعدد إلى الطابع البيني الذي تتسم به هذه المقاربة، إذ إن ارتباط الدراسة اللغوية الناقدة للخطاب بالممارسات الاجتماعية جعل المقاربة منفتحة على حقول معرفية شتى، وأجبر الباحثين على استحضار أجهزة مفهومية ونظريات ونماذج فلسفية ونفسية وتربوية واجتماعية في مناهج التحليل(11).

بذلك ينظر إلى " الخطاب " باعتباره مصطلح يستخدم في مجموعة متنوعة من الحقول المعرفية المختلفة، ويمكن أن يدل على كثير من الدلالات المتباينة. إذ يمكن أن يعني الخصائص الشكلية للمنتجات السيموطيقية التي تجعلها " تتضام معاً " كأنماط معينة من " النصوص "، كما يمكن أن يدل على طرق الناس في استخدام اللغة والأنظمة السيميائية لإنجاز أفعال اجتماعية بعينها. أو أن يدل على نظم المعرفة العامة التي تنظم ما يقوله الناس ويكتبونه أو يفكرون فيه. وتحقيقاً لفهم موضوع المقال نعرّف الخطاب تعريفاً عاماً باعتباره طرق الناس في إنشاء وإدارة حياتهم الاجتماعية باستخدام مختلف الأنظمة السيميائية. هذا التعريف، بالطبع، يضع الخطاب في علاقة لصيقة مع الممارسات الاجتماعية. فمن ناحية، تنتقل الممارسات الاجتماعية نوعاً ما من خلال الخطاب – أي إن الخطاب يستخدم كأداة لإنجاز الممارسات الاجتماعية. ومن ناحية أخرى، يلعب الخطاب دوراً هاماً في الحفاظ على الممارسات الاجتماعية وإعادة إنتاجها ونقلها. ومن ثم يكون " تحليل الخطاب " من خلال هذا التعريف هو دراسة طرق تأثير مختلف " تقنيات صناعة النصوص " ( بما في ذلك أنظمة سيميائية مثل اللغات، وكذلك وسائل الإعلام مثل التلفزيون وأجهزة الكمبيوتر) على المعاني التي يصنعها الناس في مواقف مختلفة، وعلى كافة الأفعال التي يقومون بها، وعلى أنواع العلاقات التي ينشئونها، وعلى الهويات التي يصبحون عليها. ولكي يستطيع محلل الخطاب أن يجري هذا النوع من الدراسات، فعليه أن يلتفت عادة إلى أربعة أمور(12):

- النصوص: كيف تعيننا تقنيات صناعة النصوص المختلفة في التوليف بين العناصر السيميائية لتشكيل نصوص معترف بها اجتماعياً ويمكن استخدامها للقيام بأنواع مختلفة من الأفعال المعترف بها اجتماعياً.

- السياقات: وهي الأوضاع الاجتماعية والمادية التي تؤلف في إطارها النصوص وتستهلك، ويتم تبادلها وتمتلك.

- الأفعال والتفاعلات: ما يفعله الناس مع النصوص، وخاصة ما يقومون مع بعضهم البعض.

- السلطة والإيديولوجيا: كيف يستخدم الناس النصوص للهيمنة والسيطرة على الآخرين وصياغة رؤية بعينها للواقع.

وبطبيعة الحال تركز مختلف مقاربات الخطاب على هذه الأبعاد بدرجات مختلفة، ولكنها كلها، بطريقة أو بأخرى، تأخذها بعين الاعتبار، وتسعى لفهم طريقة عملها معاً: أي، كيف يؤثر السياق على شكل النص ومعناه، وكيف تشكل النصوص مختلفة الأشكال أفعالاً وتفاعلات متباينة الأنماط، وكيف يعكس استخدام الناس للنصوص في الفعل والتفاعل داخل سياقات محددة الإيديولوجيات وعلاقات القوة، ويسهم في إعادة إنتاجها. وبعبارة أخرى، تسعى كل مقاربات الخطاب لفهم العلاقة بين المستوى " الجزئي " للخطاب الذي يتصل بطريقة تضافر النصوص واستخدامها في ممارسة أفعال بعينها في حالات محددة، والمستوى " الكلي " للخطاب الذي يتصل بالطريقة التي تعكس بها النصوص نظماً اجتماعية بعينها وتساعد في تكريسها(13).

ويمكن النظر إلى مفهوم النقد في التحليل النقدي للخطاب من حيث نقد معياري (قيمي) وآخر تفسيري، فهو نقد معياري بمعنى أنه لا يصف الوقائع القائمة بوضوح فحسب، ولكن أيضاً يُقيّمها بحيث يقيّم إلى أي مدى تتوافق مع القيم المختلفة التي تكون نوعاً ما موضوعاً للنزاع تُقبل باعتبارها أساسية للمجتمعات العادلة أو الراقية مثال: معايير محددة لرفاهية الإنسان سواء مادية أو سياسية أو ثقافية. وهو أيضاً تفسيري يسعى إلى تفسير كيف ولماذا أصبحت تلك الوقائع (ممارسات الخطاب) على ما هي عليه في مجتمع ما وفي ظل ظروف اجتماعية وإيديولوجية معينة، وبالتالي اقتراح الأساس لتغيير تلك الممارسات. فعلى سبيل المثال: يفترض المحلل أن تلك الوقائع نتائج للبنى أو الميكانيزمات أو القوى التي يسعى لاختبار واقعيتها مثال ذلك: يمكن تفسير أشكال اللامساواة في الثروة والدخل والحق في الوصول لجميع السلع الاجتماعية والحق في التعليم من حيث هي نتيجة للميكانيزمات والقوى المرتبطة بالرأسمالية أو بأنماط معينة من الرأسمالية.

إن النظرية النقدية ليست مجموعة موحدة من المنظورات، بدلاً من ذلك فهي تشكل: مدرسة فرانكفورت وما بعد البنيوية وما بعد الحداثة ودراسات الاقتصاد السياسي والدراسات الاستعمارية الجديدة والنظرية النقدية العرق والدراسات النسوية وما إلى ذلك. وتهتم النظريات النقدية عادةً بقضايا السلطة والعدالة والأساليب التي يبني الاقتصاد السياسي والإيديولوجيات حول العرق والطبقة والنوع الاجتماعي والدين والتربية والتوجهات الجنسية من خلال النظم الاجتماعية وإعادة إنتاجها أو تغييرها. وينطلق المنظرون النقديون من بعض الفرضيات حول العالم الاجتماعي، والتي تتمثل في:

إن الفكر تتوسطه علاقات السلطة التي تتشكل تاريخياً.

إن الوقائع ليست محايدة، ودائماً ما تكون متضمنة في السياقات.

إن بعض الفئات الاجتماعية تحظى بامتيازات دون غيرها، مما يؤدي إلى تفاوتات في حق الحصول على الخدمات والسلع والنتائج(14).

إن هناك نمط سائد من " الهيمنة السياسية " المرتبطة بالرأي العام، بعبارة أخرى، إنها نقطة الاتصال بين المجتمع المدني والمجتمع السياسي، بين القبول والإكراه. فعندما تريد الدولة الشروع في عمل غير شائع، فإنها تستعد لتثير الرأي العام المطلوب مسبقاً، أي تركز على حالات معينة من المجتمع المدني وتنظمها.

لذا تعتبر اللغة العامل المركزي في تشكيل الذوات والقهر، هذا إلى جانب أن التحليل النقدي للخطاب يهدف إلى استكشاف خصوصيات الهيمنة من خلال السلطة، والتي تأخذ أنماطاً عديدة: إيديولوجية وفيزيائية ولغوية ومادية وسيكولوجية وثقافية. ويبدأ المحللون النقديون باهتمام نحو فهم أوضاع اللامساواة وكشفها وتغييرها، وتختلف نقطة البدء في التحليل استناداً إلى أين يموضع المحلل السلطة ويُعرفها، حيث يموضعها المحلل النقدي للخطاب في اللغة من حيث هي ممارسة اجتماعية، وكذلك أين يموضع الهيمنة، في العرقية أو البنى الرأسمالية أو الخطاب " نظم الحقيقة " أو النظام الأبوي أو الطبقية. وعلى الرغم من ذلك، قد تتخذ السلطة أنماطاً تحريرية أو قمعية، والتي تشمل الأبعاد التاريخية والمادية والخطابية ويتم تشريعها عبر الزمن والناس والسياقات.

أما فيما يتعلق بمفهوم الخطاب في إطار التحليل النقدي للخطاب نجد أن المنظور المثالي الامبيريقي للغة لم يستطع أن يأخذ في الاعتبار أن اللغة نفسها تعتبر مجال للممارسة الاجتماعية، والتي بالضرورة قد تشكلت بواسطة الظروف المادية التي تحدث فيها تلك الممارسة. وهذا يتطلب مفهوماً بديلاً للغة، والذي يدرك أن الألفاظ سواء في أفعال الكلام أو النصوص، تؤدي أكثر من مجرد تسمية الأشياء أو الأفكار الموجودة بالفعل، كما يتطلب تصوراً لكيف يمكن أن ينتج استخدام اللغة آثاراً اجتماعية واقعية، وكيف يمكن أن تكون سياسية وإيديولوجية، ليس فقط من خلال الإشارة للأحداث السياسية، لكن تصبح اللغة نفسها أداة لممارسة السلطة وموضوعاً لها. وهكذا يمكن تعريف مفهوم الخطاب من حيث هو استخدام اللغة كممارسة اجتماعية، أي إن الخطاب يتحرك ذهاباً وإياباً بين البناء العالم الاجتماعي وانعكاسه. في هذا السياق، لا يمكن اعتبار اللغة محايدة، لأنها منغمسة في التشكيل السياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي(15).

- تحليل الخطاب عند نورمان فيركلف: يرى فيركلف أن الدراسات النقدية للخطاب تقوم على ثلاثة مفاهيم أساسية هي النقد والتفسير والفعل السياسي. ويرى أن التفسير هو الجسر الرابط بين النقد والفعل السياسي. ويقصد فيركلف بالتفسير إبراز العلاقات السببية والجدلية بين الخطاب والعناصر الأخرى المشكلة للحياة الاجتماعية، وهو أمر يسمح في نظره بتوضيح ما يحتاج إلى التغيير وكيفية القيام بتغييره. ويقسم فيركلف مقاربته التي امتدت على مدار ثلاثين سنة إلى ثلاث مراحل، عُنيت كل مرحلة بانشغالات معينة، وتعرضها لها كالآتي:

المرحلة الأولى: يُمثلها كتاب فيركلف اللغة والسلطة الصادر عام 1989، وقد انصرف في هذا الكتاب إلى نقد الخطاب الإيديولوجي لكونه يعمل على إعادة إنتاج النظام الاجتماعي الموجود وهدف إلى التوعية بكيفية إسهام اللغة في هيمنة بعض الأفراد على الآخرين، وذلك رغبة في التحرر الاجتماعي ويعتبر فيركلف هذه المرحلة راديكالية وأن مناطها نقد الإيديولوجية والسلطة في الخطاب وخلف الخطاب. " أو بمزيد من الدقة، الروابط بين استعمال اللغة وعلاقات السلطة غير المتكافئة، خصوصاً في بريطانيا الحديثة، ويقول فيركلف في هذا السياق كتبت هذا الكتاب لغرضين أساسيين: الأول نظري، وهو المساعدة على تصحيح ظاهرة واسعة الانتشار ألا وهي التقليل من أهمية دور الذي تضطلع به اللغة في إنشاء علاقات السلطة الاجتماعية والحفاظ عليها وتغييرها. والثاني عملي، وهو المساعدة على زيادة الوعي بالأسلوب الذي تسهم به اللغة في تمكين بعض الناس من السيطرة على البعض الآخر، لأن الوعي يمثل الخطوة الأولى على طريق التحرر"(16).

المرحلة الثانية: يُمثلها كتاب الخطاب والتغير الاجتماعي عام 1992(17)، الذي ركز فيه على نقد الخطاب بوصفه جزءاً من التغيير الاجتماعي من أعلى إلى أسفل. ويرجع تطوير هذه النسخة من التحليل النقدي للخطاب في هذا الكتاب إلى ما شهدته بريطانيا من انتقال إلى الليبرالية الجديدة، وقد اهتم فيركلف في هذه المرحلة بكيفية إعادة بَنْيَنَةِ الخدمات العامة وفق نموذج السوق الذي تقوده الليبرالية الجديدة، واهتم بصورة خاصة بكيفية توظيف الخطاب في إشاعة مفاهيم الرأسمالية الجديدة في الجامعات، وذلك باعتبار الطلبة مستهلكين، والجامعات، مقاولات وتقييم النتائج من حيث الجودة، إلى غير ذلك من المفاهيم الاقتصادية. وبدأ فيركلف بتجسير العلاقة بين البعد اللغوي والبعدين الاجتماعي والاقتصادي وذلك بتطوير مفاهيم إجرائية من قبيل: نظام الخطاب الذي اقتبسه من ميشيل فوكو، والتناص الظاهر الذي استعاره من جوليا كريستيفا. ونظر إلى التغير انطلاقاً من إعادة وضع نظام خطاب معين في سياق نظام خطاب آخر كما يتجلى ذلك في دمج نظام خطاب الاقتصاد الرأسمالي الجديد بخطاب التربية بالجامعات والنتيجة هي تغير في مستوى الخطابات والأجناس (أجناس جديدة أو أجناس هجينة) والأساليب (الهويات والكينونات الخطابية كالمستهلكين والمقاولة إلى غير ذلك).

المرحلة الثالثة: يُمثلها كتاب تحليل الخطاب السياسي: منهج لطلبة الدراسات العليا (2012)، وترتبط هذه المرحلة بالأزمة المالية والاقتصادية لسنة 2007 التي أصابت بريطانيا والعالم بأسره. ويركز فيركلف في هذه النسخة من الدراسات النقدية للخطاب على نقد الخطب الاستشارية التي ألقيت لتجاوز الأزمة الاقتصادية. وتتميز هذه المرحلة بمعالجة المفاهيم الأساس للمرحلتين السابقتين معالجة مختلفة، فالإيديولوجيا تدرس انطلاقاً من المقدمات والنتائج، والنوع (الفعل) يُنظر إليه بوصفه مظهراً أولياً للخطاب، والخطابات والأساليب (التمثيل والهوية) يعاملان بوصفهما مظهرين من مظاهر الفعل. وفي هذا الإطار تقيم الحجج العملية التي يستند إليها السياسيون في خطبهم تنتقد أسسها وتفسر بنياتها وغاياتها.

ويشير فيركلف إلى أن هذه المراحل يُكمل بعضها بعضاً بطريقة تُدمج فيها الاهتمامات الأولى بالفرضيات الجديدة. ولو أردنا أن نوجز هذه التغيرات قلنا إن فيركلف ابتدأ أولاً بدراسة علاقة السلطة بالخطاب ثم تخصص في دراسة هذه العلاقة بالتركيز على بُعد التغير، أي كيف يسهم التغير الخطابي عن طريق مزج أنظمة الخطاب في تعزيز علاقات السلطة بل تكريس اللامساواة في المجتمع وترسيخها(18).

إن الهدف الأساسي لهذه المقاربة هو دراسة الروابط بين استعمال اللغة والممارسة الاجتماعية، إذ يركز فيركلف على دور الممارسات الخطابية في الحفاظ على النظام الاجتماعي، وفي التغيير الاجتماعي. كما أن هذا الإطار التحليلي لتحليل الخطاب يعزز مبدأ أن النصوص لا يمكن أن تفهم أو تُحلل في عزلة، فهي تفهم فقط في ارتباط بشبكات النصوص الأخرى وبالارتباط بالسياق الاجتماعي. ويدرس فيركلف الخطاب ‏انطلاقاً من ثلاثة أبعاد:

1- بُعد الممارسة الخطابية: تُعنى مرحلة تحليل الممارسة الخطابية في مقاربة فيركلف الجدلية العلائقية بدراسة إنتاج النص واستهلاكه. ويمكن تقسيمها إلى مرحلتين فرعيتين هما: المرحلة الفرعية الأولى مرحلة إنتاج النص، وتُدرس فيها ظاهرتان خطابيتان هما: " التناص والبيخطابية "، حيث يشير التناص إلى ظاهرة اقتباس كلام الآخرين وأساليبهم في تلفظاتنا، ولكل اقتباس آثار اجتماعية وثقافية وسياسية، وهو ما يدعو إلى الوقوف بالتناصات الموجودة في النصوص ودراسة تاريخ استعمالها. وقد ميّز فيركلف بين التناص الظاهر (الاعتماد الواضح على نصوص أخرى) والتناص المُكوّنِ (البيخطابية). كما اهتم بالخصوص بدراسة البيخطابية، وميز فيها بين نوعين: بيخطابية إبداعية تمزج بطرق جديدة ومعقدة خطابات مختلفة مؤدية إلى تغير خطابي ومن ثم تغير اجتماعي وثقافي، وبيخطابية تقليدية تمزج الخطابات بطرق متعارف عليها، وتعمل على تثبيت نظام الخطاب المهيمن. أما المرحلة الفرعية الثانية تُعنى باستهلاك النص، وتُدرس فيها ظاهرة الانسجام ويضيف إليها فيركلف أيضاً شروط ممارسة الخطاب. ويُعنى الانسجام بدراسة التضمينات التأويلية للسمات التناصية والبيخطابية لعينة الخطاب، أي تأثيرات هذه الظواهر الخطابية في الجمهور، ويدعو في هذا السياق إلى دراسة استجابة الجمهور، وإن كان لا يقوم بذلك في أبحاثه ويكتفي بإسقاط تأويلاته على استجابة الجمهور. أما شروط ممارسة الخطاب فتهتم بدراسة نوعية النصوص وتأثيرها في الجمهور.

2- بُعد تحليل النص: وتُعنى هذه المرحلة بوصف أنظمة الخطاب المحدّدة في الممارسة الخطابية، ويتبع الوصف مقاربة تبدأ بالبعد الفكري وتنتقل إلى البعد البيشخصي ثم تنتهي بالبعد النصي. وتتضمن الوظيفة الفكرية أربع مقولات عامة هي: نحو التعدية، ونحو التصنيف والاستعارة، وإخفاء الفاعلية. أما الوظيفة البيشخصية فتتضمن مقولات التحكم في التفاعل، ونحو الصيغة والأفعال الكلامية، والضمائر. وتُعنى الوظيفة النصية بدراسة علاقات الاتساق والانسجام، وكل ما من شأنه أن يحقق وحدة للخطاب سواء أكان لغوياً (اتساق، انسجام) أم معرفياً (استعارة، إيديولوجية).

3- بُعد الممارسة الاجتماعية: ويدرس أثر نظام الخطاب في المجتمع: هل يقوم بإعادة إنتاج المجتمع، محافظاً بذلك على الوضع القائم كما هو، أم يعمل على تثوير المجتمع ومحاولة تغييره. وتدرس ضمن هذا البعد الآثار الإيديولوجية والسياسية للخطاب في المجتمع(19).

- الخطاب والإيديولوجيا والهيمنة: كما ذكرنا سابقاً، تأثر فيركلف في هذا السياق إلى حدٍ ما بتصور (فوكو) للسلطة، بوصفها منتجة ومقيدة في آن واحد، وأنها ليست محض قمع واستبداد، أو شيء يمكن امتلاكه بل فعل يُمارس، ويقول إنه يمكن تصور السلطة من حيث عدم التماثل بين المشاركين في الأحداث الاجتماعية وكذلك من حيث عدم المساواة بينهم في القدرة على التحكم في كيفية إنتاج النصوص وتوزيعها واستهلاكها في سياقات اجتماعية معينة. كما ركز على جانبين أساسيين لعلاقة السلطة / اللغة هما: السلطة داخل الخطاب والسلطة وراء الخطاب. ويتناول البعد الأول الخطاب باعتباره موضع تُمارس فيه علاقات السلطة وتتجسد فعلياً، أما البعد الثاني فيتناول نظم الخطاب باعتبارها تتشكل بواسطة علاقات السلطة، حيث تعتبر " السلطة من وراء الخطاب "، هي الغاية في الصراع على السلطة، لأن السيطرة على نظم الخطاب تعد آلية قوية إلى حدٍ كبيرٍ تساعد في الإبقاء على السلطة بشكل مؤقت.

لا تنحصر السلطة في اللغة وحسب، بل قائمة في أشكال وأوضاع مختلفة، ومن بينها النمط المادي بمعنى استخدام القوة المادية لإرغام الآخرين على الانصياع للسلطة، ويشير ذلك إلى أهمية التمييز بين ممارسة السلطة من خلال القسر بشتى أنواعه وممارسة خلق القبول أو على الأقل الإذعان للسلطة، حيث تعتمد علاقات السلطة في الواقع العملي على كليهما، وإن كان ذلك بنسب متفاوتة في كل حالة، لكن بإمكان الكتلة المهيمنة السيطرة وممارسة السلطة بتكلفة ومخاطرة أقل، إذا استطاعت إيجاد قبول جماهيري لها وتعتبر الإيديولوجيا الآلية الأساسية لإنتاج هذا القبول، وبالتالي فإن للخطاب أهمية اجتماعية كبيرة في ممارسة السلطة. يقول فيركلف في هذا السياق " إن الإيديولوجيات ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالسلطة، لأن طبيعة الافتراضات الإيديولوجية الكامنة في أعراف محددة تعتمد على علاقات السلطة التي ترتكز عليها الأعراف، ولأنها وسيلة لإضفاء الشرعية على العلاقات الاجتماعية القائمة ومظاهر التفاوت في السلطة، خلال التواتر وحسب لطرائق السلوك العادية المألوفة، وهي التي تقبل دون مناقشة وجود هذه العلاقات وأوجه التفاوت في السلطة. ويعني ذلك أن الإيديولوجيات وثيقة الارتباط باللغة، لأن استعمال اللغة أشد صور السلوك الاجتماعي شيوعاً، كما أنها صورة السلوك الاجتماعي الذي نعتمد فيه أكثر من غيره على الافتراضات المنطقية "(20).

استعان فيركلف بمفهوم " الهيمنة " عند " غرامشي "، وهو مفهوم سياسي متجذر في التمييز بين القمع والتأييد كآليات بديلة للسلطة الاجتماعية وفقاً لمنظور غرامشي فإنه يمكن اعتبار السياسة صراع من أجل الهيمنة، ويشير هذا المفهوم إلى نمط ما للسلطة الاجتماعية والصراع على السلطة في المجتمعات الرأسمالية، والذي تعتمد فيه الكتلة المهيمنة في ممارستها للسلطة على الطوعية والمشاركة لخلق التوافق أو على الأقل الاذعان للسلطة، بدلاً من استخدام مصادر القوة المادية فقط(21)، ويركز أيضاً على أهمية الإيديولوجيا في الحفاظ على علاقات السلطة. ويعد الخطاب، بما في ذلك هيمنة وتطبيع تمثيلات معينة، بعداً هاماً للهيمنة، وأن الصراع داخل الخطاب أو من وراء الخطاب هو صراع من أجل الهيمنة(22).

يمكن استخدام مفهوم الهيمنة أيضاً بفاعلية في تحليل الدور الإيديولوجي الذي تؤديه نظم الخطاب في الحفاظ على علاقات السلطة غير أن يصبح تشكيل اجتماعي معين للاختلاف السيميائي / الخطابي (تمثيلات وأنماط خطابية وأساليب معينة) مهيمناً، بحيث يتم قمع أو احتواء تمثيلات وأنماط خطابية وأساليب أخرى بديلة داخل نظام خطابي معين بشكل كامل بدرجة أكثر أو أقل، وبالتالي لن ينظر إليها بوصفها قسرية - بمعنى أن هذا التشكيل الاجتماعي المهيمن يجسد أحد أنماط التشكيلات الاجتماعية الممكنة لرؤية العالم - بل تبدو طبيعية وشرعية ومحايدة، وقد أشار فيركلف إلى هذا بمصطلح التطبيع وفي موضع آخر التعميم، أي تصبح تمثيلات وأنواع خطابية وأساليب معينة في سياق نظام خطابي محدد جزءاً من الحس المشترك الذي يضفي الشرعية على بقاء علاقات الهيمنة.

لقد وجهت مقاربة التحليل النقدي للخطاب أهمية كبيرة للتأثيرات الإيديولوجية للممارسات الخطابية، باعتبار أن الإيديولوجيات تمثيلات للعالم، وأن السلطة الإيديولوجية تتمثل في إمكانية تطبيع تلك التمثيلات لتصبح جزءاً من " الحس المشترك " اليومي المسلم به من قِبل مجتمع ما أو على مستوى عالمي. تأثر فيركلف بمفهوم الهيمنة الذي يقترن وفقاً لغرامشي بسيرورات صناعة المعنى، والتفاوض خلالها من أجل هيمنة وتطبيع تمثيلات معينة وتهميش غيرها دون استخدام القوة المادية، وبالتالي تكون هناك كتلة اجتماعية مهيمنة تمارس السلطة، وتسعى باستمرار لتأكيد سلطتها، وكتلة اجتماعية تظل تقاوم من أجل هيمنة تمثيلاتها، حتى تتمكن من ممارسة السلطة، وذلك لأن وضعية الهيمنة ليست بوضعية تامة أو أبدية. هكذا يحدد فيركلف مفهوم الإيديولوجيا بطريقة تمكنه من تحديد علاقات السلطة المستبدة ونقدها(23).

بذلك يمنح مفهوم الهيمنة الوسيلة التي من خلالها يمكن تصور السلطة باعتبار أنه يتم التفاوض عليها، وذلك فيما يتعلق بقدرة الناس على التصرف - إلى حد ما - كفاعلين اجتماعيين لديهم إمكانيات المقاومة، وكذلك تحليل الممارسة الخطابية كونها جزء من ممارسة اجتماعية أكثر شمولاً تتضمن علاقات السلطة. يمكن اعتبار الممارسة الخطابية جانباً من جوانب الصراع من أجل الهيمنة الذي يساهم في إعادة إنتاج نظام الخطاب أو تغييره، الذي هو جزء من الممارسة الاجتماعية، وبالتالي إعادة إنتاج علاقات السلطة القائمة أو تغييرها. فعندما تصاغ العناصر الخطابية التي تشكل نظام الخطاب وفق أنسقة جديدة، يحدث التغيير الخطابي الذي يعد ركيزة لإحداث التغيير الاجتماعي. يقول فيركلف " الإيديولوجيات ممثليات لجوانب من العالم، ويمكن إبانة إسهامها في إقامة العلاقات الاجتماعية المرتبطة بالسلطة والسيطرة والاستغلال، وصياغة هذه العلاقات أو تغييرها "(24).

- الخطاب باعتباره ممارسة اجتماعية: في حقيقة الأمر، نظر فيركلف إلى اللغة من وجهة نظر الخطاب من خلال المقولة التالية: " اللغة باعتبارها شكلاً من أشكال الممارسة الاجتماعية "، فما هو المعنى الدقيق الذي تحمله هذه العبارة؟ أولاً: إن اللغة جزء من المجتمع وليست خارجة عنه بصورة ما، وثانياً: إن اللغة عملية اجتماعية، وثالثاً: إن اللغة عملية يتحكم فيها المجتمع، أي إنها تخضع لتحكم جوانب أخرى (غير لغوية) في المجتمع.

بناءً على ذلك، يرى فيركلف أنه لا توجد علاقة خارجية بين اللغة والمجتمع بل علاقة داخلية وجدلية. فاللغة جزء من المجتمع، والظواهر اللغوية ظواهر اجتماعية فعلاً، وإن تكن من نوع خاص، والظواهر الاجتماعية ظواهر لغوية (إلى حد ما). فأما الظواهر اللغوية فهي اجتماعية بمعنى أنه حيثما تكلم الناس أو أنصتوا أو كتبوا أو قرؤوا، فإنما يفعلون ذلك بطرائق يحددها المجتمع ولها آثار اجتماعية. وحتى حين يصل وعي الناس بفرديتهم إلى ذروته ويتصورون أنهم برئوا إلى أقصى حد من الآثار الاجتماعية - في أحضان الأسرة على سبيل المثال - فإنهم يستخدمون اللغة أيضاً بطرائق تخضع للأعراف الاجتماعية. كما إن الطرائق التي يستخدم الناس اللغة بها في أشد لقاءاتهم خصوصية وحميمية لا تقتصر على الخضوع للعلاقات الاجتماعية التي تحدد صبغتها الاجتماعية بل إن لها أيضاً آثاراً اجتماعية بمعنى الحفاظ على هذه العلاقات (أو في الواقع تغييرها)(25).

كما أن الظواهر الاجتماعية لغوية، من ناحية أخرى، بمعنى أن النشاط اللغوي الذي يجرى في السياقات الاجتماعية (شأن جميع ألوان النشاط اللغوي) ليس مجرد انعكاس أو تعبير عن العمليات والممارسات الاجتماعية، بل إنه يمثل جزءاً من هذه العمليات والممارسات. فالمنازعات حول معنى بعض العبارات السياسية مثلاً من الجوانب الثابتة المألوفة في السياسة. فالناس أحياناً يتجادلون صراحة حول معاني بعض الألفاظ مثل: الديموقراطية، أو التأميم، أو الإمبريالية، أو الاشتراكية، أو التحرر، أو الإرهاب. وكثيراً ما يستخدمون الألفاظ في معانٍ بارزة الاختلاف والتضاد إلى حدٍ ما، وما أيسر العثور على نماذج ذلك في المناقشات بين زعماء الأحزاب السياسية، أو بين الاتحاد السوفييتي السابق والولايات المتحدة الأمريكية. وتعتبر هذه المنازعات أحياناً مجرد مقدمات أو فروع شجرة من العمليات والممارسات الفعلية للسياسة، ولكنني أقول إنها ليست كذلك، بل إنها في ذاتها سياسة، إذ يتمثل جانب من السياسة في المنازعات والصراعات التي تحدث داخل اللغة وحول اللغة(26).

ولكن المسألة ليست مسألة علاقة متناظرة بين اللغة والمجتمع باعتبارهما وجهين متكافئين لكيان كل واحد. فأما الكيان الكلي فهو المجتمع، واللغة عنصر من عناصره. وإذا كانت جميع الظواهر اللغوية اجتماعية، فليست جميع الظواهر الاجتماعية لغوية، وذلك على الرغم من وجود عنصر لغوي كبير عادة، وإن كان كثيراً ما لا يلقى التقدير الصحيح، حتى في الظواهر الاجتماعية التي تقتصر على كونها لغوية محضة (مثل الإنتاج الاقتصادي).

والنتيجة الثانية المترتبة على اعتبار اللغة ممارسة اجتماعية، ترى أن اللغة عملية اجتماعية يتم فيها تمييز الخطاب عن النص، على اعتبار أن النص مُنتَجٌ لا عملية، فهو منتج لعملية إنتاج النص. ولكن فيركلف يصر على استخدام مصطلح الخطاب في الإشارة إلى عملية التفاعل الاجتماعي برمتها، التي لا يمثل النص إلا جزءاً منها. وهذه العملية تتضمن إلى جانب النص عملية الإنتاج، التي يعتبر النص من نواتجها وعملية التفسير التي يعتبر النص من مواردها. ومن ثم فإن تحليل النص لا يمثل إلا جزءاً من تحليل الخطاب، الذى يتضمن أيضاً عمليتي الإنتاج والتفسير. النتيجة الثالثة المترتبة على النظر إلى اللغة باعتبارها ممارسة اجتماعية، أي إنها تخضع لتحكم جوانب اجتماعية أخرى غير لغوية. فموارد الأعضاء التي ينهل منها الأفراد حتى يتمكنوا من إنتاج النصوص وتفسيرها موارد معرفية بمعنى أنها توجد في رؤوسهم، ولكنها اجتماعية بمعنى أن لها أصولاً اجتماعية، فهي وليدة المجتمع، وطبيعتها تعتمد على العلاقات والصراعات الاجتماعية التي ولدتها، كما إن طرائق انتقالها جماعية، وتتسم في مجتمعنا بالتفاوت في توزيعها. والناس يستوعبون ويتمثلون ما أنتجه المجتمع وأتاحه لهم، ويستخدمون هذه الموارد المستوعبة في ممارساتهم الاجتماعية، ومن بينها الخطاب(27). وهذا يتيح للقوى التي تشكل المجتمعات موقعاً ذا أهمية حيوية داخل نفس الفرد، ولكن فاعلية هذا الموقع تعتمد على كونه غير ظاهر بصفة عامة. أضف إلى ذلك أن التحكم الاجتماعي لا يقتصر على طبيعة هذه الموارد المعرفية، ولكنه يسري أيضاً على أحوال استخدامها، فعلى سبيل المثال، نجد أن الاستراتيجيات المعرفية المتوقعة في إطار الأعراف تختلف عندما يقرأ المرء قصيدة عنها عندما يقرأ إعلاناً في إحدى المجلات. ومن المهم أن نسحب حساب أمثال هذه الاختلافات عند تحليل الخطاب من منظور نقدي. وهذا يعني باختصار شديد أن الخطاب يتضمن الأحوال الاجتماعية وهكذا فعندما ننظر للغة باعتبارها خطاباً وممارسة اجتماعية، فإننا نلتزم لا بتحليل النصوص وحسب، ولا بتحليل عمليتي الإنتاج والتفسير وحسب، بل بتحليل العلاقة بين النصوص والعمليتين وأحوالهما الاجتماعية.

***

د. حسام الدين فياض

الأستاذ المساعد في النظرية الاجتماعية المعاصرة

قسم علم الاجتماع كلية الآداب في جامعة ماردين- حلب سابقاً

........................

(1) بسمة عبد العزيز : سطوة النص: خطاب الأزهر وأزمة الحكم، صفصافة للنشر والتوزيع، ط1، 2016 (بتصرف). بالرجوع إلى مجلة بدايات، العدد: 15، بيروت، خريف 2016.

https://bidayatmag.com/node/781

(2) عماد عبد اللطيف: من الوعي إلى الفعل: مقاربات معاصرة في مقاومة الخطاب السلطوي، مجلة ثقافات، مجلة علمية محكمة تعنى بالدراسات الثقافية تصدرها كلية الآداب بجامعة البحرين، 2009، ص (69).

(3) سعيد بكار: التحليل النقدي للخطاب: مفهوماته ومقارباته، مجلة الخطاب، المجلد: 16، العدد: 2، الجزائر، جوان 2021، ص(446).

(4) عبد الخالق مرزوقي: أحاديث نورمان فيركلف حول اللغة والسلطة، موقع ساقية، 15 أغسطس 2021.

(5) سارة ميلز: الخطاب، ترجمة: عبد الوهاب علوب، المركز القومي للترجمة، القاهرة، العدد: 2581، ط1، 2016، ص(13).

(6) سعيد يقطين: تحليل الخطاب الروائي، المركز الثقافي العربي، بيروت، ط3، 1997، ص(19).

(7) سارة ميلز: الخطاب، مرجع سبق ذكره، ص(15- 17).

(8) المرجع السابق نفسه، ص(18).

(9) عبد الحليم سحالية: الخطاب بين الدرس اللغوي العربي القديم واللسانيات، مجلة حوليات التراث، جامعة مستغانم، الجزائر، العدد: 09، 2009، ص(169). وعيسى بوفسيو: النظريات اللسانية الحديثة وتحليل الخطاب، مجلة دفاتر مخبر الشعرية الجزائرية، الجزائر، المجلد: 5، العدد:2، 2020، ص(10).

(10) سارة ميلز: الخطاب، مرجع سبق ذكره، ص(177).

(11) مؤلف جماعي: التحليل النقدي للخطاب: مفاهيم ومجالات وتطبيقات، إشراف وتحرير: محمد يطاوي، المركز الديمقراطي العربي، ألمانيا (برلين)، ط1، 2019، ص(10).

(12) ودني هـ. جونز، وأليس شيك، وكريستوف أ. هافنر: تحليل الخطاب والممارسات الخطابية، ترجمة: محمود أحمد عبد الله، مجلة الحكمة، 21/ 09/2017.

-Rodney H. Jones, Alice Chik and Christoph A Hafner (eds.): Discourse and Digital Practices: Doing discourse analysis in the digital age, Routledge press, 2015.

(13) المرجع السابق نفسه.

(14) دينا سعيد سيد متولي: سياسة التعليم من منظور التحليل النقدي للخطاب، مجلة دراسات تربوية واجتماعية، كلية التربية، جامعة حلوان، المجلد: 27، العدد: ديسمبر 2021، ص(56-57).

(15) المرجع السابق نفسه، ص(58-59)

(16) نورمان فيركلف: اللغة والسلطة، ترجمة: محمد عناني، المركز القومي للترجمة، القاهرة، العدد: 2555، ط1، 2016، ص(15).

(17) لمزيد من القراءة والاطلاع انظر: نورمان فيركلف: الخطاب والتغير الاجتماعي، ترجمة: محمد عناني، المركز القومي للترجمة، القاهرة، العدد: 2593، ط1، 2015.

(18) سعيد بكار: التحليل النقدي للخطاب: مفهوماته ومقارباته، مرجع سبق ذكره، ص(453-454).

(19) المرجع السابق نفسه، ص(456-457). ولمزيد من القراءة والاطلاع في هذا البُعد انظر: نورمان فاركلوف: تحليل الخطاب ( التحليل النصي في البحث الاجتماعي)، ترجمة: طلال وهبه، مراجعة: نجوى نصر، المنظمة العربية للترجمة، بيروت، ط1، 2009، ص(63 وما بعدها).

(20) نورمان فيركلف: اللغة والسلطة، مرجع سبق ذكره، ص(16).

(21) انظر فقرة (الهيمنة والعالمي والخاص): نورمان فاركلوف: تحليل الخطاب ( التحليل النصي في البحث الاجتماعي)، مرجع سبق ذكره، ص(101 وما بعدها).

(22) دينا سعيد سيد متولي: سياسة التعليم من منظور التحليل النقدي للخطاب، مرجع سبق ذكره، ص(71-72).

(23) المرجع السابق نفسه، ص(72-73).

(24) نورمان فاركلوف: تحليل الخطاب ( التحليل النصي في البحث الاجتماعي)، مرجع سبق ذكره، ص(35).

(25) نورمان فيركلف: اللغة والسلطة، مرجع سبق ذكره، ص(42).

(26) المرجع السابق نفسه، ص(43).

(27) المرجع السابق نفسه، ص(44).

الأساس الرمزي الأوديبي لنشأة الأخلاق والحضارة

(توجد عقدة أوديب في أصل الحضارة الغربية)... جاك لاكان

1- مقدمة: يوظف فرويد الرموز الأسطورية في تفسيره لنشأة الأخلاق والدين والحضارة، ومن أجل هذه الغاية يلجأ إلى حيّزين أسطوريين، يتمثل الأول في الأسطورة الولائمية بطابعها الأنثروبولوجي الاجتماعي، في حين يتمثل الثاني في الأسطورة “الأوديبية” بتجلياتها السيكولوجية التربوية، وفي كلتا الأسطورتين تتجلى جريمة قتل الأب وغشيان المحارم. وتشكل هاتان الأسطورتان مادة فرويد المميزة في الاستكشاف الرمزي لعمليات التشكل التاريخي للقيم والأخلاق والأنا الأعلى والحضارة. وهو في الوقت الذي يوظف فيها الأسطورة الأولى (مقتل الأب والتهامه) لتفسير منشأ الحضارة الإنسانية بمضامينها الأخلاقية العامة، يوظف الثانية (الأسطورة الأوديبية) في تفسير نشأة الأنا الأعلى والتكوين الخلقي للأفراد في المستويين السيكولوجي والتربوي؛ ولا يخفى على المتأمل وجود تقاطعات كبيرة بين الطاقة الرمزية لكل من الأسطورتين، وتجانس أكبر في الكيفية التي توظف فيها هذه الرمزية لتفسير نشأة الأخلاق والحضارة، إذ تنطلق كلتاهما من موجبات الخطيئة الأصلية (قتل الأب) واللعنة الأبدية (غشيان المحارم) في تفسير ولادة الأخلاق والقيم والضمير الأخلاقي.

ومما لا شك فيه أم جانبا كبيرا من عبقرية فرويد تكمن في قدرته الهائلة على توظيف الرموز والأساطير في إضفاء المعاني والدلالات على مكونات الحياة الأخلاقية والنفسية في المجتمع، حيث تتجلى هذه العبقرية في التوليف الخلاق بين الواقع الأسطورة والتاريخ والرمز والعلم والدين في تفسير الجوانب الخفيّة للحياة الاجتماعية والأخلاقية والسيكولوجية في حياة المجتمع والأفراد والجماعات.

وفي هذه الصورة الفسيفسائية للتوليف الفرويدي، بين الأسطورة والرمز والواقع، تقع محاولتنا للتأمل في الكيفيات التي يوظف فيها فرويد المعاني والدلالات الرمزية التي في تفسيره لجوانب تاريخية وسيكولوجية قد تبدو عصية على الفهم والتحليل. ومهما يكن الأمر، فالرحلة في الإبداعات العبقرية الفرويدية تضع القارئ في دائرة الشعور بالرهبة والرغبة والشوق المفعم بالإثارة المعرفية والوجدانية. فالرموز المكتنزة في الأساطير تمتلك طاقة معرفية هائلة أحسن فرويد توظيفها واستثمارها في استكشاف جوانب مظلمة وغامضة من الحياة الإنسانية، وقد أجاد بحسه العبقري المعهود أن يوظف مقولات التابو والطوطم والسحر والدين والأسطورة في فهم الطبيعة البشرية واستجلاء غموضها، وأكد عبر تقصياته المذهلة هذه أنه يجب على الإنسانية أن تستلهم الحكايات والمخطوطات والرموز والأساطير لاستكشاف المكنونات الدفينة للتاريخ الإنساني إرواءً للظمأ البشري المتقد إلى المعرفة.

2- الوليمة الطوطمية:

يستلهم فرويد أسطورة القتل الأول (الوليمة الطوطمية)[1] في استكشاف المنشأ الأول للحضارة الإنسانية، وتفيد هذه الأسطورة أن جماعة من البدائيين في الغاب الأول، يحكمها أب ذكر قوي، كان قد استحوذ نساء القبيلة جميعهن، وفرض نظاما من التحريم الجنسي الصارم على أبنائه وأفراد العشيرة، وتحت تأثير القمع المستمر، والكبت الشديد لدوافع الأبناء وميولهم الجنسية، غضب الأبناء وثاروا على أبيهم فقتلوه والتهموه، وعلى الأثر، وقع الأبناء في صراع مميت على تركة الأب، فدبت الفوضى بينهم، ونشب الصراع المميت، فاقتتل الأخوة، وهدرت دماؤهم، في ظل غياب سلطة الأب وهيبته والنظام الذي وضعه.

يتناول فرويد هذه الأسطورة الولائمية بالدراسة والتحليل والتفكيك الرمزي لعناصرها على نحو سيكولوجي، فالأبناء كما يرى فرويد، كانوا يناصبون الأب المتسلط الكراهية والعداء نظرا للتحريم الجنسي الصارم الذي فرضه عليهم، ولكنهم كانوا في الوقت نفسه يدينون له بالحب والولاء والتقدير والإعجاب، إذ كان الأب لهم نموذجا وقدوة يتماهون به ويرغبون في أن يكونوا على صورته. وعندما وضعوا نهاية مأساوية لوجوده، كابدهم الندم وعصرهم الحزن، وأشقاهم الألم، فأقاموا تحت تأثير هذا الندم والحزن طقوسا “طوطمية” [2] تكريما للأب، وتكفيرا عن إثمهم العظيم، وتأسيسا على هذا الموقف التكفيري أسسوا نظام التحريم، ثم شيدوا نظاما من المقدسات التي حظروا بوجبها على أنفسهم ما كان الأب قد حرّمه عليهم في سابق الأحوال، فنشأ التحريم والقانون ونظام التقديس وجرت العادات والتقاليد على تكريس هذه المبادئ التحريمية و” الطوطمية” فنشأت القيم وظهرت الأنظمة الأخلاقية في المجتمع [3].

وينطلق فرويد في تأكيد هذا التصور الأسطوري على نتائج الأبحاث الأنثروبولوجية حول نظام التحريم في القبائل البدائية في أستراليا، حيث عُرف عن البدائيين عيشهم في جماعات صغيرة، يسيطر عليها أب ذكر قوي. وبينت الدراسات الأنثروبولوجية أن هذه القبائل البدائية تعتمد نظام تحريم صارم يحظر بموجبه على أفراد القبيلة إقامة علاقات جنسية مع الجنس الآخر في القبيلة نفسها (مع أبناء الطوطم الواحد)، حيث تكون أي امرأة في القبيلة محرما على أي رجل فيها [4].

وقد بينت الدراسات الأنثروبولوجية أيضا أن كل جماعة تختص بطوطم (حيوان أو طير)، وهذا الطوطم يرمز إلى روح الأب الأول للعشيرة التي تقوم بحماية القبيلة ودفع الخطر عن أبنائها، ويحتل “طوطم” القبيلة مرتبة التقديس والتحريم “التابو” [5]، حيث لا يجوز قتله أو صيده أو أكله، وبموجب هذه العقيدة الطوطمية يلتزم أبناء القبيلة أو العشيرة التزاماً مقدّساً بألاّ يقتلوا طوطمهم على مستوى النوع وهذا يشمل كل أفراد الطوطم على العموم [6].

وقد بينت هذه الدراسات أيضا أن للعشيرة طقوسا إباحية تجري في أوقات معينة ولفترة معينة يستباح فيها “الطوطم” المقدّس بصورة احتفائية في مناسبات معيّنة، وفي هذا الطقوس يؤكل لحم الطوطم الذي سبق تحريمه المحرّم. وتأتي هذه الاستباحة في سياق وظيفي اجتماعي يتعلق بطبيعة الحياة في هذه المجتمعات البدائية.

يحاول فرويد عبر هذا التصور الأسطوري الأنثروبولوجي أن يفسر نشأة الأخلاق في المجتمعات الإنسانية البدائية القديمة، حيث شكل قتل الأب وأكله مزيجا من التناقض الوجداني الهائل الذي تمثل في الثورة على الأب والندم على قتله واستباحة دمه، فتحول إحساس الأبناء القتلة بالذنب إلى عذاب مرير ترجموه إلى طقوس “طوطمية” اتخذت مع الزمن طابعا دينيا مقدسا، وتحولت تدريجيا إلى أنظمة أخلاقية تحريمية تحوّل فيها التوتم الأبوي إلى مقدس ديني، وقد أسس هذا المقدس لاحقا للعرف والقانون والأنا الأعلى الأخلاقي في المجتمع [7].

يحاول فرويد استكشاف الطاقة الرمزية المكتنزة في “الوليمة الطوطمية” فالوليمة (أكل الأب) تأخذ دلالة “الخطيئة الأصلية”، وهي الخطيئة الأزلية المتحولة إلى هاجس وجودي ما فتئ يقض مضاجع الإنسان في سعيه الدؤوب للتحرر من التبعات الأخلاقية للخطيئة الأزلية والتكفير عنها [8]. لقد قرر الأبناء في هذه التراجيديا الإنسانية التنازل التدريجي والمنظم عن إشباع ميولهم البدائية الوحشية لصالح النظام الاجتماعي، وقد شكل هذا التنازل – كما يرى فرويد- أساس النظام والعدالة والقانون والقيم الأخلاقية في المجتمعات الإنسانية، وقد شكلت هذه الأنظمة – وفقا لهذه الرؤية -مهد الحضارة ومنطلقها الإنساني، وذلك لأن الحضارة لا تقوم إلا على مبدأ الإيثار ونكران الذات وتنظيم الاشباعات الغريزية تنظيما اجتماعيا أخلاقيا يراعي مبادئ العدالة والحق والخير والجمال.

يبين فرويد في هذا السياق أن التخلي الإرادي الواعي عن الإشباع المباشر للرغبات الطبيعية والميول البدائية، ولاسيما الجنسية منها، قد أصبح بديلا لعملية المنع القسري الخارجي (سلطة الأب المقتول)، ومن ثم فإن الضبط الذاتي لعملية إشباع الرغبات والميول قد أسس للمعايير والقيم الأخلاقية في المجتمع، وعلى هذا النحو تشكلت الحضارة الإنسانية وبنيت صروحها كنتيجة طبيعية لعملية الانتصار الأخلاقي للإنسان في مواجهة الدوافع الهمجية الأولى [9].

حاول فرويد، في مسار التفكيك الرمزي للوليمة الطوطمية، استكشاف الأسباب التي تجعل أفراد القبيلة يستبيحون طوطمهم في أوقات معينة وطقوس محددة، ومن أجل هذه الغاية يلجأ فرويد إلى تفسير هذه الظاهرة سيكولوجيا، إذ يعتقد بأن هذه الاستباحة الجديدة لرمز الأب هي استعادة لذكرى فعلتهم الإجرامية ضد الأب، وهي حادثة وجودية مؤلمة يجب أن تبقى في الذاكرة من أجل تعزيز الدورة الحيوية للقيم والأعراف المتصلة بالتحريم من جديد، ومن أجل تجديد الشعور بالندم والألم والاستغفار على نحو يجعلهم يرسخون إيمانهم من جديد بكل القيم التي أسست على مبدأ تحريم المحارم وتقديس الأب. فالإنسان هنا يكرر جريمته بقتل الأب من جديد والتهامه رمزيا (قتل الطوطم والتهامه) وهذا القتل الجديد يؤجج الشعور بالندم من جديد ومن ثم يحي الطاقة الحيوية للإنسان في التأصيل الأخلاقي للقيم والمحرم والتابو من جديد.

وفي دائرة التفسير الرمزي لنشأة الأخلاق يركز فرويد على مفهوم “التابو” أي المحرم ويتمثل التابو في مشاعر الخوف من الأرواح والطبيعة. فالتابو يأخذ صورة طاقة لاواعية تتحرك في أعماق العقل الباطن وتعمل على ضبط التصرفات الغرائزية لدى الإنسان البدائي، وقد تجلى هذا التابو لدى البدائيين في نوعين من التحريم الأساسي: تحريم قتل “الطوطم” أكانا حيوانا أو نباتا أو جمادا من جهة، ومن ثمّ تحريم العلاقات الجنسية بين الأفراد الذين ينتمون الى طوطم واحد من جهة ثانية.

ويقدم فرويد إشارات واضحة إلى أهمية الأحلام ودورها في نشأة الدين والمحرم عند البدائيين فظهور الموتى في الأحلام كان عاملا كافيا لترسيخ فكرة خلود الأرواح وقدرتها على التأثير. فعندما قتل الأب تجلى لأبنائهم في أحلامهم، وهذا التجلي أثار خوفهم وفضولهم، فبدؤوا بالصلاة للأموات من الآباء والأجداد خوفا من غضبهم وانتقامهم، ويتجلى هذا الخوف في سياق الملاحظات الأنثروبولوجية حول القبائل البدائية، إذ تبين بعض الدراسات الأنثروبولوجية أن محاربي “جزر التيمور” العائدين من انتصاراتهم على العدو، محملين برؤوس أعدائهم المقطوعة، يقومون بتقديم الأضاحي لتهدئة أرواح أعدائهم، فيطلبون منها الغفران في طقوس غريبة إذ يخاطبون فيها أرواح الضحايا قائلين “لا تغضبوا منا يا أخوتنا، تلك هي مشيئة الحرب والقتال، إنه القدر والمصادفة أن تكون رؤوسكم مقطوعة اليوم لا رؤوسنا، وكان يمكن أن نكون مكانكم، ولكن القدر شاء لنا أن ننتزع النصر عليكم، ولولا ذلك لكانت رؤوسنا اليوم مكان رؤوسكم، وإننا نحتفي بكم اليوم ونقدم لكم هذه الأضاحي لتبقى أرواحكم في هدوء وسلام، فأقبلوا منا صولتنا وأضاحينا واجعلونا نعيش بهدوء وسلام.” ثم يبدأ المحاربون بالبكاء على أعدائهم ويرددون “لماذا كنتم أعداءنا؟ ألم يكن بإمكاننا البقاء أصدقاء؟ كي لا يهدر دمكم ولا تقطع رؤوسكم؟” [10].

3- اللعنة الأبدية: أوديب الحضارة.

يوظف فرويد” الوليمة الطوطمية” لتفسير المنشأ التاريخي الاجتماعي للحضارة، ولكنه ومن أجل تفسير الصيرورات السيكولوجية لتشكل الأخلاق وولادة الأنا الأعلى يلجأ إلى الأسطورة الأوديبية التي تفيض بالثراء الرمزي وتتدفق بالدلالات السيكولوجية.

تأخذ “أسطورة أوديب” ترجمتها الفرويدية في مفهوم “عقدة أوديب” وهي صورة أخرى لوليمة أوديبية رمزية تأخذ مجراها في العملية التربوية حيث يولّد فيها الأب المقتول طاقة جديدة لتوليد القيم والأخلاق والأنا الأعلى.

وأوديب (Œdipe) ملحمة أسطورية يونانية رواها سوفلكس تحت عنوان «الملك أوديب» عام، 496 قبل الميلاد، وتقول هذه الأسطورة إن العرّاف أنبأ لايوس Laius ملك طيبة Thebas أن ابنه الذي سيولد سيقتله حين يكبر (أي أن الابن سيقتل أباه الملك)، ومع ولادة ابنه المنتظر (أوديب) وتجنبا للخطر المحدق به أمر الحراس بقتل الطفل، ولكن الحراس أبقوا على حياته ورموه بعد أن أوثقوا قدميه وجرحوا كعبيه، وتروي الأسطورة ـ أن أحد الرعاة وجده وحمله إلى ملك كورنيث الذي تبنّاه وأطلق عليه اسم “أوديب” كناية عن أقدامه المتورمة. وعاش الطفل في كنف أبيه المتبني دون أن يعرف شيئا عن قصته المحزنة وهو يعتقد بأنه الابن الحقيقي للملك أي للملك كورنيث، وعندما كبُر أوديب وشبّ عن الطوق أنبأته العرافة – من جديد- أنه سيقتل أباه يوما ما، فأصيب بحالة من الدهشة والصدمة والخوف والاستهجان واعتقد باستحالة أن يقتل أباه الذي أحبه (أي: ملك كورنيث) فقرر أن يصد القدر ويعاند النبوءة الإلهية، وخوفا على أبيه من نفسه، قرر أن يهجر كورنيث إلى الأبد كي يتجنب الخطيئة الأزلية أي قتل الأب، فغادر المدينة، وشاءت الأقدار أنه في ترحاله التقى بأبيه الحقيقي فوقع شجار بينهما أضطر فيه الابن إلى قتل أبيه دون أن يعرفه، ثم تابع طريقه إلى مدينة طيبة مدينة الأب الحقيقي ليتوج ملكا عليها مكافأة له بعد أن أنقذ المدينة من وحش أسطوري يدعى أبو الهول ثم يتزوج ملكتها يوكاسته Iocaste دون أن يعرف بأنها أمه الحقيقية أيضا. وحينما كشف أحد العرافين هذه الحقيقة فجع أوديب بقدره المخيف ومصيره المرعب وعرف أن اللعنة الأبدية قد وقعت عليه فأذهله المصاب العظيم فلم يكن منه إلا أنه فقأ عينيه وهام على وجهه يندب حظه المخيف، فانطلق يجوب الدروب في البراري ندما وحزنا وتأسفا وتكفيرا، أما أمه فقد شنقت نفسها حتى الموت لما وقعت فيه من فظاعة الأمر وهول المصيبة الأخلاقية. وقد ورد ذكر مأساة أوديب في «الأوديسة» لهوميروس تلميحاً مختصراً جداً، وفيها أنه قتل والده وتزوج والدته من دون أن يعلم، وأن أمه يوكاسته انتحرت شنقاً حين تكشفت لها الحقيقة؛ أما أوديب فقد ظل يحكم طيبة حتى مات. وقد وصفها أرسطو[ر] في كتابه «الشعر" Peri Poiētikēs بأنها أكمل نموذج لمأساة عرفها الإنسان".

يستلهم فرويد هذه اللعنة الأبدية الأوديبية ويوظف إيقاعاتها الرمزية من جديد في تفسير نشأة القيم والأخلاق والتحريم. فأوديب يقتل الأب دون أن يعلم، ويتزوج الأم دون أن يدري، وهذه الجريمة المزدوجة قتل الأب وغشي المحرم تقوده إلى أعظم الندم فقأً للعين وشنقا للجسد وتيها في مفازات الأرض تكفيرا عن العرض والذنب. وهنا يجري النظر إلى الندم والتكفير والعقاب الذاتي لأوديب على أنه بداية التشكل الأساسي للقيمة الأخلاقية والمحرم والأنا الأعلى.

ولا يقف فرويد عند حدود رمزية الأسطورة في بعدها التاريخي والاجتماعي بل يتجاوز هذا البعد التاريخي ليوظف هذه الرمزية في العملية التربوية برمتها مستخدما مفهوم “العقدة الأوديبية “. كمنطلق لنشأة الضمير والأخلاق لدى الطفل. والعقدة هي مجموعة من الأفكار والتصـورات اللاشعورية والمشحـونـة بشحنة وجـدانية قوية، والمتعارضة في مضمونها بحيث تشمل في آن واحد الحب والكـراهية نحـو موضوع واحد. وتتمثل هنا في الصراع الأبدي بين كراهية الأب وحبه بين الخوف منه والشعور بأنه مصدر الأمن في آن واحد.

4- الوضعية الأوديبية:

يفكك فرويد العقدة الأوديبية إلى رمزيتها السيكولوجية والتربوية، ويستخدم مفهوم الوضعية الأوديبية ليفسر لنا الصيرورة الأوديبية في المجال التربوي، وليتبناها منطلقا منهجيا في فهم الطبيعة الإنسانية بما تنطوي عليه من تكوينات وبنى وإشارات ورموز. والوضعية الأوديبية هي الحالة العاطفية للطفل التي تبدأ من الثالثة إلى الخامسة من العمر، حيث تظهر لدى الطفل الرغبات العاطفية الموجهة نحو الأب من الجنس المخالف له. ويقابل هذا حالة من العدوانية والغيرة تجاه الأب المماثل له في الجنس حيث تولد عند الطفل رغبة يتمنى عبرها موت أبيه من الجنس نفسه. وبعبارة أخرى أكثر وضوحا، يرى فرويد أن عقدة أوديب هذه كامنة في الفطرة الإنسانية، فالطفل يميل ميلا طبيعيا عاطفيا إلى الجنس الذي يقابله من الأبوين وكل من الأبوين يميل ميلا طبيعيا عاطفيا إلى الجنس الذي يقابله من الأبناء (الطفل يحب الأم أكثر من الأب بينما تحب الطفلة الأنثى أباها أكثر من الأم وبالمقابل فإن الطفل يكره الأب المجانس له جنسيا بمعنى أن الطفلة تكره أمه وتحب أبيها كما أن الطفل يكره أباه ويحب أمه) [11].

يؤكد فرويد في هذا السياق على خطورة الطريقة التي يتم بها الخروج من الوضعية الأوديبية وأهميتها، فطريقة التجاور لهذه المرحلة تلعب دورا حاسما في تحديد هوية الطفل واتزانه الوجداني في مرحلة الرشد، وهذا يعني الكيفية التي يتجاوز فيها الطفل هذه المرحلة تشكل الركيزة الأساسية للتكوين السيكولوجي عند الفرد ولاسيما فيما يتعلق بنظرة الطفل وموقفه من السلطة والحب والعلاقات العاطفية والجنسية.

يفترض فرويد أن الطفل في الغالب يتجاوز هذه المرحلة بسلام أي يتجاوز كراهيته إلى الجنس المقابل له من الأبوين، إذ يتوجب على الطفل أن يتجاوز كراهيته للأب فيما بعد الثالثة من العمر وأن يكوّن علاقة صداقة وحب مع والده وهكذا هو الحال بالنسبة للطفلة الأنثى في علاقتها بأمها.

وتتأثر الوضعية الأوديبية بالطريقة التي يعتمدها الآباء في حل هذه الإشكالية والخروج بالطفل من الوضعية الأوديبية (أي تحقيق المصالحة بين الجنسين المتقابلين بين الآباء والأبناء) تترك آثارها النفسية وتؤثر في بناء التصور الذي يكوّ نه الفرد عن نفسه وعن قدراته (تصوراته ومواقفه الخاصة بجنسه وأفعاله وإمكانيات تأكيد الذات).

وفي مواجهة الرغبات العدوانية والرغبات العاطفية المستهجنة عند الطفل، تعمل الأسرة على إصدار تهديدات وتوجيه عقوبات مختلفة القوة ضد الطفل الأوديبي وفقا للتقاليد الخاصة بالعائلة (التهديد بالخصاء مثلا عند فرويد). وتوجد أمام الأسرة إمكانيات متعددة للخروج من هذا المأزق الوجودي الذي يتمثل في بنية هذا الصراع الأوديبي. فعلى سبيل المثال يكون التسلط والمنع قويا في العائلات الطهرية التقليدية في مواجهته هذه الرغبات الأوديبية. وعندما يواجه الطفل هذا التسلط والمنع يعمل على إخفاء كل ما يتعلق بالجنس (عنصر من عناصر العقلية الطهرية التي توجد في شكل طبيعي في هذه العائلات). وقد شكلت رؤية فرويد لأهمية هذه المرحلة الأوديبية منطلقا منهجيا اعتمده علماء النفس في تحليل وتفسير مظاهر نفسية متعددة أهمها عقدة التمرد.

فالمتمرد هو شخص لا يستطيع أن يخرج من دائرة العقدة الأوديبية، ولذلك فهو لا يستطيع أن يواجه السلطة التي تأخذ طابعا أبويا كما أنه لا يستطيع أن يتوافق مع الحب الذي يأخذ طابعا أموميا أو صورة علاقات جنسية. فهو يعيش حالة حصار وقلق إزاء هاتين الحقيقتين وبالتالي فإن سلوكه يتميز بدرجة عالية من الآواليات الدفاعية. فالشخصية التمردية ترفض أية سلطة (الدولة – الرؤساء – المعلمون) والمتمرد يأخذ مكانه دائما إلى جانب جميع هؤلاء الذين يناضلون ضد الاستبداد، وهو يحاول أن يحقق ذاته بالانتماء إلى جماعات إنسانية هامشية.

أما فيما يتعلق بالعلاقات الجنسية فإن نرجسيته تشكل عقبة كبرى في سياق علاقاته العميقة والمتعددة فهو يعيش في المجتمع، وينظر إليه كأم سيئة تطعم طفلها بقسوة وتكاد تخنق طفلها من كثرة الطعام. ولذلك فهو يدافع عن نفسه ضد هذا الطعام. ولذلك فإن الديموقراطية هي أم سيئة تصدر عنها أخلاق الاصطفاء والغدر التي لا تلبي لديه حاجات الأنا المركزية. وباختصار فإن طريقة خروج الطفل من العقدة الأوديبية يحدد له مواقفه اللاحقة من السلطة والحب والعلاقات الجنسية كما تحدد له إمكانياته في تأكيد ذاته وهويته.

5- العقدة الأوديبية:

عندما لا يستطيع الطفل تجاوز الوضعية الأوديبية بسلام يقع في دائرة العقدة الأوديبية، بمعنى إذا لم يستطع التصالح مع الأب وتأكيد حبه له فإن ذلك يجعله طفلا أوديبيا، أي طفل معقد أوديبيا ويترتب على هذا نسق من العيوب الخلقية والنفسية والجنسية عند الطفل.

وهنا تكمن التوظيفات الرمزية التي يستخدمها فرويد لتفسير تشكل الأخلاق عند الفرد في صورة الأنا الأعلى والضمير الأخلاقي، فالخوف من الأب والإعجاب به أيضا يقع في مرمى التشكيل الديني للفرد في مرحلة الطفولة، فهناك تشابه كبير بين صورة الله الذي يؤمن به الفرد وبين صورة الطفل المكتنزة عن أبيه في مرحلة الطفولة. فالأب بسلطته وجبروته يخيف الطفل ويرحمه ويحميه. ومن هذا المنطلق يرى فرويد وجود علاقة كبيرة بين التصورات الدينية وبين الفعاليات التربوية للطفولة الأولى عند الفرد ولا سيما في علاقة الأب بأبنائه التي تتسم بفعاليات الخوف والكراهية من جهة، والشعور بالولاء والمحبة من جهة أخرى. وهنا يتبنى فرويد الطاقة الرمزية لما يسميه “عقدة أوديب” التي تأخذ طابع عقدة نفسية يقع فيها الابن بكراهية الأب والابنة بكراهية الأم مع نزع من الحب يشد الطفل دائما إلى الجنس المقابل له بين الأبوين. والابنة بحب أبيها حبا مفرطا مصحوبا بكراهية الابن للأب وكراهية الابنة للأم [12].

ويكمن جوهر نظرية “فرويد” في تصوره قوامه أن الطفل يرهب أباه وفي الوقت يحبه ويعجب به ويخشى فقدان حبه له، ولذا فإنه يتخلى ذاتيا عن تصوراته الغرائزية ويكبح رغباته ومخاوفه الأولية، ولكن هذه المخاوف والتصورات تبقى دفينة العقل الباطن الذي يبقى مسكونا بهواجس الكراهية والخوف البدائي من الأب، وترتسم هذه المخاوف والتصورات الآثمة في صورة “عقدة أوديب” التي تأخذ طابع عقدة نفسية ماثلة في أعماق العقل الباطن. ومن أجل الاستمرار في قهر الدوافع الوحشية الأولية وقهر الميول الوحشية يلجأ الفرد إلى الدين والأخلاق كقوة جبارة تطرح نفسها بديلا لقوة الأب وجبروته. [13]. وعلى هذا النحو يشعر الفرد بالراحة والاستقرار لشعوره بانتهاء الصراع بين التمرد على الأب والاستسلام له الذي يتجلى في هيئة تقلص الصراع بين الرغبة الغرائزية “عقدة أوديب” والمستوى الأخلاقي المطلوب اجتماعياً.

6- الأنا الأعلى:

يمثل الأنا الأعلى الضمير الأخلاقي الذي يتشمل في دوامات الصراع بين الميول الغرائزية والأوامر والنواهي والعادات والتقاليد في المجتمع. ويصف فرويد الضمير بأنه “الأنا الأعلى” وهو المنطقة الأكثر قدسية في الكيان السيكولوجي للفرد، فالأنا الأعلى هو المحكمة العليا في الكيان الإنساني، وهي محكمة معنيّة بإصدار الأحكام الأخلاقية، وتوجيه الفعل الإنساني توجيها أخلاقيا ينشد الخير والحق والجمال، ويرفض الباطل والشر والفساد. وإذا كان الأنا الأعلى هو الضمير الأخلاقي فإن فرويد يرى بأن” الهو” وهي منطقة الغرائز والميول في الكيان النفسي يمثل منطقة الشهوة حيث يعبر عن مطالب الجسد تلبية للرغبة والميول الطبيعية الغرائزية في الإنسان. وعلى هذا النحو يتجلى الأنا الأعلى في صوت الحق والضمير والقيمة الأخلاقية في الوقت الذي يعبر فيه” الهو” عن صوت الشهوة والرغبة والميل والعاطفة والهوى. والحياة الأخلاقية تكون بالصراع الأبدي ما بين الأنا الأعلى وما بين الهو منطقة الرغائب والميول والشهوات، إنه صراع الجسد والعقل بل هو صراع النور والظلام في كيان الفرد النفسي.

وهنا ومن جديد تتضح الرمزية الخاصة بعقدة أوديب، وباختصار فإن كراهية الطفل للأب وغيرته منه وميله الطبيعي لقتله بطريقة إيهامية خيالية فالطفل يرغب بقتل الأب ولكنه لا يستطيع ولكن مجرد التفكير بالقتل هو قتل رمزي وهذا القتل الرمزي يؤدي إلى الشعور بالندم والشعور بالندم هو أصل في تكوين الأنا الأعلى والكيان الأخلاقي عند الطفل لاحقا، وهذا ستمثل في المصالحة بين الأب والابن وتخلي الطفل عن عقدته في النزعة إلى القتل والتدمير.

7- خلاصة: الأخلاق بين أسطورتين

توجد وشائج عميقة بين الأسطورة الأوديبية والأسطورة الطوطمية من حيث الدلالات والرموز والمعاني. ففي كلتاهما نجد تجليات الخطيئة الأزلية الأولى لمقتل الأب وانتهاك حرمته، وفي كلتاهما نجد طابعا مأساويا يتخلله انتهاك المحارم، كما نجد في الأسطورتين صورة للندم الأزلي الذي يؤدي إلى نشوء التحريم والتقديس والتعظيم الذي يؤسس بدوره إلى نشوء القيم والدين والأخلاق.

وفي هذا المقام، يجب علينا أن نأخذ بعين الاعتبار، بأن الأسطورتين ليستا مجرد محض خيال جامح، إذ بينت دراسات ميثولوجيه كثيرة أن الأساطير ذات منشأ واقعي في جوهرها، إذ تستقي مصدرها الحيوي من الواقع، وتقوم في الوقت نفسه بالإضاءة على هذا الواقع. وما الأسطورة في نهاية الأمر سوى حكايات قديمة نسجها العقل بالخيال فأحياها بطاقة رمزية تمتلك القدرة على إضاءة الواقع وتقديم تفسيرات وامضة للحياة بما تنطوي عليه من أسرار وخفايا وخبايا. فمقتل الأب الأول ليس حقيقة أنتروبولوجية فحسب بل هو حقيقية نشهدها في عالم الحيوانات وتجمعاتها الأساسية، ولاسيما عند بعض جماعات القرود والأسود وأفراس النهر، حيث تكون العلاقات الجنسية مقتصرة على الذكر الأقوى في الجماعة، ومحرمة على غيره من الذكور. وهذا الأمر ليس غريبا أيضا عن الحياة الاجتماعية للإنسان تاريخيا، ففي العهود الإقطاعية الحديثة نسبيا من تطور المجتمع الإنساني، كان الإقطاعيون في كثير من المقاطعات في أوروبا وغيرها يمتلكون الحق بمضاجعة أي امرأة في إقطاعاتهم، وكان لهم الحق- بل الواجب أحيانا – في فض بكارة أي عروس قبل زفافها النهائي وذلك تأكيدا للحق الأبوي في التملك والسلطة.

يعتقد بعض المؤرخين، في هذا السياق، بأن قصة أوديب تمتلك أصلا تاريخيا حقيقيا، ومع ذلك يستحيل تخليصها من العناصر الأسطورية التي شابتها وأضفت عليها هذا الزخم الرمزي، وقد ورد ذكرت مأساة أوديب في «الأوديسة» لهوميروس تلميحاً مختصراً جداً، وفيها أنه قتل والده وتزوج والدته من دون أن يعلم، وأن أمه يوكاسته انتحرت شنقاً حين تكشفت لها الحقيقة؛ أما أوديب؛ أما أوديب فقد ظل يحكم طيبة حتى مات.

ومما لا شك فيه أن أسطورة أوديب قد شكلت موضوعا حيويا لقضايا متعددة أبرزها قضية المصير أو مسألة القضاء والقدر. فمثير من الباحثين تناولوا مسألة الحرية والقدرية في مسؤولية أوديب عن جريمة القتل التي أرتكبها بحق الأب وجريمة غشيان المحرم التي اقترفها بحق الأم. ومن الواضح أن القصة تتنبأ بمصير أوديب حتى قبل أن يولد. وهذا التنبؤ يمكن أن يقرأ بوصفه استلابا لحرية الإنسان أو بأنه «المقدر» و "المكتوب".

وهذا الأمر ينسحب بوضوح على أسطورة القتل الأول حيث كانت هذه الأسطورة انعكاسا طبيعيا للحياة الاجتماعية لدى القبائل البدائية وليس غريبا أن تكون هذه الأسطورة حقيقة أنتروبولوجية دامغة عاشتها الشعوب الإنسانية في مراحل تاريخية محددة.

ومما لا شك فيه أن نظرية فرويد في نشأة الأخلاق والحضارة واحدة من نظريات عديدة حاولت كل منها أن تقدم رؤية محددة وتصور شمولي لعملية انبثاق الحضارة والأخلاق في المجتمع الإنساني. ولكن نظرية فرويد تمتاز على ما غيرها بأنها اعتمدت الطاقة الرمزية المكتنزة للأساطير في تفسير عدد كبير من القضايا الوجودية للمجتمعات الإنسانية، فاكتست بطابعها الجمالي والسحري الذي جعلها من أكثر النظريات انتشارا في النصف الأول من القرن التاسع عشر.

ومما لا شك فيه أن هذه النظرية، كغيرها من مقولات فرويد وتصوراته، قد تعرضت للنقد السيكولوجي والسوسيولوجي دون انقطاع على مدى قرن من الزمان، ولكن هذا النقد المتواصل المتدفق أضفى على النظرية والمقولات الفرويدية مزيدا من السحر والبهاء والقوة، فكانت نظريته هذه أشبه بالنوابض الفكرية التي ما أن تلمس حتى تنهض بقوة أكبر مما هو متوقع لها.

ويمكن القول في نهاية هذا المقال: إن فرويد قد أحسن توظيف الرموز المكتنزة في الأساطير واستثمرها في استكشاف جوانب خفية من الحياة الإنسانية على نحو يتصف بالرشاقة والجمال، ولا ريب في القول بأن امتلك قدرة مذهلة على الجمع بين الرموز والأساطير والواقع في تفسيره لنشأة الدين والقيم الأخلاقية والحضارة، وقد تميز التفسير السيكولوجي الذي قدمه لمسألة الأخلاق بطابعه الجمالي والفلسفي الذي كان وما زال مثار جدل وحوار على أشده منذ عهد فرويد حتى اللحظة الراهنة.

***

علي أسعد وطفة

كلية التربية -جامعة الكويت

......................

مراجع الدراسة وهوامشها:

[1] إشارة إلى قتل الأب والتهامه من قبل الأبناء.

[2] احتفالات وطقوس تجريها القبائل البدائية لعبادة الأسلاف والأجداد. و” الطوطم” رمز يأخذ صورة حيوان أو نبات يرمز إلى روح الأب أو الجد.

[3] سلطان الزغول، تطبيق شعري لنظرية قتل الأب عند فرويد، جريدة الرأي، السبت 17 تموز 2010، www.alrai.com/pages.php?news_id=323690

[4] – Durkheim, E., Les Formes élémentaires de la Vie religieuse, Paris, puf, 1968

[5] التابو” يرمز إلى المحرم لدى القبائل البدائية.

[6] إذا كان الطوطم صقرا على سبيل المثال فهذا يعني تحريم قتل أو أكل جميع الصقور.

[7] سيغموند فرويد، الوثن والمحظور، نيويورك : ماكميلان، 1918.

[8] – Sigmund FREUD, Totem et Tabou, Interprétation par la psychanalyse de la vie sociale des peuples primitifs, (Traduit de l’Allemand avec l’autorisation de l’auteur en 1923 par le Dr S. Jankélévitch. Impression 1951),

[9] جيانا كردي، الحضارة والكبت. من وجهة نظر التحليل النفسي، موقع القديسة تيرزا،

http://www.terezia.org/section.php?id=1127.

[10] رندا قسيس، في أصول الأخلاق : نظرة أنتروبولوجية، ميدل أيست أونلاين، 6/6/2009، http://middle-east-online.com/?id=79615

[11] هناك مثل شعبي كويتي يقول “البنيّة تخطف قلب أبوها” ؛ و”كل فتاة بأبيها معجبة”، كما يقول أحد الأمثال العربية. وفي هذه الأمثال تعبير عن الميل الوجداني المتقابل بين الجنسين بين الأبناء والآباء.

[12] أوديب حكاية أسطورية إغريقية قديمة تفيد بأن أوديب ” قتل أباه (ملك طيبة) وتزوج أمه دون أن يعرفها في ظروف غامضة، ولما اكتشف الأمر فقأ عينيه وهام على وجهه.

[13] سيغموند فرويد، الوثن والمحظور، نيويورك : ماكميلان، 1918.

الطفولة مبتدأ الانطلاق

(عندما أتحدث مع طفل يثير في نفسي شعورين: الحنان لما هو عليه، والاحترام لما سوف يكونه"... لويس باستور

مقدمة

تروي القصة أن الأب كان بصدد قراءة صحيفته المفضلة في الصباح، وما أن بدأ بتصفح الجريدة حتى بدأ ابنه الصغير يدور حوله بشقاوته وشغبه وتساؤلاته التي ضايقت الأب ومنعته من متابعة القراءة والاستمتاع بصحيفته. وحين تعب الأب من شغب الصغير ومضايقاته خطر له أن يلهيه عنه بعض الوقت كي يتسنى له متابعة الاستمتاع بصحيفته فأخذ صفحة من الجريدة تنطوي على خريطة العالم ثم مزقها قطعا صغيرة وأعطاها للصبي طالبا منه إعادة تجميع الصفحة على صورة الخريطة، وذلك كي يشغل الطفل، ثم عاد لقراءة صحيفته بهدوء وصفاء، وقد أخذه الظن بأن الطفل سيبقى مشغولا بقية اليوم بترتيب الصفحة وجمعها، ولكن المفاجأة أن الطفل قد عاد إليه بعد دقائق معدودة وقد أنجز المهمة، إذ قام بترتيب الخريطة على نحو صريح صحيح... ! فسأله الأب مذهولا: هل كانت أمك تعلمك الجغرافيا يا بني .؟! رد الطفل قائلا: لا يا والدي. فقال له إذن كيف استطعت أن تعيد جمع الخريطة بهذه السرعة، عندها أجاب الابن: كانت هناك صورة لإنسان على الوجه الآخر من الصفحة، وعندما أعدت بناء الإنسان، أعدت بناء العالم ... كانت عبارة عفوية، ولكنها كانت جميلة وذات معنى عميق: "عندما أعدت بناء الإنسان، أعدت بناء العالم". وهذا هو بيت القصيد في مقالتنا هذه التي تبحث في قضية بناء الإنسان والحضارة عبر البناء الأصيل للطفل والطفولة منبع العطاء ومنهل الرجاء.

لقد أدركت الأمم العظيمة، وأدرك فلاسفتها الأفذاذ، أن أسرار القوة الحضارية للأمم تتجسد في قدرة كل منها على العناية بصغارها وتفجير طاقاتهم وصقل مواهبهم. فالرسالة الحضارية اليوم للأمم والشعوب تتعيّن بتوفير الشروط الموضوعية لتحقيق نماء الطفولة وإطلاق مواهبها، لأن طاقات الأمم الإبداعية كامنة في أطفالها بوصفهم ينبوع كل إبداع وعطاء وجمال.

إن بناء الإنسان هو الفعل المبدع الخلاق الذي يفوق بعظمته كل إبداع وكل ابتكار إنساني ممكن. ومن هذا المنطلق يترتب على عملية البناء هذه أن تنطلق من المراحل الأولى المبكرة من طفولة الإنسان. فالطفولة بدعة الله في الإنسان وآية من آيات الله في الطبيعة، إنها كون خلاّق يضاهي القوى الكونية العليا في مدى عظمته وروعته. وهي في النهاية الصورة المثلى التي يتجلى فيها ثالوث القيم: قيم الحق والخير والجمال.

و"الإنسان أثمن وأغلى وأعظم ثروة تملكها الأمم"، تلك هي الحقيقة العلمية التي بدأت تجلجل بقوة في مختلف أركان الكون منذ بداية النصف الثاني من القرن العشرين حتى اليوم، وهي الحقيقة التي تنادي في عقول المفكرين وتسطو في أعماق الوعي العلمي عند الباحثين والمبشرين بعالم أفضل. ولا يرتبط هذا القول بشعارات ذات طابع أخلاقي، بل يجسد منظومة من الحقائق العلمية الملموسة الاقتصادية والاجتماعية؛ لقد أصبح الاستثمار في تربية الإنسان هاجس الأمم المتقدمة، وغدا هدفا يتصدر استراتيجياتها التنموية وخططها النهضوية، وينطلق هذا الهاجس من حقيقة علمية قوامها أن توظيف رؤوس الأموال في التنمية البشرية لا يضاهيه في مردوده وعائداته الاقتصادية والاجتماعية أي استثمار آخر في أي حقل من حقول الإبداع والإنتاج الإنسانيين.

لقد ولّدت الثورة المعلوماتية الهائلة إيمانا راسخا بأن تربية الإنسان وتنميته هي منطلق كل نهضة حضارية وكل تطور في مجال المعرفة الإنسانية. وبدأت هذه الحقيقة تضرب جذورها في أعماق الوعي الإنساني منطلقة من أن الإصلاح الاجتماعي والنهوض بالمجتمع حضاريا يجب أن يبدأ بثورة إبيستيمولوجية في ميدان التربية والتعليم، لأن الثورة التربوية في مجال بناء الإنسان وإعداده تشكل منطلق بناء المجتمع وتثويره في مختلف مناحي الحياة الاقتصادية والاجتماعية.

وإذا كانت النهضة التربوية هي الشرط الأساسي لعملية الإصلاح التربوي والتغيير الشامل في المجتمع، فإن النهضة التربوية ذاتها يجب أن تنطلق من العمق الاستراتيجي للتربية في المجتمع المتمثل في تربية الأطفال وإعدادهم منذ مرحلة الطفولة المبكرة، لأن الطفولة تشكل شرط الضرورة والكفاية لنهضة تربوية حقيقية.

إن أية محاولة للنهوض بالتربية وتطويرها أو إصلاحها لا تبدأ بمرحلة الطفولة هي محاولة تسير نحو قَدَرِ الإخفاق والفشل. وقد لا نكون مبالغين إذا قلنا بأن الإخفاقات التي تعاقبت وتتابعت في مشاريع النهضة التربوية والإصلاح التربوي في الوطن العربي قد أخفقت لأنها انطلقت من المكان الخطأ والعنوان الخطأ، ولأنها في نهاية الأمر لم تنطلق من الطفولة بوصفها العمق الاستراتيجي للإصلاح والتطوير في التربية والمجتمع في آن واحد.

لقد آمن أغلب المفكرين، منذ عهود بعيدة، بأن الثورة التربوية يجب أن تبدأ في مرحلة الطفولة المبكرة وأن تنطلق منها، وأن مثل هذه الثورة هي نواة النهوض والتنوير الشامل في مجال الحياة المجتمعية، وذلك لأن مرحلة الطفولة تشكل المنطقة الجيولوجية الأعمق في نسيج الوجود الإنساني، وفي هذا التكوين الأعمق تكمن نفائس الأمم وذخائرها الإنسانية وطاقاتها البشرية الأولية.

إن فكرة إصلاح المجتمع عبر إصلاح الناشئة فيه قديمة قدم التاريخ. لقد أعلن أفلاطون في القرن الرابع قبل الميلاد بأن لا يمكن إصلاح مدينة بصغار أفسدهم كبارهم، ومن أجل هذا الإصلاح يقترح أفلاطون في جمهوريته إخراج جميع الأطفال ممن هم دون الخامسة إلى ظاهر المدينة، وتربيتهم في معسكرات خاصة تشرف عليها الدولة تربية عقلية وتربية أخلاقية متميزة، وذلك من أجل إصلاح شؤون المدينة والخروج بها من دائرة الفساد إلى دائرة التنوير والحق والعدالة والحرية.

وتجد فكرة أفلاطون صداها ورجعها في كثير من مراحل تطور المجتمعات الإنسانية. وشواهد الإيمان بأهمية تربية الصغار وإصلاحهم من أجل إصلاح المجتمع تتجاوز حدود العدّ والحصر، ولكن تجدر الإشارة في هذا المقام إلى فكرة التربية السلبية الحرة عند روسو التي يرى فيها بوضوح كبير ألا إصلاح في المجتمع إلا من خلال بناء أجيال حرّة قادرة على صنع التاريخ بمعايير تربوية وأخلاقية جديدة.

فالأمم الكبيرة هي الأمم التي وجدت في الأطفال ينبوعا ثرّا للعطاء واستمرارية في القدرة على النهوض والبناء. ويبدو اليوم أن درجة عناية الأمم بأطفالها ورعايتهم لها تحدد درجة كل أمة من هذه الأمم في السلّم الحضاري وفي الموقع المتقدم الذي سجلته في سلم العلم والمعرفة العلمية.

إن الشرارة الأولى التي تنطلق منها النهضة والتنوير والحضارة في أية أمة من الأمم تنقدح شعلتها بداية في عالم الطفولة والأطفال، فيتوهج الوعي المجتمعي بأهمية مرحلة الطفولة ودورها في بناء الحضارة والإنسان. فالطفولة تشكل العمق الاستراتيجي الإنساني للمجتمع، وهذا العمق يأخذ تجلياته في أبعاد ديموغرافية وبيولوجية وثقافية وإنسانية بالغة التنوع والشمول. وكل بداية حضارية أو نهضوية لا تبدأ من هذا العمق هي بداية سطحية عابرة ومؤقتة ولن تؤتي أوكلها أبدا.

وليس في التأكيد على الأهمية الصارخة للعناية بالأطفال وتربيتهم ما يخضع للشعارات الرنانة أو للأيديولوجيات البراقة أو ما يمت بصلة إلى العقائد الغراء. إن الطفولة هي أهم الطبقات في تكوين المجتمعات الإنسانية من حيث خطورتها وأهميتها، وليس في هذا القول ممالأة أو مجانبة للصواب، بل تلك هي الحقيقة التي تنضح بمصداقية علمية تتجاوز حدود الشك وتتعالى على شطحات الوهم والظنون. فالسنوات الخمس الأولى من حياة الفرد تأخذ أهمية فريدة متفردة تقرّها العلوم الإنسانية والتطبيقية بمطلق التأكيد. فالطفولة تشكل الطبقة الأعمق في حياة الفرد منفردا وفي حياة الكيان المجتمعي حيث يتحد الأفراد. وقد حظيت حقيقة الأهمية الكبرى لمرحلة الطفولة على إجماع المفكرين والعلماء والعارفين.

وقد أصبح اليوم، من تحصيل الحاصل ومن بديهيات القول، أن يؤكد جميع الدارسين والباحثين والمفكرين بأن الطفولة والطفولة الأولى هي منطلق البناء التربوي وجذوته. ويمكن للباحث اليوم أن يفرد نسقا يأخذ مداه طولا وعرضا من أسماء العلماء والمفكرين الذين يؤكدون أهمية هذه المرحلة منذ بدء الحضارة الإنسانية حتى اليوم.

فالإصلاح التربوي يجب أن يبدأ من العمق لكي يكون إصلاحا حقيقيا وجوهريا، وهذا العمق الذي يجب أن ينطلق منه هو العمق الاستراتيجي للتربية الذي يتمثل في مرحلة الطفولة المبكرة. ولكي يكون هذا الإصلاح استراتيجيا يجب عليه أن يكون علميا، ومن أجل أن يحقق هذا الطابع العلمي يجب أن ينطلق من بناء فهم علمي يتميز بطابع الشمول والعمق لمرحلة الطفولة ذاتها بمعانيها وطبيعتها وقانونياتها الحاكمة. وهذا يعني أنه ومن أجل إحداث التغيير الشامل والمثمر في التربية يجب علينا أن نفهم وندرك طبيعة العملية التربوية في أكثر مراحلها خطورة وأهمية إدراكا علميا يتميز بالرصانة والأصالة والشمول والعمق.

وتأسيسا على هذه المحاكمة ينهض القول بأن تحقيق الشرط الأساسي للثورة التربوية المجتمعية الشاملة يجب أن يبدأ بتكوين وعي علمي يتصف بالشمول والأصالة عند طبقة المربين بعامة وعند مربيات ومربي الأطفال بشكل خاص. ومن هنا تأخذ التربية في مرحلة الطفولة المبكرة أهمية مركزية وإستراتيجية. وبناء على ذلك ومن أجل تحقيق الشرط الأساسي لكل إصلاح أو تثوير تربوي يجب أن نبدأ بإعداد المربيات والأمهات إعدادا علميا يمكنهن من تمثل معطيات المعرفة الإنسانية في مجال تربية الطفولة بما ينطوي عليه هذا الحقل من معارف علمية ونظريات وممارسات وتجارب. ويجب على هذا التوجه ألا يقف عند حدود المربيات والباحثات في مجال الطفل وشؤون الطفولة بل يجب أن نيّسر ونعزز وعيا تربويا يشمل مختلف المربيين والمربيات في المجتمع على امتداد الساحة الوطنية في أي مجتمع من المجتمعات المعنية. فالمعرفة العلمية بطبيعة الأطفال وأهمية مرحلتهم واستيعاب التجارب العلمية والخبرات والنظريات يشكل الخطوة الأولي في أي إصلاح تربوي جوهري يسعى إلى إصلاح المجتمع وتحقيق نهضته.

فعالم الطفولة عالم لم يكتشف بعد، ولم يتحقق الطموح الإنساني في استكشاف المعالم النهائية لهذا العالم، وأن الإنسانية تحتاج إلى عقود وربما قرون من الزمن للكشف عن ماهية هذه الطفولة بأعماقها الإنسانية والسيكولوجية. فالطفل يمتلك على قوى داخلية هائلة وخفيّة نجهل حدودها وأبعادها وآفاقها منذ لحظة ولادته. والسؤال الجوهري الذي يفرض نفسه بقوة الضرورة هنا هو: هل يمكن للمربين أداء دورهم التربوي كما يجب إذا كانوا يجهلون ماهية الطفولة وطبيعة الأطفال؟ وهنا يجب علينا أن نعترف بأننا على الأغلب ما زلنا نجهل طبيعة الطفولة، وأطفالنا مازالوا بالنسبة لنا كائنات مجهولة فيما يتعلق ببنيتهم وطاقاتهم الكامنة، ونحن لا نستطيع أن نقدم شيئا مهما للأطفال إذا لم نستطع أن نكتشف فيهم هذه القوى الداخلية لديهم وننميها.

لقد بدأ الاعتراف اليوم بأن الأطفال يمتلكون قدرات خفية هائلة، ويجسدون قدرة نامية يجب أن تحظى بالعناية، وأن تخضع لمبدأ الاستثمار. ولا يوجد اليوم ما يمنع الأطفال الصغار من أن يكونوا تجريبيين مندفعين ومتحمسين أو مكتشفين ورواد في مجال العلم والمعرفة.

ومن هذا المنطلق بدأ وعي تربوي جديد ورؤية حداثية جديدة تتكون وتأخذ أبعادها حول بنية الطفل واتجاهات نمائه، فالطفل ليس كائنا متلقيا وحسب، إنه مبدع منذ البداية، ولو تفحصنا تصوراته للعالم وتعبيراته الانفعالية لوجدناها –على بساطتها- تعبيرات وتصورات مبدعة، وهذه الأصالة الفطرية هي مفتاح النمو السوي للأطفال وهي- لكي تفصح عن ذاتها إفصاحا كاملا – تقتضي منا معاونة الطفل على الاقتراب التلقائي من العالم والدخول في علاقة حميمة مع البشر والحياة، وهي علاقة تربط الطفل بالعالم دون أن تمحو هويته الثقافية أو تشوهها، وهذه هي مسؤولية الكبار نحو الطفل آباءً كانوا أو معلمين. وإذا غابت هذه الحقيقة عن المربين فإنهم سيكونون على وعي منهم أو من غير وعي أداة لتخريب النمو السوي في الطفل وذلك عبر أفانين غامضة.

إن الخطر الأكبر في حياتنا المجتمعية يتمثل في جهل المربيين بالأصول العلمية لتربية الأطفال. ويكمن هذا الخطر في قانون تربوي قوامه أن التربية التي لا تقوم على أسس علمية تؤدي إلى تدمير الأطفال نفسيا وعقليا واجتماعيا. وبناء على هذا القانون التربوي فإن أية تربية نقدمها للطفل تلحق به الأذى وتدمره إذا لم تكن تربية علمية مستوفية لشروط الوعي العلمي، وهذا يعني أن التربية في مرحلة الطفولة يجب أن تقوم على وعي علمي رصين ومتكامل وأصيل بمختلف معطيات الطفولة وتربية الأطفال.

والسؤال الذي يقفز إلى العقل مباشرة: هل التربية التي نعتمدها اليوم في تربية أطفالنا تربية علمية تأخذ بأسباب العلم الحديث ومعطياته؟ والجواب سرعان ما يومض بسؤال جديد: هل يمتلك مربونا الوعي العلمي الرصين بأحدث وسائل التربية ونظرياتها في مستوى تربية الأطفال؟ وبناء على هذين السؤالين يقوم الاستنتاجان التاليان:

- إن تربية الأطفال تربية بنائية نمائية حقّة مرهونة بمستوى وعي المربين بقضايا الطفولة وأصول التربية ونظرياتها وقانونياتها وأصولها السيكولوجية والاجتماعية.

- إن غياب مثل هذا الوعي المتكامل بطبيعة التربية وأصولها في مستوى الطفولة يؤدي إلى نتائج عكسية، أي أن التربية هنا تهدم ولا تبني، تفقر ولا تغني، تأخذ ولا تعطي، وباختصار التربية الجاهلة تتحول إلى عامل هدم وتخلف وانهيار وتراجع إنساني وأخلاقي.

والسؤال الذي يرمي بنفسه هنا هو: إلى أي حدّ ينتشر الوعي التربوي العلمي المتكامل والحديث بين المربين آباء وأمهات ومعلمين في عالمنا العربي؟ والجواب هو افتراض قوامه أن التربية العربية في مجال الطفولة المبكرة مازالت تربية تقليدية، وتقليدية مغرقة في القدم، وأنها لم تتحول إلى تربية تأخذ بمعاني التربية الحديثة التي تعتمد أفضل السبل العلمية في تنمية الأطفال وفي تحقيق ازدهارهم. ويترتب على ذلك أن التربية السائدة هي تربية تعتمد مبدأ الهدم لا البناء ومبدأ الإفقار لا الإغناء.

وتأسيسا على ما سبق يمكن القول بأنه يتوجب علينا، في مطلع هذا القرن الحادي والعشرين، مفكرين وسياسيين وعلماء وكتاب ودارسين أن نمارس دورا تنويريا يهدف إلى بناء وعي تربوي أصيل ومتقدم في عالم الطفولة والأطفال. وبناء هذا الوعي يجب أن ينطلق من اعتبارين أساسيين هما:

أولا - اعتبارات ذاتية في الطفولة عينها: حيث يتوجب علينا أن نؤكد من جديد بأن الطفولة يجب أن تكون غاية الغايات ونهاية كل طموح إنساني في مجال التربية والتعليم، وهذا التوجه ينبع من اعتبارات دينية وأخلاقية وإنسانية ووجدانية تتجاوز حدود كل وصف وتصنيف.

ثانيا – اعتبارات حضارية وإنسانية ونهضوية: فالطفولة تشكل نقطة انطلاق كل محاولة نهضوية أو حضارية، لأنها كما أسلفنا، تشكل العمق الاستراتيجي في المجتمع والحياة، والطبقة الأعمق في التكوين الإنساني، ولذلك فإن أي محاولة للنهضة بالمجتمع لا تأخذ هذا التوجه بعين الاعتبار ستمنى بالإخفاق والفشل، وبالتالي فإن أي محاولة أخرى تنطلق بعيدا عن هذه المرحلة لن تحظى بأي نجاح ممكن أو محتمل وبالتالي فإن درجة الإخفاق تكون أكبر كلما كانت المسافة الفاصلة بين مرحلة الطفولة ونقطة الانطلاق أبعد.

وهنا وفي هذا السياق يتوجب أن نذّكر بأن التربية العلمية الحديثة في مستوى الطفولة تشكل الشرط اللازب في كل إصلاح تربوي ممكن ومحتمل، وأن الإصلاح التربوي يشكل العمق الاستراتيجي للإصلاح الاجتماعي برمته، ومن هذا المنطلق يجب أن نقول بأن الرهان الحضاري لوجودنا وحياتنا المجتمعية يتمثل في مدى قدرتنا على إيجاد تحولات عميقة وبنيوية في أساليب تربية الأطفال والعناية بهم وتنشئتهم وفقا لأحدث معطيات المعرفة العلمية والنفسية. ويبقى أن نقول أيضا بأن بناء الوعي التربوي، بأهمية مرحلة الطفولة وبأهمية العلم الحديث والطرائق التربوية في تربية الأطفال، يجب أن يتجاوز حدود التخصص العلمي، وهذا يعني أن الوعي الذي نتحدث عنه يجب أن يكون وعيا شاملا يتغلغل في مختلف شرائح المربين في المجتمع من آباء وأمهات ومربيات وعاملين وسياسيين. وإذا ما بقي هذا الوعي سجين فئة متخصصة أي إذا لم يستطع أن ينفلت من عقال التخصص ودوائره الضيقة فإننا لن نستطيع أبدا أن نحقق ما تصبو إليه النفوس الطيبة من أمل في أصلاح الإنسان والمجتمع. إن إصلاح المجتمع لا يكون إلا بإصلاح الإنسان وإصلاح الإنسان إلا بإصلاح الطفولة وهذا يعني أن الطفولة تشكل المبتدأ والخبر في كل عملية تربوية تسعى إلى تحقيق الإصلاح في التربية والمجتمع والإنسان.

وبقي أن نقول بأن التربية التي تسود في مجتمعاتنا تعاني من هيمنة أسطورية لمفاهيم وتصورات تقليدية صَدَّأها الزمان وخددتها الأيام، وأصبحت تغلب عليها الأوهام التربوية، وأنه يجب علينا اليوم أن نحقق ثورة في المفاهيم التي تتصل بالطفولة وتربية الأطفال وعلينا أن نقتلع كل الأعشاب الضارة وخضراء الدمن التي نبتت في تربة التربية التي ننهجها حاليا في تربية الأطفال. ولأنها تربية ابتعدت عن المنهجية الصحيحة فإنها تدمر وتؤذي وتقتل وتضعف وذلك بدلا من أن تبني وتصلح وتحيي وتقوي، لأنه في التربية الحديثة حكمة تقول: كل ما لا يحيي يميت وكل ما لا يبني يهدم. ومعيار البناء الصحيح وفقا للتربية الحديثة هو الوعي والوعي العلمي بأصول التربية الحديثة ومفاهيمها واتجاهاتها ونظرياتها وأسسها السيكولوجية.

وأخيرا يطيب لنا أن نردد هذه الأبيات الخالدة للشاعر السوري بدوي الجبل في حب الطفولة وجمالها شعراً يقول :

ويارب من أجل الطفولـة وحدهـا

أفض بركات السلم شرقاً ومغربـا

*

وصن ضحكة الأطفال يا رب إنهـا

إذا غردت في موحش الرمل أعشبا

وأخيرا نقول إن الطفولة رمز البراءة في الطبيعة وعنوان الطهارة في الإنسان، فيها تتألق أجمل القيم وأصفاها، وتترامى معها أبهى المعاني وأنقاها، إنها سحر في الطبيعة وإبداع الله في الإنسان، وعندما تزدهر الطفولة يفيض العالم بالحب والجمال والعطاء، وذلك لأن الطفولة مبدأ العطاء ومنهل الرجاء ومبتدأ الانطلاق، وإذا ما استطاع مجتمع أن يتعهدها يفيض العالم بالحب ويزدهر والجمال ويضوع بالعطاء

***

ا. د. علي أسعد وطفة

 

عناصر تشكيل العقل الغربي في وعيه بالإسلام

يعود الاهتمام الغربي بدراسة الإسلام وتاريخه واتجاهاته الفكرية والاجتماعية إلى ما قبل مرحلة تشكيل الوعي الاستشراقي، وهي المرحلة اللاهوتية المسيحية؛ إذ بدأ الوعي دينياً لاهوتياً (مسيحياً)، وانتهى مركّباً من عدة اتجاهات ومدارس غربية، بالتزامن مع الصراعات العسكرية بين الدول المسلمة والدول الاوروبية، ثم موجات الغزو والاحتلال الأوروبي للبلدان الإسلامية منذ القرن السادس عشر الميلادي.

أما المرحلة الجديدة من الدراسات الغربية؛ فقد بدأت في نهاية السبعينات، مع اندلاع الثورة الإسلامية الإيرانية، ثم أخذت - تلك الدراسات - شكلها الحالي في مطلع الثمانينات مع إعلان الحركة الإسلامية العراقية عن نفسها، وصولاً إلى تأسيس حركة المقاومة الإسلامية في لبنان(1). ويشتمل الإهتمام على دراسة تيّارات النهوض الإسلامي وجذورها العقدية والفقهية والتاريخية، ورموزها وأهدافها، والقواعد الفكرية السياسية والفكرية التي تشكّل بعضها دوافع لتأسيس تيّارات الصحوة والنهوض الإسلامي. فخلال الثمانينات تأسست في الغرب مئات المراكز واللجان والمجموعات البحثية لدراسة الصحوة الإسلامية الجديدة، وصدرت آلاف الكتب والبحوث والمقالات في هذا المجال. وقد ذكرت بعض المصادر أن وكالة المخابرات الأمريكية (C.I.A) موّلت خلال عام 1983 أكثر من (120) مؤتمراً وندوة لدراسة (ظاهرة) الصحوة الإسلامية وجذورها(2).

ومنطلقنا هنا في تقويم الوعي الغربي بالإسلام والمسلمين وفهمه وتفكيك عناصره، ليس ردود الفعل تجاهه، أو وعي التناقض المسبق مع معاييره، بل المنطلق هو تكوين وعي موضوعي به، من خلال استقراء اتجاهات أكبر عدد ممكن من التيّارات والرموز التي تمثّل العقل الغربي. فالنظرة الواقعية للغرب ولبناه العقلية والفكرية والاجتماعية، ليست نظرة ستاتيكية ذات أحكام جاهزة وفي إطار إتجاه فكري وثقافي محدد، كما هو الحال مع النظرة الغربية للإسلام والمسلمين وعموم الشرق، وإن كانت هناك بعض الثوابت في هذا المجال، والتي يحاول بعض المفكّرين المسلمين تحويلها إلى بنية فكرية في مقابل الاستشراق، أطلقوا عليها عنوان: «الاستغراب»(3).

يقف فهمنا الواقعي لوعي الغرب بنا على دعامتين:

1- وعينا بذاتنا وعياً موضوعياً، والذي يتضمّن اكتشاف هذه الذات والعودة إليها وإعادة إنتاجها.

2- وعينا المستقل لبنية العقل الغربي ومعاييره في فهمنا وتقويمنا.

ويشتمل هذا الفهم على قواعد الوعي الغربي وخلفياته وأهدافه، إضافة إلى الوعي اللاهوتي السلطوي والاستشراقي والاستعماري، ومعاييره ومناهجه، وأساليبه وإفرازاته؛ إذ أن العقل الغربي الذي ينتج هذا الوعي المتجدد بالإسلام والمسلمين والصحوة الإسلامية ومظاهر الصعود الإسلامي، ليس أحادي العامل، بل يتشكل من أربعة عناصر أساسية، متمازجة ومتشابكة في نشأتها وتأثيراتها المتبادلة، هي: لاهوت السلطة والخطاب الاستشراقي والنزعة الإستكبارية وفكر النهضة الاوروبية:

1-لاهوت السلطة:

تأسس التحالف بين سلطة الدولة المطلقة والسلطة الدينية المسيحية في أوروبا، على يد الإمبراطور الروماني قسطنطين الأول (272 ـــ 337 م)، خلال انعقاد المجمع المسكوني المسيحي الأول في روما (305 م)، أي بعد ثلاثة قرون من ميلاد عيسى المسيح، وهو تحالف تخادمي بين سلطة الإمبراطور وسلطة الكهنة، وقد نقل المسيحية الروحية الناصرية التي جاء بها السيد المسيح، الى مسيحية سلطوية، عنوانها "لاهوت السلطة"، وهو اللاهوت الجديد الذي حوّل الإمبراطور الروماني قسطنطين الى قدّيس، له الحق في نشر المسيحية الجديدة (القسطنطينية) واحتلال أراضي الغير واستعباد الشعوب، وفرض الدين الجديد عليها بالذبح والسيف، باسم الرب والمسيح والصليب. وقد اختلف هذا اللاهوت اختلافاً بنيوياً عن المسيحية العيسوية التي كانت السائدة آنذاك؛ فالأولى هي المسيحية الروحية الأخلاقية الاجتماعية، الخالية من التشريع ومن النظم السياسية والاقتصادية، والثانية هي المنظومة المسيحية السلطوية الإستعمارية، التي نشرت المسيحية في اوروبا والعالم بالسيف والقهر، وهي التي أسست لنظام الاستبداد الديني الكنيسي.

لقد تبلور لاهوت السلطة الأوروبية من خلطة عجيبة، جمعت بين:

1- تعاليم روحية أخلاقية بشّر بها النبي عيسى المسيح.

2- عقيدة أسسها بولس (5- 67 م)، الذي يعد المؤسس الحقيقي للعقيدة المسيحية، التي تتمحور حول شخصية السيد المسيح حصراً. وتمكن بولس، عبر هذه العقيدة، من تحويل التعاليم المسيحية من انشقاق ديني يهودي الى ديانة مستقلة على أرض الواقع. مع الإشارة الى أن بولس هو يهودي روماني أصلاً، وكان يضطهد المسيحيين الأوائل بعد عروج السيد المسيح، ثم زعم أنه رأى نور السيد المسيح في الطريق، وطلب منه الإيمان به، وأن يصبح رسوله الى العالم، لذلك أسمى نفسه بولس الرسول.

3- شريعة يهودية توراتية، لأن السيد المسيح لم ينشىء شريعة مستقلة عن الشريعة اليهودية، لذلك فإن المسيحيين الأوائل اعتمدوا التوراة ككتاب عقيدة وتشريع وتاريخ، وعدّوه العهد القديم، مقابل الإنجيل الذي يمثل العهد الجديد.

4- أنساق فلسفية يونانية، أغلبها إفلاطونية.

5- عرفان غنوصي.

6- مثيولوجيا وثنية رومانية.

7- ايديولوجيا سلطوية استعمارية أسسها الإمبراطور الروماني قسطنطين الأول، الذي كان ذو طموحات سياسية إمبراطورية توسعية لاتنتهي، ولم يكن يعنيه الجانب الديني، بقدر ما يحقق له طموحاته.

ويعد تأسيس الديانة المسيحية الجديدة على يد قسطنطين، التأسيس الثالث للمسيحية، بعد التأسيس الأول على يد النبي عيسى المسيح ثم التأسيس الثاني على يد بولس الرسول. وقد فرضت هذه الديانة الجديدة على أوروبا، عصوراً مظلمة قاسية من التخلف والمرض والجوع والاستبداد والحروب والانكسارات، عرفت بــ "العصور الوسطى"، لأنها ديانة تركيبية متحولة وافدة لا تنتمي إلى أوروبا في الجذور الاجتماعية، ولأنها باتت سلطة قمع للعقل والعلم والمعرفة والكلمة وإرادة الإنسان، وأداة سلطوية استكبارية، نجحت في تأسيس امبراطورية استعمارية رومانية مترامية الأطراف، بعد أن استولت على أراضي الشعوب وخيراتها، واستعبدتها، وفرضت عليها المسيحية القسطنطينية. ولذلك؛ لاتوجد ايديدلوجية دينية على مر التاريخ، انتشرت بالسيف والقهر، كما انتشرت المسيحية القسطنطينية، بل أن هذه الايديولوجيا قمعت مسيحيي الشرق الأصلاء، وذبحتهم، ودمّرت كنائسهم، وفرضت عليهم اتّباع المسيحية الأوربية. وبمراجعة سريعة لما فعلته الجيوش المسيحية القسطنطينية الرومانية بمسيحيي مصر وفلسطين والشام؛ يتبين مدى تعارضها البنيوي مع المسيحية الأصيلة ومع تعاليم السيد المسيح.

وما لبثت المسيحية الرومانية المتحولة أن انتشرت في جميع البلدان الأوروبية، ثم سار على نهج قسطنطين جميع أباطرة الغرب من بعده، وباتت المسيحية ديانة أوروبية، ليس في نكهتها العامة، بل حتى في جوهرها؛ فحين اعتنق الملوك والأمراء الأوروبيين الديانة المسيحية البولسية القسطنطينية، فإنهم حوّلوها أيضاً الى ديانة أوروبية داعمة لامبراطورياتهم وملكياتهم وإقطاعياتهم، ومشرعِنة لها دينياً، أي أنهم أخضعوا المسيحية للنظام الإجتماعي السياسي السائد في أوربا؛ إذ لم تؤثر المسيحية الأصلية في واقعهم الروحي والأخلاقي والاجتماعي، بل استحال السيد المسيح نفسه أميراً أو فيلسوفاً إغريقياً ورومانياً وجرمانياً وانجلوسكسونياً في شكله وهيئته التي تصورها التماثيل واللوحات الأوروبية القديمة، والأفلام السينمائية الحديثة، فالمسيح الأوروبي رشيق طويل، أبيض البشرة، أزرق العينين، أشقر الشعر، صغير الفم، إغريقي الأنف، وهي مواصفات لاتنطبق بتاتاُ على سكان فلسطين من الكنعانيين والعبرانيين والسريان وغيرهم.

ثم حمل القساوسة الأوروبيون المستعمرون، ديانتهم هذه، الى أفريقيا والأمريكتين واستراليا وشرق آسيا، برفقة القوات المسلحة الإستعمارية البرتغالية والإسبانية والفرنسية والبريطانية والبلجيكية والأمريكية والهولندية، وحينها لم تقتصر الديانة المسيحية الأوروبية على كونها ديانة أوروبية سلطوية، بل باتت ركيزة أساسية من ركائز الإستعمار الأوروبي للبلدان الأخرى، وكثير منها بلدان إسلامية أو تسكنها كثرة سكانية مسلمة. وكان المستعمرون الأوربيون ينظرون الى هذه الشعوب باعتبارهم كفاراً وعبيداً لهم، بوصفهم شعب الله المختار، كما تؤكد التعاليم التوراتية والتلمودية التي ضمّتها المسيحية القسطنطينية الى لاهوتها السلطوي. وهنا يكمن تحديداً العنصر الاول في الوعي الغربي بالإسلام والمسلمين.

وقد بدأ التمرد الأوروبي على المسيحية القسطنطينية الرومانية يبرز تدريجياً خلال القرنين الخامس عشر والسادس عشر، متخذاً أشكالاً فكرية أحياناً وقانونية أخرى وسياسية ثالثة وعلمية رابعة، مناهضةً لسلطة التابوهات اللاهوتية السلطوية، الكنيسية والثيوقراطيات الملكية المتحالفة معها، حتى استحال هذا التمرد صراعاً مستداماً بين سلطتي الكنيسة والحكم المطلق من جهة، والنخب الأوروبية العلمانية المتطلعة الى النهوض والبناء والتغيير من جهة أخرى، حتى أنتج هذا الصراع نهضةً شاملة خلال القرن الثامن عشر، عرفت بعصر التنوير وعصر النهضة الأوربية. وكانت العلمانية (Secularism / Laicite)، هي عنوان هذا العصر، والتي تعني باختصار "الدنيوية" وفصل الشريعة الدينية والمؤسسة الدينية عن الشأن الدنيوي، وخاصة مايرتبط بالدولة والحكم والتشريع، أو بكلمة أدق فصل سلطات الدولة ونظامها السياسي وتشريعاتها عن التشريعات الكنيسية، ومنع الكنيسة من أي تدخل في شؤون الدولة، بما في ذلك الشؤون القانونية والسياسية والافتصادية والعسكرية، واعتبار التشريع وإدارة الدولة وسلطاتها شأناً بشرياً محضاً لاعلاقة للاهوت به.

وقد أدخلت النخب الأوروبية العلمانية على معادلات الصراع هذه؛ عناصر قوة جديدة تتمثل في مخرجات التطور الفكري الميداني التراكمي، وأهمها: العقلانية المنهجية، والتجريبية العلمية، والديمقراطية السياسية والتشريعية، والليبرالية الاجتماعية والاقتصادية. وهي المذاهب التي تحولت الى نظم قائمة، قنّنت كل مجالات الفصل بين الدين والدنيا، وبين الكنيسة والدولة، وكانت بمجموعها أدوات تدمير للتخلف والاستبداد الثيوقراطي، بشقيه المتحالفين: السياسي (الدولة) والديني ( الكنيسة).

وهنا؛ يمكن القول بأن النهضة العلمانية الأوربية، قضت على ثلاثة عشر قرناً من الهيمنة المطلقة للمسيحية الأوروبية القسطنطينية، وأعادت المسيحية الروحية الاجتماعية نسبياً الى جذورها الفلسطينية، كما أعادت أوروبا نسبياً الى جذورها الالحادية العلمانية. وبكلمة أخرى؛ فإن عصر التنوير والنهضة الأوروبية، لم يكن ثورة على دين عيسى الأخلاقي، ولا على الدين بشكل عام، بل على السلطة الثيوقراطية الاستبدادية المتمثلة بسلطة المؤسسة المسيحية الأوروبية القسطنطينية.

إلّا أن المفارقة الكبرى تكمن في احتفاظ العقل الأوروبي العلماني النهضوي بعنصر لاهوت السلطة في نظرته للآخر ولأراضيه ومقداراته، سواء كان مسلماً أو وثنياً، رغم التحول البنبوي في العقل الأوروبي بعد تحوله الى العلمانية، وإسقاط تحالف لاهوت السلطة بين سلطة الكنيسة وسلطة الملك؛ إذ بقيت الحملات العسكرية الأوروبية تصطحب معها ممثلي الكنيسة والإرساليات والمبشرين القساوسة، وتدعمهم بقوة السلاح لفرض المسيحية على الشعوب المحتلة، أو للحصول على الشرعية الدينية في احتلال أراضي الغير ونهب ثروات الشعوب واستعبادها. وكان المحتل الأوروبي يعد العامل الديني هو عامل بقاء مستدام لاحتلاله؛ فإذا اعتنقت الشعوب المحتلة الديانة المسيحية؛ فإن الاوربيون سيضمنون ولاء هذه الشعوب لها، بفعل المشترك الديني، ولأن السيد المسيح هو الذي شرعن لهذا الاحتلال والاستعباد!(4).

2-الخطاب الاستشراقي:

شكّلت الخلفية الاستشراقية الفكرية عنصراً مهماً في تشكيل وعي العقل الغربي بالإسلام والمسلمين. ورغم أن ظاهر الخطاب الاستشراقي ودوافعه، ظل يتمحور حول محاولة فهم الإسلام واتجاهاته الفكرية والمذهبية، وانعكاسات ذلك في حركة الواقع، إلّا أنه كان ولايزال يعطي للدول الغربية والمجتمعات الغربية فهماً شبه دقيق لواقع المسلمين وطرائق تفكيرهم وأساليب اختراقهم والسيطرة عليهم، كما يحدد - بأسلوب مباشر أو غير مباشر - النظم السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية التي ينبغي على البلدان الإسلامية أن تطبقها، أي أن الخطاب الاستشراقي تقدم فهماً لما يحتاجه الغرب في كل مرحلة. وكان ملفتاً أن الخطاب الاستشراقي عمل بكل ثقله بعد العام 1979 على الدخول إلى عمق البنية الإسلامية لفهم ما تستبطنه من تعاليم وأصول تشكّل الدوافع والدعائم لحراك الاستقلال الشامل والصحوة والنهوض، واستشراف مستقبل هذا الحراك واكتشاف احتمالاته، ومحاولة التحكّم ببدائله.

والاستشراق هو خطاب وبنية فكرية، وليس مجرّد أعمال وبحوث وتقارير أكاديمية، وإن كانت هذه الأعمال هي التعبير الخارجي عن ذلك الخطاب؛ إذ يعرفه المفكر الفلسطيني إدوارد سعيد بقوله: ((الاستشراق أسلوب غربي للسيطرة على الشرق، واستبنائه (إعادة تشكيله)، وامتلاك السيادة عليه. أي إعادة إنتاج الشرق سياسياً، واجتماعياً، وعسكرياً، وعقائدياً وتخيلياً في مرحلة ما بعد النهضة))(5)، ما يعني أن الإستشراق ـــ غالباً ـــ يمثّل سلطة فكرية علوية أو أداة فكرية استعمارية، هدفها السيطرة وإعادة البناء، ولذلك؛ كانت قوى الاستعمار القديم والحديث، ولا سيما فرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة، وراء تشكيل حقل الدراسات الاستشراقية الغربية، كامتداد للوعي الكنيسي بالإسلام والمسلمين.

وتتميز أغلب الدراسات الاستشراقية الأولى بالهجوم المباشر على الإسلام وعقيدته ورموزه من منطلق ديني ينسجم مع قواعد لاهوت السلطة. أما الدراسات التي تلتها، ولا سيما في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر الميلاديين والعقود الأولى من القرن الماضي؛ فكانت تمارس الدور نفسه، ولكن تحت غطاء أكاديمي وعلمي. وهذه الدراسات - بالخصوص - هي التي شكًلت الوعي الغربي بالشرق والإسلام والمسلمين(6). وتذكر بعض الاحصاءات أن الفترة بين عاميْ 1800 - 1950م، أي خلال قرن ونصف القرن، أفرزت (60) ألف كتاب ودراسة في الغرب، عن الشرق، بما فيه المنطقة الإسلامية. وهذا ما يشير بوضوح إلى هيمنة العقل الاستشراقي في الغرب وقوته وسعته، وفي الوقت نفسه، تؤكد أهمية الشرق للغرب كـ«مَعْجَبة»، كما يصطلح عليه الروائي الفرنسي «فلوبير»(7).

وكما هو واضح من النتاجات الحديثة؛ فإن الكاتب الغربي أو المستشرق الجديد، يفكر - عادة - بعقلية استشراقية ذات بنية جاهزة، أسسها المستشرقون السلف الأكثر تأثيراً في خطاب الاستشراق أمثال: الإنجليزي «وليم لين». والفرنسيين «دي ساسي»، و«راينهارت دوزي» و«ارنست رينان» خلال القرن التاسع عشر الميلادي، إضافة إلى مساهمة الروائيين الفرنسيين «فلوبير» و«دو لامارتين»، وكذلك من جاء بعدهم من المستشرقين الإنجليز والفرنسيين والألمان والأمريكيين وغيرهم، والذين شكّلوا بنية خطاب الإستشراق الغربي الحديث، خلال النصف الأول من القرن الماضي، وأبرزهم: «هاملتون جيب»، «لويس ماسينيون»، «فلهاوزن»، «غولد سهير» و«دنكن مكدونالد»، و«مرجليوث». كما كان لجهود بعض السياسيين الغربيين كـ«بنيامين دزرائيلي» و«كرومر» و«جيمس بلفور» و«لورانس» أثر بارز في هذا المجال.

وفي النتيجة؛ فإن الخطاب الاستشراقي ساهم مساهمة أساسية في تشكيل الوعي الغربي الثابت بالشرق وبالإسلام، وقلّما تمكّن كاتب غربي معاصر من الإفلات منه؛ لأنه يمثّل جزءاً من وعي الذات الغربية، رغم أن بعضهم يدّعي منهجاً جديداً في الدراسات الإنسانية ينسجم مع الفكر الليبرالي الحديث، في مقابل الفكر الأصولي الغربي الحديث، إلا أن الدراسات الأكاديمية الاستشراقية غالباً ما تكون أصولية، أي إنها تعيد إنتاج البنى والأفكار نفسها، وفقاً لمتغيرات وأحداث المرحلة الجديدة(8).

3- النزعة الاستكبارية الاستعمارية:

بدأت النزعة الاستكبارية الأوروبية الحديثة بالظهور خلال القرن الخامس عشر الميلادي، بالتزامن مع الحملات الاستكشافية العسكرية لقارتي أمريكا (قبل أن يتسميا بهذا الاسم) وأفريقيا والبلدان الإسلامية وشرق آسيا، وهي نزعة قديمة، تمثل امتداداً للنزعة الرومانية والاغريقية، وخاصة النزعة الاستكبارية المشرعنة بلاهوت السلطة المسيحية.

وكما ذكرنا؛ فإن دول أوروبا العلمانية الديمقراطية الليبرالية الناهضة، التي أسقطت تحالف لاهوت السلطة؛ لم تتخل عن النزعة الاستكبارية القسطنطينية اللاهوتية، التي تتضمن استخدام الديانة المسيحية كداعم استعماري، بل احتفظت بهما معاً، واكتفت بالفصل بينهما فقط؛ إذ سلبت من الكنيسة حق تدخلها بشؤون الدولة، وصادرت سلطتها التشريعية والسياسية، لکنها احتفظت لنفسها بمنافع المسيحية والتبشير المسيحي كسلطة روحية، لتستمر في استخدامها كركيزة استعمارية ضد الشعوب التي تحتلها، وهي مفارقة أوروبية أخرى؛ إذ لم يرض الأوروبيون العلمانيون التنويريون لأنفسهم أن تكون الديانة المسيحية سلطة معرفية وسياسية عليهم، لكنهم فرضوها بالقوة على الشعوب المحتلة، كجزء من سلطة المستعمر.

لذلك؛ كانت الدولة الفرنسية التي تأسست بعد الثورة الفرنسية وأسست للنظام الديمقراطي الغربي ولمنظومة الحقوق والحريات الليبرالية، كانت الى جانب الدولة الليبرالية الديمقراطية البريطانية؛ أكثر الدول توسعاً استعمارياً، واحتلالاً لأراضي الغير، واستعباداً للشعوب، ونهباً لثرواتها. وكانت الإمبراطوريتان العلمانيتان الفرنسية والبريطانية تصطحبان المبشرين المسيحيين في كل حملاتهما الاستعمارية، وتدعمان تأسيس الإرساليات التبشيرية، وتؤسسان الكنائس والمؤسسات الكهنوتية في البلدان المحتلة، لأنهما كانتا مقتنعتين بأن اخضاع الشعوب المحتلة المستعبدة لسلطاتهما، لايستتب إلّا باتباع هذه الشعوب لدين المحتل وايديولوجيته(9).

4- فكر النهضة الاوروبية:

لم تكتف جيوش الاحتلال العلماني الأوروبي، وخاصة البريطاني والفرنسي، ثم الأمريكي، بفرض دينها المسيحي على الشعوب المحتلة، كما مر، بل أرغمتها أيضاً على اعتناق العقيدة العلمانية الغربية بجذورها الوثنية الأوربية؛ فكانت المسيحية الأوروبية، بنسختها الروحية الجديدة، والعلمانية الأوروبية بثوبها الليبرالي الديمقراطي، هما القاعدتان الايديولوجيتان اللتان تمكّن الاستعمار الغربي من خلالهما فرض وجوده ومصالحه على الشعوب الأخرى، حتى بعد خروج جيوشه وسلطاته المباشرة من البلدان المحتلة، ومنحه استقلالها الشكلي، أي أن العلمانية كانت ولاتزال أهم قاعدة للاحتلال الفكري والسياسي والاقتصادي الغربي المستدام لبلاد المسلمين.

وكانت نتيجة هذا المنهج الاستعماري، القوي في بنائه؛ ظهور نخب سياسية وثقافية عميلة فكرياً، ومشبعة بأدبيات المحتل ومفاهيمه ومصطلحاته ولغته، لكنه تشبعٌ قشري سطحي، لا يرقى الى فكر الاستقلال السياسي والاقتصادي الغربي، ولا الى النهضة العلمية والتكنولوجية الغربية، لأن الغرب فرض أدبياته ومفاهيمه الفكرية والسياسية على هذه النخب، وسلبها إرادة الاستقلال والنمو والتطوير الاقتصادي والعلمي والتكنولوجي. وهكذا ظل بناء السلطة، والتمسك بها، هو الهمّ الأساس للنخب العلمانية المحلية في البلدان العربية والمسلمة، سواء كانت في السلطة أو في المعارضة، العسكرية منها والمدنية، وليس همها بناء الدولة ونظامها السياسي وسلطاتها، واقتصادها وتعليمها ووسائل استثمار ثرواتها. كما قامت سياسات هذه النخب في بناء السلطة، على محاربة الإسلام وشريعته، وليس على ما يفرزه الواقع الاجتماعي للشعب وقاعدته الدينية، لأن الاستعمار الغربي زرع في عقول هذه النخب بأن مشكلة بناء الدولة والتطور الاجتماعي والاقتصادي والعلمي هو الدين وتشريعاته، ويجب التخلص من هذه التشريعات المتخلفة الرجعية التي تعيق كل أنواع التطور والتقدم، أسوة بما فعلته النخب الغربية حين تخلصت من هيمنة الدين خلال عصر النهضة والتنوير.

ولعل من أهم أسباب نفوذ العلمانية والليبرالية الى مجتمعات المسلمين: احتكاك النخب المحلية بالغرب والانبهار بانجازاته المادية، واليأس من الحلول المحلية للاستبداد السياسي، والتخلف بكل تمظهراته العلمية والثقافية والاقتصادية والاجتماعية. هذه الأسباب دفعت بعض المثقفين والسياسين العرب والمسلمين الى البحث عن علاجات وأفكار نقدية للواقع، فوجد قسم منهم في الماركسية أو القومية العنصرية أو العلمانية والليبرالية، دواءً لأمراض المجتمعات العربية والمسلمة، هذا فيما لو أحسنا الظن بهذه النخب، وأنهم لم يكونوا عملاء فكريين وسياسيين للغرب والشرق. بيد أن هذه المستحضرات الدوائية الفكرية الاجتماعية، لم تكن لتصلح لكل بيئة، بل ثبت أن استخدامها خارج بيئتها الغربية، وخاصة بهدف مواجهة الإسلام وشريعته، تؤدي الى مضاعفات خطيرة، لأنها مادة فكرية وايديولوجية اجتماعية، وليس كأدوية الطب وعلوم الهندسة والزراعة والصناعة، والتي يمكن استخدامها في كل مكان وعلى كل البشر، بصرف النظر عن نوعية الدين والعرف، وهو ما لا يمكن تعيمه على الأفكار والمذاهب الاجتماعية والسياسية والنظم القانونية، لأن هذه الفلسفات والأفكار تتعرض تعارضاً عميقاً مع الإسلام وشريعته، ومع الأعراف والبنى الاجتماعية للمسلمين.

هذا فضلاً عن أن العلمانية والرأسمالية والليبرالية هي القواعد التي قام عليها الإستعمار بكل ألوانه، فالعلمانية بعد أن طردت الدين من الحياة والدولة والقانون، فإنها توجهت لاحتلال أراضي الغير واستعباد الشعوب، بحثاً عن الموارد الخام والمواد الطبيعية وأسواق جديدة. أما الليبرالية فهي الايديولوجيا الاجتماعية التي بررت للغرب المستعمر الغازي كل أنواع الغزو الثقافي والفكري للمجتمعات الغربية والمسلمة، وفرض الحكام العملاء والدعاية للمثقفين التغريبيين.

وربما كان من حسن حظ الاستعمار الغربي وسوء حظ الشعوب المسلمة؛ إن عطش النخب العلمانية المحلية الى السلطة وصراعاتها عليها، واندفاعها للتعبير عن عمالتها السياسية للغرب، وكذا اندفاع النخب الثقافية باتجاه التعبير عن عمالتها الفكرية للغرب، وانبهارها بتطوره العسكري والعلمي والتكنولوجي؛ قد راكم من أميّتها الفكرية، بحيث لم تلتفت الى الفرق الهائل بين الدين الإسلامي وبين الدين المسيحي، بنسختيه الروحية والسلطوية، بل وعدم الالتفات الى خديعة التعميم العلماني الغربي لمفهوم الدين. وفي المقابل؛ لعب التفوق الغربي في جانب المكر والخديعة، وفي الجانب العسكري والاستخباري؛ دوراً أساساً في تمرير هذا الفهم الغربي للدين.

أما "العلمانية المستوطنة"(10)؛ فنقصد بها العقيدة العلمانية المترجمة أو الممنتجة في البلدان الأخرى غير الغربية، أي أنها العلمانية الأوروبية نفسها، ولكنها الصيغة التي استخدمها الأوروبيون كجزء من عناصر الاستعمار القديم والحديث، لترافق جيوش الاحتلال الأوروبي العسكري والسياسي والاقتصادي والثقافي، في حملاتها وغزواتها، ويتم توطينها في البيئات المحتلة الجديدة، وخاصة البيئات المستعمَرة العربية والمسلمة، وفرضها أمراً واقعاً فكرياً وقانونياً واجتماعياُ وسياسياً واقتصادياً، بمساعدة عملاء المحتل المخابراتيين والسياسيين والثقافيين، وكذا النخب الثقافية المنبهرة بالتطور العلمي والاقتصادي والسياسي الغربي، وأغلبهم ممن سافر الى أوروبا أو درس فيها، خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر والنصف الاول من القرن العشرين. أي إن العلمانية المستوطنة هي علمانية غير موضوعية وغير واقعية، لأنها سلعة مصدرة قسراً من أوروبا، ومفروضة بالقوة على البلدان العربية والإسلامية، بصورة مونتاج معرفي، أو نتاج مترجم أو معرّب.

وقد ساهمت أنظمة الاستبداد والتخلف والفساد في البلدان العربية والمسلمة، ولا سيما في الدولتين المستقلتين الأكبر حينها، العثمانية والقاجارية، في خلق الذرائع والمسوغات لعلمانيي البيئة العربية والإسلامية، لطرح العقيدة العلمانية كدين جديد منقذ من كل أنواع الاستبداد السياسي والديني، والتخلف العلمي والمعرفي والاجتماعي، والجوع والفقر والفساد الاقتصادي. وبالتالي؛ تعاضدت أضلاع مثلث: الإستعمار، والنخب العلمانية المحلية، وأنظمة الحكم المحلية، على توطين العلمانية الأوروبية في البلدان العربية والمسلمة، ومحاولة إعادة انتاجها بصيغ هجينة، لتتلاءم مع البيئات المحلية.

وللعلمانية الأوروبية تجليات متعارضة أحياناً، فهناك العلمانية المقترنة بفلسفة الإلحاد، كالوجودية، والعلمانية المقترنة بالإلحاد والمتعارضة مع الليبرالية، كالماركسية (الشيوعية) والاشتراكية، والعلمانية المقترنة بالليبرالية وأصالة الفرد، وهي العلمانية الغربية القائمة حالياً، والعلمانية بثوبها القومي الشوفيني، وهي ايديولوجيا تقوم على التمييز العرقي. ولا يعنينا هنا القواعد التفصيلية لهذه المذاهب الفكرية، بل ما يجمعها من قاسم مشترك، يتلخص في رفض أية علاقة للدين ومؤسسته بالدولة وسلطاتها وتشريعاتها. كما لا تعنينا المناخات الأوربية التي انتجت العقيدة العلمانية، بل محور بحثنا يدور حول موضوع العلمانية في البلدان العربية والإسلامية، والتي أسميناها "العلمانية المستوطنة"(11).

معايير وعي الغرب بالإسلام

يمكن القول إن الخلل الجوهري في فكر الغرب وثقافته، يكمن في التباين والتناقض بين معاييره النقدية التقويمية في وعي ذاته، ومعاييره المتعصبة الأصولية في وعي الآخر، أي أن الغرب لا يريد أن يفهم الإسلام كما هو، بل كما يريد أن يكون المسلمون عليه. وربما هناك عدد قليل جداً من الدراسات الغربية(12) احتوت على فهم قريب من الواقع للإسلام كنظام شامل للحياة، حيث مكّنها ذلك من وعي دوافع تيّارات الصحوة والنهوض وأسسها الفكرية، وذلك من خلال منهج آخر، انتقدت فيه المنهج الغربي السائد في الدراسات السسيولوجية للظواهر الاجتماعية، ومنها ظواهر النهوض الإسلامي. ورغم ذلك؛ فإن هذه الدراسات المستقلة في دوافعها، سارت بالاتجاه نفسه، لأنها اضطرت لاستخدام المعادلات والمصطلحات ذاتها في التحليل والاستنتاج.

وبشكل عام؛ يمكن استخلاص أهم خصائص ومعايير الوعي الغربي بالإسلام، كما يلي:

1- إنها تحاول فهم الإسلام من خلال المسلمين، أو من خلال الظواهر الخارجية للمجتمع وليس العكس.

2- تقويم حراك النهوض الإسلامي من خلال الرؤية الغربية نفسها، وليس من وجهة النظر الإسلامية، أو من وجهة نظر تيّارات النهضة.

3- إن وعي الغرب بحراك النهوض الإسلامي ليس وعياً مستقّلاً بوجود مستقل، بل هو جزء من وعي الغرب بذاته، لأن الشرق، وخاصة المسلمين، يمثّل «الآخر» بالنسبة لـ«الذات»، أي الغرب، و«التمثيل» بالنسبة «للحقيقة»، و«الأطراف» لـ«المركز»، وإن هذا «الآخر» الخارجي هو امتداد لعناصر الخارج في نظام «ميشيل فوكو»، وهي: الانحراف والشذوذ والجنون(13).

4- إن الشرق (الناقص الضعيف!) لا يمكنه وعي ذاته وعياً حقيقياً إلا من خلال وعي الغرب لها.

5- الرؤية الغربية تقتطع حراك النهضة الإسلامية الحديثة من سياقها التاريخي، وتدرسها كظاهرة ضمن مرحلتها الزمنية فقط، أما الخلفيات والأبعاد التاريخية والعقائدية؛ فإنها تستعيرها جاهزة من لاهوت السلطة والخطاب الاستشراقي.

6- أنها تعتمد النظريات الغربية الجاهزة في علم الاجتماع وعلم الاجتماع السياسي، كنظرية «أريكسون» في الشخصية والقيادة الدينية، أو نظرية «ماكس فيبر» في قدرة القيادة الكاريزمية (الملهمة)، فضلاً عن آراء فلاسفة اجتماعيين آخرين أمثال «ماركس» و«دوركهيم» و«برغر»، الذين يؤكدون على أن منطلق الالتزام الديني وزيادته، هو الحرمان الاجتماعي والاقتصادي. ثم تُخضع الحراكات الإسلامية للتقنيات المنهجية لهذه النظريات (حسابات وإحصاءات ورسوم بيانية).

هذه الخصائص والمعايير تجعل العقل الغربي متخبّطاً في معلوماته وتحليلاته ونتائجه، بالنظر لوعيه الذاتي بالإسلام ومرتكزات النهضة فيه، وبدوافع تيارات النهوض الإسلامي الجديد وأسسها العقدية والفكرية، وعلى حد تعبير أحد الكتّاب الغربيين: إن ما نعرفه عن هذه الجماعات أقل مما لا نعرفه، والذي نعرفه وصلنا مشوّهاً ومرتبكاً(14)، هذا إضافة إلى المنهج المنحاز في التفكير، وعدم الموضوعية في استنباط النتائج. ويطلق «روجيه غارودي» على هذا الوعي أو الرؤية تسمية «الأصولية الغربية اللاواعية والمميتة»، التي تُستخدم كمسوّغ ايديولوجي لكل تجاوزات الاستعمار(15). في حين يصف باحث آخر العقل الغربي الاستشراقي، بأنه العقل الذي يعتبر الغرب الحقيقة والمركز والقوة، ويصور الشرق تصوراً استعمارياً عرقياً وفوقياً(16).

وبالتالي؛ فالوعي الغربي بالاسلام والمسلمين والحركات الإسلامية هو وعي استعماري سلبي مرعب، شكله القساوسة والمستشرقون، ويغذّيه الباحثون الأكاديميون، وتنشره وسائل الإعلام ضمن إيحاءات نفسية سلبية، وتستثمره السلطات العسكرية والسياسية والاقتصادية. أي أن مظاهر الوعي الغربي هذا تمثّل الإفرازات الخارجية لوعي الغرب الايديولوجي بذاته وبالآخر ، وطبيعة تعامله السلطوي مع مفرداته، وفي مقدمتها الإنسان المسلم ونهوضه الجديد. وفضلاً عن الأهداف الستراتيجية والتاريخية للغرب، والتي تمثل إرادة عقله ووعيه بإزالة أي عنصر للنهوض الإسلامي، وتدمير أي مستقبل مستقل ونام وناهض للمسلمين؛ فإن أهم الأهداف المرحلية لهذه الإرادة، والتي تنفذها الأنظمة الغربية عبر حملات الغزو الإعلامي والثقافي والتآمر السياسي والمخابراتي والحصار الاقتصادي والتهديدات العسكرية:

1- المحافظة على صورة مشوّهة عن الإسلام في العقل الغربي الشعبي، والحيلولة دون تأثّر سكان الغرب بالمد الإسلامي أو التدين (الأصولي) كما يسميه الخطاب الغربي.

2- تحميل الإسلام وزر ممارسات المسلمين وتخلفهم، بما في ذلك الممارسات الإرهابية لبعض التيارات المحسوبة على الإسلام، والتي ساهم الغرب نفسه في صناعتها، بهدف اتهام الإسلام بأنه يحمل في ذاته مكامن العنف والإرهاب، وأن الحركات الإسلامية المقاومة والنهضوية هي الوجه الآخر للجماعات الإرهابية تلك.

3- ملء ما يسمّى بمناطق الفراغ الفكري في المجتمعات الإسلامية، من خلال الترويج لمبادئ العلمانية والليبرالية والعقلانية بشكلها ومضمونها التقليديين في الغرب، كبديل فكري ومنهجي وتنظيمي للمسلمين.

4- دفع أنظمة البلدان الإسلامية، لتطبيق العلمانية الليبرالية وإلزاماتها الحقوقية والثقافية، مع إعطاء بعض الحريات وتجنب مظاهر القمع الاجتماعي، ورفع شعارات إسلامية (معتدلة)، كمحاولة لتقويض ما يسمونه بالنزوع الشعبي نحو الحركات الإسلامية كخيار سياسي وفكري.

5- إظهار (فشل) النماذج الإسلامية المعاصرة، كالجمهورية الإسلامية الإيرانية، والحركة الإسلامية العراقية، والمقاومة الإسلامية اللبنانية، والمقاومة الإسلامية الفلسطينية، وعدم صلاحيتها سياسياً وثقافياً واجتماعياً لحل مشكلات الإنسان المعاصر، بوصفها تمثل «الإسلام الأصولي»، وتقديم ما يسمى بــ «الإسلام المعتدل»، والذي عُرف بـ «الإسلام الامريكي»(17)، كبديل عنها.

المصطلح: أحد مظاهر وعي الغرب بالإسلام

من أهم مظاهر الوعي الغربي وإفرازاته، التسميات والمصطلحات التي يعرّف بها الواقع الإسلامي والحركات الإسلامية وتيارات النهوض، وهي مفاهيم تحمل فهماً مسبقاً وأحكاماً جاهزة لا تمت إلى الموضوعية والبحث العلمي بصلة، ويراد بها التعتيم على حقيقة الواقع الإسلامي وتشويهه. ووفق هذه القاعدة؛ فإن الدراسات الغربية تقسم المسلمين إلى ثنائيات متعارضة، تنسجم مع وعي الغرب بالظواهر والأحداث التي تمثل الآخر المختلف، وليس لهذه الثنائيات وجود عقدي إسلامي؛ فمثلاً تضع مصطلح «المسلم» في مقابل «الأصولي»، و«المتديّن» مقابل «المتعصّب» أو «المتطرّف»، و«الإسلام المعتدل» مقابل «الإسلام المتشدد».

كما تضع لكل مفردة أو مصطلح تعريفاً خاصاً، فالإسلام السياسي (political Islamic) هو الإسلام الذي لا يؤمن بالفصل بين العقيدة والسياسة، ويقف في صف المعارضة لاستلام السلطة. أما الإسلام الثوري (Revolutionary Islam) أو الراديكالي (Radical Islam) فهو الإسلام الذي يهيئ المجتمع لصنع ثورة في داخله تطيح بالبنى الوضعية التي يقف عليها، والإسلام الرسمي (Official Islam) هو الذي تتبناه الحكومات المحافظة أو العلمانية، ويرادف - غالباً - الإسلام التقليدي (Traditional Islam)، ويقابل الإسلام الشعبي (Popular Islam) الذي يتبناه الجمهور المؤمن بحركة النهوض الإسلامي.

وهناك مصطلحات أطلقت لتوصيف النهضة الإسلامية، كالغضب المقدس، الهياج الإسلامي، تيّار التشدد، ولكن مصطلح «الأصولية الإسلامية» (Islamic Fundamentalism) يبقى هو الأبرز على الإطلاق؛ إذ يؤكد الغربيون على أنه التعبير الأفضل، والأكثر انطباقاً على (الظاهرة!). ينسب هذا المصطلح إلى المفكر المسيحي الماركسي المصري أنور عبد الملك(18)، كان قد وضعه بالانجليزية كمرادف لمصطلح «السلفية»، ثم تبنّاه الغربيون فيما بعد. والملفت أن بعض الكتّاب والمثقّفين المسلمين، قد استعمل ذات المصطلحات التحريفية التي يصوغها الغرب، وتبنّاها كمسلمّات، ولعلّ أحد أسباب ذلك هو ضعف أدبيات الصحوة، فروجيه غارودي المسلم - كنموذج - يقول: «إن الأصوليات، كل الأصوليات، سواء أكانت تكنوقراطية، أم ستالينية، أم مسيحية، أم يهودية، أم إسلامية، تشكل اليوم الخطر الأكبر على المستقبل»(19) أي أنه يصنف الصحوة الإسلامية كأصولية، بل ويقرنها بالأصوليات الأخرى!

وبمراجعة سريعة لجذور المصطلح - بغض النظر عن مصاديقه - نجد أنه ينطوي على انحراف كبير في الفهم والتشخيص. فمعجم لاروس (الفرنسي) الصادر عام 1984 يعرّف الأصولية بأنها «موقف جمود وتصلّب». في حين تحدد الطبعة الصادرة عام 1979 الأصولية بـ«الأصولية الكاثوليكية» فقط. ومن هنا فالأصولية تعني لدى الغرب: الجمود، العودة إلى التراث والماضي، الانغلاق التحجر المذهبي، التعصّب، وكل ما هو مضاد للحداثة والمعاصرة والعلمية والانفتاح والاعتدال والتسامح والتطور والانماء والعقلانية.

والمدلول الآخر للأصولية هو الأقلية المنعزلة في المجتمع. يذكر أن المصطلح أطلق - بادئ الأمر - على حركة مسيحية بروتستانتية متعصبة ظهرت في أمريكا في بدايات القرن الماضي ويتميز أعضاء هذه الحركة - كما تشير قواميس اللغة والمعاجم الغربية - بالتعصب إلى حد الجهل، والتمسك الحرفي بالكتاب المقدّس، وأنهم أقلية منعزلة عن المجتمع. كما وضعت كلمة الكنيسة الأصولية في مقابل الكنيسة المعتدلة المتأثرة بالتجديد والعصرنة.

ويفهم من ذلك أن خلفية إطلاق الغرب مصطلح الأصولية على الصحوة الإسلامية تتمثّل في محاولة تقريب الصورة إلى ذهن المواطن الغربي، الذي يدرك جيداً ما تعنيه الأصولية المسيحية أولاً، وثانياً الإيحاء للذهنية الغربية التي تكره الأصولية المسيحية - غالباً - بخطورة الصحوة الإسلامية؛ لأنها وجه آخر للأصولية الكاثوليكية في أوروبا والأصولية البروتستانتية في أمريكا.

وفي الوقت نفسه، انتقد بعض الباحثين الغربيين - أمثال «لورانس بروك» - استعمال تعبير الأصولية، لعدم وجود دلالة لها في الفكر العربي. في حين فنّد معظم الباحثين والمستشرقين هذا الانتقاد؛ لأن التعبير - حسب ادعائهم - يكفيه أن له دلالة في العقل الغربي، الذي يفهم أن هذه (الظاهرة) هي أصولية وحسب، وذلك انطلاقاً من كون الحقيقة المطلقة لجميع الظواهر الاجتماعية والكونية، هي وعي العقل الغربي بالظاهرة، بل لدلالاتها التاريخية والفكرية، وتأكيدها البعد السياسي للإسلام أكثر من بعده الديني(20). وهذا الفهم - هو الآخر - فهم ناقص ومشوّه؛ لأن الأصولية، حسب المداليل السلبية الغربية الاصطلاحية، ليس لها ارتباط من قريب أو بعيد بالأصولية في مدلولها الإسلامي، فالأصوليون - حسب المدلول الاصطلاحي الإسلامي - هم المتخصصون بعلم أصول الفقه، أو أصحاب النزعة لاستخدام أصول الفقه في عملية الاستنباط الفقهي، في مقابل النزعة الإخبارية.

وفي السنوات الأخيرة بدأت الدراسات الغربية تعي ظواهر أخرى في مجتمعات المسلمين، غير ما تصطلح عليه بالأصولية الإسلامية والإسلام المحافظ، وأبرزها ظاهرة «إسلام النخبة»(21) أو «اليسار الإسلامي»(22)، أو «الإسلاميون الحداثّيون» (Islamic Modernists)، كتيّار وسط بين المتطرفين (Extremists) والتقليديين، وهؤلاء يتميزون بكونهم نخباً وجماعات تتصدى لقيادة المجتمع ثقافياً وفكرياً وليس سياسياً.

ويرجع بعض الكتّاب المسلمين - ربما عن حسن نيّة - سبب ظهور الأصولية في العالم الثالث إلى الأصولية الغربية، التي يعتبرونها العلة الأولى المتسببة في ولادة كل الأصوليات الأخرى، كردّ على أصولية الغرب، إذ إن «الأصولية في العالم الثالث ولدت جراء زعم الغرب، منذ النهضة فرض نموذجه الإنمائي والثقافي»(23). ومعنى ذلك أن الصحوة الإسلامية هي مجرد ردّ فعل ضد الأصولية الغربية. وهذا الزعم خاطئ هو الآخر، رغم محاولته تعرية ادّعاءات الغرب، وردّ تهمه إليه، لأنه يؤكد - في جانب منه - كون الغرب هو «المركز»، وهو مصدر التأثيرات، وما عداه «أطراف» ومتأثرون ليس إلاّ! فضلاً عن أنه ينفي الأصالة والعمق التاريخي والفكري والاجتماعي عن الصحوة.

وعي الغرب بالنهوض الإسلامي الجديد

ظل الحديث في الأوساط الفكرية والسياسية والاجتماعية، الغربية والإسلامية، عن مستقبل النهوض الإسلامي الجديد، وما سيؤول إليه وضع التيارات الإسلامية في المرحلة القادمة، يتزايد باطراد بمرور الزمن، منذ تحقيق انجازاته الأُولى خلال العام 1979. وتختلف نتائج المقاربات في هذا المجال، وفق المقدمات والأسس والمناهج الاستشرافية التي يستخدمها كل اتجاه في تحليله ومعالجته لهذه الموضوعة. وهناك ثلاث رؤى أساسية في هذا المجال، تمثل نتاج جهود بحثية واسعة، هي: الرؤية الغربية، رؤية العلمانيين في المنطقة الإسلامية والرؤية الإسلامية الذاتية. ولا شك أن كلاً من هذه الرؤى تشتمل على عدة رؤى فرعية، تختلف فيما بينها في كثير من التفاصيل، بل وفي الأسس والمناهج أحياناً، ولكن يبقى أن هناك قاسماً مشتركاً بين اتجاهات كل رؤية، يمكن أن نعتبره الإطار الفكري العام للرؤية:

1 - الرؤية الغربية:

تستند الرؤية الغربية - غالباً - في معالجتها وتحليلها لموضوع النهوض الإسلامي الجديد إلى نظريات علماء الاجتماع الغربيين، وخاصة الاثنولوجيا والانثروبولوجيا وعلم النفس الاجتماعي وعلم الاجتماع الديني، وهي نظريات جاهزة ومفصّلة على مقام النظام الغربي ومناهج تفكيره، وهي نتاج وعي العقل الغربي بالإسلام والمسلمين وفق العناصر الأربعة التي تشكله.

والنتائج الأولية التي تقدمها هذه الرؤية تؤكد أن ظواهر النهوض الإسلامي الجديد بعد العام 1979 هي ظواهر طارئة وليست أصيلة أو متجذرة؛ إذ نشأت ردّ فعل على مجموعة من الأزمات الاجتماعية في بلاد المسلمين، أبرزها: أزمة الهوية الاجتماعية الدينية السياسية، أزمة شرعية الأنظمة الحاكمة، أزمة الثقافة والسلوك المجتمعي، الصراع الطبقي، الفقر، التخلف، الشعور بالتبعية للغرب، الأزمة النفسية، ضعف قيادة النخب الحاكمة المتغربة وسوء إدارتها. وبتعبير آخر، فإن الصحوة الإسلامية، على وفق ذلك، ليست ظاهرة حقيقية، وإنما تمثّل، وبرزت نتيجة لضغوط الغرب وهيمنته، وممارسات الأنظمة الحاكمة وتبعيتها وأساليب حكمها وممارساتها القمعية، وما نشأ جراء ذلك من أزمات اجتماعية، كما أن الظواهر النهضوية الإسلامية اللاحقة لقيام الجمهورية الإسلامية الإيرانية، إنما هي محاولة للتشبّه بالنموذج الإيراني.

وبهذا التوصيف؛ بات بإمكان الرؤية الغربية أن تحدد مستقبل النهوض الإسلامي الجديد، وكأنه حتمية تاريخية؛ فهي حين تعتبر هذا النهوض مجرد ظاهرة اجتماعية محدودة ومنعزلة وغير أصيلة؛ فإنها ترفض أن يكون لهذه الظاهرة بنى حضارية وفكرية وسياسية واقتصادية حقيقية، تحقق لها الاستمرار والنمو والتمدد وتمثيل الشعب والإمساك بقرار الدولة، وبالتالي؛ فهي ظواهر ليس لها أي مستقبل، وزائلة بزوال أسبابها وعوامل ظهورها، وبانهيار نماذجها الناجحة الصاعدة.

ووفقاً لمناهج الدراسات المستقبلية؛ فإن البديل الذي تطرحه الرؤية الغربية، هو بديلها الذي تريده وتخطط له، وقد اختارته من بين مجموعة الاحتمالات، بهدف التحكّم به وبناء مقوماته المستقبلية، وهو الاسلام العلماني الليبرالي المدجن، أو مايسميه الغرب الإسلام المعتدل كما أشرنا. ويهدف الغرب من وراء إعلاناته المتكررة المركّزة عن رؤيته لمستقبل النهوض الإسلامي الجديد، ووصفها بالرؤية العلمية المتجردة، ومحاولة زرعها في عقول المسلمين ووعيهم، من خلال مختلف الأساليب والوسائل؛ يهدف إلى أن يفرض على المسلمين وعيه بذاتهم وجودهم ومستقبلهم، في محاولة قسرية لإعادة إنتاجهم واستحضارهم وتحديد مستقبلهم، على المستويين النظري والعملي. وجزء من هذا الوعي أن يشعر المسلم - دائماً - بالدونية والضعف، وعدم الثقة بالنفس والمستقبل، والهزيمة المستدامة تجاه الغرب وقيَمه ومعاييره وتفوقه الشامل. أي أن الغرب حين يضع المسلمين أمام الحتميات والخيارات والبدائل التي يفرضها؛ فإنه يقدر أن كثيراً من المسلمين سيتبنون خيارات الغرب، بوعي أو بدونه.

2 - رؤية العلمانيين في البلدان الإسلامية:

من نقطة الخيارات الغربية، ينطلق العلمانيّون في المنطقة الإسلامية، في تحديد رؤيتهم لمستقبل النهوض الإسلامي الجديد، لأنهم يعتمدون بدائل الغرب ومحدداته، ويستعيرون مناهجه في التفكير والتحليل والاستنتاج. ورغم أن هؤلاء يستندون في تكوين رؤيتهم إلى مقدمات أقرب للواقع من مقدمات الرؤية الغربية، إلا أنهم يخرجون بنتائج أكثر تطرفاً في عدم موضوعيتها، وأكثر بعداً عن الواقع من الرؤية الغربية. والسبب في ذلك يعود إلى أن علماني البلدان الإسلامية يعيشون الواقع الإسلامي من جهة، وأن مظاهر النهوض الإسلامي الجديد ومستقبلها يعنيهم بشكل مباشر من جهة أخرى، ولذلك؛ فإنهم يسقطون أمانيهم وطموحاتهم وأهدافهم على رؤيتهم؛ فتكون النتائج غير موضوعية إلزاماً وبعيدة عن الواقع.

وهذا النمط من العلمانيين هم أدوات الغرب في محاولة إعادة إنتاج الواقع الإسلامي، من خلال مشاريعهم الهادفة لعلمنة المجتمع، وفرض الأنماط الاجتماعية الغربية عليه. ويلاحظ أن بينهم من يحشر نفسه في زاوية دفع التهم التي يكيلها الغرب للمسلمين، لكنه يمارس عملية الدفاع بأساليب سلبية، وبثقافة وسلوك متغربين، وبما ينسجم مع خيارات الغرب وأطروحاته، وذلك نتيجة لحساسية العلماني المفرطة تجاه الاتهامات الغربية. وربما يرفض بعض العلمانيين الغرب السياسي أو الغرب المحتل والمستعمر، لكنه يندفع وراء التبلس بثقافة الغرب وسلوكه، لينتج ما يسمونه العلمانية الشرقية أو الليبرالية الشرقية بالعقلانية الشرقية أو المسلمة، لردّ تهمة لا عقلانية الشرق. أو تفصيل مفاهيم الحداثة والمعاصرة بلباس (مسلم)، لردّ تهمة التحجر والجمود وعدم التكيّف مع النمو والتطور، ويرفع لافتة «العلمانية» بقوة، ليقول بأن الغرب مخطئ حين يتهمنا بالتخلف الفكري، والفهم الطولي للواقع، والإيمان السطحي.

ويشترك الخطاب العلماني المحلي في البلاد الإسلامية مع الخطاب الغربي في ضرورة التخلص من التيارات الإسلامة وحراكاتها النهضوية، وتحذير الشعوب المسلمة منها، وأنها ظاهرة طارئة غير أصيلة، وأنها ستنتهي بنهاية العوامل التي أدت الى ظهورها، ويجد علمانيو المنطقة الإسلامية، بمن فيهم الأنظمة العلمانية الحاكمة، أن من واجبهم مواجهة مفردات النهوض الإسلامي بكل الوسائل، من خلال عزل التيارات الإسلامية عن الشعوب، تمهيداً للقضاء عليها. ويتمثل جزء من هذه المواجهة في ملء ما يسمونه بالفراغ الفكري والاجتماعي الناشئ عن فشل الأطروحات العلمانية المستوردة، بأطروحات أكثر بريقاً وواقعية، تقترب من بعض مظاهر الإسلام، بما يشبه « الإسلام المعلمن » أو «العلمانية المؤسلمة»(24)، وهي توليفة أكثر خطورة في المواجهة من العلمانية الأصلية، لأنها تقرأ الإسلام بغير أدواته، وتحاول توظيفه للأهداف العلمانية الأساسية نفسها.

3 - رؤية النهضة الإسلامية لنفسها:

تستند رؤية تيارات النهوض الإسلامي الجديد لنفسها إلى معطيات وحقائق التكليف وسنن الله في الخلق، لقراءة معالم مستقبلها. ورغم أن هذه الرؤية تتفرع إلى عدة رؤى ثانوية - كما مرّ - تبعاً لتعدد الاتجاهات الإسلامية، واختلافها في أساليب التحرك، والأسس الفكرية التفصيلية لكل منها؛ إلّا أن هناك قاسماً مشتركاً بين رؤى هذه الاتجاهات، يتمثّل في حقيقة أن التكامل البشرية يكمن في الإسلام، وأنه شريعة وعبادة ومعاملات ودولة ونظام سياسي وإقتصادي وقانوني، وهو دين المستقبل كما هو دين الماضي والحاضر، وأنه الحبل الذي يربط دنيا المسلم بآخرته.

ومن أبرز المعطيات والحقائق التي تستند إليها هذه الرؤية:

1- الفراغ الفكري والروحي العالمي، الذي حدث في أعقاب انهيار أو تصدّع كثير من الأفكار والمدارس الوضعية الغربية والشرقية، وبروز مؤشرات التصدّع في المجتمعات والنظم الغربية، وهو ما يؤكده المفكرون الغربيون أنفسهم، ولا سيما في نظام الولايات المتحدة الأميركية واجتماعه واقتصاده(25).

2- القوة الذاتية الهائلة التي يمتلكها الإسلام كنظام شامل للحياة، يمتلك أبلغ الحجج في الإجابة على تساؤلات الإنسان المعاصر وحل مشكلاته وتلبية حاجاته المختلفة، النفسية والعقيدية والاجتماعية والاقتصادية.

3- التطور النوعي والكمي في الخطاب الإسلامي المعاصر، وتمكنه من بلوغ متطلبات المرحلة والتناغم معها، وقدرته المتنامية على الإقناع والنفوذ، خاصة مع صعود بعض النماذج الإسلامية السياسية الناجحة، والتي تفوقت في نموها ونهوضها جميع الأنظمة العلمانية في البلدان الإسلامية، كالنموذج الماليزي والنموذج التركي والنموذج الإيراني.

4- المد الإسلامي العقدي والإيماني الشعبي، وبروز المظاهر الشاملة للالتزام بالدين، والإيمان به نظاماً لحياة الفرد والمجتمع، وهي مظاهر لم تكن مألوفة في العقود الأولى للقرن الماضي وحتى عقده السابع.

5- النتائج المشروطة التي تفرزها السنن الإلهية وقوانين التاريخ، وهي تسير في مصلحة النهوض الإسلامي الجديد.

وبالتالي؛ فإن النهوض الإسلامي الجديد هو مسعى جاد لبلورة ذات مستقلّة رصينة للمسلمين، لها أبعادها المتكاملة تاريخياً وحضارياً، ووعي هذه الذات المعاصرة بمعزل عن وعي الغرب لها، وانطوائها على عوامل النمو الإنساني والتقدم العلمي والتكنولوجي.

كيف تكون العلاقة المتوازنة للمسلمين بالغرب؟

مرت العلاقات بين الغرب والمسلمين، بمراحل مختلفة، منذ بدء عملية الاحتكاك الثقافي بين الطرفين في أواسط العصور الوسطى؛ فقد مثلت المرحلة الأُولى حالة من التفاعل الثقافي والاحتكاك المنتج، ولم تتضمن أهدافاً سلطوية على المستويين الفكري والسياسي، رغم أن العالم الإسلامي كان في ذروة تألقه الثقافي والسياسي والعسكري، في مقابل التخلّف القياسي الذي كان يسود الغرب؛ فقد اقتبس الغرب من الحضارة الإسلامية ـ خلال هذه المرحلة ـ معظم عناصر نهوضه. والملفت للنظر، أن ما اقتبسه الغرب من مدنية المسلمين وحضارتهم، كان يدخل في إطار المشتركات العامة، الأمر الذي حال دون حصول أي نوع من أنواع التبعية للعالم الإسلامي، على العكس مما حدث في المرحلة اللاحقة، حين تغيّرت موازين المعادلة.

وفي المراحل اللاحقة التي بدأ فيه الواقع الإسلامي بالتراجع والتفتت، تغيّرت طبيعة العلاقة الغربية الإسلامية وآلياتها؛ إذ أدخل فيها الطرف الغربي مضامين جديدة، تزامناً مع بدايات تشكيل العقل الغربي الحديث، خلال مرحلة "عصر النهضة" الأوروبية. حينها اتجه الغرب الناهض الى تشكيل منهجه الجديد في معرفة الإسلام والمسلمين، وبلورته بالتدريج، من خلال الخلفية اللاهوتية السلطوية والوعي الإستشراقي والفكر العلماني والمعارف المنهجية الجديد، وخاصة في مجالات علم الاجتماع والانثربولوجيا والاثنولوجيا، إضافة إلى قاعدة التفوّق الاقتصادي والسياسي والعسكري.

وكانت النتيجة أن أصبح وعي الغرب بالإسلام والمسلمين، يمثّل جزءاً من وعي الغرب بذاته، كما ذكرنا سابقاً؛ فالغرب في إطار هذا الوعي ـ كما يقول مفكّروه ـ هو «الذات» و«العقل» و«القوة» و«الحقيقة» و«المركز». أما العالم الإسلامي فهو بالنسبة له يمثّل «الآخر» و«الجنون» و«الضعف» و«التمثيل» و«الأطراف»(26).

هذا النزعة الاستكبارية الفوقية، كرّست الغرب بوصفه منظومة ايديولوجية (فكرية ـ سياسية)، وليس مجرد بقعة جغرافية، وجعلته يعطي الحق لنفسه بانتهاج مختلف أساليب الغزو والسيطرة والنهب تجاه العالم الإسلامي. ويتضح هذا المنهج من خلال الخطاب الغربي الحديث ومنهجه المعرفي. ولعل بريطانيا وفرنسا خلال القرنين التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين، والولايات المتحدة الأمريكية منذ النصف الأول من القرن العشرين وحتى الآن، تمثل التجسيد الحقيقي للرؤية الغربية المتفوقة تجاه الآخر.

ولاشك أن المسلمين، وعموم دول العالم الثالث والجنوب، لايستطيعون تغيير الرؤية الغربية تجاهم، وليست لديهم القدرة الواقعية على تفكيك العقل الغربي، وإعادة صياغته، كما نجح الغرب قبل ذلك مع العقل المسلم غالباً، إلّا أن المسلمين بإمكانهم تشكيل رؤية واقعية متوازنة تجاه الغرب، تستند الى معايير العلاقة المتوازنة، والندية النسبية، والمصالح المشتركة، والممانعة الإيجابية، فلا رفض للمنتج الفكري والعلمي والسياسي والإقتصادي والثقافي للغرب بالمطلق، ولاقبول له بالمطلق، بل يكون الرفض والقبول معيارياً، وخاضعاً لمتطلبات الواقع، ولضوابط التكوين العقدي والفكري والثقافي الإسلامي.

هذه المعيارية تحول دون الإنغلاق على الذات وحرمان الواقع الإسلامي من الإقتباس من النتاجات الغربية المحايدة المقبولة معيارياً، وفي الوقت نفسه تحول دون الإنسحاق والهزيمة أمام الغرب ونتاجاته وصادراته، أو الحيادية تجاه معاركه مع المسلمين، لاسيما معارك الخنق السياسي والغزو الإعلامي والحصار الإقتصادي والاختراق الاستخباري والتنكيل النفسي والضربات العسكرية.

***

د. علي المؤمن

...................

الإحالات

(1) أنظر: علي المؤمن، "سنوات الجمر: مسيرة الحركة الإسلامية في العراق"، الفصل السابع.

(2) انظر: فهمي هويدي، إيران من الداخل، ص 36.

(3) وفي مقدمتهم الدكتور حسن حنفي، الذي ألّف كتاباً في أكثر من (900) صفحة تحت عنوان «مقدمة في علم الاستغراب»، دعا فيه إلى دراسة الغرب، في مقابل «الاستشراق».

(4) علي المؤمن، العلمانية المستوطنة بين الإيمان المسيحي والشريعة الإسلامية (دراسة)، ص 6-24.

(5) إدوارد سعيد، الاستشراق: المعرفة.. السلطة.. الإنشاء، ص 39.

(6) انظر: د. محمد دسوقي، "الفكر الاستشراقي: تاريخه وتقويمه"، ص 40 - 70.

(7) إدوارد سعيد، الاستشراق، ص 198 - 202.

(8) علي المؤمن، مقدمة كتاب "الفكر الاستشراقي: تاريخه وتقويمه" للدكتور محمد الدسوقي، ص 5 -6.

(9) أنظر: علي المؤمن، "القرن العشرون: مائة عام من العنف"، ص 9، و"العلمانية المستوطنة"، مصدر سابق، ص 16.

(10) أنظر: علي المؤمن، العلمانية المستوطنة (دراسة)، مصدر سابق.

(11) المصدر السابق، 12- 19.

(12) ومن أبرزها كتاب الدكتور هرير ديكمجيان - أمريكي من أصل إيراني مسيحي - الأصولية في العالم العربي وكذلك كتاب الصحفية الأمريكية روبن رايت، الغضب المقدس، وعدد آخر من دراساتها التي نشرتها في مجلة فورين أفايرز.

(13) إدوارد سعيد، الاستشراق، ص 4 - 6، من مقدمة كمال أبو ديب.

(14) انظر اوفرن بنغيو، الشيعة والسياسة، مجلة مدل إيسترن ستديس، نقلاً عن: علي المؤمن، سنوات الجمر، ص 315.

(15) انظر: روجيه غارودي، الأصوليات المعاصرة.. أسبابها ومظاهرها، ص21 - 22.

(16) الاستشراق، ص 6، من مقدمة كمال أبو ديب.

(17) وهو ما طرحته تفصيلاً مؤسسة راند الأمريكية في مؤتمراتها وندواتها وبحوثها خلال العقدين الأخيرين. أنظر: شيربل بينارد، «الإسلام المعتدل»، سلسلة تقارير مؤسسة راند.

(18) أنور عبد الملك، في كتابه: "نهضة مصر"، والذي ترجم مصطلح "السلفية" الى مصطلح (Islamic Fundamentalism) أي "الأصولية الإسلامية" عندما ترجم كتابه الى الإنجليزية.

(19) روجيه غارودي، ص 10.

(20) هرير دكمجيان، الأصولية في العالم العربي، ص 87.

(21) ويقصد بها النخبة المثقفة، وليست النخبة السياسية أو الحاكمة، ويعد "تيار اليسار الإسلامي" في مصر، أحد نماذج ظاهرة إسلام النخبة، وهو التيار الذي نظّر له المفكر المصري الدكتور حسن حنفي. انظر: ماذا يعني اليسار الإسلامي؟، مجلة اليسار الإسلامي كانون الثاني 1981، ص 5 - 48.

(22) المصدر السابق.

(23) روجيه غارودي، ص 12.

(24)أنظر: علي المؤمن، النظام السياسي الإسلامي الحديث، ص 53.

(25) انظر مثلاً: كتاب الإفلاس 1995: الانهيار القادم لأمريكا، للاقتصادي الأمريكي هاري فيجي.

(26) أنظر: ادوارد سعيد، الاستشراق.

خلاصة الدراسة:

إن الدول في المجال العربي على نحوين: دول أيدلوجية تعمل بمختلف الوسائل بما فيها القهرية لتعميم أيدلوجيتها واقتحام مجتمعها بكل فئاته ومكوناته وشرائحه في بوتقة أيدلوجيتها.. وكل طرف أو مكون يرفض الانضمام إلى هذه الأيدلوجيا، فيمارس بحقه النبذ والإقصاء والعنف المادي والرمزي.. لهذا فإن صلة هذه الدولة بمواطنيها يتم عبر الأجهزة الأمنية، وإذا توفرت فيها بعض أشكال الديمقراطية، فهي شكلية وتمارس الاستبداد والقهر بقفازات ناعمة..

ودول تقليدية تعتمد في بنيتها الأساسية على حكم العائلة أو العشيرة أو أي شكل من أشكال الانتماءات التقليدية وهي أيضا بحكم بنيتها حاضنة للبعض وطاردة للبعض الآخر..

ولعل أحد الفروقات الأساسية بين الدولة الأيدلوجية والدولة التقليدية في التجربة العربية المعاصرة، هي أن كلا الدولتين وديكتاتوريتين واستبداديتين، واحدة باسم الأيدلوجيا الدينية أو الأيدلوجيا التقدمية، والأخرى باسم حكم العائلة وتقاليد المجتمع والحياة العامة في البلد..

فكلاهما ديكتاتوريتان تمارسان الاستبداد والإقصاء والنبذ بكل صنوفه.. ويضاف إلى هذا أن الدول الأيدلوجية هي بطبيعتها أيضا دولا قمعية.. بمعنى أن لأجهزتها الأمنية سطوة وصلاحيات هائلة لإدامة الاستقرار وحماية السلطة.. فهي دول ديكتاتورية وقمعية في آن.. وفي ظل هذه الدول فإن الأقليات الدينية تعاني العديد من المآزق والمشاكل المتعلقة بحريتها الدينية ومستوى مشاركة أبناءها في الحياة العامة..

وقناعة الدراسة الأساسية: أنه إذا لم تتغير بنية الدولة في المجال العربي من دولة أيدلوجية أو تقليدية إلى دولة مدنية – تشاركية – تعددية محايدة تجاه عقائد مواطنيها، فإن مشاكل الأقليات ستستمر وتزداد استفحالا..

والذي يزيد أزمة الأقليات في هذا السياق، هو طبيعة فكرها السياسي المحافظ، الذي يجعلها تحذر من الانخراط في مشروعات الإصلاح الوطني..

لهذا فإن الدراسة تعتقد: أن تطوير فكر الأقليات السياسي، ودفعه نحو الانخراط في مشروعات الإصلاح والتفاعل الخلاق مع قضايا التغيير السياسي، يساهم في معالجة مشكلة الأقليات في الدول العربية المعاصرة.. وتطوير الفكر السياسي للأقليات للخروج من نفق المحافظة إلى رحاب الإصلاح يعني النقاط التالية:

1- الانخراط في مشروعات سياسية وفكرية عابرة للمكونات التقليدية ومتجاوزة للانتماءات الطبيعية، والمساهمة في بناء كتل وطنية تطالب بالإصلاح وتعمل من أجله..

2- الانعتاق من ربقة الانكفاء والانزواء، وكسر حواجز الانطواء، والتفاعل الكامل مع شركاء الوطن..

لأننا نعتقد أن الطائفية في المجال العربي تمارس على نحوين أساسين وهما: النحو الأول: الطائفية الغالبة وهي تمارس طائفيتها بتبني سياسات النبذ والتهميش والإقصاء للآخر المختلف والاستمرار في دفعه عبر وسائل قسرية وناعمة للمزيد من الانكفاء وبناء الحواجز النفسية والاجتماعية والسياسية مع الآخر المختلف الديني أو المذهبي أو القومي..

والنحو الآخر: هي الطائفية المغلوبة وهي طائفية معكوسة تبرر انكفاء الذات وتسوغ المفاصلة الشعورية والعملية.. فإذا كانت الطائفية الغالبة تمعن في سياسات الإقصاء والتمييز، فإن الطائفية المغلوبة تمعن في سياسات الانعزال والنظرة النرجسية للذات.. والتحرر من النزعة المحافظة في الفكر والسياسة، يقتضي العمل على نقد وتفكيك أسس ومتواليات الطائفية المعكوسة المتعشعشة في نفوس وعقول الكثير من أبناء الأقليات الدينية والمذهبية والقومية في المجال العربي..

3- بناء العلاقة ونظام الحقوق والواجبات على أساس المواطنة المتساوية مع الاحترام التام لخصوصيات المواطنين الدينية والمذهبية..

والمواطنة بحمولتها القانونية والدستورية، هي بوابة الانتقال بمجتمعاتنا من حالة السديم البشري إلى المجتمع التعاقدي الذي يضمن حقوق الجميع، ويفتح المجال القانوني للجميع للمشاركة في بناء الأوطان واستقرارها السياسي والاجتماعي..

مفتتح:

ثمة مسائل وقضايا شائكة وحيوية في آن، تثيرها التطورات الإقليمية والدولية اليوم.. حيث مستويات التفتيت ودرجات التشظي. حيث الكيانات السياسية الكبيرة وما تسمى بالإمبراطوريات، التي قامت بالقوة واستمرت بالقهر والغصب والإرهاب. هذه الكيانات والتي تمتلك ترسانات عسكرية ضخمة بدأت بالتلاشي. حيث استيقظت كل الوطنيات والأثنيات والقوميات المقموعة خلال السنين المنصرمة وبدأت تبحث عن ذاتها وكيانها وخصوصياتها.

والذي يزيد المشهد قساوة ورعبا، هو تكاثر بؤر العنف الكامنة والصريحة والمفتوحة على كل احتمالات الفوضى وهوس استخدام القوة بلا وعي وبصيرة وعقل.

ولا نبالغ حين القول: أن تسعير التوترات وإشعال بؤر العنف بكل أصنافه وأشكاله، واستيقاظ كل التنوعات والخصوصيات، كل هذا من جراء العقلية الاستبدادية والعنفية، التي سادت في مناطق عديدة من العالم، واستخدمت كل قوتها وجبروتها وغطرستها لمحو خصوصيات الأمم والمجتمعات، ولطمس حقائق تاريخية ومجتمعية متجذرة في العمق الحضاري للأمم والأوطان.

- الاستبداد جذر الأزمة:

فالعنف والقهر والاستبداد، هو الذي أيقظ الخصوصيات بنحو سلبي، كما أن إرهاب الدولة وغطرستها وتغّولها وسعيها المحموم لدحر ما عداها، هو الذي أدى إلى تسعير التوترات وتفجير الاحتقانات في مواضع ومناطق عديدة من العالم.

وعلى هدى هذا نستطيع القول: أن كل الكيانات والوجودات، التي تأسست على قاعدة الوحدة القسرية والقهرية لتنوعاتها وتعدداتها، فإن مآلها الأخير هو التشظي والتفتت، والإمبراطوريتين السوفيتية واليوغسلافية نموذجان صريحان لذلك.

فالوحدة القهرية لا تفضي إلى استقرار مستديم، بل تؤسس لاحتقانات وانفجارات ونزاعات جديدة محورها التداعي والتآكل الوحدوي، واليقظة العنيفة لكل الخصوصيات والهويات المقموعة.

ولا ريب إننا بحاجة إلى حياة سياسية سليمة، تفسح المجال لكل التعبيرات والقوى بدل إقصائها وقمعها، وإلى فضاء عام حر، يساءل الواقع، وينقد الممارسات، ويحاسب المقصرين والمستهترين بالقانون. ونحتاج أيضا إلى مواطنة نشطة تعبر عن آمالها ومصالحها ونفسها بمشاركة سياسية وديمقراطية فاعلة، لبلورة الخيارات والرهانات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية الوطنية.

والتمييز بكل صوره وأشكاله، والتهميش بمجالاته وآلياته، لا يفضيان إلى الوحدة والاستقرار السياسي والمجتمعي، وإنما يؤسسان الظروف الذاتية والموضوعية معا لتشظي الواقع، واستيقاظ العصبيات بكل زخمها وعنفها وعنفوانها.

وإن منطق الاستبداد يؤبد الأنظمة، ولا يفضي إلى الاستقرار، وإنما يفاقم العيوب، ويعمق التوترات، ويفجر الخصوصيات.

وإننا بحاجة إلى تحول نوعي وتطور استراتيجي في فكرنا السياسي والاستراتيجي، يعمق خيار الديمقراطية في واقعنا، ويسعى نحو صناعة حقائقه ووقائعه، ويحارب كل موجبات الاستبداد وحالات التهميش والتمييز، ومواقع النبذ والإقصاء.

لهذا نحن بحاجة أن نعيد قراءة مسألة الأقليات والخصوصيات الذاتية في المجالين العربي والإسلامي.. وهذا ما نحاوله في السطور القادمة..

- مفهوم الأقليات:

بعيدا عن المضاربات الأيــدلوجية والسياسية، بإمكاننا أن نحدد معنى الأقليات بأنها: التكوين البشري، الذي يتمايز مع جماعته الوطنية في أحد العناصر التالية (الدين ـ المذهب ـ اللغة ـ السلالة). وهذا التمايز تعبير عن التنوع الطبيعي بين البشر.

فالأقليات هي " أي مجموعة بشرية تختلف عن الأغلبية في واحد أو أكثر من المتغيرات التالية: الدين أو اللغة أو الثقافة أو السلالة. ولا يعني ذلك كل من يختلف عن الأغلبية في أحد هذه المتغيرات هو مناوئ للقومية العربية أو لمطلب الوحدة. فهناك من بين أفراد بعض هذه الأقليات من ناضلوا في سبيل قضية الوحدة، وأسهموا مساهمات رائدة في الفكر القومي العربي. لذلك فإن توصيف جماعة معينة كأقلية لا يعني بالضرورة أي حكم مسبق على اتجاهاتها نحو مسألة الوحدة. والعبرة كما قلنا هي ما إذا كان أي من هذه المتغيرات (الدين ـ اللغة ـ الثقافة ـ السلالة) يضفي على مجموعة بشرية معينة قسمات اجتماعية ـ اقتصادية ـ حضارية تلون سلوكها ومواقفها السياسية في مسائل مجتمعية رئيسية " (1).

" والجماعة الأثنية تستخدم في العلوم الاجتماعية، لتشير إلى أي جماعة بشرية يشترك أفرادها في العادات والتقاليد واللغة والدين وأي سمات أخرى متميزة بما في ذلك الأصل والملامح الفيزيقية والجسمانية " (2).

وبالتالي فإن الحديث سيتجه إلى الأقليات الأقوامية والدينية والمذهبية.. " ففي أفريقيا السوداء، التي يناهز تعداد سكانها اليوم (750) مليون نسمة، توجد (54) دولة، وتوجد في مقابلها (2200) أثنية تتكلم بمثل هذا العدد من اللغات. وفي آسيا أكبر قارات العالم من حيث تعداد السكان، يعيش اليوم (5ر3) مليار نسمة، يتوزعون بدورهم على أكثر من (2000) أثنية وينطقون بأكثر من (2000) لغة ويعتنقون ديانات شتى.

فاندونيسيا مثلا، وهي رابع أكبر دولة في العالم، ويقطنها (215) مليون نسمة، يتوزعون على (300) أثنية وينطقون بـ (365) لغة. والفليبين، بلد الـ (100) أثنية ولغة. ويصل تعداد الأثنيات والأقليات الأثنية في لاوس إلى (70)، وفيتنام إلى (55)، وتركيا إلى (66)، وإيران إلى (21) وبنغلاديش إلى (52) والنيبال إلى (30).

وفي العالم اليوم (188) دولـــة أعضاء في منظمة الأمم المتحدة، ولكن هناك في المقابل (8000) أثنية و (6700) لغة.

ولقد أقرت كندا في عام (1988م) لسكانهـــا الهنــــود (850) ألفا يتوزعون بين (600) قبيلة بوضعية ثقافية خاصة، وأفــــردت بندا خـــاصا من قانــــونها الاتحادي (البند 27) لتكريس حق الأفراد الذين ينتمون إلى أقلية أثنية أو لغوية أو دينية في التمتع بتقاليدهم الثقافية الخاصة وبممارسة شعائرهم الدينية والتكلم بلغاتهم الخاصة وتعليمها. ولقد أنشأت كندا أخيرا للهنود المعروفين باسم (الأينويت) من سكانها منطقة مستقلة ذاتيا لها برلمانها الخاص وعاصمتها الــخاصة ومدارسها الخاصة، وحتى شــركة طيرانها الخاصة، مع أن تعداد الهنود الأينويت لا يزيد عن (35) ألف نسمة. والسويد أباحت تعليم (265) لغة في مدارسها، بما فيها لغات الجاليات المهاجرة كالعربية والسريانية والتركية. وأقرت ايطاليا في عام (1999م) قانونا تشريعيا لحماية الأقليات اللغوية، ومنحت وضعية إدارية وثقافية خصوصا لخمس من محافظاتها في جزيرتي صقلية وساردينيا وفي جبال الألب والتيرول " (3).

وإن درجة التميز وحدته وعمقه الاجتماعي والسياسي وأهدافه وتطلعاته القريبة والبعيدة، مرهون كل هذا إلى حد بعيد إلى طبيعة التعامل الذي تمارسه السلطات السياسية والاجتماعية. فإذا كان التعامل جافا وبعيدا عن مقتضيات العدالة والحرية، فإن الشعور بالتميز الذي يفضي إلى تمييز وتهميش من قبل السلطات، سيؤدي إلى المزيد من التميز والتشبث بالخصوصية، وسيدفعه هذا الشعور العميق بالتميز بتبني خيارات واتجاهات تزيد انفصاله الشعوري والعملي عن المحيط العام.

إما إذا كان التعامل مرنا وسياسيا وبعيدا عن العقلية الأمنية و ممارساتها وهواجسها وأعمالها، فإن درجة الشعور بالتميز تتضاءل وإمكانية الاندماج الطوعي تتعمق وتتواصل.. فـ " ملاحظة التميز في هذه الصفة أو الصفات المشتركة في أفراد جماعة معينة، وتباينها عن جماعات بشرية أخرى، ينطوي على عنصر ذاتي وعلى عنصر موضوعي. العنصر الموضوعي هو وجود الاختلاف أو التباين بالفعل في أي من المتغيرات المذكورة أعلاه (اللغة، أو الدين، أو الثقافة، أو الأصل القومي والمكاني، أو السمات الفيزيقية). أما العنصر الذاتي فهو إدراك أفراد الجماعة وإدراك الجماعات الأخرى القريبة منها لهذا التباين والاختلاف. وهو يؤدي إلى الشعور بالانتماء إلى جماعة معينة في مواجهة الجماعات الأخرى " (4). فدرجة الشعور بالتميز الذي يؤدي إلى تبني سياسات واتجاهات انفصالية يرتبط بشكل أساسي بطريقة التعامل السياسي والاجتماعي والقانوني مع هذه الأقليات.

فالسلطة النابذة والمستخدمة لكل أنواع القوة المادية الغاشمة لفرض الاندماج وتغييب التميز الطبيعي، تزيد بشكل أو بآخر من فرص بذور مشكلة الأقليات وعقدها الاجتماعية والسياسية.. أما السلطة التي تبحث عن نظام للتضامن والتعامل الحسن والحضاري مع هذه الأقليات، نظام يلبي متطلبات الأقليات الدينية والثقافية والتعليمية والاجتماعية، كما يلبي متطلبات الوحدة والاستقرار.

هذا النظام المرن والحيوي، هو الذي يزيل كل التوترات، ويحد من نزعات التهميش والتميز.. بل نستطيع القول: أن النظام السياسي والاجتماعي المرن والمتسامح، يتمكن من توظيف الشعور بالتميز لدى المجموعات البشرية، في بناء الوطن وإزالة كل عناصر التوتر.. أي أن الديمقراطية تجعل دور التميز دورا وحدويا، اندماجيا، بعيدا عن كل أشكال التقوقع والدوائر المغلقة. فالمساواة في الحقوق السياسية والمدنية، يجعل كل المجموعات البشرية، تباشر دورها الإيجابي في الحفاظ على أمن الوطن ومكتسباته السياسية والاقتصادية والحضارية. وهذه المساواة لا تتأتى إلا بتحقيق المشروعية الدستورية والمؤسسية للاختلاف والتنوع والتعدد في الوطن الواحد.

ولا بد من القول: أنه كلما قلت وتضاءلت مستويات الاندماج، كلما برزت في المجتمع مسألة الأقليات وتداعياتها السياسية والاجتماعية والثقافية.

بمعنى أن وجود الأقليات في أي فضاء اجتماعي، يتحول إلى مشكلة، حينما يفشل هذا الفضاء ولعوامل سياسية واجتماعية وثقافية عديدة في تكريس قيم التسامح واحترام الآخر وصيانة حقوق الإنسان والمزيد من الاندماج والانصهار الوطني. حينذاك تبدأ المشكلة، وتبرز الخصوصيات الذاتية، وتنمو الأطر التقليدية لكي تستوعب جماعتها البشرية بعيدا عن تأثيرات المحيط وإستراتيجياته المتجهة صوب فرض الانصهار وقهر الخصوصيات الذاتية.

إن الأقليات كمفهوم وواقع مجتمعي، لا يكون في قبال ومواجهة القوميات والوطنيات، ويسيء إلى جميع هذه المفاهيم من يجعل من مفهوم الأقليات مواجها لمفهومي القومية والوطنية، لأنه من المكونات الأساسية لكل قومية ووطنية هويات متعددة أما دينية أو مذهبية أو أثنية أو لغوية.. ولعل من الأخطاء الكبرى أن " تعالج الطائفية كما لو كانت إحدى ترسبات التاريخ الأيدلوجي العربي وتجلياته المرضية، وتفسر بقاءها ببقاء الجهل واستمرار الأميّة، أو تربط أحيانا بينها وبين الوعي الديني بشكل عام. وهي ترى أن الحل الوحيد لها هو مواجهتها بالوعي القومي والعلماني وبالتنوير الفكري والقضاء على من يمكن أن يتهم بنشرها والعمل على الترويج لها. وهي لا تجعل منها إذن قضية كبرى من قضايا التنمية والتطور السياسي و الاجتماعي العربي، وإنما قضية ملحقة بغيرها. وتنظر إلى التهابها الراهن في بعض المواقع كأثر من آثار تراجع الأيدلوجية القومية العربية. فبالتأكيد على هذه الأيدلوجية القومية والدعوة لها ونشرها يمكن في نظرها القضاء على الطائفية، وهذا يعني باختصار أن الوعي الطائفي هو نقيض الوعي القومي، وأن هذا النقيض أصبح يعبّر عن الماضي أكثر مما يعبر عن المستقبل، وأنه لا بد زائل من تلقاء نفسه متى ما تم التأكيد على الوحدة والشعور القوميين وضرب على يد كل من يسعى إلى استغلال الشعور الطائفي البغيض والمتقادم " (5).

ولا نبالغ حين القول: أن أحد الأسباب الرئيسة لسقوط الإمبراطوريات وتداعي الكيانات السياسية الكبرى، كان بفعل الاستبداد وغياب الحريات النوعية الناظمة للعلاقة والمصالح بين مجموع التعبيرات والأطياف المتوفرة في المجتمع. وإن هذه الإمبراطوريات والكيانات والدول، بدأت الانحدار حينما ساد التمييز بين القوميات والأثنيات، وغاب التضامن الداخلي على قاعدة المواطنة الواحدة، وبرزت كل النزعات الاستبدادية، التي حاولت الاستفادة من كل أسباب القوة للغلبة على الأطراف الداخلية الأخرى.

ومسألة الأقليات بكل عناوينها ومسمياتها، من المسائل الحساسة في المجالين العربي والإسلامي، وتحتاج إلى قراءة ودراسة عميقة لواقعها وصولا إلى بلورة رؤية حضارية متكاملة في طريقة التعامل معها وكيفية اندماجها الطوعي والاختياري مع النسيج الوطني والمجتمعي. ولعلنا لا نعدو الصواب حين القول، أن الكثير من النكبات الاجتماعية والانفجارات السياسية، كان من جراء عدم التصدي الجاد لعلاج هذه المسألة في الواقعين العربي والإسلامي.

- نقد العلمانوية:

على المستوى التاريخي، نجد أن علمانية الحركة القومية، وعلمنة مشروع الوحدة، لم يلغ مسألة الأقليات ولم يعالجها وفق نسق حضاري يحترم خصوصياتها ويشركها على قدم المساواة في اجتراح دورها في مشروع الوحدة. وعلى المستوى الواقعي، نجد أن العديد من الكيانات السياسية العلمانية، لم تستطع أن تتجاوز عصبيات الواقع والدوائر التقليدية المتوفرة في المجتمع. بمعنى أن العديد من الوجودات السياسية العلمانية، هي عبارة عن يافطة حديثة لواقع تقليدي، عصبوي.. فالكثير من الأحزاب هو واجهات لواقع تقليدي. لذلك فإن العلمانية في التجربة العربية والإسلامية، لم تستطع أن تتجاوز بشكل حضاري خصوصيات الواقع ودوائره الخاصة المتوفرة. فلا يزال المجال العربي إزاء علمانية مبدونة (إذا جاز التعبير). حيث تمارس الاضطهاد والاستغلال بمضامين موغلة في القدم. فالتجربة العلمانية العربية، مارست السياسة بآليات متخلفة وتنتمي إلى عصور الانحطاط، واستقوت على غيرها من الوجودات والتعبيرات، بالاستقواء بالعصبيات التي جاءت على المستوى النظري كحل لتجاوزها ومنع تأثيراتها السلبية.. فالممارسة العلمانوية أضحت في مناطق العالم العربي، ممارسات طائفية، حيث الاحتماء بطائفة ضد أخرى، وممارسات قومية شوفينية، حيث الاستناد بقومية وقمع القوميات الأخرى.. وهذا أدى في المحصلة النهائية إلى أن التجربة العلمانوية العربية، أنتجت وبزخم جديد كل الصراعات والنزاعات الداخلية، والتي جاءت كوصفة نهائية لعلاجها وإسقاط موجبات بقائها. فتحولت على مستوى التجربة العملية، إلى إضافة جديدة إلى الصراعات العميقة التي كانت تعاني منها مجتمعاتنا. وهذا يدفعنا إلى القول: أنه حينما تغيب الديمقراطية والحريات النوعية، تتحول كل الشعارات والمضامين الحديثة، إلى واجهات لإنتاج الأزمات التقليدية والعقد الكامنة في المجتمعات العربية والإسلامية.

فالديمقراطية هي الشرط الذي لا بد منه للسير نحو تطوير البنى السياسية والثقافية والاقتصادية للمجتمع..كما أن الديمقراطية هي التي تدفع السيرورة الاجتماعية للتعاون والتضامن والاندماج بين الأقليات على أسس أكثر عدالة وتسامحا ومساواة.. فالاستبداد والديكتاتورية، هي التي جعلت الواجهات الحديثة ذات محتوى أو طابع طائفي أو قومي محض.وبهذا غابت المواطنية، وسادت البنى الطائفية والقومية المغلقة والمنعزلة في آن..

فالأمن الشامل والدائم، هو وليد العدل السياسي والاجتماعي والاقتصادي، وكل محاولات وإجراءات استتباب الأمن لا فعالية لها ما دام مفهوم العدل لم يتحقق في الواقع المجتمعي. وترتكب الدول والمجتمعات أخطاءً فادحة، حينما تنشد الأمن والاستقرار بعيدا عن متطلبات العدالة وحقائق الحرية والمساواة. والدين كمنظومة مفاهيمية متكاملة، ليس هو مصدر التعصب الطائفي أو الأثني، وإنما الأوضاع السياسية والاقتصادية الشاذة والظالمة، هي التي تدفع المجموعات البشرية المتضررة من هذه الأوضاع إلى البحث عن وسائل لحماية ذاتها في خصوصياتها وإنتماءاتها العميقة. كما أن المجموعات البشرية المستفيدة من الأوضاع، فإنها تتشبث بخصوصياتها، لكي تحافظ على مكتسباتها ومصالحها. لذلك فإن مصدر التعصب والتطرف، هو الأوضاع السياسية والاقتصادية الظالمة، التي تمارس فرزا عميقا لكل فئات المجتمع على قاعدة انتماءاتهم المذهبية والأثنية والسياسية والأقوامية.

والقضاء على هذا التعصب والتطرف، لا يتم عبر محاربة الدين وأشكال التواصل معه بل عبر مواجهة الظروف السياسية والاقتصادية، التي عمقت هذا التعصب، وعملت على بناء واقع سياسي على قاعدة التمييز والتهميش لفئات اجتماعية، والامتيازات والثروات والمناصب لفئات اجتماعية أخرى.. فالأداء السياسي الظالم والبعيد عن مقتضيات العدالة والمرونة والتسامح، هو المسئول عن كل حالات التعصب والتطرف بكل أشكاله ومستوياته.

وإن الاستقرار السياسي والمجتمعي، القائم على احترام تعدديات المجتمع وتنوعه الفكري والسياسي، هو الذي يؤدي إلى نضوج خيار التمازج والتداخل والتواصل المتبادل بين مجموع تعبيرات المجتمع والأمة.

ويبدو أننا من دون فهم واقع الأقليات والأثنيات في المجالين العربي والإسلامي، وبلورة المعالجة الحضارية لهذا الواقع. من دون هذا سيبقى الواقع الداخلي والمجتمعي للعرب والمسلمين، يعاني الكثير من الأزمات والاختناقات والنكبات، لأن العديد من الصراعات والحروب الصريحة والكامنة، تجد جذورها ومسبباتها العميقة في هذا الواقع الذي يتم التعامل مع الكثير من عناوينه وقضاياه بعيدا عن مقتضيات العدالة والديمقراطية.

وحينما نلح ونصر على ضرورة قراءة هذه المسألة ودراستها بشكل معمق، لا نريد تبرير واقع الانقسام والتجزئة، أو نشجع أصحاب المصالح في الخارج للاستفادة من هذا الفسيفساء أو التناقضات، وإنما نريد إعادة بناء مفهوم الوحدة الوطنية على قاعدة أكثر حرية وعدالة ومساواة. ولا يمكننا الوصول إلى ذلك دون الاعتراف بهذه المشكلة، والعمل معا من أجل بلورة المعالجة المناسبة لها.

فإننا نقف بقوة وحسم ضد كل محاولات التفتيت والانقسام، كما إننا نقف بنفس الدرجة ضد كل محاولات التجاهل والظلم والتعسف والتعدي على الحقوق تحت أي مبرر كان.فالوحدة الوطنية الصلبة، لا تبنى على أنقاض تجاهل حقوق الأقليات بل إننا نرى أن بوابة الوحدة الوطنية، هو أن ينال المجتمع بكل قواه ومؤسساته وفئاته الحرية اللازمة للتعبير عن آماله ومطامحه، وإدارة شؤونه بما ينسجم ومصالحه العليا.

وعندما ينال المجتمع حريته، وتتعمق في فضائه الممارسة الديمقراطية، تزول كل هواجس الخوف، وتضمر كل نوازع الاستقلال الذاتي والانفصال. فالديمقراطية بكل آلياتها ومؤسساتها ومقتضياتها، هي التي تعمق خيار الوحدة الداخلية، وتبنيه على أسس متينة وقواعد حضارية صلبة. فالتعدد الثقافي واللغوي في سويسرا (حيث هناك ثلاث مجموعات ثقافية ـ لغوية كبرى) لم يمنعهم من بناء وحدة داخلية حضارية تعطي لكل مجموعة حقوقها دون أن تنحبس وتنعزل هذه المجموعة عن المحيط العام ومتطلبات الوحدة الوطنية. كما أن الديمقراطية الهندية، هي التي سمحت لأربعين جماعة ثقافية ـ لغوية، من بناء دولة مقتدرة ومجتمع ديمقراطي يمتلك تجربة تاريخية متواصلة في الحرية والتسامح بين المجموعات المتعددة التي يتشكل منها المجتمع الهندي.

فالتعدد والتنوع لا يمنعان الاندماج والوحدة الاجتماعية والوطنية.. الذي يمنع كل هذا هو الاستبداد وغياب العدالة والمساواة. فلو توفرت الديمقراطية وتجسدت العدالة السياسية والاقتصادية، فإن الاندماج والوحدة الداخلية تكون متحققة من جراء ذلك..

- العدالة سبيل التعايش:

ولا يمكن أن تتعايش التنوعات كلها في إطار أمة واحدة ووطن واحد، إذا لم تسود قيم العدالة الواقع الذي تعيشه هذه التنوعات.. فالظلم بكل صوره وأشكاله، يفتت التنوعات ويشرذمها ويؤسس لمنطق الحروب والنزاعات المفتوحة بينها. ولا سبيل لتعايش حضاري بين التنوعات والتعبيرات المختلفة، بدون عدالة، تلغي كل حالات التهميش والتمييز، وتمنع سيادة منطق الغلبة والإلغاء، وتحافظ على كل أسباب العدالة في نمط العيش وأشكال العلاقة.

والعدالة التي نعتبرها سبيل التعايش الحضاري بين مختلف التنوعات تعني:

1) نبذ كل أشكال التمييز والإقصاء والإلغاء، واعتبارها من القضايا الرئيسة التي تهدد وحدة الوطن وأمنه. فحقائق التنوع بشكل مجرد لا تهدد الوحدة، ولا تلغي حالة التعايش، ولكن الذي يهدد الوحدة الاجتماعية والوطنية، ويلغي مستويات التعايش في الدائرة الوطنية، هو التأسيس الظالم على هذه التنوعات، عبر ممارسة كل أشكال التمييز ضد كل تنوع أو تعبير.

فالذي يهدد الوحدة، هو التمييز والتهميش والإقصاء. ولا سبيل لإنجاز مقولة العدالة، إلا بنبذ كل أشكال التهميش والإقصاء الذي تتعرض إليه بعض التنوعات. وهنا يتطلب أيضا الوقوف بحزم ضد كل محاولات التشويه التي تتعرض إليها بعض المدارس العقدية والفكرية والسياسية، وذلك لأن السماح إلى المغرضين إلى تشويه سمعة الآخرين الذين هم جزأ لا يتجزأ من الوطن والأمة، يعد وفق كل المقاييس تعريض كل مكاسب الوطن ووحدته الداخلية للكثير من المخاطر والأزمات. لذلك فإن رفضنا ونبذنا لكل أشكال التمييز والتهميش، لحرصنا الدائم على التعايش السلمي والوحدة الوطنية.

2) تكافؤ الفرص الوظيفية والإدارية والسياسية والثقافية، فلا يعقل أن تمنع كفاءة من خدمة وطنها من موقع تخصصها وتميزها بفعل انتماءها العقدي أو الاجتماعي أو السياسي. إن مقتضى العدالة، أن تكون جميع الفرص متاحة للجميع والأكفأ هو الذي يتحمل المسؤولية , فلا عدالة حقيقية إذا منعت بعض المواقع عن بعض الفئات والشرائح، كما لا تعايش حضاري بين التنوعات، إذا سادت عقلية الاستثناء والإقصاء لأسباب لا تنتمي إلى عالم العدالة والحضارة والإنسانية.

3) صيانة الحقوق الدينية والسياسية والثقافية، فلا يكتمل عقد العدالة، إلا بالعمل على صيانة حقوق الأقليات الدينية والسياسية والثقافية، عبر مؤسسات وقوانين دستورية، تتجاوز استقطابات اللحظة، وتؤسس لسياق وطني، يصون حقوق الأقليات كسبيل لتوطيد موجبات الوحدة الوطنية والاجتماعية.

4) تطوير النظام السياسي وإرساء دعائم ومتطلبات الديمقراطية فيه. وذلك لأن الداء الأكبر الذي يعرقل الاصلاحات ويعمق الفروقات الأفقية والعمودية في المجتمع، هو الاستبداد. ولا يمكن أن تحترم أقلية ما في ظل نظام سياسي مستبد. فلا بد من إرساء دعائم الديمقراطية على المستوى السياسي وتطوير وتوسيع بنية النظام السياسية والاجتماعية، حتى تتسنى الظروف المفضية إلى صيانة حقوق الأقليات ومشاركتها الفاعلة في بناء الوطن وتطوير الأمة. وإن تذويب الفوارق التقليدية المتوفرة في مجتمعاتنا العربية والإسلامية، يتطلب تأسيس الممارسة الديمقراطية التي تعلي من شأن القيم الإنسانية، ويتم تجاوز كل الحواجز التي تحول دون التلاحم الوطني المطلوب. ولمؤسسات التعليم والإعلام أدوار ووظائف رئيسية في هذا المجال.. بمعنى أن المناهج التعليمية في مختلف المراحل المدرسية وكذلك البرامج الإعلامية والثقافية بحاجة دائما إلى إبراز قيم الديمقراطية وحقوق الإنسان والتسامح، والابتعاد التام عن كل ما يجرح أو يشين بفئة أو شريحة في المجتمع.

فمؤسسات الديمقراطية وأطر وأوعية المشاركة في الشأن العام، هي القادرة على تذويب الفروقات التقليدية. بمعنى هي القادرة على إزالة كل عناصر التوتر والتأزم بين الفروقات التقليدية.

- الحرية تعني غياب الإكراه:

فالمعنى البسيط والمباشر للحرية، يعني حرية الاختيار. ولا اختيار حر في ظل الإكراه. لذلك فإن الحرية تعني غياب الإكراه على المستويات كافة. بحيث أن الإنسان يمارس حقوقه ويلتزم بواجباته بعيدا عن الإكراهات المتعددة، التي تحول دون الممارسة السليمة لمفهوم الحرية.

وعلى المستوى التاريخي كان تطور مفهوم الحرية على الصعيد المجتمعي، هو من جراء نضالات مستميتة ومعارك ضارية من أجل تثبيت قيم الديمقراطية، وإنهاء كل عناصر الإكراه التي تحول دون التراكم الإيجابي لقيمة الحرية. ولا يمكن بأي حال من الأحوال، اعتبار القمع والإكراه والعنف، وسيلة من وسائل تنظيم الحياة الوطنية وضبط العلاقة بين السلطة والمجتمع. وذلك لأن هذه العناصر تزيد الأزمات وتعمق خيارات الإقصاء، وتزيد من فرص الحروب بين السلطة والمجتمع.

إن الحرية هي القيمة الأساسية التي تحقق مفهوم العدالة في بعدها السياسي والثقافي فلا عدالة سياسية بدون حرية سياسية تتجسد في حرية تشكيل الأحزاب والتكتلات السياسية وتجذير مفهوم تداول السلطة، كما أنه لا عدالة ثقافية، إذا لم تعطى الحرية لكل القوى والوجودات، لكي تعبر عن ذاتها وخصوصياتها الثقافية. فالعدالة لا تتأتى إلا بتوافر الحريات العامة على نحو حقيقي ونوعي.. فهي (الحريات بمعناها الشامل والمتكامل)، هي التي تنتج العدالة.. وإن الحرية هي التي حركت في نماذج تاريخية ومعاصرة عديدة، الأقليات أو زعامات وقيادات تاريخية تنتمي إلى الأقليات في مشروع الدفاع عن الوطن والأمة.

فالحرية هي التي توفر المناخ الطبيعي لتجاوز كل الحساسيات واستيعاب كل الأطياف والقوى في مشروع الأمة الجامعة والوطن المشترك. وبدون الحرية (أي مع سيادة الاستبداد) تنمو العصبيات، وتبرز الأطياف والخصوصيات وتتطلع إلى بناء كيانات خاصة بها. لأن مشروع الاستبداد همشها ومارس التمييز بأقسى صوره ضد وجودها وتطلعاتها المشروعة.

إن تسفيه مشاعر الآخرين، لا يقود إلى التضامن والوحدة، بل إلى الشقاء والمحنة. وهكذا نصل إلى حقيقة أساسية مفادها: أن اندماج الأقليات في مشروع الوطن والوحدة الوطنية أو القومية، يتطلب إعطائها الحرية لممارسة شعائرها وطقوسها الدينية وفسح المجال القانوني لتاريخها الثقافي، ولمساهمة ثقافتها الــراهنة في صياغة واقعها الخاص. حينذاك (أي حينما تمنح الأقليات الحرية)، سيتم الاندماج الطوعي والاختياري في مشروع الوحدة الوطنية والقومية. فطريق الوحدة يمر عبر الحرية فلا وحدة بدون حرية، ولا اندماج بدون قانون ودستور يحمي خصوصية الأقليات الدينية والثقافية.

وهذا لا يعني التشريع للكيانات الخاصة والدويلات الضيقة، وإنما نعتبر هذه الكيانات وليد طبيعي للاستبداد والديكتاتورية. لذلك فإن المطلوب احترام الخصوصيات الدينية والثقافية، لأنها الطريق الحضاري لخلق وحدة في الاجتماع السياسي.

- الحرية بوابة الوحدة:

لكي ترتفع الأقليات والاثنيات من دوائرها التقليدية وكياناتها الذاتية إلى مستوى المواطنة الجامعة، هي بحاجة إلى عوامل موضوعية وسياسية، تساهم في إشراك هذه الدوائر والكيانات في بناء مفهوم الأمة.

ولقد علمتنا التجارب أن التعامل القهري مع هذه الكيانات الأقلوية والإثنية، لا ينهي الأزمة، ولا يؤسس لمفهوم حديث للأمة والوطن، وإنما يشحن المجتمع بالعديد من نقاط التفجر والتوتر، ويدفع هذه الكيانات إلى الانكفاء والانعزال، وبهذا يسقط مشروع الأمة والمواطنة الجامعة.

وخيار القمع والاستبداد خلال العقود المنصرمة، وفي مناطق عديدة من مجالنا العربي والإسلامي لم يقض على هذه المشكلة، ولم يؤصل لمنظور وحدوي جديد، يتجاوز فيه بشكل حقيقي وعميق مشكلة الكيانات الخاصة.

وإنما أدى خيار الديكتاتورية والقمع، إلى مسلسل رهيب من التهميش والتمييز على مختلف الصعد بحق أبناء الأقليات والأثنيات.

وفي المقابل وأمام هذه الهجمة الشرسة ضد هذه الكيانات، مارست الأخيرة عملية انكفاء وانعزال من اجل الدفاع عن ذاتها وخصوصياتها الأثنية أو القومية أو الدينية أو المذهبية.وفي المحصلة النهائية كان الوضع عبارة عن قمع وتهميش وتمييز وإلغاء تمارسها مؤسسة الدولة تجاه هذه الوجودات، لتذويبها بالقوة والقهر في الدائرة الوطنية أو القومية الغالبة، وممانعة مستميتة من قبل هذه الوجودات، ألصقتها بخصوصياتها وشخصيتها التاريخية وانغلاق تام في الدائرة الخاصة. ومن جراء هذه المسألة لم ينجز مشروع الأمة الواحدة، ولم يتحقق الإجماع والوحدة الوطنية على قاعدة طوعية واختيارية.. وإنما جعل المسألة الوطنية في خطر عظيم ودائم من جراء هذا الخيار المتخلف في التعامل مع مسألة الأقليات والاثنيات والقوميات المتوفرة في مجالنا العربي والإسلامي.. فالاستبداد فاقم المشكلة، والقهر عمقها وأضاف لها أبعادا جديدة، والتهميش والتمييز المقصود، حرك كل الكوامن والخصوصيات باتجاه المزيد من التشبث بها والالتزام بمقتضياتها.

وهذا يعني أن الديكتاتورية والاستبداد، لم يدفع هذه الدوائر إلى مصاف الأمة الواحدة، كما أنها لم تشعر بالاطمئنان التام تجاه كل شعار ومشروع وحدوي، تقف وراءه مؤسسة مستبدة وديكتاتورية عسكرية أو سياسية. وذلك لأن هذا المشروع الوحدوي، يخفي في واقع الأمر صراعا أقلويا وعصبويا، يتجذر ويتعمق في وسط الأمة بيافطة وحدوية وتوحيدية..

والمشروع الوحدوي الذي يستند على الديكتاتورية والاستبداد،يفضي إلى المزيد من الفرقة والتشرذم والتشظي والبعد عن كل متطلبات الوحدة.

لأن الوحدة الوطنية أو القومية، لا تنجز على قاعدة إفناء التنوعات الداخلية، وإنما عبر توفير الحرية لها، ولكي تمارس دورها في بناء الوحدة.. والخطاب الوحدوي الذي حارب الأقليات والاثنيات والقوميات الأخرى، باعتبارها مضادات للوحدة أو طوابير خامسة للقوى المعارضة للوحدة، انتهى المطاف إلى إقليمية ضيقة، لا يرى إلا الإقليم القاعدة، ولا يحترم إلا مصالحه وتحالفاته وواقعه السياسي. لدرجة نستطيع القول فيها، أنه لا يوجد قطر من الأقطار العربية، من يتعاطى مع مشروع الوحدة من موقع الجدية والخطوات المرحلية الدائمة الموصلة إلى هدف الوحدة.. وإنما يتم التعاطي مع هذا المشروع كشعار يخفي المصالح والمطامع الإقليمية، ولتبرير وتسويغ واقع الحال.. فالوحدة سيرورة تاريخية يتداخل فيها السياسي مع الثقافي والاقتصادي والنفسي، وهي بحاجة إلى عمل يتراكم مع بعضه البعض، لكي تخلق الحقائق والوقائع الوحدوية الموصلة إلى مشروع الوحدة الشاملة. ولكن وبفعل النزعة الشوفينية والعدمية لمشروع الوحدة الشاملة، نجد المفارقات العجائبية. خطاب وحدوي مركزي، ووقائع قطرية ضيقة، عاطفة جياشة تجاه الوحدة، وواقع يتم تبريره وإسناده مضاد للوحدة وموغل في الدوائر الضيقة، شعار وحدوي يتطلع إلى الوحدة بشوق وشغف، ومسيرة التجزئة وشرعيتها تأخذ مسارها في الوجود والممارسة.

لذلك نستطيع القول: أنه ليس كل خطاب وحدوي، يوصل إليها، بل على العكس من ذلك في كثير من الأحيان.. الخطابات الوحدوية (على المستوى الفعلي) تعمق الفروقات القطرية، وتتعامل مع واقع التجزئة من موقع استراتيجي، ينشد إبقاء الأمور على حالها.

لذلك فإننا بحاجة أن نعيد النظر في مشروع الوحدة، بمعنى أن التجارب والممارسات خلال الأربعة عقود الماضية، أوصلتنا جميعا إلى طريق مسدود في مسألة الوحدة. ولعلنا لا نعدو الصواب، حين القول، أن جذر الإخفاقات ليس في العوامل الخارجية التي وقفت ولا زالت تقف ضد مشروع الوحدة، بل في العوامل الداخلية، التي هي بحق المعوق الأساس والجوهري لهذا المشروع. ولعلنا نكثف هذه العوامل الداخلية في محور واحد هو: العلاقة بين مشروع الوحدة والاستبداد.

والتجارب الوحدوية الفاشلة، التي عمقت بفشلها وتراجعها وسلبياتها حالات التجزئة، كان السبب الأساسي في تقديرنا لفشلها وإخفاقاتها، هو في اعتماد هذا المشروع على ديكتاتورية عسكرية وسياسية لإنجاز هذا المفهوم الحضاري.

كما أن الوحدة التي تستند في خلق واقعها ومسيرتها الفعلية على سلطة مستبدة، لا تنجز الوحدة، بل تعمق خيار التفتيت والتشظي تحت مسميات ويافطات عديدة. فالاستبداد لا يخلق وحدة، بل تشظيا وتفتتا وانزلاقا نحو الحروب الداخلية المميتة لكل حيوية وفعالية باتجاه الوحدة ومتطلباتها السياسية والاجتماعية.

ولا نبالغ حين القول: أن من الأخطاء التاريخية الكبرى، التي وقعت فيها مشاريع الوحدة والتوحيد في مجالنا العربي والإسلامي، هو اعتمادها عسكرتاريا ديكتاتورية ونخبة سياسية مستبدة لا ترى إلا بلون واحد ولا تتعامل إلا بعقلية ضيقة، صحرت الواقع الاجتماعي، وأفقرت العمل السياسي والمدني، وخلقت الحواجز النفسية والفعلية الكبرى التي تحول دون الوحدة والتوحيد. لذلك لم نجن من هذه التجارب والممارسات إلا المزيد من التشظي والتجزئة والتشرذم.

وكمون قيمة الوحدة في قاع الوعي والعاطفة، ينبغي أن لا يدفعنا إلى تبني خيارات فوقية وشكلية لانجازها. لأن الخيار الخاطئ يفاقم العقد، ويبرز إشكاليات جديدة، تزيد من أزمات وعقبات مسيرة الوحدة.

كما أن الميل التاريخي نحو الوحدة والتوحيد في المجال العربي والإسلامي، من الضروري أن نقرأه بعمق، حتى يتسنى لنا خلق آليات مناسبة، تدفع هذا الميل التاريخي نحو مسيرة تصاعدية، إيجابية، تتجاوز مناخات الواقع السيئة. فالأزمة دائما ليس في قيمة الوحدة وإيجابياتها وآفاقها الكبرى التي توفرها على مختلف الصعد، بل في الطريق الذي تنتهجه النخب للوصول إليها..

- الحرية شرط تجاوز الطائفية:

الحقائق التاريخية عنيدة، ومشروع الوحدة لا ينجز على أنقاضها. حيث تعلمنا التجارب أن كل المحاولات التي بذلت لتدمير هذه الحقائق التاريخية كشرط للوحدة باءت بالفشل، وذلك لأن هذه الحقائق متجذرة وتمتلك امتدادات عميقة في الجسم الاجتماعي.. لذلك نستطيع القول أن طريق الوحدة، لا يمر عبر محاربة هذه الحقائق، وإنما عبر احترامها وتوفير الحرية اللازمة لها، حتى تتوفر الظروف والمناخات المؤاتية لانخراطها الحضاري في مشروع الوحدة والتوحيد.

فالمشترك الوطني، لا يعني إلغاء الخصوصيات الدينية أو المذهبية والثقافية، وإنما يتطلب احترامها وفسح المجال لها، لكي تمارس دورها ووظيفتها في إثراء مفهوم الوحدة بمضامين حضارية، تتجاوز الرؤية الآحادية والنهج الإقصائي.

واحترام الأقليات وإعطاءها الحريات اللازمة يعني:

1. فسح المجال القانوني والاجتماعي والسياسي، لكي تمارس هذه الأقليات شعائرها الدينية بعيدا عن الضغوطات والتجاذبات. ومن الأهمية أن ندرك جميعا، أن من الحقوق الأساسية لكل إنسان، أن يمارس عقائده وشعائره في مناخ من الحرية والاحترام و القانون. وحينما لا تتوفر هذه الحرية، لا يعني انعدام ممارسة الشعائر،بل يعني أن الأقليات ستبحث لها عن طرق وأساليب أخرى لكي تمارس شعائرها وطقوسها.

2. فسج المجال الثقافي والسياسي، لكي تمارس الأقليات خصوصياتها اللغوية والثقافية. إذ أن لكل جماعة بشرية خصوصيات ثقافية. قمع هذه الخصوصيات، لا يفضي إلى وحدة، بل إلى أساليب جديدة، تمارس هذه الأقليات من خلالها خصوصياتها الثقافية.

لذلك فإن المطلوب دائما، أن لا تقمع ثقافة الأقليات، أو يتم التعامل معها بفوقيه واستعلاء.. المطلوب الحرية بكل آفاقها ومتطلباتها للثقافة والخصوصيات المعرفية لكل جماعة بشرية.

3. الشراكة السياسية والاقتصادية، حتى تنطلق الطاقات والقدرات في مشروع بناء الوطن وعمرانه.

والشراكة السياسية والاقتصادية، تقتضي تكافؤ الفرص، وفسح المجال للجميع بعدل للمشاركة في الإدارة والتسيير.

لهذا نستطيع القول: بأن مفهوم الشراكة السياسية والاقتصادية في بناء الوطن وإدارته تقتضيان إلغاء كل أشكال الإقصاء والتمييز، والشفافية في الإدارة وتسيير الشؤون العامة، ووجود عقد اجتماعي ـ سياسي ينظم العلاقة بين مختلف الدوائر والقطاعات، حتى تنتظم جميع الكفاءات الوطنية في مشروع البناء والعمران.

فالاستبداد والتمييز، لا يخلقان وحدة واندماجا، وإنما تحاجزا وانفصالا عميقا بين مجموع القوى والتعبيرات المتوفرة في الساحة. ولذلك فإنه لا شراكة حقيقية على المستويين السياسي والاقتصادي مع وجود الاستبداد السياسي، وذلك لأنه يفرغ هذه المقولة من مضمونها الحقيقي والفاعل. فالشراكة السياسية والاقتصادية، تتطلبان تفكيكا متواصلا للبنية الاستبدادية، حتى يتسنى للجميع وعلى قدم المساواة المشاركة في إدارة الشأن العام وتطوير الوطن وعمرانه وتنميته على مختلف الصعد والمستويات.

وبكلمة: إن العدل السياسي بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى ودلالات، هو الذي يوفر الأرضية المناسبة، لإنجاز مقولة الشراكة السياسية والاقتصادية لكل القوى والأطياف في البناء والإدارة والتسيير.

- الحرية طريق المواطنة:

إذا توفرت الحرية والعدالة، توفرت عناصر العقد الاجتماعي الحقيقي، الذي يحافظ على الاستقرار ويعمق عوامل الأمن الشامل. فتتوفر كل العناصر المطلوبة لمفهوم المواطنة الحقة. فلا مواطنة بدون حرية وعدالة، فهما طريق خلق المواطن الصالح المدافع عن منجزات وطنه ومكتسباته، والمدافع عن ثغوره وحدوده، وهو الذي يكافح باستماتة من أجل عزة الوطن وتطويره. فالإنسان المقموع والمضطهد في وطنه، لا ينمو لديه حسن المواطنية بشكل إيجابي، وذلك لأنه باسم الوطن يضطهد ويقمع، وتحت علمه وشعاراته الوطنية تهان كرامته وتنتهك حقوقه. لذلك فإن طريق المواطنة هو الحرية وصيانة حقوق الإنسان والدفاع عن كرامته الإنسانية.

إن هذه القيم والمبادئ، هي التي تخلق عند الإنسان الحس الوطني الصادق. وبدون هذه القيم، تضيع المواطنية،و إذا ضاعت المواطنية ضاع الوطن.لذلك لا وطن عزيز بدون مواطنية عزيزة.

وإذا توفرت الحريات العامة، فهذا يعني توفر المناخ الملائم لتعبئة طاقات المجتمع، وبلورة كفاءات نخبته، وازدادت إبداعاته ومبادراته. وكل هذه الأمور من القضايا الحيوية لصناعة القوة في الوطن. ويخطأ من يتصور أن القهر والاستبداد والأساليب الأمنية المختلفة، هي القادرة على خلق المواطنية وحالة الولاء الصادق إلى الوطن.

إننا ومن خلال التجارب التاريخية العديدة، أن الحرية والشفافية وسيادة القانون والمؤسسات الدستورية، هو الكفيل بتعميق حس المواطنة الصالحة. فشعب الولايات المتحدة الأمريكية، أتى من بيئات جغرافية متعددة، وأطر عقدية ومرجعيات فكرية وفلسفية متنوعة، ولكن الحرية بكل آلياتها ومجالاتها ومؤسساتها، وسيادة القانون والمؤسسات الدستورية، هي التي صهرت كل هذه التنوعات في إطار أمة جديدة وشعب متميز.

فالحرية وحدها هي القادرة على خلق المواطنة الصالحة، وبدونها تتحول كل المشتركات عوامل للجمود والتخشب والبعد عن الحيوية والفعالية في كل مجالات الحياة. وإن المجال الإسلامي خلال العقود الماضية، دفع ثمن تهميش أقلياته وممارسة أقسى أشكال التمييز تجاه هذه الأقليات. حيث الحروب العبثية، التي أهدرت الكثير من الطاقات والثروات، والتدخلات الأجنبية السافرة في مصالح واستراتيجيات هذا المجال، حيث وجدت في سياسة التمييز والإقصاء الأرض الخصبة لإرباك الساحات الداخلية للعرب والمسلمين. والمحصلة النهائية لكل ذلك الشعور بالضياع وضمور الحس الوطني الصادق، والبحث الشره على المصالح الضيقة، حتى ولو كان ثمنها حرية الوطن واستقلاله.

ولا نعدو الصواب حين القول، أن جذر هذه الأزمة هو الاستبداد السياسي الذي يلتهم كل فعالية، ويقمع كل أمل وحيوية، ويزدري من كل تطلع وطموح.

فالاستبداد يدمر الأوطان ولا يحفظها، ويمتهن كرامة المواطنين، ويدوس على مقدساتهم وتطلعاتهم.

وحدها الديمقراطية التي تعيد الاعتبار إلى الذات والوطن، وتعيد صياغة العلاقة بينهما، فتنتج وعيا وطنيا صادقا، يحفز هذا الوعي على الدفاع عن عزة الوطن وكرامة المواطنين.

فالاستقرار السياسي والمجتمعي، يتطلب باستمرار تطوير نظام الشراكة والحرية على مختلف الصعد والمستويات، حتى يتسنى للجميع كل من موقعه خدمة الوطن وعزته.

والمواطنة التي نراها شرط إنجاز الحرية على الصعيد المجتمعي، ليست شعارا يرفع أو يدّون في الأنظمة الإدارية والإجرائية، بل هي منظومة متكاملة من الحقوق والواجبات، تدفع باتجاه تنمية مشاركة المواطن في قضايا وطنه المختلفة.. " ومن أجل تجسيد المواطنة في الواقع، على القانون أن يعامل ويعزز معاملة كل الذين يعتبرون بحكم الواقع أعضاء في المجتمع، على قدم المساواة بصرف النظر عن انتمائهم القومي أو طبقتهم أو جنسيتهم أو عرقهم أو ثقافتهم أو أي وجه من أوجه التنوع بين الأفراد والجماعات. وعلى القانون أن يحمي وأن يعزز كرامة واستقلال واحترام الأفراد، وأن يقدم الضمانات القانونية لمنع أي تعديات على الحقوق المدنية والسياسية، وعليه أيضا ضمان قيام الشروط الاجتماعية والاقتصادية لتحقيق الإنصاف. كما أن على القانون أن يمكن الأفراد من أن يشاركوا بفعالية في اتخاذ القرارات التي تؤثر في حياتهم، وأن يمكنهم من المشاركة الفعالة في عمليات اتخاذ القرارات السياسية في المجتمعات التي ينتسبون إليها " (6)

فالمشاركة الواعية بدون استثناءات ووصايات في شؤون الأمة والوطن، وقدرة كل مواطن إلى الوصول بكفاءته إلى أعلى المناصب والمستويات بصرف النظر عن منبته ومذهبه وقوميته، هو الذي يثري مفهوم المواطنة، ويجعل إنجازه مرهونا إلى حد بعيد إلى الحرية والديمقراطية. فلا مواطنة حقة بدون ديمقراطية سياسية، تعطي لكل المواطنين حق المشاركة والتعبير والاجتماع والتنظيم والإدارة. فطريق المواطنة بكل متطلباتها وشروطها، يمر عبر الديمقراطية، فهي التي تحقق مفهوم المواطنة، وبدونها نبقى سديما بشريا لا يشترك في تقرير مصيره، ويمارس عليه كل أنواع التمييز والتهميش.

ولا شك أن أحد الأسباب الرئيسة لانهيار الوعي الوطني الصادق، هو عدم التعامل الجاد والديمقراطي مع مسألة الأقليات. إذ خضعت هذه المسألة للعديد من الاستقطابات السياسية المختلفة، وتم استخدامها كورقة في الصراعات السياسية، دون أن تنبري قوى نوعية للقيام بمبادرات سياسية جادة، تسعى نحو بلورة رؤية متكاملة وممكنة لهذه المسألة في المجالين العربي والإسلامي.

ولنا في التجربة النبوية في المدينة المنورة خير مثال ونموذج، إذ أن المواطنة التي شكلها رسول الله (ص) لم تلغ التعدديات والتنوعات، وإنما صاغ دستورا وقانونا يوضح نظام الحقوق والواجبات، ويحدد وظائف كل شريحة وفئة، ويؤكد على نظام التضامن والعيش المشترك. إذ جاء في صحيفة المدينة: " وإنه لا يحل لمؤمن أقرّ بما في هذه الصحيفة، وآمن بالله واليوم الآخر، أن ينصر محدثا، ولا يؤويه، وإنه من نصره وآواه فإن عليه لعنة الله وغضبه إلى يوم القيامة، ولا يؤخذ منه صرف ولا عدل. وإنكم مهما اختلفتم في شيء (فيه من شيء)، فإن مرده إلى الله وإلى محمد (الرسول) وإن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما دامو محاربين.. وإن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين: لليهود دينهم، وللمسلمين دينهم، ومواليهم، وأنفسهم، إلا من ظلم، أو أثم، فإنه لا يوتغ إلا نفسه، وأهل بيته " (7).

فسبيل المواطنة الصادقة، ليس التوحيد القسري والقهري للناس، وإنما بالحرية وسيادة القانون واحترام حقوق الإنسان وكرامته، نخلق مواطنا صالحا وفاعلا وشاهدا.

ومواجهة تحديات الخارج المختلفة، لا تتم عبر قهر الناس ومصادرة حقوقهم وحرياتهم،وإنما على العكس من ذلك تماما. فمواجهة تحديات الخارج، تتطلب انبثاق قوة وحدوية وتوحيدية في داخل الوطن، تأخذ على عاتقها تجميع الطاقات وبلورة الاستراتيجيات، والاستفادة من كل القدرات والإمكانات. وهذه القوة الوحدوية، لايمكن أن تبنى على قاعدة القهر ومصادرة الحقوق والحريات،وإنما على قاعدة صيانة الحقوق والكرامات، ومأسسة الحريات. إن هذه القاعدة الحضارية، هي التي تفشل كل عمليات ومحاولات الاختراق للجسم الوطني، وهي القادرة على إفشال كل الرهانات التي تسعى إلى تجزئتنا وتفتيتنا وانقسامنا.. " والديمقراطية بهذا المعنى هي تعظيم لقدرات المجتمع وتحصين له ضد الانفجارات الداخلية والاختراقات الخارجية. روح الديمقراطية، مثل روح الفيدرالية، لا تكمن في الآليات الشكلية بقدر ما تكمن في معنى تعظيم المشاركة وتعظيم الاستفادة من قدرات كل التكوينات الاجتماعية – ـ الاقتصادية، دون قهر أو استغلال من إحدى هذه التكوينات للتكوينات الأخرى. فليست الديمقراطية الليبرالية، مثلا، هي الشكل الأوحد أو الأنسب لكل الأقطار في كل الحالات. ولكن الأنسب والأمثل هو إتاحة الفرص المتكافئة لأبناء كل الجماعات الإثنية للمشاركة في إدارة مجتمعهم، وفي إنتاجه، وفي خدماته " (8).

والمجتمع الاستبعادي والمغلق، لايمكن أن تنمو في محيطه قيم الديمقراطية والتسامح، وذلك لأنه يستند على نظام اجتماعي مغلق، يحارب كل محاولة نحو الانفتاح والتواصل، ويقف موقفا مضادا من كل عمليات إعادة بناء المجتمع على أسس ومعايير جديدة..

والمطالبة بالديمقراطية، والشعور بضرورتها وأهميتها لواقعنا الراهن، ليس وليد التقليد الصرف للآخرين وأطوارهم التاريخية، بل هو من صميم واقعنا ومسيس حاجتنا إلى هذه الحريات، حنى نتمكن جميعا من الخروج من المآزق الكبرى التي نعاني منها، وتحول دون إنطلاقتنا الحضارية..

إن الديمقراطية بثقافتها وآليات عملها والمناخ الذي تخلقه على مختلف الصعد، هي القادرة على تفكيك الكثير من العقد والأزمات بأقل خسائر ممكنة. وإن رفض هذا الخيار والنهج، يفاقم من العقد والأزمات، ويدخلنا جميعا في حقبة الانفجارات الاجتماعية والحروب الداخلية، التي لا تزيد أوضاعنا وأحوالنا إلا سوءا وتدهورا.

وحدها الديمقراطية والحريات السياسية والثقافية، هي التي تؤسس لطريق جديد لمعالجة الأزمات من جذورها، وتنهي موجبات ديمومتها بأقل خسائر ممكنة على جميع الصعد والمستويات.

ولا يوجد شيء مهما علا شأنه يعوضنا عن قيمة الحرية. فحينما تتوفر كل أسباب القوة الاستراتيجية والعسكرية والشعبية، دون قيمة الحرية، فإن هذه الأسباب لا تباشر دورها المطلوب، ولا تقوم بممارسة تأثيراتها المنشودة.

فكاريزما جمال عبد الناصر والشعبية العارمة التي اكتسبها، لم يلغ حاجتنا إلى الحرية. والأحداث والتطورات اللاحقة في التجربة الناصرية، أكدت حيوية هذه القيمة، بل إن " الشعور الذي تولد لدى الرئيس الراحل جمال عبد الناصر بعد الهزيمة،والذي عبر عنه في مناقشات مغلقة ومفتوحة كثيرة. هو أن تحييد الجماهير وإقصاءها عن المشاركة في تشكيل القرار السياسي بالرأي ـ مهما كانت ثقتها في الصفات الاستثنائية لكاريزما عبد الناصر، ومهما كان اقتناعها بسلامة وصحة الاختيار أو القصد الوطني عند هذه الكاريزما ـ قد أسهم بشكل محسوس في إضعاف مركز القيادة السياسية، أمام مراكز القوى التي مارست صراعا على السلطة، استنزف قدرات هذا النظام، وعبث بمقدراته، ودفع به إلى هاوية الإخلال بأول واجبات أي نظام سياسي، ألا وهو الحفاظ على استقلال التراب الوطني " (9).

مع الحرية والديمقراطية، يبقى مشروع الوحدة ممكنا، وبدونها يبقى واقعنا ممزقا وراهننا متشرذما. ولاعلاج لمآزقنا العديدة إلا بالحريات السياسية الحقيقية التي تسمح لجميع القوى والتعبيرات من المشاركة النوعية في إدارة الشأن العام وتطوير الحقل السياسي والمدني الوطني. ومع الديمقراطية والحرية تبقى الأقليات عامل إثراء لمضامين الوحدة على المستويات السياسية والاقتصادية والحضارية.

وبدونها تبحث الأقليات عن مشروعها الخاص، وتتكور في دائرتها الخاصة.فيضيع الوطن الجامع، وتتبعثر مشروعات الوحدة والتوحيد.

وإذا أردنا للأقليات أن تعود إلى فضاء الوحدة ومجال التوحيد، فما علينا إلا إرساء دعائم الديمقراطية ومتطلبات الحريات الدينية والثقافية والسياسية، حتى تتجاوز مشروعاتها الخاصة وهواجسها الذاتية.

فالحرية والديمقراطية هي الوسيلة الحضارية الوحيدة، القادرة على إدماج الأقليات بشكل اختياري وإنساني مع النسيج العام. وذلك لأن الحريات تساهم بشكل أساسي في تنمية المشتركات وتفعيلها والدفع بها باتجاه خلق الوقائع السياسية والمجتمعية المنسجمة وحاجات و متطلبات القواسم المشتركة.

إن الاندماج العام، لا يمكن أن يتم إلا على أرضية سياسية جديدة، قوامها الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان وسيادة القانون والدستور. وبالتالي فإن عملية الاندماج منوطة في عناصرها الكبرى إلى الأغلبية، حيث بإمكانها عبر الخطوات السياسية الجادة والنوعية نحو الانفتاح وتغيير قواعد اللعبة السياسية، أن تجعل المناخ العام مؤاتيا مع خيار الاندماج الوطني العام.

فالتقدم السياسي باتجاه الحريات، هو الذي يعالج مشكلة الأقليات. بمعنى أن عدالة العلاقة وديمقراطيتها بين الأغلبية والأقلية، هو الذي ينهي العناصر النابذة والنافرة في العلاقة بين الطرفين.

***

محمد محفوظ

..................

الهوامش

(1) د. سعد الدين إبراهيم، تأملات في مسألة الأقليات، ص 18، دار سعاد الصباح، مركز ابن خلدون للدراسات الإنمائية، القاهرة 1992م.

(2) المصدر السابق، ص 23.

(3) جريدة الحياة اللندنية، العدد (13923)، الأحد 29 أبريل / 2001م، مقال الاعتراف بحقوق الأقليات اعتراف بوحدة العالم وتنوعه. جورج طرابيشي.

(4) تأملات في مسألة الأقليات، ص 23، مصدر سابق.

(5) برهان غليون، نظام الطائفية من الدولة إلى القبيلة، ص 6، المركز الثقافي العربي، الطبعة الأولى، بيروت 1990م.

(6) مجلة المستقبل العربي، العدد (264)، (2/2001م). مركز دراسات الوحدة العربية، ص 118. دراسة الدكتور على الكواري: مفهوم المواطنة في الدولة الديمقراطية.

(7) الشيخ محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار، الجزء (19)، ص 110 ـ 111، الطبعة الثانية، مؤسسات الوفاء، بيروت 1983م.

(8) تأملات في مسألة الأقليات، ص 237، مصدر سابق.

(9) عمرو عبد السميع، أحاديث الحرب والسلام والديمقراطية ـ الكتاب الثالث، ص 15، الدار المصرية اللبنانية، الطبعة الأولى، القاهرة 1998م.

لا غرو في أن أنبياء المورمونية المعاصرين قد استفادوا من الحركات الإصلاحية والملل العقدية اليهودية المستحدثة مثل “الأدفنتست” (السبتيين) و”شهود يهوه” اللتين ذاعت أخبارهما في الربع الأخير من القرن التاسع عشر بأميركا؛ فجميعهم قد اتفق على جحد التراث العقدي ونقده والتشكيك في سلامة نصوصه، وقدرة أنبياء الملل الثلاث على تجديد شريعة الرب، وإزالة ما أفسده الأولون من اللاهوتيين الذين قادتهم أهوائهم على التجديف والدس والانتحال. وقد اتفق أيضاً أنبياء المورمون والسبتيين وشهود يهوه على أن الرب قد منحهم القدرة على تأويل الوحي على نحو يتفق مع ثقافة العصر واحتياجات الواقع الإنساني وما انتهى إليه العقل البشري من علوم ونظم ثقافات وقيم تحقق السعادة لمن يؤمن بالبشارة الجديدة التي خَصَّ بها الرب سكان الكرة الأرضية في الغرب – ليعلموا الأجيال المُقبلة حتى قيام الساعة – والمتمثلة في أصول المدنية في العلم والاستنارة.

وجميعهم قد اتفق أيضاً على النهاية الدرامية للعالم حيث القوة والعنف وإسالة دماء الخصوم الذين لم يؤمنوا بتعاليم الصهيونية المقدّسة. وحريٌّ بنا الإشارة في عجالة للأثر الصهيوني على الديانات الأمريكية المعاصرة وعلى رأسها المورمونيّة.

ــ الدعوة الصهيونية:

لم تعتنق المورمونية عقيدة شعب الله المختار اليهودية لتميز بين الساميين والآريين؛ بل تجاوزت ذلك إذ أمنت بأن الرب قد نسخ شريعته ورفع من قدر المؤمنين بالتعاليم الصهيونية التي دعا إليها رُسل المورمونية فهم وحدهم دون سائر البشر الذين سوف ينعمون بالخلاص والبركة والسعادة في الملكوت الأعلى وسوف تُكتب لهم العزة بعد أن يتم خلاصهم بهزيمة أعدائهم على يد جنود الرب وقيادة يسوع لجيوش الصهاينة الذين سوف ينطلقون من أورشليم وذلك استناداً على ما جاء في سفر المورمون الإصحاح العاشر (31) (فأستيقظي وانتفضي من الثرى يا أورشليم، نعم، وألبسي حللك الجميلة، يا ابنة صهيون)، كما جاء في الإصحاح الرابع عشر (6) (لا تعطوا القوس للكلاب ولا تطرحوا دوركم قدّام الخنازير؛ لئلاً تدوسها بأرجلها وتلتفت لتمزّقكم … إنه ستكون هناك عاصمتان في العالم: الأولى في أورشليم, والثانية في أميركا؛ لأن صهيون تخرج من الشريعة, ومن أورشليم تخرج كلمة الرب).

كما تشير العديد من الدراسات المعاصرة على ذلك التقارب الأيدلوجي الذي جمع بين الطائفة البروتستانتية والثقافة اليهودية الصهيونية في المجتمع الأمريكي منذ منتصف القرن التاسع عشر. ومن مظاهر ذلك التآلف، اهتمام عوام المثقفين وجل خواص الأكاديميين لدراسة اللغة العبرية وآدابها والفكر السياسي الصهيوني، وأدبيات شعب الله المختار، وأخبار يوم القيامة وعودة يسوع في نهاية الزمان. ويستشهد سمير مرقص في كتابه “الأصولية البروتستانتية والسياسة الخارجية الأمريكية” بتأثر نبي المورمون ومن بعده رجل الأعمال الأمريكي القس وليم بلاكستون (1841-1935م) الذي قاد الدعوة الصهيونية لإعادة اليهود إلى فلسطين واتخاذ القدس مركزاً لهم وذلك انطلاقاً من معتقده المورموني بأن جيش الخلاص سوف ينطلق من القدس في المستقبل،

ومن ثم كان لزاماً عليه استمالة المسيحيين الأمريكان إلى زعم الحق اليهودي في إنشاء دولة لبني إسرائيل، وقد عبر كتابه (عيسى قادم – 1878م) عن تلك الأفكار، فأسس منظمة (البعثة العبرية من أجل إسرائيل) في شيكاغو وهي لم تزل مستمرة في مهمتها حتى اليوم باسم جديد هو (الزمالة اليسوعية الأمريكية) والتي تعد قلب جهاز الضغط الصهيوني في الولايات المتحدة الأمريكية، وقد شارك هرتزل (1860-1904م) في انتقاء النصوص التوراتية التي يجب التعويل عليها في دعوتهما الاستيطانية وتكوين جماعات أمريكية تروج للفكر الصهيوني المسيحي، وتوجّت هذه الجهود بوعد بلفور عام 1917م.

وتضيف الكتابات التاريخية بعض مظاهر تلك العلاقة التي ربطت بين المورمونيين البروتستانت والصهاينة موضحة أنه ليس هناك مجالاً للشك في أن حركة التهود التي طالت الاتجاهات الأصولية المسيحية – إلى درجة اقتباس بعض النصوص التوراتية وتوظيفها في رسومات وشعارات أمريكية تفيد وحدة التراث المسيحي اليهودي المشترك وما يتبعها من أخلاقيات وسياسات ليبرالية براجماتية والخلاص الفردي وتفعيل ما يسمى بالإنجيل الاجتماعي- لا يمكن إنكارها ودورها في الفكر السياسي الأمريكي.

وفي عام 1942م تأسست (الرابطة الوطنية للإنجيليين). وفي عام 1990 أضحى اليمين المسيحي المفعم بالتعاليم الصهيونية المحرك الأول للسياسة الأمريكية.

ونستنبط من ذلك كله أن المورمونيين قد لعبوا دوراً مهماً جنباً إلى جنب مع الديانات اليهودية الإنجيلية المعاصرة لتحقيق ما جاء في كتاب المورمون وأقوال “سميث” ومزاعم “هرتزل”.

وتكشف قراءتنا لأصول العقيدة المورمونية عن عدة حقائق:

- أولها: أن المورمونية ديانة وضعية ذات منحى أيديولوجي راديكالي ووجهة صهيونية شيفونية تسعى إلى نقد دونها من الديانات والملل والمذاهب، وتجعل إنجيل المورمون هو الشريعة الحقة والكتاب المقدس الناسخ لكل الشرائع والضامن الأوحد للنعيم والسعادة للبشر في الدنيا والآخرة.

- وثانيها: أن بنية الأفكار والمعتقدات المورمونية مُنتحلة ومُلفقة بتأثير من الفلسفات الشرقية، وعلى رأسها الفلسفة الرواقية، والكتابات الهرمسية والشيفونية الغربية، وشطحات الربانيين والتلموديين والحسيديين من اليهود، وفرقة القبالة الباطنيّة الحلوليّة المؤصلة لقضية نسخ الشريعة على يد الأنبياء المحدثين وبروتوكولات حكماء صهيون، وذلك كله تحت مظلة الماسونية المنتحلة لمعظم الفلسفات المعاصرة.

- وثالثها: أن سياستها في التبشير تنحو منحى براجماتي في إقناع الشباب على وجه الخصوص بأرض الميعاد الجديدة المتمثلة في المدنية الأمريكية حيث التقدّم العلمي والتكنولوجي والرقي والرخاء والحرية ونعمة الرب والإخلاص في طاعة يسوع والنعيم المنتظر في أورشليم التي سوف تشهد الخلاص النوراني القاهر لأعداء الصهيونية في حرب آخر الزمان التي سوف يُسحق فيها الشيطان وزبانيته.

- ورابعها: ادّعاء المورموني أن من اعتنق الديانة المورمونية سوف يتحرّر من جميع الشرائع والمعتقدات السابقة؛ فالخلاص المورموني الذي يتم بالعمادة يغفر كل ما سبق ويخلص العقل والقلب من كل العوائق التي تحول بين المورموني وما يحقق له السعادة والهناء والأمن والطمأنينة في كنف المجتمع الصهيوني الجديد.

- وخامسها: أن العقدية المورمونية قد ابتدعها المفكرون الصهاينة المتأخرون لفض النزاع القائم بين اليمينين اليهود المتعصبين للقديم والحداثيين العلمانيين الغربيين الأمريكان والروس والأوروبيين على وجه الخصوص، وذلك منذ القرن 19م، وقد ساهم التيار الإصلاحي الصهيوني المتمثل في حاخامات الألمان في تشكيل بنية المورمونية الجديدة للربط بين السياسة والدين في البرنامج التثقيفي للمورمونية، حتى يتمكن يهود العالم من وضع قومية معاصرة خاصة بهم من جهة، والتأليف بين الإنجيليين المسيحيين والعلمانيين في شتى بقاع الأرض من جهة أخرى، والقضاء على كل الأصوليات الدينية باسم وحدة الأديان أو فلسفة ما بعد الدين أو إحياء الديانة الإبراهيمية كما بيّنا فيما سلف.

والجديرُ بالإشارة أنّ التيار الصهيوني الماسوني قد وجد في العقيدة المورمونية إحدى الآليات لفض النزاع الذي شب بين اليهود اليمينين والعلمانيين الليبراليين في القدس منذ عام 1939م. وقد روج الاتجاه الصهيوني في ألمانيا وبولندا للأفكار التي توحد بين الزعامة الصهيونية والكتابات المقدّسة التي تتنزل على التلموديين من قبل الرب؛ وذلك لإقناع الإسرائيليين بقومية جامعة بين الدين والسياسة في سياق علمي معاصر.

وخليقٌ بنا التنبيه على وجود أوراق خفية وتعاليم مشفرة وأهداف غير معلنة لهذا التحالف الأمريكي البروتستانتي الصهيوني الذي يسعى لقيادة العالم تارة عن طريق الاقتصاد، وتارة أخرى عن طريق تفكيك المجتمعات اجتماعياً وأخلاقياً وسياسياً، وذلك كله لخدمة الصراع المنتظر قبيل يوم القيامة انطلاقاً من دائرتين مركزيتين أولهما القدس والأخرى من نيويورك.

- أشهر الديانات الأمريكية المناصرة للمورمونية:

تعد ديانتي الأدفنتست وشهود يهوا من أهم الديانات الصهيوماسونية ذات الأثر الأكبر على المورمونيّة المعاصرة من جهة، والمشروعات الفلسفية التي تدعو لوحدة الأديان أو نسخها في دين واحد أو ابتداع العديد من المصطلحات الميتافيزيقية مثل عولمية الأديان، وما بعد الحداثة الروحية، وفلسفة النبوة، والتأويل التفكيكي للنصوص المقدّسة واللاهوت النسوي.

- السبتيون:

فقد ظهر السبتيون عام 1844م على يد الأميركي وليم ميللر(1782-1849م) أي عقب ظهور كتاب المورمون بإحدى عشر عاماً، وكانت أشهر عقائدهم وأهمها على الإطلاق هو إيمانهم بالعود الثاني والخلاص الأخير. والحرب الفاصلة بين شعب الله المختار الذي يمثله السبتيون بقيادة يسوع ضد أبناء الأفاعي من الأغيار الذين لن يؤمنوا بعقيدتهم الجديدة من سائر الأمم.

وقد تميزت التعاليم المورمونية بالمرونة وعدم القطع في المسائل التي يمكن الشك أن يتسرب إليها وتحاشت كذلك التصريح بأحداث مستقبلية غيبية يصعب التنبؤ بها وعلى رأسها تحديد موعد يوم القيامة والصراع الأخير. في حين أن أنبياء “الأدفنتست” قد وقوعوا في هذا الخطأ مراراً؛ الأمر الذي دفعهم إلى انتحال الأكاذيب واختراق الأحداث, فقد صرح أحد لا هوتيهم ويدعى “حيرام إدسون” (1806-1882م) : أنّ المسيح قد هبط بالفعل من السماء إلى القدس عام 1844م، وانشغل بإكمال بعض الأعمال قبل المجيء إلى الأرض, سوف يقرّر موعد بدء الحرب عند الانتهاء ممّا يشغله”. ولم تقف الحكايات عند هذا الحد؛ بل جاءت العرافة الشابة “ألن هرمون” (1827-1915م)؛ لتخبر الجميع أن المسيح قد هبط في هيئة غير مرئية وبارك يوم السبت وجعله يوم الحسم بين الخير والشر دون أن يصرح بزمن قدومه وبداية الحرب. وقد صرحت أيضاً بأن الرب قد اصطفاها وأنعم عليها بالنبوة والعصمة والتنبؤ بالغيب؛ الأمر الذي جعل كل السبتيين يبجلونها ويرفعون قدرها لدرجة القداسة واعتبروا أقولها مؤيدة وناسخة للكتابات المقدّسة السابقة عليها. ولا تتفق عقدية “الأدفنتست” مع المورمونين في قداسة النبي ونسخ قانون الإيمان والمجيء الثاني للمسيح فحسب؛ بل تتفق معها أيضاً في أن كنيستيهما لم تخل من التدليس ودس الكهنة والكذب على الرب والتجديف. أمّا قضية الخلاص والسعادة الأبدية فللسبتيين رؤية مُخالفة أيضاً لكل الطوائف اليهودية والمسيحية بوجهٍ عام والمورمونية بوجهٍ خاص، ويتمثل ذلك في اعتقادهم بأن الخلاص الأبدي يمر بثلاث درجات : بدأت الأولى عام 1844م وتختص بمحاكمة جميع البشر (للفصل بين الأخيار والأشرار) ومازالت منعقدة جلساتها حتى الآن وتسمى بالدينونة التحقيقية. أمّا الدرجة الثانية فتختص بمحاكمة القديسين وأخذ آراؤهم أو شفاعتهم في الساقطين والعصاة من الإنس والملائكة والجن والشياطين.

أمّا الثالثة والأخيرة؛ فلا حكم فيها إلا للمسيح؛ ليفصل في الأحكام السابقة في الجلستين السابقتين ويصدر الحكم الأخير بالسعادة الأبدية على الأخيار والجحيم الأبدي على العصاة والأشرار وتسمى بالدينونة التنفيذية.

وللحديث بقيّة

***

بقلم : د. عصمت نّصار

 

 

أسهم الفيلسوف المغربي طه عبد الرحمن الحاصل على جائزة الإيسيسكو في الفلسفة والفكر الإسلامي عام 2006 من خلال سلسلة من الأعمال الفكرية منذ سبعينيات القرن العشرين في المنهجيات الحديثة في التحليل النصي والدرس التأويلي للنصوص، انطلاقا من قناعته بضرورة تجديد النظر في كثير من المفاهيم المنثورة من حولنا، فحصا ونقدا وتصحيحا وتنقيحا للخروج من تيه الأفكار الذي نعيشه، "والتيه في الفكر كالتيه في الأرض؛ إذ لا أهداف يعلمها التائه يقينا حتّى يتّجه إليها؛ ولا وسائل يملكها حقًّا حتى توصِّله إلى هذه الأهداف؛ والتِّيه الفكري الذي أصابنا ينطق به حال الشتات الذي يوجد فيه أهل الفكر بين أظهرنا؛ وهذا الشتات ألوان شتّى: شتات في المكان؛ فلا رواق يُظلّهم، ولا مجلس يضمّهم، ولا ملتقى يشملهم، ولا دار ندوة تؤويهم. وشتات في الزمان؛ فلا حضور في عالم القرار لأفكارهم، ولا أثر في أفق المستقبل لمواقفهم، ولا تحاور بين أفراد الجيل الواحد منهم، ولا تخاطب بين مختلف أجيالهم. وشتات في الأفكار؛ وهو أسوأ ألوان الشتات؛ فهذا واقع تحت طائلة التقليد، داعياً إلى الترديد والانكماش؛ وذاك واقع تحت طائلة التنميط، داعيا إلى التكيُّف والاندماج؛ وهذا يتشبّث بكل قديم خوفًا على فقدان الهوية؛ وذاك يتقلّب مع كل جديد، طمعا في التحقّق بالغيرية؛ وهذا كل يوم في إشْكال، فتارة يندمج وتارة ينكمش، وتارة بين بين، وذاك لا إشكال عنده، يفكّر لساعته لا يعدوها؛ لكن على تباينهم درج كلُّ واحد منهم على أن يفكّر مذكيا لنفسه، وهيهات أن يفكّر معترضا عليها! والحق أنه لو اشتغل بالاعتراض على نفسه، لأدرك أنه في تيهٍ عظيم، ولا سبيل للخروج منه إلا بالاهتداء إلى الأهداف الصالحة والوسائل النافذة".(1) وهذا ما دفع طه عبد الرحمن إلى الوقوف أمام علاقتنا الحتمية بالتراث على مستوى تصوّر موضوعه ومنهج قراءته، "فنحن في التراث كما نحن في العالم لا اختيار لنا معه ولا انفصال عنه".(2)

والتراث عند عبد الرحمن "عبارة عن جملة المضامين والوسائل الخطابية والسلوكية التي تحدّد الوجود الإنتاجي للمسلم العربي في أخذه بمجموعة مخصوصة من القيم القومية والإنسانية حيّة كانت أم ميتة".(3) ودائرة مصادر التراث الإسلامي العربي ليس مقصورة عنده على اجتهادات المسلمين بل تمتد؛ لتشمل النص الديني المؤسِّس مستندا في ذلك إلى "قول الله عز وجل: أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا (فاطر: 32) فمفهوم التراث موجود في هذا النص الديني، فالقرآن والسُنّة هنا إرث للمؤمنين، أي يندرجان في تراث المسلمين."(4) غير أنّ هذا التصور لا يخلو من إشكاليتين: الأولى اتكائه على الدلالة اللغوية لكلمة الإرث في القرآن الكريم؛ لتحديد مفهوم التراث متجاهلا أنّ المفهوم في التداول الإسلامي اكتسب أبعادا ثقافية أكثر تعقيدا من الدلالة اللغوية للفعل "ورث" الذي لا يُشير في القرآن الكريم سورة الفجر: 19 إلا إلى ما يتركه الميت من مال فيورث عنه، فالمادة اللغوية القرآنية الأقرب إلى مفهوم التراث في التداول الإسلامي هي المشتق "سنة - سنن" في إحدى مدلوليه في القرآن الكريم، وقد حملت مدلولين تبعا لقيد الإضافة، الأوّل: "سُنّة الله" فهي بمعنى القوانين الإلهية العامة الثابتة في الكون والطبيعة من جهة، والإنسان والمجتمع من جهة أخرى، والثاني: "سُنّة الذين خلوا من قبل" فهي المفاهيم والقيم والمعتقدات والتقاليد والمحددات للسلوك والأعراف التي كانوا عليها، فالسنّة بالمفهوم الثاني أقرب الدوال إلى مفهوم التراث.

الإشكالية الثانية: إدماج طه عبدالرحمن القرآنَ الكريم في بنية التراث يُضفي قداسة على التراث، وهذا - من ناحية - يختلف عن رأي مؤتمر الأزهر الأخير الذي أكّد في توصياته(5) على نفي القداسة عن التراث، وأنّ القرآن الكريم ليس جزءا منه، بما يؤسّس لفكرة قابلية التراث للنقد، كما يقودنا هذا الاختلاف حول مفهوم التراث بين عبدالرحمن والأزهر إلى تعدّد الصور الذهنية التي بُنيت حول "التراث" في فكر الإسلاميّين المعاصر، ومن ناحية ثانية يتنافى إدماج القرآن الكريم في بنية التراث مع طبيعته في كونه فكرا واجتهادا إنسانيا لا يتم بمعزل عن واقعه، فهو نتاج مباشر للمكان والزمان الذي أنتج فيه، ووفق الآليات المعرفية التي توفّرت له. كما أنّ التراث ليس معطى واحدا، بل هو متعدّد ومتنوّع، فلا يخضع لمنظومة فكرية موحّدة متجانسة، بل لمجموعة من الأنساق الفكرية المختلفة الرؤى والتوجّهات، ومن أمثلة ذلك الاختلاف حول تعريف "الإيمان" بين كونه قاصرًا على تصديق القلب وبين كونه مرتبطا إلى جانب تصديق القلب بالعمل (العبادات)، ومثل قضية المجاز في القرآن الكريم التي شهدت اختلافا وتنوعا في تراث الأشاعرة والحنابلة والمتصوفة والفلاسفة والمعتزلة وغيرهم... مما يجعل الباحث - شاء أم أبى - في حالة اختيار مع التراث الذي هو في واقعه متنوّع، فالباحث لا يقدّم التراث بالألف واللام الجنسية، وإنما يُقدّم اختيارا وموقفا من التراث.

وفي الوقت الذي نسلّم فيه بتنوّع وتعدّد مجالات واتجاهات التراث إلاّ أنّها تربطها بنية فكرية واحدة، يُمكننا الوقوف عليها من خلال اكتشاف العلاقات العضوية المُشكّلة لمختلف مجالات التراث من اللغة والنقد والبلاغة وعلم الكلام وعلوم القرآن وغيرها، وهذا ما أطلق عليه الدكتور طه عبد الرحمن "القراءة التكاملية" أو "مبدأ تكامل المعارف" احدى المبادئ التي انتهى إليها عبد الرحمن من طول اشتغاله على روح التراث الإسلامي، على حدّ تعبيره، "فلو أنّ الغرب أخذ بمبدأ "تفاصل" أو تباين المعارف، فالمعرفة الإسلامية تتداخل أقسامها تداخلا كاملا، بحيث يبدو الفقه موصولا بعلم الكلام، وعلم الكلام موصولا بالفلسفة، والفلسفة موصولة بأصول الفقه؛ فقد حصل في التراث الإسلامي تداخل قويّ بين المعارف إلى حدّ أنّ بعض العلماء جمعوا بين الطب والفقه أو بين الفلسفة وأصول الفقه. فلا مفرّ لنا عن التكامل، لندخل إلى الحداثة محتفظين بعلاقتنا مع التراث الذي لابدّ لاستئناف النظر فيه من البحث عن الحبل السري الذي يمكن أن يربط بين الإبداع والنهضة في لحظة من لحظات الفعل الحضاري"(6)، وفي هذا الإطار تنوّعت كتابات عبدالرحمن بين التأسيس لقراءة تكاملية اعتمادا على آليات التداخل المعرفي، والتقريب التداولي ونقد الخطابات التجزيئية والتفاضلية في قراءة التراث.

تنوّعت كتابات عبد الرحمن بين التأسيس لقراءة تكاملية اعتمادا على آليات التداخل المعرفي، والتقريب التداولي ونقد الخطابات التجزيئية والتفاضلية في قراءة التراث

وقد فسّر تلك المظاهر التجزيئية بأنّها وليدة تقويم يغلب عليه الانشغال بمضامين النص التراثي، ولا ينظر البتّة في الوسائل اللغوية والمنطقية التي أُنشئت وبُلِّغت بها هذه المضامين".(7) فميّز عبدالرحمن بين نظرة جزئية تفاضلية لا تتجاوز في دراستها المضامين المعرفية للتراث بوسائل تجريدية وتسيسيه منقولة مع نسيان الوسائل التي عملت في تأصيل وتفريع هذه المضامين التراثية، وبين نظرته هو القائمة على الشمولية التكاملية غير التجزيئية للتراث بوصفها منحى غير مسبوق، لكنّ الواقع المعرفي يُشير إلى أنّ من الباحثين من شارك عبدالرحمن بدايات ظهور هذا المنحى (القراءة التكاملية للتراث) منها الدراسة المبكّرة في مسيرة جابر عصفور عن "الصورة الفنية في التراث النقدي والبلاغي" التي قدّم فيها قراءة للنقد والبلاغة في ضوء علاقتها بعلوم التراث كلّها من فلسفة وعلم الكلام وتصوّف وتفسير وعلوم القرآن وغيرها في أوائل سبعينيات القرن الماضي، كما لم يكن ارتياد الجابري أو أركون أو أبو زيد وغيرهم مجال الدراسات التراثية مقصورا على المضامين بل ركّزوا على بنية العقل المنتجة للتراث وأدواته الاستدلالية واللغوية في محاولة لاكتشاف التراث في سياقه التاريخي الثقافي الفكري.

وإذا انتقلنا إلى منهجية عبدالرحمن في قراءة التراث بوصفها الإشكالية التي تُميّز العقل "المتسائل" من العقل "المذعن" والعقل القادر على إنتاج المعرفة من العقل الذي يُلوّن المعرفة، أو يكرّرها، فسنجد أنّها لا تنتمي إلى العقلية الأصولية الرافضة للتجديد بشكل عام والحداثة بوجه خاص تلك التي تُؤمن بكفاءة السلف العلمية وكفاية المرجعية السلفية العلمية التي أخذوها عنهم، داعين إلى القطيعة المعرفية مع الغرب العدوّ الذي يرونه معرفيّا وسياسيا وحْدة واحِدة لا تتجزأ، فيتطابق المعرفي الفكري مع السياسي في العقلية السلفيّة الأصوليّة المشبعة بفكرة المؤامرة، إلاّ أنّ عبدالرحمن تأثّر بالفكر السلفي في التركيز على خصوصية العقل المسلم وخصوصية المعرفة التي يُنتجها، فلا يتعامل مع العقل المعرفي بالمعنى الإنساني العام...

ومن جانب آخر، لا ينتمى منهج عبد الرحمن إلى الحداثة العربية التي رأى في تقليدها للغرب نقيضا لفكر الحداثة القائم على الإبداع، فمثّل تعاطِي الحداثيين العرب مع التراث - من منظوره - أحد مظاهر أزمة علاقتنا مع التراث في مستوى تصوّر موضوعه ومستوى منهج قراءته، فعلى مستوى الموضوع تمّ التعاطي مع التراث بطريقة تجزيئية، وعلى مستوى المنهج خرجت عن المقتضيات المنطقية والمنهجية في المعالجة، "فاستندت إلى أساليب أقل ما يُقال فيها بأنها تعسفية، لم تتردّد في أن تُسلّط على التراث بعض المقولات الماركسية أو البنيوية أو التفكيكية؛ وهكذا، كان الباحث يتقلّب بتقلّب الأدوات التي كان يستخدمها الغرب، فيقوم باستنساخها وتطبيقها على التراث؛ وقد أزعجني هذا الأمر كثيرا، وجعلني أنظر إلى هذا الأعمال على أنّها لا تعدو كونها تمارين يتدرّب فيها العربي على استعمال هذه الأدوات المقتبسة؛ لذلك رغم تقديري لهذه المنهجيات الغربية، ورغم اعتباري للنتائج التي توصّلت إليها في تراثها الأصلي وفائدتها في الوصول إلى نتائج مهمة بالنسبة للدراسات الغربية، كنت لا أرى مثل تلك الفائدة بالنسبة لنقلها إلى التراث الإسلامي العربي؛ فقلت في نفسي لا بدّ من إيجاد منهجية تناسب خصوصية تراثنا، ولا تكون واردة من خارجه أو مسلَّطة عليه بتعسّف بل لابدّ لهذه المنهجية النقدية من أن تنبعث من الداخل؛ فالمطلوب إذًا هو أن نستمدَّ المنهجية التي نقوّم بها تراثنا الإسلامي العربي من التراث نفسه".(8)

فقراءة النص التراثي عند عبدالرحمن قائمة على "مطالبة النص بالتدليل على وسائله أو مضامينه"(9) بأدوات مأصولة، وليس بأدوات منقولة، واختار من بين تلك الآليات والوسائل الاستدلالية واللغوية التي أنشأت المضامين التراثية آلية أطلق عليها "المناظرة العقلانية" أو "العقلانية الحوارية" انطلاقا من أنّ الأصل في الكلام هو الحوار، فحقيقة الكلام الذي تكلّم به الإنسان الأوّل كانت حقيقة حوارية؛ فالحوار موصول بالفطرة بالوجود بالروح، ثم دخلت فيما بعد على الحوار تهذيبات وتقنيات وضوابط محدّدة... والحوار له أهمّية آلية وداخلية وخارجية.. فعلى المستوى الآلي يعطيك الحوار حقوقا ويوجب عليك واجبات، إذ يعطيك حق الاعتقاد والقول فتبدي الرأي الذي تريد، ويعطيك حقّ انتقاد الرأي والاعتقاد المخالف، كما يوجب عليك أيضا واجبات فمن اعتقد شيئا وادّعى دعوى لابد من أن يستدلّ عليها؛ أي يتولّى بنفسه تقديم الأدلة على صحة دعواه واعتقاده، كما أنّه لا بد للمنتقد الذي يُطالب بالأدلة من أن يستمع أولا إلى أدلة المدّعي قبل الدخول في الاعتراض على دعواه؛ وعليه فإنّ الحوار هو مجال لممارسة القوة الاستدلالية للإنسان فعن طريقه يمكنك أن تظهر قوتك العقلية وقدرتك الاستدلالية، فالحوار هبة إلهية للإنسان تُمكّنه من تطوير أساليب استدلالاته على الأشياء. وعلى مستوى الأهمية الداخلية والخارجية، فإنّ الحوار يعود بك إلى الأصل، وهو أنّ الإنسان ليس مفردا بل هو جمع، هو "ذات" و"غير" في الآن نفسه، بدليل أنّ الإنسان قد يحاور ذاته كما يحاور غيرها، فالحوار فرصة لمعرفة الغيرية أو الآخرية، وممارسة لمعرفة الذات من حواري مع الآخرين، فالحوار تحقيق للإنسانية بالتعرّف عليها وتنمية للقوّة الاستدلالية.

وليست "العقلانية الحوارية" عند عبد الرحمن منهجا لتصحيح المعرفة فحسب، بل وسيلة لتحصيل المعرفة والزيادة فيها أيضا؛ فالحوار أصلا هو البحث المشترك طلبا للصواب، سواء ظهر هذا الصواب على يد هذا الجانب المعتقد أو المدّعي أم ذاك المنتقد أو المعترض، فهو بخلاف الجدل القائم على طلب الغلبة والنصرة على الخصم. غير أنّ آفة الحوار في مجتمعاتنا الغضب، فيقول شخص قولا أو يرى رأيا فيتصدى له الآخر قائلا: "لا، رأيك غير صادق، والرأي الصواب هو كذا وكذا"، وهذا ينافى قواعد التناظر الذي يتطلّب السماع للرأي المخالف ومنحه فرصة عرض أدلته ثم أبدأ ليس برفض رأيه أو عرض رأيي بل بإبطال أدلته واحدا واحدا ثمّ بعدها أعرض رأيي المناقض له، فالأصل أنّنا لا ندخل الحوار إلاّ لنُبين لغيرنا أدلتَنا على صحة ما ندعيه، وليس لمجرّد إرسال الكلام على عواهنه، وليس الحوار أن أقول قولا وأن أترك الآخر يقول ضده. والآفة الثانية غياب اللغة التوصيلية الجيدة فخسر الفلاسفة المسلمون معركة الحوار؛ لأنّهم كانوا على خلاف المتصوّفة ينقصهم الكفاءة التبليغيّة، فكانت لغتهم غير توصيلية تكاد لا تبين؛ فتكلموا لغة عربية مشوهة بالترجمة الحرفية، فجاءت العبارات قلقة ركيكة مما جعل الأفكار مستغلقة على الأذهان، وهذا ما جعل الشروح تتسلسل ولا تنتهي يحاول الشارح تلو الآخر رفع ذلك الاستغلاق كل على قدره.(10)

ليست "العقلانية الحوارية" عند عبد الرحمن منهجا لتصحيح المعرفة فحسب، بل وسيلة لتحصيل المعرفة والزيادة فيها أيضا.

وهذا ما جعل عبدالرحمن يرى أنّ تأسيس حداثة بنسخة إسلامية لا يتمّ إلاّ بواسطة مدخلين أساسين؛ أوّلهما مدخل الترجمة المبدعة، وثانيهما: مدخل القراءة الحداثية للقرآن الكريم المصدر المؤسّس الذي ولَّد التراث الذي بين أيدينا، فالدخول إلى الحداثة يحتاج قراءة جديدة مبدعة للقرآن بالمعنى الإنشائي والجمالي، وتلك القراءة الحداثية للقرآن - من منظوره - أبعد ما تكون عن قراءة الحداثيين للقرآن الكريم التي تأثرت بالغرب في تعامله مع الإنجيل بخطط ثلاث للقراءة: الخطة الأولى أطلق عليها خطّة الأنسنة وهي محاولة ردّ النص الإلهي إلى نص إنساني، فيحاولون أن ينقلوا النص من شروطه الإلهية إلى شروط إنسانية بنقل الآيات القرآنية من الوضع الإلهي إلى الوضع الإنساني، والغاية من ذلك هي محو القدسية عن النص الديني؛ وخطة الأرخنة هي وصل النصوص بسياقها التاريخي وبظروفها، والغاية من ذلك هي صرف الأحكام التي جاءت في النصوص الدينية؛ أي صرف ما اصطلح على تسميته بالحُكمية أي صلاحية الأحكام لزمان آخر غير الزمان التي وردت فيه؛ إذ يحاولون أن يرفعوا عن النص القرآني قيمته الحُكمية، حيث تفقد الأحكام قيمتها الإجرائية، فضلا عن قيمتها التشريعية، سالكين طريقا يُخرج هذه الأحكام من مستواها التشريعي المحض إلى مستوى يتجاوز هذا التشريع تاريخيا. ويتجاهل أصحاب هذه الخطط أنّ فرقا بين تراثنا الديني والتراث الغربي، وهو أنّ تراثنا باستمرار فاعل فينا ولو على أقدار مختلفة، وخطّة العقلنة وتعنى تطبيق الوسائل العقلية المستخدمة في المجال العلمي على النص القرآني، وهذا يصرف أثر الغيبية عن النصوص القرآنية، وإقصاء كل ما له دلالة على اللامحسوس واللامعقول (بالمعنى العقلي الحداثي كما حدوده)؛ فكلّ ما يوجد في النص من مضامين غيبية، يعملون على إزالتها باعتبار أنّ هذا الغيب لا يمكن أن نراه أو أن نحسّه، وخطؤهم يكمن في أنّه ليس كل ما لا نراه أو لا نحسه، يلزم بالضرورة أن يبقى كذلك حتى بالنسبة إلى المستقبل القريب أو البعيد.. فالحداثيون العرب يردّون النص القرآني إلى ما هو بشري وعقلي وتاريخي، حيث يصبح مجرّد نصّ من إنتاج العقل العربي، ولم يفعلوا ما فعلوه متوسّلين بآليات ابتكرتها قرائحهم، حتّى يستحقّ أن يكون اجتهادا منهم، ولو أنّه اجتهاد باطل! وإنّما نقلوا وسائلهم النقدية عن الغرب، ونزّلوها على النص القرآني بتقليد أعمى واستنساخ مطلق؛ فكلّ ما وضعه علماء الغرب لدراسة نصوص الكتب المقدّسة -أي التوراة والإنجيل- من مناهج مقرّرة، وما توصلوا إليه من نتائج محددة، أخذه العلمانيون العرب وأنزلوه على القرآن الكريم بخصوصيته المسيحية وبتفاصيله السياقية والتاريخية التي تخص الممارسة الغربية للدين... فليس لهم القدرة على تمثّل الأدوات الإجرائية، واستيعاب المنهجيات العلمية التي وضعها الغرب، بل يسقطون هذه الآليات على تراث الإسلام دون نقد أو تمحيص لها."(11)

وقيّد عبدالرحمن الاستفادة من المناهج المعاصرة بأن تكون لها جذور في التراث، وأن يتّفق المنهج مع طبيعة الموضوع التراثي الذي ستقوم بمعالجته، فيقول: "عندما أحدّد طبيعة الموضوع التراثي الذي أنظر فيه، ويتبين لي أن الآلة المنطقية مفيدة في بيان خصائصه، فإنّي أعالج عمل هذه الآلة المنطقية مفيدة في بيان خصائصه، فإنّي أعالج عمل هذه الآلة داخل النص لا من جهة خصائصها التي أقرّها التراث فحسب، بل يُمكن أن أتوسّل أيضا في هذه المعالجة بالمستوى المعرفي والمنهجي الذي وصلته هذه الآلة في العصر الحديث لقد استفدت كثيرا من تطور الأداة المنطقية كثيرا داخل النص التراثي وهكذا أكون قد استعنت بالآلة المنطقية التي حققت تطورا وتقدما خارج التراث لدراسة الآلة داخل التراث، باعتبارها خاصية مميزة له، وخير مثال على تشبع التراث بالآلة المنطقية هو عنايته بالمناظرة فمعلوم أن منهج المناظرة يقتضي دخول شخصين على الأقل في حوار على أساس الوصول إلى نتيجة غالبا ما تكون معرفية؛ فكانت المناظرة عند المسلمين بمثابة وسيلة لتحصيل المعرفة، ولم تكن وسيلة لحل المشكلات الاجتماعية والسياسية فقط كما هو حالها اليوم؛ ولقد أُهملت المناظرة عند المسلمين لسبب واحد هو تقليد الباحثين العرب للغرب في دراسة التراث؛ فلما لم تكن المناظرة عند الغرب بمثل القوة والتوسع في إنتاج المعرفة اللذين كانا لهما عند المسلمين، فإنهم لم يولوها في دراستهم التاريخية النقدية لتراثهم أهمية كبيرة؛ ولما جاء الدارسون العرب لتناول تراثهم، اتبعوا خطواتهم، فلم يعطوا للمناظرة أيّة قيمة في دارستهم، ولربّما هذا الوجه الذي يُسهّل وصله بالمعاصرة والحداثة. ويتدخّل مع آلية المناظرة العقلانية عند عبدالرحمن النقد المنطقي الذي جعله بديلا للنقد التاريخي في قراءة التراث، فهو من منظوره آلية من داخل التراث تشبّع بها إلى درجة كبيرة كما في أصول الفقه، والفقه، والبلاغة؛ "فكان للآلة المنطقية دور كبير في إنتاج المعرفة الإسلامية؛ لذلك، كان استخدامي لها في الكشف عن روح التراث الإسلامي المتمثلة في المقاصد والقيم والمبادئ التي بُنى عليها التراث وتحّكمت في عملية توليده وتطويره؛ فإذا استطعنا أن نقف على هذه المبادئ التي تحكم التراث وتشكّل روحه، فبإمكاننا من خلال هذه الروح أن نحقّق نتائج إيجابية في الربط بين التراث والمعاصرة حتّى نستأنف العطاء ونتصل بالمعاصرة".(12)

وتقوم قراءة التراث عند طه عبد الرحمن كسائر مشروعه الفكري على ثنائيات، فكما تقوم الأخلاق من منظوره على ثنائية بين الهيئات والأفعال الروحية والظاهر والباطن، وتقوم الحداثة عنده على ثنائية بين واقع متمثل في تطبيقاتها وروح متمثلة في قيمها ومبادئها، كذلك يقوم التراث على ثنائية بين ذاكرة معرفية وروح أنتجت تلك المعرفة، فإعادة الماضي على مقتضاه القديم يستحيل عقليا وتاريخيا؛ لكن ما يمكن أن يُعاد من الماضي هو روح التراث الإسلامي متمثلة في استلهام القيم الإنسانية والأحكام الشرعية القطعية التي تخدم الإنسانية التي لا يمكن نهائيا أن تموت مع مرور الزمن، فالتراث يبقى في الذاكرة التي فيها الميّت والحي، فهناك قيم داخل التراث لم يعد من الممكن اليوم الدخول بواسطتها إلى الحداثة. فيؤسّس عبدالرحمن بذلك لعلاقة تفاعلية بين التراث والحداثة داعيا إلى الأخذ بروح الحداثة التي تكمن في مجموعة القيم والمبادئ التي علينا أن نبحث عنها دون أن نتوقّف أمام واقعها الذي ينقله البعض نقلا حرفيا، فهم تقليديّون، وإن ادعوا الحداثة، ولا أن نرفضها ونراها كفرا، فالحداثة أن يكون الإنسان حاضرا مبدعا في عصره لا في زمان غيره، فنستعيد من أسلافنا قدرتهم الإبداعية في الأخذ من اليونان واللاتين حتى نكون حداثيين، واستكمل الدكتور طه عبد الرحمن مجملا روح الحداثة في ثلاثة مبادئ، الأول: ألا تقبل بوصاية أحد على تفكيرك، ورأى أنّه ليس حداثيا فحسب، بل تراثيا يتّفق مع التصوّر التداولي الإسلامي لا رشد مع تقليد. والمبدأ الثاني: الفكر النقدي أن تكون لك القدرة على الاعتراض على ذاتك وغيرك وعلى الأشياء من حولك، فالاعتراض ليس محدودا بل هو شامل واسع. المبدأ الثالث الشمول، فالحداثة تنتشر في المجتمعات والمجالات كلّها، ولا يمكن حصرها في مجتمع مخصوص، ولا مجال مخصوص، فلا قطيعة بين الحداثة والدين أو الأخلاق فهي الروح التي ينبغي أن نأخذ بها اليوم، ونتوسّل بها كغيرنا من الأمم في تحقيق نهضتنا. إذا أردنا أن نصل التراث الإسلامي بالحداثة اليوم أو بالمعاصرة، فإنّنا في حاجة إلى الاستفادة من الصفات خاصة والمبادئ المميزة التي يقوم عليها التراث وهو ما أسماه ه بـ "مبدأ التداول"، ويقصد به أنّ التراث الإسلامي أو الحضارة الإسلامية كانت دائما تستوعب الوافد عليها أو المنقول إليها استيعابا يُخضعه للقيم المعرفية والقيم اللغوية والقيم العقدية الخاصّة به، فالتراث العربي لديه قدرة متميّزة على تحويل المنقول من ثقافة أخرى إلى مضمون يوافق مقتضيات وقيم الإسلام، فكلّما ورد علينا مضمون حداثي أو مضمون عصري أو مفهوما أو حكما تعيّن علينا أن نخضعه لهذه المقتضيات التداولية التي اختصّ بها التراث الإسلامي من قيم عقدية ولغوية ومعرفية.

فـ"الحداثة ليست في تجاوز المصادر الأصلية للتراث، وإنما أن نجدد استخدامنا لهذه المصادر، فنولد منه تراثا غير مسبوق نضيفه إلى ما سبق... وأدعو هؤلاء إلى قراءة حداثية مبدعة حقا تستجيب لما يبتغون هم، ولكن على الوجه الذي يجب وحيث يجب؛ فهم يريدون أن يرفعوا القدسية، فيمكن أن نرفع هذه القدسية حيث ينبغي، إذ يكفى أن نستبدل مكان هذا المقصد مقصدا آخر أوسع منه مثل "تكريم الإنسان" ومتّى كرّمنا الإنسان، تعين رفع القدسية عن الاجتهادات التي لم تعد صالحة لسلوكه ولا خادمة لوجوده؛ وعلى هذا ينبغي أن تغير المقاصد والغايات التي وظفها أهل التقليد لرفع القداسة ورفع الغيبية ورفع الحكمية، وأن نضع مكانها مقاصد أخرى تعمها وتحفظها جزئيا حيث أصابت، وفي المجالات التي يجب أن تحفظ فيها."(13)

وفي الوقت الذي أقرّ عبدالرحمن التفكير النقدي كأحد مبادئ الحداثة شكّك عبد الرحمن في جدوى القراءات النقدية للتراث، ورأى أنّها ليست سوى صدى لقراءات الغرب النقدية لتراثه الكنسي، مؤكّدا أنّ الغرب في بداية النهضة الأوروبية لم ينتقد التراث، بل عاد إلى التراث اليوناني دون نقد، وكان النقد للتراث الكنسي والسلطة الكنسية، وكان الغرب يعتبر تراثه جزءا من هويته، فاشتغال الغرب بالتراث كان تأييدا لمقوّماته وإحياء لقيمه، بينما أهل الاشتغال بالتراث على أساس مبدأ الحداثة من العرب تولّوا نقد التراث؛ لينتهوا إمّا إلى إلقائه كلّيّا والدعوة إلى الانفصال عنه، بحجة أنه لا يمكن أن ندخل عصر الحداثة إلا بتطليق هذا التراث تطليقا، لا رجعة فيه، وبعضهم رجع إلى ما يراه مقبولا من التراث، وهو نصوص الفلسفة اليونانية التي نقلت إلى العربية فهو مقبول عندهم من حيث كونه جانبا موصولا مع التراث اليوناني، وحاول بعض الحداثيين العرب البحث عن المفاهيم الموجودة في الحضارة الغربية مثل العقلانية في التراث بشكل انتقائي، فاتجه الأغلبية نحو التراث المعتزلي واعتبروه نقطة الانطلاق، وهذا تعاطي تجزيئي مع التراث ينتهى إلى ترك أغلب التراث، أو تنتهي إلى الانقطاع كليا، فالبحث عن مفاهيم موجودة في الأصل عند الغرب وفي ثقافته وتسليطها على التراث الإسلامي في شكل استنساخ لها من غير القيام بنقدها وتمحيصها، بل من غير التمكن من آلياتها هو أمر يتعارض مع مقتضيات البحث العلمي: فكم من مفاهيم أخذ بها الدارسون للتراث لم يتمكنوا من ناصية إجراءاتها ومن طرق استثمارها في التراث مما أفضى إلى نتائج فاسدة عن التراث.(14)

ولا تخلو منهجية عبدالرحمن في قراءة التراث من جوانب نتفق معها ونُؤسّس عليها، وجوانب أخرى نختلف معها ونُعيد التفكير فيها، فمن إشكاليات منهاجيته في قراءة التراث التعالي به عن النقد بزعم خصوصية الأدوات التي أنتجت مضمونه، وأنه لا يستقيم إخضاع مضامين التراث لأدوات تمّ إنتاجها في غير بيئته، ورأي في اعتماد العقل الحداثي على آلية نقد النصوص تقليدا للدراسات الغربية في محاولتها رد النصوص إلى سياقاتها التاريخية المنتجة لها، فهو يعتقد اعتقادا جازما بأنّه لابدّ من أن يقوّم التراث ويُنقد بحسب الأدوات التي استخدمت في إنتاجه، حتى يُعرف هل استوفى شرائط هذه الأدوات أم لم يستوفها.. وأنّه لا يجوز الاعتماد على أدوات أخرى لم تُنتج مضمونه إلاّ على سبيل المقارنة لا على سبيل التحقيق. فشكّك في جدوى قراءات الحداثيين للتراث، ووصفها بمحاولات تنقية أو استصلاح أو عقلنة للتراث، باعتبار أنّ قسما قليلا منه فقط ينسجم في رأيهم مع روح العصر، فقراءات الحداثيين للتراث قراءات مقلدة، وليس لها من الحداثة شيء؛ لأنّها تنقل وسائل وأدوات تخص الغرب وحضارته وتاريخه، وإن كان يتّفق معهم في حاجتنا إلى نهوض الإسلام إلى تجديد قراءة التراث، ولكنّه تجديد ينبغي أن نبدع فيه، فنأتي من عندنا بأدوات وآليات يحدّدها تاريخنا وتراثنا أي مجالنا التداولي الخاصّ بنا، فيتناقض عبد الرحمن مع نفسه حين يتحدّث عن الإبداع، وفي الوقت نفسه يُلزم بأن نستولد من التراث وسائلنا في تحديث هذا التراث، ويجعل القراءة الحداثية مقيّدة بما يجب وحيث يجب.. فما انتهى له الدرس اللغوي الحديث مثلا ليس نتاج فكر إنساني عام يصلح لدراسة النصوص العربية، فيستعلى بنصوص وخطابات التراث عن الخضوع لتلك النظريات اللغوية الحديثة، ويرى أنّ أدوات ووسائل القدامى هي الأجدى في التحليل والفهم ليس لشيء سوى لتراثيتها.

إنّها الإشكالية التي تغلّب عليها الشيخ عبد القاهر الجرجاني، فتفرّد عن معاصريه بتجديد ما زلنا نحتفي به إلى يومنا، وعجزنا نحن عن مواجهة إشكالية المنهج فلا تعدو قراءاتنا للتراث عن كونها عكوفا على القديم نقلا وترديدا فحسب، وإذا كان عبد القاهر قد أفاد لا من جهود سابقيه فقط، وعلى رأسهم "القاضي عبد الجبار الأسد آبادي المعتزلي"، بل من إنجازات "أرسطو" اليوناني في كتابه "الشعر" و"الخطابة"، فإنّ واجبنا كباحثين معاصرين أن نفيد من إنجازات المناهج الحديثة المعاصرة في "اللسانيات" و"علم تحليل الخطاب" و"السميولوجيا"، و"السرديات" إنّ التخوّف من هذه المناهج في دراسة التراث بدافع الخوف من الخطأ يتنافى مع الإسلام الذي جعل للمجتهد المخطئ أجرين، والتخوّف منها بدافع من الوقوع في التبعية يعكس ضعفا في الثقة بالنفس، ويوهم بقداسة التراث وتعاليه عن كونه اجتهادات صاغها القدامى في الوقت الذي نُقرّ فيه بنفي القداسة عنه وقابليته للنقد، القراءة الواعية للتراث لا سقف يحدّها ولا شروطا تعوقها سوى "التمكّن" المعرفي أي تمام العلم بشروط وأدوات "المعرفة" والتمرّس بأدوات البحث ومناهجه حسب المواصفات التي وصل إليها التقدّم المعرفي في عصر الباحث. وليس معقولًا، ونحن في القرن والحادي والعشرين، أن نتمسّك بشروط وقواعد القراءة العلمية التي وضعها أسلافنا تمسّكا حرفيا، ونتجاهل تطوّر أدوات المعرفة في عصرنا هذا. "إذا كانت علوم اللغة والبلاغة وعلوم القرآن من العلوم الأساسية التي اعتبر أسلافنا -على حق- أنّ الإلمام بها شرط من شروط التأهُّل للاجتهاد والقراءة العلمية المنتجة. فهل معنى ذلك أن نتمسك بمستوى علوم اللغة والبلاغة في القرن الخامس أو السادس الهجريين، وأن نتجاهل مستوى التقدم المُذهل الذي تحقق في مجال هذين العلمين! لماذا لا نستفيد في المنجزات المتغيرة للعلم والمعرفة في قراءة النصوص اللغوية والخطابات الفكرية"!(15) لماذا عندما نتحدّث عن تناول التراث وفق أدوات منهج التحليل اللغوي الحديث مثلا نراها محاولات لإخضاع التراث لمنهجيات غربية ألم تكن لغة العلم لغتنا في عصور التألق الحضاري، لماذا ألصقناها اليوم بالغرب وجعلناها مرادفة له!

من ناحية ثانية، تتمحوّر مركزية التراث في مشروع طه عبد الرحمن في كونه وسيلة لتثبيت الهوية، وأداة لدعم الإبداع، "فلا إبداع بغير تراث ولا هوية بغير تراث إذ يكون التراث بمثابة المرتكز الذي يسمح للإنسان أن يستجمع قواه ليمتدّ في المستقبل، فالماضي هو عبارة عن نقطة ارتكاز للاندفاع بقوة إلى المستقبل... ففي الماضي وفي إنتاجه كل ما يمكن أن يمدّ المسلم بأسس تثبيت هويته ودعم إبداعه."(16) ويُعلل ذلك بأنّ الإنسان بطبعه كائن متّصل واتصاله يكون بالزمان والمكان، واتصاله بالزمان يجعله يربط الماضي بالحاضر والمستقبل معا؛ فلابد لكلّ إنسان، كيفما كان حاله، من أن يكون له امتداد فيما سبق وامتداد فيما سيأتي؛ فعنده حاجة ميتافيزيقية أو روحية إلى أن تكون ذاته موصولة؛ ووجوب هذه "الموصولية" هو الذي يدفعه إلى الاهتمام بالتراث، فإنه يرجع إلى حالة الاتصال بالماضي باعتباره مقوّما من مقوّمات ذاته؛ لذلك كان الماضي يمدّ الإنسان بشيئين أوّلهما الهويّة فهذا الاتصال يوفّر للفرد البعد الثقافي الذي يجعله يحدد ذاته، مدركا تميّزه عن باقي أفراد الإنسانية، ولعلّ هذا ما دفع عبد الرحمن إلى عدم التفكير خارج مجال التداول الإسلامي التراثي، على حد قوله: "إذا انتابني ولو للحظات الشعور بأنّني أفكّر بعيدا عن هذا المجال، سرعان ما أعود إليه وأغوص بكلّيتي فيه؛ لأستخرج ما يمكن استخراجه من الحقائق".(17)

تتمحوّر مركزية التراث في مشروع طه عبد الرحمن في كونه وسيلة لتثبيت الهوية، وأداة لدعم الإبداع.

نتّفق مع عبدالرحمن في أنّ الماضي، وإن كان قد انقطعت صيرورته ولم يعد فاعلا إلاّ أنّه ما زال يتحرّك من خلالنا في وعينا به وتفاعله - إيجابا أو سلبا - مع سعينا لبناء الحاضر واستشراف المستقبل، غير أنّ التراث ليس هو الذي يُؤثّر في الحاضر على نحو أحادي الاتجاه فحسب، بل الحاضر أيضا يُؤثّر في التراث بالقدر نفسه، لأنّه ليس كيانا منفصلا عنّا، بل نحن مركز ذاك التراث نعيد تشكيله وفق الحاضر منه في عقولنا، لذا تتعدّد صور التراث بتعدّد العقول المستدعية للتراث، فكلّ قراءة للتراث ليست سوى محاولة لإعادة تفسيره من خلال الحاضر، ولا تبدأ تلك القراءة من فراغ بل من طرح أسئلة الحاضر التي تبحث لها عن إجابات داخل بنية التراث، ففي حالة الأسئلة المعلنة الصريحة الواضحة تكون آلية إنتاج المعرفة من التراث واضحة، وتكون القراءة قادرة على إنتاج وعي علمي بالتراث، وفي حالة السؤال المضمر تكون آليات القراءة مضمرة، وتكون القراءة للتراث مزيّفة للوعي متحيزة لموقف أيديولوجي، وإن تظاهرت بالموضوعيّة.

كما أنّ فكرة عبد الرحمن في التعامل مع التراث كجزء من الهويّة سرعان ما تتحوّل إلى كل الهوية في التداول الإسلامي، ومثل هذا الاختصار لهوية الإنسان في بعد واحد، وإن كان "الدين" فهو إشكالية كبيرة؛ لأنّ تلك الخصوصية المُغلقة تجعل الإنسان يحصر المعرفة في الدين، ويزعم امتلاكها، ومن تجلّيات تلك المشكلة أنّه وجدت جماعات تحتكر الإسلام، وتنسب نفسها وحدها إليه، والأدهى أنّها لا تحتكر جانب المعنى الديني فحسب، بل المعنى الاجتماعي والمعنى الثقافي والمعني السياسي، بالإضافة إلى المعاني الأخلاقية والروحية، ونصبت كل جماعة من نفسها سلطة حامية لفهمها الذي جعلته دينا.

ومن جانب آخر، يصبح الماضي بمثابة نقطة استقرار وجمود، فالاستغراق في الماضي هو أحد الأمراض الفكرية المزمنة للعقل المسلم التي تقتل فيها الإبداع أهمّ سمات المشروع الحداثي، فلا يتّبع مسار التطوّر الإنساني التقدّمي إلى الأمام، بل يقف عند نقطة من الماضي يريد الارتداد بالزمن إليها؛ بغية تطهير الحاضر بإعادته إلى الماضي، ويضيع الأفق المستقبلي بالارتداد إلى حلم الماضي، فنسعى إلى المستقبل ليس في نقطة زمن آتية، بل في نقطة زمنية ماضية، ويقتل الإبداع بالتقليد، وتتحوّل الحداثة إلى عمليّات طلاء مستمرة لتقديم الموروث التراثي في صورة الحداثي.

أخيرا إذا كان التراث الذي بين أيدينا تشّكل في مصنفات من خلال اللغة التي هي ظاهرة اجتماعية ثقافية وموجّهة إلى متلقٍّ اجتماعي تاريخي، فلماذا لا نقرؤه من خلال المناهج التي انتهى إليها الإنسان حديثا في تحليل النصوص اللغوية، لماذا نتعامل مع تراثنا ولغتنا كاستثناء! لماذا لا نفتح الباب للاختلاف في الفهم والقراءة والتفسير، الجهل لا يحارب بالجهل بل بالمعرفة العلمية التي تهدف إلى إطلاق حيوية البحث والتفكير وإعلاء شأن العلم في هذه الأمّة... إنّ وقوع بعض الدراسات في التعسّف على مستوى النتائج لا يقتضي رفض المناهج العلمية المتبعة في تلك الدراسات، وإنّما حصر الرفض في التطبيقات الخاطئة أو المتعسّفة في استخدام الأدوات المعرفية، وتظلّ جميع نصوص التراث نصوصا لغوية موصولة بالسياقات الاجتماعية والثقافية التي تشكّلت فيها، لا تكتفي القراءة العلمية الدقيقة باكتشاف دلالاتها في سياقها التاريخي الثقافي الفكري، بل تتعدّى ذلك إلى ضرورة الوصول إلى "المغزى" المعاصر للنصّ التراثي في أيّ مجال معرفي، وإذا كنّا في حالة خوف من ضياع الهويّة والقلق من حالة التبعيّة الثقافية الكاملة للآخر، فإنّ الوعي العلمي بحقيقة تراث وكيفية تكوّنه والعوامل التي ساهمت في حركته وتطوّره حتّى وصل إلينا سيُساعدنا على الصمود والتصدّي والمقاومة بل والتجاوز والتأسيس والمضيّ في البناء المعرفي.

***

بقلم عبد الباسط سلامة هيكل

....................

(1) د. طه عبد الرحمن (2013)، الحوار أُفقا للفكر، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، بيروت، الطبعة الأولى، ص 7

(2) د. طه عبد الرحمن (2011)، حوارات من أجل المستقبل، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، بيروت، الطبعة الأولى، ص 13

(3) ا. د. طه عبد الرحمن (1993)، تجديد المنهج في تقويم التراث، بيروت، المركز الثقافي العربي، الطبعة الثانية، ص 19

(4) السابق، ص 19

(5) توصيات مؤتمر الأزهر "قراءة التراث الإسلامي" موقع فيتو، القاهرة، 8 مارس 2018

(6) الحوار أفقا للفكر، ص 48

(7) تجديد المنهج في تقويم التراث، ص 75، 76

(8) تجديد المنهج في تقويم التراث، ص 237

(9) السابق، ص 81

(10) ينظر: الحوار أُفقا للفكر، ص 25: 37

(11) د. طه عبدالرحمن، روح الحداثة المدخل إلى تأسيس الحداثة الإسلامية، ص١٦١، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء/المغرب، الطبعة الأولى، 2006

(12) الحوار أفقا للفكر، ص 79

(13) روح الحداثة، 32، 33

(14) يُنظر: تجديد المنهج في تقويم التراث، ص 257: 237، روح الحداثة: ص 35: 54

(15) ينظر: د. نصر حامد أبو زيد، دوائر الخوف قراءة في خطاب المرأة، ص ص 7، 8

(16) الحوار أُفقا للفكر، ص 60

(17) السابق، ص 62

 

من الطبيعي القول، أن الشدة والغلظة لا تفضيان إلى وحدة وطنية حقيقية، لأنهما يعملان على إلغاء كل الخصوصيات التي تساهم في إثراء مفهوم الوحدة. كما أن الإنحباس الضيق والقشري في الخصوصيات السوسيولوجية، يؤدي إلى التحاجز، ويمنع تطوير حالات العيش الواحد.

والثقافة لا تنمو وتتطور إلا في إطار احترام كل الخصوصيات والتنوعات، هذا الاحترام المستند إلى إطار قانوني وإنساني، يقوي من خيار الوحدة على قاعدة التنوع. فالخصوصيات تتحرك في فضاء الوحدة، كما أن الوحدة لا معنى لها على الصعيد الإنساني والواقعي إلا بفسح المجال لكل الخصوصيات، لكي تعبر عن ذاتها اجتماعيا وثقافيا وسياسيا.

فلكي تزدهر ثقافة شعب ما ( كما يعبر إليوت ) ينبغي ألا يكون شديد الاتحاد ولا شديد الانقسام . ففرط الوحدة قد يكون ناشئا عن التحلل وقد يؤدي إلى الاستبداد أيضا. وكلا الطرفين يعوق اطراد النمو في الثقافة.

الثقافة وخصوصيات المجتمع:

فالثقافة الوطنية ليس إنتاج خصوصية دون أخرى، وإنما هي نتاج الحراك والتفاعل بين الخصوصيات المتوفرة في الفضاء الوطني كلها. فمن خلال تنمية الجوامع والمشتركات، وتفاعل الخصوصيات مع بعضها، والتواصل بين مختلف الفعاليات الثقافية والأدبية والإبداعية، تتشكل مقولة الثقافة الوطنية. فهي نتاج المجتمع بكل خصوصياته وتنوعاته المعرفية والتاريخية.

فتغييب الخصوصيات لا يثري الثقافة، بل يجدبها، ويخرجها من دائرة الفعل التاريخي في الواقع المجتمعي. وإمعان السياسي في إبراز خصوصية واحدة، أو العمل على تذويب وصهر الخصوصيات الصغرى في خصوصية كبرى بوسائل قسرية، لا يؤدي إلا إلى المزيد من التشظي الاجتماعي والثقافي .." فالإفراط في عزل الثقافة عن معناها الخلاق، وبالتالي عن كيفيتها في إنتاج المجتمع الذي نعيش فيه، إنما يؤدي إلى خلق ثقافة مركزية منغلقة تتصور الوجود الاجتماعي من خلال تصورها، وتوجه الخطاب الثقافي (بمعناه الشامل في الحياة) من خلال ما تنتجه النخبة المركزية من أفكار تتصل بكيفية إنتاجها للمجتمع . ويورث هذا السياق السوسيولوجي للثقافة المركزية سلسلة طويلة من الإشكاليات يوازي حجمها حجم التنوع في المجتمع (ديمغرافيا وثقافيا)، وتكون ـ عادة انعكاسا لمجتمع تسوده علاقات متنوعة ومتغيرة مع الثقافة المركزية (السلطة) تتوزع بين التحالف، والولاء والانقسام والاختلاف والتمرد والعزلة. إلى آخر هذه السلسلة الطويلة من المواقف التي تنتج ثقافات موازية ومتصارعة أحيانا . ولعلنا نلاحظ الآن أن حجم إشكاليات الثقافة في دول الخليج يتفاوت فيها بمقدار ما ترثه من التنوع الثقافي "(الثقافة وإنتاج الديمقراطية، إبراهيم عبدالله غلوم، ص 121، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، الطبعة الأولى، بيروت، 2002م).

فالهوية الثقافية لمجتمعنا ووطننا، تتشكل من مجموع التشكيلات الاجتماعية المتعددة في منابتها وميراثها الديني وتحولاتها الثقافية، وإن أي تنكر لواحد من هذه المصادر، يفضي إلى انقسامات مجتمعة عميقة. وإن استخدام القوة والغلبة والقسر في عملية التنكر والتغييب، لا تزيد الأمور إلا تفتتا وانقساما وتشظيا.

فالتعصب الأعمى لبعض الخصوصيات والعمل على إلغاء وقهر الخصوصيات والتنوعات الاجتماعية الأخرى، يؤسس لمشروع حروب اجتماعية مفتوحة، تهدد بمتوالياتها النفسية والعملية أسس الاستقرار وعوامل الوحدة في الإطار الوطني والاجتماعي.

وذلك لأن عقلية التعصب والإلغاء، تمنع من تبلور خيار الشراكة والمشاركة لكل التنوعات في بناء الوطن وتطوير المجتمع على مختلف المستويات.

من هنا تجد أن مختلف الصيغ والطروحات التي تتداول في الساحة، لإنجاز الاستقرار وحماية الوحدة الوطنية، تصاب بالتكلس والخمول ولا ترقى إلى ممارسة دور حقيقي في الإطار المرسوم لها، وذلك بفعل أن هذه الصيغ تستند إلى خيار استبعاد العديد من مكونات التأثير والقوة من القيام بدورها في هذا السياق. فالتجانس الثقافي في الإطار الوطني، لا يأتي بالقسر وقانون الغلبة والتغييب، وإنما هو وليد حياة ثقافية واجتماعية مفتوحة على كل الاجتماعات والقراءات والآراء، وتدخل عبر أطر ومنابر وطنية في عملية حوار وجدل ثقافي لتنمية الجوامع وضبط الاختلافات والتمايزات وصياغة مشروع ثقافي وطني على قاعدة التنوع في إطار الوحدة.

التعددية الثقافية والاستقرار:

وإن التعدد الثقافي بحاجة إلى نمط من الإدارة ينطوي على قيم الحوار والاحترام والتسامح، حتى يتسنى له المساهمة الجادة في إثراء مفهوم الثقافة الوطنية. فالثقافات الهامشية لا تموت حينما يستخدم تجاهها القسر والقهر والإلغاء، وإنما تتمرس وتتمكن من استيعاب كل مفاعيل الإلغاء والقهر. بينما إعطاؤها الحرية والسماح القانوني والإعلامي للتعبير عن ذاتها، يساهم في امتصاص العناصر الإيجابية ويحول دون تأثير الواقع المجتمعي بعناصرها السلبية. فمبدأ المشاركة في بناء وتسيير الوطن، هو القادر على اجتراح وقائع وحقائق تزيد من فرص الاستقرار السياسي والاجتماعي، ويحمي الوحدة الوطنية من كل المخاطر والتحديات. ولا شك أن " هناك منفعة، مصلحة يقتنصها الجميع في سياق النظر إلى الثقافة بوصفها شراكة في الإنتاج واعترافا عقلانيا شاملا بالتنوع. سنجدها تتجسد بصورة أساسية في توفر إمكانيات أوسع وأعمق في الاستثمار الثقافي، إن سباقا حقيقيا نحو الموضوعية يتحقق من جراء استثمار التنوع. بل إن النزوع الذاتي حينئذ يتمثل بوصفه تروعا إلى الموضوعية والعلموية، ومن شأن ذلك أن يعيد ترتيب الأشياء والأولويات في ضوء استراتيجية الفعل لا رد الفعل، وفوق أرضية مهيأة لامتلاك أدوات المعرفة وإنتاجها أيضا" (الثقافة وإنتاج الديمقراطية، مصدر سابق، ص 153).

الانفتاح الثقافي أولا:

 والانفتاح الحقيقي على قوى المجتمع ومكوناته المتعددة، لا يبدأ من الاقتصاد والسوق، وإنما من الثقافة. لما تشكله هذه المقولة من تعبير عميق عن مكنونات الإنسان ونسيجه الاجتماعي وعلائقه الإنسانية. فالانفتاح الاقتصادي ليس بديلا عن الانفتاح الثقافي. ونستطيع القول في هذا الإطار: أن أفق الانفتاح الحقيقي يتشكل ويتبلور من الثقافة وأنظمتها الاجتماعية.

لذلك فإن الانفتاح الثقافي الحقيقي، هو بوابة الانفتاح في مختلف المجالات والمستويات. وإذا كانت الرقابة معرقلة لحركة الاقتصاد والتجارة، فإن الرقابة في الحقل الثقافي مميتة للثقافة، ومعيقة للإبداع، وكابحة للتطور والتقدم. فكما أن التشريع الديمقراطي للحركة الاقتصادية يزيد من فرص الاستثمارات والإنتاج، كذلك فإن إرساء دعائم قانون وطني يعطي الحرية للمثقف وأطره القائمة والمرتقبة، سيساهم في تطوير الحركة الثقافية، وسيدخلها في مرحلة جديدة من العطاء والإبداع المتميز في كل الحقول.

ولعلنا لسنا بحاجة إلى إثبات، أن فسح المجال للثقافة والمثقفين من القيام بدورهم ووظائفهم العامة، لا يضر بمفهوم الأمن الوطني، بل هو رافد من روافد تعميق خيار الأمن والاستقرار في الوطن والمجتمع.

والحوار الثقافي والتواصل الفكري بين مختلف المكونات والتعبيرات، لا يهدد الاستقرار الاجتماعي، وإنما يثريه ويزيده صلابة وتماسكا.

وإن الاشتغال الثقافي والسياسي على إلغاء التنوعات الاجتماعية ومنعها من التعبير عن ذاتها ثقافيا وإعلاميا وسياسيا، لا يصنع نسيجا اجتماعيا متماسكا، وإنما هذا الاشتغال يزيد من تمسك هذه التنوعات بخصوصياتها،وبحثها عن سبل أخرى للتعبير عن ذاتها ثقافيا وسياسيا.

وجماع القول في هذا الإطار: إننا بحاجة إلى رؤية سياسية واجتماعية جديدة في التعامل مع التنوعات والتعدديات (التقليدية والحديثة) المتوفرة في مجتمعنا ووطننا. وهذه الرؤية قوامها أن هذه الحقائق لا يمكن نفيها وإقصاءها من الواقع المجتمعي، وإنما نحن بحاجة إلى التعامل معها على قاعدة الاحترام وفسح المجال القانوني لها للتعبير عن ذاتها، وذلك لإثراء مفهوم الوحدة الوطنية، وتمتين جبهتنا الداخلية في وقت نحن أحوج ما نكون إلى التراص والائتلاف وتجاوز الثغرات الداخلية للبناء الوطني.

التنوع والقانون:

  فالبناء القانوني السليم، وسيادة القانون، وتوسيع حق المشاركة في الشؤون العامة كلها عوامل تساهم في توطيد أسباب الوحدة الوطنية، وتعمق من خيار البناء والعمران، ولا يمكن الحصول على الاستقرار والتقدم الثقافي والاجتماعي من خارج حركة المجتمع بخصوصياته وتنوعاته. لذلك فإن الإنصات إلى حقيقة التنوع والتعدد في المجتمع، هو البداية الحقيقية والخطوة الأولى في مشروع الاستقرار وبناء الوحدة الوطنية على قاعدة صلبة وذات عمق تاريخي. فالتنوع والتعدد في المجتمع ليس انقساما وتشرذما، وإنما هو حقيقة تاريخية ومجتمعية ينبغي أن ننطلق منها في عملية التوحيد والائتلاف، وتشريع قوانين وطنية جريئة، تحمي التعدد، وتتعامل معه باعتباره جزء من قوة الوطن ومنعته.

فالوحدة الوطنية هي محصلة كل الجهود والمبادرات التي تطلقها جميع التنوعات والتعدديات في إطار ترسيخ خيار العيش المشترك(الواحد) والوحدة الداخلية للمجتمع.

الوحدة وحق الاختلاف:

فالوحدة الحقيقية ليست ضد حق الاختلاف واحترام المغاير، كما أن حق الاختلاف لا يعني التشريع للفوضى والانقسام والتشرذم. فالتنوع المحاط بالحرية والتسامح، هو الذي يصنع الوحدة، وهو الذي يضبط الاختلاف لكي لا يتحول إلى تفتت وتشظي، وهو الذي يجعل احترام المغايرين وسيلة الاستيعاب والتفاعل.

فقد مضت أزمنة التوحيد القسري وإلغاء الخصوصيات، وذلك لأن هذه التجارب البشرية لم تزد الواقع الإنساني إلا تشتتا وانقساما وحروبا. وأي فئة أو مجموعة بشرية تتطلع إلى السيادة والغلبة على قاعدة نفي التنوعات ومحاربة مظاهر التسامح والاختلاف فإن مآلها السقوط والفشل، وذلك لأن جميع القوى الإنسانية أدركت أن القهر لا يلغي حقها في التعبير عن ذاتها، وأن الاستبداد ليس سبيلا إلى التمكن والاستقرار، بل على العكس من ذلك حيث أنه هو الذي يساهم بمتوالياته الاجتماعية في تكثيف لحظات الإحساس والشعور بالذات وخصوصياتها المتعددة. فنحن مع " احترام الاختلاف بوصفه سبيلا للاتفاق، والاعتراف بالتباين بوصفه دليلا على العافية، وتأكيد أنه ما من أمل في سلام البشرية ما ظلت حضارة من الحضارات أو ثقافة من الثقافات أو أمة من الأمم تمارس قهرا سياسيا أو فكريا أو أخلاقيا على غيرها من الحضارات أو الثقافات أو الأمم بدعوى أن الطبيعة والتاريخ ميزاها على غيرها بما لا يمتلكه سواها، فمستقبل البشرية مرهون بالاحترام المتبادل، والتخلي عن رواسب التمييز العرقي أو التعصب المذهبي، والتسليم الذي لا رجعة فيه بأن إنكار الخصائص الثقافية أو الحضارية لشعب من الشعوب، إنما هو نفي لكرامة هذا الشعب وكرامة الإنسانية جمعاء " (راجع مقدمة كتاب: التنوع البشري الخلاق، تقرير اللجنة العالمية للثقافة والتنمية، الطبعة العربية، المشروع القومي للترجمة (27)، 1997م).

ولكن السؤال هو: كيف نتيح لحالة التنوع أن تقودنا إلى التعايش والوحدة وليس إلى الانقسام والحروب. ولا ريب أن الإجابة على هذا السؤال المركزي، يعد من القضايا الأساسية التي تساهم في خلق رؤية جديدة لواقع التعدد والتنوع في واقعنا ومجتمعنا. وأن صون الحقوق الثقافية والسياسية للتنوعات هو السبيل الذي يوصلنا إلى أن تكون حالة التنوع طريقا للتعايش والوحدة بدل أن تكون سببا للانقسام والحروب. وما نود أن نبلوره في هذه الدراسة، هو الحقوق الثقافية للتنوعات والتعدديات المتوفرة في فضائنا الاجتماعي. فما هي حقوق التنوعات الثقافية؟

الحرية الثقافية:

وذلك عبر السماح لكل التنوعات الاجتماعية من توفير مصادرها الدينية والفكرية، حتى يتسنى لكل الأجيال من التواصل المباشر والحر مع هذه المصادر.

وهذا من الحقوق الثقافية الأصيلة والرئيسة لكل التنوعات الاجتماعية، بصرف النظر عن أحكام القيمة تجاه هذه المصادر. وإن كل أشكال محاربة وإقصاء هذا الحق الطبيعي، يعد وفق المقاييس الإنسانية والحضارية، تجاوزا نوعيا وخطيرا على قيم التعددية والتسامح وحرية العقيدة والرأي والتعبير.

لهذا فإننا نرى أن التنوعات الاجتماعية، بحاجة إلى إطار قانوني في إطار وحدة الوطن والمجتمع، حتى يتسنى لها من خلال هذا الإطار ممارسة شعائرها والتعبير عن ذاتها الثقافية، وتتواصل بحرية مع مصادر وأمهات كتبها الدينية والتاريخية والعقدية.

وإن منع هذه التنوعات من التواصل الحر مع مصادرها العقدية والثقافية، تحت دعاوى الحفاظ على الوحدة والوئام الاجتماعي، لا يؤدي إلى إرساء دعائم الاستقرار الثقافي والاجتماعي، بل العكس من ذلك تماما. إذ أن هذا المنع، يزيد من الاحتقانات، ويوفر فرصا عديدة لتجاوز القانون والدخول في مواجهات تهدد حالة الاستقرار والوحدة الوطنية .

فالحرية الثقافية بكل مفرداتها وآفاقها، حق طبيعي لكل التنوعات، وعلى مؤسسة الدولة أن تصيغ وتبلور قانونا يكفل هذا الحق لكل التنوعات والتعبيرات الثقافية والاجتماعية المتوفرة في المجتمع.

وإن الوحدات الاجتماعية والسياسية والوطنية القائمة اليوم في أصقاع الدنيا، ليس بسبب التجانس التام بين مكونات هذه الوحدات. فهي قائمة على التعدد واحترامه . والطريق الذي تعلمنا إياه التجارب لوحدة المتنوعين هي في خلق النظام الاجتماعي والثقافي والسياسي المتوازن والمرن في آن .

بناء الأطر والمؤسسات:

فتشكيل الأطر والجمعيات والمؤسسات الثقافية والأدبية والإبداعية الأهلية، هو حق ثقافي ـ طبيعي لكل التنوعات المتوفرة في المجتمع.

وهي مؤسسات تعنى بتنمية العمل الثقافي الوطني، واستيعاب كفاءات الوطن، والمساهمة في معالجة بعض المشاكل الاجتماعية والثقافية، والتي تتطلب تكاتف الجهود في سبيل بلورة رأي وموقف وطني تجاهها .

والتنوعات الاجتماعية، تعبر عن ذاتها الثقافية والاجتماعية من خلال هذه الأطر والمؤسسات، وتعمل على توفير كل متطلبات الساحة الثقافية والأدبية .

وإن غياب هذه التشكيلات القانونية، هو الذي يساهم في تشرذم النخب الثقافية والأدبية أو في انخراطها في أطر وأوعية غير رسمية تمارس من خلالها دورها ومسؤوليتها .

وإن المرحلة الراهنة تتطلب إطلاق مؤسسات المجتمع المدني (التعاقدي) لكي تمارس دورها في بناء الوطن وتنمية المجتمع وإشاعة ثقافة العمل المؤسسي، بحيث يتوفر الإطار القانوني لكل المبادرات الفردية والأهلية، التي تتطلع إلى تشكيل مؤسسة أو بناء جمعية وهيئة.

الحماية القانونية:

فصيانة حقوق الإنسان واحترام كرامته وخصوصياته الذاتية والثقافية، والعمل على سن القوانين والأنظمة التي تحول دون التعدي على هذه الحقوق أمر مطلوب في هذا السياق. فالاختلافات المذهبية والقبلية والعرقية والدينية، لا تبرر بأي شكل من الأشكال التعدي على حقوق الآخرين . فكل القناعات الدينية محل احترام وتقدير . والاختلاف في الفكر والانتماء، لا يقود إلى التعدي على الآخرين في وجودهم وأفكارهم، بل على العكس من ذلك، حيث إننا مأمورون دينيا من احترام الآخرين وممارسة العدل تجاههم والإحسان إليهم .. قال تعالى [يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط، ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى، واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون] (سورة المائدة، الآية 8).

 وعن معاوية بن وهب قال: قلت له عليه السلام: كيف ينبغي لنا أن نصنع فيما بيننا وبين قــومنا وبين حلفائنا من الناس ممن ليسوا على أمرنا؟ فقال: تنظرون إلى أئمتكم الذي تقتدون بهم فتصنعون، فو الله إنهم ليعودون مرضاهم ويشهدون جنائزهم، ويقيمون الشهادة لهم وعليهم ويــؤدون الأمــانة إليهم. (موسوعة الكتب الأربعة في أحاديث النبي والعترة،أصول الكافي ج 2، محمد بن يعقوب الكليني، ص 600، دار التعارف للمطبوعات، بيروت 1990م).

فلا نحارب الآخرين بسبب أفكارهم وآرائهم، كما إننا ينبغي أن لا نمارس عملية الإقصاء والإلغاء تجاه الآخرين بفعل اختلافنا معهم في دائرة من دوائر الانتماء لدى الإنسان . فالمطلوب دائما وفي كل الأحوال، ومن كل الأطراف، هو العمل على صيانة حقوق الإنسان وعدم امتهان كرامته . فالإنسان مطلقا مصان في ذاته وكل ما يتعلق به من أمور وقضايا. " والاحترام يفوق التسامح، فهو ينطوي على موقف إيجابي تجاه الغير في تعددية خلاقة . ولا يمكن لأصحاب القرار أن يقننوا الاحترام بالتشريعات، ولا يستطيعون إكراه الناس على احترام الغير . ولكن يمكنهم أن يدعموا الحرية الثقافية باعتبارها من الدعامات التي تقوم عليها الدولة . والحرية الثقافية، على خلاف الحرية الفردية، هي حرية جماعية .

فهي تشير إلى حق جماعة من الناس في أن تتخذ ما تشاء من أساليب الحياة . والحرية الثقافية هي ضمان للحرية ككل . فهي لا تحمي الجماعة وحسب، بل تحمي حق كل فرد من أفرادها . والحرية الثقافية بحمايتها لمناهج حياة الغير، وتشجع على التجريب والتنوع والخيال والإبداع " (التنوع البشري الخلاق، مصدر سابق، ص 13).

المشاركة وتكافؤ الفرص:

إذ أن من الحقوق الثقافية لكل تنوع اجتماعي، حق المشاركة في الحياة الثقافية الوطنية وتكافؤ الفرص، بحيث أن الإمكانات الثقافية الرسمية تصرف وتوزع بالتساوي، ويحق لكل الكفاءات والطاقات الوطنية أن تصل إلى أعلى المناصب والمسئوليات الثقافية . وأن لا تكون للانتماءات الطبيعية أو الحديثة دور في منع أو تهميش إنسان أو طرف من ممارسة دوره ومسئولياته على الصعيد الثقافي . فكما أن الثقافة الوطنية هي محصلة التفاعل الخلاق بين مجموع التعبيرات والمكونات، كذلك آفاق الحياة الثقافية وإمكاناتها، فإنها مفتوحة للجميع بدون التنوعات والخصوصيات، وإنما على قاعدتها ومن خلال التعامل الحضاري معها تتم المشاركة في تفعيل وتنمية الحقل الثقافي في الوطن والمجتمع .

والسلم الاجتماعي والاستقرار السياسي لا يمكن أن يتحققان في أي مجتمع متنوع ومتعدد إلا على قاعدة نفي التمييز والتعامل الحضاري من كل أشكال التعددية في المجتمع ومشاركة هذه التعبيرات في البناء والإدارة وتسيير الشئون العامة، هو المؤشر الأقصى لارتقاء هذا المجتمع وتوفره على سلم مجتمعي صلب واستقرار سياسي متين .

وعلى هذا نستطيع القول: أن محاولات التطهير العرقي والتمييز الطائفي والتعصب الديني وممارسة العنصرية، كلها قضايا وممارسات لا تفضي إلا إلى المزيد من التدهور الاجتماعي والفوضى السياسية والانهيار المجتمعي .

فالكراهية لا تصنع استقرارا والإكراه لا يقود إلى تغيير حقائق التاريخ والمجتمع . فالمشاركة لا تحمي الجماعات الخاصة فقط، " بل تحمي المجتمع بأسره حاضرا ومستقبلا . وعدم التفرقة ليس شعارا يرفع أو مقولة تقال، بل هو نظام قانوني ينص على ذلك، وممارسة مستديمة من مختلف المواقع تؤكد على خيار المساواة واستيعاب جميع مكونات الوطن والمجتمع .

ويعرّف مصطلح عدم التفرقة في القوانين الدولية والإنسانية، بأنه المساواة في الفرص أمام الأفراد دون اعتبار للجنس والدين، والعرق، والأصل الاجتماعي، واللغة والثروة . وذلك في القانون وسلوك الحكومة والأعمال الفعلية .

وتؤكد التوجيهات الإسلامية على ضرورة أن يتعامل الإنسان مع الآخرين بمقتضيات العدالة . قال تعالى [ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم] (سورة فصلت، الآية 34) .

فالتعامل الإيجابي مع الآخرين، هو الكفيل على امتصاص تشنجهم واستيعاب سلبيتهم، فتتحول من جراء التعامل الأخلاقي الرفيع إلى معرفة متبادلة قائمة على الصدق والاحترام العميق، ونبذ كل أشكال الضغائن .

وعديدة هي القصص الإنسانية التي تـــــؤكد على هذه الحقيقة . ويكفينا أن نشير أن أخلاق الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم الراقية أدخلت الكثير من الكفار والمشركين إلى الإسلام . فأخلاق الرسول صلى الله عليه وسلم ومداراته للناس وحسن تعامله معهم نقلت الكثير من الناس من موقع معاداة الإسلام إلى موقع المؤمن المدافع عنه. لذلك جاء في الحديث الشريف (دار الناس تستمتع بإخائهم، وألقهم بالبشر تمت أضغانهم) (ميزان الحكمة، محمد الريشهري، ج 3، ص 240، الدار الإسلامية، لبنان) . و (ما كرهته لنفسك فأكرهه لغيرك، وما أحببته لنفسك فأحبه لأخيك، تكن عادلا في حكمك، مقسطا في عدلك، محبا في السماء، مودودا في صدور أهل الأرض) (ميزان الحكمة، مصدر سابق، ج 6، ص 86).

و(ثلاث خصال تجتلب بهن المحبة: الإنصاف في المعاشرة والمواساة في الشدة والرجوع على قلب سليم) (ميزان الحكمة، مصدر سابق، ج 2، ص 205).

فالعلاقات الاجتماعية والثقافية والسياسية في الإطار الوطني والإنساني، ينبغي أن لا تكون قائمة على أساس التمييز والمفاضلة، وإنما على قدم المساواة، والكفاءة بصرف النظر عن منبتها وأصلها هي التي تتحمل المسئولية العامة . ولقد نصت المواثيق الدولية على حق التعبيرات الدينية والثقافية في التمتع بثقافتهم وممارسة شعائرهم الدينية واستخدام لغتهم، والمشاركة في الحياة الثقافية والدينية والاجتماعية والاقتصادية والعامة، وفي عملية اتخاذ القرار فيما يتعلق بالأقلية التي ينتمون إليها وتكوين اتحاداتهم والرقابة عليها، وإقامة علاقات حرة وسلمية مع سائر جماعات الوطن أو مواطني الدول الأخرى ممن يمتون لهم بصلة قومية أو عرقية أو دينية أو لغوية .

وخلاصة الأمر: إن التنوع الاجتماعي حقيقة إنسانية وتاريخية، ونحن بحاجة إلى رؤية حضارية جديدة للتعامل مع هذه الحقيقة، بما يؤدي إلى توظيف هذا التنوع في سياق إثراء مفهوم الوحدة الوطنية وتعميق خيار التعايش الواحد والسلم المجتمعي.

***

محمد محفوظ

يستند المورمونيون في نسخهم واجتراءاتهم على الكتابات المقدسة بخاصة، والديانات الإبراهيمية (الزرادشتية، الصابئة المندائية، اليهودية، السامرية، المسيحية، الإسلامية، السيخية، الطائفة الدرزية، البابية، النصيرية، الراستفارية، المعتقدات الباطنية) بعامة، على كونها – أي الديانة المورمونية – واحدة من الديانات المكتملة الأركان (وحي، نبي، كتاب مقدس، معبد، عُباد وأتباع) وذلك فضلًا عن انتمائها إلى الديانات التوحيدية. ويبرر لاهوتيوها أيضا نسخهم للشرائع السماوية السابقة على دعوتهم بسنة تلك الأديان وعلى رأسها المسيحية والإسلام والفرق والملل والطوائف والمذاهب ذات الصلة بتلك.

وخليق بنا قبل الخوض في قضية نسخ العقائد عند المورمونيين الوقوف بالنقد والتحليل على مصطلح الديانات الإبراهيمية، وذلك لأهميته حيث المشكلات والقضايا التي تثار في محيطه العقدي والفلسفي والسياسي من جهة، ودوره في تشكيل بنية العديد من المصطلحات المعاصرة وعلى رأسها مصطلحي وحدة الأديان وما بعد الدين وهو كذلك من أكثر المصطلحات انتشارًا في الأبحاث الفلسفية المعاصرة المعنية بتاريخ ومقارنة الأديان وتطور الفكر العقدي في العالم بوجه أعم من جهة ثانية.

الديانات الإبراهيمية:

يصعب على الناقد المحلل التأصيل لهذا المصطلح في ضوء الكتابات التاريخية، ويرجع ذلك لندرة الوثائق من جهة، وتشعب المصادر من جهة أخرى. فالديانة الإبراهيمية قد أرخ لها اليهود في كتابهم المقدس بـ 1900 ق.م وجعلوها أصل لكل الملل اللاحقة التي يعتبرونها هرطقات باطلة وتجديفات كاذبة، وذلك باستثناء الديانة الموسوية التي جاءت بالتوراة بعد ضياع صحف إبراهيم وهي الشريعة الأم التي تحمل كلام الرب وناموسه. أما المسيحية فهي تعتبر نبي الله إبراهيم من أكابر الأتقياء وأوائل الأصفياء وهو أب كهنوتي للسيد المسيح وذلك بحسب ما ورد في إنجيل متى (1:1) وكذلك في رسالة غلاطيا للقديس بولس (16:3) وهو كذلك أب لبني إسرائيل بحسب بما ورد في أعمال الرسل (26:13)، وهو بالجملة أرفع وأسمى قدراً ومثالاً بشرياً على الإيمان بالإله، وقد أكدت ذلك أقوال يسوع بنفسه في العهد الجديد. وجاء القرآن مؤكداً أن الدين عند الله الإسلام، والإسلام هو دين الحنفية “ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا ۖ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ”.

وقد أضحت بذلك الديانة الإبراهيمية هي الأصل الملي والمصدر الشرعي للعقائد السماوية، الأمر الذي أعطى للمصطلح مشروعية الانتشار في الأحقاب التاريخية المتواترة رغم غيبة التوثيق التاريخي لبنية الفكرة والمصطلح معًا.

وللكتابات الماسونية رأي آخر فيحدثنا محمد رشاد فياض رئيس محفل الشرق الأعظم الذي تأسس عام 1717م ببريطانيا أن مصطلح الديانات الإبراهيمية كان يتردد بين الأساتذة الماسونيين وفي جلساتهم المؤسسة لفكرة وحدة الأديان ويقول في ذلك: “الميمات الثلاث في الموسوية والمسيحية والمحمديّة تجتمع هكذا في ميم واحد وهي ميم الماسونية، وأن باء البوذية والبرهمية تجتمع أيضاً في باء البناء – بناء هيكل الإنسان – ثم يقول: الماسونية ليست عمالة لأي ديانة أو عنصرية معينة، إنها عقيدة العقائد وفلسفة الفلسفات وبالمبادئ الإنسانية هي مزينة”.

وقد تردد هذا المفهوم بين أوساط المثقفين والساسة والفلاسفة، وبات شائعاً منذ عام 1811م في كتابات الروحيين وعلى رأسهم جماعة الثيوصوفية والفرق الباطنية الصوفية فضلاً عن المحافل الماسونية في مصر والشام وتركيا.

ثم جاء الفيلسوف والمستشرق الفرنسي لويس ماسينيون (1883-1962) الذي يعد بحق الآب الروحي لهذا المصطلح في الفكر الفلسفي الحديث والمعاصر، فيرجع له الأثر الأكبر في الجمع بين التصور العقدي والتوظيف الماسوني والأيدلوجيّة السياسية، لهذا المصطلح، وذلك منذ مؤتمر الجزائر للمستشرقين عام 1906م، ومؤتمري الأديان في أثينا ولندن عام 1912م. ثم جماعة (البدلية) في دمياط بمصر عام 1934م مع ماري كحيل الحلبية (1889-1979م) التي أسست العديد من الجمعيات الخيرية للإخاء الديني أشهرها جماعة (إخوان الصف) بمصر عام1941. وأخيرًا أعلن صراحة عن مشروعه عن الديانة الإبراهيمية في مقاله الأشهر عام 1949م وكتابات تلميذه الكاهن الماروني اللبناني يواكيم مبارك (1924-1995م) الذي انصرفت جهوده لتدعيم الحوار بين الإسلام والمسيحية. وجميعهم كان يرمي إلى نسخ الأديان السماوية الثلاثة بالإضافة إلى بعض الديانات الوضعية والطوائف في سياق واحد؛ ليسهل في البداية السيطرة عليها بعد تحليل بنية ثقافاتها وإتاحة الفرصة أمام الماسونيين والسياسيين للتخطيط لتقسيمها.

في أخريات القرن العشرين يظهر في الأفق دور المخابرات الأمريكية والصحف الأوروبية والجامعات ذات الصلة المباشرة بالماسونية وعلى رأسهم جامعة هارفرد، ذلك للترويج للديانات الإبراهيمية بمعان ودلالات براقة تبعًا للثقافة السائدة المراد نشر المصطلح فيها. وذاعت رسالة وقصة السجين المصري في أمريكا ويدعى (سيد نصير- 1955م) وهو فنان بورسعيدي حصل على الجنسية الأمريكية وأدين بالتورط في قتل “الحاخام مائير كاهانا” زعيم حركة كأخ الإسرائيلية المتطرفة في 1990م وحكم عليه بالسجن مدى الحياة. وفحوى رسالته هو ضرورة الجمع بين شتات الموحدين ودياناتهم وعلى رأسها الديانات الإبراهيمية السماوية (اليهودية والمسيحية والإسلام)، وتلقف هذه الرسالة الفيلسوف السويسري هانس كونج (1928-2021م) الذي جعل الأخلاق التطبيقية أساس الحوار بين الأديان الإبراهيمية وأقوى الروابط التي توحد بين المؤمنين بها وذلك في المؤتمر الذي دعا إليه تقرير اللجنة العالمية للثقافة والتنمية الصادر عن اليونسكو عام 1995م.

والسياسيان الأمريكيان ديك تشيني (1941م) والرئيس أوباما (1961م) في مطلع الألفية الثالثة، ثم مع دعاة التطبيع وعلى رأسهم ترامب (1946م) ونتنياهو (1949م) عام 2020. وأخيراً اتفاق أبراهام الذي عقد في البيت الأبيض أغسطس 2020م بين الإمارات والبحرين وإسرائيل، فظاهره تسامح عقدي وباطنه علمنة ماسونية وجوهره تطبيع صهيوني وهيمنة أمريكية وما خفي كان أعظم.

والذي يعنينا في هذا المقام هو الكشف عن أبعاد المصطلح الذي تبنته الديانة المورمونية وبات البرهان الذي احتج به أنبياءها أمام الأغيار المعترضين على اجتراءاتها ونسخها للديانات السابقة عليها.

والجدير بالملاحظة في هذا السياق أيضا أن الديانة المورمونية في أمريكا لها نظير آخر في إفريقيا وهو متمثل في الديانة الراستافارية التي ظهرت عام 1930م بأثيوبيا وهي من أكثر المتأثرين بالمورمونية في معظم معتقداتها ولاسيما في قضية النسخ إذ جعلت من هيلاسيلاسي عوضا عن المسيح في قيادة الديانة المسيحية وحرب آخر الزمان.

وإذا ما عدنا للأعمدة الرئيسة التي تربط بين الديانات الإبراهيمية سوف نجدها تتلخص في : وحدانية الإله، المقصد العام لشريعة السماء، الإيمان بالبعث والآخرة حيث الثواب والعقاب، ذلك فضلاً عن يوم القيامة والصراع السابق عليه بين قوى الخير التي يقودها أحد الأبرار من الأنبياء أو الأتقياء (المسيا، يسوع، المهدي)، وأولياء الشيطان وقوى الشر.

حجية النسخ المورموني:

يجتهد أنبياء المورمونية المتتابعين في استنباط أدلتهم على مشروعية نسخهم للشرائع بحجتين : أولها نقلية مستمدة من العهد الجديد، والثانية عقلية لا ينكرها إلا المغيبون والحمقى لأنها تتصل بالواقع المعيش وكل مقتضيات العصر من علوم وفلسفات ونظم وسياسات. ومن الأدلة النقلية ما جاء به يسوع في العهد الجديد إذ قام بإلغاء بعض الأحكام وتعديل البعض الآخر؛ إذ جعل أسفار العهد الجديد (27) ناسخة لما ورد في أسفار العهد القديم (39)، وفضّل عطلة الأحد عوضًا عن السبت، معمدية المنتمين عوضًا عن الختان، والقربان عوضاً عن الذبائح، واستقبال القبلة إلى الشرق عوضًا عن جدارية “مزراح” بالقدس. كما عطل عقوبة الرجم للزاني والزانية التي رواها أبو التاريخ الكنسي يوسابيوسالقيصري (265-339م) لضعف مصدرها، وقدم التسامح والسلم على القتال والقصاص. وقد تحدثنا فيما سبق عن بعض التعديلات التي أجراها نبي المورمون على الكثير من المعتقدات اليهودية والمسيحية وها نحن نكمل ما بدأناه في السطور التالية.

جاء في إنجيل لوقا على لسان يسوع (36:39 – 5) قوله: “ليس أحد يضع رقعة من ثوب جديد على ثوب عتيق والا فالجديد يشقه والعتيق لا توافقه الرقعة التي من الجديد، و ليس احد يجعل خمرا جديدة في زقاق عتيقة لئلا تشق الخمر الجديدة الزقاق فهي تهرق والزقاق تتلف؛ بل يجعلون خمرا جديدة في زقاق جديدة فتحفظ جميعا، وليس أحد إذا شرب العتيق يريد للوقت الجديد لأنه يقول العتيق أطيب”.

يبدو أن جوزيف سميث تأثر بهذا القول عند تعديله أو نسخه للأقوال والأحداث والقصص والأحكام الشرعية الواردة في الكتاب المقدس، فجعل النسخ لاغيًا لما قبله وليس مكملًا أو معدلًا أو شارحًا، وبنفس المعيار أوّل قانون الإيمان ومفهوم الخلاص وحقيقة الصراع الذي سوف يأتي في آخر الزمان. غير أنه أهمل قول يسوع أيضاً الذي ورد في إنجيل متى (5- 22:17) ’’لا تظنوا اني جئت لانقض الناموس أو الأنبياء ما جئت لانقض بل لأكمل، فاني الحق أقول لكم إلى أن تزول السماء والأرض لا يزول حرف واحد أو نقطة واحدة من الناموس حتى يكون الكل؛ فمن نقض احدى هذه الوصايا الصغرى وعلم الناس هكذا يدعى أصغر في ملكوت السماوات    وأمّا من عمل وعلم فهذا يدعى عظيماً في ملكوت السماوات؛ فإني أقول لكم إنكم ان لم يزد بركم على الكتبة والفريسيين لن تدخلوا ملكوت السماوات، قد سمعتم انه قيل للقدماء لا تقتل ومن قتل يكون مستوجب الحكم، وأما أنا فأقول لكم ان كل من يغضب على أخيه باطلا يكون مستوجب الحكم ومن قال لأخيه رقا يكون مستوجب المجمع ومن قال يا احمق يكون مستوجب نار جهنم’’.

ويشير القول السابق إلى وحدة الناموس وحرص يسوع على تصحيحه أو تعديله وليس إلغاءه كلية كما فعل أنبياء المورمون.

ويبدو أن نبي المورمونيين قد حاول الجمع بين المنحى التفكيكي في قراءة النص المقدس تارة والنهج البنيوي النسقي السياقي تارة أخرى، والتأويل الذاتي الحر تارة ثالثة. لذا قد اختلف المفسرون حيال موقف نبي المورمونية من الديانات السابقة، فذهب البعض إلى أن الأساس الذي أقام عليه دعوته النقضية قد انطلق من تعاليم أريوس المنطقي ولا سيما في قضية (الكروستولوجي) أو طبيعة المسيح وقانون الإيمان النيقي، في حين ذهب البعض الآخر إلى أن الأثر الأكبر الواضح في كتاب المورمون هو الأثر التوحيدي المصري والفكر العقدي الإسلامي الذي تأثر به سكان أميركا قبل نزوح الأوروبيين إليها أي في الفترة التي اكتشف فيها العرب المسلمون وجود القارة الأمريكية على الشاطئ الثاني من المحيط الأطلنطي أو بحر الظلمات كما كانوا يسمونه، حيث كان سكان هذه الأرض من الموحدين المؤمنين بوحدانية الإله من المنظور الإخناتوني والتعاليم الإسلامية.

وتشهد بذلك كتابات أمير البحار الأندلسي خشخاش بن سعيد بن أسود (871/957م). وعثور لويس بيركلي على آنية من الخزف تحوي نقوداً رومانية ترجع إلى القرن الرابع الميلادي وأخرى إسلامية تعود إلى القرن الثامن الميلادي وذلك في القرن التاسع عشر. وتقطع هذه القرائن بأن الأفكار العقدية والثقافة الرومانية والإسلامية كانت معروفة لسكان الأرض الأمريكية في تلك الأحقاب التاريخية. ونستخلص من ذلك كله أن الإشارات التي وجدت في كتاب المورمون تحدثنا عن الأثر المصري واليوناني وتعكس دراية نبي المورمونية بتلك الحقائق عند وضع روايته عن الألواح الذهبية المقدسة التي اتخذ منها حجّة على نبوته.

وللحديث بقيّة

***

بقلم : د. عصمت نصار

 

لقد اجتهد اللاهوتيون المورمونيون في ابتداع الكثير من المعتقدات عوضاً عن مثيلاتها في العقيدة المسيحية الأرثوذكسية والإنجيلية، لذا قوبلت بالارتياب في مصدرها والشك في مصداقية تعاليمها (من قبل جل الطوائف اليهودية والمسيحية معاً)، لأنها لا تحمل في بنيتها مقاصد مقبولة عند المُفكرين الوضعيين أو الفلاسفة العقليين من جهة، أو المتدينين العوام من جهة أخرى. في حين نجد من استهوتهم كتابات المورمونيين وأحاديثهم – التي روجت لها عشرات قنوات الإعلام من صحف وإذاعات وقنوات تلفزيونية ومواقع بحثية وجامعات لاهوتية بـ 15 لغة من بينها العربية والفارسية- لا يعبئون بجحود معارضيهم، بل زاد إيمانهم بتصريحاتهم الجامحة وشرائعهم الجانحة. ويبرر العديد من المحللين جرأتهم واجترائهم، بقوة نفوذ موجهيهم من أصحاب رؤوس الأموال والساسة والمشاهير من الفنانين والرياضيين. ناهيك عن الأموال التي ينفقونها في جمعياتهم الاجتماعية وقوافلهم التبشيرية، فقد بلغت دخول أثريائهم نحو 50 مليار دولار سنويا، وقد سعى منظريهم بشغل العديد من الوظائف المؤثرة في أمريكا ورُشح أحدهم وهو السيناتور ميت رومني  (1947- …) من قبل الحزب الجمهوري لرئاسة الولايات المتحدة الأمريكية عام 2012 رغم كراهية الأمريكان لهم ونفور المسيحيين واليهود من وجهتهم الصهيونية.

وترجع العديد من الدراسات (المعنية بنقد الديانات الحديثة) أن ادعاء أنبياء المورمونية بأنهم مفوضون في نسخ الشريعة (نقض، إلغاء، تعديل، تأويل) أو بالإضافة على ما ورد بها من أوامر ونواهي تبعاً لمقتضيات الواقع والثقافة السائدة، هو العلة الحقيقية لشطحاتهم وبدعهم. تلك الحقيقة التي كشفت بوضوح عن تأثرهم الكبير بالديانات الوضعية التي خرجت من رحم الحركات الصهيونية أو الاتجاهات اليهودية على أنها ثورات حداثية أو حركات إصلاحية من جهة، أو المخططات الماسونية من جهة أخرى. تلك التي أرادت مصادرة المذهب البروتستانتي إلى وجهتها الفلسفية النقديّة في قراءة النصوص المقدسة أو تخليص الديانتين اليهودية والمسيحية من الشرائع غير المقبولة في نظر الاتجاه العلماني المعاصر. وسوف نعرض في عجالة لأهم تلك المخالفات والمؤثرات.

ــ عقيدة الخلاص والفداء:

يميز المورمونيون بين الخلاص العام وهو “خلاص النعمة” لكل الموجودات المُكلفة من إنس وجان وشياطين، فجميعهم سوف يتم خلاصهم بموجب بعثهم من الموت وذلك بحسب أعمالهم منذ ولادتهم الأولى. وسوف ينقسم الذين تم خلاصهم وحسابهم في الملكوت السماوي إلى درجات يُقدرها إله السماء بغض النظر عن دياناتهم التي اعتنقوها منذ نشأتهم. فالبعث والحساب عند المورمونيين يُعد ضرباً أو درجة من درجات الخلاص. أما الفُجار من الإنس والجان فلا يُبعثون ولن يتم خلاصهم وذلك لإنكارهم الحقيقة الإلهية وكفرهم بالإيمان الرباني.

أما الخلاص الخاص فلا يحظى به إلا الأتقياء والأبرار وأصفياء الروح والأنفس، فهم دون غيرهم تبعث أرواحهم في المعية الإلهية فمعظمهم من المورمونيين والرسل والصالحين من أرباب الديانات الأخرى والذين شفع لهم ذويهم وأهدوا لهم كتاب المورمون بعد موتهم، فجميع هؤلاء سوف يُخلدون في مملكة السماء – شأن العودة الأبدية عند الهندوس وأفلاطون والاحتراق الكلي عند الرواقيين والنيرفانا عند البوذيين، أو عالم الخلود عند المصريين حيث الجيل الذهبي الذي تحدث عنه أفلاطون.

أما الأشرار والعصاة وشياطين الإنس والجن لهم مراتب أيضاً في الحساب الأخروي، فأشرار البشر يُحشرون في مكان يدعى “مملكة تلستال” وهي أدنى ممالك السماء لينالوا قدراً من العقاب على ما ارتكبوه من ذنوب وآثام، في حين يُسجن الشياطين في مملكة الجحيم الأبدي، بينما يسكن جاحدي النعمة وأرباب الخطايا من المورمونيين “مملكة تريستال” وهي أقل درجات التعنيف والتوبيخ وعدم القبول الإلهي، وذلك لأنهم شعب الله المختار الذين أمانوا بالمورمون غير أن الشيطان نجح في إغوائهم. وهؤلاء لن يخلدوا في عالم العصاة، بل سوف يقضون فيه حقبة من الزمان حتى يتم تطهيرهم ويحظون بالمغفرة الربانية.

فعقيدة البعث عند المورمونيين تتصل بعقيدة الفداء وعودة المسيح في آخر الزمان فقد أراد رب السماء أن يطمئن أبناء آدم من البشر وأقرانهم من الجن والعفاريت -الذين حاكوا البشر الآدميين في أفعالهم – بأن أباهم السماوي قد غفر خطيئة آدم وأرسل أكبر أبنائه الإلهيين وهو يسوع بن مريم ليُسفك دمه ويموت على الصليب فداءً وخلاصاً لهم. وسوف يتم لهم ذلك بعد قيامهم من بين الأموات فلا يُحاسبون على جحد آدم نعمة الميلاد البشري وخطيئته الأولى، ولكنهم سوف يُحاسبون عن خطاياهم اللاحقة وذنوبهم التي ارتكبوها رغم تحذيرهم من عقوبة مخالفتهم للناموس في حياتهم الأولى على لسان الأنبياء والرسل والمرشدين. كما أن العدل الإلهي يقتضي بألا يُخلّص سوى الأتقياء وأن ملكوت السماء لا تُفتح أبوابه إلا أمام الأخيار والأبرار ودونهم يسكنون طبقات أدنى؛ الأمر الذي يكشف زيف المعابد اليهودية رواية الكنائس المسيحية – في نظر المرمونيين – التي تُعلّم بأن مجيء المسيح وصلبه يكفي لخلاص من أمن به وبألوهيته.

وقد تأثر سميث في ذلك بعقيدة “الكارما الهندية” “الجزاء من جنس العمل”. وقد عدّل سميث بذلك شعار (شعب الله المختار) من اليهودية و(خراف بني إسرائيل الضالة) من المسيحية، وجعله حكراً على المورمونيين فقط.

ويمكننا أن نلاحظ تسامح أنبياء المورمونية مع الأغيار أي الذين لم يؤمنوا بتعاليمهم، ويتمثل ذلك في الاعتراف بخلاص خيارهم ونجاته من العقاب، وإن كان في مرتبة أدنى من المورمونيين، وذلك على العكس من الديانات السماوية الثلاث التي تؤكد أن شعب الله المختار في اليهودية والمسيحية هم الذين سوف يتم خلاصهم فقط، وإلى مثل ذلك ذهبت بعض الفرق الإسلامية المعاصرة مثل الخوارج وغلاة الشيعة وداعش ومن نحا نحوهم من الذين أولوا مصطلحي الفرقة الناجية وخير أمة.

 ــ معمودية الأموات:

لم تتوقف رسالة المؤمنين بالعقيدة المورمونية عند تعميد أبنائهم في سن الثامنة أو هداية ذويهم الأحياء ليتم خلاصهم، بل اضطلعوا بمهمة أخطر ألا وهي تخليص أباءهم الذين ماتوا على ضلالهم، وتصديقهم للديانات السابقة على البشارة المورمونية. ويختلف اللاهوتيون المورمونيون في ذلك عن سائر المذاهب المسيحية، ففي مقدور الكنيسة المورمونية أن تهب الخلاص والتوبة إلى الذين انتقلوا إلى الملكوت السماوي، ليس بالترحّم عليهم والدعاء لهم فحسب؛ بل باستدعائهم واستحضار أرواحهم والحديث معهم وإقناعهم بعقيدة المورمون. وذلك بتأثير من الجمعيات الروحية الحديثة التي أباحت الاتصال بعالم الأموات والاستعانة بهم في قضاء الحاجات؛ الأمر الذي يُناقض ما جاء في سفر التثنية من التوراة الذي نهى فيه الرب عن الاتصال بالعالم الآخر وأرواح الموتى والجن والعفاريت والسحر وكيد الشياطين، وقد توعد الرب من يفعل ذلك بالعذاب في الآخرة والخسران في الدنيا. غير أن اللاهوتيين المورمونيين نسخوا هذا النص. ويضيف كهنة المورمونية أن في مقدور اللاهوتيين الربانيين الإتصال بعالم الأموات الذين ينتظرون في البرزخ يوم القيامة في آخر الزمان فيستنهضوا أرواحهم ويبلغونها ببشارة المورمون ورسالة الرب التي هبطت على شعب الله الصهيوني الحقيقي الساكنين في أمريكا ويفوضهم الرب – شأن الربانيين التلموديين- في مخاطبة الأرواح الراغبة في التوبة والمتشوقة للخلاص المورموني الذي تبشر به كنيسة قديسو آخر الأيام في كل أنحاء الدنيا. ويزعمون أن تلك القدرات قد منحها يوحنا المعمدان لنبي المرمون وعلّمه معمودية هارون شقيق موسى وزوده بالنصائح التي وردت على لسان بطرس ويعقوب ويوحنا صاحب الرؤية وغيرهم من القديسين المسيحيين التي تجلت أرواحهم وظهرت صورهم للموعودين من اللاهوتيين المُكلفين بهداية سكان العالم الآخر، وقد نقلها بدوره لخلفاءه المورمونيين.

ويبدو تأثر اللاهوتيين المورمونيين بفرقة الربانيين اليهودية والحسيديين العلمانيين (الذين ظهروا في أخريات القرن السابع عشر وجمعوا بين السحر والشعوذة والكهانة والزهد والفكر الليبرالي والاقتصاد الرأسمالي والأخلاق الفردية في بنية آراءهم)، مع عدم تمسكهم بحرفية الكتب المقدسة الكلاسيكية، والترويج للتفكير العلمي ومصطلحات: النهضة والاستنارة والمدنية العلمانية والحداثة وما بعد الحداثة وغير ذلك من شعارات إصلاحية، وذاعوا ذلك كله بين الشباب المتطلع لغد أفضل من شتى الديانات. وقد نشطت الجماعات اليهودية المعاصرة في أمريكا منذ منتصف القرن التاسع عشر الحاملة لهذه الأفكار على وجه الخصوص، واتخذت من الليبرالية والرأسمالية والنفعية دستوراً لا غنى عنه للأمم الراغبة في التقدّم العلمي وقيادة العالم.

ــ تعدد الزوجات:

تحدثنا التوراة في سفر الملوك واحد الإصحاح 11 وسفر صموئيل الإصحاح 5 وسفر التكوين الإصحاح 29، 30 وسفر التثنية الإصحاح 21، وسفر أشعياء الإصحاح 4 عن العديد من الإشارات الصريحة بتعدد الزوجات. بينما في المسيحية قد استند اللاهوتيون على ما جاء في سفر التكوين (2:24) “لذلك يترك الرجل أباه وأمه ويلتصق بامرأته ويكونان جسداً واحداً”، لتحريم التعدد، ويضيف “فيلو ثاؤس” (رئيس الكنيسة الكبرى المرقسية بالقاهرة سابقاً) في كتابه (قانون الكنيسة القبطية) عام 1876م “لا يجوز للمسيحي أن يتخذ سوى امرأة واحدة في الحال لا أكثر، وإن توفيت أو افترقت عنه شرعاً له أن يتزوج بأخرى”. أما في كتاب المورمون فورد في سفر يعقوب (2:2،27) أن الرب قد أستاء من تعدد الزيجات وكذا عادة التسّري فنصح المؤمنين بإتيان زوجة واحدة. ورغم ذلك نجد سميث نبي المورمونية يدعي أن يسوع قد أوحى له بالعودة إلى نصوص التوراة حيث التعدد ونسخ معتقد الكنائس الأرثوذكسية وما تبعها. وذلك رغم أنف الحكومة الأمريكية التي فرضت عقوبات مشددة على المورمونيين الذين أباحوا التعدد في ملتهم. ويبرر اللاهوتيون المورمونيون العودة إلى شعيرة التعدد بأن الرب سوف يكافئ المؤمنين مئات الزوجات والسراري بعد بعثهم في الجنة، وقد تزوج سميث نبي المورمونيين الأول بعشرات الفتيات اليانعات والسراري الفاتنات، الأمر الذي يقطع بعدم حرمانية التعدد عندهم غير أنهم حرموا الطلاق ولم يثبتوا في سجلات كنائسهم إلا من تزوج بمورمونية بيضاء وأعتبروا دونها تسرّي أو زواج متعة.

ــ العنصرية والشيفونية:

لم تتحرر المورمونية من العنصرية والشيفونية الغربية بوجه عام والعصبية اليهودية بوجه خاص، إذ رفضت تعميد أو قبول الزنوج تحت مظلة كنيستها، وذلك استناداً على ما جاء في سفر إبراهيم من إنجيل مورمون “أن الذين جاؤوا من صُلب كنعان ملعونون لأن كنعان كان أسود.” من صلب حام وقايين (أي قابيل) الذي قتل أخاه هابيل أبن أدم. وقد تسامح اللاهوتييون المورمونيون المحدثون فقبلوا الزنوج الذين جاؤوا طوعاً بغير بشارة طالبين الانضمام إلى الكنيسة المورمونية غير أن هذا الانضمام ظل غير رسمي ولم تتم لهم العمادة حتى عام 1954م وقد اشترط اللاهوتييون أنذاك قبول الزنوج كخدام أو عبيد دون أن يُمنحوا البركات مساواة بالمورمونيين البيض الأحرار، وذلك في الملكوت الأعلى. كما حذرت الكنيسة زواج المورموني الأبيض من الزنوج رجلاً كان أو امرأة لأن الرب يبغضهم ولا يبارك نسلهم. وفي عام 1978م خضعت الكنيسة الأمريكية لجمعيات حقوق الإنسان التي يقودها الماسونيون فسمحت للزنوج بالعمادة مع كراهتها لزواج المورمونيين البيض من الزنوج.

ــ بين الراديكالية والإباحية:

يحرم معظم المورمونيين تناول الخمر والتبغ والقهوة والشاي والمخدرات، ويرفضون العري والإجهاض والمثلية ويحرصون على عذرية الفتيات قبل الزواج واحتشام ملابسهن، ولا يسمحون بالعلاقات الجنسية خارج إطار الزواج، ويعتبرون الصلاة والصوم فروض واجبة ولها كفارة ويؤكدون على التماسك الأسري ورعاية الفقراء والمعوذين من المورمونيين. وتعد جامعة السياحة الدراسية بالقدس من أهم دعاة التعاليم المورمونية في الشرق الأوسط، غير أنها محظورة من قبل الفلسطينيين والإسرائيليين معاً، وبات التبشير بتعاليمها سرًا بين الفلسطينيين وغيرهم من الذين طمعوا في استكمال دراستهم في أمريكا. في حين نجد المورمونيين العلمانيين يبيحون التسري والتعدد الشرعي للزوجات، ولم ينكر نبيهم (وارين جيفز) كثرة زوجاته وعشيقاته؛ الأمر الذي انتهى به إلى السجن مدى الحياة. بيد أن بعض طوائفهم في ولاية يوتاه الأمريكية قد أعلنت تحريم الإباحية الجنسية والشذوذ والإجهاض، ومال قادتها إلى دراسة الفقه الإسلامي والأخذ عنه، ورحبوا بهجرة العراقيين والسوريين إلى أمريكا رغم معارضة أكثر من 30 ولاية لهذا الإجراء. وسعى الملياردير السياسي الموروني ميت رومني – حاكم ولاية ماساشوستس من عام 2003 إلى 2007- إلى الجلوس على كرسي الرئاسة في البيت الأبيض منافساً للرئيس أوباما، تحقيقا لما جاء في كتاب المورمون بشأن علو سلطان المورمونيين وقيادتهم العالم.

وقد اختلف الكثيريون من المحللين حيال تفسير تعاطف المورمونيين مع المسلمين، فبيّن أحدهم أن شعورهم بالاضطهاد داخل المجتمع الأمريكي هو الذي دفعهم لنحت روافض لهم أو صناعة أذرع وأبواق لعقيدتهم بين المسلمين في آسيا وأفريقيا، وقد أكدت ذلك صحيفة وول ستريت وصحيفة بلومبرغ وشبكة إن بي سي نيوز. والجدير بالذكر أن هناك مورمونيين غير محافظين على الثوابت الدينية أو الآداب التي حث عليها الكتاب المقدس غير أنهم منتسبون للفكر المومرموني كأيدلوجية صهيونية منفتحة على العالم بموجب منطق المنفعة وسلطة رأس المال. بينما كشف تفسيراً آخر عن نزعاتهم الصهيونية التي تنشد إضعاف طائفة الأرثوذوكس في مصر وتأييد الشيعة في سوريا ولبنان والعراق واليمن وذلك لضمهم جميعا للفكر المورموني في المستقبل لينطلقوا جميعاً من القدس للقضاء على كل الأغيار المناهضين بقيادة يسوع كما ذكرنا.

ويشير الكاتب الأمريكي مايكل دبليو هومر في كتابه (العلاقة الديناميكية بين الماسونية والغطاء المورموني)

The dynamic relationship between freemasonry and Mormonism 

والكاتب المصري رأفت ذكي في كتابه (المورمون صناعة الآلهة) وكذلك الكاتب اللاهوتي الأرثوذكسي حلمي القمص يعقوب (1950م- …) في كتابه (عبادات الشيطان وسلطان القديسين): أن تعاليم المورمونيين لا تخلو من الهرطقات الشيطانية وعلى رأسها إنكار ألوهية المسيح وقانون الإيمان ووقائع يوم القيامة الواردة في الكتاب المقدس بالإضافة إلى تأليه أنبياءهم وقادتهم الروحيين، أما تمسكهم بالفضائل والأخلاق الدينية لا يعدو أن يكون تمسكاً ظاهرياً، غير أنهم على النقيض من ذلك تماماً في السر وأن صهيونيتهم لا تخف على أحد، تلك التي تزعم أنهم مفوضون من قبل الرب بحكم العالم ومراجعة دساتيره وتعيين ملوكه وحكامه وأن روح يسوع سوف تحل في جسد كل من يتولى رئاسة أمريكا من المورمونيين لقيادة جيوش الرب للقضاء على الكافرين بملكه.

ويضيف بعض المعنيين بمقارنة الأديان المعاصرين: أن معظم الرموز التي يستخدمها المورمونيون منقولة حرفيًا من التعاليم الماسونية، ويستشهدون في ذلك بالعلاقة التي كانت تربط بين نبي المورمونيين “جوزيف سميث”، والمحافل الماسونية التي ضمت عقيدته إلى دعاتها ومنظريها وذلك منذ عام 1842م. ومن أشهر الرموز المشتركة بينهما (العين، خلايا النحل، المربع، الشمس والنجوم). غير أن الماسونيين قاموا بقتله لمخالفتهم. ثم انقسمت إلى شعبتين صهوينية يمينية وماسونية منذ عام 1966م.

(وللحديث بقيّة)

***

بقلم: د. عصمت نصار

 

إنّ من يتأمل تاريخ الديانات الوضعية الحديثة سوف يُدرك أنها قد انطلقت استجابة لآراء ونظريات ومذاهب وانقلابات سياسية وأهواء أخلاقية رغبةً في إصلاح قضايا اجتماعية وإرضاءً لنزاعات إنسانية، وذلك كله بعد  أن عجزت الديانات السماوية القائمة في زعم أربابها من تحقيق الأمن والسلم والسعادة للمؤمنين بها.

وبغض النظر عن البيئات الثقافية التي ساعدت في انتشار هذه المِلل، والمصدر الرئيس الذي حَبك وسَبك تلك التصورات الجامعة بين السياق الأسطوري والمسحة الروحية من جهة، والرؤى النقدية العقلية العلمية من جهة ثانية، والأزمة الأخلاقية والفراغ العاطفي والرغبة في إصلاح الواقع من جهة ثالثة، والتأكيد على قدرة الإنسان على خلق العالم الموازي الشاغل بالأسرار والغيبيات والمعجزات واجتذاب المؤيدين للحق المغترب والمهدي الغائب المؤيد من السماء من جهة رابعة، كل ذلك سوف يمكن المُفكك والمُؤول لهذه الأنساق الاعتقادية أن جميعها لم يضف على الواقع المعيش إلا مزيدٌ من القلق والخوف واليأس والاغتراب والرغبة في الانتحار والعنف والصراع وغير ذلك من الآلام التي يمسي فيها الإنسان بائساً حزيناً مستلباً.

وسوف يتعجب المتأمل من تلك الأكاذيب البدعية والحيل التي اصطبغت بها بنية جُل الديانات الوضعية، وتلك النسقية المضطربة الجامعة بين المقدس والمدنس، وذلك التلفيق بين العقيدة والفلسفة، وطرافة النسيج الخيالي الجاذب للعقلاء والمُفكرين قبل الجهلاء المُعدمين من العوام المعوزين في مجتمعات جحدت الغيبيات واتخذت من الإلحاد عقيدة حسيّة، ومن الشهوات المادية سبيلاً للعيش ودستوراً للحياة.

وخيرُ شاهد على ما سبق هو ما ورد في الديانات الأمريكية المعاصرة، وعلى رأسها المورمونية صنيعة الفكر الصهيوني الراغب دوماً في الترويج لهذه الأفكار العفنة المخربة.

أهم المعتقدات والشرائع التي روج لها المرمونيون:

أصول التبشير:

يقوم شبان من المبشرين الأمريكان بدق أبواب مساكن المرغوب في اجتذابهم وإقناعهم بالانتماء إلى الملة المورمونية حاملان العهد الجديد وكتاب المورمون ليعلمان بهما أهل الدار التي طرقا أبوابها شريطة أن يمضي سنتان على عملية التبشير قبل أن يعاود أحد المبشرين طرق أبواب هذه الدار ثانية وذلك لمنح الفرصة الكاملة أمام المريدين بالدخول إلى الملة طواعية بعد استيعابهم لأصول التعاليم وقواعد العقيدة عن طريق الحوار الدعوي الذي يتدرب عليه المُبشرين قبل مباشرتهم لأعمالهم، ويؤكد المؤرخون للمورمونية أن دور الدعاة المُبشرين – الذي بلغ عددهم نحو 30 ألف مُبشراً في نهاية القرن العشرين- لم يقف عند الدعوة والنصح والإرشاد بل أمتد إلى تقديم الكثير من المعونات المادية للفقراء ورعاية أسرهم اجتماعياً وصحياً وتعليمياً في الجامعة التي أُطلق عليها “بريغام يونغ”، وقد تأسست عام 1875م في مدنية بروفو بولاية يوتاه بأمريكا التي شيدتها الكنيسة المورمونية، وأضحى عدد طلابها نحو 25 ألف طالب.

ومن الطريف أن نجد أتباع المورمونية في مصر منذ عام 1977م، وذلك على يد بعض المبشرين العاملين بالجامعة الأمريكية بالقاهرة. وقد احتجت الكنيسة الأرثوذكسية على السماح لهم بالتبشير العلني بحجة أنها عقيدة فاسدة ومخالفة ومناهضة لتعاليم الكنيسة المصرية؛ بل اعتبرتها  إحدى الفرق الضالة والمُهرطقة. وبلغ عدد المورمونيين الأمريكان في مصر عام 1995م نحو 500 مورموني. ثم توسع المُبشرون الأمريكان في جذب الأتباع من المصريين تحت ستار التبشير بالبروتستانتية والكنيسة الإنجيلية الأمريكية. وكذا إيعاد المستجيبين بالكثير من التسهيلات للعمل بأمريكا. وتشير بعض الدراسات المعاصرة إلى انتشار هذه العقيدة بين اللبنانيين والأفارقة، وذلك تحت رعاية الدبلوماسيين الأمريكان المنتمين إلى المورمونية منذ بداية الألفية الثالثة.

قدسية الكنيسة المورمونية وتكفير الأغيار:

الإيمان بأن كل الكنائس المسيحية السابقة فاسدة والتعاليم اليهودية التوراتية الواردة في الكتاب المقدس محرّفة ويبدو كل ذلك في أقوال سميث (نبي المورمونية) أن اللاهوتيين الذين زعموا بأنهم ينطقون باسم الرب أبناء زانيات وأرباب الفُحش والكذب والاجتراء على يسوع المسيح، وأن ما جاءوا به في كتبهم محض تلفيق وتدليس، وأن كتاب المورمون هو أصدق كتاب مقدس على الأرض، وأن الكفر بكل ما هو دونه واجب، وأن الشريعة المورمونية ناسخة لكل الديانات السابقة بما في ذلك الإسلام. وأن النبي (سميث) هو الذي تلقى كلمات المخلّص يسوع المسيح، ومن ثم كانت طاعته واجبة وكنيسته هي المرشد الصادق للطوباوية حتى آخر الزمان. وأن أي شك أو ارتياب في كتاب المورمون يرجع إلى حديث الشيطان ووسوسته، وكيد المُحرّفين الذين أخفوا بعض شذرات كتاب المورمون المقدّسة حتى لا يُفضح غييهم وإفكهم.

وقد قُوبلت هذه الآراء بالرفض والاستنكار من قبل كل الطوائف المسيحية وجُل المذاهب اليهودية ويستثنى من ذلك معظم الصهاينة والمسيحيين الإنجيلين الأمريكان الذين آمنوا بالمورمونيّة. وتتمثل أهم الاعتراضات في أن حديث “سميث” عن الكتاب المقدس يخالف الحقيقة، وأن العبارات المنقولة من أسفاره وإصحاحاته التي استشهد بها مُخالفة لمتن الكتاب المقدس نسخة الملك جيمس التي استغرقت ترجمتها إلى الإنجليزية الفترة من 1604م إلى 1611م، وظهرت طبعته الأولى عام 1612م. ويعني ذلك أن هذه الديانة قد أرتدى قساوستها عباءة المجددين والمصلحين لإنقاذ الشعوب التي تعاني من قسوة العوز المادي والفراغ الوجداني بخلاص دنيوي وسعادة أخروية للترويج لديانتهم .

نسخ قانون الإيمان وطبيعة المسيح:

أمّا زعم “سميث” بما جاء على لسان الرب يسوع المسيح بشأن قانون (الإيمان النيقي) المتفق عليه منذ 325م – وعُدل في 381م في مجمع القسطنطينية الأول – فهو لا يخلو من التدليس، ولا سيما المواضع التي ذكر فيها برهان نبوته وأخبار اليهود الصهاينة وكنيسة آخر الأيام وغير ذلك من الأكاذيب بداية من الألواح الذهبية ونهاية بنسخ الشريعة اليهودية وأقوال بطرس وبولس ويوحنا. بالإضافة إلى المسائل ذات الصلة بطبيعة السيد المسيح وخلاصه؛ فالإله في العقيدة المورمونية ليس مُشخصاً وليس له لحم ودم وطبيعة إنسانية كاملة كما يزعمون، وأنه لم يخلق العالم من العدم؛ بل كان عمله أقرب إلى التنظيم والتهذيب والهندسة شأن إله أفلاطون، وأن أبوته للبشر أبوة غير حقيقية قريبة الشبه بقصة ميلاد البشر في الأساطير الإغريقية والشرقية القديمة مثل (أسطورة الإله زيوس في الإغريقية)، والإله اندرا في الأساطير الهندية، والإله تينيا في الأساطير الأتروسكانية الإيطالية نحو 900ق.م، وكذا أسطورة إبيمثيوز اليونانية)، كما أكد المرمونيون أنه (أي يسوع المسيح) ليس إلهاً منفرداً للكون؛ بل هو عضو في مجمع الآلهة واختص بألوهية سكان العالم الأرضي، وأنه توأم الشيطان، وابن مريم من أحد آلهة السماء، وبكورة الاتصال الجنسي غير المباشر بين الآلهة والجنس البشري.

أمّا الروح القدوس فهو المسئول عن خلق أرواح الإلهة الصغرى في الكواكب الأخرى. وبذلك يُصبح الثالوث المُقدس المورموني على النقيض تماماً ممّا تؤمن به كل الكنائس المسيحية على اختلافها؛ فيسوع المسيح عند المورمونيين ليس إلهاً للكون بل هو عضو في مجمع الآلهة، وأنه مخلوق وليس خالق وله كل الصفات الآدمية وأنه ولد من اتصال جنسي بين الآب إله السماء والكون، ومريم – على نحو خاص- وكان ليسوع زوجات وأبناء وأنه مخلّص بالتفويض وليس له إرادة حرة مُطلقة، وأن الأقانيم الثلاثة التي تتحدّث عنها الأناجيل المسيحية ليست كياناً واحداً في شخص المسيح، بل هي أقانيم منفصلة في الوضع والحالة والزمان والقدرة ويستحيل جمعها في شخص واحد حتى على سبيل المجاز، وأن نصوص العهد الجديد مضطربة ومتناقضة في حديثها عن سيرة المسيح بداية من ولادته وصفاته ومعجزاته.

وعليه؛ لا يمكن الاعتماد أو الاحتجاج بها في سياق الحديث عن طبيعة المسيح. ومع ذلك كله فالعقيدة المورمونية تؤمن بمجد المسيح وقداسته وطهارته وصَلبه وعودته ثانية في آخر الزمان.

ويجمع اللاهوتيون المسيحيون على هرطقة تعاليم المورمونيين وتجديف زعمهم بأن نبيهم نبي آخر الزمان المتمم للشريعة والمُصحح لتحريف الكتاب المُقدس والناسخ للعقائد الإيمانية ومانح حرية تأويل الوحي للعقول البشرية بمعزل عن سلطة الكنيسة وأوهام القساوسة. وكل ذلك لا سند له ولا برهان على صحته عندهم. وينظر المجمع الكنسي لهذه العقيدة بعين الريبة والجحود ويعتبرها بدعةً مُحرمة يجب اجتنابها، وأنها من المعتقدات المهرطقة المعاصرة والمناهضة للاهوت المسيحي بعامة الأرثوذكسية بخاصة.

ويبدو بوضوح تأثر إنجيل مورمون بالعقيدة الآريوسية تلك التي وردت في كتاب “إلثاليا” الذي حرّره آريوس (256- 336م) بقلمه، وجاء فيه:

أن الإله واحد أزلي، غير مخلوق، لا بداية له ولا نهاية، وهو الحكيم الديان والذي لا ينقسم ولا يتحول ولا يتغير.

وهو الذي أنبثق عنه أبنه الوحيد يسوع، (أي أنه ابن بالتبني شأن غيره من المُختارين والمُصطفين) قبل كل الدهور، وبه خلق العالم وما فيه من الموجودات المحسوسة.

وأن يسوع لم يُولد كسائر البشر بل وجد بإرادة إلهية “كن فكان” فهو مخلوق ويستمد وجوده ومجده من الإله المُطلق (الآب)، فأضحى الكلمة التي لا تتغير، ومن ثمَّ كان وجود الآب سابقاً على كل الموجودات بما في ذلك الابن الذي خُلق بإرادة الإله قبل الزمن، وقبل كون العالم. هو قد نال حياته وكينونته من الآب، الذي أعطى مجده للابن، وأعطاه سلطاناً على كل شيء.

والخلاصة أن “جوزيف سميث” قد ذهب مع الآريوسيين إلى أن يسوع المسيح ليس إلهاً، وأنه ليس من جوهر الآب الخالق، كما أن الذي وُلد ونَمى وصُلب وتألم لا يمكن أن يكون الإله، ولا الكلمة الخالدة، بل هو الابن الذي تجسد في صورة يسوع البشري.

وإذا أمعنا النظر سوف نجد هذا التصور المورموني للقانون الإيماني الجديد قد تأثر إلى حد كبير بالكثير من الآراء الفلسفية المطربة والنحل العقديّة المجترئة، نذكر منها آراء البطريرك نسطوريوس (386- 451م) والفيلسوف الفرنسي أبيار أبيلار (1079- 1142م) والفيلسوف البوهيمي يان هوس (1369-1415م)، والفيلسوف الإيطالي جوردانو برونو (1548م- 1600)، والفيلسوف الهولندي باروخ سبينوزا (1632- 1677م) وغيرهم من الذين وسموا بالهرطقة لانتصارهم للعقل وتشكيكهم في سلامة الكتاب المقدس.

الأبوة الإلهيّة والبنوة البشريّة:

يُعلّم “سميث” في كتاب المورمون والأحاديث التي روتها زوجته عنه، بأن إله السماء له مئات الزوجات اللواتي وهبهن القدرة على الحمل والإنجاب، ثم وهب هذا الحمل الروحي المادة الجنينية التي حولت النطفة الروحية إلى لحم ودم، وتشكل في هيئة البشر ومخلوقات أخرى لها طبائع مختلفة مثل (المردة والجن والعفاريت والشياطين) وذلك وفق إرادته. ولم يُدرك الأنبياء السابقين حقيقة إله السماء فوقعوا في التجسيد والتشبيه واعتقدوا أن أبوته للبشر أبوة مادية، وأن مواقعته للبشريات أو الجنيات مواقعة حسية (زواج ونكاح). والحقيقة أنه اتصال جنسي مجازي وأبوة ربوبية ميتافيزيقية (أقرب إلى فيض أفلوطين أو تصورات الغنوصيين أو الهرامسة التي حولت الوجود الروحي إلى وجود مادي) وعليه؛ فالبشر في رأي المورمونيين “أبناء الرّب”، والرب أي الإله أباً لهم من أم بشرية مخلوقة في زمن سابق على اتصاله بها، والأمهات قد تشكلت وفق تصور إله السماء فحملت ببشر وملائكة ومردة وشياطين وعلى رأسهم آلهة صغرى تحكم الأجناس والأمم. وقد منح الرب لهؤلاء الآلهة الصغار بعض قدراته وخصاله وطباعه، وذلك وفق ما صورته الأساطير المتواترة. أما الأبناء فينمون ويكبرون ثم تموت أجسادهم وتعود أرواحهم إلى سابق عهدها بعد تطهيرها فتعود إلى المعيّة الربانية، أو تُرد ثانية في ميلاد ثاني في أجساد أخرى وفق طبائعها الجديدة. وهو تصور أقرب إلى الفكر الهندوسي الرواقي والبوذي وسيوصوفي (تناسخ الأرواح) وغير ذلك من تصوّرات الجماعات الروحيّة.

(وللحديث بقيّة)

***

بقلم د. عصمت نصار

 

التصوف في سياقه العام، هو تلك التجربة الروحانيّة الوجدانيّة التي يعيشها المتصوف، الذي تخلى عن معطيات الحياة الماديّة واكتفى منها بما هو ضروري لاستمرار بقائه وقدرته على التواصل مع الله، الذي اعتقد بعض المتصوفة العرفانيين بأنهم قد وصلوا إلى التوحد معه، كما هو الحال عند الحلاج والسهروردي والبسطامي وذو النون وغيرهم، (1)، ومن أجل الوصول إلى هذا التوحد، لا بد من تربية النفس والقلب وتطهيرهما من الرذائل وتحليتهما بالفضائل، وأخيراً شد رحال للسفر إلى ملكوت الحضرة الإلهيّة، أو الذات الربانيّة، من أجل اللقاء بها وصالاً وعشقاً. أو بتعبير آخر، التصوف هو محبة الله والفناء فيه والاتحاد به كشفاً وتجلياً من أجل الانتشاء بالأنوار الربانيّة والتمتع بالحضرة القدسيّة. كما سموه بـ علم التصوّف، وعلم التزكية، وعلم الأخلاق، وعلم السلوك، أو علم السالكين إلى الله. (2).

إن معرفة المتصوفة، قائمة على القلب والحدس والوجدان والعرفان اللدنيّ، وهم بطرق المعرفة هذه يتجاوزون بالضرورة الحس والعقل، للذهاب إلى الباطن. وعلى هذا التوجه نحو الباطن، يأتي تأويل النص القرآنيّ من أهم الآليات الاجرائيّة لفهم الخطاب الصوفيّ ودلالاته.

إن التصوف الإسلاميّ يقوم على موضوعات بارزة تغني عوالمه النظريّة والعمليّة. وهذه المواضيع هي: المجاهدات، والغيبيات، والكرامات، والشطحات. كما ينبني التصوف على مجموعة من المقامات، والأحوال، والمرافئ الروحانيّة، ومجاهدة النفس ومحاسبتها، والايمان بالصفات الربانيّة ومحاولة استكشافها روحانيّاً ووجدانيّاً، ورصد الكرامات الخارقة التي قد تصدر عن العارف، أو السالك أو المريد، أو المسافر إلى الحضرة الإلهيّة، وهنا تبرز العوالم الخياليّة والإيهاميّة، في تكشف الأسرار الكونيّة ومفاتيح الغيب أمام العبد العاشق الذي انصهر في حب معشوقه النوراني. هذا وتتحول الممارسات والأقوال والعبادات العرفانيّة عند بعض المتصوفة، إلى شطحات لا أساس لها من الصحة والواقع، وتكون أقرب إلى عالم التخريف والأسطورة والأحلام.

والمتصوفة السنة، هم من ربط بين الشريعة الإسلاميّة النصيّة والعرفان الباطني. أي كانوا يستندون في دعواهم إلى الكتاب المقدس والسنة النبويّة.

وللمتصوفة مصطلحات كثيرة منها:

الأنس: هو فرح وسعادة غامرة تملأ القلب بالمحبوب الذي هو الله، وهو (حال) يصل إليه السالك، معتمداً على الله، ساكناً إليه، مستعيناً به. وفي الأنس ترتفع الحشمة وتبقى الهيبة مع الله، وبذلك يكون الأنس طمأنينة ورضا بالله . (3).

الاتصال: وهو أن ينفصل العبد بسره عما سوى الله، فلا يَرَى بسره غيرَه، ولا يسمع إلا منه. (4).

التجريد: التجريد أن يتجرد المتصوف بظاهره عن الأعراض، وبباطنه عن الأعواض، (أي: ألا يأخذ من عرض الدنيا شيئا، ولا يطلب على ما ترك منها عوضا: لا من عاجل ولا آجل)، بل يفعل ذلك لوجوب حق الله تعالى، لا لعلة غيره، ولا لسبب سواه، ويتجرد بسره عن ملاحظة المقامات التي يخلها، والأحوال التي ينازلها (بمعنى: السكون إليها والاعتناق لها).(5)

الوجد: ما صادف ويصادف القلب من فزع، أو غم، أو رؤية معنى من أحوال الآخرة، فتضطرب الجوارح طرباً، أو حزناً عند ذلك الوارد، وهي حالة يثمرها السماع، والاستماع للأشعار الملحنة بالأنغام، والأوتار، والدفوف، وغير ذلك، وهو من أحوال الصوفية البدعيّة، التي لم ترد في كتاب، ولا سنة، ولم يقلها سلف هذه الأمة من الصحابة والتابعين. (6).

التواجد: هو ظهور ما يجد في باطنه على ظاهره، ومن قوي حاله تمكن فسكن. (7).

الغيبة: أن يغيب عن حظوظ نفسه فلا يراها، وهي قائمة معه، موجودة فيه، غير أنه غائب عنها بشهود ما للحق. (8)

جمع الهمة: الهمة، بتعبير المتصوفة، هو ما يملك الانبعاث للمقصود صرفاً لا يتمالك صاحبها ولا يلتفت عنها، أو بتعبير آخر: ينبعث قلب المتصوف نحو المقصود، ونحو الطلب الذي يطلبه، ويستولي عليه كاستيلاء المالك على المملوك؛ بحيث لا يستطيع أن يتخلص من هذا النزوع طلباً للكمال. (9).

أهم رجالات التصوف في شقه الطرقي:

– عبد القادر الجيلاني – أحمد البدوي – أحمد الرفاعي. وابن عبدك – والشاذلي ... وغيرهم.

التصوف الفلسفي أو العرفاني:

انتعش التصوف العرفاني أبان العصر العباسي، في منتصف القرن الثالث للهجرة، مع انتشار الفكر الفلسفيّ في عصر المأمون، بسبب الترجمة للفكر اليوناني بشكل خاص. ومن هذه الحاضنة التاريخيّة ظهر :

1- الحلاج : ونظرية الحلول.

2- البسطامي : ونظرية الفناء.

3- ابن عربي: ونظرية وحدة الوجود.

4- وهناك كما بينا في الموقع السابق: السهروردي – وذو النون – وابن الفارض – وجلال الدين الرومي – ونور الدين العطار –الشبلي. - الحسن البصري – المحاسبي– القشيري – البسطامي – الجنيد – أبو نصر السراج – ابن المبارك – ومالك بن دينار.

***

د. عدنان عويّد

كاتب وباحث من سوريّة

.....................

1- راجع كتاب مدارات صوفيّة - هادي العلوي. دمشق – دار المدى - 1997

2- الويكيبيديا.

3- (موقع نفحات الطريق. الأنس عند المتصوفة).

4- الويكيبيديا.

5- (للاستزادة في ذلك راجع موقع هنداوي. التصوف الإسلامي في الأدب والأخلاق.).

6- موقع الجمهرة . الوجد – (Islamic – content.com.

7- الويكيبيديا.

8- الويكيبيديا.

9 - (موقع نفحات الطريق.  الهمة عند الصوفية.).

10- للاستزادة في موضوع التصوف، راجع دراستنا عن التصوف بعنوان: (التجليات الفلسفيّة للتصوّف – التصوّف الإسلاميّ أنموذجاً). نشرت في العديد من المواقع الالكترونية العربيّة.

تسمية الامازيغ: أمازيغن في اللغة جمع، مفرده (أمازيغ) وهو الاسم الذي سمى به مجموعة اثنية من السكان الأصليين في شمال أفريقيا وتحديداً بلاد المغرب العربي. ويُعرفون أيضًا بالبربر أو الليبيين، أو الموريين أو الجلوتيين أو النوميديين. وكلمة أمازيغ تعني أناسٌ أحرارٌ أو رجال أحرار ونبلاء،. وهم يشكلون جزءاً من سكان المغرب والجزائر وتونس وليبيا وموريتانيا وشمال مالي وشمال النيجر وجزء صغير من غرب مصر إلى جزر الكناري. ومن هذه التسميات:

1- البربر: كلمة يونانية (بارباري) اطلقت على الشعوب خارج المجال الحضاري اليوناني اللاتيني. وقد اطلقها الرومان على سكان شمال افريقيا عند احتلالهم لها وكانوا خارج سيطرتهم، وعند الفتح الاسلامي أخذها العرب عن الروم وجعلوها "بربر". وقد اعتبر ابن خلدون ان "بربر" كلمة عربية مصدرها "بربرة" أي الكلام غير المفهوم، وان اول من اطلقها هو (أفريقش بن قيس بن صيفي)(1) من ملوك التبابعة(2) لما غزا افريقيا، وبنى المدن والامصار، وعندما سمع رطانتهم، قال ما اكثر بربرتكم فسموا بالبربر.

2-  الليبيون: نسبةً إلى قبائل الليبو التي سكنت شمال افريقيا قديماً، وأن معنى الاسم أرض السُمر، وقد شمل شمال افريقيا كلها التي تمتد من النيل شرقاً الى المحيط الاطلسي غرباً والى قارة افريقيا جنوباً. وقد ذكرها هيرودوت في كتابه "احاديث هيرودوت عن الليبيين": "لقد استعرضت الليبيين الرحل الذين يسكنون على طول ساحل البحر، ويوجد جنوباً ليبيا الحيوانات البرية، وخلف هذه المنطقة يوجد طوق رملي يمتد من طيبة(3) بمصر الى أعمدة هرقل(4)، وتنتصب على امتداد كل مرحلة من عشرة ايام من المشي تلال ضخمة من الملح، وعند قمة كل تل ينبع وسط الملح عين بارد عذب يعيش حوله الناس، وهؤلاء الناس هم آخر الذين نلتقي بهم من جهة الصحراء خلف أرض الحيوانات البرية ". فيبدو ان تسمية الليبيين أقدم اسم أطلق على الامازيغ منذ المرحلة اليونانية.

3- الجيتول: يعد الجيتول والليبيون من أقدم سكان شمال افريقيا، فالجيتول قد سكنوا تمازاغا (5) (شمال افريقيا) قبل القرن الثالث قبل الميلاد، وكانوا ينتمون الى الحضارة القبصية(6)، ثم استقروا في الجزائر، وكانوا غير معروفين في الكتابات التاريخية القديمة والحديثة والمعاصرة. وكانت مجموعة من القبائل الجيتولية ضمن الاسر الفرعونية الحاكمة في مصر، وهم الذين استقبلوا الفينيقيين في قرطاج(7).

4- النوميديون: أطلق اسم النوميديون على الامازيغ بصفة عامة والساكنين في الجزائر بصفة خاصة، وهي كلمة بربرية الاصل، الا انها امتزجت قديماً بكلمة (نوماديس) اليونانية التي تعني الرعاة الرحل. وقد حكم هذه الامارة كثير من ملوك الامازيغ. وتضم نوميديا قبيلتين كبيرتين هما: الماسيليون في الشرق، والماساسيليس في الغرب.

5- الموريون: اطلق اسم الموريون على الامازيغ بصفة عامة وعلى الذين سكنوا المغرب وموريتاني بصفة خاصة، وكانت منطقة الموريين تمتد من شمال المغرب الى الشمال الغربي للجزائر. واليوم يطلق الاسبان لفظة (الموري أو الموروس)على الاجانب أو المغاربة أو الامازيغ وتعني الهمجي والمتخلف والعنيف.

أصل الامازيغ:

عاش الامازيغ في شمال إفريقيا منذ آلاف السنين، فكان هناك مجموعة من التصورات المتنوعة والمختلفة والمتضاربة حول اصول الانسان الامازيغي، فهناك التصور السامي، والتصور الحامي، والتصور الهندواوربي، والتصور الافريقي المحلي.

ذهب معظم الباحثين الى ان الامازيغ من أصل سامي (من أبناء سام بن نوح) الذين نزحوا من الجزيرة العربية واليمن الى شمال افريقيا بعد ان حل الجفاف واشتدت الحرارة في الجزيرة العربية.

ذكر بعض الباحثين ان أصل الامازيغ حامي (من ابناء حام بن نوح)، هاجروا من الجزيرة العربية واستقروا في السودان وشمال افريقيا، وتنتمي لغتهم الى الفصيلة الحامية التي تلتقي فيها مع بعض اللغات الافريقية مثل الكوشيتي(8) والمصرية، لم يعمر هذا الرأي طويلاً لعدم وجود وحدة لغوية داخلية بين لغات المجموعات الثلاثة (الامازيغية والمصرية والكوشيتية).

ذكر مجموعة من الباحثين ان أصل الامازيغ هندو اوربي، وهم من أولاد يافت بن نوح، خرجوا من الهند ومروا بفارس والقوقاس واجتازوا شمال اوربا ثم بريطانيا الفرنسية ثم اسبانيا، ويستدلون على ذلك بالمعالم الميغاليتية(9). وتذهب الدراسات التاريخية اليونانية والرومانية القديمة إلى أن أصل الامازيغ أوروبي، أو أنهم اختلطوا بالأوروبيين، " فأبو التاريخ هيرودوت ( لا يتردد في نسبتهم إلى الطرواديين الذين طردوا من طروادة، بعد أن حطمها التحالف الإغريقي ما بين القرنين الحادي عشر والثاني عشر قبل الميلاد.

هنالك مجموعة من الباحثين الامازيغ المحليين من يدافع عن الاصول الافريقية للسكان الامازيغ، ويعتبروهم وحدهم السكان الاقدمين الذين استوطنوا شمال افريقيا منذ زمن قديم أي منذ ما قدر 9000 سنة، واكدوا ان من العبث أن يبحث للأمازيغ عن موطن اصلي غير الموطن الذي نشأوا فيه منذ ما يقارب مائة قرن. 

لقد ذكر الامازيغ كل من الإغريق والرومان والمصريين القدماء في سجلاتهم التاريخيّة. وبحلول الألفية الأولى قبل الميلاد اعتبر الامازيغ السكان الأصليين لمنطقة شمال إفريقيا الذين واجهوا الإغريق والقرطاجيين والرومان، وساهمت القبائل الأمازيغية في ظهور الممالك الأمازيغية مثل نوميديا(10) وموريتانيا اللتان تم دمجهما رسميًا في الامبراطورية الرومانية في أواخر القرن الثاني قبل الميلاد. كما ظهرت ممالكٌ أخرى بعد غزو الفاندل(11) في عام (429م) والغزو البيزنطي عام (533م).

ذهب بعض المؤرخين العرب الى الحاق الامازيغ بقبائل العرب من مضرية وقحطانية، و لم يكن ذلك مبنيا على معرفة دقيقة، وإنما كان صادراً عن رغبات سياسية.

ذكر ابن خلدون في مقدمته إن الأمازيغ كنعانيين من ولد كنعان بن حام بن نوح عليه السلام، فالكنعانيون ليسوا عربا، وليسوا من أبناء سام.

خلاصة القول ان قضية اصول الانسان الامازيغي مسألة شائكة ومعقدة يصعب حلها بشكل دقيق نظراً لاختلاط الذاتي بالموضوعي، وتداخل الديني مع الايديولوجي، ونقص الوثائق والادلة المقنعة، ولذلك تبقى جميع النظريات والتصورات مجرد احتمالات وافتراضات ليس لها أي اساس علمي، أو مستند موضوعي مقنع.

لغة الأمازيغ:

منذ تواجد الامازيغ في شمال افريقيا تأثروا بمجموعة من اللغات كانت متداولة في التخاطب اليومي والتواصل المجتمعي، بفعل الاحتكاك الثقافي مع الشعوب المجاورة مثل اليونان والمصريين والفينيقيين والعرب، أو بسبب التأثر بلغة الامم المستعمرة كالرومان الذين جعلوا اللغة اللاتينية لغة إدارة وسلطة واقتصاد، وكانت وسيلة من اجل الترقي في مناصب الدولة.

كما فرض المستعمر المعاصر لغته الاجنبية على دول شمال افريقيا منذ الربع الاول من القرن التاسع عشر الميلادي، باسم الحضارة والتقدم والتنوير، وقد سعى جاداً الى القضاء على اللغة العربية من جهة والحد من انتشار اللغة الامازيغية من جهة اخرى، وهذا ما قامت به فرنسا في الجزائر مثلاً، حينما استهدفت الحضارة العربية الاسلامية وطمس الهوية الامازيغية المحلية.

تنقسم اللغة الامازيغية الى لغة قديمة هي اللغة اللوبية والتي توجد على المنقوشات الصخرية. والى اللغة البربرية الوسطى، وهي التي كانت متداولة من القرن الثالث الهجري الى القرن السابع الهجري.

يتحدث الامازيغ اليوم باللغة الامازيغيَّة التي يستعملها أهل تامازغا (سكان شمال افريقيا)، وهيَ لغة منطوقة تشكل فرعا من فروع الأسرة اللغويَّة الأفروآسيويَّة، كما أنَّها لغة تمتلك أبجديَّة مكتوبة، ويطلق الأوروبيون على لغة الأمازيغ (الامازيغيَّة)، بينما يطلق عليها العرب اسم (الشيلها). وكان أهل البوادي يتحدثون بالامازيغية اكثر من أهل المدن بعد الاحتلال الروماني لشمال افريقيا الذي استمر قرابة ثمانية قرون، وفرض اللغة اللاتينية كلغة رسمية على أهلها.

تعريب الامازيغ:

عندما فتح العرب المسلمين المغرب سنة 27هـ، وجدوا اللغة الامازيغية منتشرة في الصحارى والجبال والبوادي والجزر وفي المدن والقرى، وكانت كتاباتهم منقوشة على جدران المغارات والكهوف والجبال ولا سيما في منطقة الطوارق (12). وبعد الفتح الاسلامي لشمال افريقيا استمرت اللغة الامازيغية بين الاوساط الثقافية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية، وكتبت بالحروف العربية تصانيفها الاسلامية وشعرها وحكاياتها ونوادرها، ووضعوا لها المعاجم مع اللغة العربية.

لقد تضاءلت اللغة الأمازيغية مع مرور الوقت وتراجعت مكانتها بين السكان الامازيغ ؛ بسبب تعرضها للتعريب من قبل دول المغرب العربي. فقد أنهت اللغة العربية المكتوبة التي اصبحت اللغة الاساسية في التعليم وفي دوائر الدولة على حساب اللغة الأمازيغية (البربرية)، مما أدى إلى اختزالها إلى اللغات الشعبية.

ديانات الأمازيغ:

عرف الامازيغ في منطقة تامازاغا (شمال افريقيا) مجموعة من المعتقدات والديانات كالوثنية واليهودية والمسيحية والاسلامية، وقد تمثل هذه المعتقدات والديانات عن طريق التأثر بالشعوب المجاورة أو الغازية أو الفاتحة، وساهموا في أثراء الحركات الدينية من قبل اللاهوتيين والمفكرين ورجال الدين الامازيغ.

1- المعتقدات الوثنية عند الامازيغ: كان للأمازيغ مثل الشعوب البدائية الأخرى معتقداتهم الدينية والوثنية الخاصة بهم، فقد كانت طقوسهم السحرية تعبر عن تفكيرهم الساذج الذي ارتبط بالطبيعة ارتباطاً وثيقاً، يقوم على الاحيائية والأنسنة والتجسيد، فكان اسطورياً منذ تواجده على الارض.

 تعود أصول تدين الأمازيغ إلى عصور ما قبل التاريخ فتجد آثارهم منقوشةً على جدران بعض الكهوف، وتشير هذه الرسومات إلى أنهم كانوا يمجدون الحيوانات مثل الثيران والظباء والأكباش، وكانوا يمارسون شعائرهم الدينية الاسطورية عبر فعل الطقس والسحر والايمان بالجن والقوى الخارقة. وكانوا وثنيون يعبدون الشمس والقمر والنار والاحجار والاصنام، ويشربون دماء الحيوانات المقدسة، وكانوا يعبدون النار والشمس متأثرين بالفرس، ومتخذين لعبادتهما معابد جميلة مزخرفة توقد داخلها نار ليل نهار. كما تأثر الامازيغ بالمعتقدات الفارسية والفينيقية والمصرية واليونانية والرومانية والايبرية والصقلية.

2-  تأثر الامازيغ بالديانات المصرية: تأثر الأمازيغيون بالديانة المصرية، فقد عبدوا معبوداتهم لا سيما الربة المصرية إيزيس(13) لذا فقد كانوا يحرمون أكل لحم البقرة وتربية الخنازير احتراما لهذه الربة، وفي هذا السياق، يقول هيرودوت:" فمن مصر على بحيرة تريطونيوس يعيش اللامازيغيون الرحل الذين يأكلون اللحم، ويشربون اللبن" ؛ وللسبب نفسه الذي دفع المصريين إلى الامتناع عن أكل لحم البقرة، والامتناع عن تربية الخنازير.

3- الامازيغ والديانة اليهودية: كانت اليهودية هي الديانة السماوية الاولى التي تعرف اليها الامازيغ بعد مرحلة الوثنية وعبادة مظاهر الطبيعة، فقد هاجر اليهود الى تامازغا في القرن الثالث قبل ميلاد المسيح بعد خراب أورشليم من قبل الحاكم تيتوس(14). كما هاجروا مع هجرة الفينيقيين الى شمال افريقيا فعملوا على نشر الديانة اليهودية بين بعض القبائل الامازيغية، فاعتنق الامازيغ الديانة اليهودية، ولا زال عدد منهم يعيشون في المغرب العربي.

4- الامازيغ والديانة المسيحية: عرف الامازيغ المسيحية مع دخول الرومان الى شمال افريقيا الذين كانوا يدينون بالمسيحية والهيمنة عليها سياسياً واجتماعياً واقتصادياً وثقافياً، فاعتنق العديد من الامازيغ الديانة المسيحية وبقوا عليها حتى الفتح الاسلامي لشمال افريقيا، بالرغم من معاناتهم الكثيرة من اعتناقهم الديانة المسيحية ؛ لأن الطبقة الحاكمة الرومانية كانت تحارب المسيحية بوحشية وقسوة.

5- اعتناق الامازيغ للإسلام: بعد ان ولى الخليفة عثمان بن عفان (رض) عبد الله بن ابي سرح والياً على مصر، وبعد ان طلب الاذن من الخليفة جهز حملة عسكرية كبيرة الى شمال افريقيا سنة 27هـ وحارب جيش البيزنطيين حتى هزمه شر هزيمة، فدخل الاسلام شمال افريقيا، واكتمل الفتح الاسلامي لكل شمال افريقيا في عهد الدولة الاموية في خلافة معاوية بن ابي سفيان بقيادة عقبة بن نافع الذي اصبح والياً عليها، فاصبح أغلب سكان شمال افريقيا مسلمون واصبح الدين الاسلامي هو الدين الرسمي للدول في شمال افريقيا. شارك الامازيغ بشكل فعال في فتح الاندلس (شبه جزيرة أيبيريا) بقيادة طارق بن زياد. 

التقويم الأمازيغي:

يعتمد الأمازيغ على تقويمٍ زراعيٍّ يدعى التقويم الفلّاحي أو العجمي يساعدهم في تنظيم الأعمال الزراعية الموسمية، لأن التقويم الإسلامي القمري غير مناسبٍ للزراعة لأنه متغيرٌ ولا يتعلق بالدورات الموسمية. ويعود هذا التقويم إلى عصر الاحتلال الروماني وهو مشتقٌ من التقويم اليولياني الذي سبق قبل التقويم الغريغوري (الميلادي).  

بدأ العمل في التقويم الأمازيغي الفلاحي عام 950 قبل الميلاد، ويوافق 12 يناير بداية السنة الأمازيغية الجديدة التي تتكون من 365 يومًا وتتكون من 12 شهرًا اشتقت أسمائها من التقويم الغريغوري مع إجراء بعض التعديل عليها، وتقسم السنة إلى أربعة فصولٍ هي:

1- تكرْست (الشتاء): فترة السكون والنوم والتجديد، في هذا الفصل يتم الاستعداد للسنة القادمة.

2- تفسُوت (الربيع): مرحلة الولادة المتجددة، تنزل الأمطار لتسقي الأرض، وإن لاح الجفاف تقام طقوس تاغنجا(15) لطلب الرضا من إله المطر أنزار.

3- إويلين أو انبدو (الصيف): فصل الحصاد وجني الفواكه وصنع الأدوات الفخارية لتجف تحت أشعة الشمس.

4- أميوان أو تمنزويت (الخريف): مرحلة الحرث وتحضير الأرض وجني الزيتون وفي هذا الفصل يوجه الاهتمام للعائلة والبيت.

 وفي بداية السنة الأمازيغية يتم الاحتفال بإقامة طقوسٍ معينة لإبعاد الجوع والتفاؤل بالخير ووفرة المحاصيل الزراعية، فينحر في هذه المناسبة ديك على عتبة كل بيتٍ ومن ثم تطبخ الأطباق التقليدية.

***

صباح شاكر العكام

....................

الهوامش:

(1)أفريقش بن قيس بن صيفي: أحد ملوك التبابعة الذين حكموا اليمن. يقال أنه هو أول من أطلق على سكان شمال أفريقيا اسم البربر. فبحسب رواية ابن خلدون غزى أفريقش شمال أفريقيا زمن عهد موسى، أو قبله بقليل وحين سمع كلام البربر قال «ما هذه البربرة» فأخذ عنه هذا الاسم. وأضاف أنه وطن قبائل من حمير في الشمال الإفريقي فاختلطوا بالسكان ونتج عنهم صنهاجة وكتامة.

 (2) التبابعة: هم ملوك اليمن من حمير وأحدهم تبع لأنهم يتبع بعضهم بعضا كلما هلك واحد قام آخر تابعا له في سيرته.

 (3) طيبة: مدينة مصرية قديمة تقع على نهر النيل على بعد 800 كيلومتر جنوب البحر الأبيض المتوسط، تقع أطلالها داخل مدينة الأقصر. كانت عاصمة مصر لفترات طويلة خلال عصور المملكة المصرية الوسطى والمملكة المصرية الحديثة، وكانت قريبة من النوبة والصحراء الشرقية، وكانت مركز عبادة والمدينة الأكثر تبجيلًا خلال فترات عديدة من التاريخ المصري القديم. يشمل موقع طيبة مناطق على الضفة الشرقية لنهر النيل، حيث يوجد معبد الكرنك ومعبد الأقصر.

 (4) أعمدة هرقل: هو الاسم الذي أطلقه الرومان علي مضيق جبل طارق الذي يوصل ما بين البحر الأبيض المتوسط والمحيط الأطلنطي جنوب شبه جزيرة إيبيريا بأسبانيا، وهرقل بطل الميثولوجيا الاغريقية وتقول الاسطورة انه شق ذات يوم الصخر لفتح مضيق جبل طارق الذي يبلغ عرضه 15 كم وتشرف عليه الصخرة المقسومة إلى نصفين وكان يعد حدا للعالم القديم.

(5) تامازاغا: هو لفظ محدث باللغة الأمازيغية وضعته الأكاديمية البربرية بباريس ويتم تداوله من طرف ناشطي الحركة الأمازيغية في الجزائر في إطار خطاب يتعلق بالمسألة الأمازيغية وتعني عندهم وحدة ترابية تمثل أرض الأمازيغ في شمال أفريقيا و المغرب العربي أو كما تمتد من واحة سيوة في مصر شرقاً حتى جزر الكناري غرباً ومن سواحل البحر الأبيض المتوسط شمالاً حتى نهر السينغال جنوباً.

 (6) الحضارة القبصية: تمركزت الحضارة القبصية في وسط الجزائر (حول سطيف) وجنوبها، وتميزت بصناعة أدوات حجرية صغيرة ومتنوعة ذات شكل مثلث أو شبه منحرف أحيانا مثلّمة أو مسنّنة، منها الشفرات والمثاقب والنصال ونادرا الأزاميل. بدأ القبصيون بتصغير حجم الأدوات الحجرية منذ حوالي 8.000 سنة قبل الحاضر. أما صناعة الأدوات العظمية فقد كانت متطورة وشائعة لديهم.

(7) قرطاج: مدينة تقع بالقرب من مدينة تونس الحاضرة. أسسها الفينيقيون، وأصبحت مركز إمبراطورية كبيرة حكمت شواطئ المغرب الكبير وصقلية وإسبانيا حتى سقوطها في حروب مع الرومان.

 (8) اللغة الكوشيتية: هي مجموعة من اللغات يتم تحدثها في القرن الأفريقي في قارة افريقيا، وتصنف ضمن اللغات الأفريقية الآسيوية. وقد سميت على اسم "كوش"، الذي ذكر في التوراة أنه ابن حام بن نوح.

 (9)المعالم الميغاليتية: عدة إنشاءات معمارية مبنية من أحجار ضخمة مقطوعة بشكل نادر وبطريقة صعبة، تسمى الاحجار المغليثية، تتمركز في غرب البحر المتوسط و أوروبا الأطلنطية.

 (10) نوميديا: هي مملكة قديمة شملت أجزاء من الجزائر وتونس وليبيا، وكذلك جزء في أقصى شرق المغرب حتى وادي ملوية. تم تقسيم النظام السياسي في الأصل بين الماسيل في الشرق و الماسيسيل في الغرب، خلال الحرب البونيقية الثانية (218-201 قبل الميلاد).

 (11) الفاندال: هم شعوب بربرية ذو أصول ألمانية قاموا بغزو إمبراطورية روما، وسطوا على المغول والقوطيين وأوجدوا لأنفسهم مملكة في الشمال الأفريقي حيث ازدهرت على مدار 100 عام إلى أن استسلمت لغزو قوات الإمبراطورية البيزنطية سنة 533 قبل الميلاد،

(12) الطوارق: هو الشعب الأمازيغي الذي يستوطن الصحراء الكبرى، في جنوب الجزائر، وأزواد شمال مالي، وشمال النيجر، وجنوب غرب ليبيا، وشمال بوركينا فاسو. وقبائل الطوارق مسلمون سنيون مالكيون، ويتحدثون اللغة الطارقية بلهجاتها الثلاث: تماجق، وتماشق، وتماهق. عرقيًا يمكن وصف الطوارق بأنهم جنس أبيض مع ميل إلى السمرة. عاش الطوارق حياة بداوة عريقة في الصحراء الكبرى منذ آلاف السنين ولا يزال بعضهم إلى اليوم متمسك بنمط العيش هذا بسبب التهميش الذي عانوه من الدول التي تقاسمت أراضيهم.

 (13) إيزيس: هي إلهة رئيسة في الديانة المصرية القديمة والتي انتشرت عبادتها في العالم اليوناني الروماني. ذُكرت لأول مرة في المملكة المصرية القديمة (2686-2181 ق.م) كإحدى الشخصيات الرئيسة في أسطورة أوزوريس، إذ قامت بإحياء زوجها الملك الإلهي المذبوح أوزوريس، كما أنجبت وريثه حورس وقامت بحمايته.

(14) تيتوس: امبراطور روماني من عام 79 حتى 81 ميلادية خلف والده بعد وفاته، ليصبح أول امبراطور روماني يرتقي العرش خلفاً لوالده.، اشتهر كقائد عسكري، خدم تحت حكم والده أثناء الحرب اليهودية الرومانية الأولى، نجح في ضرب حصار وتدمير مدينة اورشليم.

(15) تاغنجا: طقساً مغربياً شعبياً لاستسقاء المطر كلما شحّت السماء، فيما تعود أصوله إلى الأسطورة الأمازيغية ـ"إله المطر"، ويكشف سر نظرة سكان المغرب القدماء إلى الطبيعة.

تجري اليوم في العالم بوجهيه الواقعي والافتراضي تغيرات خطيرة تمس وتطال طبيعة التكوين النوعي والنفسي والعقلي للجنس البشري، وبات من الواضح ان مشاريع كبيرة تقف وراء ذلك عندما عدّت دول كبرى على السنة بعض مسؤوليها، اولئك الاشخاص الذين يعلنون عن رغباتهم في التحول الجنسي او المثلية بأنهم ابطال، لأنهم تمكنوا من مواجهة مجتمعاتهم والتصريح برغباتهم، واعتبر ما يقومون به من شذوذ يندرج ضمن الحريات الخاصة التي دعا الى احترامها ودعمها، واذا كان ذلك مقبولاً في بعض البلدان، فإن ما لا يمكن تجاوزه في مجتمعاتنا العربية  هو اننا بشكل او بآخر صرنا ملزمين في حاضرنا بالتبعية لحركة العالم في كل المجالات بعد ان تمكنت الماكنة الاقتصادية الصناعية من معالجة مشاكل استعصت على السياسة العالمية مثل نضوب المصادر الطبيعية  للطاقة، وارتفاع معدلات الفقر والبطالة، وازمة الغذاء والماء والتصحر واحتباس الأمطار وغيرها، وكان من ابرز مخاوف المعنيين بدراسة علم الانسان هو محاولات تلك المشاريع إعادة برمجة حياة الناس على وفق تقنيات حديثة تخدم عالم الاشياء الذي يندرج فيه الانسان كرقم الى جانب الكائنات الاخرى، وفي ضوء ما قدمه علماء المستقبليات من توقعات رسمت صورة مخيفة لمستقبل الانسان على الارض كونه مهدد في حياته ووجوده بسبب نتائج السياسة العالمية، فقد تسببت هذه الرؤى في إحداث تراجع نفسي وإحباط لدى كثير من الناس، وهنا يأتي دور الثقافة والمثقف في انقاذ واقع الحال والوصول به الى حالة من التوازن حفاظاً على سلامة النسيج الاجتماعي من التمزق الذي بات يهدده، ما بين تنامي معدلات العنف الاسري، وكثرة حالات الفساد، وارتفاع معدلات الطلاق، وتفشي المخدرات وانتشار المقاهي الموبوءة، والنوادي الليلية، والأفكار المتطرفة والمنحرفة، والسلوكيات الغريبة والشاذة احياناً..

في هذا الجو القلق المضطرب نشطت دعوات تحرير المرأة، والذي يجعل هذه الدعوات تختلف عن غيرها، هو دخول رجل الدين على خط المناداة بخلع حجاب المرأة، كما ظهر على شاشات بعض القنوات الفضائية، وأياً كانت خلفية من تصدى للدفاع عن عدم مشروعية حجاب المرأة من متدينين وعلمانيين ومتغربنين ومتعلمين، فإن الموضوع يحتاج الى دراسة متأنية في طبيعة الجنس البشري في المجتمع العربي بنوعيه الذكر والأنثى، ويجدر بنا ان نذكر ان الدكتور مصطفى جواد في كتابه “قل ولا تقل” ج1 ص103 قال: (فالبشر جنس وهو الجنس البشري، والذكورة منه نوع والأنوثة منه نوع، والجنس أعم من النوع والنوع أخص من الجنس ..) ..

 تقتضي الدراسة الوقوف عند مفهوم الحرية، الذي دخلت عليه كثير من التعديلات في التأويل والتحليل، فأرتبطت الحرية بالهوية الشخصية، وصار السلوك الذاتي يندرج ضمن مفهوم الحرية الشخصية، التي ينبغي احترامها طالما لا يترتب عليها إلحاق الضرر بالغير، ومن هذا المنطلق تعالت اصوات المدافعين عن الحرية بتغيير نظرة المجتمع الى المرأة وإعادة صياغة هويتها خارج حدود الحجاب والجلباب والنقاب كون حريتها الشخصية صارت تتيح لها ان تخرج وتتعلم وتعمل، وهذا الوضع الجديد يستلزم إعادة النظر في الصورة التقليدية التي يدخل فيها الحجاب كجزء مهم من هوية المرأة في مجتمع لم يكن يتقبل خروجها من المنزل، ثم هو يمانع تعلمها ويعارض عملها، اسوة بالتغير الاجتماعي الذي رافق الرجل في انتقاله من البدو الى الريف والمدينة ودخوله المدرسة والكلية ومزاولته انواع الاعمال، فقد تغير شكله وملبسه، فبعد ان كان لا يخرج الى الناس إلا معتماً ملتح، “وفي حديث ام سلمة: انه كان يمسح على الخفّ والخمار، أرادت بالخمار العمامة لأن الرجل يغطي بها رأسه كما ان المرأة تغطيه بخمارها”  ص257 لسان العرب لابن منظور، خلع عمامته وحلق لحيته، وعدَّ المجتمع ذلك من التغيرات المقبولة، وشيئاً فشيئاً اقتصرت العمامة واللحية على فئة محددة من المجتمع هي فئة رجال الدين بعد ان كانت ظاهرة اجتماعية عامة في السابق، وانحصر انتقاد هذه التغيرات في الفئات االمحافظة، فقد ذكر الدكتور علي الوردي في كتابه ” لمحات اجتماعية من تاريخ العراق المعاصر” ان المتعصبين للدين كانوا يطلقون صفة ” زنديق” على الأفندي في القرن الثامن عشر، وكان الشاعر العراقي جميل صدقي الزهاوي  قد كتب مقالاً في 1910م  يدعو فيه الى تحرير المرأة وخلع حجابها، مما تسبب في احتجاج اهالي بغداد، ومن الجدير بالذكر ان الزهاوي من عائلة دينية وكان معمماً قبل ان يحسب على الأفندية، يذكر الدكتور علي الوردي ان الزهاوي لزم بيته لا يخرج منه خوفاً على حياته حتى تعهد للذين هددوه بعدم تطرقه لهكذا موضوع مرة اخرة .. في سنة 1924م تسببت موضوعة الحجاب في إحداث “ضجة كبرى” كما يذكر د. علي الوردي: (وكان العامة مستعدين للاعتداء على كل من يدعو الى السفور إذ هم يعتبرونه كافراً يريد إفساد اخلاق الناس ودينهم . وكان كثير من المتعلمين يؤيدون العامة في ذلك. أما دعاة السفور فكانوا قليلين جداً وكان معظمهم من “الافندية” ..)

يرى بعض الباحثين ان التغيرات والتحولات الثقافية والاجتماعية التي انتجتها الأحداث السياسية والاقتصادية في زمن الاستعمار، وفي زمن التحرير بعد ذلك، كان لها دور بارز في اعادة صياغة مفهوم الحرية والهوية بما يتلائم مع المعطيات الجديدة التي طرأت على الحياة الإجتماعية، فبعد ان قوبلت آراء قاسم امين في مصر وابو العلاء المعري في العراق وغيرهما في انتقاد النقاب – غطاء وجه المرأة – برفض كثير من الناس، اصبح من غير المستحسن اليوم رؤية المرأة وهي تخفي وجهها، وربما صار النقاب مجلبة للمشاكل في وقت نشطت فيه الجماعات المتطرفة المسلحة، فمثلما كانت قريش الضلال تستخدم المرأة للتجسس على المسلمين ونقل الرسائل من وراء نقابها وحجابها، استخدمت التنظيمات الإرهابية المرأة المنقبة والمحجبة لنقل الأحزمة الناسفة والاسلحة ..

ونحن نتحدث عن موضوعة الحجاب عند المرأة فمن الضروري جدا ان نتحدث عن شخصية الرجل العربي وان نعتني بخصلتين او صفتين يكاد يتفق عليهما جميع الرجال في العالم العربي وهما الغيرة والجنس، فعلى الرغم من ان الجنس يشغل حيزاً كبيراً وحيوياً في نفس وفي تفكير الرجل الشرقي، فإن الغيرة تشغل ايضاً مساحة كبيرة جداً، فالجنس تمليه عليه فطرته البايولوجية، والغيرة تمليها عليه بنيته الشخصية، يرى بعضهم ان نظرة الرجل للمرأة في المجتمع الشرقي انعطفت عن الاتجاه الذي كانت عليه قبل ان يعرف الملكية التي سوّلت له حب التملك، ولأن المرأة جزء في حياته كما المال والارض والاملاك والاولاد،  فقد اضفى صبغة الانانية، او الحرص العالي، او الحب، على تعامله مع ممتلكاته الحية وغير الحية، واصيب بعض الرجال بازدواجية في الشخصية، بدت مكشوفة عند بعضهم، ومخفية عند آخرين ممن انقسموا الى متوازنين ذاتياً ومأزومين، ولعل (سي السيد) في رواية نجيب محفوظ (بين القصرين) قد ترجم واقع تلك الشخصية المأزومة .

ربما تقوم إشكالية حجاب المرأة على ازمة الهوية، وامام موضوعة الهوية نقف عند نوعين منها: الهوية الذاتية، والهوية الجمعية .. ترتبط مشكلة الحجاب بالهوية الجمعية اكثر من ارتباطها بالهوية الشخصية، فقد سجلت المشاهدات ان الحجاب على مستوى الهوية الذاتية او الشخصية لم يكن مشكلة مانعة لدى كثير من النساء ممن يدرسن ويعملن ويتصدرن مواقع متميزة في الادارة والقيادة والانشطة الاجتماعية والثقافية والرياضية، وعلى قدر تعلق الأمر باعتقاد ديني او نفسي او روحي كل حسب رؤيته، فإن الحجاب عند عدد غير قليل من النساء يرتبط بالظروف البيئية والاجتماعية التي تعيشها، وقد سجلت ملاحظاتي على بعض الظواهر الاجتماعية لنساء عراقيات محجبات التحقن بأزواجهن العاملين في ليبيا نهاية التسعينات وقد دخلن ليبيا محجبات وبعد فترة من الاستقرار خلعن حجابهن على الرغم من ان المجتمع الليبي مجتمع محافظ تلتزم فيه النساء بالحجاب ولكن يبدو ان شعوراً تملك تلك الأسر انهم اصبحوا خارج دائرة الرقابة المجتمعية لمقربيهم في العراق فطاب لهم التبرج، بينما شاهدت امرأة تلبس العباءة العراقية في ليبيا في المنطقة التي كنت اعمل فيها وبقيت على هذا الحال وكانت مثار اعجاب الليبين لالتزامها بزيها الاصلي، وبعضهن بقين على غطاء الرأس لكنهن تنازلن عن “الجبة الإسلامية” ولبسن البنطلون، والأعم الاغلب من النساء بقين على ما كنّ عليه قبل سفرهن ” جبّة وحجاب ” ..

ربما تأتي دعوات بعضهم الى خلع الحجاب من واقع اليأس من قدرة المجتمع على تحقيق العدالة الاجتماعية في وسط درج فيه الناس على ان القوة والقيادة والقرار بيد الرجل، يتم ذلك في كثير من الاحيان بدون ضوابط، فقد يكون الرجل غير مشتمل على تلك القوة لكن ذكورية المجتمع تخوله بها وهو ما كان وراء وقوع كثير من المظالم.

ان جزءاً كبيراً من الفهم الخاطىء لنظرة المراة الى حريتها تتحمله الدولة ويتحمله المجتمع، فقد سجل على السلطة استخدام نفوذها لمحاباة نصوص دينية واحكام شرعية تارة، وتارة اخرى لمجاراة اعراف اجتماعية أواعتبارات مرحلية، كما سجّل على المجتمع توظيفه التشريعات الدينية لخدمة اعراف اجتماعية تحظى بقبول واسع، فظهور المرأة محجبة محتشمة في الشارع يبعث عند وليّها ارتياحاً يمنحه اطمئناناً يوازن به خشيته وعدم اطمئنانه من الناس، خصوصاً وان المجتمع العربي ومنذ امد بعيد لا يعيش حالة من التوافق مع السلطة، وهو ما يجعله فاقداً للثقة بإدارتها لشؤون البلاد، ومن تلك الشؤون ضمان سلامة عدم التعرض للآخر او التحرش، فقد نرى ان الشرع لا يرغم المرأة على التزام بيتها بقدر ما يستحسن ذلك، نظر المجتمع من خلال هذا الاستحسان الشرعي نظرة ايجابية الى المرأة التي لا تُرى خارج بيتها إلا للضرورة الملحة، وبالتالي فهي موضع انتقاد المجتمع على كثرة خروجها، يذكر ان الحاكم بأمر الله في مصر طاب له ان يصدر اوامره  بعدم السماح بوجود المرأة في الطرقات، ومنع  المشتغلين بصناعة الأحذية ” الأساكفة ” من عمل النعل وما شابه للنساء .

نأخذ بنظر الإعتبار وجود دوافع غير دينية تقف وراء رفض بعض التشريعات الدينية المرتبطة بموضوعة الحجاب عند المرأة وحقها في الميراث وما الى ذلك، ومن تلك الدوافع التوجه العام الغالب على هذه الفترة الزمنية من عمر البشرية خصوصاً في عالمنا العربي، وهي فترة التوجه المادي نحو لغة الجسم والتلذذ بالشهوة، شهوة الطعام وشهوة الجنس وشهوة المال، حيث يمثل الجسم محور كل هذه الاصناف من الشهوة، سواء بالنسبة للرجل او للمراة، ومن ذلك ظاهرة “الوشم” التي شاعت كثيراً بين الفتيان والفتيات ممن يعرضون جلودهم لأشعة الليزر لعمل رسم او كتابة اسم، على الرغم من الأضرار الصحية المترتبة على ذلك، شأنها شأن “الأركيلة” التي اصبحت تقليعة كثير من الشباب رجالاً ونساءً في اماكن عامة. وهناك البنطلون الجينز الممزق في بعض مواضعه، وهناك “البرمودا” وهو سروال قصير يلبسه الشاب حيث تظهر ساقه وركبته، فضلاً عن موضة “الكلاسك” في ملابس الشباب الضيقة الملتصقة باجسامهم، وتشبّه بعض الشباب بالبنات في شد شعورهم الى الوراء وربطه بقراصة بطريقة الذيل، وظهور بعض النساء في المقاهي العامة وهن يدخنّ “الأركيلة” .

يمارس الإعلام المرئي والمسموع عبر كثير من وسائل التواصل والقنوات الفضائية دوراً في الإساءة الى بنية الشخصية العربية عموماً، من حيث تناوله لقضايا هابطة تحت عناوين مثيرة وجذابة مثل قضايا الفساد الإداري والمالي والاخلاقي في السلطة والمجتمع، ويوظف لهذا الغرض شاباً وسيماً وفتاة جميلة يستخدمون لغة هابطة تخاطب في المستمع والمشاهد حبه للمال وحبه للشهوة وحبه للشهرة، وتتناول القيم العليا والمثل والكرامة تناولاً مسطحاً بقصد الحط منها والنزول بوعي المتلقي الى ادنى من إدراك ما بعد الشهوة، فيصبح التفكير خصوصاً لدى الشباب مقصوراً على حاجة الجسم والعاطفة، فيوظف تفكيره لخدمة هاتين الحاجتين لا اكثر، فقد اظهرت مقاطع فديو، لقاءات طبيعية واخرى مصطنعة مع فنانات وفتيات ونساء في ستوديوهات واماكن عامة وجهت لهن اسئلة من قبيل: كم مرة تزوجت، وهل تعرضت للتحرش، وما هو اكثر جزء يثيرها في جسم الرجل، ماذا تفعل لو انها تحولت الى رجل مدة 24 ساعة، وكم عملية تجميل عملت، ولماذا بدت مؤخرتها لافتة للنظر في آخر ظهور لها، ومن يصمم لها فساتينها المثيرة، وغيرها من الاستفهامات الهابطة التي تشغل المتفرج بالتفكير بكيفية شد الخصر وقص المعدة ونفخ الشفاه وتجميل الحواجب وتغيير حجم الصدر والارداف. وبوجود مثل هكذا توجه عام للمحيط الاجتماعي، فمن غير المستغرب ان تنتقد امرأة وجود قطعة قماش على رأسها وقد استغنت عن الجلباب ببنطلون جينز وصارت تقود السيارة وتذهب الى المكان الذي تريده دون مرافقة احد من افراد عائلتها، وبعد ان دخل الكذب المنمق او ما يطلقون عليه “الكذبة البيضاء” سوق التعامل الاسري والاجتماعي، فقد بدا الحجاب و غطاء الرأس موضع انتقاد ورفض عندما وجدت المرأة متسعاً لم يكن موجوداً في السابق يتيح لها ان تتصل وتلتقي بأغراب عبر العالم الافتراضي، وقد يأتي ذلك في سياق التوجيه الإعلامي لدعم لغة الجسم بدلاً عن لغة العقل ..

حين يفقد الإعلام رسالته الانسانية الايجابية الثقافية يلجأ الى سبل اخرى من شأنها جذب المشاهد من اجل جني اكبر عدد من المشاهدات والاعجابات عبر طروحات تافهة مثيرة يؤديها اعلاميون تربطهم بالإعلام شهادة جامعية اكثر منها رسالة ثقافية فيسأل الاعلامي ضيفه: هل تتبول وانت تستحم .. من اين يخرج الطعام الذي تأكله .. هل تحب المرأة القصيرة ام الطويلة ..

سُئلت احدى مطربات وراقصات النوادي الليلية: ما الشيء الذي تحملينه معك دائماً في كل مكان، اجابت: ثياب الصلاة .!!! وصرحت اخرى انها حين ترجع الى البيت آخر الليل منهكة متعبة، لا تشعر بالراحة ولا تتمكن من النوم إلا وهي تستمع الى القرآن، قد يبدو ان تناقضاً في الأمر، لكني حين لاحظت مواقف كثيرة مثلها، ربما تأتى لي ان اقول ان اعتياد الراقصة على سماع ايقاعات موسيقية تتلائم مع جو الرقص في الملهى، جعلها تشعر بالمتعة وهي تستمع الى ايقاع من نوع اخر بصوت قارىء القرآن ولا علاقة لمحتوى النص المقروء وتأويلاته في التأثير على نفسية تلك الراقصة، مثلما ظهر في التسعينات منشد ديني مصري وهو يغني اغاني مختلفة تماماً في جوها عن الجو الروحي للأناشيد الدينية التي كان يؤديها قبل ذلك، لأن شعوراً بالغرور انتابه لما اخبره احدهم ان صوته جميل جداً وسيكون له جمهور كبير اذا غنى لهم .. الذين ينظرون الى الدين على انه مجموعة تصرفات وسلوكيات هدفها الأساس الحصول على هوية اجتماعية مقبولة تمنحهم حضوراً بارزاً مقبولاً بين الناس، يتصرفون حسب البيئة الاجتماعية، والمكانة التي يتواجدون فيها، فتجد المرأة التي تعتقد بأن الحجاب عرف اجتماعي اكثر منه التزام ديني، تلتزم بنمط الحجاب حسب طبيعة الحدث او المكان الذي تتواجد فيه، قد يتبنى الشخص ايديولوجيا معينة لانه وجدها تلائم بنيته الشخصية، وقد يطوّع بنيته الشخصية لخدمة ايديولوجيا معينة، وقد يصبح الدين في ظروف كالتي يعيشها جيل اليوم حاجة يقتضيها الواقع من حيث رغبة الناس الى الشعور بالأمان وراحة البال، فيتقلص بذلك دوره من جوهر للحياة الى حاجة من حاجاتها كما في سيدة اكاديمية  ظهرت محجبة محتشمة وهي تزور احدى دور العبادة، وظهرت متبرجة في مطعم عائلي ومرفق سياحي، ولم يكن بادياً عليها انها تعاني تناقضاً او اضطراباً ولا تجد نفسها مضطرة الى الاستجابة للمجاملات الاجتماعية، فهي تعتقد ان من اللياقة لبس الحجاب في اماكن العبادة كما انه من اللائق الظهور بملابس جميلة ملونة وشعر مكشوف ومكياج مميز في اماكن اجتماعية عامة، انها ترى نفسها موفقة في وضع الشيء الصحيح مكانه، ولعل توجه الشارع هذه الأيام يدفع باتجاه هكذا انماط سلوكية، فقد تعرضت وزيرة الاتصالات العراقية دكتورة هيام الياسري الى حملة انتقادات بسبب حجابها وملابسها المحتشمة , ونقلت قناة الخليج 24 عن وكالة فرانس برس ان السعودية سمحت للنساء بارتياد شواطىء الممكلة التي كانت حكراً على الأجانب وسمحت لهن بارتداء  ” البكيني”، وعدّ بعضهم ظهور عروس تونسية في مقطع فديو وهي تخلع بدلة الزفاف لترقص بين الحضور بملابسها الداخلية، انه تعبير شخصي عن شدة فرحتها بيوم زفافها، بينما عدّه اخرون تصرفاً مشيناً مخلاً بالذوق العام .. يقول آلبورت ” الشخص ذو التوجه الظاهري يستغل دينه، بينما ذو التوجه الجوهري يعيش دينه” .

العقل البشري تبرمجه اللغة، فإن صحت صحّ التفكير وصدر عنه إدراكاً واعياً للذات .. ان ضعف ادراك المرأة لهويتها الانسانية يدفعها باتجاه إظهار انوثتها في المجتمع الذكوري لأمرين اساسيين، اولهما ارسال دعوة الى المجتمع عبر التبرج، للنظر اليها نظرة عطف او لطف، وهو الجانب المرن في الشخصية الذكورية في المجتمع العربي، لكي تضمن سلامة حضورها دون اذى قدر الإمكان، والامر الثاني، انها تحاول من خلال شكلها وملابسها ان تبرز هويتها المهنية او الاجتماعية او .. في عيون الآخرين في مجتمع لا يعطي للهوية الانسانية حضورها الاكبر مثلما يعطي للهوية النوعية، فقد نرى انتقاد الناس تبرج ربت البيت وغظهم الطرف عن تبرج الموظفة في البيئة الاجتماعية الواحدة ..

يهيىء مناخ الفوضى في اي بلد جواً مناسباً لابتعاد او انشغال المجتمع عن اداء دوره التربوي تجاه ابنائه وتعاني الاسرة اضطراباً في حركة نموها داخل البيت وهي مرتبطة بكثير من سلبيات الواقع الحياتي في الشارع، فمن المهم جداً ان نأخذ بنظر الاعتبار التجانس الاجتماعي في مناقشة اي إشكالية او ظاهرة او مشكلة او دعوة .

ان محاولات إعلاء قيمة الفرد الشخصية دون ضوابط وثوابت وقواعد من شأنه ان ينتج هوية فردية غير هادفة، مثلما يحدث مع المثليين والمنحرفين والمتحولين بايولوجياً والمتطرفين فكرياً، هذه الانشطة لا تقدم لمسيرة البشرية جديداً يخدم وعيها وادراكها للذات ادراكاً يسهم في تحجيم وحل المشاكل التي تواجهها، ربما على العكس، فإن هذا الإعلاء الفردي وبهذه الصورة، وفي هذه الفترة المرتبكة والمربكة من عمر الانسانية يسهم في صرف انظار الناس عما ينتظرهم من مشاكل يتوقعها علماء المستقبليات .

تلعب السياسة العالمية على وتر حساس جداً، فهي تدعو الى الاهتمام بقيمة للشخص  وحريته التي اعلنها ميثاق الأمم المتحدة لحقوق الانسان، فهو حر في التعبير والتفكير والتقرير والتغيير، ولكن هذا التغليب للهوية الفردية في زمن وفرة المعلومات وشحة الوعي نتيجة اضطراب في القدرة على معرفة الصحيح من الخطأ، مع ازدياد اعداد الفقراء وظهور فقر الرفاهية عند آخرين، يستهوي الفرد لأنه يفتقر الى مقومات الشعور الجمعي ويعيش فراغاً نفسياً وعاطفياً وثقافياً، وكان من الصراع النفسي الذي يعيشه الفرد انه اخذ يبرر سلوكياته الخاطئة من خلال مفاهيم انسانية، كأن تبرر امرأة عملها في النوادي الليلية بإعالتها عدداً من الفقراء، وقد يبرر رجل دين ظهوره في اماكن تتنافى مع حرمة الزي الديني الذي يلبسه، انه لا يتجاوز الموروث، لكنه يرفض تقييد ماهو طبيعي واعتيادي مثل ملاطفة النساء ومداعبة الصغار مادام لا يصل الى ارتكابه المحرم ..

يدفع الفقراء حياتهم ثمناً لصراع الهويات الفردية لجهات واشخاص في مواقع القرار في البلاد، فهم الأسهل تجنيداً اوقات الحروب والأزمات والصراعات، في حالات السلم حيث يجري تقسيم الهويات بدون اسلحة، فإن فقر الرفاهية الذي يعاني منه كثير من الشباب، يقودهم الى تبني تقسيم الهويات من حيث لا يشعرون، فهم يفعلون ذلك ليحصلوا على موبايل احدث أو سيارة احدث، لذا فهم لا ينتبهون الى ان سعيهم هذا يبعدهم عن هويات اخرى عليهم تفعيلها في حياتهم مثل الهوية الانسانية والهوية الإسلامية والهوية الاجتماعية والهوية الثقافية، فقد صار واحدهم معني اكثر مما ينبغي بتفعيل هويته الاقتصادية، فهو يريد ان يكون في افضل حال بأسرع وقت وأيسر السبل، وقد يقدّم لهذا الغرض تنازلات تطال هويته الدينية أو الاخلاقية، أو ..

يحاط المجتمع اليوم بمجموعة مشاعر غريبة تفرض نفسها عليه في واقع منهك اقتصادياً ومشتت سياسياً ومنفلت امنياً ومتردي تربوياً ومصاب اخلاقياً، وكل هذا يتضارب مع الهوية الإسلامية، وهو ما دفعه الى التفكير بعدم جدوى الدين في هذه المرحلة، لذا لم يعد يجد ما يدعوه الى التمسك بالهوية الدينية مثلما يجد مبررات كثيرة تدعوه الى المضي في طريق المشاريع الصناعية الاقتصادية العالمية  وان كانت تشعره بالتبعية التي يترتب عليها شعوراً بتدني قيمة الذات واختراق الخصوصية، فالواقع يفرض في كثير من الأحيان اموراً لا نقبلها .

ان تعدد الهويات مهم وضروري، ولا يعوق نمو الوعي الجمعي، فقد يبدو طبيعياً ان تكون للفرد هويته الدينية وهويته المهنية وهويته الاجتماعية وهويته الثقافية، لكن المخيف هو ان لا تتحرك تلك الهويات في ذاته بالمستوى نفسه، وما التطرف إلا نتاج تغليب هوية معينة على غيرها، ولنا ان نتصور اهمية تعدد الهويات من خلال المشاهد المخزية والمحزنة التي مرّت بالعراق، بلد التعدد الديني والمذهبي والقومي والعرقي، فقد تمكنت التنظيمات الارهابية من ايجاد قاعدة لها في مواقع ومناطق تحركت من خلالها لتوسيع دائرة العنف والقتل على الهوية .

 اذا اخذنا بنظر الاعتبار ان الهويات القومية والوطنية اصدرتها الظروف السياسية والاقتصادية لبلداننا في عهود الاحتلال والاستعمار ومن ثم في عهد التحولات الثقافية والتطورات التقنية والثورات العلمية، فإن اكساب الإرهاب هوية إسلامية من قبل السياسات الغربية، هي محاولة لتشويه الهوية الإسلامية الغالبة على طبيعة البلدان العربية، وهي بذلك تعمل على إبعاد الجيل الحالي والاجيال القادمة عن الهوية الإسلامية لإرتباطها بالعنف والارهاب، وهما صفتان مرفوضتان اجتماعياً سواء في بلدان الغرب او بلدان الشرق، وهي محاولة لجر الشباب الى صياغة جديدة لهوياتهم في بلدانم، ان في ظهور حالات الشذوذ والتطرف سواء في مجالات الفكر او الاخلاق او السلوك ما يدلل على هذا المشروع العالمي ..

ومن المفيد ان نذكر ان دعوات تحرير المرأة اليوم تظهر في فترة يتعرض فيها المجتمع الى اختناقات واحتقانات واشكاليات بسبب الاوضاع العامة عالمياً واقليمياً ومحلياً لمختلف بلدان العالم على اختلاف مواقعها الجغرافية وقدراتها الاقتصادية ومواردها البشرية وامكاناتها الثقافية وخلفياتها الحضارية وتاريخها الديني والادبي والاخلاقي، وبالتالي فإن المجتمع يتعرض الى ما يدفعه باتجاه القبول او الاستسلام لضغوطات الواقع بعد ان اصيب بالضعف في قدرته على تفعيل الرقابة المجتمعية، فبدت هنا وهناك سلوكيات غريبة او هي شاذة في رأي بعضهم وخطيرة في رأي اخرين مثل تشبه بعض الشباب بالبنات في اعادة بعض الشباب مكننة حركة اجسامهم ليغدو اقرب فسيولوجياً الى جسم المرأة منه الى جسم الرجل، يضاف الى ذلك ما تشهده من قصات شعر ومكياج يظهر بها بعض الشباب .. انها قضية خطيرة تدفع بالمجتمع يوماً بعد آخر الى التفريط بأهم شريحة فيه وهي الشباب، فإذا ما التبس على الشاب امر رجولته، شعرت المرأة  بتهديد يطال انوثتها، لأن الفطرة البشرية للمرأة تقوم على البحث عن مصادر الاطمئنان بوجود رجل يرعاها ويتكفلها ويحميها لتعيش وجودها معه كما هو الحال مع الرجل، وعندما اريد التلاعب بجينات الفطرة البشرية بهدف انتاج جيل لا يعرف هويته البيولوجية، فإنه لا شك جيل فاقد لأي قدرة على تكوين هويته الشخصية والفكرية والثقافية تكويناً سليماً، ولعل اخطر ما استشعره في طروحات حرية المرأة اليوم هو ان المجتمع معرّض الى التفريط بالمرأة، واذا حصل هذا، فهو يحكم على مستقبل الحياة بالعقم، لأنه لن يعود بوسع المجتمع الاستمرار على النمط الذي اريد للبشرية ان تنشأ عليه، وقد يدخل التاريخ ولأول مرة مرحلة التشويه بعدما يتم الإعداد لظهور جيل فاقد لهويته البيولوجية، او هو غير متأكد من نوعها، او هو يضع احتمالاً مستقبلياً لإعادة تعريفها من جديد على وفق ميول نفسية دون النظر في المناخ العام الذي تتولد فيه هذه الميول، ولقد نسمع هنا وهناك عن توجه الغرب الى الغاء فقرة نوع الجنس في لائحة التعليمات المراد من الشخص املاؤها لدخول المدرسة او المستشفى او غيرها، وهناك توجهات الى تجاوز مفهوم الاسرة المتكونة من اب وام واولاد وترك هذا التحديد مفتوحا على اكثر من احتمال في اشارة الى امكانية تكوين اسرة من رجلين واولاد او امرأتين واولاد، او .. او..

***

د. عدي عدنان البلداوي

التخطيط اللغوي والسياسة اللغوية:

يمكن النظر إلى التخطيط اللغوي بوصفه وضع الإجراءات المنهجية والعملية لتدبير الشأن اللساني في البلاد بما يعود بالنفع على الدولة. ويستند هذا التخطيط إلى منطلقات ومرجعيات وغايات، ويقوم على دراسات لسانية واجتماعية واقتصادية وقانونية، وتنتج عنه سياسةٌ لغويةٌ تلتزم بها الدولة، وتعمِّم تطبيقها في جميع مجالات الحياة. وإذا كانت السياسات الأخرى كالسياسة المالية أو السياسة التربوية أو السياسة الصحية أو السياسة الإعلامية، مثلاً، تختصُّ كلُّ واحدة منها بمجالٍ معيَّن، فإن السياسة اللغوية تهمُّ جميع المجالات في الدولة، لأن اللغة هي وسيلة التفكير والتعبير، والتواصل والتفاهم، وتراكم المعلومات وتوارثها، وأداة النفاذ إلى المعرفة في البلاد كلّها (للتوسع في الموضوع يُنظَر: بجيوي، الفاسي الفهري، كوبر، المسدي).

وطبقاً لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي، فإن التنمية البشرية تُقاس بانتشار المعرفة بين السكان، وتمتُّعهم بالخدمات الصحّية الجيّدة، وحصولهم على دخلٍ كافٍ للعيش بمستوىً يليق بالكرامة الإنسانية؛ وهذا يتطلَّب إيجاد مجتمع المعرفة القادر على النفاذ إلى مصادر المعلومات، وتلقيها، واستيعابها، وتبادلها، والإبداع فيها، والإضافة إليها، بِيُسر وسرعة. وأداة النفاذ إلى مصادر المعلومات هي اللغة (برنامج الأمم المتحدة الإنمائي).

وهناك من يرى أنه في وسعنا أن نقيس تقدُّم الأمَّة بمستوى الناس الثقافي ومدى اهتمامهم بالمكتبات والمتاحف والمسارح ودور السينما والموسيقى ومعارض الفنون التشكيلية ودور الثقافة (يقطين).  واللغة هي العنصر الأساس في الثقافة، لأن جميع الأنشطة الثقافية تؤدَّى من خلال اللغة بصورةٍ مباشرة أو غير مباشرة. فاللغة هي الفكر.

غاية التخطيط اللغوي:

ولهذا كلِّه، فإن غاية التخطيط اللغوي هي تطوير اللغة لتكون أداةً فاعلة في تحقيق التنمية البشرية. ولما كان عدد اللغات في العالم يتراوح بين ثلاثة آلاف وسبعة آلاف لغة، بحسب الأسس والمعايير المختلفة التي تُعتَمد في تصنيف اللغات؛  ولما كان عدد الدول  الأعضاء في منظمة الأمم المتحدة يبلغ في الوقت الحاضر أقل من مئتي دولة، فإن هذا يعني عدم وجود دولة أحادية اللغة، أي أن كل دولة تشتمل على مجموعاتٍ سكّانيةٍ عديدة تتحدّث بلغات متباينة، مما يسبِّب صعوبةً في التواصل، وتضارباً في المصالح، وخللاً في التماسك الاجتماعي، وخطراً على السلم الأهلي؛ لأن اللغة تؤثِّر في تفكير الناطقين بها، وتشكيل ثقافتهم وقيمهم، وتخليق عواطفهم وتوجّهاتهم، وتحديد هُويتهم،  وإعطائهم الإحساس بالانتماء الوطني، فوحدة الوطن من وحدة اللغة. فاللغة، كما يراها المفكِّر محمد عابد الجابري (1936 ــ 2010)، " هي الوعاء الذي تنصهر فيه الهُوية ووحدة الوطن والمواطنة، ففي هذا الوعاء وبه تتحقَّق المشاعر ووحدة الوطن ووحدة الذاكرة ووحدة التطلعات..." (الجابري: 91).

ولهذا نجد أن معظم السياسات اللغوية في العالم ترمي إلى اختيار لغة وطنية مشتركة واحدة وتعميمها بوصفها الضمانة لوحدة البلاد، وتطلق عليها اسم " اللغة الرسمية"، على الرغم من وجود لغاتٍ وطنية أخرى. وثمَّة دول قليلة جداً تتبنى أكثر من لغة رسمية واحدة، مثل سويسرة التي تعتمد أربع لغات رسمية، وقد حصل ذلك نتيجةَ ظروفٍ تاريخيةٍ خاصَّة، وهو استثناء لا يُقاس عليه.

تاريخ التخطيط اللغوي:

يدلُّنا التاريخ على أن التخطيط اللغوي قديمٌ قِدم تأسيس الدول. وقد سعى الملوك في الدول القديمة إلى فرض لغة واحدة في المناطق التي يسيطرون عليها، رمزاً لسلطةٍ واحدة.  فعندما برز الآشوريون (1220 ـ 609 ق.م.) قوة عالمية، حاول ملوكهم توحيد الشعوب العروبية أو الجزيرية، وفرض لغتهم الأكدية الآشورية التي كانت تُدوَّن بالكتابة المسمارية، لغةَ تواصلٍ مشتركة في المناطق التي كانت تحت سيطرتهم في الأحواز والعراق وسوريا وفلسطين ومصر، خاصَّةً في عهد الملك أسرحدون (حكم من 680  ـ 669 ق.م.) وابنه الملك آشوربانيبال (حكم من 668 ــ 627 ق.م.) ،  كما تذكر دائرة المعارف البريطانية  (بريتانيكا).

وعلى الرغم من أن هذه الشعوب تتكلَّم بألسن تنتمي لأسرة لغوية واحدة هي مجموعة اللغات الجزيرية أو العروبية (التي يطلق عليها الأوربيون اسم اللغات الحامية السامية)، وعلى الرغم من أن اللغة المصرية القديمة كانت تدوَّن بالكتابة بالهيلوغرافية، وهي كتابة عريقة وضعها أبناء الكنانة بعد فترة قصيرة من ظهور الكتابة المسمارية حوالي سنة 3600 ق.م.، كما تخبرنا (موسوعة المعرفة) والموسوعة الفرنسية (يونفارساليس) و (السليمان 24 - 27)؛  فقد حاول الملوك الآشوريون اتخاذَ لغةٍ رسميةٍ واحدة هي الأكدية الآشورية بكتابتها المسمارية، لأنهم كانوا يدركون أن اللغة قوةٌ بحدِّ ذاتها، تمنح أهلها سلطة وتميُّزاً، وتوحِّد الناطقين بها، وتيسِّر التواصل بين أطراف امبراطوريتهم وتسرِّعه..

ويخبرنا التاريخ كذلك أن بعض اللغات وجِدت فعلاً وتطوَّرت كمّاً وكيفاً بفضل قرارٍ رسمي يمثِّل السياسة اللغوية للدولة. فاللغة الفرنسية، مثلاً، لم يكُن لها وجودٌ فعلي في الدوائر الرسمية بفرنسا قبل قرار اتخذه الملك فرانسيس الأول سنة 1539 يقضي بجعل لغته الفرنسية لغةً رسمية في الإدارة والمحاكم، على الرغم من وجود حوالي 24 لغة ولهجة وطنية في فرنسا في مقدِّمتها: الألزاسية، والكتلانية، والكورسيكية، والبريتونية، والغالية.

(L’histoire du française)

ولم تدوَّن قواعد اللغة الفرنسية إلا سنة 1550 .  واليوم يمنع القانونُ الفرنسي رقم 94ــ 665 الصادر بتاريخ 4/8/ 1994 (المعروف باسم قانون توبون، وتوبون هو وزير الثقافة آنذاك) استخدامَ اللغات الوطنية الأخرى استخداماً رسمياً. ويعدُّ السياسيون الفرنسيون "أن اللغة الفرنسية هي أحد العوامل الأساسية في الوحدة الوطنية والتماسك الاجتماعي، وتساوي الفرص" ، كما جاء في خطابٍ لأحد رؤساء الوزارات الفرنسية. (أية سياسة للغة الفرنسية؟)

وفي مرحلة الاستعمار الحديث بعد الثورة الصناعية في القرن التاسع عشر الميلادي، فرضت الدول الاستعمارية الأوربية لغاتها على مستعمراتها في إفريقيا  وآسيا والأمريكتيْن (ومنها معظم البلدان العربية) لتضمن تبعيتها الثقافية والاقتصادية حتى بعد رحيل الاستعمار عنها.

دور السياسة في تطوير أو تدمير اللغة:

قد ترمي السياسة اللغوية إلى جعل لغة من اللغات الوطنية اللغة الرسمية في البلاد، فتسعى إلى تنميتها وتطويرها وتيسير استعمالها. وثمة إجراءات عديدة لتطوير أية لغة: مثل الإجراءات القانونية، كما هو الحال في قانون توبون في فرنسا؛ والإجراءات اللسانية الرامية لتيسير نحو اللغة وكتابتها، والإجراءات المؤسّساتية المتمثِّلة بتأسيس مجامعَ لغويةٍ ومعاهدَ ترجمةٍ ومراكزَ بحوثٍ لدراسة طرائق تعليم اللغة لإبنائها ولغير الناطقين بها؛ والإجراءات الثقافية التي تعمل على تعميم استعمال اللغة الرسمية في وسائل الإعلام، وتشجيع الترجمة منها وإليها؛ والإجراءات التربوية التي تجعلها لغة تدريسٍ وبحثٍ في المنظومة التعليمية. وقد تطرّقتُ إلى هذا الجانب من السياسة اللغوية في دراسات سابقة، خاصَّةً في  كتابي " لغة الطفل العربي: دراسات في السياسة اللغوية وعلم اللغة النفسي"، وكتابي " السياسة الثقافية في العالم العربي" (القاسمي: 2008 و 2014).

بَيدَ أن السياسات اللغوية قد تعمل على تهميش لغةٍ ما أو محاصرتها والإضرار بها، أو حتى تدميرها والقضاء عليها. وعلى الرغم من وجود آلاف اللغات في العالم، فإنه لا يُستخدم منها في العالم الرقمي سوى أقل من 100 لغة، وحوالي 43 بالمائة من مجموع اللغات هي لغات محكيَّة معرَّضة للانقراض بسبب العولمة، وأن ما بين 250 و 300 لغة تنقرض سنوياً بفعل السياسات اللغوية والميل إلى استعمال اللغات الوطنية أو العالمية الأوسع انتشاراً (اليونسكو). ويتناول مقالنا هذا السياسات اللغوية التدميرية، مستمدين الأمثلة مما هو معمول به في البلدان العربية.

السياسات المعتمدة في تدمير اللغة العربية:

إن السياسات اللغوية المعتمَدة في البلدان العربية تؤدي إلى تهميش اللغة العربية الفصيحة المشتركة وتدميرها، من وجهة نظرنا. ونسوق هنا بعض هذه السياسات:

1 - سياسة الثنائية اللغوية في الدولة (أو الاستعمار اللغوي):

على الرغم من أن الأغلبية الساحقة من دساتير البلدان العربية تنصُّ على أن اللغة العربية هي اللغة الرسمية في البلاد، فإن الدولة تعتمد لغة المستعمِر القديم (الإنكليزية في دول المشرق "العربي"، والفرنسية في دول المغرب "العربي") في المؤسسات الاقتصادية والمالية كالشركات والمصارف الوطنية والأجنبية، وفي التعليم لغة تدريس، خاصَّةً التعليم العالي، حيث تُستعمَل اللغة الأجنبية لغة تدريس العلوم النظرية والتطبيقية في كلّيات العلوم والهندسة والزراعة والطبّ والصيدلة وغيرها، على الرغم من عدم تمكُّن الطلاب وكثير من أساتذتهم من اللغة الأجنبية.  وينحصر استعمال العربية الفصيحة المشتركة في الدراسات الإنسانية والاجتماعية.

فالدول العربية، في الواقع، تعتمد سياسة الثنائية اللغوية: لغة أجنبية ولغة وطنية، وتحدِّد لكل منهما وظيفتها ومجالات استعمالها. وتضطلع اللغة الأجنبية، في حقيقة الأمر، بوظيفة أساسية في المؤسَّسات الاقتصادية والمالية والعلمية والتقنية. ونظراً لأن هذه المؤسَّسات هي الأكثر مردودية مادية، والأعلى مكانة اجتماعية، فإن هذه السياسة تحيق باللغة الوطنية ظلماً في عقر دارها، على حد تعبير اللساني المغربي عبد القادر الفاسي الفهري، وتوجِّه إهانةً مقصودة إلى لغة القرآن الكريم والشعوب الناطقة بها.

ويؤدّي هذا الوضع إلى توليد انطباعٍ لدى المواطنين مفاده أن اللغة العربية لغةٌ قديمة لا يمكنها التعبير عن العلوم العصرية، وهو انطباع يتسبَّب في الشعور بالنقص لدى المواطنين الذين لا يجيد معظمهم اللغة الأجنبية.

ومن ناحية أخرى، يتسبَّب هذا الوضع الشاذ بشعورٍ بين معظم المواطنين الذين لا يجيدون اللغة الأجنبية بأن لغة الدولة هي غير لغة المواطنين، ما يؤدّي إلى انفصام بين الدولة ومواطنيها، وبعبارة أخرى، نشوء شعورٍ سلبي متبادل بين المواطنين وموظَّفي الإدارة: يشعر المواطنون باستعلاء موظَّفي الإدارة عليهم لمخاطبتهم بلغةٍ أجنبية، ويشعر الموظَّفون بجهل المواطنين لعدم تمكُّنهم من ملء استمارةٍ باللغة الأجنبية مثلاً. ويسهم هذا الاستياء لدى المواطنين في الإرهاص لخلخلة السلم الأهلي واندلاع اضطراباتٍ اجتماعية.

ولقد قمتُ بدراسةٍ إحصائية على سُلَّم التنمية البشرية الذي يصدره برنامج الأمم المتحدة الإنمائي سنوياً، ويرتّب فيه الدول الأعضاء في الأُمم المتحدة طبقاً لدرجة التنمية البشرية فيها، فوجدتُ أن جميع الدول التي تستخدِم لغةَ المستعمِر القديم لغة عملٍ فيها، هي من الدول ذات التنمية المتدنية (تورية تعني الدول المتخلّفة)، ومنها ـ مع الأسف ـ بلداننا العربية؛ وأن جميع الدول ذات الرتب العالية في السلَّم تستخدم لغاتها الوطنية. (برنامج الأمم المتحدة الإنمائي: 22ــ27).

ومما يدفعنا إلى الاقتناع بأن التمسُّك باستعمال لغة المستعمِر القديم لغة عمل في القطاعات الحيوية في بلداننا هي سياسةٌ معتمدة مقصودة، ما نلمسه من انفصام بين المثقَّفين وأصحاب القرار حول الموضوع؛ إذ يصرُّ المثقفون العرب على ضرورة استعمال اللغة العربية الفصيحة المشتركة في تلك القطاعات الحيوية وجميع المجالات الأخرى في بلدانهم، ويصرّ أصحاب القرار بالإبقاء على لغة المستعمِر القديم. فقد عُقِدت خلال الستين سنة الأخيرة عشرات المؤتمرات لوزراء التربية العرب، ووزراء الصحة العرب، ووزراء الزراعة العرب، ووزراء المالية العرب، ورؤساء الجامعات العربية، وعمداء كليات الطب، وعمداء كليات الصيدلة، وعمداء كليات العلوم، وعمداء كليات الهندسة، إلخ.، وجميع هذه المؤتمرات ألحَّت في توصياتها على ضرورة تعريب تلك القطاعات فوراً أو في غضون سنوات معدودة، خاصة أن جميع المصطلحات العلمية والتقنية الأساسية متوافرة باللغة العربية. ولكن أصحاب القرار لا يعيرون أذنا صاغية. (القاسمي، 2008: 115 ـ 137).

ويطلق بعض اللسانيِّين مصطلح "الاستعمار اللغوي" على هذه الوضعية، وهو مصطلح ابتدعه اللساني البريطاني روبرت فيلبسون في كتابه " الاستعمار اللغوي" الذي صدر سنة 1992. ويرى فيلبسون أنه يمكن تنفيذ الاستعمار اللغوي عن طريق المؤسسات الدولية مثل البنك العالمي  وصندوق النقد الدولي من خلال قروضهما الخاصَّة بالتعديلات البنيوية الاقتصادية التي تنفِّذها حكومات الدول النامية بضغط من الدول الاستعمارية الكبرى. (يُنظر فيلبسون، الشمري، القاضي).

فالمستعمِر لم يعُد موجوداً بجيوشه ورجالات إدارته في بلداننا، ولكنه موجود فاعل بلغته وثقافته واقتصاده، ويعتمد في تحقيق مصالحه على نخبة حاكمة من أهل البلاد تؤمن بطروحاته وتوجّهاته، وارتباط مصالحها بمصالحه.

2 ـ السياسة التربوية:

تؤكِّد تقارير التنمية البشرية التي يصدرها سنوياً برنامج الأمم المتحدة الإنمائي على أن تحقيق التنمية البشرية في البلاد يتطلَّب عناية الدولة بالتعليم والخدمات الصحّية وتوفيرهما بجودة عالية لجميع المواطنين، والتزامها بالديمقراطية وتكافؤ الفرص بين أبناء البلاد. وقد تبنَّت تلك السياسة التنموية كثيرٌ من الدول التي كانت أكثر تخلفاً من البلدان العربية قبل حوالي ستين عاماً، فأصبحت اليوم من الدول المتقدِّمة حقاً، مثل ماليزيا، وكوريا التي كانت أفقر دولة في آسيا، وفنلندا التي كانت أفقر دولة في أوربا،  والصين، وإيران، وتركيا، وغيرها.

ولكننا نجد أن الأمّية تنتشر في البلدان العربية، بسبب عدم تعميم التعليم الإلزامي الذي تنصُّ عليه دساتير الدول العربية. إضافة إلى تضاؤل جودة التعليم في المدارس الحكومية ما يؤدّي ــ مع أسباب أخرى ــ إلى تسرُّبٍ كبير من المدرسة. وقد أشارت المنظَّمة العربية للتربية والثقافة والعلوم (الألكسو) إلى ارتفاع عدد الأميين في البلاد العربية إلى 72 مليون شخص ممَّن تزيد أعمارهم عن 15 عاماً بحيث تصل نسبة الأمّية في الوطن العربي إلى 35 بالمئة من البالغين(ويكبيديا).

وتعلن الحكومات العربية، المرَّة تلو المرة، أنها ترفع يدها عن التعليم والصحَّة وتتركهما للقطاع الخاصّ، بحجّة اتباعها سياسة الاقتصاد الحر والانفتاح على العالم. ونتيجة لهذه السياسة المناقضة لجميع مبادئ التنمية البشرية، فإن النظام التعليمي في البلدان العربية أصبح ساحة تتصارع فيها مصالح الطبقات الاجتماعية والدول الأجنبية. فكلُّ طبقة اجتماعية وكلُّ دولة ذات أهداف استعمارية، تسعى إلى أن تكون مخرجات التعليم في صالحها، وأن يُنتِج مجتمعاً يخدم مصالحها. وهكذا فإن النظام التربوي المعمول به في البلدان العربية هو لخدمة الطبقة العليا، ويعمل على إعادة إنتاج الطبقية المجتمعية، ولا يوفر تكافؤ الفرص بين المواطنين، كما أنه لصالح دول استعمارية بذاتها. فالمدارس في البلدان العربية على ثلاثة أنواع:

أ ـ المدارس الأجنبية:

وهذه المدارس تركها المستعمِر في البلدان العربية، وتوسَّعت بعد الاستقلال.  وهي، عادةً، مدارس فرنسية في بلدان المغرب "العربي"، ومدارس بريطانية أو أمريكية في بلدان المشرق " العربي". وتدرّس هذه المدارس المنهج الأجنبي باللغة الأجنبية، ويكون درس اللغة العربية الدارجة اختياريا عادة ولا يؤثر في نتيجة الطالب. ويجيد خريجو هذه المدارس اللغة الأجنبية، ويتشبّع معظمهم بالثقافة الأجنبية، ويُزرع في لاوعيه احتقار الثقافة العربية وأهلها. ونظراً للأجور الدراسية المرتفعة التي تتقاضاها هذه المدارس، لا يستطيع الانخراط فيها إلا أبناء رجال السلطة وأبناء الطبقة الموسرة. وبفضل طبقتهم الاجتماعية وإجادتهم اللغة الأجنبية، فهم المؤهلون لحكم البلاد وإدارة الشركات والبنوك وغيرها من المؤسسات الاقتصادية والمالية، إذا لم يهاجروا إلى الدول التي تربّوا على ثقافتها بسبب شعورهم بالاغتراب في أوطانهم.

ب ــ  المدارس الأهلية أو الخاصَّة:

وهي مدارس يقيمها رجال الأعمال، وتتوافر في المدن الكبيرة فقط، وتتوخّى الربح في الأساس، وتتقاضى أجوراً عالية ترهق كاهل الطبقة المتوسطة. وتستخدِم هذه المدارس المنهج التعليمي الوطني مع عناية خاصَّة باللغة الأجنبية، وتؤهِّل خريجيها للعمل مساعدين لخريجي المدارس الأجنبية، بفضل معرفتهم المتوسطة باللغة الأجنبية التي هي لغة عمل في المؤسَّسات الاقتصادية والمالية والخدمية.

ج  ــ المدارس الحكومية:

وهي مدارس شبه مجانية تتولّى إنشاءها وزاراتُ التربية والتعليم، وهي سيئة التجهيز وتعاني اكتضاض الصفوف، وغياب المدرِّسين الذين ينقصهم الدافع والإعداد الجيّد. وعلى الرغم من أن دروس اللغة الأجنبية تحظى، في هذه المدارس، بأفضلية كبيرة على اللغة العربية من حيث عدد الساعات، والمُعامل المخصَّص لها في الامتحانات، فإن خريجي هذه المدارس لا يجيدون عادة اللغة الأجنبية. ولذلك فإن معظمهم لا يحصل على وظيفة في سوق العمل الذي يعتمد اللغة الأجنبية، ما ينتج عنه بطالة قاتلة بين خريجي هذه المدارس، فيضطر معظمهم إلى الهجرة في قوارب الموت إلى أوربا بحثاً عن إنسانيتهم، أو الانضمام إلى الحركات المشبوهة، فيصيرون وقودا للاضطرابات الاجتماعية والثورات الشعبوية والحروب الأهلية.

إن الانفصام بين لغة التدريس في المدارس الحكومية ولغة العمل في المؤسَّسات المالية والاقتصادية والعلمية والتقنية التي تعتمدها الدول العربية، يُسهم في تفاقم مشكلة البطالة بين الشباب العرب. فتعداد سكان الدول العربية حالياً 365 مليون نسمة، نصفهم في العشرينيات من العمر، وتبلغ نسبة البطالة حوالي 30 بالمئة من مجموع القوى العاملة، مع أن متوسّط البطالة على مستوى العالم 13 بالمائة. (حسين).

يكفي أن نشير هنا إلى أن المدارس الأمريكية في كوريا، مثلاً، هي للأمريكان والأجانب فقط وليس للكوريين الذين تتعهّد دولتهم بتربيتهم وتعليمهم وعلاجهم مجاناً في مدارسها الوطنية ذات الجودة  العالية، وأن اللغة الإنجليزية ليست لغة ثانية في البلاد بل هي لغة أجنبية من بين عدة لغات أجنبية يستطيع الطالب الاختيار منها في المدرسة الثانوية، وأن جميع المواد وفي كلّ التخصصات وفي جميع المستويات، تُدرَّس باللغة الكورية الفصيحة المشتركة. وأنَّ التعليم على نفقة الدولة. وهكذا استطاعت كوريا الجنوبية أن تحتل الرتبة 12 في سلم التنمية البشرية متقدِّمة بذلك على دول أوربية عريقة كفرنسا وإيطاليا وسويسرة. فالنظام التربوي الكوري يوفِّر تكافؤ الفرص لجميع المواطنين؛ وأصحاب المؤهلات الجادون هم الذين يديرون البلاد، وليس بفضل الطبقة التي ينتمون إليها والمدارس الأجنبية التي تعلّموا فيها.

3 ــ السياسة الإعلامية:

إن وسائل الإعلام المسموعة والمقروءة والمرئية والرقمية هي التي تشيع ثقافة المجتمع وقيمه ومُثُله وعاداته، وتعزِّز المعرفة التي يكتسبها الفرد من الأسرة والمدرسة والمجتمع.

لا تسعى السياسة الإعلامية المتبعة في البلدان العربية إلى تعميم العربية الفصيحة المشتركة، كما فعلت ألمانيا مثلاً خلال القرن التاسع عشر فنجحت في نشر اللغة الألمانية المشتركة عن طريق التعليم والإعلام وترسيخ عادة القراءة لدى المواطنين، ونتيجة لذلك هُمِّشت اللهجات الألمانية التي كانت سائدة في ولاياتها المتعددة.

إن السياسة الإعلامية المُتَّبَعة في بلداننا العربية ترمي إلى قتل عادة القراءة لدى الأفراد، وبعبارة أخرى تجهيل المجتمع. ومن الإجراءات المتبعة في الإعلام العربي لتحقيق ذلك ما يلي:

أ ـ تقديم معظم البرامج بالعامّية الدارجة وليست بالعربية الفصيحة المشتركة، التي هي لغة القراءة والثقافة. إن الإذاعات ومحطات التلفزة والفضائيات والأفلام السينمائية تستخدم اللهجات الدارجة بصورة مكثَّفة. وتُكثِر كلُّ دولة عربية من استيراد المسلسلات التلفزيونية الأجنبية، ودبلجتها بلهجتها العامية، ما يرسِّخ العاميّة ويضرُّ بقدرة الفرد على اكتساب الفصيحة المشتركة، وعلى القراءة التي تتمُّ عادةً باللغة الفصيحة المشتركة، ويحدُّ من إنتاج المبدعين الوطنين كتّاباً ومخرجين وممثلين وغيرهم.

ب ـ إعطاء الأولوية لبرامج الألعاب الرياضية والأغاني والرقص على البرامج التي تتناول الكتب العلمية والأدبية بالعرض والنقد وتحفِّز الجمهور على اقتنائها وقراءتها.

ج ـ خلو البرامج الإعلامية من المسابقات المعرفية التي تشجّع المواطنين على اكتساب المعارف بالقراءة والدراسة باللغة العربية الفصيحة المشتركة.

4 ـ سياسةُ وأدِ عادةِ القراءة في المجتمع:

القراءة هي الوسيلة الناجعة للنفاذ إلى مصادر المعلومات وتكوين مجتمع المعرفة القادر على تحقيق التنمية البشرية. ولهذا فإن الدول المتقدِّمة أو الدول التي تعمل على إحداث التنمية البشرية، تشجِّع عادة القراءة وتنشرها وتنمّيها بجميع الطرائق.

ولكن منذ " استقلال" الدول العربية في أواسط القرن الماضي، اتُبِعت سياساتٌ ممنهجة لوأد عادة القراءة وإنجاز التجهيل المطلوب. وبعض هذه السياسات موروثة من فترة خمول الثقافة العربية الإسلامية التي سادت بعد سقوط الخلافة العباسية في بغداد سنة 656 هـ / 1258 م ودامت أكثر من خمسة قرون إلى ما يسمى بعصر النهضة العربية في أوائل القرن الثالث عشر الهجري/ مطلع القرن التاسع عشر الميلادي. وتُسمَّى تلك الفترة بعصر الانحطاط.

وقد استمرَّت بعضُ تقاليد عصر الانحطاط في معاهدنا التقليدية حتى يومنا هذا. فقد يقوم المؤرِّخون والمعلِّمون بتقسيم الزمن إلى عصور أو فترات تاريخية ذات سمات مشتركة لتيسير دراسة التاريخ، ولكنَّ أفكار عصرٍ من العصور وقيمه لا تختفي فجأة عند نهاية ذلك العصر، بل هي عابرة للعصور، وتبقى حيّة ماثلة في أذهان بعض الناس بعد انقضاء عصرها، لأسباب اجتماعية وثقافية لا مجال لذكرها. وهكذا يحقُّ لهؤلاء الناس أن يُنسبوا إلى ذلك العصر الذي توارثوا تقاليده.

وفي عصر الانحطاط هذا، الذي سيطر فيه المغول والمماليك والأتراك على العالم العربي،  أصيبت الثقافة العربية الإسلامية بنوعٍ من الجمود والتكلُّس، فتدنّى البحث العلمي، وخفتت شعلة الإبداع، وساد التعصّب المذهبي، وتراجع التعليم، وانحصرت الثقافة العربية في موادَ دراسيةٍ محدودة هي النحو والفقه والتوحيد، واقتصرت بنية العقل العربي على طريقةٍ واحدةٍ في التفكير هي “القياس”، الذي وقع الإفراط في استعماله دون التقيُّد بشروط صحّة هذا النوع من الاستدلال، وانتقلت هذه البنية الفكرية من عصر الانحطاط إلى عصرنا الحاضر، كما يرى المفكر محمد عابد الجابري في كتابه " نحن والتراث" (الجابري:18)

وأهمُّ مخلَّفات عصر الانحطاط التي استمرت في بعض المعاهد التعليمية التقليدية أو بعض خريجيها حتى يومنا هذا، وأسهمت وتسهم في دعم سياسة وأد عادة القراءة المتبعة في بلداننا العربية، ما يلي:

أ ــ تفضيل الحفظ على الفهم:

في عصر ازدهار الثقافة العربية الإسلامية، كان العِلم إنسانياً نفعياً يقوم على التفكير والفهم والاستيعاب والتطبيق العملي، انطلاقاً من توجيهات القرآن الكريم الذي حث المؤمنين على التفكير في الخلق والطبيعة والكون، في آيات كريمة عديدة مثل:

(وسخَّر لكم ما في السّماوات وما في الأرض جميعا منه إنَّ في ذلك لآيات لقوم يتفكّرون) (سورة الجاثية: 12ـ13)

وكذلك انطلاقاً من الأحاديث النبوية الشريفة مثل:

(اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عِلْمٍ لا يَنْفَعُ، وَمِنْ قَلْبٍ لا يَخْشَعُ، وَمِنْ نَفْسٍ لا تَشْبَعُ، وَمِنْ دَعْوَةٍ لا يُسْتَجَابُ لَهَا) [أخرجه مسلم والترمذي والنسائي].

وفي عصر ازدهار الثقافة العربية الإسلامية، طوّر العلماءُ منهجيةً رصينة لاكتساب المعرفة. وقد لخص ابن عبد البرّ النمري القرطبي (368 ـ 463 ه) في كتابه " جامع بيان العلم وفضله" خطوات تحصيل العلم بقوله:

" أوَّل العلم النية، ثم الاستماع، ثم الفهم، ثم الحفظ، ثم العمل، ثم النشر"(القرطبي)

إلى جانب منهجيات البحث العلمي التجريبي.

ولكن في عصر الانحطاط، كاد تحصيل العلم يقتصر على خطوةٍ واحدة هي الحفظ، خاصَّة حفظ المنظومات، وأمسى هَمُّ الطلبة حفظ النصوص بغض النظر عن الفهم أو التطبيق.. ولهذا فإن الانحطاطيين اليوم، ورثوا عادة حفظ النصوص دون فهمها أو العمل بها.

ب ـ تفضيل النحو على القراءة في المدارس:

لقد ورثت مؤسَّساتُنا التعليمية الحالية من عصر الانحطاط ـ مع الأسف ـ تقليدَ إهمال القراءة في المنهج، وإعطاء الأهمّية للنحو والقواعد. فهي لا تخصِّص ساعات لتعويد الطلاب على القراءة والمطالعة. وتخلو غالبية المدارس الابتدائية والثانوية في العالم العربي من المكتبات التي ينبغي أن يرتادها الطلاب ويستعيرون منها الكتب التي تلائم أذواقهم وسنّهم لقراءتها في أوقات الفراغ. وإذا وُجِدت هذه المكتبات فإن وزارة التربية لا تمدّها بالمطبوعات الجديدة بانتظام. ونذكر هنا أن وزارات الثقافة في الدول الإسكندنافية، مثلا، التي لا يتعدى تعداد السكان في كلِّ دولة منها بضعة ملايين، تشتري حوالي 1000 نسخة من كل كتاب جديد لتوزيعه على المكتبات العامة التابعة لها، وهكذا تشجِّع التأليف والقراءة، في حين أن بعض الدول العربية التي يتراوح تعداد سكانها عشرات الملايين لا تشتري أكثر من خمسين نسخة من المؤلِّف الذي يلجأ إليها لدعم كتابه الجديد، وتتركها في مخازن الوزارة، وهكذا تثبِّط التأليف والقراءة.

وفي دروس اللغة العربية في مدارسنا، يوجَّه الاهتمام الأكبر لمادَّة النحو، وليس لدرس القراءة، على الرغم من أن النحو وهو مجرَّد وسيلة لتعميق فهم المقروء أو المسموع. لأن " الذي يكوّن الملكة اللغوية هو الدربة والمرانة على القراءة السليمة الكثيرة والسماع الصحيح الكثير المتكرّر.  ولهذا لا نتوقع من كتب النحو أن تساعدنا على تكوين الملكة اللغوية..."، كما أكّد فقيدنا المرحوم الدكتور محمد حماسة عبد اللطيف (1941 ــ 2015م) في كتابه " في بناء الجملة العربية" (عبد اللطيف: 18ــ 19)، وكما كان يؤكِّد المرحوم الدكتور محمد كمال بشر (1921 ــ 2015م ) رحمه الله. فالحركات الإعرابية تساعدنا على توضيح المعنى، أما إذا اتضح المعنى بالقرائن المعنوية واللفظية، لم يعُد للحركة الإعرابية دور كبير، كما أوضح ذلك المرحوم تمام حسان (1918 ـ 2011م)  في كتابه " العربية : معناها  ومبناها" (حسان:234 ).

ولهذا فإن جلال الدين السيوطي (849 ـ 911ه) يشير في كتابه " همع الهوامع في جمع الجوامع" إلى أن علماء اللغة في عصور ازدهار اللغة العربية أباحوا رفع المفعول به ونصب الفاعل إذا كان المعنى واضحاً من القرائن الأخرى. وقال:

" وسُمع رفع المفعول به ونصب الفاعل، حكوا: خرق الثوبُ المسارَ، وكسرَ الزجاجُ الحجرَ... والمبيح لذلك كلِّه فهم المعنى، وعدم الإلباس..."

ويأتي السيوطي بشواهد شعرية عديدة على ذلك (السيوطي، ج 3 ص 8). وطبعاً هذا استثناء لا يُقاس عليه، ولكن لا يُعترض عليه إذا كان المعنى مفهوماً.

أما الانحطاطيون اليوم فما زالوا يتمسِّكون بتقاليد بالية مفادها أن النحو هو الأساس في اللغة وهو مدار درسها وإتقانها. وإذا سمع أحد الانحطاطيين جملةً فصيحة مفهومة ولم تجرِ على القواعد النحوية التي حفظها عن ظهر قلب، انتفض فرحاً كأنه عثر على ضالته المنشودة، وقاطع المتكلِّم دون اعتبارٍ لآداب الكلام أو آداب الاجتماع، من غير أن يدرك أن النحو مجرَّد وسيلة لفهم معنى التعبير، ويختلف من مدرسة نحوية إلى أخرى كمدرسة البصرة ومدرسة الكوفة ومدرسة بغداد، وأن كثيراً من خروج التعبير المفهوم عن القواعد يمكن استساغته بالتأويل والتقدير، كما يسوِّغ مجمع اللغة العربية بالقاهرة تعبير " قال أن" الذي يعدّه الانحطاطيون خطأً جسيماً، على تقدير " ذكر أن " . فاللغة وسيلة للتفاهم والتواصل، وليست لإشهار القواعد النحوية في وجوه الآخرين بطريقة فجة.

وكان العلامة ابن خلدون (732 ـ 808 هـ/ 1332 ـ 1406م) قد سخر من هؤلاء النحويِّين الانحطاطيِّين في فصلٍ كامل من مقدِّمته الرائعة عنوانه " الفصل الخمسون: في أن ملكة هذا اللسان غير صناعة العربية ومستغنية عنها في التعليم ، والسبب في ذلك أن صناعة العربية إنما هي معرفةُ قوانين هذه الملكة ومقاييسها خاصةً، فهو علم بكيفيةٍ، لا نفسُ كيفيةٍ، فليست نفس الملكة، وإنما هي بمثابة مَن يعرف صناعةً من الصنائع علماً، ولا يحكمها عملاً..." (ابن خلدون: ص 1081  ــ 1084).

فالعلامة ابن خلدون يدعو هنا الى الاستغناء عن درس النحو في التعليم، والاستعاضة عنه بقراءة نصوص النثر والشعر لاكتساب ملكة اللغة العربية، تحدُّثاً وكتابة.

ج ـ اعتبار الكتابة هي اللغة:

من بديهيات علم اللغة الذي طوّره العلماء العرب في عصور ازدهار الثقافة العربية الإسلامية، أن الكتابة ليست هي اللغة. فاللغة كما عرّفها ابن جني (332 ــ 392 ه) في كتابه " الخصائص" هي " أصواتٌ يعبّر بها كلُّ قوم عن أغراضهم.." (ابن جني، 1/34)، وما الكتابة إلا رسمٌ لتلك الأصوات. ومعروفٌ أن في الإمكان إبداع عدّة رسوم للشيء الواحد، ومن الطبيعي أن تختلف هذه الرسوم في جودتها وكمالها، طبقاً لمهارة الرسّام المتأتية من معارفه العلمية وقدراته الإبداعية. ويشكِّل رسمُ جميعِ أصواتِ لغةٍ ما نظاماً كتابياً لتلك اللغة يمكن تطويره وتبسيطه وتوحيده. وهذا ما تسعى إليه السياسات اللغوية الهادفة إلى تطوير اللغة.

وقد خضع النظام الكتابي للغة العربية إلى عدّة تعديلات وتحسينات وتبسيطات على مرّ العصور. ولكنه في عصر الانحطاط، أصيب بالجمود فبقي ناقصاً غير موحّد في قواعده. وقد أُضفيت عليه قدسية متوهَّمة، وصلت إلى إعطاء الحروف قوة سحرية لا تمتلكها في حقيقة الأمر، وقد تطرقتُ إلى ذلك في كتابي " صناعة المعجم التاريخي للغة العربية".(القاسمي، 2014:  133 ـ 161)

ونظراً لذلك الجمود الذي أصاب نظام الكتابة العربية الذي ورثناه من عصر الانحطاط، نجد اختلافات عديدة في كتابتنا اليوم طبقاً لنوعية النصِّ، أو للقطر الذي تتمُّ فيه الكتابة. فمثلاً كلمة (الرحمان) تُكتَب برسمها الكامل هذا في بلدان المغرب العربي، ولكنها تُكتَب (الرحمن) برسمها الناقص هذا الموروث من عصر الانحطاط في بلدان المشرق العربي. ومثل هذا التفاوت كثير في الكتابة العربية، حتى في الكتاب الواحد.

ولكن إذا دعا أحدهم إلى توحيد الكتابة العربية بحيث يكون الإملاء واحداً في جميع النصوص العربية على اختلاف مواضيعها وفي جميع الأقطار العربية على اختلاف مواقعها، انتفض انحطاطيٌّ صارخاً: " لا يقول بهذا إلا كافرٌ أو مستشرقٌ". ولم يبقَ لهذا الانحطاطي إلا أن يفتي بهدر دم الرجل وتطليق زوجته. وقد نسي هذا الانحطاطي ما حفظه من القرآن الكريم مثل: (ولا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان ومَن لم يتُب فأولئك هم الظالمون) (سورة الحجرات: 11)، ونسي ما حفظه من الحديث النبوي الشريف مثل " مَن قال لأخيه: يا كافر، فقد باء بها أحدهما" (ابن مالك : الموطأ، الحديث رقم 1844). والانحطاطيون يحفظون النصوص، ولكن لا يعملون بما يحفظون، كما ذكرنا.

ومعروف أن تيسير الكتابة وتوحيد قواعدها الإملائية هو من الإجراءات الشائعة في السياسات اللغوية الرامية إلى تنمية اللغة وتسهيل تعلُّمها وتسريع انتشارها.

الخلاصة:

وخلاصة القول: إن السياسات اللغوية لا تُستعمَل دائماً لتطوير لغةٍ ما وترقيتها، بل قد تُستخدَم أحياناً لتهميش لغة ما وتدميرها. ويرى الكاتب أن السياسات اللغوية المتَّبعة في البلدان العربية حالياً ترمي، عن قصد أو غير قصد، إلى تهميش اللغة العربية الفصيحة المشتركة وتدميرها، وذلك عن طريق تفضيل لغة المستعمِر القديم واعتمادها لغة عمل في التعليم العالي العلمي والتقني والمؤسسات المالية والاقتصادية والحياة العامة، وتغليب العامية الدارجة في وسائل الإعلام، والتعليم، واتباع ممارسات وإجراءات تثبّط عادة القراءة في المجتمع؛ إضافة إلى أن بعض الممارسات التعليمية الموروثة عن عصر الانحطاط  كإعطاء الأهمية لدرس النحو وعدم تيسير الكتابة العربية واستكمالها، تؤدي إلى وأد عادة القراءة والحدِّ من انتشار اللغة العربية بين الناطقين بها وغير الناطقين بها.

***

بقلم: الدكتور علي القاسمي

دراسة قُدِّمت في المؤتمر السنوي لمجمع اللغة العربية بالقاهرة في أبريل 2018

........................................

المصادر والمراجع:

ــ ابن جني.1952. الخصائص. تحقيق: محمد علي النجار. بيروت: دار الكتاب العربي، عن نشرة دار الكتب المصرية.

ــ ابن خلدون. 1967. المقدمة. بيروت: دار الكتاب اللبناني.

ــ بجيوي، عبد الرحمن. 2011. تنمية اللغة ولغة التنمية في الوطن العربي. الدوحة: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات.

ــ برنامج الأمم المتحدة الإنمائي. 2016. تقرير التنمية البشرية: تنمية للجميع. نيويورك: الأمم المتحدة.

ــ الجابري. محمد عابد. 1980. نحن والتراث. بيروت/ الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي.

ـ ــــــــــــــــــ. أبريل 2003. مواقف، العدد 14. الدار البيضاء: أديما.

ــ حسان، تمام. 1973 . اللغة العربية مبناها ومعناها. القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب.

ــ حسين، جاسم. 2017. " بطالة الشباب في الوطن العربي" في موقع: بطالة ـ الشباب ـ في ــ الوطن ـ العربي /2017/09/03ـ

ــ السليمان، عبد الرحمن. 2018. "دعاوى الأصول الآرامية/السريانية للغة العربية والقرآن الكريم" في : المرجعيات اليهودية والمسيحية في ترجمات معاني القرآن الكريم. تنسيق: سعاد الكتبية وآخرون. عمان: عالم الكتب الحديث.1ـ 48.

ــ الشمري، عبيد عبد الله. 2011. " التخطيط اللغوي من الاستعمار إلى العولمة اللغوية" في

Brahimblogspetcom.blog spot. Com/2011/07/blog.post_18html

ــ عبد اللطيف، محمد حماسة. 1982. في بناء الجملة العربية. الكويت: دار القلم.

ــ الفاسي الفهري، عبد القادر. 2013. السياسة اللغوية في البلاد العربية. بيروت: دار الكتاب الجديد المتحدة.

ــ القاسمي، علي. 2008. علم المصطلح: أسسه النظرية وتطبيقاته العملية. بيروت: مكتبة لبنان ناشرون.

ــ ـــــــــ . 2008. لغة الطفل العربي: دراسات في السياسة اللغوية وعلم اللغة النفسي. بيروت: مكتبة لبنان ناشرون.

ــ ـــــــــ. 2013. السياسة الثقافية في العالم العربي. بيروت: مكتبة لبنان ناشرون.

ــ ـــــــــ. 2014. صناعة المعجم التاريخي للغة العربية. بيروت: مكتبة لبنان ناشرون.

ــ القاضي، هاشم بن صالح. 2017. " الاستعمار اللغوي" في:

Blogs.aljazeera.net.blogs/2017/03/11

ــ كوبر، روبرت. 2006. التخطيط اللغوي والتغيير الاجتماعي. ترجمة: خليفة أبو بكر الأسود. طرابلس: مجلس الثقافة العام.

ــ المسدي، عبد السلام. 2011. العرب والانتحار اللغوي. بيروت: دار الكتاب الجديد المتحدة.

ــ ويكيبيديا، الأمية في الوطن العربي

https://ar.wikipedia.org/wiki

ــ يقطين، سعيد. 2018. جريدة المساء المغربية، العدد 3528، في 2/3/2018.

ــ اليونسكو. 2018. " اليوم العالمي للغة الأم" في موقع:  اليوم ـ العالمي ـ للغة ـ الأم ـ التعدد ـ والتنمية ـ المستدامة 21/2/ 2018

-       Britannica.  https://www.britannica.com/biography/Esarhaddon.

-       Encyclopédie Universalis. Les naissances de l’ẻcriture.

-       L’histoire du français. thaloe.free.fr/français/histoire1.html

-       Loi Toubon,  https://fr.wikipedia.org/wiki/Loi_Toubon

-       Philipson, Robert. 1992. Linguistic Imperialism. Oxford University Press.

- “ Quelle politique pour le français et le plurilinguisme?”

Fr/culture/dglf/politique-langue.htm

الحساب الإبراهيمي لفتح القدس من أوائل سورة الإسراء

تُقسم حروف اللغة العربية إلى أربع مجموعات طاقية (نارية وترابية وهوائية ومائية)، ولكل حرف قيمة عددية. والهواء هو الفكر وهو الحق، والحروف الهوائية هي:

ج (3)، ز (7)، ك (20)، س (60)، ق (100)، ث (500)، ظ (900).

وحادثة الإسراء والمعراج حدثت في شهر رجب قبل الهجرة النبوية، ونزلت فيها أوائل سورة الإسراء.

ومعلوم من قديم عند أئمة المسلمين أنه يمكن استخراج سنة فتح صلاح الدين للقدس (583) من حساب الحروف الهوائية في سورة الإسراء، من الآية الخامسة تحديدًا منها ‏﴿‏فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ‏﴾‏.

أما أنا فأرى أنه يمكن استخراج تاريخ الفتح الثاني بإذن الله من الآيات بعدها، وحتى نهاية الآية السابعة.

4864 منى زيتون

فيكون عام الفتح الثاني بإذن الله استفتاحًا بآي القرآن: 1103 + 260+ 86= 1449هـ

لكن على هذا الحساب فإن: 1103+ 260= 1363 سنة هجرية

بينما تاريخ إعلان دولتهم في 14 مايو 1948م الموافق 5 رجب 1367هـ‏ وليس 1363هـ

أو أن مدة خروج بيت المقدس من يد المسلمين التي تنتهي بتحقق وعد الآخرة تكون 86 سنة هجرية، وتُستخرج من الآية السابعة ‏﴿‏فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوؤُواْ وُجُوهَكُمْ‏﴾‏.

ولا أعلم هل تُحسب 86 سنة هجرية من تاريخ إعلان دولتهم في 14 مايو 1948م الموافق 5 رجب 1367هـ، أم تُحسب من رجب 1363هـ؟

وعلى الحساب من رجب 1367 (تاريخ إقامة دولتهم) يكون الفتح بإذن الله في رجب 1453هـ الموافق أكتوبر 2031م.

علمًا بأن دخول صلاح الدين القدس في المرة الأولى كان في رجب 583هـ الموافق أكتوبر 1187م. والله أعلم

ملحوظة: الآيات في سورة الإسراء تتحدث عن وعد أول ووعد الآخرة الثاني، وعلى الأرجح كما يبدو من الحساب أن الوعد الأول كان فتح صلاح الدين للقدس حربًا سنة 583هـ بعد 91 سنة منذ سيطر عليها الصليبيون أول مرة وخرجت من أيدي المسلمين سنة 492هـ، وقد سلمها الكامل محمد للصليبيين صلحًا بمعاهدة سنة 626هـ، واستردها بعد ذلك الناصر داود بالأمان سنة 637هـ، ليُعاد تسليمها للصليبيين سنة 641هـ، ليستردها الخوارزميون مع الأيوبيين بقيادة السلطان الصالح أيوب بعد حصار في سنة 1244م الموافق لسنة 642هـ، لتبقى بعد ذلك في أيدي المسلمين حتى استولى عليها الصهاينة في أربعينات القرن العشرين.

أما الوعد الثاني (وعد الآخرة) فسيكون تحققه بعد حرب ‏﴿لِيَسُوؤُواْ وُجُوهَكُمْ‏﴾‏،‏ وستكون الحوادث فيه مشابهة للحوادث في الوعد الأول ‏﴿‏وَلِيَدْخُلُواْ الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا‏﴾‏ ‏، فليس هو استرداد الناصر داود أو الخوارزمية للقدس، وإنما هو وعد يكون في آخر الزمان، والآية الثامنة ‏﴿‏عَسَى رَبُّكُمْ أَن يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا﴾‏ فيها ذكر الحساب الأخروي، وهي إشارة لقرب هذا الوعد الآخر من القيامة.

ويمكن لمن أراد الاستزادة حول حروف اللغة العربية وعلاقتها بمنازل القمر وحساب إبراهيم عليه السلام (تكسير الحروف) الرجوع إلى مقالي "منازل القمر" من مقالات كتابي "نحو مجتمع عربي متحضر". وقد اقتطعت لكم جزءًا منه.

منازل القمر ولغة القمر!

ومنازل القمر 28 منزلة بعدد حروف اللغة العربية، ولمن لا يعلم فإن كل حرف من حروف العربية الثماني والعشرين على ترتيب أبجد (أبجد هوز حطي كلمن سعفص قرشت ثخذ ضظغ) أُخذ رسمه من شكل نجمات المنزلة التي يأتي ترتيبه موافقًا لها؛ فحرف الألف أُخذ رسمه من نجمتي المنزلة الأولى وهي منزلة الشرطين، وحرف الباء أخذ رسمه من النجمات الثلاث لمنزلة البطين، وهي المنزلة الثانية، وهكذا.

‏وترتيب أبجد هو الترتيب الصحيح لحروف العربية، ولحروف الهجاء في كل اللغات بوجه عام، ونجد آثارًا منه في باقي الأبجديات، فالأبجدية العبرية تتكون من 22 حرفًا هي الحروف على ترتيب أبجد حتى حرف التاء وهو الحرف الثاني والعشرين، والحروف الستة الأخيرة غائبة! وفي الإنجليزية نجد الحروف الأولى منها ABCD مشابهة للمقطع (أبجد) باعتبار ما تغير على نطق حرف C في الإنجليزية مرارًا، ونجد حروف KLMN والتي تماثل المقطع (كلمن)، والحروف QRST والتي تماثل المقطع (قرشت)، وفي اللاتينية نجدها تفتتح بحروف تُنطق (ألفا- بيتا- جاما- دلتا) والتماثل بينها وبين (أبجد) واضح لا تخطؤه عين.

ولكل حرف حسابه وقيمته العددية التي يُحسب منها الجُمل للاسم أو الكلمة، وكمثال: اسمي (منى) قيمته العددية= م (40) + ن (50)+ أ (1)= 91 وبالتصغير لأحد الأرقام التسعة الأولية، وهي الأرقام من (1) إلى (9)، تكون طاقته ضمن مجموعة الرقم (1).

كما أن لكل حرف منها طاقة تتوزع على الطباع الأربعة بالترتيب (النار- التراب- الهواء- الماء) بحيث تتجمع في أربع مجموعات، وكل مجموعة منها من سبعة حروف، ولا علاقة بين طاقة تلك الحروف وطاقة المنازل التي أُخذ رسمها منها.

4865 منى زيتون

ولكل حرف منها وزن للطاقة يؤثر في طاقة الكلمة التي يدخل فيها. ولأن كل مجموعة طاقية منها تضم سبعة حروف، فأول حرف ناري (الألف) يكون ميزانه الأعلى (7)، والحرف الناري الذي يليه (الهاء) يكون ميزانه أقل درجة (6)، وهكذا في كل مجموعة حروف.

وعليه فلوزن الاسم نراجع طاقة ووزن الحروف المكونة له، وترتيبها في الاسم؛ وفي مثال اسمي؛ فحرف الميم= 4 ناري، ووزن النون= 4 ترابي، ووزن الألف= 7 ناري، وهذا يجعل طاقة الاسم الكلية نارية، خاصة وأن الحرف الأول ناري، وبه حرف الألف وميزانه (7).‏

4866 منى زيتون   

ومعروف أن نصف حروف اللغة العربية قد استفتح بها الحق سبحانه وتعالى بعض سور القرآن الكريم، وقد جمع بعض علمائنا القدامى هذه الحروف الأربعة عشر في عبارة "نص حكيم قاطع له سر".

وبالنظر إلى طاقة هذه الحروف الاستفتاحية سنجد أربعة حروف منها نارية (أ، هــ، ط، م)، وأربعة مائية (ح، ل، ع، ر)، وثلاثة هوائية (ك، س، ق)، وثلاثة ترابية (ي، ن، ص). وبالنظر إلى موازين هذه الحروف سنجد أن حرف الألف الناري وحده هو من الميزان 7، وهو أعلى الموازين، واختيرت من الحروف النارية الأربعة الأعلى ميزانًا، والحروف ذات الموازين (5) و (4) و (3) استخدمت كلها على اختلاف طاقاتها، باستثناء حرف الفاء الناري، والذي يعده اللغويون أضعف حروف اللغة العربية فلا توجد فيه صفة من صفات القوة (كالجهر والشدة والإطباق)، وكذلك الحروف الثمانية ذات ميزان الطاقة الضعيفة (2) و (1) جميعها متروكة، فلم تُستخدم في استفتاح سور القرآن، أيًا كانت الطاقة التي تتصف بها.

كما وقد لاحظت ملاحظة غريبة تختص بحروف فواتح السور القرآنية الأربعة عشر، إذا ما وزعنا الحروف بحسب المنازل التي أُخذ رسمها منها على بروج الفصول الأربعة.

فالحروف المشتق رسمها من منازل القمر السبع في بروج فصل الصيف وهي (ح، ط، ي، ك، ل، م، ن) جميعها من حروف فواتح السور القرآنية، والعكس تمامًا في الحروف السبعة المأخوذ رسمها من منازل القمر السبع في بروج فصل الشتاء وهي (ت، ث، خ، ذ، ض، ظ، غ) فجميعها مستثناة من استفتاح سور القرآن بها!

كما لاحظت تعاكسًا غريبًا بين حروف منازل الربيع وحروف منازل الخريف، فمن بين حروف منازل الربيع السبع استخدم الحرفان الناريان من بينها (أ، هـ) فقط في استفتاح السور –وكلاهما من حروف لفظ الجلالة-، واستبعدت حروف الربيع ذات الطاقات الترابية والهوائية والمائية (ب، ج، د، و، ز)، بينما في حروف منازل الخريف السبع كانت خمسة حروف منها من فواتح السور القرآنية (س، ع، ص، ق، ر) وطاقاتها ترابية وهوائية ومائية، ولم يُستبعد من حروف منازل الخريف سوى الحرفين الناريين فيها (ف، ش)! فهنا حرفان ناريان واستخدما، وهناك حرفان ناريان واستبعدا!4867 منى زيتون

د. منى أبو بكر زيتون

ملحق في الطبعة الثانية من كتابي "تأملات في كتاب الله"

تُعَد الإرهاصات الأوليّة للفلسفة اللاهوتيّة، مرتبطة فكريّاً بعقيدة الثالوث، جوهر اللاهوت المسيحيّ لدى الثالوثيين، وجاء الاهتمام بهذه الفلسفة، نتيجة للاكتشافات المستمرة بواسطة رجال الدين المسيحيّ للنصوص المقدسة، التي عُرضت للمناقشة وأصبح لها أطروحاتها، وصيغت آخر المطاف في "مجمع نيقيه" الأول سنة ( 325) ميلاديّة، بطريقة تتوافق مع أطروحات الكتاب  المقدس، وأعيد أخيراً تنقيحها في المجامع والكتابات اللاحقة وفقاً "لإنجيل يوحنا". (الويكيبيديا).

أما  الفلسفة اللاهوتيّة في الفكر الإسلاميّ، فهي أيضاً فلسفة عقيديّة، مرجعها النص المقدس (القرآن والحديث وأقول الأئمة وعلماء الكلام)، تم توزعها بين تيارات فكريّة عديدة كالمعتزلة والأشاعرة والماتريديّة والمتصوفة وإخوان الصفا وغيرهم.

أما أهم سماتها وخصائصها، فهي اشتغالها على الفكر اللاهوتيّ المرتبط بالعقيدة الإسلاميّة، كوحدانية الله وقدمه ووجوده، وخلق الكون من قبله، والبعث والمعاد، وغير ذلك من مفردات الفكر اللاهوتيّ التي سنمر على بعضها في هذه الدراسة. ومن سماتها أيضا، وجود دعاة الفكر الإيمانيّ المطلق في التعامل مع هذه القضية الفلسفيّة اللاهوتيّة، وهذا ما نجده عند أصحاب التيار الجبريّ، كالأشاعرة والماتريديّة والمتصوفة الروحانيين الذين اعتمدوا على الذاتيّة والمنطق الصوريّ والحدسيّ وعلى ظاهر النص دون خصوص السبب في الوصول إلى الحقائق اللاهوتيّة، كما نجده عند دعاة الفكر العقلانيّ القائم على الشك للوصول إلى الحقائق اللاهوتيّة، كما هو الحال عند المعتزلة والقدريّة وإخوان الصفا بشكل عام، وعند الكثير من المفكرين الإسلاميين العقلانيين، كالرازي وابن رشد والكندي، وغيرهم من الفلاسفة المسلمين الذين اتخذوا العقل وأدواته كالاستنتاج والاستقراء والتجربة، سبيلاً للمعرفة والوصول إلى الحقيقة أو برهنتها. بيد أن هذين التوجهين المنهجيين كلاهما ظلا يدوران في فلك الفكر اللاهوتي المجرد، ولم يستطيعا الخروج منه بسبب قوة السلطة الحاكمة ومحاكم تفتيشها التي كانت بالمرصاد لكل فكر عقلانيّ تنويريّ يخرج عن الخطوط الاستراتيجية للعقيدة التي تريد السطلة الحاكمة ومشايخا تثبيتها في عقول الرعايا، رغم وجود بعض المحطات الزمنيّة التي ساد فيها الفكر العقلانيّ على الفكر الوثوقيّ الاستسلاميّ الجبريّ، كما هو الحال في زمن المأمون والمعتصم والواثق.

على العموم نستطيع القول في هذا الاتجاه، لقد اتفقت كل التيارات الفكرية الفلسفيّة اللاهوتيّة  في الخطاب الإسلاميّ على وحدانيّة الله وألوهيته، واليوم الآخرة وكتبه ورسله، واختلفوا حول صفات الله، وهل الإنسان مخير أم مسير، وحول مرتكب الكبيرة أهو مؤمن أم كافر، وحول خلق القرآن، وهل لغته العربيّة توقيف أم مواضعة.. وغير ذلك.

إن فلسفة اللاهوت إذاً، هي أحد فروع المعرفة التي اشتغلت على الفكر اللاهوتيّ، حيث تستخدم هنا الأساليب الفلسفيّة  المثاليّة الذاتيّة والتخيليّة والاشراقيّة والحدسيّة، والمجاز اللغوي والاستنتاجات المنطقيّة الصوريّة وغيرها من أدوات معرفيّة كالمسلمات والبديهيات.. الخ، ألتي يرتكز عليها المنهج الفلسفي اللاهوتي للوصول إلى فهم أوضح للحقائق الإلهيّة، أو تأكيدها والدفاع عنها، حتى ولو اضطر حملتها بعد (تسيسها) إلى فرض محاكم للتفتيش ضد المختلف معها أو الرافض لها، كما جرى في العصور الوسطى المسيحيّة، وعند المسلمين زمن المأمون حيث حُصور دعاة النقل، وزمن المتوكل حيث حوصر دعاة العقل. هذا وقد تعرض الكثير من المفكرين في فلسفة اللاهوت إلى محن من كلا الاتجاهين، مثل محنة ابن حنبل وخلق القرآن، وكوبرنيك ومركزية الشمس، وابن رشد وربطه بين الحكمة والدين، وغيرهم الكثير حتى في عصرنا الراهن، كما جرى مع طه حسين وحامد أبي زيد وغيرهما.

في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، قام مفكرو حركات التنوير والتحديث والوضعيّة في أوربا بمهاجمة الفكر اللاهوتيّ المسيحيّ، بعد تطور الثورة الصناعيّة وكشفها للكثير من أوهام الفكر الأسطوريّ والتخيليّ عن خلق الكون والإنسان وطبيعتهما التي قال بها اللاهوتيون في تلك المرحلة (العصور الوسطى)، كتوماس الإكويني، وأوغسطينوس واللاهوتيين المدرسيين (السكولائيين) الأوائل، ومحاولاتهم تحليل وفهم مبادئ ومقولات أو نصوص الكتاب المقدس وفقاً لهذا المنهج الفلسفي اللاهوتي.(1). مع تأكيدنا بأن هذا المنهج الفلسفي اللاعقلاني في التفكير، ظل بعدهم مستمراً عند الكثير من رجال الدين المسيحيّ، والإسلاميّ معاً، وخاصة هنا في الخطاب الإسلاميّ عند ممن ظل يؤمن بفكر المعتزلة العقلانيّ أو الأشاعرة النقلي الامتثالي في تاريخنا المعاصر لشرح معتقداتهم والدفاع عن الإعلانات الإلهيّة.

إذن إن الفلسفة اللاهوتيّة، هي شكل خاص من أشكال المعرفة الفلسفيّة التي ركزت في اشتغالها على الجوانب اللاهوتيّة الماورائيّة المتعلقة بوحدانيّة الله، وبوحدة الوجود، والقديم والمحدث، وبالموت والمعاد والحساب والعقاب، والكافر والزنديق والملحد ومرتكب الكبيرة، وهل الإنسان مسير أم مخير، وعن الملائكة والشيطان وعذاب القبر.. وغير ذلك من مفردات لاهوتيّة، تجلى فيها تسخير الفكر الفلسفيّ واستنتاجاته المنطقيّة الصوريّة والحدسيّة والبديهيات والمسلمات  لمصلحة تأكيد المفردات العقيديّة اللاهوتيّة التي جئنا عليها أعلاه. أو تسخير العقل لإثبات ما تقره الكتب المقدسة كما فعل الأشاعرة، وليس الحكم عليه والبحث عن دلالاته الواقعيّة والمنطقيّة النقديّة . لأن المفكرين الذين اشتغلوا على هذه الفلسفة تاريخيّاً ولم يزالوا يشتغلون عليها، لم يتطلعوا إلى البحث عن الحقيقة المرتبطة بالقوانين الموضوعيّة التي تتحكم بآليّة عمل الطبيعة والإنسان، (أي سنن الكون)، وكذلك بالإنسان وقدراته على تحقيق مصيره، بل تطلعوا دائماً إلى البحث عن وسائل خارج حركة التاريخ والواقع المعيوش للبرهان على صحة العقائد الدينيّة كما بينا قبل قليل. فقضايا الفكر عندهم لم تهتم ببحث المسائل المطروحة على حياة الناس المعيوشة في كل تناقضاتها وصراعاتها، بل زجت في إطار البحث عن ما هو مفارق للواقع ممثلاً بقضايا اللاهوت التي أشرنا إليها، وهي قضايا لا يعلم بها إلا الله. لذلك كان لا بد لهذه الفلسفة في تاريخنا الحديث والمعاصر أن تسير على دروب الانحطاط، أمام وجود الظروف التي بدأ فيها العلم يعزز مواقعه ويتحول إلى ميدان للبحث المستقل، كون مهمته بسط سيطرة الإنسان على الطبيعة، وجعل الحياة الإنسانيّة عليها أكثر رونقاً وجمالاً. مع تأكيدنا على تلك المحاولات البائسة التي حاولت ولم تزل تحاول ربط وتفسير العديد من الاكتشافات العلميّة بالنص المقدس، على انها موجودة بشكل مسبق في هذا النص وجاء الوقت لاكتشافها. متناسين أن النص الديني نص عقديّ وأخلاقيّ في بنيته وليس نصاً علميّا، وهم بهذا الربط يسيئون للدين نفسه، على اعتبار أن الكثير من الحقائق العلميّة التي اكتشفت تبين من قبل البحث العلمي ذاته عدم صحة بعضها، أو هي بحاجة للتعديل والاضافة.

إن الفلسفة في جوهرها الواقعيّ وفي حقيقة أمرها، ثورة جبارة، لكنها لا تصبح ثورة فعليّة إلا إذا كانت عقلانيّة نقدية تستند إلى معرفة الأسباب الحقيقيّة الكامنة وراء الظواهر كما يقول "فرنسيس بيكون". وهي تحقق في هذه الحالة هدفين. الأول: جني منافع مباشرة للإنسان ماديّة وروحيّة. والثاني: تحقيق معرفة تهدف إلى كشف القوانين التي تتحكم في سيرورة وصيرورة الطبيعة والمجتمع وتسخيرها لمصلحة الإنسان. وعلى أساس معرفتها يتم نقد الأيديولوجيات المدرسيّة/ اللاهوتيّة والميتافيزيقيّة، والشك بكل ما هو مجرد لم تثبت التجربة أو البرهان صحته. والشك يأتي هنا وسيلة لاستكشاف آفاق الطريق المؤديّة إلى الحقيقة، أي إن الشك هنا ليس ريبياً، بل شك  نابع من الايمان بالوصول إلى الحقيقة. ﴿وَإِذۡ قَالَ إِبۡرَ ٰهِـۧمُ رَبِّ أَرِنِی كَیۡفَ تُحۡیِ ٱلۡمَوۡتَىٰۖ قَالَ أَوَلَمۡ تُؤۡمِنۖ قَالَ بَلَىٰ وَلَـٰكِن لِّیَطۡمَىِٕنَّ قَلۡبِیۖ..). البقرة 260.

إن من أخطر نتائج المعرفة الإنسانيّة، هي المعرفة التي تعتمد على الاستنتاجات المنطقيّة الصوريّة والحدسيّة والعاطفيّة والذاتيّة والتخيلية المجردة لتقديم البراهين. فللظواهر عالمها الجوهريّ والشكلانيّ معاً. وبالتالي فإن التقويم المتسرع والذاتي للمعرفة التي تقوم على أحكام ومفاهيم تلك الاستنتاجات الصوريّة المجردة، لا يمكن الاطمئنان لها أو الاعتماد عليها كليّاً، لذلك فإن الشرط الأول لاكتساب المعرفة الحقيقيّة، هو استخدام التجريب والتحليل والتركيب والاستقراء والاستنتاج وأخيراً البرهان. من هنا تأتي الدعوة مشروعة من أجل تنظيف المعرفة والعلم معاً من الأوهام العالقة بها. هذا ويعتبر للتكنولوجيا ومناهج البحث العلميّ والنظريات المتعلقة في دراسة الفرد والمجتمع والطبيعة، وخاصة نظريات علم الاجتماع وفلسفة الطبيعة، وموقعها الكبير والمتميز من حيث استخدامها كوسائل في زيادة قدرتنا على الإدراك واكتمال الفكر الإنسانيّ ذاته وتجاوز أوهامه. أي هي من الوسائل التي تزيد أو تغني التجربة الإنسانيّة، من خلال تعامل الإنسان مع ظواهر الطبيعة والمجتمع، وهي التي تدفع بالعلم دائماً إلى الأمام، والاجابة على الأسئلة المطروحة من قبل الإنسان ذاته أمام واقعه بكل مفرداته الطبيعّة والاجتماعيّة. وخاصة تلك الأسئلة التحريضية التي تعتمد على كيف قامت هذه الظاهرة، ومتى وأين ولماذا قامت؟.

ملاك القول:

إن الفلسفة  أو المعرفة اللاهوتيّة، تعتبر معرفة منهجية كون لها أدواتها المعرفيّة القائمة على الاستنتاجات المرتبطة بالذاتيّة والحدسيّة والمنطق الصوريّ والمسلمات والبديهيات وكل وسائل المعرفة المجردة عن الواقع العيانيّ الملموس وعن العلم ونتائج بحوثه، لأنها تشرح أصل العالم ومعناه وغرضه ومستقبله انطلاقا من فكرة أنه مخلوق لله فقط. بيد أنها معرفة لا يمكن التحقق من نتائج بحثها أو الركون إليها، لأن الأدلة المقدمة غير قابلة للتحقق الملموس بأي حال من الأحوال، (كعذاب القبر على سبيل المثال لا الحصر) . وأخيرًا  إنها معرفة عقائديّة، لأن المؤمنين يحتاجون إلى الإيمان المطلق لتحقيق القبول بها. بالإضافة إلى ذلك، فهي في المحصلة تحوز على معارفها من خلال نصوص الكتب مقدسة المختلفة، مثل القرآن أو التوراة أو الكتاب المقدس.. وما قال به الأنبياء والرسل وما فسره وأوله الصحابة ومشايخ الدين وأصحاب الطرق الصوفيّة، وصولاً إلى تابعيهم وتابعي تابعيهم إلى يوم الدين.

على العموم نستطيع القول أخيراً: إن المهمة الأساس للمعرفة، وفي مقدمتها المعرفة الفلسفيّة العقلانيّة النقديّة، تقوم على البحث عن علل الظواهر المحيطة بنا، أو التي ننشط ونكدح في مضمارها لتحقيق حاجاتنا الماديّة والروحيّة، وبالتالي تأمين رفاهيتنا وسعادتنا ومد سلطاننا عليها وتسخير قواها لمصالحنا.

***

د. عدنان عويّد

كاتب وباحث من سوريّة

.......................

1-  راجع موقع :

https://www.gotquestions.org/img/logo_white. svg.

المدرسيّة أو المكتبيّة أو السكولاستية: (وتُكتب السكولائية، أو فلسفة المدرسة، تطلق عادةً على مدرسة فلسفيّة سادت في أوروبا في العصور الوسطى، وكانت تستخدم منهجًا نقديّاً في التحليل الفلسفيّ، بناءً على نموذج مسيحي ألوهي ؛ وهو المنهج الذي كان مسيطرًا على التدريس في العصور الوسطى ..

لكل بداية نهاية:

انتهت دولة الصفويين (1501 – 1786 م) التي استمرت لمدة 285 عاماً، على يد نادر شاه أفشار (1688- 1747م) وكان يتمتع بالطموح والذكاء، وقد تمكن بجيش من أفراد قبيلته الأفشار من الاستيلاء على إقليم خراسان، وأخذ يمسك بزمام الأمور في هذا الإقليم، وظهرت قوته، مما جعل الشاه طهماسب الثاني (1702- 1740م) من أن يستعين به، ويعينه قائداً لجيشه، واستطاع أن يصبح أقوى شخصية في إيران بعد تحقيقه لانتصارات عدة ضد منافسي الدولة.

ثم أصبح نادر شاه في منزلة هيأت له عزل طهماسب الثاني، وتعيين ابنه الطفل عباس الثالث (1730- 1739م) ملكاً على الصفويين، وصار نادر شاه وصياً على العرش، ولكن هذا الوضع لم يستمر سوى ثلاث سنوات، إذ بادر نادر شاه إلى عزل عباس الثالث، وتنصيب نفسه ملكاً على إيران، واتخذ لقب الشاه، كما أعلن سقوط الدولة الصفوية وقيام دولة شيعية محلها هي الدولة الأفشارية (1736- 1796م) التي استمرت ستين عاماً، كان نادر شاه أول ملوكها، حينما خلع أخر ملوك الدولة الصفوية ونصب نفسه ملكاً على بلاد فارس وجعل عاصمته مدينة مشهد، واستمرت حتى القضاء عليها من قبل القاجاريين سنة 1786م .

والدولة القاجارية: هي مملكة أسسها القاجاريون عاصمتها مدينة طهران الحالية، وقد شملت معظم الأراضي الإيرانية الحالية إضافة إلى أرمينيا وأذربيجان والتي دامت من عام 1794م حتى عام 1920م حينما أطاح الشاه رضا بهلوي بأخر الحكام القاجاريين عام 1925م ليؤسس الدولة البهلوية التي استمرت حتى عام 1979م لتسقط الدولة الشاهنشاهية البهلوية على يد رجل الدين والفيلسوف الكاتب والسياسي الشيعي الراحل روح الله بن مصطفى بن احمد الموسوي الخميني (1902- 1989م) لتقوم بدلاً عنها جمهورية إيران الإسلامية الحالية، بحدودها الجغرافية المعروفة اليوم في - جمهورية إيران الإسلامية - وبتواجد مسيح وصابئة وأقلية يهودية وزرادشتية على أرضها، وحتى هناك من لا يؤمن بوجود الله، والسنة والشيعة في إيران يصلون بعضهم مع بعض، إذْ توجد تسعة مساجد في العاصمة طهران لوحدها لأهل السنة والجماعة، يصلون ويرفعون الأذان بطريقتهم الخاصة، ويمارسون صلاة التراويح في شهر رمضان المبارك بكل حرية.

في إيران تتعدد وتتنوع القوميات، فهناك الكردي والفارسي والأذري واللري والعربي والتركماني والمازندراني والأفغاني والبلوشي والقشقائي وجميعهم يتكلمون اللغة الفارسية، وهي ليست اللغة الفارسية القديمة، لأن أغلب شعوب إيران لا تعرفها، واللغة الفارسية السائدة اليوم هي مزيج متنوع من كلمات كردية وعربية وتركمانية وأذرية وحتى انكليزية إضافة إلى الفارسية.

ولكن هناك من يشوش على الشعوب العربية والإسلامية عن طريق وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي، من أجل خلق فتنة بين المسلمين، والفتنة لا تخدم أحداً بل تدمر الجميع لاسيما إن هناك صفحات تروج زوراً على إن الشيعي يسب السني أو السني يسب الشيعي .. كلنا سنة لأننا نتبع سنة نبينا محمد (ص) .. وكلنا شيعة لأننا نتبع ما نراه مناسباً من أفكار وأطروحات آل البيت الأطهار.

الشيعة والاجتهاد الفقهي:

لم تواجه الشيعة مشكلة فراغ تشريعي بعد وفاة الرسول (ص)، إذ استمر عصر التشريع عندهم عبر أئمتهم، بدءً بالإمام علي بن أبي طالب، ومن ثم ولديه الحسن والحسين والتسعة من أبناء الحسين، آخرهم محمد بن الحسن المهدي (عليهم السلام) الذي غاب واستمر التواصل معه عبر أربعة سفراء(13)، وبانتهاء الغيبة الصغرى سنة 329 ه انتهى عصر النص بالنسبة لهم، وبدأت مرحلة الاجتهاد واستنباط الأحكام الشرعية لكن بمفهوم آخر.

وإن مقتضى تواصل عصر التشريع لدى الشيعة هو عدم التفريق بين سيرة النبي وسيرة الأئمة من حيث حجيتها (تخصيصاً وتقييداً لآيات الكتاب الكريم)، والقضية مرتبطة بعقيدتهم ورؤيتهم لمفهوم العصمة والإمامة ومقام الإمام.

فالشريعة بالنسبة لهم ليست محدودة بالكتاب وما ورد عن الرسول(ص)، بل تشمل سيرة الأئمة: قولاً وفعلاً وتقريراً، فكانت أحاديثهم أثرى من حيث تنوع مسائلها، لاسيما المستحدثة، وعليه يكفي انتهاء سند الرواية إلى أحد الأئمة المعصومين بسند صحيح أو معتبر لتكون حجة على الفقيه يمكنه الاستدلال بها ما لم تكن معارضة برواية أخرى، وبهذا انتفت الحاجة للاجتهاد طوال حياة الأئمة، بل إن موقف الأئمة وأصحابهم كان سلبياً جداً من مفهوم الاجتهاد على وفق مدرسة الرأي التي تعتبره أحد أدلة الفقيه في استنباط الحكم الشرعي، وقد حصلت مواجهات ضارية، تجلت من خلال المناظرات والتأليف التي كانت تشجب الرأي، حتى بات مفهوم الاجتهاد مثقلاً بدلالاته السلبية عبر توالي الأيام، وصار المتبادر منه تحكيم رأي ومزاج المجتهد في استنباط الحكم، وقد استمر الموقف السلبي منه من خلال مؤلفات وكتابات أصحاب الأئمة ومن جاء بعدهم من العلماء والمحدثين، كما هو موقف الشيخ (الصدوق) في القرن الرابع الهجري، ومن بعده الشيخ (المفيد) الذي ألف كتاباً بهذا الخصوص، وتبنى السيد (المرتضى) في بداية القرن الخامس الهجري الموقف ذاته حينما قال (إن الاجتهاد باطل، وأن الأمامية لا يجوز عندهم العمل بالظن ولا الرأي ولا الاجتهاد)، وتلاه الشيخ (الطوسي)، المتوفى سنة460 ه، بقوله: (أما القياس والاجتهاد فعندنا إنهما ليسا بدليلين، بل محظور في الشريعة استعمالهما)، وقال ابن إدريس في كتاب السرائر (والقياس والاستحسان والاجتهاد باطل عندنا).

وبقي الاجتهاد مفهوماً سلبياً عند الشيعة، يُحيل على تحكيم مزاج الفقيه في الحكم الشرعي، وهو بمنزلة الكفر، أو خضوع الحكم الشرعي لرأي الفقيه الشخصي، ولم يتخلصوا من هذا المفهوم حتى مجيء المحقق الحلي المتوفى سنة 676 ه، الذي أعطى الاجتهاد معنى جديداً، آذ عرّفه (بذل الجهد في استخراج الأحكام الشرعية).

ويتبنى فقهاء الشيعة موقف الإمام جعفر الصادق (ع) ومن جاء بعده، فهو بالنسبة لهم موقف شرعي لا يمكن التنازل عنه، مهما كانت قناعة الفقيه ومهما كان مستوى ركونه للاجتهاد بمعنى الرأي، كدليل كاشف عن الحكم الشرعي، لهذا يغمز فقهاء الشيعة باجتهادات (ابن الجنيد) و(الاسكافي) من علماء القرن الرابع لميولهما للرأي، بالرغم من إنهما من كبار فقهاء الشيعة.

وبهذا يتضح أن هناك موقفان مختلفان من مفهوم الاجتهاد لدى الشيعة الإمامية، هما:-

الاتجاه الإخباري

يعتبر الميرزا محمد أمين الاستربادي المتوفى سنة 1033 ه 1624م مؤسس هذا الاتجاه، وقد ألف كتابا بعنوان "الفوائد المدنية" بلور فيه أفكاره وبرهن عليها، وهو امتداد لموقف مدرسة الحديث التي اقتصرت مصادرها التشريعية على الكتاب والسنة، ورفضت الاجتهاد والقياس والاستحسان، وقد زاد عليهم الإخباريون الشيعة رفضهم للإجماع كونه بدعة سنية، وهم يعتقدون بصحة جميع الروايات الواردة في الأصول التحديثية الشيعية الأربعة: "الكافي، من لا يحضره الفقيه، التهذيب والاستبصار" (14)، وغيرها من كتب الحديث، وكان موقفهم سلبياً جداً من الفقهاء الأصوليين.

وفي محاولة لشرعنة هذا الاتجاه، أرجع الإخباريون حركتهم لعصر الأئمة كونه اتجاهاً سائداً إلى عصر الكليني والصدوق.

وقد احتدم الصراع بين الإخباريين والأصوليين في بداية القرن الحادي عشر الهجري، ولم تخف حدته إلا في القرن الثالث عشر على يد الشيخ (الوحيد البهبهاني)، المتوفى 1205ه، وقد تزعّم الاتجاه الإخباري، عدد من علماء الشيعة، اشتهروا بموسوعاتهم التحديثية، كالشيخ المجلسي صاحب كتاب البحار (110) أجزاء، والشيخ (الحر ألعاملي) صاحب موسوعة وسائل الشيعة (20 أو 30) جزءٌ حسب الطبعة، وما يهم موقف هذا الاتجاه من العقل، فهو يأخذ بالرواية مهما كان ضعفها سنداً ومتناً، ويطرح الرأي مهما انتسب للفقه والفقاهة، لذا كرّس هؤلاء الغلو والتطرف في حب أهل البيت والعداء من السنة حدَ التكفير والبراءة منهم، وقدموا النقل على العقل واقتصروا في فتاواهم على نصوص الروايات، ولا قيمة للعقل ومستقبلاته وأحكامه أمام الرواية، مهما كانت ضعيفة السند، فهناك برأيهم عقل كلي هو عقل المعصوم تصدر منه الأحكام، ولازمه أن الحسن والقبح شرعيان وليسا عقليين.

2 – الاتجاه الأصولي

لا يختلف الموقف الرافض لهذا الاتجاه من الاجتهاد بمعنى الرأي، ويرفض بشدة اعتبار القياس والاستحسان من الأدلة الكاشفة عن الحكم الشرعي، وكان المحقق الحلي أول من قدم تعريفا جديداً، زعزع به النظرة السلبية لمفهوم الاجتهاد، عندما عرّفه بأنه "بذل الجهد في استخراج الأحكام الشرعية"، وبهذا خرج مفهوماً من كونه دليلاً على الحكم الشرعي إلى كونه منهجاً في استنباط الحكم الشرعي، يعتمد على قضايا نظرية وعقلية، ليست مستفادة من ظواهر النصوص بالضرورة. فالاجتهاد بهذا المعنى ليس مصدراً للحكم، بل عملية استنباط الأحكام من مصادرها، ويراد بالاستنباط "تحديد الموقف العملي تجاه الشريعة تحديداً استدلالياً".

وبهذا كسب الأصوليون المعركة وأصبح الاجتهاد ميزة يتصف بها الفقه الشيعي، وقد تمكن فقهاهم مواصلة استنباط الأحكام الشرعية، بينما عمد الجانب الآخر أي المدرسة السنية إلى غلق باب الإجهاد، والاكتفاء بما صدر من أئمة المذاهب الإسلامية وكذلك فعل الإخباريون.

يذكر أن بوادر ظهور القواعد الأصولية لدى المدرسة الشيعية تعود لأيام الأئمة، إذ كانوا يؤسسون لبعض القواعد كالاستصحاب في روايات زرارة بن أعين عن الإمام جعفر الصادق (ع) مثالاً، وهي قواعد ذات مناشيء عقلية، إذ إن البحوث الفقهية لم تكن بمنأى عن العقل ومستقبلاته.

قومية المراجع الشيعة

يبلغ نفوس الشيعة في العالم 320 مليون نسمة من أصل نفوس المسلمين البالغ 1600مليون نسمة، وبذلك يشكل الشيعة ما نسبته 20 بالمائة من مسلمي العالم .. ثقلهم الاكبر في أيران والعراق وأذربيجان .

لقد قَدم بعضُ الباحثينَ الإيرانيّين إحصائيّةً تُحدّدُ "قوميّةَ المراجع الشيعة"، و"محلَّ دراستهم"، وموطن استقرارهم" على مدى ألفِ سنةٍ تقريباً، جعلَوا بدايتَها: الكُليني المتوفّى سنة: (940م)، وخاتمتَها: البروجردي المتوفّى سنة: (1960م)، فكانت النتيجة كما يأتي:

حملتْ هذه الفترة (58) مجتهداً اعترفتْ الطائفةُ بمرجعتيهم، ومن بين هؤلاء نجدُ: (34) إيرانيّاً، و (24) عربيّاً، ومن بين العرب نلاحظُ: (16) عراقيّاً، و (7) من بلادِ الشامّ، و (1) من سلطنةِ عُمان. أمّا موطنِ دراستِهم فإن أربعين مجتهداً منهم درسَوا في العراقِ، و (14) في إيرانِ، و(4) ليس للباحثِ درايةٌ بمحلِّ دراستِهم، وبعد أن تسلمَ هؤلاء المرجعيّة استقرَّ (34) منهمُ في العراقِ، و (18) في إيرانِ، و (6) في بلادِ الشامِّ .. وإنّ (48) كانوا من سُكانِ المُدنِ، و(10) من سكنة القُرى والأريافِ، وإن السِيرَ الذاتيّةِ لهؤلاءِ تُشيرُ إلى إنّ(31) منهم فقط من أُسر علمائيّة.

قم... مركز التشيع العالمي:

أنتعش التشيع في مدينة قم الايرانية بعد نجاح الثورة الاسلامية في أيران عام 1979م ووصلت إلى ما وصلت اليه الان، أذ بلغ عدد منتسبي الحوزة العلمية في قم في العام 2020 حوالي (100) ألف طالب وأستاذ، فيما بلغ عدد منتسبي حوزات مشهد و أصفهان وطهران حوالي (40) الف شخص، إضافة الى (10) ألاف منتسب في باقي مدن إيران. كما بلغ عدد المجتهدين في قم وحدها حوالي (250) مجتهداً أو من يرى في نفسه ملكة الإجهاد، بينهم ما يقرب من (100) مجتهد يدرِّسون البحث الخارج (الدراسات العليا)، أي أن هناك (100) صف للبحث الخارج تقريباً في قم، إضافة الى حوالي (30) صف للبحث الخارج في مشهد وطهران واصفهان. وهي نسبة يعتقد الإيرانيون أنها قليلة؛ قياساً بحاجة (70) مليون شيعي في ايران وحدها، فضلاً عن حاجة الدولة المتزايدة الى الدراسات الفقهية لقضاياها المتشعبة.

ومن مجموع منتسبي الحوزات العلمية الإيرانية، يوجد ما يقرب من (15) ألف منتسب غير ايراني ينتمون الى حوالي (70) جنسية، وغالبيتهم من العراق وافغانستان وباكستان والهند ولبنان والبحرين والسعودية وأذربيجان. كما أن هناك أكثر من (20) ألف منتسبة من النساء، بينهنّ مجتهدات وعالمات دين معروفات.

و يعد مكتبا (السيد علي الخامنئي والسيد علي السيستاني) أهم مكتبين مرجعيين في قم. ويعمل مكتب السيد الخامنئي بشكل مستقل إدارياً ومالياً ووظيفياً عن مكتبه الرسمي في طهران؛ لأن مكتب قم هو مكتب مرجعي حوزوي، ويمارس شأناً دينياً علمياً محضاً، ويشرف على عمل المدارس والجامعات والمؤسسات العلمية الدينية التابعة له، وشؤون الوكلاء والمعتمدين المرجعيين داخل إيران وخارجها. في الوقت الذي لايزال السيد الخامنئي يقدم دروسه في البحث الخارج في حسينية الإمام الخميني في طهران، ويحضرها ما يقرب من (700) عالم دين.

أما مكتب السيد علي السيستاني في قم؛ فلعله أنشط مكتب مرجعي في العالم وأكثرها تنظيماً وتقديماً للرعاية العلمية والتبليغية والخيرية، ويشرف على المؤسسات والمكاتب الفرعية لمرجعية السيد السيستاني داخل ايران وكثير من دول العالم.

فضلاً عن وجود تسع جامعات وما يقرب من (200) مدرسة علمية دينية، فإن حوزة قم تضم أكثر من (150) مركز تبليغ وبحوث ودراسات وتحقيق ونشر وطباعة، و حوالي (50) مجلة علمية تخصصية، وعشرات المكتبات العامة، وأكثر من (20) مركز بحثي وتحقيقي كمبيوتري، وعدد من المؤسسات الخدمية والمالية والخيرية.

زعماء الشيعة الدينيين:

يمكن القول أن 80 بالمائة من شيعة العراق وإيران وبلدان الخليج العربي ولبنان وسوريا والهند وباكستان وأفغانستان وأذربيجان وروسيا وبلدان شرق آسيا ونيجيريا ومصر وباقي بلدان أفريقيا وأروبا والأميركتين، يقلدون السيد علي السيستاني والسيد علي الخامنئي. أما إل 20 بالمائة الباقين من الشيعة المقلدين؛ فإنهم يرجعون بالتقليد إلى المراجع الآخرين، سواء مراجع الصف الثاني أو الثالث أو الرابع، ولعل أغلب المسلمين والمتشیعین الجدد، ولا سيما في شرق آسيا و أفريقيا وأروبا، يرجعون بالتقليد أيضاً إلى السید علي الخامنئي والسید علي السيستاني، وهما المرجعان الأنشط تبليغاً خارج المساحات التقليدية للشيعة.

مراجع الصف الأول:

1- السيد علي الحسیني السيستاني: المرجع الديني الأعلى على مستوى العراق وكثير من المسلمين الشيعة في مختلف دول العالم، وهو إيراني من مدينة مشهد، وتعود أصوله إلى أسرة مهاجرة من العراق، ويقيم في النجف الاشرف منذ أكثر من (60) عاماً، و هو وريث مدرسة الإمام الخوئي وحوزة النجف، وقد تفرّد بالمرجعية النجفية العليا في أواخر عقد التسعينات من القرن الماضي، وتحديداً بعد رحيل مراجع النجف الكبار: السيد الخوئي والسيد عبد الأعلى السبزواري والشيخ علي الغروي والشيخ مرتضى البروجردي والسيد محمد الصدر والسيد حسین بحر العلوم.

2- السيد علي الحسیني الخامنئي: المرجع الديني الأعلى على مستوى إيران وكثير من المسلمين الشيعة في مختلف دول العالم، وهو إيراني مقيم في طهران منذ حوالي (40) عاماً، وتعود جذوره إلى أسرة عراقية هاجرت إلى مدينة خامنه الإيرانية، وهو وريث مدرسة الإمام الخميني وحوزة قم. وقد برزت مرجعيته في عقد التسعينات من القرن الماضي، ولا سيما بعد رحيل مراجع قم الكبار: السيد محمد رضا الگلپايگاني والشيخ محمد علي ألأراكي والشيخ فاضل اللنكراني والشيخ جواد التبريزي والشيخ محمد تقي بهجت.

مراجع الصف الثاني:

1- السيد محمد سعيد الطبطبائي الحكيم، عراقي يقيم في النجف، يمثل امتداداً لمدرسة السيد محسن الحكيم وحوزة النجف.

2- الشيخ محمد إسحق الفياض، أفغاني يقيم في النجف، وهو امتداد مدرسة الإمام الخوئي وحوزة النجف.

3- الشيخ بشير النجفي، باكستاني يقيم في النجف، يمثل امتداداً لمدرسة الإمام الخوئي وحوزة النجف.

4- الشيخ حسين الوحيد الخراساني، إيراني يقيم في قم، يمثل امتداداً لمدرسة الإمام الخوئي وحوزة النجف.

5- الشيخ ناصر مكارم الشيرازي، إيراني يقيم في قم، يمثل امتداداً لمدرسة السيد حسين البروجردي وحوزة قم.

6- السيد كاظم الحسیني الحائري، عراقي من أصل إيراني يقيم في قم، وهو امتداد مدرسة السید الشهيد محمد باقر الصدر وحوزة النجف.

7- السيد موسى الشبيري الزنجاني، إيراني يقيم في قم، يمثل امتداداً لمدرسة السيد حسين البروجردي وحوزة قم.

8- الشيخ لطف الله الصافي الگلپايگاني، إيراني يقيم في قم، يمثل امتداداً لمدرسة السيد حسين البروجردي وحوزة قم.

مراجع الصف الثالث:

1- السيد محمد صادق الحسيني الروحاني، إيراني يقيم في قم، يمثل امتداداً لمدرسة الإمام الخوئي وحوزة النجف.

2- الشيخ حسين النوري الهمداني، إيراني يقيم في قم، يمثل امتداداً لمدرسة الإمام الخمیني وحوزة قم.

3- السيد صادق الحسیني الشيرازي، عراقي من أصل إيراني، يقيم في قم، يمثل امتداداً لمدرسة شقيقه السید محمد الشیرازي وحوزة کكربلاء.

4- الشيخ جعفر السبحاني، إيراني يقيم في قم، يمثل امتداداً لمدرسة الإمام الخميني وحوزة قم.

5- السيد علاء الدين الموسوي الغريفي، عراقي يقيم في النجف، يمثل امتداداً لمدرسة الإمام الخوئي وحوزة النجف.

6- الشيخ محمد اليعقوبي، عراقي يقيم في النجف، يمثل امتداداً لمدرسة السید الشهيد محمد الصدر وحوزة النجف.

مراجع الصف الرابع:

بيد أن هناك من الشیعة من لا زال بناءً علی فتوى أحد المراجع الأحياء باقیاً علی تقليد المراجع الراحلين، كالإمام الخميني والإمام الخوئي والسید محمد صادق الصدر والسید محمد رضا الگلپايگاني والسید محمد حسین فضل الله والشیخ محمد تقي بهجت و السید الشهيد الأول محمد باقر الصدر (وهو أقدم مرجع ديني لا زال هناك من یقلده).

سابعاً: الحكم الشيعي – التوافقي في العراق 2003- 2023م

لقد كان العراق يعرف بأنه بلد شيعي، وكذلك اليوم هو بلد شيعي في الوقت الحاضر. وإليك التقسيم الآتي على حسب كثرة الشيعة في المحافظات كما يطلق عليها اليوم وهو كما يلي:

: مناطق العتبات المقدسة

أ: محافظة النجف الأشرف.

ب: محافظة كربلاء المقدسة.

ج: مدينة الكاظمية في العاصمة بغداد .

د-: مدينة سامراء في محافظة صلاح الدين .

إن الأغلبية السكانية لهذه المناطق هم من الشيعة، وإذا وجد فيها البعض من المذاهب الأخرى أو الأديان، فهو نادر أو قليل جداً خاصة في كربلاء والنجف.

2: المناطق الجنوبية

أ: محافظة البصرة.

ب: محافظة ميسان .

ج: محافظة الناصرية.

فهذه المناطق كسابقاتها من مناطق العتبات المقدسة نسبة الشيعة فيها حوالي 9. 99%

3: العاصمة بغداد

والتي تعتبر عاصمة الدولة العراقية في الوقت الحاضر، والأغلبية فيها على المذهب الشيعي، ويشكل الشيعة فيها حوالي 75% تقريباً، وفي بعض المناطق فيها يشكل الشيعة 9. 99% من سكانها مثل: مدينة الكاظمية والثورة (مدينة الصدر) والكرخ والبياع وغيرها

فالمناطق الشيعية فيها ذات كثافة سكانية عالية و لا توجد منطقة في بغداد لا يوجد فيها شيعة بنسبة كثيرة، و اغلب مناطق بغداد شيعية و بعضها مختلطة باستثناء مدينة الاعظمية وبعض المناطق السنية الصغيرة في جانب الكرخ، و اغلب سنة بغداد يتركزون في اطرافها وهي مناطق قليلة جدا بالكثافة السكانية قياسا بمركزها، ويشكلون نسبة 20-25% من عدد سكانها في الوقت الحاضر.

لكن بكل الاحوال اصبح الشيعة الاغلبية الساحقة في بغداد في بداية الستينات من القرن العشرين مع الهجرات الجماعية من الارياف الى المدن، وبعد التغيير عام/2003م.

4: بعض المحافظات الوسطى

مثل: الكوت والحلة والديوانية يمثل الشيعة فيها 99% من نسبة السكان تقريباً، والبعض الآخر مثل السماوة، يشكل الشيعة 90% أما محافظة ديالى فنسبة الشيعة فيها 85%، أما الرمادي وتكريت فالأغلبية فيها سنية، ويوجد الشيعة أيضاً في هاتين المحافظتين بأعداد واضحة.

5: المحافظات الشمالية

أربيل والسليمانية ودهوك والأغلبية فيها للمذهب السني كما ينقل، وأيضاً يوجد الشيعة فيها بأعداد كبيرة، أما في كركوك والموصل فالشيعة فيها حوالي 40% تقريباً.

وهذه الأرقام والنسب التي ذكرت هي للدلالة وكلها أرقام تقريبية، أما النسبة المتفق عليها والتي هي القدر المتيقن كما يراها البعض فهي أن 85% من سكان العراق من أتباع مذهب أهل البيت (عليهم السلام) و12% بقية المذاهب السنية الأربعة، و3% بقية الطوائف والأديان الأخرى. ولكن ورغم هذه النسبة، وما يمثله الشيعة من أكثرية في سكان العراق، إلا أنهم خارج المناصب العليا في الدولة، وأصبحت المناصب والحقائب الإدارية وزمام القوة هي بيد الأقلية في بالبلاد، رغم أن جميع القوانين والأنظمة الإلهية بل حتى الوضعية منها تعطي الحق لمن يمثل الأكثرية في إدارة شؤون البلاد. (15)

اما بالنسبة لمحافظة ديالى فالشيعة لا يقلون بها عن النصف ان لم يكونوا اكثر، فقط في قضاء الخالص الشيعي عدد سكانه حوالي ٤٠٠ الف نسمة، و غيرها من مناطق شيعية كثيرة في ديالى بل حتى مركز ديالى بعقوبة اذا حسبنا بعقوبة و النواحي الشيعية التابعة لها، تكون نسبة الشيعة حوالي نصف سكان قضاء بعقوبة خصوصا ان فقط ٢٠٪ من سكان ديالى هم الأكراد الفيلية الشيعة.

اما بالنسبة لمحافظة صلاح الدين فالشيعة لا يقلون عن ٢٠٪و يشكلون اغلبية في اقضية الدجيل و بلد و طوزخورماتو .

اما بالنسبة لمحافظة نينوى يشكل الشيعة مع باقي الاقليات كالمسيحيين و الأيزيديين ما لا يقل عن ٣٥٪ .

من هم الشيعة ؟:-

الشيعة الإمامية الاثنا عشرية: هم تلك الفرقة من المسلمين الذين يقولون أن عليًا هو الأحق في وراثة الخلافة دون الشيخين وعثمان، وقد أطلق عليهم الإمامية لأنهم جعلوا من الإمامة القضية الأساسية في فكرهم الديني، وسُمُّوا بالاثني عشرية لأنهم قالوا باثني عشر إمامًا بعد النبي (ص) دخل آخرهم السرداب بمدينة سامراء وغاب فيه.

عاش الشيعة في عهد حكم صدام حسين المجيد (1979- 2003) م محنة كبرى لا تقل عن سائر المحن التي مروا بها، وسجل التاريخ من جرائم طاغية بغداد وأعوانه بحق الشيعة ما لا يقل عن جرائم أسلافه أمثال (معاوية ويزيد والحجاج والمنصور وغيرهم) .

بدءاً بالتهجير الى أيران على وجبتين الأولى سنة 1970 والثانية سنة 1980، ثم منعه المواكب الحسينية والكتاب الشيعي في المكتبات العامة ودور النشر، وتتبعه للمؤمنين والعلماء سجناً وقتلا، ثم تصفية رجالات ومؤسسات الشيعة بما يضيق به من مجلدات لاستيعابه وبيانه.

وقد كشفت القبور الجماعية عن غيض من فيض من المعاناة التي عاناها الشيعة في العراق حين سجنوا وحرقوا وذوبوا في أحواض التيزاب، وحين أرُّعبت نساؤهم وأطفالهم، وحين اصطبغت الأرض بدمائهم، بسبب مشروعهم السياسي الحديث الذي عبر عنه الشهيد السيد (محمد باقر الصدر1935-1980) في كتاباته وبحوثه ومحاضراته، أعقبه الشهيد السيد (محمد صادق الصدر1943- 1999) في نهضته الجديدة حينما فَعل صلاة الجمعة شيعياً في العراق لأول مرة.

الشيعة والأغلبية النيابية:

بعد سقوط نظام البعث في نيسان /2003م ظل شيعة العراق يملكون الأغلبية النيابية المرجحة في البرلمانات الأربعة التي شكلت بعد غزو العراق من قبل قوات التحالف الدولي عام/ 2003، وتمكين الأميركيين لهم بأن يحكموا البلاد وفق الأغلبية العددية التي تصل إلى ما يقرب من 60 في المئة من عموم المجتمع العراقي، بأكثر من 180 نائباً.

وفي البرلمان، توافقوا على أن تكون السلطة التنفيذية بيدهم، أي رئاسة الوزراء الذي يتولى القائد العام للقوات المسلحة، من خلال نظام محاصصي بين المكونات الثلاثة الرئيسة (شيعة، سنة، كرد)، إضافة إلى أقليات أثنية لا تتخطى 10 مقاعد في أحسن الأحوال، موزعة على المسيحيين والتركمان والصابئة واليزيدية والشبك، الذين خصصت لهم مقاعد بحسب نسبة أعدادهم.

التوافقية الشيعية وديكتاتورية القرار:

لكن التوافقية التي حكمت شيعة العراق ومكنتهم من الاستمرار طوال 23 عاماً حتى الأن، لم تستمر جراء الخلافات المتراكمة التي نتجت من سوء الإدارة وفوضوية الحكم واستغلال مزاياه بمنافع شخصية وحزبية، وكذلك الإثراء الذي ساد حين تحول أعوان النظام إلى أمراء حرب وسياسة، إذ استأثروا بالسلطة والمال العام وحولوا الشعب إلى مجاميع من الفقراء المعدمين، تعتاش الأغلبية منه على نظام الرعاية الاجتماعية.

إضافة إلى تفرد الإدارات التي تزعمها حكم حزب الدعوة الإسلامي لثلاث دورات وتوليه رابعة لإسلاميي المجلس الأعلى المتمثل بعادل عبد المهدي الذي أخرجته الجماهير المنتفضة في أكتوبر (تشرين الأول) العام /2019، إثر تظاهرات راح ضحيتها المئات، طالبت بحكومة تصريف أعمال مهمتها إجراء انتخابات مبكرة حدثت في أبريل (نيسان).

انتخابات عام/2021 أسقطت محاولات التزوير:

ظنت الإدارات السياسية التي يتولاها الإسلام السياسي الذي لديه أجنحة عسكرية أن يتكرر الدور ذاته في انتخابات 2018 و2021 علهم يحصدون مقاعد أكثر، لكنهم جوبهوا بصرامة الإجراءات التي طبقت في الانتخابات الأخيرة، إذ ضيقت نسب التزوير والتدخل بنظام انتخابي جديد فردي يحول دون تدخل رؤساء الكتل.

وكانت النتيجة فوز غريمهم - التيار الصدري - بالأغلبية الانتخابية التي وصلت إلى 75 مقعداً، في حين جاء خصومهم الشيعة بالمرتبة الثالثة ب 34 لدولة القانون التي يقودها رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي، وتفوق عليهم تكتل عزم السني ب 38 مقعداً، مع عقدة جديدة تحول دون انتقال الأعضاء إلى أية كتلة إلا بعد تشكيل الحكومة، فحال ذلك دون جمعهم الأصوات من المستقلين أو شرائها، ورجح أن تكون الكتلة الصدرية هي الأكبر لتشكيل الحكومة، مع إصرار زعيمها مقتدى الصدر على عدم الاتفاق مع الشيعة الولائيين وعدم التخندق والتوافق معهم لتشكيل الحكومة للمرة الأولى في المشهد الشيعي الذي اعتاد التحالف الانتخابي.

وعلى الرغم من استقالتهم على الرجوع إلى عرف درجوا عليه يسمى "الأصوات بسلة واحدة"، بحسب التقسيم العرضي (شيعة، سنة، كرد)، فإن المياه جرت من جسور جديدة من تحتهم، ووجدوا أنفسهم وحيدين وبضعة أتباع يغادرون الجلسة الأولى محطمين الآمال، بعدما حاولوا قلب المعادلة ضد غريمهم القوي مقتدى الصدر الذي يتمتع بقاعدة شعبية واسعة وقوية ومنضبطة، وصار يملك الشارع الشيعي ويتمثل آماله بحكومة أغلبية وطنية وصفها بأنها "لا شرقية توالي إيران ولا غربية توالي أميركا"، بل حكومة عراقية جاءت باستحقاق نيابي.

مأزق جديد للشيعة الولائيين:

أدخل هذا الوضع شيعة العراق في مأزق جديد للمرة الأولى بين مرجعيتين عراقيتين، واحدة تتبع النجف وأخرى ولائية تتبع المرشد الأعلى في إيران، وقد رأى بعض المطلعين الشيعة حدوث انقسام شيعي خطر بين النخب الشيعية يرتد إلى المكون نفسه، بحسب الباحث حيدر الموسوي مدير مركز القرار، وهو منظمة شيعية التوجه.

يقول الموسوي، "إنه انقسام كبير لم تمر به الطائفة الشيعية في العراق، لا في تاريخها الحديث ولا القديم، وحدة الشيعة كانت أقوى بكثير من كل المكونات الاجتماعية الأخرى، بل كانت أقوى حينما كانوا من دون سلطة ويعيشون الحرمان والمظلومية، لكن ما إن وصلت مقاليد الأمور إليهم حتى بدأ كل واحد منهم يحاول إقصاء الآخر وتهميشه".

وكانت مظلومية الشيعية والتلويح بها تميمة تضعها المرجعيات الدينية والسياسية في وجه أي نظام بديل، وتطالب باستحقاقات عن تلك المظلومية التي تصل في تاريخها إلى 1400 سنة في الموروث السياسي الشيعي، الذي بنى استراتيجيته على حقوق تاريخية معقدة الفهم للجمهور الشيعي المعاصر وصعوبة التحقق، لأنها باتت موغلة في الزمن في وقت تغير الناس وتنورت آفاقهم نحو النظم الديمقراطية التي تطالب بحياة وعيش أفضل وأكثر أمناً، تتوافق مع المجتمع الدولي وقيم الحرية والعدالة والانعتاق والديمقراطية.

متغيرات جديدة وآفاق أرحب:

في السلطة والحكم غير أن تكون في المعارضة، تجاهر من أجل رفع المظلومية التي تجد صداها لدى العامة، إذ إن تولي إدارة الدولة يجعل الجمهور يطالب بتوفير مستلزمات العيش أولاً والحياة الكريمة، ويكون شريكاً في معرفة سُبل توزيع المال العام ومعرفة منافذ صرفه، لكن تراكم الفساد والخلافات في الإدارات العراقية التي تولاها الشيعة لخمس حكومات متعاقبة من دون حلول ناجعة وسماع خطاب لا يقدم خبزاً وكرامة للعامة، أدى إلى الاحتجاجات والفوضى في البلاد والقتال في الشوارع وحرق القنصليات، ولاغتيالات المتبادلة .

الحلبوسي رئيسا للبرلمان العراقي في جلسة تخللتها مشادات وفوضى:

لقد أدمن الشعب التظاهر والاعتراض على ما يحدث من تدليس ووعود زائفة، وإدراك عياني من مدنهم ذات الأغلبية الشيعية المحطمة، بل الغارقة في الوحل والمدارس الطينية، وانعدام الخدمات والمشاريع الوهمية للسلطة التي تلوح بالملفات مع خصومها، ولا تريد أن تحل قضية فساد واحدة وتلجأ للتزوير وشراء الذمم أثناء الانتخابات، وتجلس في قصور الظلمة .

إن ما يحدث في هذه المرحلة الحساسة من تاريخ شيعة العراق أمر جاء نتيجة خلافات شخصية وفشل حقيقي في الأداء السياسي وإهمال الجمهور الشيعي، بخاصة في الوسط والجنوب، فالمواطن الشيعي في تركيبته السيكولوجية علماني متدين، ولكن لم تتمكن القوى التقليدية الشيعية من احتواء الشارع بعد الحراك الاحتجاجي، وتحول هذا الاضطراب إلى فوضى وجرى استثماره من قبل الفاعل الخارجي.

تراكم الخلافات منذ حملة "صولة الفرسان":

كل هذه الأوضاع تحولت إلى نزاع داخل البيت الشيعي الذي لم يكن يوماً موحداً إلا خلال مجابهة الديكتاتوريات يوم كانوا خارج السلطة ملاحقين، وحين كانوا محتمين في أقبية المعارضة خارج العراق .

غير أن السلطة أخرجت تلك القناعات والموروث إلى السطح، فكانت جولات في الصدام مع (الأخوة الأعداء) أيام (صولة الفرسان) في البصرة التي شنها رئيس الوزراء الأسبق وزعيم حزب الدعوة الإسلامي الشيعي نوري المالكي في مارس (آذار) 2008 على ميليشيا جيش المهدي التابعة للصدر، واعتقل المئات من أفرادها وقتل العشرات، وعدت هذه أول حرب شيعية - شيعية لم تهدأ جمرتها بقلوب الصدريين حتى الساعة، لأن كثيراً منهم نفوا وسجنوا وصدرت في حقهم أحكام قضائية.

الخلاف الشيعي - الشيعي استمر حين ظل الصدريون يساندون غالبية الاحتجاجات الشعبية، ووفروا الحماية والدعم اللوجيستي - في كثير من الأحيان- للمتظاهرين في ساحة التحرير وسط العاصمة بغداد، وباقي الساحات في الجنوب العراقي .

كان الصدريون الوجه الآخر للمعارضة ضد الحكومات الشيعية، لهم السطوة في الشارع كمجموعة منظمة تملك القدرة على المجابهة، ويدرك الآخرون من أعوان السلطة والحكم بأن دخول الصدريين والطلبة إلى الساحات العامة يشكل أزمة كبيرة للنظام العام الشيعي ولأي حكومة.

من جهة أخرى، فإن تراجع حظوظ أعضاء الإطار التنسيقي جاء على خلفية متغير تضارب المواقف واختلافات الرؤية بين الحرس الثوري الذي كان ممسكاً بالملف العراقي خلال فترة الجنرال قاسم سليماني، وبين وزارة الاستخبارات والأمن الوطني (الاطلاعات) بحسب مصادر عليمة أكدت أن تغيراً إيرانياً في الأداء إزاء إشكالات الملف العراقي برمته كونه ورقة تفاوض، والإمساك بالملف العراقي من دون الغرق في التفاصيل والترجيحات، مع التعامل بواقعية مع نتائج الانتخابات والتعامل مع معطياتها بمهنية من خلال رسائل التهنئة التي قدمها رئيس البرلمان الإيراني للرئيس محمد الحلبوسي حال إعلان انتخابه، وأن الإيرانيين ما عادوا يتدخلون في تغيير معادلة نتائج الانتخابات حتى لو خسر حلفاؤهم من الشيعة.

لعله انقلاب أبيض أحدثه السيد - مقتدى الصدر- في البيت الشيعي العراقي ستظهر نتائجه بعد تشكيل الحكومة خلال الأشهر الثلاثة المقبلة، ويُرجح بأن يكتشف أصحاب الإطار التنسيقي أن كثيراً من أتباعهم قفزوا من سفينة نوري المالكي التي تأخرت كثيراً في الرسو في ميناء السلطة، وكأن التاريخ يعيد نفسه مع فوز إياد علاوي العام /2010، لكن لم يمنح أفضلية تشكيل الحكومة وسرعان ما تقافز حلفاؤه في ذلك البرلمان نحو سفينة المالكي التي رست عند شواطئ تشكيل الحكومة. (16)

التجربة المرة:

كانت تجربة الشيعة في الحكم بعد عام / 2003 في العراق غير موفقة، بل كارثة كبرى، اذ انها جلبت او جرت المذهب الجعفري والشيعة الى المشاركة والمنافسة في السياسة وادارة الدولة، فظهرت كل العيوب والمساوئ والانحرافات او الاشكالات العقائدية او المذهبية عبر الفساد والفشل والاخفاق والنهب المنظم لثروات الشعب وظلم فقراء الشعب وسحقهم (كما فشلت حركة اخوان المسلمين والوهابية في الخليج)، ولازلنا نؤكد على ان اسلوب السيد محمد صادق الصدر (رحمه الله) في فتح حوزته، ومسجد الكوفة لعوام الناس، او ما يطلق عليهم اليوم اتباع التيار الصدري، كانت تجربة مريرة، لا تختلف كثيرا عن تجربة الامام علي ع او الامام الحسن والحسين ع مع شيعة الكوفة، مع انها انتجت الصفوة او الثلة المخلصة، ولكنها انتجت ايضا القاعدة الجماهيرية المتناقضة والمتباينة في تدينها او ايمانها، فالجاه والسلطة صنعت الظاهرة القارونية في البلاد، مع انها اكثر توحشا وتجاوزا ونهبا من قارون نفسه.

كان الناس من مختلف الاديان والطوائف تلوذ بالمراجع ورجال الدين الشيعة، اليوم بات يردد الشيعة والشعب "بأسم الدين باكونه اي سرقونا الحرامية"، يكرهون سيرة او ذكر اسم رجل الدين او اي زعيم او تيار سياسي اسلامي شيعي او سني، في مرحلة تاريخية مصيرية، وضعت الدين والمذاهب والحركات الاسلامية على طريق المواجهة الشاملة مع الحضارة الالكترونية – الفضائية.

كان الناس يعتقدون ان رجل الدين او الاسلامي الحركي صاحب كتاب الحلال والحرام والخطوط الحمر، لا يمكنه ان يسرق دينارا او سنتا واحدا، او حتى يكذب او يكون منافقا وانتهازيا، لان زحمة ضخ الصور الدينية والاحاديث الصحيحة والملفقة عن نزاهة الصحابة او السلف الصالح، والاتباع والخلفاء والولاة، جعلت من تلك الاكاذيب حقائق راسخة بالوجدان الشعبي للمسلمين، لكنها سقطت مع اول تجربة جلبت الويل والفساد والارهاب والفوضى للمجتمعات، الفساد الذي لم يستثني مجالا معينا، بما فيها مجالات قوت الناس وادويتهم واحتياجاتهم الاساسية (كما حصل من نهب للبطاقة التموينية واموال مخيمات النزوح، والادوية ومشاريع بناء المستشفيات والمدارس وتعبيد الطرق، وبقية الخدمات الضرورية لحياة وبيئة امنة خالية من الاوبئة والامراض) .

بعد ان مرت الشعوب العربية المسلمة (السنية والشيعية) بتجارب الحكم الديني الطائفي الفاشلة، التي لم تخلف غير الفساد والمعاناة والجهل والتخلف والارهاب، صار لزاما ان تفكر هذه الشعوب بصناعة دولة الامة الموحدة خلف الفكر والثقافة السياسية التنموية، التي بدورها ستكون قادرة على ان تنتشل ابناء تلك المجتمعات المحطمة بسبب البطالة والفراغ، وانتشار الجريمة والمخدرات، او حالات الاحباط واليأس، الى واقع التنافس والسباق الدولي نحو بناء دولة التطور والازدهار والتكنولوجيا، لا سبيل للنجاة او الخروج من هذه المأساة، الا بالوحدة الاجتماعية والالتفاف حول النخب المثقفة والمفكرة، تلك التي لا يمكنها ان تنظر الى الحياة على انها وسيلة لاغتنام الفرص، انما الى حياة العمل والصناعة والانتاج والتقدم العلمي، الذي سيجلب السعادة والامل والرفاهية والامن والاستقرار كما حصل في اوربا الحديثة، بعد معاناتها الطويلة مع حكومات القرون الوسطى، فالتطور الاخلاقي والعلمي والابداع الانساني جاء بإرادة الله عز وجل، وليس عبر بوابة الكنيسة او المسجد او الحسينية او فتاوى الفقهاء او المذاهب والفرق.

الاسلام اوسع من ان يختزل بحوزة او معهد ديني او رجل دين او حركة اسلامية، هو يمثل اهم قاعدة الهية متينة لبناء المجتمعات الانسانية على اسس ومنطق علمي عقلاني رصين، لا يمكنه ان يتجرد عن اسرار واكتشافات هذا الكون الواسع. (17)

*** 

شاكر عبد موسى

...........................

المصادر:

1 - التاريخ الإسلامي لستيفن همفريز: وهو مؤرخ أمريكي حاصل على شهادة الدكتوراه من جامعة ميشيغان عام 1969 وبروفيسور في جامعة كاليفورنيا وهو متخصص في تاريخ جنوب غرب آسيا وشمال أفريقيا.

2 البداية والنهاية ج 11

3 يتيمة الدهر ج 1 ص 37

4 إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء ج 1 ص 263

5- العلويون أو النصيرية / عبد الحسين مهدي العسكري/ 1980

جذور حركة القرامطة / عبد المنعم عزيز النصر/ مطبعة أسعد – بغداد / 1986

7 تاريخ الحكماء

8 معجم البلدان

9 تاريخ ابن كثير / حوادث سنة (507 هـ)

10 أعيان الشيعة

11 نهر الذهب في تاريخ حلب

12 مجالس المؤمنين

13 خطط الشام

14 الأزهر في ألف عام

15- الغيبة / محمد أمين غالب الطويل / مطبعة النعمان في مدينة النجف 1385ه.

16 الفصل في الملل والاهواء والنحل / طبعة الخانجي / القاهرة 1321ه

17 الدولة الحمدانية ج 1 ص 3

18 سيف الدولة وعصر الحمدانيين

19 أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم

20 أخبار الشجعان

21 الفتوح العربية الكبرى

22- الأخبار الطوال: الدينوري ص334.

23- الفخري: ص115 وما بعدها.

24- مقاتل الطالبيين: الأصفهاني ص487-488 .

25- موسوعة المعارف الإسلامية: العلامة حسن الأمين ج1.

خرافات الحشاشين وأساطير الإسماعيليين/فرهاد دفتري/ص 36 - 39

بوابة الحرمين الشريفين - القرامطة وهجومهم على مكة في القرن الرابع الهجرينسخة محفوظة فبراير 2018 على موقع واي باك مشين.

موقع مركز سيد الشهداء عليه السلام للبحوث الإسلامية / 26 سبتمبر 2012.

السيد محمد الشيرازي / كراسة الشيعة والحكم في العراق/ طبعة 2002م.

صباح ناهي/ كيف تهاوى البيت الشيعي في العراق ؟ / موقع INGEPENDET عربية/ 13 يناير 2022. 33- 33- مهدي الصافي / التجربة السياسية الشيعية في العراق/ صحيفة المثقف الصادرة في أستراليا العدد5259 في 28 كانون الثاني 2021.

موقع سلسلة_مشروع_نهضة_الأمة. https://www.facebook.com/profile.php?id

(1) كتاب دوامات التدين / الدكتور يوسف زيدان- مصر

(2) المعز لدين الله، المعز أبو تميم معدّ بن منصور، رابع الخلفاء الفاطميين في إفريقية (تونس حالياً) وأول الخلفاء الفاطميين في مصر. والإمام الرابع عشر من أئمة الإسماعيلية حكم من 953 حتى 975. وقد أرسل أكفأ قادة جيشه وهو (جوهر الصقلي) للاستيلاء على مصر من العباسيين فدخلها وأسس - مدينة القاهرة - بالقرب من الفسطاط، والتي تعتبر أول عاصمة للعرب في مصر.

(3) معمر القذافي: كان سياسيًا وثوريًا ليبيًا حكم ليبيا لأكثر من 42 سنة كرئيس مجلس قيادة الثورة في الجمهورية العربية الليبية 1969 - 1977وظل رئيسًا لمجلس قيادة الثورة حتى عام 1977، عندما تنحى رسميًا من رئاسة مجلس قيادة الثورة ونصب نفسه «قائدًا للثورة». في عام 2008 عقد اجتماعًا لزعماء أفريقيا ومنح لقب «ملك ملوك أفريقيا» ومدافعًا رئيسيًا عن الولايات المتحدة الأفريقية، وشغل منصب رئيس الاتحاد الأفريقي في الفترة من 2 فبراير 2009 إلى 31 يناير 2010..

(4)هو إسماعيل بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب، أمه فاطمة بنت الحسين الاَثرم بن الحسن بن علي بن أبي طالب ولد في المدينة المنورة عام 110 ھ وتوفي في سنة 138 ھ قبل أبيه جعفر الصادق في العريض، وكان أكبر إخوته وكان أبوه شديد المحبة له والبر به والاِشفاق عليه. عند موته حُمل على رقاب الرجال إلى أبيه في المدينة حتى دفن في البقيع، بينما يعتقد الإسماعيلية أنّه لم يمت في حياة أبيه، بل بعد وفاة أبيه بسنين عدة.

(5) حمدان بن حمدون بن حارث التغلبي (. (868–895 كان زعيم قبيلة تغلب في الجزيرة الفراتية، وبطريرك السلالة الحمدانية الذي قاوم، بجانب مشايخ العرب الآخرين في المنطقة، محاولات إعادة فرض السيطرة العباسية على الجزيرة في الثمانينات الهجرية، وانضم إلى تمرد الخوارج. لقد هُزِم أخيرًا وأسره الخليفة المعتضد بالله في عام 895م، لكن تم إطلاق سراحه لاحقًا كمكافأة على خدمات متميزة من ابنه الحسين إلى الخليفة.

(6)عز الدولة: هو بختيار بن معز الدولة البويهي ثاني حكام البويهيين في العراق، ولد سنة (331ه)، تولى الحكم بعد وفاة ابيه معز الدولة سنة 356 للهجرة وكان في الخامسة والعشرين من عمره وذلك في عهد الخليفة المطيع لله العباسي وهي الفترة التي هيمن فيها البويهيون على السلطات الفعلية للخلفاء الذين جُردوا من أي صلاحيات مستقلة، استمر حكم عز الدولة البويهي حتى مقتله عام 367 للهجرة على يد ابن عمه عضد الدولة.

(7) أبو شجاع فنا خسرو بن ركن الدولة (937 - 983) م ثاني ملوك بني بويه. حكم من 951 - 983 م، برز عضد الدولة بعد وفاة عمه عماد الدولة، حيث خلفه في حكم أصفهان وشيراز وبلاد الكرج، وتطلعت طموحاته إلى الاستيلاء على العراق التي كانت تحت يد ابن عمه بختيار بن معز الدولة، لكنها كانت تصطدم بيقظة أبيه ركن الدولة الراغب في أن يعم السلام أسرة بني بويه، فلما توفي في سنة (36ه = 9769) آلت رئاسة البيت البويهي إلى ابنه عضد الدولة، وانفتح الباب أمامه لانتزاع العراق من ابن عمه بختيار، فزحف إليه، واشتعلت بينهما عدة معارك انتهت لصالح عضد الدولة، وتمكن من القبض على بختيار وقتله في سنة (367ه = 978م)، واستولى على ما تحت يديه، واستقر في بغداد، وأصبحت عاصمة الخلافة عاصمة لبني بويه، وخُطب له على منابرها إلى جانب الخليفة العباسي.

(8) سلسلة_مشروع_نهضة_الأمة.

(9) لفظ التركمان يعني التركي المؤمن فهو مشتق من الكلمتين تورك وإيمان، وأطلق على المسلمين الأوائل من أتراك الاوغوز- الغز- في تركستان، عن وداد فاخر، شيعة العراق والتشيع والصفويون، صحيفة المثقف، العدد 4774 الصادر في ا/ 10/2019. http://mail.almothaqaf.com/index.php?option=com_content&view=article&id=14552&catid=213

(10) الطريقة هنا تعني نوعاً من أنواع الذكر، مارستها الصوفية وذلك في الدوران حول النفس والتأمل الذي يقوم به من يسمون دراويش بهدف الوصول إلى مرحلة الكمال.

(11) القزلباش بالتركية هي Kızılbaş) وبالعثمانية التركية تعني ذو الرؤوس الحمراء، وهي مجموعة من الجنود الشيعة الذين عينتهم الدولة الصفوية في منتصف القرن الخامس عشر الميلادي، وقد كان يقصد بها السنة العثمانيون كاسم ساخر، ولكن لاحقاً أخذت كعلامة شجاعة من قِبَل الصفويين.

(12) د. علي شريعتي مفكر إيراني إسلامي شيعي مشهور ويعتبر ملهم الثورة الإسلامية. اسمه الكامل علي محمد تقي شريعتي مزيناني. ولد قرب مدينة سبزوار في خراسان عام 1933، وتخرج من كلية الآداب، ليُرشح لبعثة لفرنسا عام 1959 لدراسة علم الأديان وعلم الاجتماع ليحصل على شهادتي دكتوراه في تاريخ الإسلام وعلم الاجتماع. سمح لشريعتي ان يغادر إيران إلى لندن في عام1977، ووجد مقتولاً في شقته بعد ثلاثه أسابيع من وصوله إليها، إلا ان تقرير مستشفى ساوثهامبتون قد ذكر أن سبب الوفاة هو نوبه قلبية، قتل قبل الثورة الإيرانية بعامين عن عمر 43 سنة، وكان الرأي السائد أن ذلك تم على يد مخابرات الشاه، وقد دفن الدكتور علي شريعتي في مقام السيدة زينب في دمشق .

(13) السفراء الأربعة هم عثمان بن سعيد العَمْري الأسدي وابنه محمد بن عثمان بن سعيد العَمْري الأسدي والحسين بن روح النوبختي وعلي بن محمد السَّمَري.

(14) ينسب كتاب الكافي للكليني، ومن لا يحضره الفقيه للصدوق، وكتابا التهذيب والاستبصار للطوسي.

(15) السيد محمد الشيرازي / كراسة الشيعة والحكم في العراق/ طبعة 2002م

(16) صباح ناهي/ كيف تهاوى البيت الشيعي في العراق ؟ / موقع INGEPENDET عربية/ 13 يناير 2022.

(17) مهدي الصافي / التجربة السياسية الشيعية في العراق/ صحيفة المثقف الصادرة في أستراليا العدد5259 في 28 كانون الثاني 2021.

 

تُختصر العلاقة بين السلطة والمجتمع في الخطاب الإسلامي وفق ما يُمكن تسميته بنظريَّة الطاعة، وهي حاكم يطيع الله، ورعيَّة تطيع الحاكم، وإن بدا لي هذا التصوُّر محض نظريَّة إلا أنَّه عند منظّري الدولة الإسلاميَّة "الخلافة" من الثوابت الدينيَّة الأصيلة، وأصبح هو التصوُّر الشائع لطبيعة العلاقة المتبادلة بين السُلطة والمجتمع في الثقافة الإسلاميَّة.

وهذا سيقودنا إلى السؤال: كيف نشأ هذا التصوُّر الفكري؟ وهل تأسَّس على وحي مقدَّس قطعي الدلالة أم اجتهاد بشري في فهم أدلة شرعيَّة ذات دلالات احتماليَّة؟ من الذي ثبَّت المعنى؟ الله أم منظّرو الدولة الإسلاميَّة؟ وهل جذور التجربة التاريخيَّة لنظريَّة الطاعة تؤيّد استمرار هذا التصوُّر، أم تدعونا إلى إعادة النظر فيه؟

وإذا كنا أمام دلالة تُعطي للحكام سلطات شرعيَّة، فهم الذين يُشرّعون وينفّذون، والأمَّة تبعاً لهم، وبين دلالات أخرى تُمكِّن الناس من استرداد إرادتهم، فيختارون من بينهم من ينوب عنهم؛ ليكوّنوا منهم سُلطة الإلزام والتوجيه الاجتماعي، فأيّ الدلالات أولى بالاختيار؟ من تمنح الحاكم سُلطة دينيَّة أم التي تستردُّ منه تلك السلطة الدينيَّة؟ هل الأولى أن ننحاز إلى دولة مركزها الحاكم بصورتها التاريخيَّة القديمة، أم إلى دولة مركزها المجتمع بصورتها المعاصرة الحديثة؟

البحث محاولة لممارسة القراءة التحليليَّة النقديَّة البعيدة عن الدوغمائيَّة أو التبريريَّة أو الانتقائيَّة المستعلية السائدة في الخطاب الإسلامي، فأخطر ما وقع فيه الخطاب الإسلامي المعاصر تثبيت المعنى عند فهم بعينه، وترويجه كأنَّه المعنى الوحيد المطابق لمراد الله، ممَّا أعطى للمنتج البشري سُلطة الإلهي، وعليه تأسَّست العلاقة بين السلطة والمجتمع في الثقافة الإسلاميَّة المعاصرة.

(1) نظريَّة الطاعة:

استمدَّ الحكام والفقهاء سُلطةً ونفوذاً شرعياً في الخطاب الإسلامي من المدلول الثقافي المتداول لــ"أولي الأمر" بأنَّهم الحكَّام، وأنَّ "الذين يستنبطونه منهم" هم الفقهاء المجتهدون بمعنى خاص أو رجال الدين بمعنى عام، فباتت مرجعيتهم في الدولة شرعيَّة بموجب الأمر الإلهي في آيتي سورة النساء، وهذا يدعونا لإعادة اكتشاف دلالة أولي الأمر في اللغة وفي أقوال المفسرين، وهل هذه دلالة قطعيَّة لا يحتمل النص القرآني غيرها؟ كما روَّج لذلك بعض منظّري دولة الخلافة الإسلاميَّة، من أمثال الدكتور يوسف القرضاوي الذي استند إلى آيات سورة النساء للتأصيل الشرعي لوجوب استعادة الدولة الإسلاميَّة (الخلافة)، وزعم أنَّ دلالة أولي الأمر على الحكام دلالة نصيَّة قطعيَّة، بقوله: "لم يكن هذا ابتكاراً من الحركة الإسلاميَّة ومؤسّسيها ودعاتها، بل هو ما تنطق به نصوص الإسلام القاطعة ووقائع تاريخيَّة ثابتة وطبيعة دعوته الشاملة. أمَّا نصوص الإسلام فحسبنا منها الآيتان 59، 58 من سورة النساء: "إنَّ الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إنَّ الله نعمَّا يعظكم به إنَّ الله كان سميعاً بصيراً. يا أيُّها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردُّوه إلى الله والرسول". فالخطاب في الآية الأولى للولاة والحكَّام.[1]

فانتظمت علاقة المجتمعات بالسُلطة الحاكمة في الدولة الإسلاميَّة "الخلافة" وفق نظريَّة الطاعة التي أسَّس لها المجتهدون، وساهمت في تكوين عقل ووجدان المسلمين قديماً وحديثاً، ويُمكن إجمالها في أنَّ طاعة الحاكم من طاعة الله في كلّ مباح ليس بمعصية، فالحاكم يطيع الله، والرعيَّة تطيع الحاكم، ولا تعصيه ما دام لم يأمر بمعصية. فالأمور ـ وفق هذه النظريَّة- بين مباح جائز وحرام معصية، فما كان في معصية فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، وما كان غير ذلك من مباح فجعلوا الاختيار للإمام، والرعيَّة ملزمة باتباع اختياراته، فليس لها مخالفة الحاكم في اختياره إلا إذا كان حراماً شرعاً، ولم يحمل هذا التصوُّر لعلاقة السُلطة ممثلة في الحاكم بالشعب أيَّ إمكانية لإلزام الشعب للحاكم بأمر في دائرة المباحات، فليس هناك كلام عن اختيار للشعب أو الأمَّة، لأنَّ الاختيار محصور في دائرة الحاكم وهيئته الاستشاريَّة من المجتهدين، فطبيعة دور الحاكم كراع أن يختار فهو المتبوع، وطبيعة دور الأمَّة (الشعب) كرعيَّة أن تسمع وتُطيع فهم تابعون لاختيارات الحاكم.

وظلت علاقة الحاكم بالمحكوم الشائعة في ثقافتنا الإسلاميَّة محصورة في هذه الصورة لا تحيد عنها "طاعة مطلقة للحاكم في كلّ أمر ليس بمعصية"، وتجمدَّت العقليَّة المنتجة للخطاب الإسلامي عند هذه الصورة، لا يختلف الخطاب الرسمي المعاصر عن غيره، ففي الفتوى الصادرة عن دار الإفتاء المصريَّة ردَّاً على سؤال ما حكم طاعة الحكام؟ جاء الجواب: "من حكم دولة من هذه الدول المعاصرة فإنَّ له حكم الإمارة، فيجب على الناس أن يطيعوه، ما لم يأمرهم بمعصية."[2] فلم تحمل علاقة السُلطة ممثلة في الحاكم بالمجتمع أيَّ قدر ولو ضئيل من التطوُّر أو التفصيل، ولم يختلف فهم دار الإفتاء في القرن الحادي والعشرين عن فهم فقيه مثل ابن حزم في القرن العاشر الميلادي في قوله: "إنَّ الإمام (الخليفة) تجب طاعته ما قادنا بكتاب الله وسُنَّة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ."[3]

هذه هي خلاصة لعلاقة السُلطة بالمجتمع في تصوُّر الدولة "لإسلاميَّة الخلافة"، فالقائم على أمر المسلمين سواء سُمِّي خليفة أو إماماً أو رئيس دولة فهو إنسان ليس له سُلطة روحيَّة من الله، لكن له صفة شرعيَّة بوصفه مجتهداً يُعمِل سُلطانه (سُلطته التنفيذيَّة والتشريعيَّة) في تطبيق أحكام الشريعة، ولمَّا كانت آراء المجتهدين مختلفة، فليس ملزماً بالسير على مذهب بعينه أو اجتهاد خاص، فالشورى كاشفة غير ملزمة له، يعرف بها رأي أهل مشورته الذين يختارهم من أهل الاجتهاد؛ ولأنَّ رأيهم اجتهاد، ورأيه اجتهاد فله أن يكتفي برأيه بما له من صفة الاجتهاد، وإن كان غير مجتهد فيختار من آراء أهل مشورته من المجتهدين، فالأمَّة تصدر في الدولة الإسلاميَّة عن رؤية الحاكم (الخليفة) الذي يقوم - وفق طرح منظّري الدولة الإسلاميَّة- بدور الحارس لأحكام الإسلام، وحماية حاكميَّة الله، والرعيَّة تطيع الحاكم في كلّ ما ليس بمعصية. هكذا اختصر الفقهاء العلاقة بين السُلطة والمجتمع.

وتأسَّست تلك الرؤية الشرعيَّة لعلاقة السلطة بالمجتمع على أمرين:

الأول: الأمر الإلهي في القرآن الكريم بطاعة أولي الأمر في موضعين؛ الأول: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا" (سورة النساء، الآية ٥٩).

الثاني: "وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ ۖ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَىٰ أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ" (سورة النساء، الاية٨٣).

فاشتهر أنَّ أولي الأمر في القرآن الكريم هم الحكام والفقهاء، فتجب طاعتهم شرعاً بمقتضى التكليف الإلهي ما دامت ليست في معصية الله، وتكون مخالفتهم حراماً شرعاً.

الأمر الثاني: الفعل التاريخي متمثلاً في اجتهاد الصحابة - رضوان الله عليهم - في تنظيم العلاقة بين الراعي (الإمام) والرعية (الأمَّة) وفق هذه النظريَّة، فاستند منظّرو الدولة الإسلاميَّة إلى طرح المسلمين الأوائل للنظريَّة بوصفه تصوُّر الديّن.

(2) التأسيس النَّصي لنظريَّة الطاعة:

بداية جاءت مادة "أمر" في معاجم اللغة بمعنى طلب الفعل، وأمرُ الله ما وعد به، ويأتي الأمر بمعنى الحادثة[4]. واستعمل القرآن الكريم كلمة الأمر قرابة مئتين وثمانٍ وأربعين مرَّة لم تتجاوز الدلالة اللغويَّة الشائعة[5]. غير أنَّه لما أضيفت كلمة "أولو" إليها في سورة النساء حدث خلاف حول هؤلاء -المأمور بطاعتهم- الذين أطلق عليهم القرآن اسم أولي الأمر، ورغم أنَّ أقوال المفسرين تعدَّدت، حتى ذكر بعضهم خمسة أوجه محتملة في معناها، وستشير الدراسة إلى ثلاث عشرة دلالة قد يحتملها لفظ أولي الأمر في الآيات، إلا أَّن هناك معنى تراثياً اشتهر بين تلك المعاني، وهو ما جاء في تفسير ابن كثير من أنَّ أولي الأمر هم الحكام والفقهاء مستنداً في تفسيره إلى المرويات الحديثيَّة في باب الإمارة.

وقد ساعد على انتشار هذا الرأي السلطة، لاسيَّما في فترات الصراع السنّي الشيعي، فالخليفة السنّي وحوله الفقهاء يبحثون عن سند ديني يمنح اختيارات الخليفة دينيَّة وشرعيَّة لا تقل في قوتها عن خصومه من أئمة الشيعة الذين ينازعونه السلطان مستندين إلى دلالة نصيَّة دينيَّة في الفكر الشيعي تستوجب طاعة الأئمة واتباع أوامرهم.

ومع تغيُّر الواقع التاريخي الذي يعيشه المفسِّرون يختلف فهمهم للآيات، فقول ابن كثير لا يمثل الفهم التراثي الوحيد للآية، بل من المفسرين التراثيين من رفض أن تحمل الآية أيَّة إشارة إلى الولاة والسلاطين، وناقش أوجه الضعف في استدلال ابن كثير، كما فعل الرازي في تفسيره، محذّراً من قبول رأي القائلين إنَّ أولي الأمر هم الولاة والسلاطين أو جماعة من علماء الدين؛ لأنَّ الأمر بطاعة أولي الأمر واجب في الآية، وهذا الوجوب يقتضي العصمة من الخطأ؛ لأنَّ الله لا يأمر بطاعة في خطأ، والعصمة من الخطأ - في نظره - ثابتة للأمَّة مجتمعة على رأي وليست لبعضها، لاسيَّما الحكام الذين قد يأمرون بالخطأ قصداً إليه كما يقول: "طاعة الأمراء والسلاطين غير واجبة قطعاً، بل الأكثر أنَّها تكون مُحرَّمة؛ لأنَّهم لا يأمرون إلا بالظلم."[6] كما رأى الرازي في واقعه؛ لذا جعل أولي الأمر متمثلاً في إجماع الأمَّة، وأكمل النيسابوري فجعل أهل الحل والعقد ممثلي هذا الإجماع.

وإذا سلَّمنا بصحة أحاديث الإمارة الدالة على وجوب طاعة الأمير التي استند إليها ابن كثير في تفسيره لأولي الأمر بالحكام فإنَّه يمكننا توجيه تلك المرويات بإحدى طريقتين: الأولى تقييد دلالة الإمارة في الأحاديث بالقيادة العسكريَّة في ميادين الحروب، ويؤكّد هذا المعنى قول ابن خلدون: "منذ عهد الخلفاء كانوا يسمُّون قواد البعوث باسم "الأمير"، وهو فعيل من الإمارة...، وكان الصحابة أيضاً يدعون سعد بن أبي وقاص "أمير المؤمنين" لإمارته على جيش القادسيَّة."[7] فهي دعوة للالتفاف حول القيادة العسكريَّة وتجنُّب التفرُّق والانقسام.

وإذا اتبعنا منهج ابن كثير نفسه في التفسير بالرواية، فسنجد روايات سبب النزول تخصّص معنى أولي الأمر بالقادة العسكريين (أمراء السرايا) في ميادين المعارك، كما أشارت روايتا سبب النزول من أنَّ خلافاً وقع بين أمير سريَّة وأحد الجند؛ لأنَّ الأمير أمره أن يُلقي بنفسه في النار، والرواية الثانية أنَّ الآية نزلت في خلاف بين عمَّار وخالد ـ رضي الله عنهما- ورغم أنَّ النبي ـ صلى الله عليه وسلم - أقرّ أمان عمَّار إلا أنَّه نهاه أن يخالف أميره مرَّة ثانية إشارة إلى خالد، وأنَّهما بعد أن تسابا اعتذر خالد لعمَّار نزولاً عند أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فكانت الآية حثّاً على وجوب الطاعة في ميادين المعارك في غير معصية.

الطريقة الثانية أن نُبقي على المفهوم العام للإمارة في المرويات دون تقييده بالناحية العسكريَّة، فالإمارة هي السلطة الحاكمة الآمرة، غير أنَّ صورتها اختلفت بين القديم والحديث، فإن كان الأمير شخصاً أو أسرة تمثلت فيها السلطة الحاكمة قديماً، فإنَّ نظم السلطة المعاصرة والقانون العام بما له من سيادة هو المراد بالإمارة في عصرنا، وليس الحاكم، فتغيَّرت دلالة الأمير حديثاً تبعاً لتغير الواقع الاجتماعي والتاريخي، فالسُلطة هيئات مستقلة منفصلة، والأمير هو القانون الذي تواضع الناس على الخضوع له، سواء أكان مصدره إلهياً قطعي الثبوت والدلالة، أو كان مصدره وضعياً بشرياً فيما لا نصّ قطعي الدلالة قطعي الثبوت فيه من نصوص الوحي الإلهي. ويمكننا أن نفهم هذا الأمر النبوي في سياقه الاجتماعي حينها، إذ يحاول أن يرسِّخ في حياة العرب لفكرة القيادة العامَّة وسلطة تتجاوز القيادة القبليَّة إلى كِيان أكبر يتشكّل، وقبول إمارة غير المنسَّب في العرب، ولو كان عبداً حبشياً.

واستبعد محمد عبده تفسير أولي الأمر بالحكام والفقهاء مع إقراره بشهرته، بقوله: "من المشهور أنَّ للمفسرين في أولي الأمر قولين: أحدهما أنَّهم الأمراء الحاكمون، وثانيهما: أنَّهم العلماء، ومن الناس من يعبّر بكلمة "الفقهاء"، ومن المعلوم أنَّه لم يكن مع النبي -صلى الله عليه وسلم- أمراء حاكمون ولا صنف يُسمى الفقهاء، وإنَّما المراد بأولي الأمر الذين تردُّ إليهم مسائل الأمن والخوف وما في معناها من الأمور العامة: أهل الرأي والمكانة في الأمَّة وهم العلماء بمصالحها وطرق حفظها والمقبولة آراؤهم عند عامتها."[8] وقيَّد الأستاذ محمد عبده طاعتهم بعدم مخالفتها للمتواتر قطعي الدلالة من الوحي، وأن يكون تشريعهم بلا إكراه لهم ومحض اختيار منهم، وأن يكون عملها في دائرة المصالح العامَّة وليس الأمور التعبديَّة والعقائدية التي يُؤخذ فيها بالوحي فقط.[9]

فتأويل أولي الأمر بالحكام والفقهاء يتنافى مع واقع المسلمين وقت نزول الآية، فالآية خطاب للمسلمين أن يردُّوا مسائل الأمن والخوف إلى النبي عليه السلام وأولي الأمر، ولا يخفى أنَّ أولي الأمر هؤلاء كانوا من الذين يعاصرون النبي - صلى الله عليه وسلم- ولم يكن إلى جانب النبي عليه السلام من أولي الأمر هؤلاء ملك أو سلطان أو والٍ من الولاة، أو علماء دين، لقد كانوا جميعاً ممَّن نعرف أسماءهم وأخبارهم من صحابة رسول الله، لكن كانوا من ذوي الخبرة والتجربة، والمكانة ما يُؤهلهم في النيابة عن قبائلهم وحدة تكوين المجتمع؛ ولأن يكونوا محل ثقتهم؛ فلا صحة لما ذهب إليه علماء الأصول من أنَّهم المجتهدون المستنبطون للأحكام الشرعيَّة، لأنَّ الآية تتحدث عن الذي يُصلح الأمَّة وقت الحرب، وهو موقف يحتاج إلى الرأي الذي يختلف باختلاف الزمان والمكان، ولا يكفي فيه معرفة أصول الفقه وفروعه، ولا الاجتهاد بالمعنى الذي يقوله علماء الأصول.[10]

كما أنَّ اختيار رجال الدين فهْم ابن كثير، وإهمال ما عداه من الآراء جعله المعنى الشائع في ثقافتنا، وساهم بقصد أو من غير قصد في تعزيز السلطة الاستبداديَّة قديماً وحديثاً، فطاعة أولي الأمر من الملوك والسلاطين، وعلماء الدين بوصفهم القادرين على استنباط الأحكام واجب شرعي على الشعوب، ويأثم مخالفوهم، فرضخت عامة الناس لقرارات وقوانين الملوك والسلاطين التي أحكمت قبضتهم على السلطة، فكان هذا التأويل -كما يقول الأستاذ محمد عبده- ممَّا "يتزلف به المتزلفون إليهم (السلاطين) حتى إنَّهم كانوا يتلون هذه الآية على مسامع السلطان عبد الحميد في كلّ صلاة جمعة."[11]

وهذا ما يجعل المعنى الأقرب لأولي الأمر قول الرازي إنَّهم أهل الحلّ والعقد الذين طلب القرآن الكريم مشاورتهم في الأمر، أوهم أهل العقل والرأي كما قال ابن كيسان، أو هم أهل الاختصاص في كلّ علم وأهل الخبرة في كلّ مهنة، فلهم من الفكر والنظر والتجربة ما يدعونا للاستماع إليهم، والأخذ بأقوالهم.

فأسَّس الخطاب القرآني أولاً لسُلطة الوحي الإلهي على حياة البشر بقوله تعالى: "وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول"، ثم انتقل الخطاب إلى تأسيس سُلطة ثانية وهي سُلطة الاستنباط العلمي الذي أداته العقل، وليس ميدانه النصوص بمعنى الآيات المقروءة فحسب، بل النصوص المنظورة المتأملة في الكون المعتمدة على التجريب العلمي في مختلف مناحي الحياة، فالخطاب القرآني يطرح معالجة لحالتي الأمن والخوف في المجتمع المسلم، وأنَّ المجتمع أمام إجراءين: الأول إذاعة أمر الأمن والخوف، والثاني: ردُّه إلى الرسول وإلى أولي الأمر، أي أهل الاختصاص، كلّ في ميدانه، ثم يرجّح القرآن الاختيار الثاني بالعلة، وهي أنَّهم القادرون دون غيرهم على إيجاد حلول بما يمتلك بعضهم من قدرة على الاستنباط، [12] أي عمق التفكير وطول النظر في الأمور.

من جانب آخر فإنَّ زعم منظري الدولة الإسلامية المتأخرين بأنَّ دلالة أولي الأمر على الحكام ثابتة بنص قطعي الثبوت قطعي الدلالة[13] كلام غير دقيق ويجافي الصواب، كما هو واضح من تعدُّد التأويلات، ويكون التأسيس لسُلطة شرعية للحكام والفقهاء في الأمور الاختياريَّة، وزعم أنَّهم ينوبون عن الناس في الاختيار بمقتضى الأمر الإلهي غير صحيح، بدليل ثلاثة عشر وجهاً دلالياً لكلمة أولي الأمر، نجملها في التالي:

أولاً: أولو الأمر هم الأمراء: هذا ما نقله ابن جرير[14] في جملة ما نقل من آراء، ورجَّحه على غيره. وكذا نقله ابن كثير[15] دون ترجيح له، ونسبه البغوي[16] إلى أبي هريرة وعلي بن أبي طالب -رضي الله عنهما- واختاره أبو السعود مشترطاً فيهم العدالة.[17]

ثانياً: أولو الأمر هم أهل العلم والفقه: أي النظر الشرعي دون غيرهم، وبه قال مجاهد وعطاء والحسن البصري وأبو العالية والضحَّاك، واختار هذا الرأي الصنعاني في تفسيره[18]، ونسبه البغوي[19] إلى ابن عباس وجابر -رضي الله عنهما- ودليله قوله تعالى: "لعلمه الذين يستنبطونه منهم"، وهذا ما اختاره الشوكاني[20]، ونقله ابن جرير دون ترجيح له،[21] وكذلك نقله أبو السعود.[22]

ثالثاً: أولو الأمر هم الأمراء وأهل العلم الشرعي معاً: وهذا ما اختاره ابن كثير.[23]

رابعاً: أولو الأمر هم أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم – خاصة: وهو ما نقله القرطبي[24] حكاية عن مجاهد.

خامساً: أولو الأمر هم أبو بكر وعمر خاصة: ممَّا نقله القرطبي[25] حكاية عن عكرمة.

سادساً: أولو الأمر الأئمة المعصومون: نقله الرازي عمَّن وصفهم بالرافضة.[26]

سابعاً: أولو الأمر هم أمراء السرايا: فهو وصف خاص بالقيادة العسكريَّة في إحدى الأقوال التي نقلها الشوكاني، [27] وكما نفهم من روايتي سبب النزول التي أوردها ابن جرير وابن كثير في تفسيريهما.[28]

ثامناً: أولو الأمر هم علماء الشريعة في كلّ بلد على حده: ويشترط أن يُجمعوا على رأي واحد في المسألة؛ ليكون لهم صفة الوجوب الشرعي، ويشترط فيهم الإقامة الكاملة بين أهل البلد حتى يدخلوا ضمن أولي الأمر فيها، وفي ذلك يقول ابن حزم: "فمن هاجر إلينا من سائر البلاد فنحن أحقُّ به، وهو منا بحكم جميع أولي الأمر منا، الذين إجماعهم فرض اتباعه، وخلافه محرَّم اقترافه، ومن هاجر منَّا إلى غيرنا؛ فلا حظَّ لنا فيه، والمكان الذي اختاره أسعد به."[29]

تاسعاً: أولو الأمر هم أهل العقل والرأي: نقله الشوكاني في تفسيره، ونسبه إلى ابن كيسان.[30]

عاشراً: أولو الأمر هم أهل الإجماع: وهذا اختيار الرازي بعد مناقشته لما وصله من آراء حصرها في أربعة أقوال.[31] ولا يقصد به الدلالة الاصطلاحيَّة في أصول الفقه، بل تتسع لتشمل عموم الأمَّة.

الحادي عشر: أولو الأمر هم أهل الحل والعقد: كما أشار صاحب تفسير المنار تعليقاً على كلام الأستاذ محمد عبده بأنَّ تفسيره أولي الأمر بأهل الحل والعقد سبق إليه الرازي بعبارة غير حاسمة، والنيسابوري بعبارة حاسمة، وكما قال الأستاذ رشيد رضا كان الإمام يظنًّ أنَّ هذا الرأي لم يُسبق إليه حتى وجده عند النيسابوري نقلاً عن الرازي.[32]

الثاني عشر: أولو الأمر هم أهل الثقة والنبوغ من مختلف النخب الاجتماعيَّة والمهنيَّة: فلم يكتفِ الشيخ محمد عبده بجعل دلالة أولي الأمر في أهل الحل والعقد، بل فصَّلها بقوله: "إنَّ أولي الأمر في زماننا هذا هم: كبار العلماء ورؤساء الجند والقضاة، وكبار الزرّاع والتجار، وأصحاب المصالح العامة، ومديرو الجمعيات والشركات، وزعماء الأحزاب، والنابغون من الكُتُّاب والأطباء والمحامين والمهندسين...، أولئك الذين تثق بهم الأمَّة، وترجع إليهم في مشكلاتها حيث يكونون...، وأهل كلّ بلد يعرفون من يوثق به عندهم ويحترم رأيه فيهم، ويسهل على رئيس الحكومة في كلّ بلد أن يعرفهم، وأن يجمعهم للشورى."[33]

الثالث عشر: أولو الأمر هم فئتان من المجتمع: فئة تأتي بالانتخاب؛ لتمثّل الناس، وتنقل آراءهم في إصلاح المشكلات وإزالة العقبات التي تعيق انطلاقهم في الحياة في ميادين الإنتاج والعمل. وفئة ثانية مارست المسائل الفنيَّة والمهنيَّة عملياً، واكتسبت خبرة يقوم بانتخابها ليس عامة الناس بل المؤسسات المهنيَّة والفنيَّة كممثلين لها يناقشون ما تعرضه الفئة الأولى، وما تنتهي إليه الفئتان تكون قرارات واجبة بوصفهم أولي الأمر.[34]

بالتأمل في تلك الأقوال نلاحظ أنَّ مناهج المفسرين اختلفت في الاختيار، فمنهم من اكتفى بذكر أقوال سابقيه ومعاصريه، ثم اختار دون أن يذكر علة لاختياره كابن جرير والشوكاني، ومنهم من استند إلى المرويات كابن كثير، ومنهم من ناقش معتمداً على البرهان العقلي مثل الرازي والنيسابوري.

إنَّ اختلاف تأويلات المفسرين، وتعُّدد أقوالهم حول دلالة "أولي الأمر" إقرار بمشروعيَّة الاختلاف في التأويل، ومشروعيَّة الاختيار من تلك الدلالات المتعدّدة التي تحتملها اللغة، فإذا كنَّا أمام دلالة تُعطي للحكام سلطة شرعيَّة واسعة، فهم الذين يُشرّعون وينفذون، والأمَّة تبعاً لهم، وبين دلالات أخرى تُمكِّن الناس من استرداد إرادتهم، فيختارون من بينهم من ينوب عنهم؛ ليكونوا سُلطة الإلزام والتوجيه للمجتمع، فأيّ الدلالات أولى بالاختيار، من تمنح الحاكم سُلطة دينيَّة أم التي تستردُّ منه تلك السُلطة الدينيَّة؟ هل الأولى أن ننحاز إلى دولة مركزها الحاكم بصورتها التاريخيَّة القديمة، أم إلى دولة مركزها المجتمع بصورتها المعاصرة الحديثة؟

(3) التأسيس التاريخي لعلاقة السُّلطة بالمجتمع وفق نظريَّة الطاعة:

وإذا انتقلنا إلى فعل الصحابة - رضوان الله عليهم- واجتهادهم في تنظيم العلاقة السياسيَّة بين الحاكم والمحكومين فسنجدهم ربطوا طاعة الرعيَّة وجوباً وتعطيلاً بطاعة الحاكم لله، فمن الأقوال المؤسّسة لتلك العلاقة مقولة أبي بكر ـ رضي الله عنه ـ: "أطيعوني ما أطعت الله فيكم، فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم"، فهذه المقولة ألهمت المسلمين بطبيعة العلاقة بين الخليفة ممثل السُلطة والأمَّة أهم العلاقات وأكثرها خصوصيَّة في الدولة الإسلاميَّة، وعلى ضوء مقولة أبي بكر - رضي الله عنه - تشكّلت نظريَّة الطاعة قديماً وحديثاً.

وقد نجحت تلك النظريَّة في مجتمع المسلمين الأوائل، فعامَّة الرعيَّة في عهد أبي بكر وعمر - رضي الله عنهما- التزمت طاعة الخليفة الذي التزم طاعة الله، والحروب التي واكبتهم كانت من منطلق آخر، وإن استقامت نظريَّة الطاعة في تنظيم العلاقة في عهد أبي بكر وعمر وعثمان في أوَّل عهده ـ رضي الله عنهم ـ لأنَّ الحاكم لم يتسلط ولم يحتجب ولم يستعلِ، ولم يضعف أمام الولاة فتكون لهم سطوة، لذا لم تشهد تلك الفترة جدلاً حول طاعة الخليفة لله، وما يتبعها من طاعة الرعيَّة له، إلا أنَّها شهدت على صعيد آخر معارك ضارية في ثلاث جبهات ضدَّ جماعة من مسلمي البادية امتنعوا عن أداء الزكاة إنكاراً لفرضيتها، فجيَّش أبو بكر - رضي الله عنه- لحربهم، وتزامن ذلك مع حربه للمرتدّين من قبائل ربيعة الذين بدؤوا مبكّراً بإهدار دماء المسلمين بقتلهم حامل رسالة النبي ـ صلى الله عليه وسلم- التي جاءت رداً على رسالة مسيلمة للنبي - صلى الله عليه وسلم- بأنَّ الله أشركه معه في النبوَّة، وأنَّ الأرض بينهما نصفان، والجبهة الثالثة استكمال ما بدأه الرسول ـ صلى الله عليه وسلم- من تسيير جيوش لفتحِ الطرق المغلقة أمام رسله وإزالة سطوة السُلطة المانعة للناس من الاختيار، فكانت مؤتة وتبوك، ثم بعث أسامة في عهد أبي بكر وتوالت الحروب ضدَّ ممالك العرب المناذرة والغساسنة حلفاء إمبراطوريتي الفرس والروم، ثم الدخول في حروب مباشرة مع تلك الإمبراطوريات، واستمرَّت الحروب في تلك الجبهة في عهد عمر وعثمان ـ رضي الله عنهما ـ.

وفي أواخر عهد عثمان ـ رضي الله عنه ـ بدأ الاختلاف حول تطبيق نظريَّة الطاعة، فمع طول فترة حكم عثمان ـ رضي الله عنه ـ، وتقدُّم سنّه، وتزايد نفوذ عصبته من بني أميَّة، ومع اتساع نطاق الحكم من كونه دولة المدينة إلى دولة ممتدة تشمل عدداً من المدن والبوادي، ومن مجتمع عربي بنزعاته القبليَّة إلى مجتمع أكبر متعدّد الأعراق والأصول، ظهرت حركات معارضة تنطلق من نظريَّة الطاعة، فأسقطت تلك الحركات المعارضة حقَّ الطاعة الواجب لبعض الولاة، لأنَّهم ارتكبوا معصية خروجهم عن طاعة الله، ثمَّ اتسعت الدائرة لتشمل الخليفة نفسه.

وبدأ الاضطراب في "الكوفة"، فقد قام فريق من أهلها ينادي بضرورة عزل الوالي "الوليد بن عقبة" الأموي، وهو أخو عثمان لأمّه، وذلك لأسباب: من بينها اتهامهم له بأنَّه كان يسمر مع "أبي زبيد الطائي" الشاعر النَّصراني الشاب، ويعاقر معه الخمر! وشهد عليه بعضهم، فأمر عثمان ـ رضي الله عنه- بحدِّه (أي توقيع عقوبة شرب الخمر عليه) رغم أنَّ القرائن كانت تشير إلى براءته، قائلاً: "نقيم الحدَّ ويذهب شاهد الزور للنار!"؛ ثم أجاب القوم إلى ما طلبوا بعزله عن الولاية، فكانت فكرتهم إذن أنَّ الحاكم إذا ارتكب كبيرة ينبغي عزله، وإجابة "عثمان" لمطلبهم تدلُّ على أنَّه موافق على هذه الفكرة، وتوالت الثورات على الولاة، فقامت ثورة على الوالي الذي خلفه، وهو "سعيد بن العاص"؛ لأنَّهم لم يوافقوا على سياسته، وطالبوا بعزله أيضاً، ولما توجَّه إلى المدينة منعوه من دخول الكوفة عند عودته إليها، فولَّى عليهم "عثمان" أبا موسى الأشعري ـ رضي الله عنهما ـ، وكان أهل "البصرة" أيضاً قد ثاروا على "أبي موسى الأشعري" نفسه، فعزله عثمان، وولَّى بدلاً منه: "عبد الله بن عامر"، وجاءت وفود من مصر أيضاً تطالب بعزل واليها "عبد الله بن سعد بن أبي السرح".

فكانت النظريَّة الشائعة إذن التي يقرّرها هؤلاء أنَّ والي الإقليم -وهو نائب الخليفة- يجب عزله إذا لم يرضَ المحكومون منه فعلاً يدخل في باب المعصية، وكان الاختلاف حول طبيعة المعصية الموجبة للعزل. ثمَّ تطورت الفكرة حتى شملت مركز "الخليفة" نفسه؛ فانتهت إلى الثورة ضدَّ عثمان -رضي الله عنه- ومطالبتهم بأن يخلع نفسه؛ لأنَّه ـ من منظورهم - آثر قرابته بالأموال والأعمال، ولم يعزل من سبق ووعد بعزلهم من الولاة، وفي ذلك من المعصية ما يستوجب الخروج عن طاعته؛ لأنَّه لم يطع الله فيهم.

وهذا ما يُعقِّب عليه الدكتور محمد ضياء الدين الريس بقوله: "ولو فعل لتغير بلا شك مجرى التاريخ، ولكنَّه قال لهم: "لا أنزع قميصاً كسانيه الله تعالى!"، فكأنَّه كان يرى أنَّ الخليفة ما دامت تمَّت بيعته، فكأنَّه قد اكتسب حقاً مقدَّساً، أو لعله كان يرى أنَّ هؤلاء -وهم أقليَّة- ليس لهم الحق في مطالبته بخلع نفسه، من أمر أجمع عليه المسلمون من قبل."[35] وأشبه بمقولة الريس ما روي عن الحسن البصري من قوله: "أفسد أمر هذه الأمَّة اثنان: عمرو بن العاص يوم أشار على معاوية برفع المصاحف، والمغيرة بن شعبة حين أشار على معاوية بالبيعة ليزيد. ولولا ذلك لكانت شورى إلى يوم القيامة. "ومثله قول بعض باحثي المذهب الشيعي لولا حادثة موقعة الجمل لتغيَّر مسار التاريخ.[36]

وأرى أنَّه لو تنازل عثمان ـ رضي الله عنه- ما تغيَّر وجه التاريخ، كما قال الريس؛ لأنَّه كان سيحدث لمن يخلفه مثل ما حدث مع الولاة حين نزل عثمان ـ رضي الله عنه - على رأي أهل الأمصار فعزلهم، وخير دليل ما حدث مع علي ـ رضي الله عنه ـ، فلو سلَّمنا بأنَّ عثمان تنازل اختياراً، كما قال الريس، وانتقلت الخلافة لعلي لما تغيّر الموقف كثيراً؛ لأنَّ بني أمية ما كانت لتقبل بترك ولايتهم في بلاد الشام، وأن يتراجع نفوذهم بعد أن استطال، ولو لم يكن عمرو بن العاص ومعاوية ـ رضي الله عنهما ـ موجودين بشخصيهما لوجد غيرهما؛ فلم يكن من اليسير محاصرة عصبيَّة قبليَّة تستعيد سلطانها في الحياة العامَّة رافعة قميص عثمان، مطالبة بثأره، ولا باستطاعة أحد أن يمنع اندفاعاً فكرياً لصياغة قناعات في طور التكوين حول طبيعة الذنب الذي يجعل الوالي أو الخليفة غير طائع لله، ممَّا يُشرّع الخروج عن طاعته، فتفاوت المسلمين في طرق فهم وتحديد كثير من المفاهيم الدينيَّة مثل المعصية (الكبيرة) والكفر والإيمان وغيرها، ممَّا كان سبباً لانقسام مازال باقياً، وأثار أسئلة كانت ميداناً لعدد من العلوم الشرعيَّة على مدار قرون تالية.

فإن كانت الخوارج صاحبة فكرة تكفير الحاكم بالذنب فإنَّ الخروج عن طاعة الحاكم لكونه عاصياً خارجاً عن طاعة الله أسبق في الظهور، إذ وُجدت في أواخر عهد عثمان، واستمرَّت في عهد علي ـ رضي الله عنهماـ، فالشام كاملة وأجزاء من الأمصار رأوا عليّاً عاصياً لا تصحُّ له بيعة، ولا تجب له طاعة بعدم القصاص من قتلة عثمان ـ رضي الله عنه ـ، وكذلك كان موقف عدد من كبار الصحابة من أمثال طلحة بن عبيد الله والزبير ممَّن بايعوا علياً، ثم خلعوا البيعة لموقفه من قتلة عثمان ـ رضي الله عنه ـ، ولا أتحدث عن قتالهم لعلي، وقتل جيش علي لهم في موقعة الجمل، فالخطاب الإسلامي السنّي أراح واستراح حين اكتفى من بين رويات التاريخ عند ابن كثير والطبري وغيرهم برواية أنَّ طرفاً ثالثاً هو من أضرم القتال الذي انتهى بمقتل صحابة كبار من أمثال: طلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام ـ رضي الله عنهما- وأن يسأل رجل من معسكر علي بن أبي طالب هل السيدة عائشة ـ رضي الله عنها ـ سبي؟ فيردُّ علي ـ رضي الله عنه ـ أيسبي الرجل أمَّه؟ لكن إن سلّمنا بأنَّ القتال كان وقيعة من طرف ثالث، فسيظلُّ السؤال مطروحاً عن سبب خروج صحابة بمكانة الزبير وطلحة وعائشة ـ رضي الله عنهم ـ يناصرهم عدد من الصحابة ومن بني أميَّة إلى موقعة الجمل؟ وكان خيارهم واضحاً وهو إنفاذ عاجل للقصاص من قتلة عثمان، ومواجهة من يمنع ذلك، ولو كان الخليفة وجيشه بما فيه من صحابة. وكان علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ يرى في أمر القصاص رأياً آخر فجعله آجلاً غير عاجل، فموقعة الجمل وما أعقبها بدأت من خصومة اجتهاديَّة حول توقيت وطريقة القصاص لعثمان - رضي الله عنه - وفق رواية السُنَّة.

فالإشكاليَّة ليست في الحادثة وما أعقبها، بل في الأفكار التي استقرَّت في نفوس أصحابها على أنَّها الاجتهاد الصائب، فكانت المحرّك الأوَّل للسيوف، فتأخير القصاص سبب لعدم الطاعة للخليفة الرابع من منظور معارضيه، ورأي الخليفة في التأخير - من منظوره هو وأنصاره- واجب على الرعيَّة الالتزام به بما فيهم المعارضون، وإلا فهم خارجون عن طاعته يجب محاربتهم، وهذا سيقود لسؤال عن حكم أموال المعارضين، وكيف تُباح الدماء ولا تستباح الأموال ليتجدَّد انقسام جديد.

إنَّ تعقُّد الواقع الذي يتشكل كان أكبر من أن تختصر مشاكله في كلمة مؤامرة، متجاهلة الطبيعة البشريَّة في انفعالاتها وغضبها في مجتمع العصبيَّة العربيَّة حاضرة فيه، وعقل أعجمي - دخل الإسلام مع حركة الفتوحات- ما زال في طور صياغة تصوُّراته عن الإسلام وكتابه العربي بوصلة الحياة السياسيَّة والثقافيَّة، فبين المثاليات والواقع والحلم والممكن أخذت تتنامى أفكارهم؛ ليكونوا الأكثر تأثيراً في جميع المدارس التي ستتكون شيعة وقراء (السنَّة) ومعتزلة، أضف إلى ذلك تجربة العرب في طورها الأوَّل لإدارة دولة مترامية.

إنَّ محاولات المسلمين الأوائل تنظيم العلاقة بين السلطة والمجتمع وفق نظريَّة الطاعة قاد إلى انقسامات وصراعات لسنا في حاجة إلى الخوض في تفاصيلها التاريخيَّة، غاية ما ينبغي التركيز عليه أنَّها رؤية واجتهاد، غير أنَّ العقل المسلم ما زال يدور حولها كأنَّها مسلَّمة دينيَّة للعلاقة بين الحاكم والمحكومين، فما جاء من آيات قرآنيَّة ومرويات حديثيَّة في هذا الموضوع له دلالة احتماليَّة بما يعطي للعقل مساحة لبناء تصوُّراته حول تلك العلاقة، دون أن تكون لها صفة الإلزام.

فمحاولة إخضاع الدولة بما انتهت إليه من مفاهيم ونظم إلى نتاج القدامى ظلم وتخبُّط، كما أنَّ محاولة محاكمة القدامى لأنَّهم في نتاجهم قاصرون عمَّا وصلت إليه الدولة الحديثة في نظمها ظلم وتخبُّط، ويظلُّ اجتهاد المسلمين القديم في علاقة السُلطة متمثلة بالحاكم نتاج ما توفر من تجربة قصيرة، ومعرفة إنسانيَّة كانت في أطوار النُّمو الأولى في زمانهم، ويستفيد المسلمون المعاصرون من إصابات وأخطاء تلك التجربة، ومن مسار تاريخي إنساني عام لا يتوقف عن التطوُّر؛ ليبني من لحظته الحاضرة المتقدّمة زمناً تصوره لعلاقة السلطة بالمجتمع، مستفيداً من تجارب التمدُّن والتحضُّر المعاصرة القائمة على تنامي الشعور بالانتماء للوطن. فالدولة المعاصرة قائمة على نظام قاعدته المجموعة الاجتماعيَّة وليس قاعدته المجموعة الدينيَّة، وتكوين فضاء معرفي مستقل نابع من التفكير العلمي في علاقة الإنسان بالكون، فكما نظَّمت التصورات الدينيَّة علاقة الإنسان بالله، فإنَّ التفكير العلمي هو المسؤول عن تكوين علاقة الإنسان بمحيطه الكوني، وفق مبدأ ديني عام هو الإصلاح وعدم الإفساد، وضرورة استرداد الإنسان المصادرة إرادته ليكون فاعلاً في بناء دولته.

***

ا. د. عبد الباسط هيكل

..............

أهمُّ المصادر والمراجع

- أبو جعفر محمد بن جرير بن يزيد الطبري، جامع البيان عن تأويل آي القرآن، المشهور بتفسير الطبري، دار الفكر، بيروت، ١٤٠٥هـ.

- أبو السعود محمد بن محمد العمادي، إرشاد العقل السليم إلى مزايا القرآن الكريم، المشهور بتفسير أبي السعود، ط دار إحياء التراث العربي، بيروت.

- أبو القاسم محمود بن عمر الزمخشري الخوارزمي، الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل، تحقيق عبد الرزاق المهدي، دار إحياء التراث العربي، بيروت.

- أبو زيد عبد الرحمن بن محمد (ابن خلدون) المقدّمة، دار الفكر، بيروت، الطبعة الثانية، 1408هـ/1988م.

- أبو محمد علي بن أحمد الأندلسي (ابن حزم)، رسائل ابن حزم الأندلسي، تحقيق: إحسان عباس، ط. دار الثقافة، بيروت، (1997-1417هـ).

- أبو محمد علي بن أحمد الأندلسي (ابن حزم)، الفصل في الملل والأهواء والنحل، مكتبة السلام العالميَّة، نسخة مصوَّرة من طبعة الخانجي (محمد علي صبيح)، ١٣٤٨هـ.

- الحسين بن مسعود الفراء البغوي، تفسير البغوي، تحقيق خالد عبد الرحمن العك، دار المعرفة، بيروت.

- عبد الرزاق بن همام الصنعاني، تفسير القرآن الكريم، تحقيق د. مصطفى مسلم محمد، مكتبة الرشد، الرياض 1410 الطبعة الأولى.

- فخر الدين الرازي، التفسير الكبير، دار الكتب العلمية، 1425هـ - 2004م.

- محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي، جامع الأحكام للقرطبي، دار الفكر، بيروت.

- حمد أحمد خلف الله (دكتور)، مفاهيم قرآنية، العدد 64 عالم المعرفة الكويت، يوليو 1984م.

- محمد أحمد خلف الله (دكتور)، القرآن والدولة، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة.

- محمد جواد مغنية (دكتور)، فضائل الإمام علي، مكتبة الحياة، بيروت، الطبعة الأولى، 1962م.

- محمد رشيد رضا، تفسير المنار، الهيئة المصريَّة العامة للكتاب، القاهرة.

- محمد ضياء الدين الريس (دكتور)، النظريات السياسيَّة الإسلاميَّة، مكتبة دار التراث، الطبعة السابعة، ١٩٧٩م.

- محمد بن علي بن محمد الشوكاني، فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير، دار الفكر، بيروت.

- محمد بن مكرم بن منظور، لسان العرب، دار صادر، بيروت، الطبعة الأولى.

- أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير الدمشقي، تفسير القرآن العظيم، دار الفكر، بيروت، 1401هـ.

- يوسف القرضاوي (دكتور) من فقه الدولة في الإسلام، دار الشروق، القاهرة.

الهوامش

[1] د. يوسف القرضاوي، من فقه الدولة في الإسلام، ص15. ط. دار الشروق، القاهرة.

[2] سجلات دار الإفتاء المصرية تاريخ الإجابة: ٢٠١١/٥/١٨م.

[3] ابن حزم الظاهري، الفصل في الملل والأهواء والنحل، ص٤، ١١٢. مكتبة السلام العالميَّة نسخة مصوَّرة من طبعة الخانجي (محمد علي صبيح)، ١٣٤٨هـ.

[4] "أمره يأمره أمراً وإماراً فأتمر، أي قبل أمره، والأمر نقيض النهي، وقوله عزَّ وجلَّ: "وأمِرْنا لنسلم لربِّ العالمين"، العرب تقول: أمرتك أن تفعل ولتفعل وبأن تفعل. وقوله عزَّ وجلَّ: "أتى أمر الله فلا تستعجلوه"، قال الزجاج: أمر الله ما وعدهم به من المجازاة على كفرهم من أصناف العذاب، والدليل على ذلك قوله تعالى: "حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور "أي جاء ما وعدناهم به"، وكذلك قوله تعالى: "أتاها أمرنا ليلاً أو نهاراً فجعلناها حصيداً"، وذلك أنَّهم استعجلوا العذاب، واستبطؤوا أمر الساعة، فأعلم الله أنَّ ذلك في قربه بمنزلة ما قد أتى: كما قال عزَّ وجلَّ: "اقتربت الساعة وانشقَّ القمر"، وكما قال تعالى: "وما أمر الساعة إلا كلمح البصر" وأمرته بكذا أمراً، والجمع الأوامر. ومنها اشتقت كلمة أمير؛ لأنَّه من يُصدر الأوامر، فالأمير: ذو الأمر. والأمير: الآمر، والأمر: الحادثة..، . وفي التنزيل العزيز: "ألا إلى الله تصير الأمور." (ابن منظور، لسان العرب ج٤، ص٢٩، دار صادر، بيروت، الطبعة الأولى.)

[5] تدور دلالتها حول معاني كلمة أمر اللغوية من طلب الفعل، مثل قوله تعالى: "قلْ إنَّ هدى الله هو الهدى وأمرنا لنسلم لرب العالمين"، وتأتي مضافة إلى لفظ الجلالة الله للدلالة على ما وعد به عزَّ وجلَّ، مثل قوله تعالى: "حتى جاء الحق وظهر أمر الله"، وتأتي بمعنى حادثة وشأن، مثل قوله تعالى: "قال بل سوَّلت لكم أنفسكم أمراً فصبر جميل".

[6] التفسير الكبير، ج2، ص117.

[7] أبو زيد عبد الرحمن بن محمد بن خلدون، المقدّمة، الفصل الثاني والثلاثون، ص 189، ط دار الفكر، بيروت، الطبعة الثانية، ١٤٠٨هـ - ١٩٨٨م.

[8]تفسير المنار، ج4، ص167.

[9]ينظر: السابق، ج4، ص168.

[10]ينظر: د. محمد خلف الله، مفاهيم قرآنيَّة، ص٧٨، ٧٧، العدد ٦٤ عالم المعرفة، الكويت، يوليو ١٩٨٤م. وكتابه: القرآن والدولة، ص٧٥: ٦٩.

[11] السابق، ج5، ص149.

[12] مادة الاستنباط أصلها استخراج الماء من البئر، انتقلت من الحسّي إلى المعنوي.

[13] من فقه الدولة في الإسلام، ص15.

[14] أبو جعفر محمد بن جرير الطبري، جامع البيان عن تأويل آي القرآن، المشهور بتفسير الطبري، ج٥، ص١٥٠: ١٤٧دار الفكر، بيروت، ١٤٠٥هـ.

[15]أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير، تفسير القرآن العظيم المشهور بتفسير ابن كثير. ج١، ص٥١٩: ٥١٧، دار الفكر، بيروت، ١٤٠١هـ.

[16] تفسير البغوي، تحقيق خالد عبد الرحمن العك.ج١، ص٤٤٤، دار المعرفة، بيروت.

[17] أبو السعود محمد بن محمد العمادي، إرشاد العقل السليم إلى مزايا القرآن الكريم، المشهور بتفسير أبي السعود، ج٢، ص١٩٣، ط دار إحياء التراث العربي، بيروت، قال: "هم أمراء الحق وولاة العدل كالخلفاء الراشدين ومن يقتدى بهم من المهتدين، وأمَّا أمراء الجور فبمعزل من استحقاق العطف على الله تعالى والرسول في وجوب الطاعة لهم".

[18] عبد الرزاق بن همام الصنعاني، تفسير القرآن الكريم، تحقيق د. مصطفى مسلم محمد، ج1 ص166. ط مكتبة الرشد. الرياض 1410 الطبعة الأولى.

[19] تفسير البغوي، تحقيق خالد عبد الرحمن العك. ج1 ص444.

[20] محمد بن علي بن محمد الشوكاني. فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير. ج1 ص481. دار الفكر. بيروت.

[21] تفسير ابن جرير الطبري. ج5. ص150: 147.

[22]إرشاد العقل السليم إلى مزايا القرآن الكريم. ج2 ص193.

[23] تفسير ابن كثير. ج1. ص519: 517.

[24] محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي، جامع الأحكام الشهير بتفسير القرطبي، ج٥، ص٢٥٩، دار الفكر، بيروت.

[25] السابق، ج5 ص259.

[26]فخر الدين الرازي، التفسير الكبير، ج2، ص117، ط دار الكتب العلمية، 1425هـ - 2004م.

[27] فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير. ج1، ص481.

[28] الرواية الأولى التي نقلها ابن كثير عن كثير من المحدثين: "وهي أنَّ رسول الله بعث سريَّة واستعمل عليهم رجلاً من الأنصار فلما خرجوا وجد عليهم في شيء قال فقال لهم أليس قد أمركم رسول الله أن تطيعوني؟ قالوا بلى، قال فاجمعوا لي حطباً ثم دعا بنار فأضرمها فيه ثم قال عزمت عليكم لتدخلنها، قال فقال لهم شاب منهم إنَّما فررتم إلى رسول الله من النار فلا تعجلوا حتى تلقوا رسول الله فإن أمركم أن تدخلوها فادخلوها، قال فرجعوا إلى رسول الله فأخبروه فقال لهم لو دخلتموها ما خرجتم منها أبداً، إنَّما الطاعة في المعروف".

الرواية الثانية في سبب نزول الآية أنَّ رسول الله -صلى الله تعالى عليه وآله وسلم- بعث سريَّة عليها خالد بن الوليد وفيها عمَّار بن ياسر، فساروا قبل القوم الذين يريدون، فلما بلغوا قريباً منهم عرسوا وأتاهم ذو العيينتين فأخبرهم فأصبحوا وقد هربوا غير رجل أمر أهله فجمعوا متاعهم ثم أقبل يمشي في ظلمة الليل حتى أتى عسكر خالد فسأل عن عمَّار بن ياسر فأتاه فقال يا أبا اليقظان إنّي قد أسلمت وشهدت أن لا إله إلا الله وأنَّ محمداً عبده ورسوله، وإنَّ قومي لما سمعوا بكم هربوا وإنّي بقيت فهل إسلامي نافعي غداً وإلا هربت؟ قال عمار بل هو ينفعك فأقم فأقام، فلما أصبحوا أغار خالد فلم يجد أحداً غير الرجل فأخذه وأخذ ماله فبلغ عمَّاراً الخبر فأتى خالداً فقال خلِّ عن الرجل فإنَّه قد أسلم وإنَّه في أمان مني، فقال خالد وفيم أنت تجير فاستبا وارتفعا إلى النبي، فأجاز أمان عمَّار ونهاه أن يجير الثانية على أمير فاستبا عند رسول الله، فقال خالد أتترك هذا العبد الأجدع يسبني؟ فقال رسول الله يا خالد لا تسبّ عماراً فإنَّه من سبَّ عمَّاراً يسبه الله ومن يبغض عمَّاراً يبغضه الله ومن يلعن عمَّاراً لعنه الله، فغضب عمَّار فقام فتبعه خالد فأخذ بثوبه فاعتذر إليه فرضي عنه، فأنزل الله عزَّ وجل قوله: "وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم" (ينظر: تفسير ابن جرير الطبري. ج5. ص150: 147، وتفسير ابن كثير. ج1. ص519: 517)

[29] أبو محمد علي بن أحمد بن حزم، رسائل ابن حزم الأندلسي، تحقيق: إحسان عباس، ج1، ص5، ط. دار الثقافة، بيروت، (1997-1417هـ).

[30] فتح القدير الجامع بين فنّي الرواية والدراية، ج1، ص309.

[31] التفسير الكبير، ج2، ص117.

[32] محمد رشيد رضا، تفسير المنار، ج٥، ص١٤٩، الهيئة المصريَّة العامة للكتاب، القاهرة.

[33] تفسير المنار ج5 ص152.

[34] ينظر: د. محمد أحمد خلف الله، القرآن والدولة، ص٧٤، ٧٣، مكتبة الأنجلو المصريَّة، القاهرة.

[35] د. محمد ضياء الدين الريس، النظريات السياسيَّة الإسلاميَّة، ص٥٤، ٥٣، مكتبة دار التراث، الطبعة السابعة، ١٩٧٩م.

[36] "لولا حرب الجمل لما كانت حرب صفيّن والنهروان، ولا مذبحة كربلاء، ووقعة الحرّة، ولا رُميت الكعبة المكرَّمة بالمنجنيق أكثر من مرَّة، ولا كانت الحرب بين الزبيريّين والأُمويّين، ولا بين الأُمويّين والعباسيّين، ولما افترق المسلمون إلى سُنَّة وشيعة، ولما وجد بينهم جواسيس وعملاء يعملون على التفريق والشتات، ولما صارت الخلافة الإسلاميَّة ملكاً يتوارثها الصبيان، ويتلاعب بها الخدم والنسوان." محمد جواد مغنية، فضائل الإمام علي، ص139، 138، مكتبة الحياة، بيروت، الطبعة الأولى، 1962م.

 

الفقيه أبرز الشخصيّات حضورا في الدولة الإسلامية، وأكثرها نفوذا؛ فمن بين المجتهدين في الفقه يأتي الخليفة (الإمام)، ومنظّرو الدولة الإسلامية قديما وحديثًا يشترطون لتولية منصب الإمامة أو الوزارة أن يكون المرشّح من أهل الاجتهاد الفقهي، وليس من الفقهاء المقلدين؛ لأنّ "التقليد نقص، والإمامة تستدعي الكمال في الأوصاف والأحوال".(1) ورُوي اتفاق القدامى(2) على وجوب أن يكون الحاكم خليفة أو وزيرا أو واليا -بصفته نائبا عن الخليفة- من مجتهدي الطبقة الأولى في الأصول والفروع من مسائل الشريعة وأقصى ما استطاعه بعض الأحناف من مخالفة لهذا التصور، أنهم اكتفوا أن يكون من أهل الاجتهاد الشرعي دون اشتراط الطبقة الأولى.(3)

وإذا اقتضى الواقع أن يُسند منصب الإمام إلى غير فقيه مجتهد، ودفعت الضرورة القصوى إلى ذلك، فإنّ الحاكم لا يقطع برأي ولا يحسم أمرا دون الرجوع إلى الفقيه المجتهد؛ لأنّ الدين أصل لكلّ تفاصيل الدولة، والفقيه من يملك بأدواته استخراج أحكام الدين واستنباطها من الأدلة الشرعية، "فإذا كانت الضرورة قد قضت بأنّ الخليفة لم يبلغ مستوى المجتهدين، فيكون تحقق هذا الشرط عن طريق اعتماده على المجتهدين من الأمّة وعلمائها، فلا يقطع برأي دونهم ولا يبرم أمراً. وبدا أنّه يميل إلى إجازة ذلك مادامت الغاية من الشرط ستتحقق. ولكن على أن يكون مفهوماً، مع ذلك أنّ هذه الإجازة للضرورة. ولذا، فإنّ المتأخرين ممن بحثوا مسألة الخلافة كانوا لا يتصورون أن يوجد خليفة في الأزمنة الأخيرة إلاّ إذا اعتمد على علماء الأمة، ورجع إلى آرائهم في كل شيء، ورأوا أنّه لا يمكن أن يتحقّق العدل الذي يرمي إليه الإسلام بدون ذلك".(4).

وتظهر وصاية الفقيه على دولة الخلافة الإسلامية في جانب آخر. فالهيئة التي تختار الخليفة (أهل الحل والعقد) رغم اختلاف الفقهاء في صفتهم، والشرط اللازم تحققه فيهم، إلاّ أنّهم اتفقوا على اشتراط كونهم من أهل الاجتهاد الفقهي، بلا خلاف بين منظري دولة الخلافة الإسلامية من علماء أهل السنة، فالصفة المشتركة عندهم لأهل الحلّ والعقد أو أهل الاختيار أو أهل الشورى أو أولي الأمر أنهم من الفقهاء المجتهدين. ثم اختلفوا، فمنهم من حصر أولي الأمر أو أهل الحل والعقد في الفقهاء المجتهدين دون غيرهم، ومنهم من جعلهم أهم مكونيها بالإضافة إلى غيرهم، ممّا أكسب تلك الهيئة من أولي الأمر أو أهل الحل والعقد بعدا دينيّا، فهي الهيئة الشرعية التي تمثل موقف الشريعة. فالسلطة في الدولة الإسلامية السنيّة بهذا التصوّر يمنحها الفقهاء، وهم الذين يسقطونها، فإذا كانت الدولة في المنظور الشيعي تقوم على ولاية الفقيه، فإنّها من المنظور السني تقوم على وصاية الفقيه، الذي يشارك الإمام في الدولة الإسلامية مهمّة الاستخلاف عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- "فخلافة الرسول في نظر الفقهاء لم تكن قاصرة على الإمام، بل إنّ القاضي والعالم والمجتهد خليفة له أيضًا، ولا فرق بين الخلافتين إلاّ في العموم والخصوص".(5)

والاجتهاد عند منظّري دولة الخلافة الإسلامية مقيد بكونه من فقيه؛ فالاجتهاد لا يتجاوز حدود المفهوم الشرعي الذي يجعل من الفقيه سلطة عليا وصيّة على الدولة بامتلاكه دون غيره القدرة على فهم النصوص الشرعية، فهو "يعرف من القرآن والسنّة ما يتعلق بالأحكام؛ وخاصّه وعامّه، ومجمله وبيّنه، وناسخه ومنسوخه، ومتواتر السنة وغيره، والمتصل والمرسل، وحال الرواة قوة وضعفاً؛ ولسان العرب لغة ونحواً، وأقوال العلماء من الصحابة فمَن بعدهم، اجتماعا واختلافا. والقياس بأنواعه".(6)

ولا ينازع الفقيه في تلك الوصاية إلاّ الإمام الذي اشترطوا فيه "أن يكون عالماً بالأحكام الشرعية، وعلمه بها يشتمل على أصولها، والارتياض بفروعها. وأصول الأحكام في الشريعة أربعة: أحدها علمه بكتاب الله عز وجل، على الوجه الذي تحصل به معرفة ما تضمنه من الأحكام. والثاني علمه بسنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم الثابتة من أقواله وأفعاله، وطرق مجيئها. والثالث علمه بتأويل السلف، فيما اجتمعوا عليه واختلفوا فيه. والرابع علمه بالقياس، لردّ الفروع المسكوت عنها إلى الأصول المنطوق بها والمجمع عليها، حتى يجد طريقا إلى العلم بأحكام النوازل. فإذا أحاط علمه بهذه الأصول الأربعة في أحكام الشريعة، صار بها من أهل الاجتهاد في الدين. وإن أخلّ بها أو بشيء منها، خرج من أن يكون من أهل الاجتهاد".(7)

وانحصر مفهوم الاجتهاد اللغوي الرحب في الثقافة الإسلامية في الفقه وعلماء الشريعة، وأصبح مرتبطا بها، واسْتُلبت دلالته الواسعة من كونه دعوة لإعمال العقل وحرية الفكر في المسكوت عنه، ومما لم يقطع بدلالته يتساوى في الاجتهاد حوله المسلمون، كل يستفتي قلبه، ويُعمل عقله ويستفيد من علمه، فيبدع كلّ في مجال اختصاصه في الدولة، فالاجتهاد في حقيقته يتجاوز قيد الفقهي إلى الاجتهاد في مفهومه العام، فلم يكن المسلمون الذين نزل القرآن في عصرهم أئمة في علوم العربية والشريعة، بل أخلصوا واجتهدوا برأيهم، فالاجتهاد اعتراف بحق كلّ فرد في التفكير المستقل والاختيار في المسائل المختلف حولها، والالتزام بما ينتهى إليه اختياره.

ولا تختلف رؤية أكثر المعاصرين من الفقهاء عن رؤية القدامى، وبين المعاصرين يكتسب تنظير القرضاوي أهميّة؛ لأنّه نقطة تقاطع بين جماعة الفقهاء وجماعة الإخوان المسلمين أكبر الجماعات الداعية لدولة الخلافة الإسلامية، إذ يحصر القرضاوي الاجتهاد في قضايا الدولة في العلماء المجتهدين دون غيرهم، فمن منظوره "الاجتهاد مهم وضروري، ولكن للاجتهاد أهله من كبار العلماء المختصّين، الذين تتوافر فيهم شروط الاجتهاد الصارمة، ولا ينبغي أن يُترك نهبًا سائبًا للجهلة والمنافقين والمتطفلين على العلم الشرعي، وتلاميذ المستشرقين الضالين المضلين. كما أنّ الاجتهاد ممكن في الأمور الفرعية الجزئية فحسب".(8)

وهكذا تبنى أسوار حول علاقة الدين بالدولة، فلا يستطيع أحد غير رجال الدين الولوج إليها، ويفهم إرث العلماء للأنبياء على أنه إرث في سلطة سياسية، والأولى أن تقف عند حدود الموعظة والتبليغ مع الالتزام بتمييز المقطوع ثبوتا ودلالة عما يحتمل أوجها من الاجتهادات والأحكام، والتزام الصمت عن الإدلاء برأي في دائرة المباح والجائز؛ لأنّ الله سكت عنه، فليس في حاجة إلى نطق فقيه باختيار.

ويعزّز من وصاية الفقيه في الدولة الإسلامية السنية الفكرة الشائعة في الثقافة العامة - بتأثير خطاب الجماعات الدينية - وهي أن الإسلام قدّم أدق التفاصيل للدولة الإسلامية، "فالشريعة الإسلامية تتغلغل في كافة نواحي الحياة، ولا يتصوّر أن تهمل شأن الدولة".(9)

ولمّا كانت النصوص الصريحة من القرآن وصحيح السنة اكتفت بمبادئ عامة وأقلّ التفاصيل، تمدّدت آراء الفقهاء؛ لتستكمل تصوّر الدولة، وتستنطق النصوص بالدلالات الشرعية للمستجدات التي تواجه الدولة، ففقيه الدولة الإسلامية في عمل دائم إذ يُمثِّل همزة الوصل، وطريق الربط بين الدين وأدقّ تفاصيل الدولة، وهو بمثابة المصفاة لتصفية أفكار الفسق والانحلال والإلحاد التي قد تُصيب الدولة الإسلاميّة، "فلا يتصوّر أن تهمل الشريعة الإسلامية شأن الدولة، وتدعها للمتحللين والملحدين أو الفسقة يديرونها تبعا للهوى".(10)

ولا تقتصر وصاية الفقيه على إرساء الرؤية الشرعية المستقرّة للدولة الإسلامية، بل يختص دون غيره بالتجديد والتطوير في البنية الفكرية للدولة، فالتجديد يأتي من داخل البنية نفسها، فالقرضاوي يدعو إلى ضرورة تحديث أحكام الفقه حول الدولة الإسلامية، وهي التي يقوم بها الفقيه المعاصر تحت مسمى الفقه السياسي، فلا وسيلة للتحديث داخل الدولة الإسلامية "الخلافة" إلاّ من خلال الفقيه، فهو دون غيره من يملك تحديد وتحريك الديني المجرّد الثابت في الدولة ليجعله زمنيا نسبيًا غير ثابت قابل للتغيير تبعا للواقع، وهو من يجعل من الزمني المتغير دينيا ثابتا باختياره له.

فتصوّر دولة الخلافة الإسلامية هو مجموعة من الأحكام التي انتهى إليها الفقيه، فهو دون غيره من يملك مراجعتها؛ وهو من يملك الاستدعاء الجزئي لصور من تجربة الدولة الحديثة بجذورها الغربية ليدخلها في الدولة الإسلامية بعد أن يُعيد صبغها وتوفيقها، فمفهوم الديمقراطية ظلّ لعقود لفظا سيئ السمعة حتى تمّ قبوله عند بعض منظري الدولة الإسلامية -الجانب الصحوي الذي يمثله القرضاوي- ليس بمعنى السيادة الكاملة للشعب، فالسيادة لله، لكن بوصف الديمقراطية مرادفة للشورى، وكذلك مشاركة المرأة في الحياة السياسية بالتصويت أو الترشيح، فقد تطوّر الموقف من المنع التام إلى الجواز على مرحلتين فمنحها منظرو الدولة الإسلامية -الجناح الصحويّ وليس الجناح السلفي الجهادي- حقّ التصويت، وفي مرحلة تالية منحها حق الترشح.

فالقرضاوي كمنظّر للدولة الإسلامية (الخلافة) يشير إلى بعض الأفكار فيقول هذا تصوّر الإسلام للدولة لا يجوز الاقتراب منها، وهذا اجتهاد فقهي يمكننا إعادة النظر فيه؛ فتبدو أفكار منظري دولة الخلافة الإسلامية أصناما من حلوى كلما دفعهم الواقع إلى أكل شيء منها أكلوه، وكأنه لم يكن من قبل مقدَّسًا لا يجوز الاقتراب منه، ولا يحتاج الأمر منه سوى أن يعمل فيه آلته من قواعد اجتهادية ليحيله إلى صورة جديدة تتسع لمستجدات العصر، مما أوقعه في تناقض فجّ، فالقاعدة الفقهية نفسها يقرّها في موضع ليثبت شرعية فكرة ما في تصوره للدولة الإسلامية، وينقض القاعدة نفسها مرة أخرى؛ لينفي الإسلامية عن فكرة تزعم جماعة إسلامية مخالفة له أنها أصيلة في الدولة الإسلامية (الخلافة).

فمثلا القاعدة الفقهية: "العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص الأسباب" قاعدة أقرّها القرضاوي، وانطلق منها في الردّ على المفرطين -من منظوره- الذين يقولون بأنّ الحاكميّة التي في آية سورة المائدة "ومن لم يحكم بما أنزل لله" خاصة بمواقف احتكام اليهود إلى الرسول –صلى الله عليه وسلم- ليقضي بينهم، فيرى أنّ اللفظ هنا عام ننظر إليه، ولا ننظر إلى السبب الذي نزلت من أجله الآيات، وشكّك في أسباب النزول، قائلا: "إنّ علماء الأصول بحثوا في قضية الأسباب الخاصة لنزول القرآن، أو ورود الحديث، والألفاظ العامة التي وردت بناء عليها، وحققوا: أن العبرة بعموم الألفاظ لا بخصوص الأسباب. ولولا ذلك لعُطّلت أحكام كثيرة نزلت بسبب حوادث خاصة في عهد النبوة "وهذا إذا صحت أسباب النزول، وكثير منها غير صحيح".(11) فأقرّ الدكتور القرضاوي قاعدة عموم اللفظ؛ ليثبت بها عموم مفهوم الحاكميّة وأصوليته في الدولة الإسلامية، فكل صور الاحتكام لغير الله كفر وفسق وظلم.

ثمّ عاد ونقض القاعدة نفسها وتراجع عنها في موضع آخر من الكتاب نفسه عندما استند إليها مَن وصفهم بالمغالين من الجماعات وجماعة من علماء الأزهر في خمسينيات القرن العشرين في فتواهم بمنع المرأة من التصويت في انتخابات المجلس النيابية، أو الترشح لعضويتها مستندين لعموم لفظ الحديث الذي رواه البخاري وغيره عن أبي بكرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حين بلغه أن الفرس ولّوا على ملكهم بنت كسرى بعد موته، قال: "لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة."، فرفض القرضاوي هنا الاستناد إلى قاعدة: "العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب"، وقال بضرورة النظر في الأسباب التي جاء فيها النصّ، بل اتهم من يتمسك بالقاعدة بأنه سلك مسلك الخوارج، قائلا: "صحيح أنّ أغلب الأصوليين قالوا: إنّ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، ولكن هذا غير مجمع عليه، وقد ورد عن ابن عباس وابن عمر وغيرهما ضرورة رعاية أسباب النزول، وإلاّ حدث التخبط في الفهم، ووقع سوء التفسير، كما تورط في ذلك الحروريّة من جماعات الخوارج وأمثالهم، الذين أخذوا الآيات التي نزلت في المشركين فعمموها على المؤمنين".(12) هكذا اتهم القرضاوي مخالفيه بالتخبط رغم وقوعه فيه، فتبنى القاعدة الأصولية مرة وتبنى نقيضها مرة أخرى.

ولا يسلم الفقيه في تأصيله لدولة الخلافة الإسلامية بالفعل التاريخي من تناقضات بين الصورة المثالية المرجوة من تديين الدولة والصورة التي يفرضها الواقع بما فيها من قصور مما يدفعه للتبرير أحيانا وإحداث مواءمات أحيانا أخرى، فيشرّع للشيء ونقيضه، فمثلا وجد الفقيه نفسه أمام واقعين تاريخيين للخلافة كلاهما له وصف إسلامي: خلافة مركزية موحدة، وخلافات متعددة فقام بتكييف الأحكام الشرعية بما يتوافق مع الواقع التاريخي السابق على الحكم لِيُدخل الصورتين في رؤيته الإسلامية للدولة، فبعد أن قرر الفقيه أنّ "إيجاد دولة أو قيادة عامة للإسلام فرض واجب على المسلمين أو ركن أساسي للدين، وأنّ الأمّة تكون مقصرة ويقع عليها الإثم من الوجهة الدينية إذا لم تقم بهذا الواجب، بل تكون مقصرة في حق نفسها ومصلحتها ومصيرها".(13) يعود ويناقض نفسه، فيرى أنّه "في ضوء ما أثبتت التجارب العملية أنّ وحدة الإمامة تكون في كثير من العصور متعذرة، قد أفتوا بأنه يجوز تعددها عند اتساع المدى وتباعد الأقطار. والذي تبرهن عليه حقائق التاريخ أنّ تعدّد الإمامة قد يكون في بعض الأحوال أو العصور أدعى إلى اقتدار الأمة على إصلاح حالها وتدبير شؤونها، وإلى مضاعفة قواها، بازدياد قوات الوحدات التي تتألف منها، بينما تكون وحدة الحكومة أو الإدارة، مع اختلاف طبائع وحاجات الأقطار والشعوب مؤدية إلى عكس هذه الأمور، فينتج عنها الإهمال، أو الاضطراب، أو الاستغلال".(14) ولم يكتف الفقيه بذلك بل امتدحه بقوله: "وهذا يدلّ على ما في الفقه الإسلامي من مرونة تساير الواقع، وكأنّ الفقه إزاء هذا التطوّر كان لا يريد أن يلتزم بنظام واحد للدولة هو نظام الخلافة المركزي، بل كان مستعداً لنظام آخر أو نظم أخرى تتطور عن هذا النظام.(15)

فعلاقة الفقيه بالواقع التاريخي متفاوتة فأحيانا يتجاهله؛ فيبدو اجتهاده مجردا عن الزمان والمكان وكأنه وحي مقدس، لا يجوز المساس به مثل إجماعهم على القرشية، وأحيانا يتفاعل مع واقعه ويتأثر به ويؤثّر فيه، ويأتي اجتهاد الفقيه عقب فعل السلطة؛ ليكيَّف الواقع الجديد ويجعله متسقا مع الشريعة، مثل إمارة الاستيلاء، وفيها يستولى الأمير بالقوة على بلد يقلده الخليفة إمارتها ويستبد بالسلطة فيها، فهي عند جمهور فقهاء السنة صحيحة (16)، لا تختلف عن إمارة الاستكفاء التي تكون برضا الخليفة، وإن كانت في الواقع ليست باختياره، إلاّ أنّهم أدخلوها في التفويض والنيابة عن الإمام، علتهم خوف الوقوع في الفتنة والاقتتال الداخلي، فأيهم أتى أولا: فعل السلطة أم اجتهاد الفقيه؟؟!! إنّ إقحام الإسلامية والشرعية في صراعات على السلطة؛ لنقول بأن كلا الطرفين لم يخرجا عن الشرع، لسنا بحاجة إليه إذا أعدنا الدولة إلى سياقاتها التاريخية، ولم نجعلها تنظير الإسلام للدولة، وفصلنا بين فعل المسلمين البشري وبين إسلام الوحي. إن نزعنا القداسة عن دولة الخلافة استراح الفقيه من ملاحقة أفعال السلطة ليضفي عليها شرعية.

فأبرز إشكاليات أفكار الدولة الإسلامية "الخلافة" التباس اجتهادات الفقهاء المتغيرة بإسلام الوحي المقدس الثابت، ليس في عقل العامة فحسب بل في عقل المنظّر لدولة الخلافة، وإذا سلمنا جدلا بأنّ الدولة مقيدة بأحكام الفقيه، فإنّ تلك الأحكام تفاصيل وفرعيات شأن موضوعات الفقه، وليست بالأصول التي ميدانها العقيدة، وما دمنا أمام اجتهادات لفقهاء فمن الطبيعي أنّها قد تتفق وقد تختلف، فلسنا بصدد الحديث في حق وباطل، فهذا يكون في الأصول العقائدية، أمّا الفروع فهي تصوّرات واجتهادات تحتمل الصواب والخطأ، فكلّ تصوّر فقهي بشري للدولة بداخله مساحة من الصواب والخطأ يُؤجر فيه من الله مرتين على صوابه ومرة على خطئه، كما أنّه لا مجال فيها للثبات والإلزام؛ لأنّ اختلاف أقوال الفقهاء وتعدّدها يجعلها مجالا للاختيار، أضف إلى ذلك أنّ الفقه مرتبط ارتباطا وثيقا بالواقع المتغير مما يقتضي تغير الأحكام والآراء الاجتهادية بما فيها أحكام الدولة.

***

ا. د. عبد الباسط هيكل

.......................

(1) محمد ضياء الدين الريس، النظريات السياسية الإسلامية، مكتبة دار التراث، القاهرة، الطبعة السابعة، ص 161

(2) عبد القاهر بن طاهر البغدادي (أبو منصور)، أصول الدين، مطبعة الدولة، استانبول، 1928م، ص 277. عبد الملك بن عبد الله بن يوسف الجويني الملقب بإمام الحرمين، الإرشاد إلى قواطع الأدلة في أصول الاعتقاد، تحقيق د. محمد يوسف موسى، د. على عبد المنعم عبد الحميد، ، مكتبة الخانجي - مطبعة السعادة، القاهرة، 1950، ص 426

(3) عبد الرازق السنهوري، فقه الخلافة وتطورها لتصبح عصبة أمم شرقية تحقيق توفيق الشاوي، نادية السنهوري، ط. مؤسسة الرسالة، منشورات الحلبي، القاهرة، ص115 - د. ضياء الريس، النظريات السياسية الإسلامية، ص 287، 288

(4) النظريات السياسية الإسلامية، ص278، 288. تعليقا على ما جاء عند الغزالي في كتابه الردّ على الباطنية، ص ص 75-76

(5) النظريات السياسية الإسلامية، ص 123

(6) محي الدين يحي بن شرف النووي (أبو زكريا)، المنهاج في شرح صحيح مسلم بن الحجاج، ط. دار إحياء التراث العربي، بيروت، الطبعة الثانية، 1392هـ، ج8، ص 82.

(7) على بن محمد بن حبيب البصري الماوردي (أبو الحسن) الأحكام السلطانية، تحقيق أحمد جاد، دار الحديث، القاهرة، ص 63

(8) خالد سليمان، مقال "بين الفكر والكفر شعرة فحاذر أن تقطعها" منشور على موقع ساسة sas post، 1 مايو 2016

(9) د. يوسف القرضاوي، من فقه الدولة في الإسلام، دار الشروق، القاهرة، ط3، 2001، ص 16

(10) المرجع السابق، ص 16

(11) من فقه الدولة في الإسلام، ص 108

(12) السابق، ص ص 174-175

(13) النظريات السياسية الإسلامية، ص 209

(14) السابق، ص 246

(15) السابق، ص ص 282-283

(16) ينظر: الأحكام السلطانية ص ص 28-29 - أبو زيد عبد الرحمن بن محمد (ابن خلدون) المقدمة، دار الفكر، بيروت، الطبعة الثانية، 1408هـ - 1988م، ص 199

إذا ما تطرّقنا إلى شخصية “جوزيف سميث” فيمكن القول إنه يرد إلى جماعة “الكاو بوي” من أحدى الأسر الهنديّة الفقيرة التي هاجرت إلى أمريكا وأُطلق عليهم (“الهنود الحمر”) وأقاموا في ولاية نيويورك. وكان أبوه يمارس السحر الأسود واستحضار الجن واتهمت والدته بالكهانة والعرافة والاضطراب العقلي من كثرة أحاديثها الغيبية، وورث عنهما “سميث” هذه الخصال. ولم يلتحق الساحر الصغير بأي من دور التعليم؛ بل اعتمد على نفسه في تلقي المعارف المختلفة (التثقيف الذاتي). وروى عنه تمكّنه من الآداب واللغات اليونانية واللاتينية والعبرية والفرنسية والإنجليزية؛ الأمر الذي جعل منه خطيباً مفوهاً وحكاءً يتقن السرد والجدل وتبسيط المعارف وشرح المستغلق من العلوم والمعارف والمعلومات للعوام فكان في طليعة المثقفين؛ وذلك بمعونة قوة غيبية وإلهام من العالم الآخر. وقد حدث ذلك في السابعة عشر من عمره.

وفي العام التالي هبط إليه ملك يُدعى “موروني” بوحى من السّماء وبشّره بأن الإله قد اختاره ليصبح نبي آخر الزمان. وروىَ أنه أشتهر في هذه الآونة بممارسة الدجل والشعوذة والاحتيال والتنبؤ، ورؤية الأشياء المخفية والأشخاص وهو مُغمض العينين، واستطلاع الأخبار الغيبية بالنظر إلى بلورة كان يحملها في جعبته حتى أضحى من الأثرياء الذين يملكون عشرات الآلاف من الدولارات؛ الأمر الذي كان وراء الحكم عليه بالسجن وهو في الحادي والعشرين من عمره.

غير أن أتباعه قد دفعوا عنه جميع التُهم التي وجّهت إليه، فخطب فيهم قائلاً:” اعلموا أني أعظم من بطرس وبولس ويوحنا وأن دعوتي وتعاليمي ذاعت وانتشرت بين الناس بأعداد تفوق الذين صدقوا يسوع؛ لذا أقول لكم أنكم يا أصدقائي أبناء الرّب حقاً، وأن إيمانكم أصدق من الحواريين الأوائل الذين أنكروا وباعوا المسيح فطوبى لكم. أما المشككون في نبوتي والمُدعون بالباطل عليّ؛ فأنهم ينطقون بلسان الشيطان ومصيرهم الجحيم وغضب الإله. وتذكروا أنني أتيت بكلمة المسيح لأحيي الناموس وأعيد الغبطة لقلوبكم، وأقيم كنيسة الرّب ثانيةً وغير ذلك من مهام ورسائل مقدّسة، وسوف أواجه عشرات الصعوبات والعراقيل والآلاف من الذين يكذبوني ويضطهدونكم حتى آخر الأيام”.

ولسميث أقوال عديدة تضمنها كتابه “لؤلؤة غالية الثمن” وهو بمثابة سيرة ذاتية ورحلة إيمانه تشمل اصطفائه من قبل الرب، والوقائع والأحداث التي مرّ بها خلال نشر دعوته وتبليغ رسالته. نذكر منها تلك الحادثة التي ظهرت له في صورة ملكين غاية في الجمال والبهاء يفوق التصور؛ ليبلغاه أن كل كنائس الأرض فسدت، وأن الكتب المقدّسة حُرفت بما في ذلك الكنيسة البروتستانتية ومن ثمّ يجب عليه الابتعاد عنها وعدم الإصغاء لتعاليمها والكفر بمعتقداتها؛ لأنه هو النبيّ المختار الذي سوف يرد الكلمة إلى أصولها، والمقدّس إلى من كتبه على المخلصين. بما في ذلك صحف إبراهيم. وقد ادّعى “سميث” بأنه ترجمها عن اللغة الهيروغيليفية، وتشتمل على تعاليم نبي الله إبراهيم. ويشير المؤرخون المورمونيون إلى أن هذا الكتاب قد نشر عام 1835م، وقد عُرضت الأقوال الأخيرة على علماء متخصصة في المصريات وأجازوا متنها وصحة ترجمتها وذلك عام 1967م، غير أنهم أنشقوا على تلك الديانة وأنكروا ما أثبتوه سلفاً، وأكدوا أن ما نُسب إلى نبي الله إبراهيم غير صحيح، فهو عبارة عن صلوات جنائزية مصرية يرجع تاريخها إلى نحو 200ق.م إلى 100م، ولا علاقة بها بما ادّعاه “سميث” وذلك في عام 1975م؛ الأمر الذي يكشف زيف “سميث” وتلفيقه للكتابات المقدّسة.

وتحدثنا الكتابات المورمونيّة أن في الحادي والعشرين من سبتمبر 1823م ظهر لجوزيف سميث ملاك يدعى “موروني” وأخبره بأنه رسول المسيح إليه والناطق بلسانه والحافظ لناموسه قائلاً يجب عليك أن تبلغ كلمة الرّب بدورك للمختارين والأصفياء والأتقياء والذين سوف يؤمنون بنبوتك ويشيدون كنيستك. ثم أخبره الملك بموضع الكتاب المقدس الجديد الذي يحوي رسالة الرب إلى أمريكا، وهو عبارة عن اللواح ذهبية مربوطة بحبل فضي ومدفونة في صندوق حجري تحت إحدى التلال، وبجوار هذه اللوائح يوجد بلورتان سحريتان لتمكنه من قراءة النصوص المكتوبة بحروف أشبه بنقوش المصريين؛ لفك طلاسمها وحل رموزها؛ لأنها حكم رمزية ملغزة؛ الأمر الذي يستوجب تفسيرها وترجمتها إلى الإنجليزية ليفقهها المؤمنون بقداسة كتاب “المورمون” على ألا يبوح بمكنونها إلى بعد أربع سنوات. ثم يُعيد اللوائح ثانية ودفنها في أحد التلال بالقرب من نيويورك وذلك لتكون مصدراً للرؤى والإلهامات الربانية المتتالية وبلغ عددها 135 رؤية.

أمّا رحلة نشر الكتاب؛ فتبدأ بوحي من يسوع أمر فيه نبيه “سميث” أن يبلغ صديقه مارتن هاريس – الذي عاونه في الترجمة – برغبة الرب في أن يخصص جزءاً من ماله، لطبع الكتاب فأستجاب الأخير وبلغت تكلفة الكتاب 3000 دولار وخرجت الطبعة الأولى من كتاب المورمون في 5000 نسخة عام 1830م – وقد شكك المؤرخون المعاصرون في صحة مضمون الكتاب المترجم مقارنة بالنسخ المعاصرة للمؤلف الأصلي؛ إذ بلغ التحريف في أسفاره الأولى نحو 500 موضع. ويبرر المورمونيون المعاصريون هذا التحريف بأنه أمرٌ إلهيٌ من يسوع المسيح، وقد تركه النبي “جوزيف سميث” على هذا النحو المُحرف – وثم تأسست الكنيسة في نفس العام من ثلاثين عضواً في مدينة فايت بـ “نيويورك”. وتزايدت معها أصوات المعترضين والمكذبين – وكان فيهم بعض الرجال الذين شهدوا بصحة قصة اللوائح الذهبية المقدّسة – أولئك الذين أكدوا أن “سميث” ساحر ودجال ومُدّعي النبوة، وأنه مارس خداع الناس منذ عام 1825م، وقد تمكن بدهائه من إخفاء المستندات التي تدينه ومحاضر التحقيقات المدوّنة في سجلات القضاء التي تثبت احترافه النصب والشعوذة. ورغم ذلك كله فقد أستمر “سميث” في دعوته وانتقل من نيويورك إلى ولايات عديدة بحثاً عن أنصار وأتباع حتى انتهى به الأمر إلى الاستقرار في منطقة أطلق عليها “نوفو”، وزعم أنها تعني المكان الجميل، وأنها أرض الميعاد الجديد التي سوف تحتضن مئات الصهاينة من بعد شتاتهم.

غير أن المسيحيين المحافظين اعترضوا على دينه الجديد وأنكروا نبوته؛ الأمر الذي دفع الحكومة إلى سجنه واعتقاله وفي عام 1844م أطلق الغاضبون المتعصبين على “سميث” النار فأردوه قتيلاً في 27 يونيو قبيل محاكمته. غير أن الديانة المورمونية لم تمحى من التاريخ؛ بل واصل “بريغام يونغ” – أحد أنبياء المورمونية الجدد – رحلة الدعوة والتبشير بمجيء المسيح في مدينة يوتاه رغم حملات الاضطهاد والتصفية الجسدية والإرهاب الطائفي ضد الصهيونيين الذين اعتنقوا هذه الديانة.

وقد قُبلت أحاديث سميث وكنيسته التي أطلق عليها “كنيسة يسوع المسيح لقديسي آخر الأيام”، بالرفض والازدراء والكفر والتكذيب من قبل كل الطوائف المسيحية واشهرهم البروتستانتية، إذ أجتهد معظم قساوستها فضح مواطن الخلل والاضطراب النسقي في كتاب “المورمون” وكذا في كتابيه “لؤلؤة غالية الثمن” و”تعليم وعهود”. فقد ذهب أحد علماء المصريات ويدعى “نيلسون” إلى الدفاع عن قداسة كتاب “المورمون” وصحة نصوصه وادّعى أن اللوائح التي فحصها عام 1967م هي نفس اللوائح التي يرد تاريخها إلى الفترة الممتدة من 2000 ق.م إلى 100 ق.م؛ الأمر الذي برهن على صدق التراث البرهاني المورموني. وعلى النقيض من ذلك ظهرت العديد من المؤلفات عام 1976م تشير إلى أن هذا الكتاب مزيف ومُلفق، ولا صحة فيه من الناحية العقدية أو التاريخية ومازال المؤرخون يختلفون حول مصداقية كتاب “المورمون” حتى الآن. ومهما يكن من أمر؛ فقد أنتصر المتدينون المورمونيون وذلك بفضل عصبة من الآثاريين الأمريكيين الصهاينة الذين قدموا الأدلة العلمية على ادعاءاتهم علماً بأن “كنيسة يسوع المسيح لقديسي اليوم الأخير” قامت بترجمة الكتاب عن الإنجليزية إلى عدّة لغات، ومنها العربية عام 1985م وجاءت الترجمة في 764 صفحة من القطع المتوسط. وظلت الكنيسة التي شُيدت في “يوتاه” بأميركا باقية ومازالت الأجيال المتوارثة من المورمونيين مُخلصين لتراثهم العقدي ورافضين الانصياع لكنيسة أخرى دون كنيستهم رغم تأثرهم بالديانات الصهيونية المعاصرة لهم المنتشرة في أميركا.

وللحديث بقيّة

***

بقلم د. عصمت نصّار

من الظواهر الثقافيّة والفكريّة التي تستوقف الدارس والباحث والمتابع لمسار التراث العربيّ الإسلاميّ في تطوره التاريخيّ، وخاصة المعاصر منه، هو ذلك التداخل القائم بين العلوم التي نشأت وتطورت في أحضان التراث العربيّ الإسلاميّ. حيث أن العلاقة التداخليّة والتكامليّة (العضويّة) للنسق المعرفي (الابستمولوجي) بين كافة العلوم العربية الإسلامية، كانت هي السمة البارزة والعلامة الغالبة.

وهذه التداخليّة القائمة بين العلوم الإسلاميّة، كشف عنها كثير من العلماء، وأقرها عدد من الباحثين، وأثبتها المشتغلون والمتابعون للتراث العربي الإسلاميّ، ومنهم دعاة المنهج التكاملي. (1).

يرى دعاة المنهج التكامليّ في الخطاب الإسلاميّ من الفقهاء والمشتهدين المعاصرين من رجال الدين الإسلامي، إنَّ أبرَز ميزات "مفهوم الإسلام الأصيل" وأُسلوب المَعرِفة فيه هو: "التكامُل الجامِع"، كونه المنْهَج أو الأسلوب الأكثر وضوحاَ ومصداقيّة في فهم الإسلام والتعرف عليه، والأقرب دائمًا إلى العقْل والنَّفْس، لِيَكون مُنطَلقًا إلى التأويل والتَّفسير والحُكم.

لقد كان علماء الإسلام ومُفكِّروه ممن تبنى هذا المنهج حريصِين دائمًا على هذه النَّظرة الُتكامِليّة الجامِعة التي يشتمل عليها هذا المنهج، حيث اعتبروا أن أخطَر ما حاوَلتْه خُطَط المناهج الأخرى هو العمل على خلْق دوائر مُنفصِلة (بنيويّة - تفكيكيّة) في تناول الخطاب الإسلاميّ وتوظيفه في تفسير وتأويل النص والحكم به، فكلٌّ منهج منها يَستقِلُّ بنفْسِه إلى حد كبير رغم اتكاء بعضها على المناهج الأخرى كما تبن معنا في منهج علم الكلام على سبيل المثال لا الحصر، هذا وتُعرَض وجْهة نَظرِ دعاة المنهج التكامليّ على أنّها هِي من يمثل فهم الإسلام الصحيح، وبناءُ على ذلك يأتي تصور بعضُهم بأنَّ الفكْر الصوفيَّ أو الفكْر المُعتَزِليَّ أو الفكْر الفَلسفيَّ أو ما قال به الفقهاء وعلماء الكلام يُمثِّل كله مجتمعاً فهم الإسلام فهما عقلانياً أو منطقياً، منطلقين من أن:

1- نظْرة الفُقهاء تَهتمُّ بالجوانِب التَّشريعيَّة.

2- ونظْرة المُتصوِّفة تهتمُّ بالجوانِب الرُّوحيَّة والوجْدانيَّة.

3- ونظْرة عُلماء الكَلام تهتَمُّ بالعَقائد.

4- ونظْرة الفلاسفة والحكماء والأخْلاقيِّين تَهتمُّ بالفَضائل والرَّذائل وعلم ما وراء الطبيعة.

5- ونظْرة المؤرِّخين تَهتَمُّ بالسِّيَر والحَوادث.

6- ونظْرة الأُدباء تَهتَمُّ باللغة والأُسلوب والمجاز.

والواقِع أنَّ الإسلام يَجمَع هذه "العناصر" في وحْدة مُتكامِلة ولا يرى أنَّ كلَّ عُنصرٍ منها له طابَعه المستقل. وكلُّ عنصر مِن هذه العناصر إنَّما يمثِّل جزْءًا مُنفَصِلاً لا يَستطيع أن يَقوم بمُفرَده، وإنَّما هو مُتكامِل مع غَيره؛ سعيًا وراء الصُّورة الكامِلة الجامِعة، وهو على هذا النحْو لا يَتضارَب ولا يَتعارَض؛ وإنَّما يَتواءَم ويَتكامَل بوحدة عضويّة ولا أقول جدليّة.

إن النظْرة الجامِعة عند أصحاب المنهج التكامليّ العضويّ هي النَّظرة القُرآنيَّة الإسلاميَّة الأصيلة، نظْرة التكامُل والتوازُن لإقامة بِناءٍ ثَقافيّ إسلامي جامِع تتمثَّل فيه كلُّ القُوى الرُّوحيَّة والفكريّة، والنفْسيَّة، والماديَّة، والوجْدانيَّة، أي كل ما يتَّصل بالقلْب والعقْل والجسْم، وكلُّ مَطامِح الفكْر ومَطالِب الغَرائز، حتَّى تَصدُر عن مُوازَنة شامِلة، تَحفَظ الإنسانَ مِن شرِّ الانحِراف نحو مِحوَر الماديَّة الخالِصة أو الرُّوحيَّة الخالِصة، أو نحْو الرهبانيَّة أو نحْو العقلانيَّة المجردة أو الوجْدانيَّة؛ ذلك أنَّ الإنسان في تَركيبِه مُتكامِل، ولذلك كان لا بدَّ أنْ تكون نظْرته إلى الكَون والوجود والحياة مُتكامِلةً جامِعة. (2)

المنطلق المعرفي (الأبستمولوجيي) للمنهج التكامليّ:

ويتمثل في الاعتماد على:

1 - الجمع بين العقل والنقل لأنه لا تعارض بينهما في الحقيقة والواقع. فصحيح النقل عند دعاته لا بد أن يتفق وصريح العقل بالضرورة.

2 - الأخذ بظاهر النص إن كان مجرداً من القرائن الصارفة. -(أي خال من المجاز، أو التعدد في المعنى أو الدلالة في ظاهره أو باطنه) - ولم يتعارض والضرورة العقليّة.

3 - آيات القرآن يفسر بعضها بعضاً ويقرن بعضها بعضاً. أي القرآن يفسر بعضه، وبالتالي فإن المتشابه يفسر بالمحكم أو يحكم به انطلاقاً من مقاصد الدين الخيرة التي يدعو إليها النص المقدس. أو بتعبير آخر: تفسير المتشابه من الآيات بالمحكم، أو تأويله في ضوء المعقولات المرعيّة. وهو منهج الاماميّة والمعتزلة ومن سار في هديهما.(3).

4 - السنة القطعيّة تقرن الحديث بالقرآن. أي كل ما هو ثابت وصحيح في الحديث، كـالحديث المتواتر والمشهور أو حديث الأحاد الظني المجمع عليهما، أو ما يتوافق مع العقل. فهو يوافق القرآن.

5- الأثر المنقول إن كان صحيحاً وفق قواعد علميّ الرجال والحديث. يجب أن لا يعارض المحكم في القرآن أو الحديث الثابت صحته، فإذا لم يمكن تأويله، تسقطه المعارضة من الاعتبار. أي لا اعتراض عليه، وضرورة الأخذ به.

6- جواز التأويل عند وجود ما يقتضيه، أي ورود المجاز في النص، أو ما يخدم أو يؤكد مقاصد الدين.

7- الحمل على المجاز مع وجود القرينة الداعية لذلك.

*** 

د. عدنان عويّد

كاتب وباحث من سورية

....................

الهوامش:

1- مجلة "نزوى". مجلة ثقافية فصلية تصدر عن وزارة الإعلام في سلطنة عمان . المنهج التكاملي في قراءة التراث عند طه عبد الرحمن. للكاتب محمد بن عمر.

2- موقع الألوكة للثقافة - أصالة المنهج الإسلامي منهج التكامل الجامع. أنور الجندي.

3- راجع شبكة فجر الثقافة – الشيخ عبد الهادي الفضلي – منهج علم الكلام.

(المورمونيّة نموذجاً)

من العسير الوقوف على البدايات التاريخيّة لظاهرة الإلحاد في الأبحاث المعنية بتاريخ الأديان. ومن الصعب أيضاً الفصل بين العلمانية بالمعنى الإصطلاحي لمصطلح Secularism والمعنى الدلالي أي فصل المقدّس  عن السلوك الإنساني أو بدلالته الإجرائية التي تعني تهميش الدين أو حصره في دائرة الشعور ومنعه من التدخل في الأمور السياسية وما يتبعها من القضايا الإجتماعية والإقتصادية والأخلاقية والتربوية وذلك في الفلسفة الغربية.

أمّا الثقافة الشرقية فقد ربطت بين الإلحاد والعلمانية عقب تسلل المصطلح الأخير في الكتابات الصحفية المسيحية، واستخدمت الكلمة بمعنى اللا أكليروسي (أي النظام المُخالف للمراسيم الكنسية المتفق عليها منذ القرن الثالث الميلادي).

وفي الثقافة الإسلامية قد ذاع المصطلح في أخريات القرن التاسع عشر والعقدين الأول والثالث من القرن العشرين، مُصاحباً لمفهوم المدنية والتحديث الغربي ولا سيما بعد ظهور الدستور العثماني عام 1908م، والمساجلات التي دارت بين المفكرين العرب حول القديم والجديد، وكثرة البدع العقدية مثل (الإزيدية، النصيرية، الدروز، البابية البهائية، القاديانية، المهدية، والخُمِينية)، وذلك في الثقافة الإسلامية. والديانات (المارونية، الجازويت، شهود يهوا، الأوبوس داي "حبرية الصليب المقدس"، والمونية، السبتيون "الأدفنتست")، وذلك في الثقافة المسيحية الحديثة. والديانات (يهود الدونمة "السبتائيين"، الصهيونية، أبناء العهد "بناي برت"، الروتاري، الليونز) وغيرها من البدع الصهيونية المعاصرة. وإذا كانت الدراسات الحديثة عن يهود الدونمة كانت وراء كشف العلاقة التي تربط بين تركيا والمغرب وإسرائيل.

فالحديث عن الديانة المورمونية سوف يفضح سر العلاقة بين المنظمات الصهيونية والجمعيات الأنجلوأمريكية والحركات الإنجيلية في مصر التي أنتشرت في نهاية القرن العشرين وبدايات الحادي والعشرين تحت مظلة الماسونية. وسوف نحاول في السطور التالية توضيح ذلك.

ــ نشأة المورمونية وأصل التسمية:

تُرد التسمية بحسب ما جاء في مقدمة مؤسس المورمونية "جوزيف سميث" (1805-1844م) "إلى ملك ولد في أمريكا يُدعى "موروني" وقد كتب تعاليمه المُوحى بها على ألواح ذهبية (أو النحاس الأصفر) بحروف أقرب للكتابة الديموطيقية المصريّة، وقام بدفنها في تل قريب من منزله في مدينة مانشستر بولاية نيويورك، ويرجع تاريخ الكتاب بحسب الروايات الأمريكيّة (إلى 2000 ق. م حتى 400م(.

أمّا متن الكتاب؛ فينقسم إلى خمس عشرة سفراً، معظمه من نصوص الكتاب المقدّس، وبلغ عدد الإقتباسات300 إقتباس، وأخبار اليهود الأوائل - الذين لم تذكر سيرتهم في كتب المؤرخين- الذين هاجروا إلى أمريكا قبل إكتشافها بعشرات القرون وذلك نحو عام 590 ق. م، وكان معظمهم من الهنود الحمر، وسكان مصر القديمة، وعلى رأسهم "مورمون" الذي أرّخ للرحلة من أورشليم إلى نيويورك نحو عام 451م، (وهو آخر سلالة النافيين)، وشذرات من صحف إبراهيم المنقولة من برديات مصريّة، بالإضافة إلى كتاب المبادئ والعهود، وهو نص وحي المسيح إلى الغربيين، ورؤى النبيّ "سميث" وأحاديثه ونصائحه، وسجل بأسماء المهاجرين الأوائل وواقعات زيارة المسيح للقارة الأمريكيّة. وبات كتاب المورمون بمثابة الكتاب المقدّس لهذه الطائفة.

وقد تُرجم إلى عدّة لغات على رأسها الإنجليزية القديمة، وهو من أقدم الوثائق التي تحدثت عن آدم وحواء، والخطيئة الأولى، والخَلاص، واليوم الآخر(أي قيام الساعة ونهاية العالم) بسياق يختلف بعض الشيء عما أورده العهد القديم، وعما تناولته نصوص العهد الجديد.

وفي رواية أخرى تنسب أيضاً لـ "سميث" أنّ الكتاب قد تلقاه من ملاك من ملائكة الرب يدعى "موروني"، قد تجلى له وهو في سن السابعة عشر (أي في عام 1822م) وأخبره بوجود تعاليم مقدسة نقلها بعد الأنبياء القدامى الذين ظهروا قبل مجيئ المسيح بـ ستمائة عام، وقد أُرسلوا جميعاً لهداية الغرب، ودونوها على ألواح ذهبية أو النحاس الأصفر وحفظوها تحت تل في مقاطعة وين بولاية نيويورك.

وأضاف "سميث" أن الملاك "موروني" قد ظهر له وحدد موعداً للقائهما وهو يوم22 سبتمبر من كل عام؛ ليكمل رسائل الرب ويبصره بها بوصفه نبي آخر الزمان، وقد أوصاه بعد أربع لقاءات بينهم بأن يقوم بترجمة التعاليم المكتوبة في الألواح الذهبية إلى اللغة الإنجليزيّة، وقد أطلع "سميث" أحد عشر رجلاً على الألواح الذهبية قبل ترجمتها، وكتبوا شهادات تؤكد إطلاعهم عليها وحرّروا تلك الواقعة بإقرارات مُوقعة بإمضائهم وجعلوها بمثابة وثيقة في صدر النص الأصلي المُترجم.

وقام صديقه "مارتن هاريس" بمعاونته في ترجمة الألواح غير أن "سميث" أراد الاستئثار بترجمة الجزء الذي أنتهيا من ترجمته، واحتفظ به لنفسه، وادعى أن الوحي قد توقف عن النزول من قبل الرب، وذلك بعد أن قامت زوجة صديقه "لويس هاريس" بسرقة ما أخفاه "سميث"، ولمّا استردها، أعلن لأتباعه أن الوحي استئنف حديثه معه؛ ليكمل ما بدء وذلك عقب إستعانته بصديق آخر يُدعى "أوليفر كاودري"؛ لإعانته بفك تشفير الكتاب، وإكمال الترجمة وذلك عام 1829م. ثم أعاد "سميث" الألواح الذهبية التي تحوي النص الأصلي إلى "موروني" بعد نشر الكتاب المترجم عام 1830م.

وقد أعلن "سميث" نبوته وأسس كنيسة خاصّة بهذه الديانة الجديدة في مدينة سولت ليك سيتي، التي أصبحت مكاناً مُقدّساً يحج المؤمنون المورمونيون إليها في كل عام. وادعى "سميث" أنه النبي الذي يحقق لأتباعه السعادة في الدنيا والآخرة، وسوف يخّلص العالم من الشرور وينتصر على الشيطان قبيل نهاية الزمان، وأعلى من شأن أتباعه وأعتبرهم شعب الرّب المختارين الحقيقيين، وأن كنسيتهم تعلو كل المعابد والكنائس التي عُبد فيها الإله، تلك التي قام بترتيبها على شكل هرمي وجعل كنيسة مورمون على قمتها. ولها رئيس يخضع إلى سلطانه كل الكنائس التابعة لهذه الديانة في إنجلترا ونيوزيلندا وألمانيا والنمسا والسويسرا واستراليا واسكندينافيا. وذلك كله بتوجيه من يسوع المسيح الذي تجلى إلى اليهود والمسيحيين الأوائل المهاجرين إلى أمريكا من أورشليم ببشارة جديدة تخلصهم من الإضطهاد والظلم الذي يعانون منه بتأثير من السلطات القائمة أو الملل والمذاهب الأخرى التي جنحت عن الناموس الحقيقي؛ ليجدد لهم دينهم. ويصطفي "جوزيف سميث" ورفقائه من الحواريين باعتبارهم عُمّد الكنيسة المورمونية الحديثة التي تعلّم (تخبر) بأن المسيح هو إنسان وإله في آنٍ واحد، وأنه صُلب ودُفن ثم قام من بين الأموات من أجل خلاص البشر، وذلك في إقامته الأولى، ولمّا فسدت الكنيسة اليسوعية الأولى، وأُدخلت على تعاليمها بعض العقائد الوثنية هبط المسيح من السماء مرة ثانية، وأختار "جوزيف سميث"؛ ليكون نبي الأمة الغربية لإصلاح ما فسد وتبشير المخلّصين ويُنبأهم باقتراب الأيام الأخيرة، ودورهم في عملية التطهير التي ستعيد الناموس إلى سابق عهده بكلمات الرب الجامعة بين المخلّصين من بني صهيون والمبشرين من اليسوعيين المقيمين في إسرائيل (أورشليم) وأمريكا (نيويورك ولاية يوتاه). وقد بلغ عدد المؤمنين بهذه الطائفة أكثر من خمسة مليون حتى عام 2000م.

(وللحديث بقيّة)

***

بقلم : د. عصمت نصّار

 

 

تعدّ الفكرة حينًا ما، كافرة تُحرّم وتُحارب‏، ثم تُصبح مع الزمن مذهبًا،‏ بل عقيدةً وإصلاحًا تخطو به الحياة خطوةً الي الأمام‏.‏ إنّها سنّة الحياة المطردة المتكرّرة في حياة الفكر الإنساني عامة‏،‏ وفي حياة الفكر الديني بصفة خاصة‏”(1)

كثيرة في تاريخ ثقافتنا العربية الإسلامية هي الأفكار التي أنتجتها عقول بشرية، ولكنها تحوّلت بفضل التكرار والترديد إلى عقائد لا يُمكن المساس بها، منها ما انكشف زيفه عندما اقتربنا منه، ومنها ما فشلنا في تعرية تاريخيته وتقديم قراءة حضارية له، فعادت الكثير من مسائل الفكر الإسلامي إلى منطقة الظلّ بعيدا عن المراجعة المعرفية.

فحتّى أربعينات القرن العشرين.. كانت ترجمة القرآن الكريم إلى لغات أخرى من المحرمات التي لا يجوز اقترافها؛ لأنّها من منظور رجال الدين حينها تفتح بابًا للتحريف، وهذا يُفسّر إحجام المسلمين عن ترجمة القرآن الكريم، متهمين ترجمات غيرهم بأنّها محاولات فاشلة للنيل من كتاب الإسلام الذي تكفّل الله بحفظه، وبالغ بعضهم فأوجب على من أراد الدخول في الإسلام أن يتعلّم العربية، وأن يترك لغته.

ففي الوقت الذي بدأ غير المسلمين ترجمة معاني القرآن الكريم إلى اللاتينية أوائل القرن الحادي عشر الميلادي – تأخر المسلمون في الدخول إلى هذا الميدان حتى منتصف القرن العشرين، هكذا تحوّلتْ فكرة تحريم الترجمة بكثرة التكرار والشيوع حينذاك إلى عقيدة مقدّسة يجب حمايتها حتى سنة ١٣٥١هـ -١٩٣٢، عندما أعاد الشيخ محمد مصطفى المراغي (١٢٩٨ – ١٣٦٤هـ / ١٨٨١ – ١٩٤٥م) تلك المسلّمة إلى دائرة التفكير مرة أخرى، فأثار جدلا حول القضية بمقالٍ تحدّث فيه عن إمكانية ترجمة القرآن الكريم وجواز الصلاة بغير العربية، مستندا إلى اجتهادات تراثية منها أقوال أصحاب أبي حنيفة.

لم يكتف الشيخ بذلك، بل دعا إلى تشكيل لجنة لترجمة معاني القرآن الكريم إلى اللغة الإنجليزية، وهذا ما أثار حفيظة التيارات الجامدة المناوئة لإصلاحات الرجل، فاتّهموا الشيخ المراغي بأنّه يسعى إلى تحريف القرآن الكريم، ما دفعه إلى الاستقالة من مشيخة الجامع الأزهر، ليخلفه الشيخ الظواهري الذي عقّب على دعوة المراغي بقوله: “إن الله قد أعمي بصيرته حين دعا إلى ترجمة القرآن الكريم… وأن الله قدّر إقالته من المشيخة؛ حتى يحفظ القرآن الكريم من خطأ الترجمة”. غير أن الشيخ المراغي لم يبال باتهامات الجامدين من رجال الدين، وتوسّع في التأصيل لفكرة الترجمة والتأكيد على ضرورتها، فعاد مرة أخرى إلى الموضوع بكتاب بعُنوان “بحث في وجوب ترجمة القرآن الكريم وأحكامها” الذي صدر عن دار الكتاب الجديد في أول يناير ١٩٣٦، وأوضح فيه أنّ القرآن الكريم كلام الله المنزّل على محمد – عليه الصلاة والسلام – باللسان العربي، للتبليغ والإعجاز، فذلك يعني أنّ له جهتين؛ جهة مقصودة وهي المعاني، وأخرى دليل صدق النبيّ، وهي النظم، فالإعجاز لازم من لوازم النظم، وليس من لوازم المعنى، وأن التبليغ والبيان يقتضي ترجمة المعاني، وأنّه لا علاقة بين الترجمة، والتحريف الذي حذّر منه القرآن الكريم؛ لأنّ الترجمة لا تنفي بقاء النصّ القرآني في نظمه العربي، فكيف تفتح عليه الترجمة باب الفساد!

لم تلق دراسة الشيخ حينها قبولا في الأوساط الدينية، وتجاهلتها السلطة السياسية متمثلة في القصر، فيكشف وزير المعارف محمد علي علوبه في مذكراته كيف أنّ قبول فكرة ترجمة القرآن الكريم لم تكن بالأمر الهين، فيروى أنّه بعد اختياره وزيرا للمعارف في وزارة على ماهر٣٠ يناير ١٩٣٦عرض على الملك فؤاد ضرورة ترجمة القرآن الكريم، فرفض الملك، وقال له “إنّ شيخ الأزهر الشيخ مصطفى المراغي سبق وعرض عليه الفكرة، إلا أنّه لم يقبلها؛ اتقاء مجاهرة رجال الأزهر بأمر يرون فيه مخالفة للدين”.

مضت السنوات وأمام تطورات الواقع وبفعل حركة المجتمع خلعت تدريجيا فكرة “تحريم الترجمة” ثوب القداسة، وعاد ما كان يُظنّ أنّه عقيدة إلى حقيقته كفكرة قابلة؛ لأن نختلف حولها، ونناقش مدى حاجتنا إليها، وأفضل السُبل لتطبيقها، فأُقِـــرَّت الترجمة، وقبِل المسلمون بعد عقود فكرة تداول تراجم القرآن الكريم، وقدّم المسلمون خلال خمسين عاما عشرات الترجمات لمعاني القرآن الكريم، وأمست صلاة التراويح في الحرمين الشريفين تُترجم فوريا إلى مختلف لغات العالم.

كذلك كثيرا ما يبدأ الخطاب الديني من نقطة يخلط فيها بين العادة الاجتماعية والشعيرة الدينية، ففكرة ارتداء “البدلة” من الأفكار التي لاقت تأثيما من رجال الدين حينًا من الزمن؛ لأنّها زيّ غير المسلمين الواجب مخالفتهم، وعندما أفتى الشيخ محمد عبده بجواز التزيّ بزيهم (البدلة)، في محاولة منه للملاءمة بين رُوح الإسلام ومطالب المدنية الحديثة – اتّهم الشيخ في دينه، واضطر إلى الاستقالة من مجلس إدارة الأزهر، ولاحقته الإساءات حتى موته في ١٥ تموز (يوليو) ١٩٠٥.

ولم يمضِ وقتٌ طويل حتى أصبح البنطلون والقميص/ البدلة زيّ أغلب أهل المدينة، لكن ظلّ من مصائب الدهر أن يرتديه زائر إلى القرية المصرية، على حدّ تعبير فريد أبو حديد؛ لأنّه من المنظور الريفي “ملابس قليلة الحيا تُجسم عورة الرجال”، ثمّ تدريجيا تقبّله مجتمع القرية في غير الصلاة، ثم تقبّله في الصلاة لغير الإمام، ثم تقبّله من الإمام باستثناء صلاة الجمعة، وأخيرا تقبّله في مختلف الأحوال، فالعادات والتقاليد الاجتماعية وإنْ كانت جديرة باحترام ما تحمله من خصوصية ثقافية إلا أنّ المُنتِج لها في النهاية المجتمع بدافع من حاجاته القابلة للتغيير.

كذلك ختان الإناث الذي نقله العرب في الجاهلية عن العبرانيين، والذي اليوم جريمة يُعاقب عليها القانون المصري، كان حتى سنة ١٩٩٥م شعيرة دينية يُتقرّب بها إلى الله، كما في فتوى الأزهر على لسان الإمام الأكبر الشيخ جاد الحق ١٩٩٥م بأنه “اتفقت كلمة فقهاء المذاهب على أنّ الختان للرجال والنساء من فطرة الإسلام وشعائره، وأنّه أمر محمود ولم يُنقل عن أحد من فقهاء المسلمين، فيما طالعنا من كتبهم التي بين أيدينا، القول بمنع الختان للرجال والنساء، أو عدم جوازه أو إضراره بالأنثى إذا تمّ على الوجه الذي علمه الرسول صلى الله عليه وسلم لأم حبيبة.. أم الاختلاف في وصف حكمه بين واجب وسنة ومكرمة فيكاد يكون اختلافا في الاصطلاح الذي يندرج تحته الحكم.

وإذا استبان مما تقدم أن ختان البنات المسئول عنه من فطرة الإسلام وطريقته على الوجه الذي بيّنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه لا يصح أن يترك توجيهه وتعليمه إلى قول غيره ولو كان طبيبا، لأن الطب علم والعلم متطور، تتحرك نظرته ونظرياته دائما… وفي الختان عامة نذكر المسلمين بما جاء في فقه الإمام أبي حنيفة لو اجتمع أهل مصر (بلد) على ترك الختان قاتلهم الإمام لأنه من شعائر الإسلام وخصائصه”.(2)

من أخطر أسباب الجهل والخرافة التي نعيشها اليوم “تغييب التفكير العلمي عن أقسام الدراسات الإسلامية والعربية” المنوط بها مراجعة وإصلاح الفكر الديني، فالاتجاه العام بداخلها يخاف من الوقوع في الخطأ؛ لأنّه يتصور الخطأ وسيلة للهلاك! بينما الخطأ هو الوسيلة الوحيدة إلى الصواب، فتنفر أقسام الدراسات الإسلامية من التفكير النقدي الذي يجعل الباحث يُراجع أفكاره، ويختبر مدي صحّتها أولا بأول، شأن العقل البحثي الذي يشكّ في كلّ شيء، ويبدأ غير متأكد من كلّ شيء، فكلّ يقين يقع بين شكين شكّ يعقبه يقين، ويقين يعتريه شكّ، فمثل هذا التفكير هو القادر على الاكتشاف والمراجعة والمضي بنا في طريق الإصلاح.

***

أ. د. عبد الباسط سلامة هيكل

.......................

(1) الشيخ أمين الخولي، مناهج تجديد في النحو والبلاغة والتفسير والأدب، دار المعرفة، القاهرة، الطبعة الأولى سبتمبر ١٩٦١، ص١٧.

(2) الشيخ جاد الحق على جاد الحق، بيان للناس، ج٢، ص٢٢٢،٢٢١، القاهرة، طبعة جامعة الأزهر، نقل رأي أبي حنيفة عن الاختيار شرح المختار للموصلي ج٢، ص١٢١ في كتاب الكراهية، الفتاوى الإسلامية مجلد٩ ص٣١٢٠.

 

مفتتح: من البديهي القول: إننا معاً نقف ضد الإرهاب، ونستنكر أية ممارسة إرهابية وعنفية، بصرف النظر عن موجباتها وغاياتها. فالعنف مرفوض مهما كانت دوافعه، والإرهاب آفة لا سبيل لتسويغها وينبغي محاربتها في جذورها وأشكالها.

ولكن السؤال: هل الاستنكار بوحده كافٍ لإنهاء هذه الآفة؟ إننا نعتقد أن الاستنكار بوحده لا يُنهي الآفة، وإن المطلوب هو فهم هذه الظاهرة فهماً دقيقاً وعميقاً وصولاً لبلورة إستراتيجية ومشروع وطني متكامل، يستهدف إنهاء هذه الظاهرة من جذورها.

وهذه الدراسة، محاولة لفهم وتفسير هذه الظاهرة. وهنا ينبغي أن نفرّق بين محاولة الفهم ومحاولة التبرير. فإننا نعمل على فهم هذه الظاهرة ولا نبررها. فنحن نرفض العنف والإرهاب مهما كانت دوافعه وغاياته.

ولكن المطلوب في هذه اللحظة هو فهم وتفسر الظاهرة. وما سنقوله هو محاولة في الفهم والتفسير، ونرفض رفضاً قاطعاً تبرير الإرهاب أو تسويغ العنف. فنخن دينياً وأخلاقياً وإنسانياً ووطنياًً، نقف ضد كل أشكال العنف والإرهاب، ولا نرتضيه، ونعمل معاً من أجل إنهائه من فضائنا ووطننا.

في معنى العنف

العنف كأي ظاهرة مجتمعية، هو بحاجة إلى تعريف دقيق، وتحديد علمي ومعرفي لمسبباته وعوامله وموجباته، وذلك لأننا لا يمكن أن نحدد طبيعة الجذور والعوامل التي أفرزت هذه الظاهرة دون تفسيرها تفسيراً علمياً ودقيقاً.

المعنى اللغوي

العنف في معناه اللغوي ضد الرفق، وعنفوان الشيء: أوله، وهو في عنفوان شبابه: أي قوته، وعنَّفه تعنيفاً: لامه وعتب عليه(1). مما يعني أن العنف ضد الرأفة متمثلاً في استخدام القوة القولية أو الفعلية ضد شخص آخر.

وقد جاءت بعض الأحاديث النبوية الشريفة لتجعل الرفق مقابل العنف؛ فقال (صلى الله عليه وآلة وسلم): "إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف وما لا يعطي على ما سواه"(2).

وقال (صلى الله عليه وآلة وسلم): "من يحرم الرفق يُحرم الخير"(3).

فالعنف في اللغة: هو كل قول أو فعل ضد الرأفة والرفق واللين.

المعنى القانوني

وفي إطار التشريعات الجنائية، تصدى فقهاء القانون الجنائي لتعريف العنف(4) في إطار نظريتين تتنازعان مفهوم العنف: النظرية التقليدية، حيث تأخذ بالقوى المادية بالتركيز على ممارسة القوة الجسدية. أما النظرية الحديثة -والتي لها السيادة في الفقه الجنائي المعاصر- فتأخذ بالضغط والإكراه الإرادي، دون تركيز على الوسيلة، وإنما على نتيجة متمثلة في إجبار إرادة الغير بوسائل معينة على إتيان تصرف معين.

وعلى ضوء ما سبق عرف البعض العنف بأنه الماسُّ بسلامة الجسم ولو لم يكن جسيماً بل كان صورة تعدٍّ وإيذاء(5).

كما يعرفه آخر بأنه: تجسيد الطاقة أو القوى المادية في الإضرار المادي بشخص آخر(6). بينما يعرفه آخر بأنه الجرائم التي تستخدم فيها أية وسيلة تتسم بالشدة للاعتداء على شخص الإنسان أو عِرضه، ولا يتحقق العنف في جرائم الاعتداء على الأموال إلا باستخدام الوسائل المادية(7).

وعليه، فإن تعريف العنف في التشريعات الجنائية: هو كل مساس بسلامة جسم المجني عليه، من شأنه إلحاق الإيذاء به والتعدي عليه.

العنف من منظور إسلامي

عند تتبع أقوال العلماء والفقهاء لتحديد معنى العنف فقهياً نجد أن الفقهاء -بكل طبقاتهم وأطوارهم التاريخية- لم يميزوا بين مقولة الإكراه ومقولة العنف؛ فهما تستخدمان بوصفهما من المترادفات.

فقد عرف الإمام السرخسي الإكراه بأنه: فعل يفعله المرء بغيره، فينفي به رضاه أو يفسد به اختياره(8).

وفي هذا الاتجاه نفسه، عرَّف الإمام الشافعي الإكراه: أن يصير الرجل في يدي من لا يقدر على الامتناع منه من سلطان أو لص أو متغلِّب على واحد من هؤلاء، ويكون المكرَه يخاف خوفاً عليه أنه إن امتنع من قبول ما أُمِرَ به يبلغ به الضرب المؤلم أكثرَ منه أو إتلاف نفسه(9).

والرأي الغالب لدى الفقهاء: أن الإكراه قد يكون مادياً عندما يكون الوعيد والتهديد منتظر الوقوع(10).

وعليه فإن التهديد يعدّ عنفاً إذا سبب ضرراً جسمانياً للمجني عليه، بخلاف ما يقف عند حد الضغط على إرادة المجني عليه، فإنه يكون إكراهاً فحسب.

"تطبيقاً لذلك، يعد من قبيل العنف المستوجب للعقاب متمثلاً في القصاص: من منع الطعام أو الشراب، ولو قصد بذلك التعذيب، ومن منع فضل مائه مسافراً، عالماً بأنه لا يحل منعه، أو أنه يموت إن لم يسقه، فيقتل به وإن لم يقتله بيده، فظاهره أنه يقتل به سواء قصد بمنعه قتله أو تعذيبه، كما أن من منع شخصاً فضل طعام أو شراب حتى مات، فإنه يلزمه الدية، ومن قبيل منع الطعام والشراب: الأم تمنع ولدها الرضاع حتى مات، فإن قصدت موته قتلت، وإلا فالدية"(11).

وهكذا نجد أن معنى العنف في الفقه الإسلامي يتحقق باستخدام وسائل مادية تؤثر في جسم المجني عليه مباشرة، وتلحق به الأذى، كما يتحقق بالقول وبالتهديد وبالترك وبالمنع متى انتهى إلى إلحاق الأذى بجسم المجني عليه.

العنف من منظور اجتماعي

يعرف العنف بأنه: الإيذاء باليد أو باللسان، أو بالفعل أو بالكلمة، في الحقل التصادمي مع الآخر، ولا فرق في ذلك بين أن يكون فعل العنف والإيذاء على المستوى الفردي أو المستوى الجماعي. فلا يخرج في كلتا الحالتين من ممارسة الإيذاء؛ سواء باللسان أو اليد.

"فالعنف سلوك إيذائي، قوامه إنكار الآخر كقيمة متماثلة للأنا أو للنَّحن، كقيمة تستحق الحياة والاحترام، ومن مرتكزه استبعاد الآخر عن حلبة التغالب، إما يخفضه إلى تابع، وإما بنفيه خارج الساحة (إخراجه من اللعبة) وإما بتصفيته معنوياً أو جسدياً.

إذن معنى العنف الأساسي في المنظور الاجتماعي والسوسيولوجي هو عدم الاعتراف بالآخر، رفضه وتحويله إلى الشيء (المناسب) للحاجة العنفية، إذا جاز الكلام. عدم الاعتراف لا يعني عدم المعرفة، بل يعني معرفة معينة (مقولبة) هنا الفاعل العنفي يراقب القابل، يصور ويتصوره بالطريقة المناسبة لرسم صورته (الضحية) وللتحكم بصيرورته"(12).

وعليه، فإن العنف هو واقعة اجتماعية تاريخية، ينتجها الفاعل الفردي (المتسلط الأَنَوي) مثلما ينتجها الفاعل الجمعي (المتسلط الجمعي) في سباق التصارع على الامتلاك الأَنَوي أو الجمعي للآخرين، وفي غياب أي انتظام علائقي من النوع الديموقراطي أو المساواتي العضوي.

لذلك تعرف موسوعة الجريمة والعدالة العنف بأنه: يشير إلى كل صور السلوك؛ سواء كانت فعلية أو تهديدية التي ينتج عنها -أو قد ينتج عنها- تدمير وتحطيم للممتلكات أو إلحاق الأذى أو الموت بالفرد أو الجماعة والمجتمع.

ويعرف (لوكا) في مؤلفه آليات منطق العنف، العنف بأنه "مفهوم يدل على انفجار القوة التي تعتدي بطريقة مباشرة على الأشخاص وأمتعتهم، سواء كانوا أفراداً أو جماعات، من أجل السيطرة عليهم عن طريق القتل أو التحطيم أو الإخضاع أو الهزيمة"(13).

فالعنف في المنظور الاجتماعي: هو كل إيذاء بالقول أو بالفعل للآخر، سواء كان هذا الآخر فرداً أو جماعة.

وعملية الإيذاء تارة تكون فردية، حيث يقوم شخص ما باستخدام اليد أو اللسان بشكل عنيف تجاه شخص آخر، ويصطلح على هذه العملية بـ(المتسلط الأَنَوي).

وتارة يكون العنف جماعياً (المتسلط الجمعي)؛ إذا تقوم مجموعة بشرية، ذات خصائص مشتركة، باستخدام العنف والقوة، وسيلةً من وسائل تحقيق تطلعاتها الخاصة، أو تطبيق سياقها الخاص على الواقع الخارجي.

وفي كلتا الحالتين لا تكون ظاهرة العنف والتعصب بمعزل عن الموجبات الاجتماعية والمسارات التاريخية، التي خلقت هذه الظاهرة في الوجود الاجتماعي.

لهذا فهي ظاهرة لا تقبل التبسيط والتسطيح، لأنها وليدة مجموعة عوامل وأدوات مركبة.

وعلى المستوى النظري والفكري، نجد أن أغلب حالات العنف هي "وليدة معرفية تجريدية، على موروث ذهني جاهز، قوالب مصممة عن الآخرين: الوثن الذهني، بكل أولياته ومفاعلات ارتباطه، يحلّ أو يقترن بالوثن المادي. الآخر يوضع في القالب المجهّز، على منوال قاطع الطرق الأسطوري، بروكست، الذي كان يخطف (الآخر) من قارعة الطريق، ويضعه فوق سرير (رمز للقالب الجاهز)، فإذا كان المخطوف أطول من سريره ضغطه حتى يتناسب مع طوله، وإذا كان أقصر منه مطه ليناسبه، وفي الحالين، المخطوف ضحيّة مزودجة: ضحية خيار الفاعل العنفي (الخيار الواعي أو اللاواعي)، وضحية أدواته الجاهزة"(14).

والعنف بوصفه ظاهرة فردية أو مجتمعية، هو تعبير عن خلل ما في سياق صانعها، إنْ على المستوى النفسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي أو السياسي. دفعه هذا السياق الذي يعانيه نحو استخدام العنف، متوهماً أن خيار العنف والقوة سيوفر له كل متطلباته، أو سيحقق له كل أهدافه. وفي حقيقة الأمر إن استخدام العنف والقوة في العلاقات الاجتماعية، تحت أي مسوغ كان، يعد انتهاكاً صريحاً للنواميس الاجتماعية، التي حددت نمط التعاطي والتعامل في العلاقات الاجتماعية؛ لأن العنف على المستوى المجتمعي يعني -على حد تعبير خليل أحمد خليل- أن يغتصب (صانع العنف) أدوات صراعية وصدامية، من أجل أن يتمكن (كما يرى) من البوح برأيه، والتعبير عن مكنون خاطره وفكره... لهذا فإننا نرى العنف من الأسلحة الخطيرة، التي تقوّض الكثير من مكاسب المجتمع، وإنجازات الأمة والوطن؛ لأن العنف بتداعياته المختلفة، وموجباته العميقة والجوهرية، سيصنع جواً وظروفاً استثنائية وغير مستقرة، مما تعرقل الحياة الاجتماعية والسياسية والتنموية.

ونظرة واحدة إلى الكثير من البلدان التي تحوّل العنف المضاد إلى ثابتة من ثوابت الفضاء السياسي والمجتمعي فيها، نجد أن العنف بتداعياته ومتوالياته الكثيرة هو أحد الأسباب الرئيسة لإخفاق مشاريع التنمية الاجتماعية والسياسية؛ لأن عسكرة الحياة المدنية يفرض واقعاً عاماً ووحيداً، هو واقع العنف والعنف المضاد؛ لأنه حينما تنعدم الحقوق الطبيعية للحياة الإنسانية المدنية تتحول هذه الحقوق إلى سياسة مكبوتة؛ إذ تنزل من ساحة العلن، ومن مجال التفاعل الحر بين الإرادات والمصالح والمثل العامة إلى أقبية الكبت، وتهرب من النور، وتدخل دهاليز الحرمان. هناك تتابع نموها غير الطبيعي، دون أية مراقبة مشروعة، ومن هنا كانت صيغة قيام الدولة المتغربة المستعارة كعصبية جديدة تضاف إلى العصبيات التقليدية، يشل في الواقع نمو المشاركة الجماهيرية الأوسع؛ إذ يبني في النهاية الدولة - الفئة ضد مشروع الدولة - الأمة، الذي وحده يناط به إلغاء السلطات التقليدية، وصهرها في بوتقة المشاركة الأشمل. فإن الدولة - الفئة تحرض ضدها مختلف القوى الفئوية الأخرى التي تجد نفسها مهددة في مصالحها الحيوية، وبالتالي فهي مضطرة للكفاح من أجل بلوغ العنف بطرق العنف المتاحة. هكذا يتعسكر المجتمع بكامل فئاته وطوائفه؛ إذ يأخذ الصراع بينهما شكل الإعدام المتبادل، الذي يحول التناقضات الرأسية فيه إلى مستوى التناقضات الأفقية، فيقيم الحواجز النفسية والإيديولوجية الحادة الحاسمة حتى فوق الأرض الواحدة المشتركة، وبين أبناء المجتمع الواحد، وتفرز هذه الحواجز النفسية والإيديولوجية حدوداً مادية واستراتيجية، تحول فئاتها إلى ما يشبه الجيوش المعبأة بالقوة أو بالفعل.

وهنا تتحول الحياة الاجتماعية في نظر صانع العنف إلى حياة مريضة، تكثر فيها الميكروبات، وتتفشى فيها الأمراض والأزمات، ويضطرب فيها السلوك الاجتماعي، وتتشكل كل الظروف وعوامل الخصب لنمو ظاهرة العنف في العلاقات الاجتماعية.

العنف والثقافة

لعلنا لا نأتي بجديد حين القول: إن هناك ترابطاً عميقاً بين مظاهر العنف وأدواته المستخدمة، والثقافة التي توجه الإنسان وتتحكم في سلوكه الخاص والعام.

فالعنف من حيث هو أذى باليد أو باللسان، إنما يرتكز على مسوِّغات وطاقات ودوافع يمكن تعيينها في تداؤب الطاقة العنفية وثقافة العنف. فهذا التداؤب أو العلاقة العضوية هي التي تساعدنا على اكتشاف المساحة المشتركة والعلاقة المباشرة بين الثقافة والعنف.

فالإنسان القادر على فعل العنف قادر أيضاً على عدم فعله. وسلوكه هذا مشروط ليس فقط بالقدرة على الفعل، بل متوجه ومحدود أيضاً بالظروف التي تسمح بالفعل العنفي أو لا تسمح به.

فالفعل العنفي هو نتاج جملة من الحالات والعوامل المتداخلة والمركبة مع بعضها بعضاً والتي تتسع للعوامل والشروط الذاتية، كما تتسع للعوامل والظروف الموضوعية. فطبيعة الثقافة هي التي تحدد -إلى حد بعيد- طبيعة فعل اليد أو اللسان؛ فإذا كانت الثقافة عنفيه يتحول اللسان إلى أداة للأذى بكل صنوفه وأشكاله، واليد إلى ممارسة القتل والتدمير وكل أشكال العنف المادي. أما إذا كانت الثقافة تحتضن مفاهيم الرفق والعفو والتسامح؛ فإن اللسان يتحول إلى مبشر بهذه القيم والمضامين، وتكون اليد مِعطاءة ومبادرة لفعل الخير.

"فالفعل العنفي هو نتاج لحالات من التوتر الفارد أو الجامع، وفي كل فعل يتلازم الخير والشر، اللاعنف والعنف، إذا أخذنا بالاعتبار وضع الفاعل والقابل، ونسبة الفعل وتفسيره. وحتى لا نخفض السلوك العنفي إلى مجرد مقولة أو مصادرة فلسفية، نقول: إنه ظاهرة اجتماعية واقعة، تجد تفسيرها في التاريخ الإنساني ذاته، وفي تواجه الطاقات النفسانية والاجتماعية والاقتصادية، أي طاقات القوة نحو تنازع الوجود وتغالب الإرادات ومما لا ريب فيه أن الفرد أو الجماعة يكتسبان السلوك العنفي/ اللاعنفي من خلال الثقافة التي توجه المجتمع، وتحكمه أو لا تحكمه من خلال أدوات الضبط العنفي ومعايير السلوك وقيم السياسة"(15).

فالمحبط أو العاجز أو المخفق، بصرف النظر عن دوافع وأسباب ومستويات الإحباط أو العجز أو الإخفاق، فإنه سيجد نفسه بحاجة إلى اكتشاف أو تصور مسوغ للحالة التي يعيشها. ومثل هذا المسوغ يجده في التاريخ، وفي التراث في السياسة، وفي الراهن لدى آخرين، لكنه يعبر عنه، في كل الحالات، من خلال ثقافته.

من هنا تبرز أمامنا مظاهر العنف، في الخطاب والرؤية الثقافية، كاغتيال الشيء بواسطة الكلمة (اغتيال الشخص انطلاقاً من اغتيال سمعته، صفاته، معاييره، قيمه.. الخ).

فالعنف بوصفه ظاهرة مجتمعية، له جذوره الثقافية، وموجباته المعرفية، ولا يمكن معرفة هذه الظاهرة حق المعرفة إلا من خلال معرفة الجذور والحواضن الثقافية للعنف.

العنف والعدوان

على المستوى الواقعي يتداخل مفهوم العنف مع مفهوم العدوان؛ بحيث من الصعوبة بمكان تحديد التمايزات الدقيقة بين العنف والعدوان.

فالعدوان يعرف بأنه مجموعة متنوعة من مظاهر السلوك تراوح بين مجرد إغاظة الآخرين، أو إبداء العداوة نحوهم إلى الاعتداء الفيزيقي.

ويشير (زيلمان) في مؤلفة العداوة والعدوان إلى تعريف العدوان بأنه "نشاط يسعى من خلاله شخص أن يحدث أذى جسمانياً أو ألماً فيزيقيا لشخص آخر، يكون مدفوعاً إلى تجنب هذا السلوك، أو أنه سلوك يحاول أن يحقق هدفاً معيناً يتحدد في إيذاء شخص آخر"(16).

ومن خلال التعريفات المذكورة أنفاً للعنف، نستطيع القول: إن بعض تعريفات العدوان، هي بعض مضامين العنف.

من هنا نستطيع القول: إن العدوان من المفاهيم العامة، التي تستوعب غيره من أنواع السلوك الإنساني. وبتعبير أدق؛ فإن العنف هو السلوك البارز والظاهر لميل الإنسان الفرد أو الجماعة الكامن للعدوان.

العنف والإرهاب

من الصعوبة بمكان أيضاً تحديد الفروقات الدقيقة بين مفهومي العنف والإرهاب؛ إذ إن مضمونها واحد. لعل الفرق الدقيق بينهما يعود إلى الدوافع والأهداف المرجوة من فعل العنف، أو فعل الإرهاب.

فالإرهاب سلوك تنظر إليه معظم النظم السياسية على أنه صورة من صور الجريمة المنظمة، وهو يرتبط بعملية تخويف أو ترويع للعامة.

وغالباً ما يعرف الإرهاب(17) على أنه أفعال الجماعات المنشقة عن النظم السياسية أو التيار العام في المجتمع الذي يوجه أفعاله ضد نظم سياسية معينة، أو رموز هذه النظم، من أجل إحداث تغيير يتفق وأهداف هذه الجماعات. ويختلط مفهوم الإرهاب بهذا المعنى مع مفهوم العنف السياسي الذي يرتبط بالأفعال المنظمة التي تهدد النظم السياسية، وقد يختلط الإرهاب بالعنف السياسي عندما يصبح التعبير عن الرأي السياسي إرهاباً، ومع ذلك فإن هناك ميلاً إلى وضع خطوط تميز الإرهاب عن العنف السياسي. على اعتبار أن الإرهاب يرتبط بفكرة بث الرعب والخوف في نفوس الأفراد والجماعات؛ فالعنف السياسي إذا تحول إلى فعل يهدد الجماهير، ويعرض حياتهم للخطر، فإنه يتحول إلى إرهاب تصبح الضحية معممة، وتصبح حياة أي فرد في المجتمع مهددة بالخطر.

ويشير الشيخ يوسف القرضاوي إلى طبيعة العلاقة بين العنف والإرهاب بقوله: "ورأيي أن بينهما عموماً وخصوصاً، كما يقول أهل المنطق، فكل إرهاب عنف، وليس كل عنف إرهاباً. إذ العنف -فيما رأينا-: أن تستخدم فئة من الناس القوة المادية في غير موضعها، وتستخدمها بغير ضابط من خلق أو شرع أو قانون. ومعنى (في غير موضعها): أن تستخدم القوة حيث يمكن أن تستخدم الحجة أو الإقناع بالكلمة والدعوة والحوار بالتي هي أحسن، وهي حين تستخدم القوة لا تبالي من تقتل من الناس، ولا تسأل نفسها: أيجوز قتلهم أم لا؟ وهي تعطي نفسها سلطة المفتي والقاضي والشرطي. هذا هو العنف الذي نجرِّمه. أما الإرهاب فهو: أن تستخدم العنف فيمن ليس بينك وبينه قضية، وإنما هو وسيلة لإرهاب الآخرين وتخويفهم، وإيذائهم بوجه من الوجوه، وإجبارهم على أن يخضعوا لمطالبك، وإن كانت عادلة في رأيك"(18).

وجماع القول: إننا نصل ومن خلال هذه التعريفات الموجزة لظاهرة العنف وعلاقاتها المختلفة، على أنها من الظواهر المجتمعية السيئة والخطيرة، والتي تتطلب العمل من مختلف المواقع لإنهاء أسبابها والقضاء على موجباتها، وتفكيك بيئاتها المخصبة والمولدة.

أسباب العنف في الوطن العربي

إن العنف، بكل مستوياته وأشكاله، ليس وليد الصدفة أو الفضاء المجرد، وإنما هو نتاج عوامل وأسباب عديدة. من أهم العوامل والأسباب التي تؤدي إلى نشوء ظاهرة العنف وبروزها في الفضاء الاجتماعي والسياسي العربي هي:

1- الأسباب الدينية - الثقافية

إن مشهد العنف المعاصر في الفضاء العربي تقوده جماعات وتنظيمات تنتسب إلى الإسلام، وترفعه شعاراً ومشروعاً لأجندتها وأهدافها. وحين التأمل العميق في هذه الظاهرة، نكتشف أن القراءة الدينية أو الفهم الديني لهذه الجماعات، هو عامل من عوامل جنوح هؤلاء إلى الأخذ بأسلوب العنف. و"ليس معنى هذا -ولا ينبغي أن يفهم منه- أن العنف يجد جذوره أو مرجعه في العقيدة الإسلامية على نحو ما يذهب إلى ذلك كثيرون! بل معناه أنَّ نسق القيم المتشبع بالدين -لدى المجتمعات العربية- يجد نفسه أحياناً في صراع مع منظومات جديدة من القيم، ويجد عسراً في التكيف معها، فيرجمها قسم من المجتمع بالبدعة والانحراف عن محجة النظام الديني والأخلاقي، فيما يجنح بعض منهم إلى انتداب النفس لدور رسولي، فتراه يكفر المجتمع الجاهلي الجديد، بعد تكفيره الدولة، ينصرف إلى إنفاذ الأمر الإلهي بوجوب إقامة الحد على الضلال، وتحديداً من عتبته القصية: الجهاد. ومع أنه لم يحصل أن وقع -أو انعقد- إجماع بين سائر الإسلاميين العرب على وجوب النهوض بـ(الفريضة الغائبة) أي الجهاد ضد الدولة والمجتمع. بل على الرغم من تصدى مثقفين إسلاميين وعلماء دين كبار لمهمة دحض دعوى الجهاد ضد المسلمين تحت أي ظرف، واعتبارها شططاً وغلواء في النظر إلى الدين واستقراء أحكامه، إلا أن ذلك لم يغير من الحقيقة شيئاً.. والحقيقة هي أنّ دم الناس يسفك يومياً بفتاوى رجال يشك في مدى حجيتهم الدينية، وفي أن الذي أرادوه جهاداً بات ينذر بالصيرورة فتنة"(19).

وليس من شك أن هذه الرؤية المتطرفة تتغذى من طبيعة الاختيارات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية السائدة في الاجتماع العربي المعاصر.

هذه الاختيارات التي تركت تأثيراتها العميقة في الفضاء العربي على المستويات النفسية والاجتماعية والثقافية، مما دفع البعض إلى الانكفاء والعزلة وبناء جزر اجتماعية معزولة عن الفضاء العام. وكانت هذه الجزر وهذه العزلة تتغذى باستمرار من رؤية دينية ضيقة تسوِّغ هذا الخيار، وهذه الممارسة، وتشرع لعملية الرفض بكل صوره للواقع القائم بكل خياراته ووقائعه.

من هنا لا علاقة للدين بالأمر إلا من حيث هو نصوص ووقائع قابلة للتأويل، أما إذا كان ثمة خلل، فالبحث فيه ينبغي أن ينصرف إلى صاحب التأويل، وإلى ظروف هذا التأويل.

والذي يزيد من تعميق هذا الخلل في الفضاء العربي بكل مستوياته، هو طبيعة الثقافة السائدة وخياراتها العامة؛ حيث إنها ثقافة ترفض التعددية وحق الاختلاف، وتكتفي من التقدم الإنساني والحداثة بالقشور، فيما تنغمس في إقامة أمر المجتمعات العربية على مقتضى قواعد الاختزال والاستبداد.

والمجتمعات العربية والمسلمة ليست فريدة من نوعها من حيث تركيبتها الاجتماعية والثقافية ومن حيث التنوع والتعدد، ولكن ما يميز هذه المجتمعات عن سواها هو أن هذه التراكيب الاجتماعية المتنوعة حافظت من الداخل على انغلاقيتها وانكفائها، فحدَّت بذلك من إمكانات التفاعل والتعايش.

والثقافة التي تغذي هذه الخيارات التي تمارس المفاصلة، وتشرع للانكفاء، هي من البيئات الخصبة لتبلور خيار الإقصاء والعنف.

وعليه؛ فإن من الأسباب الأساسية لبروز ظاهرة العنف في المجال العربي - الإسلامي، هو طبيعة الرؤية الدينية التي تنظر إلى الواقع والراهن برؤية تشاؤمية، سوداوية، وترفض التنوع، وتحارب الانفتاح والتقدم، ترى نفسها هي القابضة وحدها على الحق والحقيقة.

إن هذه الرؤية التي لا ترى إلا نفسها قابضة على الحقيقة تختزن إمكانية هائلة لممارسة النبذ والإقصاء والعنف تجاه المختلف والمغاير، سواء كان هذا فرداً أو جماعة.

فالجماعات الدينية التي كفرت الدولة والمجتمع، وحاربت الجميع بحجة أنهم جميعاً خرجوا عن مقتضيات الصراط المستقيم، هي جماعات تحمل رؤية أحادية وضيقة للمجتمع والحياة بكل حقائقها ووقائعها. هذه الرؤية هي التي تقود هذه الجماعات عبر متواليات نفسية وعقدية لممارسة العنف والنبذ تجاه الآخرين.

كما أن الثقافة السياسية والاجتماعية، التي تنبذ حق الاختلاف، وتحارب التنوع، وتؤلِّه القوة بعيداً عن مقتضيات الحق، هي أيضاً بيئة خصبة لإنتاج ظاهرة العنف في المجتمعات العربية.

من هنا، فإننا نصل إلى حقيقة أساسية، وهي: أن الرؤية الدينية المتعصبة لذاتها وقناعاتها والتي تلغي ما عداها، هي رؤية حاضنة بالضرورة لخيار النبذ والعنف.

كما أن الثقافة التي تنتج الإقصاء الاجتماعي، والنبذ الثقافي، والمفاصلة الشعورية بين المختلفين والمغايرين، هي ثقافة مولِّدة لظاهرة العنف.

وعليه، فإن السبب الأول لبروز ظاهرة العنف في المجال العربي - الإسلامي، هو السبب الديني - الثقافي، حيث يتداخل التعصب الديني الأعمى مع الجمود الثقافي والجفاف الفكري، بمقولات الجهاد، وتوظيف النصوص الدينية لنوازع سياسية وسلطوية وعنفية.

وهذا التداخل والتوظيف يستمد باستمرار ديناميته من حالة ثقافية ونفسية تحارب التنوع والتعدد، ولا تعترف بالآخر وجوداً ورأياً وحقوقاً، ولا ترى إلا طريق القوة وممارسة العسف لنيل أهدافها وتحقيق طموحاتها وتطلعاتها.

2- الأسباب السياسية

عديدة هي المؤشرات والحقائق التي تؤكد أن المشهد السياسي العربي يعيش الكثير من المشكلات البنيوية والهيكلية، التي لا تؤثر على راهن العرب فحسب، بل على مستقبلهم ومكاسبهم الحضارية.

وبسبب هذه الأزمات والمشكلات البنيوية التي يعانيها المشهد السياسي العربي، تعمل الكثير من النظم والمؤسسات على ممارسة أنواع العنف كلها لتجاوز نقاط الضعف البنيوية. وبدل أن تبحث هذه المؤسسات عن حلول حقيقية وواقعية لهذه الأزمات، فإن استخدمها للعنف يفاقم من المشكلة، ويوفر لها المزيد من أسباب وعوامل الحياة.

"ومن الطبيعي -تماماً- أن ينتهي إقفال الحقل السياسي أمام المجتمع، بإعمال القمع وتقييد الحريات وهضمها، إلى دفع هذا المجتمع إلى سلوك مسارب أخرى للتعبير عن مصالحه وحقوقه، وإلى ممارسة الاحتجاج على التسلط الدولتي المتغوِّل، أي على العنف الرسمي بعنف مضاد، قد يستعيد فيه المجتمع مخزونة الرمزي وتقاليد المقاومة لديه -وقد جربها حديثاً مع الاحتلال- لتحصيل حقوقه. وينبغي أن ندرك تماماً معنى أن يشعر قسم من المجتمع بالغبن والاضطهاد، ويفقد الثقة في العملية السياسية برمتها، وفي مدونة النزاعات والمنافسات السلمية، وخصوصاً حينما يكون مرجعه الثقافي عسير الانفتاح على منظومة السياسة الحديثة"(20).

فرؤية متزنة وواعية ورشيدة للكثير من نماذج العنف في الفضاء العربي تجعلنا نعتقد أن هناك أسباباً سياسية مباشرة لبروز هذه الظاهرة.

وهذا بطبيعة الحال لا يسوِّغ ممارسة العنف، ولكننا بحاجة إلى تحديد دقيق لأسباب هذه الظاهرة.

ولا شك أن انعدام الحياة السياسية الوطنية السليمة، وغياب أطر ومؤسسات المشاركة الشعبية في الشأن العام، ولَّد مناخاً اجتماعياً وثقافياً وسياسياً يزيد من فرص الانفجار الاجتماعي، ويساهم في إقناع العديد من أفراد القطاعات الاجتماعية المختلفة بخيار العنف.

وهذا يقود إلى حقيقة أساسية من المهم التنبه لها دائماً؛ وهي: أن العنف أداة يستعين بها القاهرون والمقهورون، وإنْ كان ذلك بمقادير مختلفة ولغايات متباينة.

ولا ريب أن وجود توترات ظاهرة أو كامنة بين الدولة والمجتمع في الفضاء العربي، يساهم عبر تأثيراته ومولداته في بروز ظاهرة العنف. وتجارب الحروب الأهلية المؤلمة التي جرت في بعض البلدان العربية تؤكد بشكل لا لبس فيه أن تناقض الخيارات الكبرى بين السلطة والمجتمع يقود في المحصلة النهائية لنشوء ظاهرة العنف وبروزها.

وقد عبَّر هذا التناقض والتدهور عن أعلى تجلياته المادية، في انفلات غرائز العدوان المتبادل بين مكونات الحقل السياسي في مشاهد متلاحقة من العنف والإقصاء المتبادل، إلى درجة باتت فيها العلمية السياسية عاجزة -أو تكاد- عن أن تعبر عن نفسها في صورة طبيعية، أي كفعالية تنافسية سلمية، وإلى الحد الذي كاد فيه العنف -المادي والرمزي- أن يتحول إلى اللغة الوحيدة التي يترجم بها الجميع مطالبه ضد الجميع. "وعلم الاجتماع السياسي المعاصر يفرّق اليوم بين الدولة القوية والدولة القمعية، ويرى أن الدولة التي تلتحم في خياراتها ومشروعاتها مع مجتمعها وشعبها هي الدولة القوية، حتى لو لم تمتلك موارد طبيعية هائلة.. فالدولة القوية حقاً هي التي تكون مؤسسة للإجماع الوطني وأداة تنفيذه، وتنبثق خياراتها وإرادتها السياسية من إرادة الشعب وخياراته العليا.

ولا ريب أن الدولة القمعية -بتداعياتها ومتوالياتها النفسية والسياسية والاجتماعية- هي من الأسباب الرئيسة في إخفاق المجتمعات العربية والإسلامية في مشروعات نهضتها وتقدمها؛ لأنها تحولت إلى وعاء كبير لاستهلاك مقدرات الأمة وإمكاناتها في قضايا غير مهمة، ومارست العسف والقهر لمنع بناء ذاتية وطنية مستقلة"(21).

فالإخفاق السياسي -سواء على صعيد مؤسسة الدولة أو مؤسسات المجتمع- دفع باتجاه النزوع إلى التعبير عن الأهداف والغايات والمصالح بالعنف المادي والرمزي؛ بحيث إن غياب العلاقة السوية والعميقة بين السلطة والمجتمع دفع الأولى في المجال العربي إلى تبني خيارات ومشروعات فوقية - قسرية، وبفعل ذلك لجأت السلطة في العديد من مناطق العالم العربي إلى أدوات العنف لتسيير مشروعاتها وإنجاح خططها الاجتماعية والاقتصادية. وفي المقابل فإن المجتمع في ظل هذه الظروف يعبر عن نفسه وخياراته بامتلاك أدوات العنف واستخدامها.

فيتحول الفضاء السياسي والاجتماعي العربي، من جراء هذا التوتر والتباين، إلى وعاء للعديد من النزاعات المجردة من القيم الإنسانية والأخلاقية، واللاهثة صوب مصالح آنية وضيقة.

وفي أحشاء هذا التوتر تترعرع مشاريع العنف والإقصاء، وتتسع دائرة التناقض والتصادم، وتزيد فرص الانتقام وممارسة العسف بحق الآخر.

وهكذا نصل إلى مسألة أساسية؛ وهي: أن أحد الأسباب الرئيسة لبروز ظاهرة العنف، هو غياب حياة سياسية سليمة ومدنية في العديد من بلدان العالم العربي.

لذلك من الأهمية بمكان أن نرفض الاستئثار والتوحش في السياسة مهما كانت الإيديولوجية التي تسوغ له ذلك، ونقف ضد التنابذ والإقصاء مهما كان الفكر الذي يقف وراءه.

وإن النهج السياسي المعتدل، والذي يتعاطى مع الأمور والقضايا والحقائق السياسية والاجتماعية بعقلية منفتحة ومتسامحة، هو القادر على ضبط نزعات العنف، وهو المؤهل لمراكمة الفعل السياسي الراشد في المجتمع.

3- الأسباب الاقتصادية - الاجتماعية

لو تأملنا في وقائع العنف في المجال العربي لاكتشفنا، ودون عناء وصعوبة، أن إخفاقات التنمية والتفاوت الصارخ في مستويات المعيشة والبطالة وتدني مستويات الحياة والعيش الكريم، من الحقائق التي تساهم في بروز ظاهرة العنف في المجال العربي.

لذلك نلحظ، بوضوح وفي العديد من الدول، أن القاعدة الاجتماعية التي تعتمد عليها جماعات العنف، وتوفر لها الكادر البشري والحماية، هي مدن الصفيح وأحزمة البؤس التي تضرب طوقاً رمزياً ومادياً على كبرى المدن العربية.

فلا يمكن أن نغفل الأسباب الاقتصادية والعوامل الاجتماعية في بروز ظاهرة العنف؛ وذلك لأن "آليات العنف تتحرك صعوداً وتصعيداً بالتناسب مع هبوط مؤشرات التنمية وتدهور معدلات التوازن في توزيع الثروة! وربّ قائل: إن هذا اللون من النظر إلى الموضوع: موضوع العنف السياسي، يجنح نحو الأخذ بقراءة اقتصادية، بدليل أن ظاهرة العنف هذه ليست عامة في مجموع البلاد العربية، على الرغم من أنها تعيش جميعها -ومن دون استثناء- الوضع ذاته: حيث عمّ الخراب عمرانها الاقتصادي، وأودى بتوازنها المالي. وعلى هذا الاعتراض نكتفي بالرد التالي: إن البنية التحتية للعنف قائمة في معظم البلاد العربية -على ما فيها من تفاوت درجي- على صيرورته ظاهرة مادية يومية رهن بتوافر بنية فوقية هي إيديولوجيا العنف، ونعني بها -على وجه التحديد- الإيديولوجيا السياسية التي تسوِّغ لجماعة من الناس أهدافاً لحراكهم الاجتماعي، وتنتج لهم أطراً لتعبئة الطاقة الاجتماعية، والتعبير عنها. وهو ما ينطبق أمره على أي مشروع سياسي آخر يحتاج كي ينتقل من القوة إلى الفعل، بلغة أرسطو، أو من الفكرة إلى الواقع، بلغة ماركس، إلى توافر درجة ما من التناسب والتوافق بين الشروط الموضوعية والشروط الذاتية. وعلى ذلك فإن في جوف كل مجتمع عربي عنفاً أو شكلاً من العنف: أما جارياً أو مؤجلاً، طالما كان ثمة، في القاع الاجتماعي - الاقتصادي، ما يهيئ له المناخ والأسباب"(22).

فالتدهور الاقتصادي يقود إلى تصدعات اجتماعية خطيرة، وبدورها (التصدعات الاجتماعية)، توفر كل مستلزمات بروز ظاهرة العنف في الفضاء الاجتماعي. فليس مستغرباً أن تتحول حالات التهميش الاقتصادي إلى قنبلة قابلة للانفجار. فماذا ننتظر من ذلك الإنسان الذي لا يملك أدنى ضرورات حياته، ويفتقد إلى نظام الرعاية والحماية الاجتماعية، ودولاب الحياة المتسارع يزيد من ضنكه وصعوباته.

فالمجتمعات المهمشة، والتي تعيش الضنك في كل مراحل حياتها، هي مجتمعات مريضة؛ لأنها ببساطة لا تحيا حياة طبيعية. والمجتمع الذي تعيشه سلوكه العام مضطرب، تغشاه الأزمات الفجائية في كل مجال، تتفجر أحداثه العامة بشكل هبَّات وانحرافات جماعية، ولا يبقى له وسيلة للتعبير عن معاناته إلا باستعارة أساليب القمع الممارسة ضده ذاتها. إنه المجتمع المرشح للعنف بكافة أشكاله وأدواته، والمتقبل لكل الأفكار والإيديولوجيات التي تخاطب جمهور المحرومين والمقموعين. فالفقر لا يقود إلى الاستقرار، والبطالة والعطالة لا تؤدي إلى الأمن، بل إنهما الأرضية الاقتصادية - الاجتماعية لبروز حالات التمرد والعنف.

إن ظاهرة العنف في المجال العربي هي ظاهرة مركبة، نشأت عن اجتماع جملة من العناصر والأسباب وتضافرها على النحو الذي لا يمكن معها إرجاع هذه الظاهرة إلى سبب أو عنصر واحد دون سواه. ولا يمكن فهم هذه الظاهرة إلا ضمن شبكة العوامل والأسباب التي أفضت إلى بروزها وأدت إلى ظهورها.

***

محمد محفوظ – باحث سعودي

......................

الهوامش:

* نص المحاضرة التي ألقيت في الجمعية العربية السعودية للثقافة والفنون - فرع مدينة الدمام، مساء الثلاثاء 28/ 12/ 1425هـ الموافق 8/ 2/ 2005م.

(1) المصباح المنير في غريب الشرح الكبير، للرافعي، مادة عنف ص 516، الجزء الثاني، المطبعة الكبرى الأميرية، 1906م.

(2) رواه مسلم في صحيحة من حديث عائشة برقم (2593).

(3) رواه مسلم عن جرير، برقم (2592).

(4) الدكتور أبو الوفا محمد أبو الوفا إبراهيم، البعد الجنائي للعنف في الجرائم الإرهابية في القانون المقارن والفقه الإسلامي، ص 11. ورقة مقدمة إلى ندوة ظاهرة العنف في مواجهة الآثار إلى معالجة الأسباب 17 - 18 مايو 2004م، جامعة قطر.

(5) محمود نجيب حسني، شرح قانون العقوبات، القسم الخاص، برقم 707، ص 599، القاهرة، دار النهضة العربية 1986م.

(6) محمد سلامة، إجرام العنف، مجلة القانون والاقتصاد، ص 270، السنة الرابعة والأربعون، العدد الثاني، 1974م.

(7) محمد فتحي عيد، الإجرام المعاصر، ص 58، أكاديمية نايف العربية للعلوم الأمنية، الرياض 1999م.

(8) المبسوط، ج24، ص38، دار المعرفة، بيروت.

(9) الأم، ج 3 ص 236 دار المعرفة، بيروت.

(10) راجع الأشباه والنظائر لابن نجيم الحنفي، ص282 دار الكتب العلمية، بيروت 1993م.

(11) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير، ج4 ص 242 مطبعة عيسى البابي الحلبي.

(12) مجلة الفكر العربي المعاصر، العدد 27- 28 ص 19، خريف 1983م مركز الإنماء القومي - بيروت.

(13) جون لوكا، آليات العنف، في ظاهرة العنف السياسي من منظور مقارن، تحرير وتقديم نيفين عبد المنعم مسعد، ص 33، أعمال الندوة المصرية الفرنسية الخامسة، القاهرة، 19-12 نوفمبر 1993م، مركز البحوث السياسة - القاهرة.

(14) مجلة الفكر العربي المعاصر مصدر سابق ص 19.

(15) المصدر السابق ص 25.

(16) راجع دراسة علي أحمد الطراح، العنف والتطرف والإرهاب بمجتمعات الخليج بين الواقع المأزوم والمشروع الوطني لنزع فتيل الأزمة، ورقة مقدمة لندوة ظاهرة العنف في مواجهة الآثار إلى معالجة الأسباب 17- 18 مايو 2004 - جامعة قطر.

(17) المصدر السابق ص 7.

(18) يوسف القرضاوي، المسلمون والعنف السياسي نظرات تأصيلية ص21، ورقة مقدمة إلى ندوة العنف في مواجهة الآثار إلى معالجة الأسباب 17- 18 مايو 2004 - جامعة قطر.

(19) عبدالإله بلقزيز، العنف والديموقراطية، ص 48، سلسة تصدر عن جريدة الزمن المغربية، مايو 1999م.

(20) المصدر السابق، ص 40.

(21) محمد محفوظ، الأمة والدولة - من القطيعة إلى المصالحة لبناء المستقبل، ص127، المركز الثقافي العربي، بيروت 2000م.

(22) بلقزيز، مصدر سابق، ص43.

 

ظهرت الحركة المسماة بالوهابية على يد محمد بن عبد الوهاب التميمي في نجد في القرن الثاني عشر الهجري، كحركة مذهبية هدفت إلى إحياء الاعتقادات المنسوبة زورًا للإمام أحمد بن حنبل إضافة إلى فقه الحشوية ومخالفات ابن تيمية الفقهية. ثم تحولت إلى حركة سياسية تسببت ولا زالت تتسبب في الفتن.

كان ظهور فتنتهم في عهد السلطان العثماني سليم الثالث. وكان محل فتنتهم الأولى بالحجاز فاستولوا على الحرمين، ومنعوا وصول الحاج الشامي والمصري، ثم عمّت فتنتهم الثانية في القرن الثالث عشر الهجري سائر الجزيرة العربية. وتمثلت مظاهر فتنهم بهدم الأضرحة وقبور الأئمة والصحابة، وهدم منبر النبي صلى الله عليه وسلم، وألغوا الاحتفال بالمولد النبوي، وأزالوا جميع شواهد القبور بالبقيع وغيره. كما قاموا –كما هي عادة الخوارج- بمذابح ضد غيرهم من المسلمين ممن كفّروهم، وأدخلوهم تحت سلطانهم.

وبظهور تلك الحركة اعتبر كثير من علماء المسلمين أنهم الجماعة المارقة التي يتزعمها قرن الشيطان -أو قرنا الشيطان وفقًا لروايتين في صحيحي البخاري ومسلم- والتي تنبأ الرسول صلى الله عليه وسلم في روايات كثيرة أنها ستخرج من المشرق، وأشار في بعض الروايات إلى فتن مبدؤها نجد. ذلك أنه لأول مرة في تاريخ حركات الخوارج تظهر علامة التحليق التي أعلمنا الرسول صلى الله عليه وسلم أنها ستميزهم. فلأنهم ادّعوا أنهم من أهل السُنة، شاءت إرادة الله تعالى أن يُظهر فيهم تلك العلامة كي نتقين أنهم خوارج آخر الزمان الذين حذّرنا منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مرارًا.

أحاديث تنبأت بالوهابية

سبق أن تحدثنا عن فِرق الخوارج القدماء والحكم في تكفيرهم في مبحث فتن الخوارج، ورغم ورود الأحاديث عن أن الخوارج سيخرجون قرنًا بعد آخر، ورغم أن حوادث التاريخ شاهدة على صحة ذلك بظهور الأزارقة والقرامطة وغيرهم من الباطنية ممن أتعبوا المسلمين وولاة أمورهم عبر قرون، بعد ظهور الحروريين –الخوارج الأوائل الذين حاربهم سيدنا علي-، ورغم وجود أحاديث تتكلم عن خوارج يأتون في آخر الزمان، إلا أن هناك من يصر على عدم التفريق بين الأحاديث الموردة لذكر أوائل الخوارج عن أواخرهم ممن بدت علامة أسلافهم لنا في القرن الثاني عشر الهجري، بتحليقهم ومجازرهم، ولمّا انقطع قرنهم ظهر قرن آخر لهم في مطلع القرن العشرين هدموا آثار المسلمين، وذبحوا منهم الآلاف، ثم بعد أن نالوا مرادهم وصارت لهم دولة، ظهر قرن آخر لهم في القرن الحادي والعشرين لم يشهد التاريخ في مثل بشاعته، وأعني الجماعة المسماة "داعش".

كما أنه رغم أن هناك الكثير من الأحاديث التي توضح أن الفتنة ستأتي من المشرق، وتحديدًا من نجد، فهناك من يسهل عليهم تصور أن العراق بالمشرق –وهي كذلك حقيقة لكونها على حد الخط الشرقي للحجاز-، فهو محل الفتنة المعنية! ولكن يصعب على هؤلاء المكابرين تقبل أن الفتنة التي أشار الرسول صلى الله عليه وسلم أنها تأتي من المشرق، تنشأ تحديدًا من نجد حيث رأس الكفر –كما أخبر رسول الله-، رغم أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أخبرنا بعلاماتهم؛ وأن أتباع هذه الطائفة من الخوارج يتيهون من فرط إعجابهم بأنفسهم، وسيماهم التحليق. ومن المفارقات العجيبة أن الرجل الذي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنه يوشك أن يخرج من نسله المارقة، وهو ذو الخويصرة التميمي، من قبيلة محمد بن عبد الوهاب التميمي شيخ الوهابية، وموطنها "حوطة بني تميم" بجوار الرياض.

روى الإمام البخاري في صحيحه جملة أحاديث بأسانيد صحيحة تقول صراحة إن الرسول صلى عليه وسلم ذكر أن الفتنة من قِبل المشرق. على سبيل المثال، الحديث (‏3279) عن عبد الله بن عمر رضي الله ‏عنهما، قال:‏ رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يشير ‏إلى المشرق، فقال: "ها إن الفتنة ها هنا، إن الفتنة ها هنا، من حيث يطلع قرن ‏الشيطان".‏ [أطرافه 3104، 3511، 5296، 7092، 7093]‏.

ومثله الأحاديث التي رواها الإمام مسلم في صحيحه، كتاب "الفتن وأشراط الساعة"، باب "الْفِتْنَةِ مِنَ الْمَشْرِقِ مِنْ حَيْثُ يَطْلُعُ قَرْنَا الشَّيْطَانِ" (7476 -45/2905) و ‏‏(7477 -46/2905) ‏و ‏(7478 -47/2905)‏ و ‏(7479 -48/2905) ‏و ‏(7480 -49/2905).  والحديث (2519 -159/1068) عَنِ الشَّيْبَانِىِّ، عَنْ يُسَيْرِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ: سَأَلْتُ سَهْلَ بْنَ حُنَيْفٍ: هَلْ سَمِعْتَ النَّبِىَّ ‏صلى الله عليه وسلم يَذْكُرُ ‏الْخَوَارِجَ؟ فَقَالَ: سَمِعْتُهُ -وَأَشَارَ بِيَدِهِ نَحْوَ الْمَشْرِقِ «قَوْمٌ يَقْرَأُونَ الْقُرْآنَ بِأَلْسِنَتِهِمْ لاَ يَعْدُو تَرَاقِيَهُمْ. ‏يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ».‏ والحديث (2520 -159/1068) أيضًا عن سُلَيْمَانُ ‏الشَّيْبَانِىُّ بإسناد آخر، وَقَالَ: "يَخْرُجُ مِنْهُ أَقْوَامٌ".‏

وروى البخاري في صحيحه أيضًا، (1037) بسنده عن نافع، عن ابن عمر، قال:‏ "اللهم بارك لنا في شامنا، وفي يمننا". قال: ‏قالوا: وفي نجدنا؟ قال: قال: "اللهم بارك لنا في شامنا وفي يمننا". ‏قال: قالوا: وفي نجدنا؟ ‏قال: قال: "هناك الزلازل والفتن، وبها يطلع قرن الشيطان".‏

نجدنا!

ونجد هي ما ارتفع من بلاد العرب إلى أرض العراق، وهي هضبة معروفة بجزيرة العرب، ولا توجد أرض عُرفت أو تُعرف إلى يومنا هذا بذلك الاسم غيرها، واليمن والشام ونجد المشار إليهم في الحديث هي الأماكن المعروفة، فهي أعلام وليست صفات؛ حتى يدّعي أحد أن العراق هو نجد أهل المدينة كما يبغبغ الوهابية المحدثون، وليأتِ من يدّعي تلك المقولة بدليل واحد يُثبت أن أهل المدينة كانوا يقولون عن العراق (نجدنا).

وطالما أن الحال قد وصل بالسلفية المعاصرين إلى مثل هذا المستوى من الكذب الوقاح؛ فإنه بالعودة إلى خطوط العرض، فإن خط العرض الذي تقع عليه المدينة المنورة هو 24.46667، وخط العرض الذي تقع عليه الرياض بنجد هو 24.4، فليس للمدينة مشرق مرتفع عن الأرض غير نجد جزيرة العرب التي يعرفها القاصي والداني، وتحديدًا جنوب مدينة الرياض. والمقصود بقرن الشيطان هو ‏جماعته وحزبه. كما أنه لو كان المقصود بفتن نجد ما حدث من أمر مسيلمة الكذاب، ما دعا صلى الله عليه وسلم في الحديث نفسه لليمن بالبركة، ومنها خرج الأسود العنسي، والأهم أن ما كان من أمر الكذابين –مسيلمة والعنسي- لا يُسمى فتنة؛ "إنما الفتنة إذا اشتبه عليك الحق والباطل". فلم يُفتتن أحد ممن تبعوهما بهما، وكانوا متيقنين من كذبهما، ولكن تبعوهما عصبية؛ حتى لا يُقال إن النبوة في مُضر وحدها.

وفي صحيح البخاري، حديث (‏3302)، عن عقبة بن عمرو أبي مسعود، ‏قال:‏ أشار رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده نحو اليمن، ‏فقال: "الإيمان يمان هنا هنا، ألا إن القسوة وغلظ القلوب في ‏الفدادين، عند أصول أذناب ‏الإبل، حيث يطلع قرنا الشيطان، في ربيعة ومضر".‏

و(الفدادين) جمع الفداد وهو الشديد الصوت، من فدا إذا رفع صوته، وهو مشهور عن ‏أصحاب الإبل. ومعلوم أن وفد تميم حين قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم رفعوا أصواتهم، ونزلت فيهم الآيات الأوائل من سورة الحجرات، وفيها نهي للمؤمنين أن يأتوا فعلهم ‏﴿‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ‏﴾‏ [الحجرات: 2]. ووصف لمن رفعوا أصواتهم من وفد تميم بأن أكثرهم لا يعقلون ‏﴿‏إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ‏﴾‏ [الحجرات: 4]. ونلاحظ أن هذه الرواية في صحيح البخاري تُثني ولا تُفرد؛ فتقول: "قرنا الشيطان"، وتحدد أن أحد القرنين من ربيعة، والثاني من مُضر، وسنرى بعد مراجعة أنساب أصحاب الفتنة كيف صدقت فيهم الرواية حرفيًا.

وروى البخاري حديث (‏3301)، عن أبي هريرة رضي الله عنه:‏ ‏أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "رأس الكفر ‏نحو المشرق، والفخر والخيلاء في أهل الخيل والإبل والفدادين أهل ‏الوبر، والسكينة في أهل ‏الغنم".‏ ‏

والمقصود بـ (نحو المشرق) أي يأتي من جهة المشرق. وهذه الرواية تؤكد أن صفة (الفخر) الإعجاب بالنفس، و(الخيلاء) الكبر ‏واحتقار الغير، التي ذكرها رسول الله صلى الله عليه وسلم في صفات الخوارج، متحققة فيهم. و(أهل الوبر) كناية عن سكان الخيام، والوبر شعر الإبل.

صفات خوارج آخر الزمان

من أهم صفات خوارج آخر الزمان التي ذكرتها الأحاديث أنهم "حدثاء الأسنان، ‏سفهاء ‏الأحلام". ‏وحدثاء الأسنان جمع حديث السن وهو الصغير، فإن حداثة السن محل للفساد ‏عادة. وسفهاء الأحلام أي ضعفاء العقول. جمع حلم وهو العقل. ‏والسفهاء جمع سفيه وهو الطائش ‏خفيف العقل. ورءوس الجماعات المتطرفة في عصرنا يبحثون عمن له هذه الصفة من المراهقين والشباب اللاهين ضعيفيّ الثقافة والعقل لاجتذابهم وضمهم إليهم. ويُلاحظ أن ضعاف العقول يثبتون عند المستوى الطفولي الحسي في تصور المفاهيم الدينية، ومنها مفهوم الله، وهو ما يفسر لجوءهم للتشبيه والتجسيم، لعجز عقولهم عن التعامل مع المفاهيم المجردة.‏

‏جاء ذلك الوصف لخوارج آخر الزمان تحديدًا في أحاديث كثيرة، ففي صحيح البخاري (6930) عن عليّ رضي الله عنه قال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ‏‏"سيخرج قوم في آخر الزمان، أحداث الأسنان، سفهاء الأحلام، يقولون من خير قول البرية، لا ‏يُجاوز إيمانهم حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، فأينما لقيتموهم ‏فاقتلوهم، فإن في قتلهم أجرًا لمن قتلهم يوم القيامة". ‏ومثله: الأحاديث (3611) و (5057) بصحيح البخاري. وبصحيح مسلم ‏(2511 -154/1066) وسنن أبي داود (4767) ‏وسُنن ‏ابن ماجه (168) وسُنن النسائي (4102) وسُنن الترمذي (2188).‏

ومن صفاتهم النفسية التيه والعُجب بأنفسهم. أما أشهر صفاتهم الشكلية والتي فضحتهم في ابتداء أمرهم فهي التحليق. جاء في صحيح مسلم (2521 -160/1068) ‏عَنْ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ، عَنِ النَّبِىِّ ‏صلى الله عليه وسلم، قَالَ: «يَتِيهُ قَوْمٌ قِبَلَ الْمَشْرِقِ ‏مُحَلَّقَةٌ ‏رُءُوسُهُمْ».

وفي مستدرك الحاكم على الصحيحين (2648) عن أنس ‏رضي الله عنه، أن ‏النبي صلى الله عليه وسلم قال: "سيكون في أمتي اختلاف وفرقة، وسيجيء قوم ‏يعجبونكم وتعجبهم ‏أنفسهم، الذين يقتلونهم أولى بالله منهم. يُحسنون القيل ويُسيئون الفعل، ‏ويدعون إلى الله وليسوا من ‏الله في شيء، فإذا لقيتموهم فأنيموهم" قالوا: يا رسول الله، انعتهم لنا. ‏قال: "آيتهم الحلق والتسبيت". ‏يعني استئصال التقصير قال: والتسبيت استئصال الشعر. هذا ‏حديث صحيح على شرط الشيخين ‏ولم يخرجاه. وقد روى هذا الحديث الأوزاعي، عن قتادة، عن ‏أنس رضي الله عنه. وروى الحاكم في المستدرك أحاديث أخرى تذكر علامة تحليق الرأس فيهم (2644) ، (2647) ، (2649) ، (2650).

وفي صحيح البخاري (7562) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، عن النبي ‏صلى ‏الله عليه وسلم قال: "يخرج ناس من قبل المشرق، ويقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم، يمرقون ‏من ‏الدين كما يمرق ‏السهم من الرمية، ثم لا يعودون فيه حتى يعود السهم إلى فُوقه". قيل: ‏ما ‏سيماهم؟ قال: "سيماهم ‏التحليق -أو قال التسبيد-"‏. ومعنى ‏(سيماهم) علامتهم. و(التحليق) إزالة شعر الرأس. أما (التسبيد) استئصال الشعر.

وفي سنن ابن ماجة (175) ‏عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يخرج قوم في آخر الزمان، أو ‏في هذه الأمة، يقرؤون القرآن لايجاوز تراقيهم أو حلوقهم. سيماهم التحليق. إذا رأيتموهم أو إذا ‏لقيتموهم فاقتلوهم". قال الشيخ الألباني: صحيح.

وأورد الإمام النسائي في "المجتبى من السُنن" حديث (4103) ".................‏ يخرج في آخر الزمان قوم كأن هذا منهم. يقرؤون ‏القرآن لا يجاوز تراقيهم. ‏يمرقون من الإسلام ‏كما يمرق السهم من الرمية. سيماهم التحليق. لا ‏يزالون يخرجون حتى يخرج ‏آخرهم مع المسيح ‏الدجال، فإذا لقيتموهم فاقتلوهم هم شر الخلق ‏والخليقة".‏

يقول الشيخ زيني دحلان في كتابه "فتنة الوهابية" (ص19): "وكثير من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم فيها التصريح بهذه الفتنة؛ كقوله صلى الله عليه وسلم "يخرج أناس من قِبل المشرق، يقرأون القرآن لا يُجاوز تراقيهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، سيماهم التحليق". وهذا الحديث جاء بروايات كثيرة بعضها في صحيح البخاري، وبعضها في غيره، لا حاجة لنا إلى الإطالة بنقل تلك الروايات، ولا ذكر من خرَّجها لأنها صحيحة مشهورة، ففي قوله: "سيماهم التحليق" تصريح بهذه الطائفة، لأنهم كانوا يأمرون كل من اتّبعهم أن يحلق رأسه، ولم يكن هذا الوصف لأحد من طوائف الخوارج والمبتدعة الذين كانوا قبل زمن هؤلاء، وكان السيد عبد الرحمن الأهدل مفتي زبيد يقول: لا ‏يُحتاج إلى التأليف في الرد على الوهابية، بل يكفي في الرد عليه قوله صلى الله ‏عليه وسلم "سيماهم التحليق"، فإنه لم يفعله أحد من المبتدعة غيرهم. واتفق مرة أن امرأة أقامت الحجة على ابن الوهاب لمّا أكرهوها على اتّباعهم ففعلت، أمرها ابن عبد الوهاب أن تحلق رأسها، فقالت له: حيث أنك تأمر المرأة بحلق رأسها، ينبغي لك أن تأمر الرجل بحلق لحيته، لأن شعر المرأة زينتها، وشعر لحية الرجل زينته، فلم يجد لها جوابًا"أهـ.

ذلك أنهم كانوا يعتبرون باقي المسلمين مشركين، ويعتبرون ديارهم فقط ديار إسلام، وما عداها ديار شرك، متابعين لنافع بن الأزرق الحنفي زعيم الخوارج الأزارقة. وكان الوهابية يأمرون من انضم حديثًا إلى جماعتهم المارقة أن يحلق رأسه باعتباره كان كافرًا وأسلم، ويقولون: "إن شعرًا نبت في غير الإسلام يجب أن يُحلق"، محتجين برواية أخرجها عبد الرزاق وأحمد وأبو داود عن النبي صلى الله عليه وسلم.

كيف شاء الله أن يُفتضحوا؟

روى الإمام أحمد في مسنده، (ج12- 3/415- 15370) حدثنا عبد الرزاق، أنا بن جريج، قال: أُخبرت عن عثيم بن كُليب عن أبيه عن جده، أنه جاء النبي صلى الله عليه وسلم فقال: قد أسلمت فقال: "ألق عنك شعر الكفر" يقول: احلق. قال: وأخبرني آخر معه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لآخر: "ألق عنك شعر الكفر واختتن". قال الشيخ المحقق حمزة الزين فيه: إسناده ضعيف لانقطاعه، حيث لم يُصرح ابن جريج بالواسطة بينه وبين عُثيم.

والحديث رواه أبو داود في سننه، من طريق عبد الرزاق، في كتاب الطهارة، (باب131/في الرجل يُسلِم فيؤمر بالغُسْل) (356)، قال: حدّثنا مَخْلّد بن خالد، حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا ابن جُريج، قال: أُخبرت عن عُثيم بن كُليب، عن أبيه، عن جده، أنه جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: قد أسلمتُ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "ألقِ عنك شعر الكُفر". يقول: احْلِق، قال: وأخبرني آخر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لآخر معه: "ألقِ عنك شعر الكفر واختتن". قال الألباني: حسن.

وهو عند عبد الرزاق أصلًا في مصنفه في (كتاب أهل الكتاب/باب ما يجب على الذي يُسلم)، (ج6/ص10) (9835)، وفي (كتاب أهل الكتابين- باب ما يوجب عليه إذا أسلم وما يؤمر به من الطهور وغيره) (ج10/ ص317) (19224). ورواه البيهقي في سننه الكبرى (1/172-781)، ثم رواه أيضًا في سننه الصغرى (7/304- 2742)، في باب (الختان)، عن أبي علي الروذباري عن أبي بكر بن داسة عن أبي داود، ونقل رواية أبي داود.

وواضح أن الأول كان مختتنُا فأمره النبي بالاستحداد (حلق شعر العانة) فقط، بينما الثاني لم يكن مختتنًا فأمره بالاستحداد والختان. وهو ما يُفسر اقتران حلق الشعر بالختان في الحديث بأن ما قصد إليه النبي صلى الله عليه وسلم أن يُحلق هو شعر العانة، لأن المشركين لم يكونوا يحرصون على حلقه لعدم حرصهم على الطهارة، أما وقد دخل الرجل في الإسلام فوجب عليه أن يتطهر ليلقى ربه طاهرًا في اليوم خمس مرات، ولم يُعرف عن النبي صلى الله عليه وسلم أن أمر الصحابة بحلق الرءوس. ولكن الوهابية –وخلافًا للأمة- قد فهموا الرواية على أنها حلق شعر الرأس، وكأن الرسول قد قالها ليفهموها كذلك فيحلقوا رءوسهم فيُفتضحوا وتظهر علامة خوارج آخر الزمان فيهم.

وقد جاء في "الاستذكار" للإمام ابن عبد البر المالكي في كتاب الجهاد (ج14)، باب (ما جاء في السلب في النفل) الأخبار التالية المتعلقة بقصة صبيغ بن عسل والأحنف بن قيس مع أمير المؤمنين عمر بن الخطاب:

19837-عن سليمان بن يسار أن رجلًا من بني تميم يُقال له صبيغ بن عسل قدم المدينة، وكانت عنده كتب، فجعل يسأل عن متشابه القرآن، فبلغ ذلك عمر، فبعث إليه، وقد أعدّ له عراجين النخل، فلمّا دخل عليه، جلس، فقال: من أنت؟ قال: أنا عبد الله صبيغ، فقال عمر: وأنا عبد الله عمر، ثم أهوى إليه، فجعل يضربه بتلك العراجين، فما زال يضربه حتى شجّه، فجعل الدم يسيل على وجهه، فقال: حسبك يا أمير المؤمنين، فقد والله ذهب الذي كنت أجده في رأسي –يعني الوساوس-.

19838-وقال حمّاد بن زيد: وحدّثنا قطن بن كعب، قال: سمعت رجلًا من بني عجلان، يُقال له: خلاد بن زُرعة يُحدث عن أبيه، قال: لقد رأيت صبيغ بن عسل بالبصرة، كأنه بعير أجرب يجيء إلى الحِلق، وكلما جلس إلى حلقة قاموا وتركوه، وقالوا: عزمة أمير المؤمنين ألا يُكلم.

19839- وعن قيس بن أبي حازم، أن عمر ‏بن الخطاب كشف عن رأسه –أي رأس صبيغ بن عسل-، فإذا له شعر، فقال: لو وجدته محلوقًا لعاقبتك أشد العقوبة.

19840- قال أبو ‏عمر –ابن عبد البر-: إنما قال ذلك لقول النبي صلى الله عليه وسلم في الخوارج "سيماهم التحليق".

19841-وقد عرض للأحنف بن قيس مثل ذلك في كشف رأسه مع عمر بن الخطاب؛ لأنه أعجبه ما سمعه منه من البلاغة والحكمة، فخشي أن يكون من الذين قال فيهم النبي عليه السلام: "أخوف ما أخاف على أمتي، كل منافق عليم اللسان"، فكشف عن رأس الأحنف، فوجده ذا شعر، وأثنى عليه قومه، فسُر بذلك عمر.

19842-قال أبو عمر –ابن عبد البر-: كان صبيغ من الخوارج في مذاهبهم، وكان الأحنف صاحب سُنة وعقل ورأي ودهاء.أهـ.

اعترافهم بفضيحة التحليق وتبريرهم إياه

وقد اعترف الوهابية بفضيحتهم التي أنبأ بها الصادق المصدوق كي لا نُخدع بدعاوى التسنن، ونتيقن أنهم خوارج، فأتوا بعلامتهم قبل أن يُبطلوها بعد أن اشتهرت عنهم وجُرّسوا بسببها. ولكنهم قطعًا لم يعترفوا بكونهم خوارج، وإنما برّروا ما حدث منهم من تحليق.

يذكر عبد العزيز بن محمد بن علي العبد اللطيف في كتابه "دعاوى المناوئين لدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب" (ص ص171-172) "ويُفنِّد الشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب فِرية التحليق، فيقول: وأمّا البحث عن حلق شعر الرأس، وأن بعض البوادي الذين دخلوا في ديننا قاتلوا من لم يحلق رأسه، وقتلوا بسبب الحلق خاصة، وأن من لم يحلق رأسه صار مرتدًا، والردة لا تكون إلا بإنكار ما عُلم بالضرورة من دين الإسلام، وأنواع الكفر والردة من الأقوال والأفعال معلومة عند أهل العلم، وليس عدم الحلق منها، بل ولم نقل إن الحلق مسنون فضلًا عن أن يكون واجبًا، فضلًا عن أن يكون تركه ردة عن الإسلام. ونحن لم نأمر أحدًا من الأمراء بقتال من لم يحلق رأسه بل نأمرهم بقتال من أشرك بالله، وأبى عن توحيد الله. ويوضح الشيخ عبد العزيز بن حمد -سبط الشيخ الإمام ابن عبد الوهاب- في جواب له -مجموعة الرسائل والمسائل 4/578-، بعضًا من أحكام حلق شعر الرأس، ويذكر السبب في حلقه عندهم في بلاد نجد، فقال رحمه الله: فالذي تدل على الأحاديث، النهي عن حلق بعض وترك بعض، فإما تركه كله فلا بأس به، إذا أكرمه الإنسان كما دلّت عليه السُنة النبوية. وأما حديث كليب فهو يدل على الأمر بالحلق عند دخوله في الإسلام إن صحّ الحديث، ولا يدل على أن استمرار حلقه سُنة، وأما تعزير من لم يحلق وأخذ ماله فلا يجوز وينهى فاعله عن ذلك؛ لأن ترك الحلق ليس منهيًا عنه، وإنما نهى عنه ولي الأمر؛ لأن الحلق هو العادة عندنا، ولا يتركه إلا السفهاء عندنا، فنهى عن ذلك نهي تنزيه لا نهي تحريم سدًا للذريعة؛ ولأن كفار زماننا لا يحلقون فصار في عدم الحلق تشبهًا بهم"أهـ.

وأقول: بل اختصّكم الله بفضيحة عيانية، وعلامة ظاهرة، ولم يختص خوارج قبلكم بعلامة عيانية ظاهرة إلا الحرورية الذين خرجوا على أمير المؤمنين عليّ عليه السلام.

وإن كانت كل سمة يمكن أن تؤول بأنها كانت في غيرهم، فالتحليق تحديدًا لم يظهر إلا فيهم، وتعليل وتبرير ‏مشائخهم بأن التحليق لم يكن معروفًا عند أعدائهم فأمروا به أتباعهم من باب المخالفة بلاهة من الطبيعي ألا يقولها ‏ثم يصدقها إلا من كانوا بالفعل سفهاء أحلام، فهل تحليق الرءوس كان عادة عند أي جماعة صغرت أم كبرت في ‏تاريخ الأرض حتى يُقال: "لأن كفار زماننا لا يحلقون فصار في عدم الحلق تشبهًا بهم"؟!

وادعاؤهم وفقًا لأحد مشائخهم بأن الحلق هو العادة عندهم، ولا يتركه إلا السفهاء كذب وقاح، بل لم يصبح ‏عادة ويتسامع بها القاصي والداني إلا عندما أمر بها ابن عبد الوهاب رأس الكفر.‏

وورد في الكتاب نفسه "دعاوى المناوئين" (ص168) نقلًا عن الشيخ محسن بن عبد الكريم في كتابه "لفحات الوجد عند فعلات أهل نجد، ق 76": "والتحليق الذي صار شعارهم، فلا يقبلون من أحد الدخول فيما هم فيه حتى يحلق رأسه، حتى قال المولى عبد الله بن عيسى في كتابه "السيف الهندي": إنه بلغني أنه حلق ناس من أهل تهامة رؤوسهم على ضوء السراج نحو ستمائة رجل في ليلة واحدة فكيف بالنهار..".

تفاصيل فتنتهم

يقول الشيخ زيني دحلان في "فتنة الوهابية" –يعني فتنتهم الأولى- (ص ص3: 5): "أما فتنة الوهابية، فكان ابتداء القتال فيما بينهم وبين أمير مكة، مولانا الشريف غالب بن مساعد، وهو نائب من جهة السلطنة العليّة على الأقطار الحجازية، وابتداء القتال بينهم وبينه من سنة خمس بعد المائتين والألف، وكان ذلك في مدة سلطنة مولانا السلطان سليم الثالث. وأما ابتداء أول ظهور الوهابية، فكان قبل ذلك بسنين كثيرة. وكانت قوتهم وشوكتهم في بلادهم –يعني نجد- أولًا، ثم كثر شرهم، وتزايد ضررهم، واتسع ملكهم، وقتلوا من الخلائق ما لا يُحصون، واستباحوا أموالهم، وسبوا نساءهم، وكان مؤسس مذهبهم الخبيث محمد بن عبد الوهاب، وأصله من المشرق، من بني تميم. وكان في ابتداء أمره من طلبة العلم بالمدينة المنورة، وكان أبوه رجلًا صالحًا من أهل العلم، وكذا أخوه الشيخ سليمان، وكان أبوه وأخوه ومشايخه يتفرّسون فيه أنه سيكون منه زيغ وضلال لما يشاهدونه من أقواله وأفعاله ونزعاته في كثير من المسائل، وكانوا يوبخونه ويحذرون الناس منه، فحقّق الله فراستهم فيه. كان ابتداء ظهور أمره في الشرق سنة 1143هـ، وابتداء انتشاره بعد 1150ه. وألّف العلماء رسائل كثيرة للرد عليه حتى أخوه الشيخ سليمان وبقية مشايخه، وكان ممن قام بنصرته وانتشار دعوته من أمراء المشرق محمد بن سعود أمير الدرعية، وكان من بني حنيفة قوم مسيلمة الكذاب، ولمّا مات محمد بن سعود، قام بها ولده عبد العزيز بن محمد بن سعود، وكان كثير من مشايخ ابن عبد الوهاب بالمدينة يقولون: سيَضِلُ هذا أو يُضِل الله به من أبعده ‏وأشقاه، فكان الأمر كذلك، وزعم محمد بن عبد الوهاب أن مراده بهذا المذهب الذي ابتدعه ‏إخلاص التوحيد والتبري من الشرك، وأن الناس كانوا على شرك منذ ستمائة سنة، وأنه جدّد ‏للناس دينهم. وحمل الآيات القرآنية التي نزلت في المشركين على أهل التوحيد كقوله تعالى: ‏﴿‏وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَن لَّا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَن دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ‏‏﴾‏‏ ‏[الأحقاف: 5]، ‏وكقوله تعالى: ‏‏‏﴿‏‏‏وَلَا تَدْعُ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ‏‏﴾‏‏ [يونس: 106]،‏‏ ‏وكقوله تعالى: ‏‏‏﴿‏‏‏وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُم‏‏﴾‏‏ [الرعد: 14]، وأمثال هذه الآيات في ‏القرآن كثيرة"أهـ.

‏وأقول: إذًا فآل سعود من بني حنيفة قوم مسيلمة، ومحمد بن عبد الوهاب شيخهم المتنبي من بني تميم قوم ذي الخويصرة؛ وبهذا اكتملت الخلطة العجيبة اللازمة لخروج المارقة من الدين، فاجتمعت بنو حنيفة مع بني تميم جهة المشرق! وكأنه أشبه بزواج الكذابين مسيلمة الحنفي بسجاح التميمية. ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذكر رأس الكفر التي عند المشرق "حيث يطلع قرنا الشيطان، في ربيعة ومضر"؟! وبنو حنيفة من ربيعة، وتميم من مُضر، وكلاهما يسكنان جنوب الرياض، على هضبة عالية جهة الشرق من المدينة، وعلى خط العرض نفسه.‏

وقد حفظ الطبري في "تاريخ الرسل والملوك" (ج8، ص652) كلمة للمأمون العباسي قال فيها: "وأما ربيعة فساخطةٌ على الله منذ بعث نبيه من مُضَر؛ ولم يخرج اثنان إلا خرج أحدهما شاريًا "أهـ. والشُراة هم الخوارج، ويعني أن نصفهم خوارج.

وفي بداية أمر ابن عبد الوهاب أُخرج عدة مرات، مثل إخراجه من البصرة أو العُيينة بالأحساء، ولكن علا شأنه بعد تحالفه مع أمراء آل سعود، وقد قام الوهابية ومن تحالفوا معه من الأمراء بمجازر في حق المسلمين بمناطق الجزيرة العربية، بدءًا بالتوسع في نجد، ويذكر الرافعي في "عصر محمد علي" (ص123) أن محمد بن عبد الوهاب، بعد أن تُوفي سنة 1206هـ (1792م) "ظلت دعوته تنمو وتضطرد بفضل تأييد عبد العزيز –بن محمد بن سعود- لها، وتنكيله بالقبائل التي لا تدين بها، فامتد نفوذ الوهابيين إلى ولاية البصرة، وزحفوا على كربلاء، مثابة الشيعة، واستولوا عليها سنة 1801م، وأمعنوا في أهلها قتلًا، ونهبوا المدينة، وهدموا مسجد الحسين بن عليّ رضي الله عنهما، وأخذوا ما في قبته من النفائس والجواهر". ثم يتبع الرافعي أنه؛ وكردّ فعل لما أحدثه الوهابيون في كربلاء من الفظائع "جاء الدرعية –عاصمة الوهابية الأولى- شيعي متنكر، واغتال الأمير عبد العزيز، وهو قائم يُصلي العصر، في جامع الدرعية، سنة 1803م، فخلفه ابنه سعود في الإمارة"أهـ. ولم يكن ما فعلوه في كربلاء إلا مثالًا، فقد توسعوا في فتوحاتهم، حتى دخلوا مكة والمدينة، وسرقوا كل ما أهداه الخلفاء والسلاطين والملوك للحجرة النبوية عبر قرون، والأدهى كان تحكمهم في فريضة الحج، ومنعهم القادمين ممن ليسوا على عقيدتهم من أدائها.

وقد حاول عدد من الولاة العثمانيين محاربتهم، كالشريف غالب بن مساعد، شريف مكة، وسليمان باشا والي العراق، ولكن الوهابية دحروهم. ثم قام محمد علي باشا والي مصر بتسيير حملة كبيرة بقيادة ابنه طوسون باشا سنة 1811م، دخلت في معارك كثيرة مع الوهابيين، واستطاع استعادة ينبع والمدينة ومكة والطائف، قبل أن ينقلب الوضع على الجيش المصري عسكريًا، وتنتشر فيه الأمراض بسبب الإعياء، ويضطر محمد علي باشا للسفر بنفسه مع المدد، وحقق الجيش المصري انتصارات، وأمّنوا الحجاز، حتى استطاع المسلمون من كل الجهات أن يؤدوا فريضة الحج الموافقة لعام 1814م، ولكن اضطر محمد علي باشا للعودة إلى مصر سنة 1815م، بسبب مؤامرة كانت تُدبر في غيبته، وتبعه طوسون باشا بشهور، وكانت مساعي الصلح مع الوهابية لم تُفلح. وأعد محمد علي باشا حملة ثانية بقيادة ابنه إبراهيم باشا، وسيّرها إلى جزيرة العرب في سبتمبر 1816م. وانتهى أمر الوهابية بسقوط عاصمتهم الدرعية بيد القوات المصرية التابعة للسلطنة العثمانية بقيادة إبراهيم باشا سنة 1233هـ/سبتمبر 1818م، وقبض على بعض رءوسهم ومعاونيهم، فقُتل بعضهم، وأُسر بعضهم، فقُتلوا بعد ذلك بالقاهرة والاستانة. وانتهت فتنتهم الأولى.

لكن فكرهم التكفيري لم يكن قد استؤصل تمامًا، فعاد ونما كالسرطان، وكان إبراهيم باشا قد أخرب الدرعية خرابًا كليًا، فحاول بعض من بقي من أمرائهم إعادة دولتهم، ولكن جعل عاصمتهم هذه المرة الرياض، وتوسعوا مرة ثانية وقاتلوا أمراء الجزيرة العربية، حتى قامت دولتهم الثانية ثم دالت، ثم مع مطلع القرن العشرين الميلادي –في القرن الثالث عشر الهجري- استعادوا الرياض والمناطق التي فقدوها تباعًا من خلال معارك كثيرة، حتى دانت لهم أغلب مناطق جزيرة العرب، وبعد توطد الأمر لهم ساعد ذلك على نشر مذهبهم. ثم ظهرت الجماعات الإرهابية المنتحلة لهذا الفكر التكفيري كالقاعدة في نهاية القرن العشرين، ثم حلت بنا فتنة ربما لم تمر سابقة عليها في تاريخ الإسلام، وهي فتنة داعش. وحسبنا الله ونعم الوكيل.

لماذا هم خوارج؟

إن هذه الدعوة المسماة بالسلفية أو الوهابية هي سبب إحياء فكر الخوارج التكفيري في المجتمعات الإسلامية المعاصرة. وهي أخطر ما تعانيه الأمة في زماننا. فهم خوارج لأنه قد ظهرت فيهم صفة وعلامة التحليق –حتى للنساء-، وهي علامتهم التي ميزتهم عن باقي جماعات الخوارج كما جاء في الحديث الشريف. وهم خوارج لتكفيرهم الناس واستباحة دمائهم، واستباحة أموالهم، مثلما فعلت كل طوائف الخوارج من قبلهم. وهم خوارج لاتهامهم المسلمين بالشرك وتطبيق نصوص القرآن التي نزلت في المشركين والكافرين على المسلمين. وهم خوارج لاعتقادهم أنهم وحدهم الفئة الناجية وتخطئتهم حتى لأئمة السُنة وتبديعهم، ولم يسلم منهم حتى كبار أئمة الحنابلة كابن الجوزي والذهبي. وهم خوارج لمنعهم الحجيج من الوصول إلى بيت الله الحرام وأداء المناسك، وهو فعل القرامطة قديمًا، بل ونهبوا الحجرة النبوية وأخذوا ما فيها من الأموال والجوهر.

وكان الوهابية قد منعوا الحجيج المصري والشامي سبع سنين قبل أن يهزمهم إبراهيم باشا. ويذكر مؤرخ الوهابية عثمان بن بشر النجدي الحنبلي في كتابه "عنوان المجد في تاريخ نجد" (ج1، ص292) في حوادث سنة 1221هـ "فلما خرج سعود من الدرعية قاصدًا مكة، أرسل فرَّاج بن شرعان العتيبي، ورجاله معه، لهؤلاء الأمراء المذكورين، وذكر لهم أن يمنعوا الحواج التي تأتي من جهة الشام واستنبول ونواحيهما، فلما أقبل على المدينة الحاج الشامي ومن تبعه، وأميره عبدالله العظم باشا الشام، فأرسل إليه هؤلاء الأمراء أن لا يقدم إليهم، وأن يرجع إلى أوطانه". وفي حوادث سنة 1223هـ (ص297) يذكر أنه "لم يحج في هذه السنة أحد من أهل الشام ومصر والعراق والمغرب وغيرهم إلا شرذمة قليلة من أهل المغرب لا اسم لهم حجوا بأمان".

وفي القرن العشرين مُنع الحاج السوري من الوصول إلى مكة سنة 1959هـ، كما مُنع الحجاج اليمنيين على إثر خلافات سياسية، وكذا حدث مع الحجاج الليبيين لسنوات، وأُرجعت الكسوة المرسلة من مصر كهدية للكعبة المشرفة، والتي كانت مصر تقدمها لقرون، كما استأثروا بالإمامة والوعظ في الحرمين الشريفين في مشائخ مذهبهم، وهي سابقة لم يحدث مثلها في تاريخ الإسلام. والأسوأ هو واقعتين قام فيها الجنود بفتح النيران على الحجيج. الأولى ضد الحاج اليماني سنة 1341هـ ‏‏/ 1921م والثانية ضد الحاج الإيراني سنة 1408 هـ/ 1988م.‏

شيخهم المتنبي!‏

كانت العقيدة الأشعرية قد انتشرت في ربوع بلاد الإسلام من المشرق إلى المغرب، ولكن كانت عقيدة ومذهب الحنابلة ‏–والإمام أحمد منها براء- ‏منتشرة في نجد، من القرن التاسع الهجري، محمّلة بأفكار ابن تيمية.

ومن يقرأ للوهابية يفهم مباشرة نظرة محمد بن عبد الوهاب إلى المسلمين في عصره، فممارساتهم بالنسبة إليه كانت شركًا، تستحق منه الجهاد ضدهم واستحلال دمائهم وحرماتهم، فكان يحاربهم ويسمي ما يفعله بهم غزوات، ويسبي نساءهم وأطفالهم. ويبدو أن الرجل من الناحية النفسية كان يرى في نفسه استئهالًا للنبوة، لأن هذا التصور لمجتمعه على أنه المجتمع المسلم الصغير الذي تقابله ديار شرك، لم يوجد سوى في عصر النبوة الأولى، وحتى الخوارج الأوائل كفّروا المسلمين، ولم يُسموا حروبهم معهم غزوات. كما أنه قد أطلق على حركته مسمى "دعوة"! فلأول مرة منذ أن صدع رسول الله صلى الله عليه وسلم بدعوة الإسلام نجد شخصًا يتزعم فرقة من الفرق يُطلق على ما يعرضه مسمى "دعوة". وكانوا يقولون لمن يتبعهم أنه دخل في ديننا! والعجيب أن الوهابية المحدثين يصدّقون على ذلك التصور، ولا يرون فيه أدنى مبالغة.

كانت دعوة ابن عبد الوهاب تقوم على أساس تكفير جميع المسلمين؛ إذ تتضمن في أغلبها مخالفات ابن تيمية التي ابتدعها ونسبها للسلف وحُبس مرارًا بسببها، وهي: تحريم التوسل بالنبي، وتحريم السفر ‏لزيارة قبر الرسول، وإلغاء الطلاق المحلوف به عند الحنث فيه، وعقيدة حنابلة بغداد التجسيمية لذات الله تعالى بنسبة الجوارح إليه وتحييزه في جهات. كما ابتدع ابن عبد الوهاب بعض المستجدات مما لم يُسبق إليها كمحاربة التصوف وتحريم الاحتفال بالمولد الشريف خلافًا لابن تيمية الذي لم يحرِّمه. قال في كتابه "اقتضاء الصراط المستقيم" عند حديثه عن الاحتفال بمولد النبي عليه الصلاة والسلام: "إن هذا لم يفعله السلف مع قيام المقتضى له، وعدم المانع منه، ولو كان هذا خيرًا محضًا أو راجحًا لكان السلف رضي الله عنهم أحق به منا". ‏وكان من أول ما يفعلونه الوهابية عند السيطرة على منطقة أو عندما تتحالف معهم هو هدم الأضرحة، -ولا زال هذا دأب السلفية المعاصرين-. وكانت أول قبة قبر هدمها ابن عبد الوهاب قبة قبر زيد بن الخطاب.

وقد كتب من علماء القرن الثاني عشر الهجري ردودًا على الوهابية، منهم أخي محمد بن الوهاب، الشيخ سليمان بن عبد الوهاب النجدي، الذي صنّف رسالة بعنوان "الصواعق الإلهية في الرد على الوهابية".

والوهابيون يرفضون تلك التسمية، ويُحبون أن يُسموا بالسلفية نسبة إلى ما كان عليه السلف الصالح، وقد سبق وناقشنا صحة إطلاق هذا المسمى عند نقد عقيدتهم. ولكن منتقديهم يُصرون على تلك التسمية ويرفضون أن ينسبوهم إلى السلف.

أفكار الوهابية

يعدد السيد حسن السقاف في كتابه "السلفية الوهابية.. أفكارها الأساسية وجذورها التاريخية" أهم أفكار الوهابيين السلفيين في الآتي:

1- عقيدة التشبيه والتجسيم في حق الله تعالى.

2-النَصْب: وهو عدم احترام النبي ولا آل بيته، ومناصبتهم العداء ولو بطرق خفية.

3- ادعاء أنهم هم الفرقة الناجية دون بقية المسلمين.

4- الإرهاب الفكري المتمثل برمي المخالفين وبقية الفرق والمذاهب الإسلامية بالشرك والكفر والضلال والبدعة، ومن ثم رفض فكرة التقريب بين المذاهب الإسلامية وتوحيد الجهود. وكمثال: بغض الإمام أبي حنيفة عند السلفيين الوهابيين.

5- محاربتهم للتصوف الإسلامي، ومجالس الذكر والصلاة على النبي والموالد والأولياء، وعليه فإن منهجهم جاف بعيد عن الروحانيات.

6- رفضهم للتأويل، وعدم اعترافهم بأئمة المفسرين وكتب التفاسير، وعدم التفاتهم لأساليب اللغة العربية، كالاستعارة والمجاز والشعر الجاهلي في تفسير القرآن وفهم النصوص الشرعية.

7-عدم رغبتهم بالاستدلال بالقرآن الكريم، وإنما بالحديث والأثر، ويعيبون المستدلين والمهتمين بالقرآن بأنهم قرآنيين.

8- تصحيحهم وتضعيفهم الحديث حسب ما يقتضيه رأيهم ومذهبهم، وتلاعبهم وتحريفهم للحديث، وتناقضهم في ذلك.

9-عدم أخذهم بالإجماع إلا فيما يوافقهم، ولهم تناقضات في هذه المسألة.

10-عدم إيمانهم في القياس في العبادات مع أنهم يستعملون القياس في مسألة قياس الخالق على المخلوق"أهـ.

أما من وجهة نظرهم فهم يعتبرون أنهم لا يقولون كالخوارج بالتكفير بالذنوب، بل هم يكفّرون من فعل المكفِّرات كالشرك بالله، والتي ترجمتها العملية كثير من الأفعال التي قد يقع فيها المسلمون، فالمحصلة واحدة! كما يعتقدون أن ممارساتهم كهدم الأضرحة والقباب كقبور البقيع، وهدم الآثار الإسلامية، كهدم بيت أبي أيوب الأنصاري، ومكان ولادة النبي صلى الله عليه وسلم، وردم بئر الخاتم، وطمس معالم بستان سلمان الفارسي، وكانت به نخلة غرسها الرسول بيده، وغيرها من الآثار، ومنع المسلمين من التوسل والتبرك بالرسل والصالحين أحياءً وأمواتًا، هي دعوة إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأنهم يهدفون إلى إعادتهم إلى التوحيد الخالص، وإلزام الناس بالاعتقاد بصفات الله تعالى –كما فهموها- التي تعبر مثيلاتها لدى البشر عن جوارح، ولا يرون في هذا تشبيهًا ولا تجسيمًا ولا تجزيئًا لا يليق بالله تعالى. وهذا من ضيق نظرتهم وأفقهم، ومحدودية عقولهم. وهذه صفة أساسية فيمن يعتقد تلك العقيدة. وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ وصفهم بأنهم "سفهاء الأحلام"، والحلم هو العقل. وشأنهم في هذا شأن الحروريين الذين كانوا حمقى يسيئون تفسير آيات القرآن كآية ‏‏‏﴿إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ﴾‏‏‏‏ [يوسف: 40]، حتى كفَّروا إمام زمانهم سيدنا علي، رغم أنهم كانوا عبادًا راكعين ساجدين.

ويُعدِّد السيد حسن السقاف في كتابه طرق انتشار السلفية الوهابية في الآتي:‏

1- بث الدعاة المروجين لهذا الفكر، وهم إما خطباء أو أئمة مساجد أو باحثين مستقلين أو مدرسين في الجامعات والمدارس.

2- جمعيات أو جماعات قائمة في العديد من البلدان.

3- نشر الكتب الوهابية وغيرها من الكتب القديمة والحديثة، وترجمتها إلى لغات مختلفة.

4- نشر شرائط الكاسيت الخاصة بدعاتهم.

5- بث الأفكار عن طريق إذاعات وقنوات خاصة.

6- بث الأفكار والجدل عبر الانترنت.

7- وجود أشخاص يُعيّنون دعاة الوهابية السلفية في وظائف دينية، وغيرها.

8- إنشاء جامعات ومدارس شرعية تتبنى هذا الفكر.

أما طرق قمعهم للحوار والنقاش لمن يعارضهم فتتمثل في:

1-الحجر الفكري المتمثل بنظرية هجر المبتدع.

2-استعمالهم الكيد، وبث الإشاعات الكاذبة على مخالفيهم وخصومهم.

3-الشجار والضرب والتخريب والاقتتال.

4-تحريف كتب التراث والنصوص"أهـ.

وأقول: إن من أسوأ ما يقومون به هو تحريف واجتزاء كتب التراث لحذف ما لا يتفق مع عقيدتهم، وللمساعدة على نشرها، حتى لا يشك العامة في تلك العقيدة التي يُدعى لهم أنها عقيدة السلف عندما يقرأون لكبار علماء المسلمين ما يُخالفها. مثل ما فعلوا في كتاب الأذكار للنووي، وحاشية ابن عابدين الحنفي، وحاشية الصاوي على تفسير الجلالين. وحذف كل كلمة تدل على مشروعية زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم والتوسل عنده والتشفع به من كتب التراث، مثل قصة العتبي الشهيرة مع الأعرابي الذي قال قصيدة "يا خير من دُفنت بالقاع أعظُمه...."، وغيرها.

إن هذه العقيدة تخرج بالإسلام عن جوهره كدين الرحمة. ولها موقف سلبي من كل ما هو حضاري. فموقفها سلبي من المرأة والكثير من العلوم والفنون الراقية، وتقوم على مخاصمة العقل، ولا تعترف بحرية العقيدة، وقيم المواطنة. وتعادي كل ما عداها، مسلمين وغير مسلمين، وكأنهم قد احتكروا الجنة لأنفسهم. فهي دعوة جاهلية، وإرهاب للآخرين، ليس لها علاقة بالإسلام ولا بالحضارة.

وأخيرًا فإنه كان بإمكاني أن أؤلف كتابًا منفصلًا عن الفتن التي أشاعها السلفية، وما رواه كتاب التاريخ عنها، فهذا غيض من فيض.

وكما أن للتشيع وجهان؛ أحدهما محمود "التشيع العلوي"، والآخر مذموم "التشيع الصفوي"، والذي يقوم على السب والقدح، فلا شك أن للدعوة السلفية أيضًا وجهين؛ أحدهما مذموم، وهو ما يشوِّه الإسلام ويخرج به عن جوهره، والآخر محمود، وهو ما يأمل فيه كل مسلم، بالعودة إلى روح الإسلام وعزه وقوته وقيمه.

وأخيرًا، فأنا لم أكتب ما كتبت لأكفِّرهم مثلما يُكفِّرون من عداهم. ‏قال تعالى: ‏‏‏﴿وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ‏‏﴾‏‏ [الإسراء: 13]. وإعطاء حكم عام على ملايين لأن أشخاصًا ‏قد حلّلوا أو حرموا مرفوض، وما أدرانا أن الذين نتهمهم قد فعلوا المنسوب لجماعتهم، وأنهم واعون بالمعنى الذي نفهمه.‏

وروى الإمام البخاري في صحيحه (391) عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من ‏صلى صلاتنا، واستقبل قبلتنا، وأكل ذبيحتنا، فذلك المسلم الذي له ذمة الله وذمة رسوله، ‏فلا تُخفروا الله في ذمته". ونحن لا نُكفر أحدًا من أهل القبلة.

***

د. منى أبو بكر زيتون

مُستل من كتابي "التطرف الديني الإسلامي.. نشأته وأسبابه وآثاره وطرق علاجه"

................

لتحميل بعض من كتب د. منى زيتون بصيغة pdf

https://payhip.com/DrMonaZaitoon

(الحلقة الثانيّة من منهج علم الكلام).

ثانياً: المدرسة الكلاميّة:

المدرسة الكلاميّة من حيث الجوهر، هي مدرسة تميل إلى الفلسفة، وترى التمسك بظواهر النصوص الدينيّة المقدسة أمراً صحيحاً في نفسه. ومع ذلك لا بد من استخدام العلوم الأخرى للوصول إلى الحقيقة، وخاصة المنطق الأرسطيّ، لإثبات العقائد والدفاع عنها تجاه الآخرين، مثلها الأشاعرة والمعتزلة. (1).

بتعبير آخر: هي مدرسة تستخدم مناهج عدة في عمليّة التشريع ومنها منهج أهل الحديث، والمنهج العرفانيّ والوجدانيّ والتكامليّ والعقلانيّ. بيد أن العقل والأدلة العقليّة تظل هي المنطلق الأساس للوصول إلى الحقيقة عند أهل الكلام. ففي الوقت الذي نرى فيه المدرسة الأشعريّة في علم الكلام على سبيل المثال حتى هذا التاريخ تستخدم العقل، واستخدامها للعقل هنا لا يأتي للحكم على النص وإدخال العقل في (تفكيكه وتحليله ومدى قدرته على تحقيق مقاصده في الواقع المعيوش)، وإنما يأتي استخدامه لتثبيت النص وفق ما أقره تفسيراً وتأويلاً وفقهاً السلف الصالح. أي الأخذ بما قاله فقهاء العصور الوسطى تفسيراً وتأويلاً، وبالتالي فالأشاعرة منهجياً هم أقرب إلى النقل منه إلى العقل سابقاً ولاحقاً، هذا مع تبنيهم المنهج الصوفيّ العرفانيّ أيضاً، كونهم اعتنقوا أو تبنوا الصوفية منذ أن أصلها أبو حامد الغزالي في الفكر الشعري. أي هو ذاته من ربط الفكر الأشعري بالفكر الصوفي وحارب العقل النقدي في كتابه "التهافت" كما هو معروف.

أما عند المعتزلة: فيأتي استخدام العقل لتفسير وتأويل دلالات النص انطلاقاً من اشتغال العقل على مجاز اللغة بشكل خاص، كما فعل رجال المعتزلة كـ (واصل بن عطاء، وعمرو بن عبيد، وإبراهيم النظام، وهشام بن عمرو الفوطي، والزمخشري صاحب تفسير الكشاف، والجاحظ، والخليفة المأمون، والقاضي عبد الجبار.) وكذلك بعض الفلاسفة كـ (ابن حيان التوحيدي والكندي والفارابي...)، وابن رشد الذي ربط بين الشريعة والحكمة، أي بين الدين والفلسفة.

تعريف علم الكلام:

هو علم يقتدر به على إثبات العقائد الدينيّة بإيراد الحجج عليها، ودفع الشبه عنها وإلزام الخصم بها. وهو علم يعنى بمعرفة الله تعالى والإيمان به ، ومعرفة ما يجب له وما يستحيل عليه وما يجوز، وكذلك معرفة الرسول، وسائر ما هو من أركان الإيمان الستة (الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله والإيمان باليوم الآخر والإيمان بالقدر أوله وآخره)، بشرط أن لا يخرج كل ذلك عن مدلولات الكتاب، والسنة الصحيحة، وإجماع العدول، وفهم العقول السليمة في حدود القواعد الشرعيّة، وقواعد اللغة العربيّة الأصيلة. وهناك عدة تعريفات لعلم الكلام، جاء بها العديد من الفقهاء وعلماء الدين القدماء، مثل علم التوحيد، وعلم أصول الدين، وعلم الإيمان، وعلم الأسماء والصفات، وعلم أصول السنة، وتختلف هذه التعريفات أو المفاهيم في ظاهرها، ولكنها في حقيقتها ترجع إلى حقيقة واحدة، تتجسد في تعريف "الفارابي: " بأنه «ملكة يقتدر بها الإنسان على نصرة الآراء والأفعال المحمودة التي صرح بها واضع الملة، وتزييف كل ما خالفها بالأقاويل». أو أو في تعريف "عضد الدين الإيجي" في المواقف بقوله: "علم يقتدر معه على إثبات العقائد الدينيّة بإيراد الحجج ودفع الشبه، والمراد بالعقائد ما يقصد به الاعتقاد نفسه دون العمل، وبالدينيّة المنسوبة إلى دين الإسلام، فإن الخصم وإن خطأناه لا نخرجه من علماء الكلام". وإذا كان كل من "الفارابي" و"الإيجي" قد جعلا علم الكلام يقوم على نصرة العقيدة الإسلاميّة دون تمييز بين الفرق الإسلاميّة، فإننا نجد "ابن خلدون" في مقدّمته يحصر التعريف في نصرة الاعتقادات على مذهب السلف وأهل السنة ويخرج باقي الفرق فيقول في تعريفه لعلم الكلام: «هو علم يتضمن الحجاج عن العقائد الإيمانية بالأدلة العقلية والرد على المبتدعة المنحرفين في الاعتقادات عن مذاهب السلف وأهل السنة، وسر هذه العقائد الإيمانية هو التوحيد». وهو في هذا يوافق ما ذهب إليه "الغزالي" في المنقذ من الضلال. كما عرفه "الجرجاني" بقوله: «علم يبحث فيه عن ذات الله وصفاته وأحوال الممكنات من المبدأ والمعاد على قانون الإسلام». (2). وسماه "أبو حنيفة" بـ"الفقه الأكبر" من حيث إنه يتعلق بالأحكام الاعتقاديّة الأصليّة في مقابل علم الفقه الذي يتعلق بالأحكام الفرعيّة العمليّة. وفي شرح العقائد النسفيّة يسميه "التفتازاني" علم التوحيد والصفات، فيذكر أن العلم المتعلق بالأحكام الفرعيّة، أي العمليّة، يسمى علم الشرائع والأحكام، وبالأحكام الأصليّة، أي الاعتقاديّة يسمى علم التوحيد والصفات. وقال "سعد الدين التفتازاني": «الكلام هو العلم بالعقائد الدينيّة عن الأدلة اليقينيّة».(3).

أهداف علم الكلام وأهميته:

إذاً وفق التعاريف الواردة عن علم الكلام التي جئنا عليها أعلاه، يقوم علم الكلام على بحث ودراسة مسائل العقيدة الإسلاميّة بإيراد الأدلة وعرض الحجج على إثباتها، ومناقشة الأقوال والآراء المخالفة لها، وإثبات بطلانها، ودحض ونقد الشبهات التي تثار حولها، ودفعها بالحجة والبرهان. فمثلًا إذا أردنا أن نستدل على ثبوت وجود خالق لهذا الكون، وثبوت أنه واحد لا شريك له، نرجع إلى هذا العلم، وعن طريقه نتعرف على الأدلة التي يوردها العلماء في هذا المجال. وعلى ذلك فأن هذا العلم هو الذي يعرفنا بالأدلة والبراهين والحجج العقليّة التي باستخدامها نستطيع أن نثبت أصول الدين الإسلاميّ، ونؤمن بها عن يقين. كما أنه هو الذي يعرفنا كيفيّة الاستدلال بها وكيفيّة إقامة البراهين الموصلة إلى نتائج يقينيّة تتعلق بها. فإذا أردنا أن ننفي شبهة التجسيم عن الذات الإلهيّة مثلاً، نرجع إلى هذا العلم، وعن طريقه نستطيع معرفة ما يقال من نقد لإبطالها أو لإثباتها. ومن جهة أخرى لابد للأدلة التي يستدل بها على إثبات أي أصل من أصول الدين، أو أي مسألة من مسائل هذا العلم وقضاياه، يجب أن تكون مفيدة لليقين، أي لا يدخله الشك.

مناهج البحث في علم الكلام:

هي الطرق التي يعتمدها المشتغلون بعلم الكلام عند دراستهم مسائله وقضاياه، وأفكاره ونظرياته المتعلقة ببحث الفكر الدينيّ وتشريعاته، وهي تختلف باختلاف وجهات نظر علمائه ومدارسه التي تعرف بالفرق الكلاميّة.

ويتلخص هذا، في أن للمذاهب الاسلاميّة الكلاميّة خمسة مناهج معتمدة في البحث والدراسة، وهي:

1 - المنهج النقليّ.

2 - المنهج العقليّ.

3 - المنهج التكامليّ.

4 - المنهج الوجدانيّ.

5 - المنهج العرفانيّ.

أولاً: المنهج النقليّ أو الإخباري أو أهل السلف، وقد جئنا عليه في الحلقة الأولى:

المنهج العقلي:

ويتمثل في الاعتماد على:

1- الضرورة العقليّة (بداهة العقول).

2- سيرة العقلاء.

3- البديهيات العقلية (المنطقيّة) وهي: استحالة الدور، و(الدور هو أن يحتاج الأول إلى الثاني والثاني إلى الأول، إما بواسطة أو بغير واسطة، كما ذكر الفخر الرازي في المباحث المشرقية. أو قالوا: هو توقف الشيء على ما يتوقف عليه بمرتبة أو أكثر، كما جاء في مطالع الأنظار. أو قالوا: هو أن يكون شيئان كان منهما علة للآخر بواسطة أو بدونها، كما جاء في شرح المواقف. وهذا البرهان ينتهي إلى استحالة اجتماع النقيضين.). واستحالة التسلسل، أي (توقف التسلسل الحدثي للعلة والمعلول عند حد لا يمكن تجاوزه، كأن نقول عند الله يتوقف تسلل العلل، فهو علة الخلق ولا يوجد ما قبله علة).(4).

4- المبادئ الفلسفية المسلم بها، مثل: مبدأ العليّة: أي (السببية، والتسبيب هو موضوع فلسفي وبشكل أخص يتعلق في فرع فلسفة العلوم، وتعني بالعلاقة بين حدث يسمى السبب، وحدث آخر يسمى الأثر، بحيث يكون الحدث الثاني (الأثر) نتيجة.). وهناك مبدأ القسمة الى الواجب والممكن والممتنع، (فالأول "الواجب" (وهو الذي قد وجب وظهر، أو ما يكون مما لا بد من كونه، كطلوع الشمس كل صباح، وما أشبه ذلك). والثاني "الممكن" وهو: (الذي قد يكون وقد لا يكون، وذلك مثل توقعنا أن تمطر غدًا، وما أشبه ذلك، وهذا يسمى في الشرع: "الحلال والمباح"). والثالث هو الممتنع: (الذي لا سبيل إليه، كبقاء الإنسان تحت الماء يومًا كاملًا ..). (5).

5 - اعتبار النصوص الشرعيّة مؤيدة ومؤكدة لمدركات العقل واأحكامه.

6 - تأويل النصوص الشرعيّة التي تخالف بظاهرها مرئيات العقول وفق مقتضيات القرينة العقلية. و(القرينة تتعلق بالمعنى والمبنى في اللفظ. منها ما هو لفظي ومنها ما هو معنوي).

7 - الأخذ بالمتشابه، أي بتأويله في ضوء ما ينهي اليه النظر العقلانيّ. وهذا هو منهج المعتزلة ومن تأثر بهم. (6).

ملاك القول:

يقوم منهج المتكلمين على دعامتين أساسيتين هما: العقل والنقل، وقد ذهبوا إلى عدم تعارضهما، وقالوا: (لا يمكن أن يخالف العقل الصحيح النقل الصحيح بحال)، وأدخلوا عنصر العقل في المعرفة الدينيّة، وبذلك لا تقتصر على النقل وحده، ودافعوا عن النظر كأحد مصادر المعرفة وأهمها، ضد المنكرين له ومنهم السمنية المقتصرين على الحس. (7)، والسوفسطائية المشككين في المعرفة العقلية. (8)، والحشويّة المنكرين لاستخدام العقل في الدين والواقفين عن ظواهر النصوص. ولم يكتف المتكلمون بذلك بل قرروا وجوب النظر، وإن اختلفوا في مصدر وجوبه إن كان الشرع أم العقل، يقول الجويني: «النظر الموصل إلى المعارف واجب ومدرك وجوبه بالشرع، وجملة أحكام التكليف متلقاة من الأدلة السمعية والقضايا الشرعية»، والمعتزلة تقول: «إن العقل يتوصل إلى درك الواجبات ومن جملتها النظر، فيعلم وجوبه عندهم عقلاً». ويستدل الجويني على وجوب النظر من جهة الشرع بإجماع الأمة على وجوب معرفة الله تعالى، واستبان بالعقل أنه لا يتأتى الوصول إلى اكتساب المعارف إلا بالنظر.

***

د. عدنان عويّد

كاتب وباحث من سوريّة

............................

الهوامش:

1- علم الكلام من ويكيبيديا، لموسوعة الحرة.

2- (مخطوطة – مخطوطات الامام سيف الدين الامدي- رقم 27 الإحكام في أصول الأحكام أصول الفقه) . موقع كتاب بيديا – أكبر مكتبة عربية حرة.).

3- (مخطوطة – مخطوطات الامام سيف الدين الامدي- رقم 27 الإحكام في أصول الأحكام أصول الفقه). المرجع نفسه.

4- (شبكة الأمامين الحسنين، للتراث والفكر الإسلامي. عبدالجبار الرفاعي.). استحالة الدور والتسلسل في العلل. واستحالة اجتماع وارتفاع النقيضين).

5- مركز إسلام ويب - تعريف الممتنع والواجب والممكن.

6- يراجع ايضاً في هذا الاتجاه ايضاً: (شبكة فجر الثقافة – الشيخ عبد الهادي الفضلي – منهج علم الكلام.).

7- السمنية فرقتان: فرقة تزعم أن البُدَّ كان نبياً مرسلاً، وفرقة تزعم أن البُدّ هو البارئ. الوكيبيديا.

8- السفسطائيين صفة نبعت من مصطلح كلمة سفسطة، وهم كانوا نوعًا محددًا من المعلمين في اليونان القديمة، في القرنين الرابع والخامس قبل الميلاد. تخصص العديد من السفسطائيين باستخدام أدوات الفلسفة والبلاغة، لكن أيضًا في المقابل سفسطائيون آخرون علّموا مواضيع كالموسيقى والرياضة البدنية والرياضيات.). الوكيبيديا.

لا يخفى أنّ الإرهاب ليس مجرد ردة فعل ضد أنظمة سياسية مستبدة، سواء أكانت شمولية أم سلطوية تمارس القمع، كما أنّ الارهاب ليس مجرد ردة فعل للفقر المدقع الذي اتسعت دوائره بسبب الفجوة الطبقية العميقة بين الأغنياء والفقراء، كما أنه ليس ردة فعل ضد البطالة التي سرقت أحلام الشباب وقضت على آمالهم وأمانيهم، وإنما الإرهاب ظاهرة بالغة التعقيد لا يمكن اختزالها مطلقا بواحدة من الأسباب السالف ذكرها، وإنما هو صناعة مبرمجة منظمة، صناعة ثقافية / تربوية، في منشأها وتكوينها الأساس.

ويمثل التنظيم الارهابي (دا ع ش) أخطر أنماط الإرهاب، فلقد أحدث هذا التنظيم تخريبا جغرافيا وتاريخيا وتراثيا في الواقع، وصدع نسيج المجتمع، وكفر مللا وديانات ومذاهب، ومارس أبشع أنواع القمع ضد خصومه،ـ وكل ما عداه خصوم ـ وكان لآلة البطش التي يستخدمها اثارها المرعبة في النفوس.

ان مثاقفة الفكر الداع شي تأسست في تصوري بناء على المحاور الاتية:

1 - مثاقفة الافكار المتطرفة المغالية في التراث، متواشعة مع فكري ابن تيمية (661 ـ 728 هـ) في الماضي، ومحمد بن عبد الوهاب (1703 ـ 1791م) في التاريخ القريب.

2 ـ القراءة الحرفية للنصوص الدينية وتفسيرها آليا.

3 ـ المواءمة بين النصوص الدينية والاحداث التاريخية، لدرجة يصبح تاريخ المسلمين هو تاريخ الاسلام، بحيث تعاد صياعة الحاضر في ضوء الماضي.

وما كان لهذا التنظيم أنْ يؤدي أدواره البشعة هذه كلها دون عملية غسيل أدمغة الناس، وتعتمد هذه العملية تأويلا خاصا لنصوص تراثية، وجدت لها قبولا في أنسجة اجتماعية محددة، وأصبحت بعد ذلك حواضن للفكر، وجنودا للقتال.

ومن المؤكد انّ غسيل العقول والادمغة لا يتواري بمجرد تحقيق انتصار عسكري هنا او هناك، لان المشكلة اكبر، بمعنى اخر ان هناك صناعة للثقافة، وصناعة للتربية، ولذلك فإنّ مقارعة هذه الصناعة لا بد أنْ يكون بصناعة مضادة قادرة على الإزاحة والإحلال، إزاحة ما ترسب في العقول من أوهام وأفكار، ربما تكون ترسخت في العقول والنفوس، وإحلال ثقافة بديلة سليمة معافاة، وهذا يعني اننا إزاء معركة ذات صراع ضدي بين ثقافتين ورؤيتين ومنهجين متعارضين متناقضين.

2

وتتجلى معضلة تعرض الأطفال لمدة عامين أو أكثر لعمليات غسيل دماغ مبرمجة، فقادت الى زرع الفكر الارهابي في وجدانهم ومخيلتهم. ولقد خضع هؤلاء الاطفال لمؤثرات إعلامية صادمة كإغراق المخالفين وإحراقهم أو ذبحهم بطريقة بشعة، أو اطلاق الرصاص عليهم، وأكثر من هذا انّالأطفال شاهدوا ذلك مجبرين مرة، ويدفعهم الفضول مرة اخرى، الامر الذي ترك اثرا عميقا في نفوسهم، وانعكس على سلوكياتهم [1].

ويلخص تقرير المؤسسة العربية للتنمية بحوث خبراء نفسيين راقبوا العاب خمسين طفلا في الموصل وتبين أنّ 43 منهم كانوا يلعبون بطريقة عنيفة

إذ كانوا يستخدمون قطع الخشب كسكاكين ومسدسات، ويقلدون الدواعش في القتل والتذبيح الأمر الذي يؤكد تربية جيل مؤمن بالعنف، وينذر بمخاطر لما بعد تحرير الموصل.[2]

ولقد تعرض الأطفال، وبخاصة الفئات العمرية بين (8 -15) الى برمجة وصناعة تربوية ثقافية من خلال الكتب المنهجية التي فرضتها دا ع ش على المناطق التي احتلتها.

وكانت الكتب المنهجية التي اطلعت عليها وهي (19) كتابا تشتمل كلها على مقدمة واحدة ثابتة متكررة، وتحدد هذه المقدمة بعض ملامح السياسة التعليمية، ويمكن تلخيصها بالنقاط الاتية:

يقوم منهج الكتاب على ما اطلق عليه الدواعش (رؤية صافية لا شرقية ولا غربية)، وتتحدد هذه الرؤية بما يأتي:

أ - اتباع خطى السلف الصالح والرعيل الاول لها، وموافقتها للكتاب والسنة.

ب - ابتعادها عن الأهواء والأباطيل وأضاليل دعاة الاشتراكية الشرقية والرأسمالية الغربية.

ج - ابتعادها عن سماسرة الأحزاب والمناهج المنحرفة في شتى اصقاع الارض.

إنّ محتوى الكتب المنهجية يتماشى مع مضمون ما اطلقت عليه داع ش (الرؤية الصافية) التي ترتكز على تعليم التلاميذ الجهاد وفنون القتال، وتسهم هذه الكتب في بث روح الكراهية وتكفير المخالفين وتغرس الافكار المتطرفة في نفوس التلاميذ , ولو توقفنا عند الأاهداف العامة لكتاب التاريخ للصف الأول العلمي ـ على سبيل المثال ـ فانها تتحدد بما يأتي:

1 - تنقية التاريخ من الاباطيل التي اقحمت فيه.

2 - ترسيخ القيم الجهادية في نفوس أبناء الأمة.

3 - تبصير الطلاب بمواقف الولاء والبراءة التي حدثت في السيرة النبوية والخلافة الراشدة [3].

وتعتمد هذه الأهداف على مستوى التطبيق على القراءة الخاصة للأحداث والأسس والمعايير والتفسيرات التي يحددها ابن تيمية ومحمد بن عبد الوهاب، ففي مجال الولاء والبراءة يرى ابن تيمية (إنّ المؤمن يجب موالاته وإنْ ظلمك واعتدى عليك وإنّ الكافر تجب معاداته وإنْ أعطاك وأحسن اليك)[4].

أما أهداف تدريس العصور التاريخية المختلفة فإنها تتحدد بما يأتي:

1 - أنْ يحفظ الطالب الحديث [5] الذي يبشر بعودة الخلافة على منهج النبوة.

2- أنْ يعدد الطالب المراحل التاريخية للمسلمين على اساس الحديث.

3- أنْ يشرح الطالب خطورة القبور والاضرحة على التوحيد.

4- أنْ يبين الطالب اثر الحكام والعلماء في تغيير العقائد.

5- أنْ يعدد الطالب اصناف الشرك القديم عند العرب.

6- أنْ يلاحظ الطالب كيف كان العرب مستضعفين قبل البعثة. [6]

اما كتاب العقيدة للصف الاول الشرعي فانه يعتمد على منهجي ابن تيمية ومحمد بن عبد الوهاب، ويتم الاستشهاد بارائهما، ولذلك فان رؤوس الطواغيت هم: [7]

1 - الحكام الحاكمون بالقوانين الوضعية.

2 - رؤوساء العشائر الذي يحكمون بالعادات والتقاليد.

3 - اعضاء البرلمانات الكفرية.

4 - اعضاء المجالس التشريعية.

5 - القضاة في المحاكم الوضعية.

(وتعد الديمقراطية التي تشتمل على حكم الشعب والتداول السلمي للسلطة والفصل بين السلطات واستقلال القضاء واحترام حقوق الانسان وسيادة القانون، كل ما سبق يعد كفرا مستقلا بذاته) [8]، وكذا الامر في الوطنية التي اصبحت (طاغوتا ويقدس ويعقد عليها الولاء والبراء) [9]. واشار الكتاب كذلك الى احزاب سياسسة قومية وعروبية.[10]

3

ان طرائق تحليل مناهج داع ش يعتمد طريقتين بحسب ريمون المعلولي : (ماذا يقال؟) حيث تكون الكلمات والأفكار هي وحدة التحليل، والثانية (كيف يقال ذلك؟) بمعنى الكيفية التي يتم من خلالها تقديم المحتوى وإظهار الصورة) [11].

وقد يطرح المنهج فكرة الدعوة الى الجهاد او التبشير بالخلافة، سواء أكان باللغة العربية او الانكليزية، ففي كتاب اللغة الانكليزية للصف السادس الابتدائي هناك نص عن احياء الخلافة،ويتلخص مضمونه بمفاجاة ايجابية للمسلمين الحقيقين داخل الدولة الاسلامية الذين شعروا بفخر وسرور، وحرص من يعيشون خارجها بالهجرة اليها. غير ان احياء الخلافة صدم غير المسلمين من يهود ونصارى ورافضة وبقية الكفار الذين شرعوا يحاربون دولة الخلافة [12].

ان النص يصنف الناس الى قسمين، جلهم يقع في دائرة الكفر، والمسلمون الحقيقيون هم الدواعش،سواء أكانوا داخل منطقة نفوذ داع ش او في اماكن اخرى.

واذا كانت الافكار هنا تطرح عبر نص باللغة الانكليزية فقد تطرح الافكار في سياق مسائل رياضية، وعندما نطالع بعض كتب الرياضيات فانها تعتمد مسائل الحساب على جمع وطرح البنادق والمسدسات، او تطلب حل اسئلة تشتمل على معارك وجنود.

يشتمل الرياضيات للصف الخامس الابتدائي على مجموعة من المسائل الرياضية:

1 - في احدى المعارك بلغ عدد جنود الدولة الاسلامية 275220 جنديا، في حين ان عدد الجنود الكافرين بلغ 356230 جنديا جبانا، ايهما اكثر عددا ؟ وماالفرق بين عدد الجنود ؟ [13]

2 - تتسع علبة لـ 25 طلقة مسدس، كم قطعة في في 100 علبة، في 1000 علبة ؟ [14]

3 - يرابط احد جنود الخلافة الاسلامية 7 ساعات في اليوم، كم ساعة يرابط في 285 يوما.[15]

4 - اذا كان عدد الوافدين الى دولة الخلافة من جميع الدول 230 يوميا، كم يبلغ عددهم خلال 32 يوم.[16]

5 - في احدى الغزوات تم توزيع 87 مقاتلا على ثلاثة محاور بالتساوي، ما عدد المقاتلين في كل محور ؟ [17]

وقد تطرح الافكار من خلال صورة او لون، حيث يطغى اللون الاسود على كثير من صفحات مناهج داع ش، كون السواد شعارهم، ويضعون ايضا صورا للاسلحة في الفراغات بين الصفحات والوحدات.

4

يمكن وصف المناظق الوسطى والجنوبية في الغراق بعد عام 2003 بانها مناطق شبه مستقرة، بخلاف المناطق الغربية التي لم تعرف الاستقرار، وشهدت اضطرابات عديدة كان اكثرها كارثية الاحتلال الداعشي، وقد تمكنت قواتنا المسلحة والحشد الشعبي ـ بحمد الله ـ من مكافحة الاحتلال، وستتوفق من استئصاله كاملا باذن الله.

واذا كانت الادارة التقليدية للمنظومة التربوية قادرة على ادارة الاعمال الروتينية في الظروف الاعتيادية، فإن المنظومة التربوية بها حاجة الى ادارة خاصة للازمات والمخاطر، وبخاصة في المناطق التي احتلتها داع ش، من اجل مواجهة الظروف الصعبة وحساب الاحتمالات المختلفة واختيار الوسائل المناسبة لها.

واول ما تتحلى به ادارة الازمات والمخاطر:

1- أنْ تتجاوز الفهم الخاطيء لطبيعة الازمات والمخاطر والذي يعود الى المعلومات الناقصة والتسرع في اتخاذ القرارات العشوائية والانفعالية والمتعجلة، والحكم على المخاطر دون معرفة بنياتها الداخلية.

2 - أنْ تتجاوز القيادات الادارة التقليدية التي لم تؤهل لاداء ادوار متخصصة، والنأي تماما عن المحاصصة الطائفية والحزبية.

3 - تجاوز قيادات الاستشارة وهيآت الرأي من اصحاب الوظائف الادارية واستبدالهم بكوادر كفوءة من حملة الشهادات العليا، وبخاصة اولئك المتمرسين بالبحوث العلمية والدراسات التربوية.

وبناء على ماسبق فان النقاط الآتية تمثل خطوة على الطريق الصحيح:

1- خطة علمية مدروسة لادارة الازمات والمخاطر للمناظق المحررة لمدة خمس سنوات، تمثل السنوات الثلات الاولى لتخفيف الاثار التي تركها الاحتلال على التلاميذ، وتمثل السنتان الاخريان الانتهاء كليا من بقايا هذه الاثار.

2 - قياس وتقويم مرحلي كل ثلاثة شهور، يتم فيها مراجعة وتعديل مسار الخطط بحيث تتوائم مع المعطيات المعالجة.

3 - مراجعة الخطة على وفق التغذية الراجعة.

وان تتصمن الخطة بعدين اخرين:

أ - تنويع مصادر التأثير في التلاميذ، اذ لا يكفي أنْ يكون التأثير مدرسيا، اذ ينبغي ان تسهم بذلك موسسات مصاحبة، كالتعليم العالي والثقافة والشؤون الاجتماعية، اضافة الى خبراء في علم النفس. هذا فضلا عن الاستعانة بتوجيهات المرجعيات الدينية والاوقاف الشيعية والسنية والاديان الاخرى.

ب - تجفيف مصادر التأثير الداعشي بوضع بدائل مدروسة.

وتتاسس الخطة على عمليتين متداخلتين:

1 - الازاحة، بمعنى ازالة ما تركته داع ش من مؤثرات

2 - الاحلال، اي احلال البديل.

وهذا كله يقتضي:

1 - اعداد مناهج خاصة تعالج ما تركه داع ش من مؤثرات سلبية في وجدان التلاميذ وسلوكياتهم.

2 - اعادة تأهيل المعلمين والمدرسين والمرشدين التربويين والمشرفين التربويين، وتدريبهم على قيادة ادارة الازمات والمخاطر.

3 - تمكين التلاميذ من ممارسة نشاطات متنوعة في داخل المدرسة وخارجها، وفي اثناء العطل الربيعية والصيفية، وتكون الالعاب الرياضية والنشاطات الجماعية الاخرى ذات الابعاد الانسانية بديلا عن العاب العنف.

***

الأستاذ الدكتور كريم الوائلي

......................

[1] ينظر بالتفصيل تقرير المؤسسة العربية للتنمية، ترسيخ افكار التطرف لدى الاطفال من خلال التعليم والتأثيرات والتغيرات النفسيية،2016/5/31 لغاٌة 2014/6/10 ص 1.

[2] نفسه.

[3] كتاب التاريخ للصف العلمي الاول، ص 6.

[4] كتاب العقيدة للصف الاول الشرعي ص 50.

[5] الحديث هو: (عن حذيفة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها ثم تكون خلافة على منهاج النبوة فتكون ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها إذا شاء شاء الله أن يرفعها ثم تكون ملكا عاضا فيكون ما شاء الله أن يكون ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها إذا ثم تكون ملكا جبرية فتكون ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها ثم تكون خلافة على منهاج النبوة ثم سكت). التاريخ للصف العلمي الاول ص 8.

[6] نفسه، ص 8.

[7] العقيدة للصف الاول الشرعي، ص 35.

[8] نفسه ص 37.

[9] نفسه.

[10] نفسه ص 42.

[11] ينظر:

http://www.washingtoninstitute.org/ar/fikraforum/view/ideology-and-education-in-baghdadis-caliphate

[12] اللغة الانكيزية للصف السادس الابتدائي،ص 24.

[13] الرياضيات للصف الخامس الابتدائي، ص 25.

[14] نفسه، ص 32.

[15] نفسه، ص 34.

[16] نفسه، ص 38.

[17] نفسه، ص 46. 

 

لا رأي لمن انفرد برأيه.

(ابن المقفع)

كانت لعنة الصراع والاحداث السياسية الدامية وما زالت من اكثر ملامح الخليج طفواً عبر التاريخ الحديث، الخليج الفارسي/العربي هو ذراع مائي للمحيط الهندي وبحر العرب، يتوسط الخليج بين ثمان دول هي: من الشرق والشمال الشرقي إيران، ومن الشمال والشمال الغربي والعراق ومن الغرب تطل عليه بلدان شبه الجزيرة العربية وهي: الكويت والسعودية وقطر والإمارات والبحرين وعُمان، كانت ايران من قبل تعرف باسم (بلاد فارس) ومن هنا تم اشتقاق اسم الخليج الفارسي Persian Gulf، الذي تعتبره ايران الاسم "التقليدي" الوحيد وترفض تسميات اخرى بلغات عالمية مختلفة مثل "خليج إيران"، "خليج أجام"، "خليج البصرة"، "الخليج العربي" "خليج البحرين" "الخليج الفارسي العربي"، "خليج فارس"، و"بحر فارس". بينما يحاول معظم الدول العربية تغيير التسمية الشائعة عالمياً الى تسمية الخليج العربي.

تعددت اسماء الخليج عبر التاريخ لتعدد الثقافات التي وطأت المنطقة سواء الاقوام الساكنة والرحالة او الغزاة الذين وصلوا هذه المنطقة خلال3 الاف سنة الماضية، لذا نجد ان تسمية (الخليج الفارسي) اكثر انتشارا وشيوها بل هي الاقرب لتضمينها في الوثائق الرسمية في اغلب دول العالم بينما يقتصر وجود اسم (الخليج العربي) على المدونات العربية، مع الاشارة الى ان اللفظة العربية بدأت تطلق في امريكا وفرنسا خلال الآونة الاخيرة لدوافع سياسية، وربما برزت التسمية الفارسية في اسم الخليج لسببين: الاول توثيق الرحالة والمؤرخين للاسم على احد ساحلي الخليج العربي او الفارسي، والثاني انتشار خرائط بلاد فارس القديمة بسبب اسبقية التفاعل العلمي لبلاد فارس مع اليونان والرومان الذين اهتموا بدراسة المنطقة وسجلوا تاريخها في مؤلفات وخرائط وثِّقت وانتشر ت عالمياً فيما بعد، وهنا نشير الى ان الحيوية المعرفية والتواصل الفكري مع العالم هو ما يعطي لأي مواقع قيمة معنوية واهتمام عالمي، وتحاول هذه المقالة اثارة موضوع تسميات الخليج وتداعياتها بسياق مرن ورؤية منفتحة بعيدة عن عاطفة الانحياز لما هو مناطقي او قومي لأنها تقصد الوصول الى الحقيقة ولا شيء غير الحقيقة.

الخليج قلب الارض:

يمتد الخليج بشكل طولي من الساحل العراقي ومصب شط العرب شمالاً الى خليج عمان جنوباً (اذ يُعد خليج عُمان جزءا منه)، بطول 965 كيلومتر. ومساحة مائية اجمالية تقدّر ب 100 233كيلومتر مربع, بلغ طول الخليج طوله 1000 كيلومتر ويختلف عرضه بين الحد الأقصى 336 كم و55 كم كحد الأدنى عند مضيق هرمز، بمتوسط عمق 35 م في الساحل العربي وعمق 80 مترًا على طول الساحل الفارسي، واما المناطق الساحلية للدول العربية فهي ضحلة وتتراوح من 5 إلى 15 م واقل من ذلك على طول الساحل العراقي، مع وجود أعماق اقصاها 100 متر في مضيق هرمز الذي يربط الخليج ببحر العرب والمحيط الهندي، ويشير بعض المؤرخين ان مياه الخليج كانت في العصور القديمة أعمق بكثير من الاعماق الحالية، بسبب انحسار المياه التدريجي عن الساحل الشمالي واتساع الاراضي مع استمرار تدفق الرسوبيات من شط العرب والكارون، ولان معظم تلك الاراضي خصبة جعلت المنطقة جاذبة للاستيطان.

يتوهم البعض ان منطقة الخليج اكتسبت اهميتها حديثاً بعد اكتشاف النفط وامتلاكها ثلث الانتاج النفطي في العالم وأكثر من نصف الاحتياطيات النفطية العالمي، فضلاً عن ضخامة احتياطي الغاز الطبيعي الذي تعتمد عليه مناطق واسعة في آسيا وأوروبا الغربية والولايات المتحدة. والحقيقة ان الاهمية الحضارية والتاريخية والاقتصادية لمنطقة الخليج تعود الى اكثر من 5500 سنة مضت، فقد ذكرت وثائق السومريين التاريخية ان سكان وادي الرافدين بدأوا بالتجارة البحرية عبر الخليج والمحيط الهندي وبحر العرب منذ عصور قديمة للحصول على المعادن والخشب والحجارة من الجنوب الشرقي لشبه الجزيرة العربية (عُمان= هومان= اومان) وبلاد السند، وكان ابناء الرافدين وأهل دلمون والعيلاميين في الجانب الفارسي يتاجرون مع الهند بالأعشاب والتوابل واللبان والأقمشة والجواهر والأحجار الكريمة والسيراميك والساج والأرز والمعادن كالنحاس في القرن الثالث قبل الميلادي بالإضافة الى اللؤلؤ الذي كان الخليج مصدره الاساس.

ومن الشيّق ان نذكر ان سكان الخليج القدامى قاموا منذ عام 3500ق.م. بشق طريق يمتد من شمال الخليج لربطه بالبحر المتوسط بعد ان سيطروا على التجارة ما بين الرافدين والهند بحلول القرن الأول الميلادي ظهرت إشارات ودلائل إلى وجود تجار فرس وعرب وهنود يقطنون مصر وأوروبا.

اقدم مسميات الخليج:

بحسب الدراسات الاثارية والانثربولوجية فأن أقدم اسم معروف للخليج هو اسم "بحر أرض الإله» واستمرت هذه التسمية لغاية الألف الثالث قبل الميلاد. ثم أصبح اسمه "بحر الشروق الكبير" حتى الألف الثاني قبل الميلاد، بينما وسمي «بحر بلاد الكلدان» في الألف الأول قبل الميلاد، تغيّر الاسم خلال النصف الثاني من الألف الأول قبل الميلاد الى «بحر الجنوب»، بينما سماه الآشوريون والبابليون والأكديون: «البحر الجنوبي» أو «البحر السفلي»، ويقابله البحر العلوي وهو البحر الأبيض المتوسط، كما أُطلق عليه اسم «نارمرتو» (أي البحر المر) من قِبل الآشوريين، كما ذكرت بعض المصادر ان الاغريق واليونان اطلقوا عليه لفترة خلال تجولهم في حملة الاسكندر الاكبر اسم (البحر الايرثيري) ومعناها البحر الاحمر.

اول من اطلق تسمية بحر فارس الاسكندر المقدوني (الاسكندر الأكبر) في حملته على بلاد فارس عام 334 قبل الميلاد، ويذهب البعض الى اقدم من ذلك بقرنين من الزمن ويرجع التسمية الى حقبة الملك الفارسي داريوش الأول في القرن الخامس قبل الميلاد. جرياً على الاستخدام التقليدي للجغرافيين اليونانيين القدماء سترابو Strabo في القرن الاول قبل الميلاد، وخرائط بطليموس (Ptolemy) في القرن الاول قبل الميلاد، بينما كان استخدام مصطلح (خليج العرب) للإشارة إلى ما يعرف الآن باسم البحر الأحمر حتى نهاية القرن التاسع عشر، وهذا ما وثقته الخرائط الأوروبية.

نِزاع التسميات

يرجع تعدد تسميات الخليج الى توسط الخليج بين ثقافات مختلفة، فقد اعتاد الرحالة والمؤرخين على تسمية البحر باسم البلد المجاور له فيسمون بحر الهند وبحر الصين وخليج البنغال كذلك يطلقون على البحر الاحمر تسمية بحر الحبش او البحر التهامي او بحر اليمن او خليج العرب او البحر الشامي، كما اعتادوا على استخدام اكثر من اسم لنفس البحر مثل بحر الروم وبحر الشام وبحر الأندلس رغم أنه بحر واحد وهو البحر المتوسط، ونعتقد ان تسمية الخليج، تأثرت كثيراً باختلاف درجة الاستقرار السياسي على جانبيه، فعلى عكس من تاريخ الجانب العربي للخليج الذي توالت على حكمه دول واقوام متعددة، كان الجانب الفارسي اكثر ثباتاً سياسياً، لذا اشتهر الخليج عالمياً بالخليج الفارسي على اسم الإمبراطورية الفارسية (إيران الحالية).

بدأ نزاع التسميات منذ منتصف القرن الماضي حيث أثار التنافس بين جزيرة العرب وايران، إلى جانب نمو المد القومي العربي وتغلغل المصالح السياسية والاقتصادية الغربية في المنطقة، لذا مصطلح "الخليج العربي" استخدامًا متزايدًا، وخلال الثمانينات تعمّق الجدل السياسي حول تسمية الخليج الفاصل، ولا شك ان صراع التسميات للدول المتشاطئة على جانبي الخليج تعدى كونه مسألة اعتزاز قومي ليصبح نقطة خلاف حادة تهدد استقرار المنطقة، لدرجة اعتبار اطلاق احدى التسميتين (الخليج الفارسي) او (الخليج العربي) اشبه بالإساءة للفرس او العرب واعتداء اعلامياً على الحقوق، واستمر اعتزاز الايرانيين بهذا المصطلح حتى بعد تغيير تسمية "بلاد فارس" الى جمهورية "إيران" من قبل شاه إيران رضا شاه بهلوي في العام 1935، وهذا يعكس الخلاف السياسي القائم بين الدول على اسس ايدلوجية، ولا يلوح في الافقين الايراني والعربي ما يشير الى امكانية انهاء هذا الجدل لان الصراع الحاصل على التسميات يرجع الى محاولة القوميتين على جانبي الخليج لتحقيق انتصار للسيادة والنفوذ البحري عن طريق انتساب هذا الجزء المائي المحدود الى احد الجانبين، وتصاعدت حدة المواقف مؤخراً لتزايد اهمية موقع الخليج اقتصادياً وجيوسياسياً في قلب العالم.

وثائق ومواقف الدول الكبرى

برأينا ان استخدام تسميات الخليج كانت ذات دلالة مكانية، ثم انتقلت مؤخراً الى اشارات قومية تصعيدية عكّرت صفو العلاقة على جانبيه، فاستخدام لفظة الخليج الفارسي شاعت لدى معظم الحضارات الاوربية القديمة وفي معظم الخرائط التي تضمنتها المعاهدات الدولية الحديثة والوثائق المطبوعة قبل عام 1960، باستثناء بعض التسميات التي اطلقتها الدول المحتلة نذكر منا اسم "بحر بريطانيا".!! وهو ما اشارت اليه صحيفة The Times Journal التي نُشرت في لندن عام 1840 م، كما اطلق العثمانيون على الخليج اسم "خليج البصرة" (بصرة كورتري).

وخلال التاريخ الحديث اعتُمدت لفظة "الخليج الفارسي" كمصطلح أمريكي رسمي في العام 1917، وقد وثق ذلك في (لوحة الأسماء الجغرافية الامريكية: The U.S. Board on Geographic Names (BGN). لكن المواقف بدأت تتغير بعد نجاح الثورة الإسلامية في ايران عام 1979، وبدأت بعض الدول وفي مقدمتها امريكا وفرنسا تستخدم مصطلحات مثل "The Gulf" أو "Arabo-Persian Gulf".

بعد العام 1991 ظهر توجه امريكي جديد لاستخدام لفظة الخليج العربي او لفظة الخليج، ويبدو ان ذلك كان لدوافع سياسية، اذ نشرت الجمعية الجغرافية الوطنية National Geographic Societyأطلسًا في عام 2004 يضيف مصطلح الخليج العربي بين أقواس اسفل مصطلح الخليج الفارسي. واضطرت في الطبعات اللاحقة كما في العام 2010 الى ادراج ملاحظة في الحاشية تقول: (تاريخيا والأكثر قبولاً وتداولاً هو اسم الخليج الفارسي) بعد احتجاج الجانب الايراني. وبدأت خرائط شركة Google الامريكية مؤخراً بتغيير سياستها باستخدام مصطلحات متضاربة كاستخدام لفظة الخليج الفارسي والخليج العربي معاً، كما تكرر استخدام شركة Google لفظة الخليج بشكل مجرد، وحدث ان رفعت الاسم بشكل كامل لفترة بعد 2012، اما حالياً فتظهر خرائط غوغل احدى التسميتين إما الخليج العربي أو الفارسي للمستخدمين المحليين اعتمادًا على تحديد الموقع الجغرافي وإعدادات اللغة، وعلى مستوى الرياضة حصل تعطيل لعدة بطولات داخل ايران بسبب تسمية الخليج بالفارسي، كما حدثت عدة ازمات دبلوماسية من قبل ايران بسبب اسقاط تسمية الخليج الفارسي (Golfe Arabo) بالفرنسية من تحديثات متحف اللوفر في باريس عام 2006، وفي العام 2017 ترددت على لسان الرئيس الامريكي ترامب ورئيس أركان البيت الأبيض جون كيلي، مفردة "الخليج العربي". ".وفي العام 2020 ردت الخارجية الإيرانية بتشنج على تصريحات الرئيس الفرنسي ماكرون الذي استعمل اسم "الخليج العربي الفارسي"، كما ظهرت اعتراضات على اسماء بعض البطولات داخل الدول العربية الخليجية وكان اخرها اعتراض ايران على تسمية بطولي خليجي 25 في البصرة في العام 2023، وعلى الصعيد البحثي والاعلامي يجد الكثير من العرب والايرانيين صعوبة في تداول المصطلح المقبول اقليمياً، مما يضطر البعض الى تعطيل الانشطة الثقافية والفكرية في المنطقة بحسب رؤية الدولة التي تصدر فيها الانشطة الثقافية والمعرفية.

التسميات في التراث الاسلامي:

زادت اهمية الخليج بشكل كبير بعد انتشار الاسلام خارج الجزيرة العربية، واعاد المسلمون دور الحضارات القديمة في التجارة، وخلال القرنين السابع والثامن الميلادي أصبحت الدولة الإسلامية تسيطر على الطرق التجارية عبر الخليج والبحر الأحمر والطرق البرية عبر الأناضول والتجارة مع بلاد السند، وأصبح المحيط الهندي ميدان بحري إسلامي فقد سيطر التجار المسلمين على تجارة البضائع القادمة من الشرق وخاصة التوابل، وفي التراث العربي الاسلامي اطلق عرب الجزيرة على الخليج عدة مسميات منها "خليج البصرة" أو "بحر مسندم" "خليج عمان" أو "خليج القطيف" و"بحر القطيف"، و"بحر فارس" وبحر خليج العجم" و"الخليج الأخضر". و" بحر البحرين" و"بحر عمان" و" بحر هجر".

ولفظة خليج فارس او بحر فارس من المصطلحات التي وثقها العرب في الدراسات والادبيات والمراجع التاريخية وحتى الدينية منها، فهذه الأحاديث النبوية في كتب الصحاح، فضلاً عن المأثور من اقوال المفسرين واللغويين والمؤرخين عند مختلف المذاهب والمشارب الاسلامية.

ويبدو ان لغة العرب تميل الى تجزئة المسطح المائي الواسع لذا تشير الى التسمية المحلية للخليج وتعطف عليه اسم البحر الابعد، كما يبدو ان العرب اذا ارادت ان تصف البحار العظيمة او الاحداث العظيمة والكبرى الواقعة فيها تعبّر بلفظة الاكثر شهرةً والابعد مسافةً، وهذا واضح من عدة امثلة لنقل العلماء المسلمين ونختار من قول الادريسي في كتابه نزهة المشتاق اذ يقول (....ويتشعب من البحر الصيني الخليج الاخضر وهو بحر فارس...)، وهذا يؤكد ان ما نذهب اليه فقد عبّر الادريسي عن المحيط الهندي وبحر العرب الحالي ببحر الصين ونسبه الى ابعد بلد في اسيا لانه نسبة البحار تكون الى لمن اكثر مقدرة على ركوبه والتنقل فيه، كما اشار الى البحر الاخضر (الخليج) ونسبه الى بحر فارس.

اسم سائد وآخر مُستحدث:

تواردت تسمية الخليج "بحر فارس"، عند جغرافيي ورحالة الحضارة الإسلاميّة العرب والجغرافيين اليونان، واخذ تسميات عدة في الخرائط البرتغالية والأوروبية في بداية العصور الحديثة، منها (الخليج أو البحر الفارسي، بحر أو خليج البصرة، بحر القطيف، بحر مسندم)، بينما اطلق عليه عالم الخرائط الهولندي جودوكس هونديوس في القرن السادس عشر اسم "الخليج العربي". واطلق عليه العثمانيون في أول أطلس عثماني صدر مطلع القرن التاسع عشر تسمية "بحر البصرة"، باستثناء ذلك انتشرت تسمية الخليج الفارسي عالمياً وحتى اقليمياً وكانت البلدان العربية الخليجية تتداوله الى عهد قريب بحسب الوثائق المنشورة، مع وجود رغبة في بعض الاوساط العراقية خلال الثلاثينيات لتحويل تسمية " الخليج الفارسي"، الى "خليج البصرة". باستثناء ذلك شاع مصطلح بطليموس الخليج الفارسي في اللغة بالإنجليزية وكان متداولاً بشكل واسع في معجم الأمم المتحدة، وجامعات الغرب الكبرى، وكذلك اللغات الأوروبية، بداعي الاسبقية في وروده في مصادر الرحالة اما مصطلح "الخليج العربي" فهو مصطلح عربي جاء في مصادر مبعثرة واختلطت بتسميات عربية اخرى عبر التاريخ، اما التمسك بتسمية الخليج العربي بشكل قطعي فقد جارت في خمسينيات القرن الماضي، بحسب ما اقترحه رجل الأعمال والنائب اللبناني إميل البستاني، مع فورة المد القومي عند العرب، من منطلق ان سكان شواطئ الخليج على الجانبين العربي والايراني هم من الناطقين بالعربية، ثم استمرت التسمية تلقائياً في الثقافة العربية، وانتشرت داخل الوسط الفكري العربي باستثناء جامعة الدول العربية وبلدان الجزيرة وبعض البلدان العربية المتعاطفة مع المد العربي وبالأخص بعد الحرب العراقية -الايرانية، وذهبت بعض المصادر الحديثة ان هنالك قوى مناهضة لإيران من الداخل ترى ضرورة تغيير اسم الخليج الحالي لان نسبة الخليج الى بلاد فارس القديمة التي وثقها الاغريق في القرن السادس قبل الميلاد ليس في مصلحة الايرانيين، وان الاسم الحالي هو ايران.

تسميات محلية واخرى اقليمية:

هنالك شواهد تدل على ان دول الخليج تحاول مسك العصا من المنتصف مع الاحتفاظ بالرأي (القومي) بالتسمية وهذا ما يبرهنه تسمية (مجلس التعاون لدول الخليج العربية) التي تضم إلامارات العربية المتحدة · مملكة البحرين · المملكة العربية السعودية · سلطنة عمان · دولة قطر · دولة الكويت. ولم ينضم العراق لمجلس التعاون الخليجي بالرغم من مطالبته بالانضمام لهذا التجمّع منذ ثمانينات القرن الماضي، لكنّ تمثيله ظل مقتصراً على بعض الفعاليات الرياضية والفنية في فترة الثمانينات تزامناً مع خوض العراق حرب الخليج الأولى.

وفي اسم المنظمة البحرية التي تتابع قضايا البيئة البحرية ظهرت تسمية متوازنة للخليج حين تم الاتفاق على التي تضم (إيران، العراق، البحرين، الكويت، عُمان، قطر، السعودية، الإمارات) التي اتفقوا على تسميتها ب(المنظمة الإقليمية لحماية البيئة البحرية- Regional Organization for the Protection of the Marine Environment (ROPME), بينما تحمل المنظمات والمؤسسات العاملة في بحار العالم اسماء البحار التي تعمل عليها، مثال ذلك لجنة حماية البحر الاسود من التلوث (Black Sea Commission - BSC)، والهيئة الإقليمية للمحافظة على بيئة البحر الأحمر وخليج عدن (PERSGA).

دروس غير مستفادة:

مرت حُقب سياسية واحداث عسكرية مؤلمة في هذا الجزء الفاصل بين المسلمين الايرانيين والعرب ومع اقتراب نهاية عقود طويلة من اعتماد المنطقة بشكل شبه كامل على مردودات البترول وقرب انتهاء فترة اعتماد العالم على استهلاك الوقود الاحفوري في توليد الطاقة، فأن المنطقة بحاجة لتكون بوضع إقليمي موحد وتبدأ وتنبذ الخلاف على الشكليات وتسعى الى التكامل الاقتصادي والمعرفي والجيوسياسي والبيئي، ولعل جائحة كورونا اعطت انذاراً مبكراً واخيراً للدول التي اعتمدت طويلاً على عوائد النفط، اذ من المؤمل ان يتضاءل الاعتماد على مشتقات النفط في العام 2035، وبحسب خبراء الطاقة فان آخر سيارة تعمل بالبنزين ستصنّع في العام 2034 واليك ان تتصور ما ستكون عليه حال الصناعة دول الخليج النفطية بعد 14 عاماً فقط.. لذا ينبغي التفكير بالخليج بين الايرانيين والعرب على انه مورداً اقتصادياً وبيئياً مصيرياً لكلتي القوميتين، والاستفادة من مزية تنوع الموارد الطبيعية على جانبيه وثرواته البشرية، ونبذ الخلاف على الشكليات والارتكاز على التلاحم في التراث الثقافي والديني المشترك، لاسيما ان جميع المشكلات بين الوجود العربي والفارسي وافدة من قوى خارجية غايتها الوحيدة تحقيق مصالح غربية وليست اقليمية.

ارادة الحل:

يبدو امر الخلاف على تسمية الخليج طبيعياً مع وجود نزاعات عالمية مشابهة، فهنالك خلاف اقليمي اكثر سخونة حول تسمية بحر الصين الجنوبي الذي تطل عليه الصين مع فيتنام وتايوان وبروناي وماليزيا والفلبين وسنغافورة وإندونيسيا وكمبوديا وتايلند ليس التسمية فقط بل وملكية بعض الجزر وقد اصبح هذا البحر حيزاً مهماً لتصفية الحسابات بين الولايات المتحدة والصين ومحاولة اثارة الفتن من قبل الدول الكبرى ان تخدمها تفتيت مواقف الدول المتجاورة، كما حصل من محاولة تعميق الخلاف بين الايرانيين والعرب في الصراع على التسمية وعائدية الجزر بدفع من قبل بريطانيا العظمى في الماضي والولايات المتحدة في الواقع المعاصر.

بالمقابل هنالك شواهد اكثر سلاسة حول التعامل مع مسألة تسميات نماذج من البحار العالمية، فهذا البحر الابيض المتوسط لم تشكّل تسمّيته اية مشكلة بين شمال المتوسط وجنوبه، بالرغم من الاختلاف الأنثروبولوجي والثقافي بين الافارقة المسلمين والأوروبيين الغربيين، بل على العكس فقد كان هذا الماء المالح يوما جسراً حضارياً للثقافات على جانبيه، وكذلك الحال في تسمية المضيق البحري الذي يفصل بين فرنسا وبريطانيا، فاسمه بالفرنسية مضيق كاليه (ݒا دو كاليه)، على اسم البلدة الفرنسية عند شاطئه الشرقي، وبالإنكليزية مضيق دوڤر (دوڤر سترايت)، على اسم البلدة البريطانية على شاطئه الغربي. ولم يتسبب بأي نزعات قومية لدى الجانبين.

ان العرب والايرانيين تجمعهم امتدادات تاريخية وثقافية وعقائدية واجتماعية من المهم ان تتغلب على هواجس الخصومة والعداء والأطماع والانتهازية المقيتة، ولهذا السبب اطلق جهات رسمية عليا نها السبعينيات مقترحاً حول تسمية الخليج تحت اسم موحد هو (الخليج الاسلامي) باعتبار ان المنهج الإسلامي يتجاوز التابو القومي والشعبوي لكنه لم يلقَ موافقةً من الدول العربية والخليجية خصوصاً بعد اندلاع الحرب العراقية الايرانية.، ومن الغريب مصطلح "الخليج الإسلامي" استخدمه أسامة بن لادن في خطاباته أواخر عام 1996، بالمقابل طُرح رأي محايد لتسميته (الخليج) المجردة او (الخليج الفارسي⁄ العربي) وهذا المصطلح اكثر توازناً فالخليج هو ''الخليج العربي'' بالنسبة للدول العربية، و''الخليج الفارسي'' بالنسبة لايران، لكن أيضاً الأمم المتحدة، وفي حال تعّذر امر تغيير تسمية الخليج فمن الممكن قبول تعدد التسميات من كلا الطرفين وتفهم دوافع الاعتزاز التاريخي والقومي لكل طرف على جانبي الخليج، ان وهذه الحلول ممكنة جدا اذا توفرت ارادة الحل.

ومن الواضح ان نزاع التسميات اصبح مادةً لإشعال الحروب الكلامية التي تستخدمها الاطراف الغربية في معركتها الاقتصادية والإيديولوجية في منطقة الشرق الاوسط، وهو بذرة لخلاف مستقبلي للأجيال القادمة في منطقة الخليج، لذا لا نرى مبرراً لحرب التسميات التي تخوضها بلدان المنطقة لأسباب لا تستحق الخوض فيها وهي تصب في مصلحة قوى خارجية، ونرى ان صِدام المواقف التي يستخدمها العرب او الايرانيون لن تحقق الاستقرار والتعايش السلمي في المنطقة، بالمقابل هنالك قوى خارجية تحاول التلاعب بالاسم مقابل مواقف ضد هذا الطرف او ذاك من خلال اعتمادها لتسميات متضاربة في المنشورات الواسعة الانتشار عالمياً، وتاريخياً هنالك بلدان يمكن الاحتكام اليهما في التسمية الملائمة للخليج هما اقدم حضارتين في المنطقة (الحضارة السومرية في العراق وحضارة ايلام في بلاد فارس) وهاتان الحضارتان تعودان الى 4000-3500 سنة قبل الميلاد، واذا اتهمني احدهم اني (اجرّ النار لقرص دون قرص غيري) فأني اقول ان اغلب ما يثار حول التسمية كانت ومازالت بدوافع ايدلوجية وان ثمن الخوض في الخصومة حول التسمية اكبر بكثير من الابقاء عليها ومن اتقن رائحة البارود لثمان سنوات في حرب الخليج الاولى بدفع خارجي وقومي تحت شعارات الحدود اكثر فهماً بتداعيات الخصومة بين الجيران المسلمين، وان من يغذي شحنات الخصومة من الاطراف الاقليمية ليس بعراقة الحضارات الاولى وان تم عزلها معنوياً من معظم العناوين الخليجية المعاصرة...!!!

***

د. حسن خليل حسن

................

هوامش.

* The Commission on the Protection of the Black Sea Against Pollution, http://www.blacksea-commission.org/

* Rattibha: https://rattibha.com/thread/1467937422088589320..

* https://misbar.com/qna/2021/02/09/%D9%87%D9%84-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%B1%D8%A7%D9%82-%D9%85%D9%86-%D8%AF%D9%88%D9%84-%D8%A7%D9%84%D8%AE%D9%84%D9%8A%D8%AC

* https://www.cais-soas.com/CAIS/Geography/persian.gulf/persian_gulf_name_disputing.htm

* Brian Whitaker(2010) Persian Gulf? Arabian Gulf? One big gulf in understanding. The Guardian News

* https://www.strausscenter.org/strait-of-hormuz-about-the-persian-arabian-gulf/

* https://www.quora.com/Which-term-is-geographically-more-accurate-the-Arabian-Gulf-or-the-Persian-Gulf-Why

* https://en.wikipedia.org/wiki/Persian_Gulf_naming_dispute

* https://raseef22.net/article/110058-%D8%A7%D9%84%D8%AE%D9%84%D9%8A%D8%AC-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%B1%D8%A8%D9%8A-%D8%A3%D9%85-%D8%A7%D9%84%D8%AE%D9%84%D9%8A%D8%AC-%D8%A7%D9%84%D9%81%D8%A7%D8%B1%D8%B3%D9%8A-%D8%A3%D9%85-%D9%85%D8%A7

* https://learnenglish.nu/english-learning-language.php?english-learning=1236

* Karen Zraick(2016)Persian (or Arabian) Gulf Is Caught in the Middle of Regional Rivalries. The new York times,

* http://istta.ir/pages/ar/details/6779/%D8%AA%D8%A7%D8%B1%D9%8A%D8%AE-%D8%A7%D9%84%D8%AE%D9%84%D9%8A%D8%AC-%D8%A7%D9%84%D9%81%D8%A7%D8%B1%D8%B3%D9%8A https://www.nytimes.com/2016/01/13/world/middleeast/persian-gulf-arabian-gulf-iran-saudi-arabia.html

* فؤاد جميل، الخليج العربي في مدونات المؤرخين البلدانيين الاقدمين، مجلة سومر، ١ﺝ.،. ﻤﺠﻠﺩ. ٢٢.،. ١٩٦٦.، 18 صفحة.

* حسن خليل حسن، مقالة كنوز العراق... في زمن الكساد النفطي؟ صحيفة المثقف: العدد: 5984 : 23 - 01 - 2023م.

* بحر الصين الجنوبي... «البيئة الأخطر» للمواجهة بين واشنطن وبكين: صحيفة الشرق الاوسط-رقم العدد : 15852- 23 أبريل 2022

* نزار بدران(2017)البحر المتوسط... شرخ فاصل أم جسر واصل؟صحيفة العربي الجديد

* بحر الصين الجنوبي"؟ CNN الاقتصادية، ولماذا يتم التنازع عليه؟ 17 شباط 2016

* الهيئة الإقليمية للمحافظة على بيئة البحر الأحمر وخليج عدن (PERSGA): https://persga.org/ar/

 

"الإنسان صانعاً لتاريخه"

بالرغم من مضي أكثر من قرن من الزمان على وفاة كارل ماركس* فلا يزال فكره يشغل حيزاً من اهتمام الباحثين والمفكرين الذين ينتمون إلى أكثر من تخصص ولا يكاد يخلو مؤلف واحد اهتم بتاريخ النظرية إلا ووقف على ما كتب (1). لأن ماركس يعتبر أحد أهم المنظرين الثوريين**، والفلاسفة الماديين النقديين تأثيراً في التاريخ الإنساني، فما تزال أفكاره حتى الآن تجتذب المثقفين في أماكن كثيرة من العالم على الرغم من تهاوي الكثير من الصروح السياسية والاقتصادية، التي قامت على هدي أطروحاته في القرن العشرين المنصرم (2).

شهد ماركس ظروف التصنيع المبكر في أوروبا وما نتج عنه من آثار سلبية على الطبقة العاملة، مما دفعه إلى الاهتمام بسرعة التخطيط لإحداث عملية التحول الاجتماعي، والإقرار بضرورتها، فنكب بجهد لا مثيل على دراسة وتفسير وتحليل ونقد العوامل، التي أدت إلى ظهور الرأسمالية والمبادئ، التي ارتكزت عليها للحفاظ على وجودها واستمرارها، وذلك بهدف القضاء عليها وتجاوزها إلى تشكيلة اقتصادية - اجتماعية ينتفي فيها استغلال الإنسان لأخيه الإنسان (3). بهذا نجد أن الفلسفة الماركسية شكلت مدخلاً ثورياً للتغيير الاجتماعي والتقدم الإنساني.

درس ماركس طبيعة هذا الاستغلال وحلله وتنبأ بالنتائج التي سيفضي إليها، فهذا الاستغلال قد اتخذ صور شتى عبر التاريخ، من اقتصاد المرحلة العبودية إلى الإقطاعية وأخيراً إلى الرأسمالية، حيث انقسم أفراد المجتمع فيها إلى ساد وعبيد ثم إلى إقطاعيين وفلاحين، وأخيراً برجوازيون وعمال. وفي كل ذلك كانت قوانين الاقتصاد السياسي هي التي تتحكم بوجود وتطور وفناء نظام اجتماعي – اقتصادي معين، ومجيء نظام أرقى منه (4). وينطلق ماركس في تفسيره لطروحاته من افتراض أن موقع الأفراد والجماعات من ملكية وسائل الإنتاج هو الذي يحدد وضعهم الاجتماعي في بناء القوة داخل المجتمع، فإما أن ينتمون إلى الطبقة المسيطرة أو الطبقة الخاضعة، ومعادلة القوة هذه ذات بُعد تاريخي لا يمكن تجاهله في النظرية الماركسية، لهذا أوضح ماركس في البيان الشيوعي 1848، " بأن كل التاريخ السابق لم يكن إلا تاريخ صراع طبقي "(5). إن هذا الفهم للتاريخ، يصوره كتاريخ قوة تحركه صراعات القوى وتناقضاتها، التي تتمثل في الطبقات الاجتماعية، حيث كان يوجد دائماً طبقات تمتلك وطبقات لا تمتلك، وتبعاً لذلك طبقات حاكمة وطبقات محكومة. لذا فإن الأغلبية الساحقة من البشر حسب التصور الماركسي كانت تعمل بمشقة.

أما فيما يتعلق بالنظام الرأسمالي فيرى ماركس أن الديناميكية الداخلية لقوانين الاقتصاد السياسي لهذا النظام ستفضي لا محال إلى الصراع بين البرجوازية والبروليتاريا، حيث ستؤول الأمور في مسارها المعقد إلى ثورة مجتمعية تحطم فيها البروليتاريا قيودها، وتسقط البرجوازية وتلغي الشروط المادية لأشكال استغلالها وفي مقدمتها (الملكية الخاصة)، ومع هذه الثورة التي ستكون حتمية ستحقق البروليتاريا سيادتها. " فماركس يؤمن بأن البروليتاريا وحدها فقط يمكن لها أن تسقط الرأسمالية، وتحرر نفسها، وكل الفئات المضطهدة في المجتمع، من كافة أشكال الاستغلال والاستعباد "(6). لهذا يعتبر ماركس أن تحقيق الكامل لإنسانية الإنسان، ولعملية انعتاقه من القوى الاجتماعية التي تقيده، غير منفصل عن عملية وعي وجود هذه القوى، وعن التغيير الاجتماعي الذي يتأسس على هذا الوعي. لأن الفلسفة الماركسية هي فلسفة احتجاج. احتجاج متشرب بالإيمان في الإنسان وبقدرته على تحرير ذاته، وتحقيق لطاقاته (7).

تأسيساً على ما تقدم نستنتج أن ماركس يؤمن بأن قوى التغيير كامنة في المجتمع ذاته، وليست خارجة عنه، ويعود السبب في ذلك إلى ارتباطها بالأوضاع المادية داخل التشكيلة الاجتماعية الاقتصادية، فالصراع – وإن كان أمراً حيوياً لتخليص النظام من أزمته – فإنه لا يتم بمعزل عن الشروط الموضوعية التي تشكل عوامل الحركة الثورية (8). بهذا تشكل طبقة البروليتاريا حسب التعبير الماركسي القوى الاجتماعية (الثورية) التي سيوكل إليها تجسيد عملية التغيير الاجتماعي. باعتبارها قوى اجتماعية تعدها ظروف وجودها الاقتصادية لعملية التغيير وتعطيها الإمكانية والقوة للقيام بذلك. فبينما تتجزأ طبقة الرأسمالية وتتبعثر طبقة الفلاحين وجميع فئات الرأسمالية الصغيرة، توّحد البروليتاريا صفوفها وتنظمها. فالبروليتاريا بحكم دورها الاقتصادي في الإنتاج الضخم هي الطبقة الوحيدة لكي تكون زعيماً لجميع جماهير الشغيلة والمستثمَرين الذين تستثمرهم الرأسمالية وتظلمهم وتضغط عليهم في حالات كثيرة ضغطاً ليس بأضعف بل هو أشد من ضغطها على البروليتاريين، ولكنهم غير أهل للنضال المستقل في سبيل تحررهم(9).

أما عن المبررات التي دفعتنا إلى دراسة وتحليل النتاج السوسيولوجي لكارل ماركس وبالأخص فيما يتعلق بعلم المجتمع، فإننا نستطيع القول وبكل جدارة أنه بالرغم من مضي أكثر من مئة عام على وفاته (ماركس)، إلا أن أعماله الفكرية مازالت تنبض بالحياة حتى اليوم، وإن شئنا الدقة فهي تشكل المكون الأساسي المفاهيمي والنظري داخل نظرية الصراع، ويدرك كل إنسان عاش في القرن العشرين المنصرم كيف أن أفكار ماركس كان لها تأثير هائل على الممارسة السياسية. حيث كانت الماركسية على صعيد الفكر والعقيدة والممارسة تشكل جسراً قوياً وحياً، واستطاعت أن تؤثر تأثيراً فعالاً في صياغة وتشكيل أقدار ومصير ملايين من الرجال والنساء (10). هذا من جهة. ومن جهة أخرى، يعتبر ماركس أول من أدخل السياسة في علم الاقتصاد الجديد من أجل تحقيق الثورة الاجتماعية، فجعل بذلك الاقتصاد اقتصاداً سياسياً، أي اقتصاد يقوم على سلطة سياسية، ولذلك يمكن الإطاحة به بتنظيم سياسي ووسائل ثورية. بمعنى آخر إن ماركس يكون قد استنهض روح التمرد التي لا تنبع إلا من كونها منتهكة وليس من كونها واقعة تحت تأثير الضرورة، بذلك يكون ماركس قد ساعد في تحرير الفقراء عبر إقناعهم بأن الفقر ذاته هو ظاهرة سياسية وليس ظاهرة طبيعية وإنه نتيجة العنف والانتهاك وليس نتيجة الشح (11). أي أن ماركس حوّل المسألة الاجتماعية إلى قوة سياسية موجودة في مصطلح " الاستغلال " أي الفكرة القائلة بأن الفقر هو نتيجةً للاستغلال من خلال الطبقة الحاكمة، التي تمتلك وسائل الإنتاج والعنف (12). ويستشهد ماركس بالمجتمع الرأسمالي القائم في صميمه على الاستغلال (13).

تميز الفكر الماركسي باعتباره مرحلة قائمة بذاتها في تاريخ الفلسفة الاشتراكية، على الرغم من أنه اعتمد بشكل كبير على أفكار سابقيه من مفكري الاشتراكية. إلا أن عبقريته تكمن في تنظميه للأفكار الشيوعية المشوشة، وإيجاد فلسفة ومنهج لتحقيقها على أرض الواقع الاجتماعي. حيث يعتبر ماركس أول مفكر اشتراكي أدرك أن وضع التفاصيل والجزئيات لدستور المدينة الفاضلة أقل أهمية من كشف الطريق المؤدي إلى هذه المدينة، وكيفية الوصول إلى هذا الطريق، وكان أول من أدرك أن اكتشاف هذا الطريق يتوقف على دراسة طبيعة المنطقة دراسة تحليلية (14).

تعد النظرية الصراعية من أهم النظريات المعروفة في علم الاجتماع نظراً لكون الصراع يخيم على علاقات البشر ويخيم على علاقات الجماعات والمجتمعات. بذلك تكون نظرية الصراع شائعة بين علماء الاجتماع لأنه لا يوجد نظرية واحدة بل توجد عدة نظريات صراعية على جانب كبير من الأهمية والفاعلية.

وإذا كان التركيز لدى الصراعيين على علاقات التناقض واللا مساواة والصراع، فإنهم يختلفون حول العامل الأساسي لهذه العملية، كما أنهم يختلفون في نظراتهم للنتائج التي يمكن أن تترتب على عملية الصراع.

فعلى سبيل المثال يرى كارل ماركس أن علاقات الإنتاج، التي تتضمن لا مساواة في الملكية، تشكل أساس اللا مساواة والاستغلال واحتمال الصراع. وبذلك جعل من التوزيع غير العادل في علمية الإنتاج أساساً للصراع الطبقي(15). وهذا ما سوف نقوم بمناقشته من خلال استعراض نظريته في علم المجتمع.

- نظرية علم المجتمع عند كارل ماركس:

يعتمد ماركس في رؤيته للمجتمع على التفسير المادي للتاريخ الذي يتلخص في أن الأوضاع الاقتصادية للمجتمع هي الأساس الذي يؤثر في كافة الأوضاع والنظم الاجتماعية والفكرية الأخرى، بحيث تنطبع هذه الأوضاع والنظم بالصورة التي يقتضيها البناء الاقتصادي القائم. وعلى ذلك فإن علاقات الإنتاج ووسائله هي التي تحدد شكل المجتمع ونظامه، وبالتالي يكون لكل نظام إنتاجي، شكل معين للمجتمع يقابله ويختلف هذا الشكل باختلاف وسائل الإنتاج وطرقه (16). بذلك يتلخص التصور المادي للتاريخ في أن البناء الاقتصادي للمجتمع هو الأساس الذي يفسر في التحليل الأخير، البناء الفوقي بما يتضمنه من نظم قانونية وسياسية وأفكار فلسفية ودينية خاصة بكل مرحلة محددة (17).

فالمجتمع حسب رأي ماركس مهما كانت مرحلته التاريخية أي (التكوين الاقتصادي الاجتماعي)* يعتمد على الأساس الاقتصادي، أي نمط الإنتاج الذي ينقسم بدوره إلى مكونين أساسيين هما: قوى الإنتاج التي تعني مجموعة الطاقات المادية والبشرية التي تتوظف في العملية الإنتاجية كوسائل العمل وأدوات الإنتاج (كالآلات والأجهزة والمباني، إضافةً إلى الطاقة البشرية بما تتمتع به من إمكانيات فنية وخبرة وعمل). أما المكون الثاني فهو علاقات الإنتاج التي تعني الارتباطات الأساسية التي يشغلها الناس بعضهم مع بعض من أجل تنفيذ النشاط الاقتصادي (ملكية الإنتاج، أوضاع الطبقات، التفاعل الطبقي، توزيع وتبادل السلع المادية)(18). وترتبط قوى الإنتاج بعلاقات الإنتاج، فالأفراد خلال إنتاجهم الاجتماعي لا يؤثرون على الطبيعة فقط وإنما يتبادلون التأثير فيما بينهم من خلال التعاون والتبادل، أي أنهم يؤسسون علاقات فيما بينهم من خلال العمل، ولذلك فإن كلمة " أسلوب الإنتاج " تطلق على قوى الإنتاج وعلاقاته معاً.

تأسيساً على ما تقدم وفي ضوء التفسير المادي للمجتمع، يمكننا القول إن من أهم معالم التحليل الماركسي أن علاقات الإنتاج هي التي تحدد التقسيم الاجتماعي والتركيب الطبقي للمجتمع، وهذا البناء الطبقي يحدد بدوره طبيعة النظم القانونية والسياسية (19). " أي أن مجموع علاقات الإنتاج هذه هي التي تشكل البنية الاقتصادية للمجتمع والقاعدة التي تقوم عليها البنية القانونية والسياسية التي تعكس بدورها أشكالاً محددة من الوعي الاجتماعي "(20). بهذا تكون علاقات الإنتاج في المجتمع الطبقي ليست علاقات بين فرد وآخر، ولكنها بين المزارع والمالك، بين العامل والرأسمالي. ويؤمن ماركس أن هذه العلاقات الطبقية القائمة على الاستغلال هي المفتاح الأساسي لفهم المجتمعات الطبقية(21).

تتبع علاقات الإنتاج تطور القوى الإنتاجية والعلاقة بينهما وقد تكون علاقة تطابق (العمل الفردي والملكية الفردية أو العمل الجماعي والملكية الجماعية) وقد تكون علاقة تناقض (العمل الجماعي والملكية الفردية). بمعنى أن علاقات الإنتاج قد تأخذ شكل التعاون والتعاضد أو شكل الاستغلال والسيطرة، حيث تتصل بكل أشكال التقسيم الاجتماعي للعمل ونظام الملكية وأشكال التوزيع والتبادل. إلا أن قوى الإنتاج أسرع في تطورها من علاقات الإنتاج التي تتميز بالثبات النسبي لكنها عرضة لتغيرات فجائية يتم بواسطتها تصفية شكل علاقات الإنتاج القائمة وإحلال أخرى محلها، وبذلك يتغير أسلوب الانتاج (وهذا التغير لابد أن يصاحبه عمل ثوري من قبل الطبقات التي تكون علاقات الإنتاج في غير صالحها...) ومن هنا ندرك مرونة القانون الاجتماعي ونسبيته(22).

إن قوى التغير الاجتماعي - حسب اعتقاد ماركس - كامنة في المجتمع ذاته، وهي ليست راجعة إلى عوامل خارجية كالعقل أو الفكرة المطلقة أو البيئة الجغرافية أو تزايد السكان أو التطور المزعوم للعقل أو الفكر، فالأفكار عند ماركس مرتبطة بأوضاع الحياة المادية وفي هذا الصدد يقول ماركس: " ليس وعي الأفراد هو الذي يحدد وجودهم الاجتماعي، بل وجودهم الاجتماعي هو الذي يحدد وعيهم "(23). لذلك فإن الأفكار الثورية - لعملية التحول الاجتماعي- لا تظهر ولا تنتشر إلا في ظروف موضوعية مواتية، ونظام لم يعد يتمشى مع المرحلة الجديدة التي وصلت إليها الأوضاع المادية للمجتمع، كذلك فإن الجماهير هي التي تصنع التاريخ وتحقق التغير من خلال إنتاج السلع المادية وليس القادة أو الرجال العظام (24).

إن التطور الاجتماعي هو تطور أساليب الإنتاج التي تعاقبت على المجتمع الإنساني. حيث ينقسم المجتمع (الطبقي) في كل مرحلة من مراحل التطور الاجتماعي إلى طبقتين: طبقة تملك وسائل الإنتاج، وطبقة لا تملك شيئاً منها، وإنما تملك فقط قوة عملها أي قدرتها على بذل المجهود أي استخدام وسائل الإنتاج لزيادة معدله، ومن هنا ينشأ الصراع الطبقي الذي جعله ماركس سمة رئيسية لتاريخ المجتمع البشري في مراحل معينة من تطوره "(25). بمعنى أن النقطة المركزية في الطروحات الماركسية تتمثل في افتراض أن موقع الأفراد والجماعات من ملكية وسائل الإنتاج يحدد وضعهم الاجتماعي في بناء القوة داخل المجتمع فإما ينتمون إلى الطبقة المسيطرة أو الطبقة الخاضعة، ومعادلة القوة هذه ذات بُعد تاريخي لا يمكن تجاهله في النظرية الماركسية (26).

يؤكد ماركس في البيان الشيوعي 1848، أن الصراع بين الطبقات وجد في جميع مراحل التطور الاجتماعي، لأن نظام الإنتاج يوجد دائماً طبقة مستغَلة وطبقة مستغِلة، طبقة مأمورة وطبقة آمرة. فيقول: " إنّ تاريخ أي مجتمع، ليس سوى تاريخ صراعات طبقية "(27). والصراع - كما يرى ماركس – قد وجد منذ تلاشى نظام الملكية الجماعية للأرض، وقام استغلال الإنسان لأخيه الإنسان. فنظام الملكية الفردية قد فصم الجماعة إلى طبقتين طبقة من يملكون وطبقة من لا يملكون، وهاتان الطبقتان تتصارعان وتتنازعان، وهذا الصراع لا يهدأ إلى أن يقوض الجماعة بأكملها أو يهدم الطبقات المتصارعة، ثم تقوم جماعة جديدة تتصارع فيها طبقات جديدة إلى أن يقضي عليها هي الأخرى. لذا تعد نظرية الصراع الطبقي، وجهاً آخر للتصور المادي للمجتمع والتاريخ، لتفسير عوامل التغير الاجتماعي في المجتمعات الطبقية القائمة على الاستغلال. بذلك فإن الصراع عند ماركس " لا يحدث فجأة، بل بشكل متكرر "(28)، كنتيجة حتمية لتعارض الأهداف والمصالح بين هاتين الطبقتين، حيث يؤدي في النهاية ومن خلال الثورة الاجتماعية إلى تغيير علاقات الإنتاج أو شكل الملكية السائدة، فالطبقة المستغِلة، لا يمكن أن تتنازل عن امتيازاتها الطبقية طواعيةً، " لأنها تحتل موقعاً متميزاً كطبقة مسيطرة "(29)، لذا لابد من إجبارها من خلال الثورة الاجتماعية - حسب رأي ماركس – حتمياً. تأسيساً على ما تقدم يمكننا اعتبار الصراع الطبقي وما يؤدي إليه من ثورات اجتماعية المحرك الأساسي للتغير الاجتماعي في جميع المجتمعات الطبقية حتى يتم الانتقال إلى مجتمع بلا طبقات، وتاريخ كل مجتمع - كما ذكرنا سابقاً - ليس سوى تاريخ صراع الطبقات، (الأحرار والعبيد، النبلاء والعامة، السيد الإقطاعي والقن، البرجوازي مالك وسائل الإنتاج والعامل)، باختصار المستغلون والمستغلين في تعارض دائم، وتصارع مستمر، يتخذ شكلاً سافراً في بعض الأحيان، ومقنعاً في أحيان أخرى، وينتهي الأمر دائماً إما بتغيير ثوري للمجتمع بأسره أو بانهيار الطبقتين المتصارعتين معاً(30).

تأسيساً على ما تقدم، قسّم ماركس المجتمع الرأسمالي إلى طبقتين: الأولى طبقة البرجوازية طبقة الرأسماليين المعاصرين، مالكي وسائل الإنتاج الاجتماعي الذين يستخدمون العمل المأجور. الثانية البروليتاريا طبقة العمال الأجراء المعاصرين الذين لا يملكون أية وسائل إنتاج، و " الذين لا يعيشون إلا إذا وجدوا عملاً. ولا يجدون عملاً إلا إذا كان عملهم ينمي رأس المال "(31). بذلك يرى ماركس من خلال هذا التقسيم أن النظام الرأسمالي يشتمل في داخله على بذور فنائه (32)، لأنه أوجد طبقة ثانية تعارضت مصالحها مع مصالح الطبقة البرجوازية وهي طبقة البروليتاريا.

كما تتميز هذه المرحلة - بالإضافة إلى وجود طبقتين متعارضتين - بتعدد النشاط الاقتصادي وتنوعه وبالتطور التكنولوجي في وسائل الإنتاج (33). وعلى الرغم من أن العامل قد تحرر في ظل الرأسمالية بمعنى أنه كان يعمل متى يشاء وأينما شاء، على عكس أسلوب الإنتاج الإقطاعي الذي عمل على تحديد حرية العامل (الأجير) (34)، إلا أنه في ظل أسلوب الإنتاج الرأسمالي مضطراً لبيع عمله للرأسمالي لأنه - كما أشرنا سابقاً – لا يملك وسائل الإنتاج. بالمقابل نجد الرأسمالي المالك لوسائل الإنتاج يستمر في تحسين وسائل الإنتاج للحصول على مزيد من الربح أي فائض القيمة (القيمة الزائدة)، وهذا يعني أن علاقات الإنتاج في النظام الرأسمالي القائمة على مبدأ الملكية الخاصة قد أدت إلى ظهور الربح الرأسمالي، فعندما يزداد نمو القوى الإنتاجية تصبح علاقات الإنتاج متخلفة عنها بحيث تكون معوقة لتطورها. في هذا السياق يرى ماركس أن وفرة الإنتاج الرأسمالي بسبب التقدم الذي طرأ على أساليبه ستؤدي إلى انهياره بسبب ما يحدث فيه من أزمات دورية، فهو كالساحر الذي أطلقت تعاويذه السحرية قوى جبارة يعجز عن السيطرة عليها فتقضي عليه (35). " لأن البرجوازية لا تستطيع البقاء دون أن تُثوَّر باستمرار أدوات الإنتاج"(36). مما يؤدي إلى عدم قدرة علاقات الإنتاج على مسايرة التقدم التقني في وسائل الإنتاج، فيترتب على ذلك عدم امتداد نتائج هذا التقدم التقني إلى من يعملون بجهدهم البشري لإنتاج تلك الأدوات، وكذلك في عملية الإنتاج ذاتها. بمعنى آخر يمكن لنا صياغة هذا القانون على النحو التالي: " إن التغيرات في القوى الإنتاجية لابد أن تستدعي، عاجلاً أم آجلاً، تغيرات مناسبة في علاقات الانتاج، وعلاقات الإنتاج بدورها تؤثر في القوى الإنتاجية فتساعد على تطويرها إذا كانت ملائمة لها، وتصبح كابحاً لها إذا دخلت في تناقض معها. فقانون الملائمة عند ماركس يعبّر عن ديالكتيك قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج الجاري على أساس تطور قوى الإنتاج "(37).

وبشكل عام يعتقد ماركس أن تغيير البناء الاجتماعي، ودخول المجتمع في مرحلة حضارية تاريخية يعود إلى التغيير في البناء المادي لسبب أو لآخر. وهذا من شأنه أن يؤثر على البناء الفوقي، أي بعبارة أخرى إن الجوانب المادية هي التي تؤثر على الأفكار والقيم والعادات والقوانين والأعراف الاجتماعية، ومع ذلك لا يلغي ماركس العوامل الفكرية تماماً، وإنما يرى دراسة هذه العوامل ينبغي أن تكون في ضوء العوامل المادية والاجتماعية. فالتطور الاجتماعي عنده يقوم على أساس تاريخي شبه ميكانيكي، حيث يلعب الإنسان فيه دور مهماً من خلال جهوده وتحديه للظروف المختلفة، وبهذا يكون الإنسان صانعاً لتاريخه.

***

د. حسام الدين فياض

الأستاذ المساعد في النظرية الاجتماعية المعاصرة

قسم علم الاجتماع- كلية الآداب – جامعة ماردين ارتوقلو – حلب سابقاً

.................................

* ولد ماركس في مدينة تريف Treves من منطقة الراين عام 1818 بروسيا، وكان أبوه ابن حاخام ومحامياً ثم أصبح مؤلفاً في الحقوق، تزوج من هنرييت بريسبورغ التي كانت ابنة حاخام أيضاً. اعتنق والد ماركس البروتستانتية لأسباب يرجح أنها سياسية أكثر منها دينية. وكان من أصدقائه فون- ويستون وهو بارون ريناني متزوج من نبيلة إيكوسية، فالوسط الذي عاش فيه ماركس فترة شبابه كان إذن وسطاً برجوازياً راقياً وثيق الصلة بالارستقراطية، وهو وسط ثقافي ونشاط فكري. وقد كان لوالده تأثير واضح على شخصيته، حيث نشَّأه على الحرية وحب المعرفة. وعندما أرسله إلى المدرسة الثانوية تلقى تعليمه على يد أساتذة ليبراليين، حيث كان موضع ثنائهم وتشجيعهم، وكان متفوقاً في الرياضيات والدراسات اللاهوتية. وفي عام 1835 التحق ماركس بجامعة بون ودرس التاريخ واهتم بالإنسانيات. واندمج في النشاط الطلابي، ثم انتقل إلى جامعة برلين عام 1836 وفيها التقى بفلسفة هيجل وبدأ يقرأها ويلم بها. وفي عام 1839 تعرف على صديقه الحميم في هذه الفترة وكان صحفياً يدعى أدولف ريتنبرج وكان من الهيجليين الراديكاليين، سجن بسبب أفكاره، وفي عام 1842 انضم ماركس للشبيبة الهيجيلية والتحق بالعمل كمحرر بالجريدة " الرينانية " فساعده عمله بالصحافة على أن يتفتح على المجتمع ومشكلاته. وفي عام 1843 وبعد زواجه قرر الهجرة إلى باريس. وكتب عن سبب هجرته من ألمانيا يقول: " إن الجو الخانق، لا يحتمل، ليس من اليسير على المرء أن يتذلل من أجل الحرية، لقد سئمت النفاق والغباء وفظاظة الموظفين الرسميين، وتعبت من طأطأة الرأس وابتكار العبارات التي لا خطر منها ولا ضرر من ورائها. إن ألمانيا لم يعد فيها ما أستطيع أن أفعله، إن المرء لا يستطيع أن يكون غير أمين مع نفسه ". ومن خلال تنقله بين فرنسا وبلجيكا التقى بجوزيف برودون وفردريك انجلز، وشارك في النشاطات السياسية في ثورات الربيع الأوروبي (فرنسا) عام 1848، وانتهى به المطاف في لندن حيث توفي في 14 مارس/ آذار 1883. وبهذا التقى بأبرز المفكرين، وبالهيجليين، وعمل بالصحافة، واشتغل بالسياسة. لمزيد من القراءة والاطلاع حول حياته وأعماله بالتفصيل انظر: عبد الباسط عبد المعطي: اتجاهات نظرية في علم الاجتماع، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، سلسلة عالم المعرفة، العدد: 44، أغسطس (آب)، 1981ص (67-68).

- Encyclopedia Britannica Fact matter: Karl Marx.

- http://www.britannica.com/EBchecked/topic/367265/Karl-Marx

(1) عبد الباسط عبد المعطي: اتجاهات نظرية في علم الاجتماع، مرجع سبق ذكره، ص (67).

** في هذا السياق أبدى ماركس اهتماماً خاص بالتاريخ أكثر منه بالسياسة، بالنتيجة، فإنه تجاهل كليةً النيات الحقيقية لرجال الثورات وأساس الحرية، وركز اهتمامه حصراً على المسار الموضوعي للأحداث الثورية. لمزيد من القراءة والاطلاع انظر:

- Hannah Arendt: On Revolution, Chapter II titled The Social Question, Penguin Books, London. 1999, p.(61).

(2) سعد البازعي: المكون اليهودي في الحضارة الغربية، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، ط1، 2007، ص (104).

(3) أحمد سليمان أبو زيد: نظرية علم الاجتماع – رؤية نقدية راديكالية، دار النيل للنشر والتوزيع، الإسكندرية، 1994، ص (103).

(4) بندريش زلني: منطق ماركس، ترجمة: ثامر الصفار، مركز الأبحاث والدراسات الاشتراكية في العالم العربي، دمشق، 1990، ص (21).

(5) هرمان دونكر: البيان الشيوعي – النص الكامل مع دراسة وتحليل، ترجمة: عصام أمين، الفارابي، بيروت، ط1، 2008، ص (53).

(6) Alex Callinicos: The Revolutionary Ideas of KARL Marx, Bookmarks Publications Ltd, London and Sydney, Third reprint, 2004, p. (81).

(7) Erich Fromm: Marx's Concept of Man- Milestones of Thought, Translation by: T. B. Bottomore, Frederick Ungar Publishing CO. New York, 1961, p.(v).

(8) أحمد مجدي حجازي: علم اجتماع الأزمة (تحليل نقدي للنظرية الاجتماعية في مرحلتي الحداثة وما بعد الحداثة)، دار قباء للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة، 1998، ص (70).

(9) حسام الدين فياض: المدخل إلى علم الاجتماع – من مرحلة تأصيل المفاهيم إلى مرحلة التأصيل، مكتبة الأسرة العربية، اسطنبول، ط1، 2021، ص(279).

(10) مجموعة مؤلفين: علم الاجتماع – الاتجاهات النظرية والاستراتيجيات البحثية، ترجمة وتقديم: عبد الله شلبي، مكتبة الانجلو المصرية، القاهرة، ط1، 2012، ص (145-146).

(11) Hannah Arendt: On Revolution, op.cit, p. (63).

(12) Ibid, p. (62).

(13) محمد عبد الكريم الحوراني: تأويل الاستغلال في نظرية علم الاجتماع – العناصر التكميلية لنظرية سوسيولوجية في الاستغلال، مجدلاوي للنشر والتوزيع، عمان، ط1، 2010- 2011، ص (16).

(14) هارولد لاسكي: الشيوعية، الدار القومية للطباعة والنشر، القاهرة، مجموعة اخترنا لك (111)، بدون تاريخ، ص (11).

(15) حسام الدين فياض: محاضرات في النظريات الاجتماعية المعاصرة، جامعة ماردين، كلية الآداب، قسم علم الاجتماع، 2020-2021 ، ص(1).

(16) محمد فتحي القرش: العدالة والحرية بين المفهوم الإسلامي والمفهوم الغربي- دراسة مقارنة، مكتبة مدبولي، القاهرة، ط1، 2012، ص (175).

(17) محمود عودة: علم الاجتماع بين الرومانسية والراديكالية، مكتبة سعيد رأفت، القاهرة، ط1، 1976، ص (113).

* إحدى المقولات الأساسية التي تستخدمها المادية التاريخية لتحديد المرحلة التي يعيشها المجتمع في تطوره التاريخي. ويقصد بالتكوين الاقتصادي الاجتماعي، المرحلة التاريخية أو النموذج التاريخي المحدد لمجتمع (مجتمع له أسلوبه من الإنتاج وبنائه الفوقي المطابق). لمزيد من القراءة ة والاطلاع انظر: خضر زكريا: نظريات سوسيولوجية، دار الأهالي، دمشق، ط1، 1998، ص (73- 78).

(18) ياس خضير البياتي: النظرية الاجتماعية – جذورها التاريخية وروادها، المكتب المصري للمطبوعات، القاهرة، 2011، ص (155).

(19) محمود عودة: علم الاجتماع بين الرومانسية والراديكالية، مرجع سبق ذكره، ص (116).

(20) عبد الوهاب الكيالي: موسوعة السياسة، الجزء:5، المرجع السابق نفسه، ص (627).

(21) Alex Callinicos: The Revolutionary Ideas of KARL Marx, op.cit, p. (87).

(22) محمود عودة: علم الاجتماع بين الرومانسية والراديكالية، مرجع سبق ذكره، ص (116).

(23) جورج بوليتزر وآخرون: أصول الفلسفة الماركسية، ترجمة: شعبان بركات، منشورات المكتبة العصرية، بيروت، الجزء:2، بدون تاريخ، ص (189).

(24) محمود عودة: علم الاجتماع بين الرومانسية والراديكالية، مرجع سبق ذكره، ص (117).

(25) محمد فتحي القرش: العدالة والحرية بين المفهوم الإسلامي والمفهوم الغربي- دراسة مقارنة، مرجع سبق ذكره، ص (176).

(26) محمد عبد الكريم الحوراني: النظرية المعاصرة في علم الاجتماع – التوازن التفاضلي صيغة توليفية بين الوظيفية والصراع، دار مجدلاوي، عمان، ط1، 2008، ص (88).

(27) هرمان دونكر: البيان الشيوعي – النص الكامل مع دراسة وتحليل، مرجع سبق ذكره، ص (53).

(28) ياس خضير البياتي: النظرية الاجتماعية – جذورها التاريخية وروادها، مرجع سبق ذكره، ص (156).

(29) محمد عبد الكريم الحوراني: النظرية المعاصرة في علم الاجتماع– التوازن التفاضلي صيغة توليفية بين الوظيفية والصراع، مرجع سبق ذكره، ص (89).

(30) محمود عودة: علم الاجتماع بين الرومانسية والراديكالية، مرجع سبق ذكره، ص (117- 118).

(31) هرمان دونكر: البيان الشيوعي – النص الكامل مع دراسة وتحليل، مرجع سبق ذكره، ص (66).

(32) فيليب جونز: النظريات الاجتماعية والممارسة البحثية، ترجمة: محمد ياسر الخواجة، مصر العربية للنشر والتوزيع، القاهرة، ط1، 2010، ص (95).

(33) حورية توفيق مجاهد: الفكر السياسي من أفلاطون إلى محمد عبده، مكتبة الانجلو المصرية، القاهرة، 1986، ص (480).

(34) علي عبد الرازق جلبي: الاتجاهات الأساسية في نظرية علم الاجتماع، دار المعرفة الجامعية، الإسكندرية، 2011، ص (110).

(35) محمد علي أبو ريان: النظم الاشتراكية، دار المعارف، القاهرة، ط1، بدون تاريخ، ص (261).

(36) هرمان دونكر: البيان الشيوعي – النص الكامل مع دراسة وتحليل، مرجع سبق ذكره، ص (55).

(37) خضر زكريا: نظريات سوسيولوجية، مرجع سبق ذكره، ص (73- 78).

 

 

مدخل: يشكل الفكر أو الخطاب الدينيّ بكل اتجاهاته، من فقه وحديث وعقائد وتفسير وتأويل للنص الدينيّ، ومن تصوف وسيرة وقصص وحكايات للصحابة والتابعين وتابعي التابعين، مساحة واسعة من وعي المواطن المؤمن وغير المؤمن، وخاصة في الخطاب الإسلاميّ، الذي ساد وانتشر في مناطق واسعة لم تتم فيها تلك التحولات الموضوعيّة والذاتية في الوجود الاجتماعيّ من ظهور الإسلام حتى اليوم، بل كثيراً ما نصطدم عندما نعرف أن الكثير من التحولات الموضوعيّة والذاتيّة التي ظهرت منذ بداية القرن الثالث للهجرة مع عصر المأمون والانفتاح على الحضارات الأخرى، وخاصة اليونانيّة والفارسية والهنديّة وما حملته أو أنتجته تلك الحضارات من علوم تتناسب وطبيعة المرحلة التاريخيّة المعيوشة على مستوى العلوم الإنسانيّة والطبيعيّة كعلم الطب أو الرياضيات أو الكيمياء او الفلسفة ودراساتها للكون والإنسان والأخلاق ومناهج البحث وغير ذلك من علوم، قد أجهضت فيما بعد منذ منتصف القرن الثالث للهجرة ذاته من قبل قوى سياسيّة ودينيّة أرادت لثقافة النقل أن تسود بدل ثقافة العقل، أو ثقافة الفم بدل ثقافة القلم.

ما أريد تسليط الضوء عليه هنا، هو تلك المناهج الفلسفيّة في الخطاب الدينيّ الإسلاميّ، التي استخدمت ولم تزل تستخدم في البحث عن الحقيقة التي تتفق مع المقاصد الدينيّة كما فهمها الفقهاء وعلماء الكلام والمتصوفة وأهل الحديث والمنطق، والأهم ما فهمه رجال السلطة ومشايخهم ممن امتلكتهم شهوة السلطة والمصالح الأنانيّة الضيقة..

أولاً: المنهج الاخباري. (المدرسة السلفيّة الإسلاميّة أنموذجاً.):

السلفيّة اسم لمنهجٍ يدعو إلى فهم الكتاب، والسنة بفهم سلف الأمّة، والأخذ بنهج وعمل النبي "محمد" صاحب الدعوة الإسلاميّة، ومن سار على نهجه من صحابته والتابعين وتابعي التابعين إلى يوم الدين، باعتبارهم يمثلون هذا النهج، أي نهج الإسلام الصحيح على حد زعمهم انطلاقا من حديث للرسول يقول: (أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم) (1).

فالسلفيون هنا هم التمسكون بأخذ الأحكام من كتاب الله، وما صح من حديث للنبي محمد، وهم التاركون كل المدخلات الغريبة عن روح الإسلام وتعاليمه، والواثقون كل الثقة بما نقل عن السلف بأنه حقيقة لا يشوبها الخطأ. وقد عبربعضهم عن هذا التمسك بأقوال وأفعال هذا السلف بقولهم: «منهجنا الكتاب والسنة بفهم سلف الأمة.»، (2). فالكتاب والسُنَّة هما النبْع الصافي لدين الإسلام عندهم، وهما المنهج الكامل للحياة السويّة، والميزان الصحيح الذي توزن به الأقوال والأفعال، ولا يكون للمسلمين شأن وقدْر، ولا عِزٌّ ولا نصر، ولا فلاح في الدنيا، ولا نجاة في الآخرة، إلا بالاعتصام بالكتاب والسنة وأثر الساف الصالح.

إن السلفيّة في جوهرها إذاً، تقوم على التزام منهج السلف الصالح في فهم النصوص الشرعيّة، وهذا يعني أن ثمة اتفاقاً على مرجع جامع يجتمع عليه السلفيون.

والسلفيّة أيضاً تمثل في إحدى جوانبها، أحد التيارات الإسلاميّة العقائديّة مقابلة للفرق الإسلاميّة الأخرى. وفي جانبها الآخر المعاصر تمثل مدرسة من المدارس السنيّة التي تستهدف إصلاح أنظمة الحكم والمجتمع والحياة عمومًا إلى ما يتوافق مع النظام الشرعيّ الإسلاميّ، أو ما يسمى بالحاكميّة.

التأسيس النظري والعملي للمنهج السلفي:

بداية، نستطيع القول إن المنهج السلفيّ تأسّس فقهياً على يد الشافعي في الرسالة، وتبنى جوهره وأصله فقهيّاً أحمد بن حنبل، وفلسفياً (كلامياً) أبو حسن الأشعري، وفلسفياً وفقهياً وصوفياً أبو حامد الغزالي، وتابع تأصيله فقهياً وبلورته ابن تيمية وابن قيم الجوزية، ووضعه موضع التطبيق العمليّ في تاريخنا الحديث والمعاصر محمد بن عبدالوهاب في منطقة نجد في القرن الثاني عشر الهجري. ثم تبناه فكراً (سياسياً) وتطبيقاً في تاريخنا الحديث والمعاصر قادة السلفيّة المتأخرين أمثال حسن البنى وأبو الأعلى المودودي وسيد قطب ونظرائهم. ولعل السرّ في هذا التلازم بين تبنّي الفكر السلفيّ وظاهرة التكفير، أن هذا الفكر خلق الجو المناسب لاعتناق فكرة قداسة الماضي ومثاليته، مما يحول دون كشف عيوب التراث أو التجرؤ على نقد رموزه وأسانيده، بل واعتبار جل مفرداته مسلمات ومعطيات قطعية مقدسة، وأي خروج عنها أو نقدها يُعدّ خروجًا عن الإسلام نفسه. كما أنها السلفيّة بموقفها الامتثالي الاستسلامي هذا تخلق جوًا خانقا للعلم والفكر الدينيّ بداعي تلك القداسة المفتعلة للماضي.

أسس المنهج النقليّ، أو منهج المدرسة الاخباريّة أو السلفيّة:

يقوم هذا المنهج باتباع الطرق التالية للوصل إلى تحقيق أهداف الشرع:

1 - اجماع الامة. 2 - اجماع الصحابة. 3 - سيرة الصحابة.

4 - إجماع السلف - وهم مسلمو القرن الاول الهجري. 5 - الخبر المتواتر. 6 - خبر الواحد المتلقى بالقبول، وعند بعضهم، خبر الواحد مطلقاً. كالأخذ بالحديث الضعيف على حساب الرأي كما هو عند ابن حنبل وأتباعه، 7- الأخذ بالنص الشرعي - قرآناً أو حديثاً  - بحمله على ظاهره الحقيقي من غير تأويل. 8 - عدم جواز الحمل على المجاز. 9 - التوقف في إعطاء الرأي، ويكون هذا التوقف في الحالات التالية :

أ - عند عدم وجود نص شرعي في المسألة.

ب - عند تعارض النصين الشرعيين وعدم وجود مرجح شرعي لاحدهما على الآخر.

ج - عند إجمال النص لأنه متشابه أو لانغلاق فهم معناه أو لغيرهما. (3).

ومن ميزات هذه المدرسة أن حملتها ينهون السؤال عن أية مسألة لم يوضحها النص الديني المقدس (القرآن والحديث والاجماع). ويعتبر قياس الفرد، أو الجزء على الجزء الأساس الذي تقرر فيه شرعيّة الأحكام الصادرة على مستجدات الحياة.

هذا مع تأكيدنا هنا: بأن ما سال إلينا من أحاديث وقصص ومرويات وآثار وأخبار وكتابات، هي من صنع بشر، من صحابة وتابعين وتابعين التابعين وفقهاء ومحدثين ومفسرين ومؤرخين. أي هم من صنعوا هذا الإرث الضخم، والكم الهائل من الآثار والأخبار والروايات التي تحوّلت إلى نصوص مقدسة كما اشرنا قبل قليل، في الوقت الذي اختلفوا وتقاتلوا فيه على أشياء كثيرة، وتركوا من ورائهم إرثا، لا نعرف من أين تدخل إليه ولا كيف نخرج منه.

من الأمثلة على موقف أهل السلف من الرأي المختلف: قال سفيان بن عيينة : سأل رجل مالكاً عن (الرحمن على العرش استوى)، كيف يكون الاستواء؟. فسكت مالك حتى علاه الرحضاء ثم قال: (الاستواء منه معلوم، والكيف منه غير معقول، والسؤال عن هذا بدعة، والايمان به واجب، وإني لأضنك ضالاً، أخرجوه. فناداه الرجل يا أبا عبد الله، والله لقد سألت عنها أهل البصرة والكوفة والعراق، فلم أجد أحداً وفق لما وفقت له.). (4). -

ملاك القول:

إن المنهج السلفي، او منهج أهل الحديث،  منهج يرفض الحركة والتبدل والتطور في الواقع المعيوش، وبالتالي كل جديد بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. هذا في الوقت الذي يتجاهلون فيه حديث الرسول القائل: (إن الله يبعث لهذه الأمّة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها).(5).

***

د. عدنان عويّد

كاتب وباحث من سوريّة.

........................

الهوامش:

1- هذا الحديث رواه ابن عبد البر في "جامع بيان العلم وفضله" (895) وابن حزم في "الإحكام" (6/244) من طريق سلام بن سليم، قال : حدثنا الحارث بن غصين، عن الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم ).

2- موقع إسلام ويب.

3- المؤلف : الدكتور عبد الهادي الفضلي - الكتاب أو المصدر : خلاصة علم الكلام- الجزء والصفحة : ص17ـــ21 راجع موقع: ttps://almerja.net.

4- رواية سفيان بن عيينة). عن كتاب :( كتاب الأثر المشهور عن الإمام مالك رحمه الله في صفة الاستواء - [عبد الرزاق بن عبد المحسن البدر].

5- رواه أبو داود (رقم/4291) وصححه السخاوي في "المقاصد الحسنة" (149)، والألباني في "السلسلة الصحيحة" (رقم/599).

تتألف المنظومة التربوية[1]، شأنها شأن أي منظومة، من عناصر تكوينية جوهرية تمثل ماهيتها وطبيعتها، وتحتل هذه العناصر مواقع معينة، وتتشكل بينها علاقات، وان احداث أي تغيير في العناصر التكوينية، أو في مواقعها، أو في العلاقات بينها، من شأنه ان يحدث تغيرا جوهريا في المنظومة نفسها، ولذا يمكن النظر الى المنظومة ـ في ضوء هذا الفهم ـ على انها بنية يمكن تأملها في اطار تأثرها وتأثيرها بهذه العناصر المتلاحمة والمتظافرة فيما بينها .

(1)

تَراجع كثيرا التصور التقليدي الذي يجعل من المعلم طرفا فاعلا وحيدا في العملية التربوية، ويجعل من التلميذ مجرد متلق سلبي، لأنّ هذا التصور يهب المعلم سلطات مفرطة، ويحرم الطالب من المساهمة في صنع الدرس، كما تراجع تصور أخر يجعل من المعلم ميسرا مرة أو موجها عاما مرة أخرى، لدرجة يقلل كثيرا من دور المعلم، ويلقي عبئا اكبر على التلميذ، وفي تصوري ان كلا الاتجاهين يربك العملية التربوية، ولذلك سيظل المعلم قائدا في العمل التربوي، لا على أساس الطريقة التقليدية التي تطلق يده في كل شيء، ولا على أساس تخليه عن ابرز مهامه، وانما يتحدد دوره على أساس وعي ان المناهج الدراسية تحولت الى علوم لها أسسها واصولها، وان التدريب ـ الذي اصبح صناعة ـ [2]يتلاحم مع المناهج ليكسب المعلم مهارات متنوعة، لدرجة يمكنني القول ان إعداد المعلم يشبه الى حد ما صناعة انسان يمتلك مواهب فردية، يتم صقلها وتهذيبها وتطويرها وتعميقها في اطاري المناهج الدراسية والتدريب، إضافة الى المكونات الأخرى التي تسهم في تطوير وتعضيد العملية التربوية .

ولا يخفى ان تطور المجتمعات والنهوض بها مقترن بنوعية التعليم، ولذلك تتفاوت المجتمعات وتختلف في كيفية صنع المناهج الدراسية، وفي كيفية استخدام آليات التدريب وتطويرها، وتستفيد المجتمعات المتقدمة - بخاصة - من التراكم المعرفي الذي يمتد الى مئات السنين، وتسعى لتوظيف المناهج الدراسية والتدريب معا من " أجل اكتساب مهارات التعليم والتفكير، وخلق النزعة النقدية في النظر للمشاكل وكيفية معالجتها منهجياً، وتنمية مهارات الإبداع معتمدة على قدرات المعلمين في التحليل والتفكيك والتركيب " [3].

اما المجتمعات الأقل تقدما - وبتعبير ادق المتخلفة - فإنها لا تزال تحافظ على المناهج التقليدية، وتنأى بنفسها عن التطورات المتسارعة التي تطرأ على التعليم وآلياته في العالم، ولذلك بقي النظر الى المناهج والتدريب ثابتا وسكونيا، أو بتعبير اخر " أنه ليس في الإمكان أحسن مما كان، ولذلك فإنها تنتج ما تم انتاجه، وتعيده على ما هو عليه، في أحسن الأحوال، أو بأسوأ مما هو عليه، تشويهاً واختزالاً، في أغلب الأحوال"[4].

ولقد تركت الظروف القاسية التي مر بها العراق خلال العقود الأخيرة اثرا سلبيا على العملية التربوية بأسرها، فضلا عن آثارها على المعلمين وتأهيلهم، وإذا كانت الادارة التقليدية للمنظومة التربوية قادرة على إدارة الاعمال الروتينية في الظروف الاعتيادية، فإنّ المنظومة التربوية بها حاجة الى ادارة خاصة للازمات والمخاطر، في اثناء الحروب والحصار، وكذلك في المناطق التي احتلتها داعش بخاصة، من اجل مواجهة الظروف الصعبة وحساب الاحتمالات المختلفة واختيار الوسائل المناسبة لها .[5] الامر الذي يقتضي اعادة تأهيل المعلمين والمدرسين والمرشدين التربويين والمشرفين التربويين، وتدريبهم على قيادة ادارة الازمات والمخاطر. فضلا عن إعداد مناهج خاصة تعالج ما تركته الحروب والحصار واحتلال داعش من مؤثرات سلبية في وجدان المعلمين والتلاميذ وسلوكياتهم .[6]

وحاولت وزارة التربية احداث تغيرات جوهرية في السنوات الأخيرة على بعض المناهج الدراسية [7]، كاللغة الإنكليزية والعلوم والرياضيات، غير ان هذا يصطدم بعقبتين جوهريتين:

الأولى: ان مجرد التحديث لذاته لا يمثل قيمة كبيرة تدفع بالعملية التربوية الى الامام ما دامت العناصر التكوينية الأخرى متراجعة وهزيلة، ذلك ان المنظومة التربوية مثل الكائن الحي تتفاعل عناصرها مع بعضها، وتؤثر علاقات هذه العناصر ببعضها، الامر الذي يجعل من المنظومة التربوية موجودا لا يتصف بالكمال والتناسق والانسجام، فاذا احدثنا تطورا في المناهج ولم يوازه ويتفاعل معه تطور في التدريب فان هذا يجعل المنظومة التربوية مربكة وان مخرجاتها مشوهة وقاصرة .

الثانية: ان نسخ تجارب الاخرين أو محاولة محاكاتها وتقليد اطرها المنهجية العامة يمكن ان يضر بالعملية التربوية كثيرا، وهذا ما حصل، ذلك ان وزارة التربية حاولت التطوير في ضوء منهجية منظمة اليونسكو، فقام مؤلفون عراقيون بدعم من منظمة اليونسكو وتوجيهها ومساندتها، بهذه المهمة المنهجية الحديثة وتطبيقاتها، دون الاخذ ـ بتصوري المتواضع ـ بالفوارق النوعية بين المنهج الذي استخدم في بيئات تعليمية متقدمة ـ، ودون النظر الى بنياتنا التعليمية المتردية من حيث الأبنية المدرسية البائسة واكتظاظ الصفوف الدراسية وآليات التعليم التقليدية، والمستويات الضعيفة لإعداد المعلمين، وبخاصة في المخرجات الأخيرة التي ترفدنا بها كليات التربية، ومعاهد المعلمين .

ان منهجا متقدما يمكن ان يصلح لبيئة متقدمة ويمكن ان يحقق نجاحا كون البنية التحتية متكاملة، والمستوى الثقافي للمجتمع متميزا، فضلا عن متانة المنظومة التربوية وتماسكها، ولكنه سيخفق في مجتمعات تعاني من نسب عالية من الامية القرائية، فضلا عن الامية الثقافية والتقنية، وتعاني من بنيات تحتية متهالكةـ ـ ابنية مدرسية، ومختبرات، ووسائل تعليمية ـ ومستوى متواضع من الإمكانات والمهارات التي يمتلكها اغلب المعلمين والمدرسين والمشرفين.

ويمكن ان نضرب امثلة بسيطة على ذلك ففي العام الدراسي 2012 ـ 2013:

الأبنية المدرسية:

بلغ عدد الابنية المدرسية الصالحة في المرحلة الابتدائية (4842) بناية بنسبة 53ر44%، وبلغ عدد الابنية المدرسية التي تحتاج الى ترميم (4251) بنسبة 10ر39%، و بلغ عدد الابنية المدرسية غير الصالحة (1780) بنسبة 37ر16%، وبلغ مجموع الابنية المدرسية المشيدة بالطين (389) بناية بنسبة 58ر3% . وهذا من شأنه ان يعيق العلمية التربوية، هذا اذا اخذنا بعين الاعتبارـ حتى الان ـ توقف مشاريع اعادة بناء المدارس التي لا تزال شاخصة حتى الان، اما تهديما كاملا، دون اعادة بناء، أو مجرد هياكل حديدية لم يستكمل بناؤها . اما ما حصل من تخريب وتدهور في الابنية المدرسية بسبب الارهاب وبخاصة بعد سنة 2014 فان هذا بحد ذاته بحاجة الى احصائيات خاصة ودراسات مستقلة [8].

وليس الامر مقتصرا على ذلك فان الابنية المدرسية في المرحلة الابتدائية تعاني من عدم توافر المياه الصالحة للشرب أ ومزودة بالمجاري، أو التي تشتمل على سياج أو بدون سياج، فلقد بلغ مجموع الابنية المدرسية التي يتوفر فيها ماء صالح للشرب (7972) شكلت نسبة 32ر73% من مجموع الابنية المدرسية، وبلغ مجموع الابنية المدرسية المزودة بخدمة المجاري (7226) بناية شكلت نسبة 46ر66%، وبلغ مجموع الابنية المدرسية التي تحتوي على سياج (9173) بناية شكلت نسبة 36ر84% [9].

الرسوب في المرحلة الابتدائية:

ربما يكون الرسوب ظاهرة عادية في معدلاتها الطبيعية في مراحل الدراسة المتوسطة والثانوية، ولكنها حين تتجاوز المعدلات الطبيعة فإنها تعد مشكلة وطنية تستدعي التأمل والدراسة وايجاد الحلول المناسبة، اما الرسوب في المرحلة الابتدائية فانه يظل كارثة بكل الاحوال مهما كانت المعدلات، إذ ينبغي ان تضطلع المنظومة التربوية بكافة مكوناتها وعناصرها ان تجد لها حلولا جذرية بحيث يتمكن الخبراء من توقع حدوث هذه الظاهرة قبل حصولها، وتتبعها في اثناء تفاقمها، وتستفيد من العبر في حالة الانتهاء منها، بحيث تجد الحلول الناجعة .

ان ارتفاع عدد التلاميذ الراسبين في الصف الاول الابتدائي يستدعي تأملها بشكل جيد،من حيث البيئة المدرسية التي اصبحت طاردة للتلاميذ، والمناهج الدراسية التي اخذت في الصعوبة واحيانا الاستعصاء، ليست على التلميذ فحسب وانما على المعلم نفسه، وبخاصة ان عددا ليس قليلا من المعلمين والمدرسين لا يمتلكون الكفايات التدريبة الكافية.[10].

ان ظاهرة رسوب اعداد كثيرة من التلاميذ في الصفوف الابتدائية ليست جديدة، وبخاصة الصف الاول الابتدائي، فلقد اشار التقرير السنوي لسير المعارف لعام 1926 م الى رسوب عدد غير قليل من تلاميذ الصف الاول الابتدائي [11]، وعزا ذلك الى اسبابا عديدة، منها ما يتصل بطبيعة البيئة المدرسية الخالية من الحدائق، واكتظاظ الصفوف بأعداد كثيرة من التلاميذ، وعدم انتظام التلاميذ بالدوام، فضلا عن استصغار بعض المعلمين الاشتغال بالصفوف الاولى ويستخفونه، فكثيرا ما تبقى هذه الصفوف في عهدة اضعف المعلمين .[12]وتطرأ تغيرات على عدد التلاميذ بشكل كبير في الانتقال من الصف الاول الى الصف الثاني، ومن الصف الرابع الى الصف الخامس .[13]

وفي عام 2012 ـ 2013 " يبلغ مجموع التلاميذ الناجحين 4113617 من المجموع الكلي للتلاميذ البالغ 5288845 شكلوا نسبة نجاح اجمالية بلغت 78ر77%، ان اعلى نسبة نجاح كانت في الصف السادس بنسبة 72ر82% تلاها الصف الثاني بنسبة 13ر82% ثم الصف الرابع بنسبة 80ر80% فالصف الاول بنسبة 14ر78%، وادنى نسبة نجاح على مستوى الصفوف كانت في الصف الخامس إذ بلغت 46ر63% .وبلغ مجموع التلاميذ الراسبين 692824 من المجموع الكلي للتلاميذ البالغ 5288845 شكلوا نسبة رسوب اجمالية بلغت 10ر13% .

ان اعلى نسبة رسوب كانت في الصف الخامس بنسبة 58ر25% تلاها الصف الاول بنسبة 81ر12% ثم الصف الرابع بنسبة 37ر12% فالصف الثاني بنسبة 18ر10%، وادنى نسبة رسوب على مستوى الصفوف كانت في الصف السادس إذ بلغت 41ر6% .

ان نسبة الرسوب بسبب الفشل في الامتحان بلغت 13ر82%، ونسبة الرسوب بسبب تجاوز ايام الغياب بلغت 93ر14%، ونسبة الرسوب لأسباب اخرى بلغت 93ر2% .

وبلغ مجموع التلاميذ التاركين 99205 من المجموع الكلي للتلاميذ البالغ 5288845 شكلوا نسبة اجمالية بلغت 87ر1%، وان اعلى نسبة للتاركين كانت في الصف الخامس بنسبة 13ر3% تلاها الصف السادس بنسبة 00ر2% ثم الصف الرابع بنسبة 81ر1% فالصف الاول بنسبة 58ر1%، وادنى نسبة على مستوى الصفوف كانت في الصف الثاني إذ بلغت 31ر1% .

واود التوقف عند اعداد التلاميذ الراسبين في الصف الاول الابتدائي، إذ بلغ عددهم: 139408، وتبلغ نسبته 12،81 من المجموع الكلي لتلاميذ الصف الاول، وهي نسبة عالية، وان المسؤولية تقع في الحقيقة على عاتق وزارة التربية وكوادرها، إذ ليس من المنطقي والمعقول رسوب هذا العدد الكبير من تلاميذ الصف الاول الابتدائي، الامر الذي يترك اثارا سلبية على التلاميذ نفسيا وسلوكيا، ويولد الاحباط في حياتهم المستقبلية، والجدير بالذكر ان التلاميذ الراسبين في مختلف المراحل الدراسية الابتدائية من الصف الاول الى الصف السادس يبلغ عددهم 69282، وبنسبة: 13, 10 %"" . [14]

المختبرات:

بلغ المجموع الكلي للمختبرات في المدارس الثانوية (6801) مختبرا تنوعت حسب المواد الدراسية (العلوم، الفيزياء، الكيمياء، الاحياء،مجمع مختبرات، مختبر لغة، مختبر حاسوب .

ويتفاوت عدد المختبرات بحسب المحافظات إذ تشتمل محافظة نينوى على اعلى عدد 792 مختبرا، وتحتل ميسان اخر القائمة ب 82 مختبرا [15]

توزيع الهيأة التدريسية حسب التخصص في الثانويات:

حصل تخصص (اللغة العربية) على اعلى نسبة من بين التخصصات الاخرى للهيأة التدريسية إذ بلغت نسبته (89ر15%) تلاه تخصص (اللغة الانكليزية) بنسبة (44ر12%) تخصص (الرياضيات) بنسبة (63ر10%) بعده تخصص (التاريخ) بنسبة (28ر9%)[16]

وأود التوقف عند كتابين من الكتب المنهجية للمرحلة الابتدائية، وهما كتاب (القرآن والتربية الإسلامية) [17]وكتاب (العلوم)، اما كتاب القرآن والتربية الإسلامية فهو في ستة كتب، وهذه الكتب من حيث مفرداتها ومنهجها موغلة في التقليد، إذ تعتمد الحفظ والتلقين للسور القرآنية الكريمة والاحاديث النبوية الشريفة، والسيرة النبوية، وتتميز بتفصيل اكثر في الصفين الخامس والسادس الابتدائيين، لتشتمل على موضوعات في العقيدة وغيرها، وهذا المنهج لم يتغير كثيرا عما كانت عليه المناهج منذ عام 1919. [18]

ان هذا المنهج الموغل في التقليدية، القائم على التلقين والحفظ واستظهار المواد التي يتلقاها التلميذ، يقابله كتاب العلوم من الصف الأول الى الصف السادس، وفي كل سنة يزود التلميذ بكتابين، العلوم كتاب التلميذ، والعلوم كتاب النشاط،إضافة الى كتاب دليل للمعلم الذي يستعين به المعلم في تدريس المادة العلمية .

وتستند كتب العلوم ـ بحسب المؤلفين ـ " على النظرية البنائية وتميزت في تنظيم الدروس بتمثيل دورة التعلم الخماسية بمراحلها: التهيئة، والاستكشاف، والشرح، والتفسير والتقويم، والتوسع والاثراء، كما بنيت كتب السلسة على نظام تقويم متكامل في أنشطة ومحتوى المنهج، ليكون التدريس موجها ومبنيا على بيانات تعكس واقع تعلم التلاميذ "[19].

وكتاب العلوم للصف الأول الابتدائي كتاب التلميذ يتكون من 200 صفحة، ويتكون من ست وحدات، وتشتمل الوحدة الأولى على: الكائنات الحية، وتشتمل هذه الوحدة على فصلين: الفصل الأول: الكائنات الحية واحتياجاتها، وينقسم الى درسين الدرس الأول: الكائنات الحية والاشياء غير الحية . والدرس الثاني، احتياجات الكائنات الحية، اما الفصل الثاني: النمو والتكاثر في الكائنات الحية، فنقسم الى درسين: الدرس الأول النمو والتكاثر في الانسان والحيوانات، والدرس الثاني: النمو والتكاثر في النباتات .

ولا تختلف الوحدات الخمسة الباقية عن الوحدة الأولى في تفصيلاتها، فهي تكاد تكون متطابقة، غير ان الموضوعات مختلفة، لتكون الوحدة الثانية: تركيب اجسام الكائنات الحية، والوحدة الثالثة: البيئة الطبيعية، والرابعة: المادة وخواصها، والخامسة: الطاقة والحركة، والسادسة: ارضنا .

ويكفي ان اتوقف عند الوحدة الخامسة في كتاب العلوم للصف الاول الابتدائي التي تشتمل على: الطاقة والحركة، الطاقة واشكالها، الحرارة والكهرباء، الضوء والصوت، الحركة والقوة، الموقع والحركة، القوة، فعلى سبيل المثال النص الآتي: " الطاقة تجعل الطائرة تحلق، والتلفاز يعمل، ويزود الطعام جسمي بالطاقة لكي العب واعمل واجباتي .الطاقة تجعل الأشياء تعمل وتتغير، ولها اشكال عدة منها الضوء والصوت والحرارة والكهرباء"[20]. اما كيف يحدث الصوت، عندما يقرع الجرس يهتز غشاؤه ويصدر صوتا، الصوت ينتج من اهتزاز الشيء، واذا توقف عن الاهتزاز يتوقف الصوت، الاهتزاز هو حركة الشيء الى الامام والخلف .[21] . وتشتمل هذه الموضوعات المختلفة على تعريفات يصعب ادراك اغلبها على تلميذ في الصف الاول الابتدائي، بمعنى انها اعلى من المدركات الذهنية للتلميذ، الذي لم يستكمل ادواته القرائية بعد . وكذا الامر بخصوص كتاب العلوم النشاط، فانه يقع في 76 صفحة، وهو كما يقول المؤلفون ـ " يحتوي الأنشطة المتضمنة في كتاب التلميذ ...وصممت تلك الأنشطة بطريقة تتيح للتلميذ تدوين ملاحظاته واستنتاجاته " [22].

ولو توقفنا عند كتاب العلوم للصف الرابع فانه يشتمل على ست وحدات، وبالطريقة نفسها التي اشتمل عليها كتاب الصف الأول، وأود ان اشير الى بعض الموضوعات، مثل: الكائنات الحية البسيطة، البكتريا تركيبها وخصائصها، الطحالب تركيبها وخصائصها، دورات الحياة الفقرية واللافقرية، والتغير الكيمائي، الاحتراق والصدأ، الطاقة الاحفوررية، ومصادر الطاقة الاحفورية، والطاقة الصوتية، وغيرها .[23]

ولا يعني هذا اننا نقف ضد أي محاولة لتحديث المناهج، غير ان نسخ التجارب ونقلها ومحاكاتها لتكون الانموذج الأفضل للتعليم للتعليم، فضلا عن ان البنية التحتية المتردية للمدارس العراقية واكتظاظ صفوفها بالتلاميذ، إضافة الى قصور في معرفة المعلم وامكاناته ومهاراته، وبخاصة انه لم يتلق تدريبا جديا وفعليا، بحيث يرتقي بقدراته، كل هذا يدفعنا الى القول بأن التحديث حين يكون من اجل التحديث فانه يقود الى ضرر ولا يحقق الأهداف المبتغاة .(2)

تزداد أهمية التدريب وتتأكد جدواه كلما كانت المجتمعات تعاني من تحديات بسبب النزاعات والكوارث والحروب سنوات عديدة، ومن المؤكد ان هذا يؤثر على النظم التعليمية، الامر الذي يقود الى وجوب المشاركة في الاستراتيجيات التي تقلل من المخاطر [24].

وبسبب التطورات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية وما رافقها من تخلف وترد وكوارث وتحديات فضلا عن التطورات العلمية المتسارعة في العالم اصبح ضروريا تدريب المعلمين بشكل مستمر منذ دخوله معترك الحياة حتى تقاعده، وهذا يعني الأهمية القصوى للتدريب لأنه يمثل نشاطا مستمرا كونه يزود المعلم بالخبرات والمهارات والاتجاهات، الامر الذي يمكنهم من تطوير قدرتهم المهنية، وينعكس بالضرورة على تعليم الطلاب .[25]

ازمة التدريب في وزارة التربية:

تعد المديرية العامة لإعداد المعلمين والتدريب والتطوير التربوي المسؤولة عن إعداد المعلمين وتدريبهم قبل الخدمة وفي اثنائها، وتشتمل هذه المديرية ـ هيكليا ـ على اقسام وشعب تقليدية بحسب التخصصات، وتسند إدارة هذه المديرية لمديرين قد لا يمتلكون مؤهلات عليا وليس لديهم خبرة في التدريب، وأكثر من هذا انها لا تشتمل على خطة منهجية تعالج معضلات التدريب الأساسية .

وحين كلفت بإدارة هذه المديرية العامة عام 2014، ولمدة سنة تقريبا، وضعت يدي على اهم مآزق التدريب، ويمكن تلخيصها على المحاور الآتية:

1 يهيمن التدريب التقليدي الذي يقوم على أساس المحاضرة والتلقين، الامر الذي يجعل التدريب مجرد محاضرات في التخصصات المختلفة، حيث يقوم المدرب بإلقاء محاضرة يتحقق نجاحها بطريقة إلقائه وقوة صوته ومظهره العام وطريقة أدائه، ولا يعتمد انماطا أخرى الا نادرا مثل حلقة النقاش والندوات والمؤتمرات وغيرها .[26]

2 ليس هناك مدربون مؤهلون تأهيلا علميا بحيث يمكنهم أداء ادوارهم ومهامهم داخل العراق وخارجه،شأنهم شأن المدربين والعرب .

3 مركزية التدريب، بمعنى ان المديرية العامة لإعداد المعلمين والتدريب والتطوير التربوي تخاطب المديريات العامة للتربية لترشح عددا محددا في تخصصات معينة الى بغداد بحيث ان العدد لا يتجاوز عدد المتدربين 600 الى 800 متدرب .[27]بمعنى اننا نحتاج عشرات السنين حتى ندرب المعلمين والمدرسين والموظفين بحسب هذه الآلية .

4 قصر فترة التدريب، فان اغلب فترات التدريب لا تتجاوز خمسة أيام الامر الذي يجعل من التدريب مجرد نزهة، ولكونها لا تنتهي الدورة التدريبة باختبار، فضلا عن ان اغلب المتدربين لا يحصلون على جرعة حقيقية، ومن الجدير بالذكر هنا ان عددا ليس قليلا من المتدربين هم اكثر كفاءة وقدرة من المدربين انفسهم، على الرغم من ان بعض المتدربين حاصل على مؤهل عال، ولذلك فان التحديات التي تواجه تدريب المعلمين كثيرة، بحيث يكون التدريب لمرة واحدة وبجرعة معقولة من المادة والوقت الكافي، لا تكفي لمرة واحدة .[28]

ولذلك شرعت بالقيام بأمرين، احدهما مرحلي، والأخر استراتيجي:

الامر المرحلي:

أ ـ نقل التدريب من المركز الى الأطراف، أي ان المدرب يذهب الى مواقع المعلمين والمدرسين في مناطقهم، في المديريات العامة للتربية، وفي الاقضية والنواحي،  وليس دعوة هؤلاء الى بغداد، بحيث نصبح قادرين على تدريب اعدادا اكبر، وتشمل فئات يصعب عليها ـ ان لم يكن متعذرا ـ الحضور الى بغداد، وبخاصة في الاقضية والنواحي .

ب ـ الاعتماد على حملة الشهادات العليا، ممن يمتلكون القدرات والكفايات، للاضطلاع بهذا الامر، وقد عمم هذا على اقسام التدريب في المحافظات .

الامر الاستراتيجي: الاتفاق مع منظمة اليونسكو لرسم استراتيجية للتدريب في وزارة التربية تشتمل على المحاور الآتية:

1 ـ إعداد قادة تدريب بكافة التخصصات من حملة الشهادات العليا، بحيث لا يقل عددهم عن 40 متخصصا لكل مديرية عامة للتربية، بحيث يتراوح العدد الكلي بين 800 الى 1000 قائد تدريب، وتشرف منظمة اليونسكو على تدريبهم واعدادهم اعدادا علميا ومنهجيا، ويضطلع هؤلاء للعمل بتدريب منتسبي وزارة التربية ويتفرغون لهذا العمل بشكل خاص، وينفذون خطة منهجية مركزية، ويسهمون هم أيضا في صناعتها مع المديرية العامة لإعداد المعلمين والتدريب والتطوير التربوية .

2 إعداد قاعات تدريبة انموذجية بإشراف منظمة اليونسكو، تشتمل على المواصفات العالمية لقاعات التدريب، وتكون مزودة بالأجهزة اللازمة والضرورية للتدريب، لان القاعات التدريبة الحالية هي مجرد صفوف لا تشتمل على وسائل وأدوات وأجهزة . بحيث تخصص قاعة أو اكثر في كل مديرية عامة للتربية، ثم تقوم هذه المديريات بإنشاء قاعات مماثلة في مراكز المحافظة والاقضية والنواحي، كلما استدعت الحاجة التدريبة الى ذلك .

3 تدريب متخصصين ـ ويفضل ان يكونوا من حملة الشهادات العلياـ وبإشراف منظمة اليونسكو على صنع البرامج التدريبية لكل منهج دراسي، وبخاصة التي تم تحديثها .

4 تدريب متخصصين ـ ويفضل ان يكونوا من حملة الشهادات العلياـ وبإشراف منظمة اليونسكو لصنع الحقيبة التدريبية، إذ لا يمكن تنفيذ التدريب على المناهج الحديثة دون حقيبة مرجعية تشتمل على مستلزمات واوليات وبرامج التدريب، ليستعين بها المتدرب في اثناء التدريب وبعده .

وتم التنسيق مع منظمة اليونسكو، واستحصلنا موافقة المشرف على يونسكو العراق د خليل العليان في عمان، ثم رفعنا ذلك كله الى معالي الوزير وسلمته ذلك بيدي، برنامجا كاملا يشتمل على هذه الاستراتيجية، إضافة الى إعادة صياغة هيكلية المديرية العامة لإعداد المعلمين والتدريب والتطوير التربوي .[29]

ان إمكانات التدريب تبدو هزيلة بحيث لا يمكنها مجاراة التطورات التي احدثتها الوزارة في التخصصات التي اشرنا اليها، على الرغم من تحفظنا على طبيعة هذه التحديثات، ولا يخفى ان المشرفين التربويين الذي تلقوا جرعة بسيطة على هذه المناهج بحيث لا يتعدى التدريب ستة أيام،[30] ثم يضطلع هؤلاء المشرفون بتدريب المعلمين والمدرسين .

ان هذه الالية لا تمكن المعلم من اتقان الاليات الحديثة لتدريس المواد الدراسية الجديدة، وبقي المعلم يؤدي ادواره بآليات قديمة لمناهج حديثة .

***

ا. د. كريم الوائلي

مدير عام سابق في وزارة التربية

...............

[1] شاركت بهذه الورقة البحثية في الملتقى العلمي السنوي الاول (التربية والتعليم وتحديات العولمة)  الذي عقد في  بيت الحكمة 8ـ 9 / حزيران / 2022 .

[2]  ينظر: مصطفى زكريا احمد السحت و اميرة حسين احمد صبحي، صناعة المدرب المحترف بين النظرية والتطبيق، دار الفيروز، الاردن، 2015، ص 39 وما بعدها .

[3] ينظر كريم الوائلي،  منهج الدراسة الابتدائية في العراق الحديث، مكتب الزاكي، بغداد، 2021، ص 7 .

[4] المصدر السابق والصفحة نفسها .

[5]  ينظر: كريم الوائلي ،  الارهاب صناعة ثقافية / تربوية مقترحات استراتيجية لتربية ما بعد داعش، ص 7 .

[6] المصدر السابق، ص 8 .

[7][7] يشيع فهم يفتقر الى الدقة مفاده ان المنهج انما هو الكتاب المدرسي، والحق ان الكتاب احد مكونات المنهج، إذ يشتمل المنهج على ادوات واليات تسهم جميعا في تطوير العملية التربوية، ويمكن لخيصها بما يأتي:

1 ـ تحديث طرائق التدريس بحيث تتناغم وتنسجم مع تحديث المادة العلمية .

2 ـ  المختبرات التي تساعد على توصيل المادة العلمية بشكل فاعل .

3 ـ الوسائل التعليمة الجديدة المتناسبة مع المادة المحدثة ,

4 ـ استخدام جديد لقياس وتقويم التحصيل العلمي، وذلك باستخدام آليات للاختبار، بحيث تتجاوز الطرائق التلقينية  والاستذكارية الى طرائق جديدة.

[8] كريم الوائلي، ازمة التعليم في العراق، واقع المدارس الابتدائية والثانوية لعام 2012 ـ 2013، مكتبة الكوثر، بغداد، 2019 ص 13 ـ 14.

[9] المصدر السابق، ص 14 ـ 15.

[10] المصدر السابق، ص 23 .

[11] التقرير السنوي  عن سير المعارف لسنة 1926 ـ 1927، مطبعة دار السلام، بغداد، 1927، ص 32 .

[12]المصدر السابق ص  32 ـ 33 .

[13] نفسه .

[14] كريم الوائلي، ازمة التعليم في العراق ، ص 25 ـ 26 ,

[15] المصدر السابق، ص 157 ـ 158  .

[16] المصدر السابق ص 270 .

[17] تابعت الكتب من الصف الأول الابتدائي الى الصف السادس، ولم يذكر أسماء مؤلفي الكتب الستة، وأشارت الى  ان لجنة متخصصة، هي التي الفت الكتاب أو نقحته . المديرية العامة للمناهج، طبعات 2019 و2021 .

[18] كريم الوائلي، منهج الدراسة الابتدائية في العراق الحديث، ص 155 ـ  160 .

[19] المصدر السابق ص، 3 .

[20] العلوم كتاب التلميذ، للصف الأول الابتدائي، ص 148 .

[21] المصدر السابق ص 156 .

[22] العلوم النشاط، ص 5 مقدمة المؤلفين .

[23] العلوم كتاب التلميذ للصف الرابع .

[24] تنمية قدرات المعلم، كيف ندعم وندرب المعلم، المعهد الدولي للتخطيط التربوي، اليونسكو، ص 4 .

[25][25][25] جودت عزت عطوي، الادارة التعليمية والاشراف التربوي، اصولها وتطبيقاتها، الدار العلمية الدولية، عمان، 2004، ص  204 .

[26] ينظر: مصطفى عبد الجليل عطوي، معوقات تدريب المعلمين في اثناء الخدمة، رسالة ماجستير، الجامعة الاسلامية، غزة، 2008، ص 26 وما بعدها .

[27] نستثني من ذلك التدريبات التي تقوم بها منظمات دولية كاليونسكو أو مؤسسات اخرى كالمعهد البريطاني،فهي عمل تقوم به هذه الجهات، ولا علاقة لذلك بالتدريب الخاص بهذه المديرية العامة، كون المدربين غير عراقيين في الاعم الاغلب .

[28] تنمية قدرات المعلمين، ص 14 .

[29] كان الوزير حينها د محمد اقبال الصيدلي، ولم يرد على هذه الخطة التفصيلية، ثم ارتأى الوزير بعد ذلك نقلي الى الجهاز التنفيذي لمحو الامية، بعد مرور سنة أو اقل على عملي في هذه المديرية العامة .

[30] حظي عدد ليس قليلا من معلمي ومدرسي اللغة الانكليزية بحسب المنهج الجديد بتدريب مباشر من الشركة المسؤولة ولمدة ستة ايام في اربيل او بيروت، وكانت هذه الجرعة على قلة ايامها  نافعة وساعدت الى حد ما  في تمكين المتدربين من تأدية ادوارهم .

 

مقدمة: تهدف هذه الدراسة إلى التعريف بمفهوم التجديد والإصلاح الديني، وحركة التطور التاريخي التي لحقت بهذا المفهوم، وكذلك الجماعات والفعاليات التي حملت لواء مشروع التجديد والإصلاح في العصر الحديث، مع التعريف الموجز بالاتجاهات الرئيسية في حركة التجديد في المشهد الإسلامي المعاصر.

أغراض البحث:

1-  إن الدين بقيمه ومعارفه المتنوعة، ليس صندوقا مغلقا، وإنما هو فضاء مفتوح، بحيث يتحمل الناس بكل فئاتهم ومستوياتهم مشروع حمل وفهم وتطبيق قيم الدين.

والمعارف الدينية لا يمكن أن تتطور، بدون تطور واقع الناس والمجتمع.

لذلك فإن الجهود الفكرية والسياسية والاقتصادية والإبداعية، التي تستهدف ترقية المجتمع، وتطور وقائعه المختلفة، لها الدور الأساسي في تطوير وعي الناس بقيمهم الدينية والثقافية. بمعنى أن هناك علاقة سببية بين تطور واقع الناس والمجتمع، وتطور رؤيتهم ومعارفهم الدينية.

2-  عديدة هي المقاربات التي تستهدف فهم الدين وقيمه وشعائره وشعاراته. ولكن السائد في مجتمعنا ولدى فئات عديدة منه، المقاربة الفقهية، التي لا تتعدى فهم الفتوى الشرعية على الموضوع الخارجي المتعلق دائما بحركة الفرد في المجتمع.

وفي تقديرنا أن سيادة المسار الواحد في فهم قيم الدين ومعارفه، لا يؤدي بنا إلى اكتشاف كنوز الدين الإسلامي وثراءه المعرفي. لهذا فإننا بحاجة إلى الانفتاح والتواصل مع كل المسارات والمقاربات الفقهية والفلسفية والعرفانية والمقاصدية والشاملة، التي تستهدف فهم الدين وتظهير معارفه الأساسية..

3-  إن قيم الدين ومعارفه الأساسية، هي منظومة متفاعلة مع قضايا الواقع والعصر. وأية محاولة لبناء الحواجز والعوازل بين قيم الدين وحركة الواقع، ستنعكس سلبا على فهمنا وإدراكنا لمعارف الدين وقيمه الأساسية. لهذا فإننا نعتقد أن عملية التفاعل والتواصل بين قيم الدين والواقع بكل حمولاته وأطواره وتحولاته، يؤدي إلى تطور وإنضاج الرؤى والمعارف الدينية.. لهذا نجد باستمرار تحولات على مستوى الأحكام الشرعية والمعارف الدينية بتغيرات الزمان والمكان.

لهذا فإننا نستهدف باستمرار خلق التفاعل بين المعرفة الدينية وحركة الواقع، وإدراك مقتضيات الزمان والمكان، لأنها من المداخل الأساسية لفهم قيم الدين ورصد عملية التطور في المعارف الدينية، انطلاقا من تحولات الزمان والمكان.

ومن يبحث عن تطور المعارف الدينية، بعيدا عن حركة الواقع والتفاعل مع مقتضياته، فإنه لن يجني إلا الضحالة المعرفية والبعد الجوهري عن معارف الدين ومقاصده الأساسية.

ومن خلال التفاعل والتواصل مع حركة الواقع والعصر، نتمكن من إضفاء قيمة دينية على الأعمال والأنشطة والمبادرات الخاصة والعامة، التي تستهدف رقي وتقدم الأفراد والجماعات.

فالقيم الدينية ليست خاصة بعبادة الأفراد، وإنما تتسع للكثير من الأنشطة والمبادرات السياسية والثقافية والإبداعية والاجتماعية والاقتصادية، التي تساهم في تطور المجتمعات، ونقلها من مستوى إلى مستوى آخر أكثر تقدما وعدالة وحرية.

لهذا فإننا بحاجة باستمرار إلى تظهير القيم الدينية، التي تستوعب أنشطة الإنسان الجديدة. فلا فصل بين قيم الدين وحركة الإنسان والمجتمع، وكلما عملنا من أجل تظهير قيم الدين ومعارفه، القادرة على استيعاب وتسويغ أنشطة الإنسان الجديدة والهادفة إلى الرقي والتقدم، ساهمنا في تطوير وعي الناس بقيم الدين، وفتحنا الباب واسعا تجاه تطور معارف الدين الأساسية.

4-  تظهير العلاقة العميقة بين عملية التجديد الديني والثقافي ومشروع الإصلاح السياسي. فلا يمكن أن يتحقق مشروع الإصلاح السياسي في مجتمعنا ووطننا، بدون إطلاق عملية التجديد الديني والثقافي.

لأن هناك الكثير من العقبات الموجودة في فضائنا وبيئتنا الثقافية والاجتماعية، لا يمكن تجاوزها بدون الانخراط في مشروع التجديد الديني والثقافي. فتجدد المعرفة الدينية في أي مجتمع، هو رهن بحضور المجتمع وتفاعله مع واقعه. المعرفة الدينية لا تتجدد وهي حبيسة الجدران، وإنما تتجدد حينما تستجيب إلى حاجات المجتمع، وتتفاعل مع همومه وشؤونه المختلفة.

الدين والعصر:

على المستوى المنهجي والمعياري، ثمة نظريات وأفكار عديدة حول آليات التجديد في الفكر الديني وطرق وصل الدين بوصفه منهج حياة بالعصر.. ولكن جميع هذه الأفكار والنظريات تتفق أن ثمة حاجة ذاتية وموضوعية لوصل الدين بالعصر، والعصر بالدين.. وإن هناك عوامل وحاجت عديدة في الاجتماع الإسلامي المعاصر سواء على مستوى الأفراد وحاجاته المتعددة، أو على مستوى المجتمعات الإسلامية وأنماط حياتها المعاصرة ونظام علائقها الداخلية والخارجية، كل هذه العوامل تدفع باتجاه ضرورة تفعيل حركة الاجتهاد والتجديد في الفهم الديني وذلك حتى يتسنى للإنسان المسلم المعاصر، أن يعيش دينه عبر الالتزام بقيمه وتشريعاته، كما يعيش عصره وراهنه بدون عقد أو انزواء عن متطلباته الضرورية..

لهذا فإن الإنسان المسلم اليوم، بحاجة إلى رؤية دينية تؤهله للعيش على قاعدة التزامه الديني في العصر.. بحيث لا تكون حركة انخراطه في العصر ابتعادا عن التزامه الديني، كما لا تكون حركة التزامه الديني انزواءا وانطواءا عن حركة العصر بكل زخمها العلمي والتقني والحضاري..

وهذا بطبيعة لا يتأتى إلا بتأسيس حركة اجتهادية وتجديدية في الرؤى والأفهام الدينية، بحيث يتم تجاوز كل الأنماط التفسيرية لقيم الدين التي تساهم في إبعاد الإنسان عن التزامه العميق والحضاري بقيم الدين وتشريعاته المتعددة..

وحينما ندرك أهمية الاجتهاد والتجديد الإسلامي المعاصر، ندرك في ذات الوقت أهمية وضرورة أن نبقى مسلمين فكرا ومنهجا وطريقة حياة..

فالتجديد ليس نافذة للتهرب من الالتزام بقيم الدين، وإنما هو طوق نجاة لكي تتمكن عملية الاجتهاد من توفير إجابات إسلامية أصيلة على مستجدات العصر وتطوراته المتلاحقة..

وإن الدين بقيمه ومعارفه المتنوعة، ليس صندوقا مغلقا، وإنما هو فضاء مفتوح، بحيث يتحمل الناس بكل فئاتهم ومستوياتهم مشروع حمل وفهم وتطبيق قيم الدين.

والمعارف الدينية لا يمكن أن تتطور، بدون تطور واقع الناس والمجتمع.

لذلك فإن الجهود الفكرية والسياسية والاقتصادية والإبداعية، التي تستهدف ترقية المجتمع، وتطور وقائعه المختلفة، لها الدور الأساسي في تطوير وعي الناس بقيمهم الدينية والثقافية. بمعنى أن هناك علاقة سببية بين تطور واقع الناس والمجتمع، وتطور رؤيتهم ومعارفهم الدينية.

و عديدة هي المقاربات التي تستهدف فهم الدين وقيمه وشعائره وشعاراته. ولكن السائد في مجتمعنا ولدى فئات عديدة منه، المقاربة الفقهية، التي لا تتعدى فهم الفتوى الشرعية على الموضوع الخارجي المتعلق دائما بحركة الفرد في المجتمع.

وفي تقديرنا أن سيادة المسار الواحد في فهم قيم الدين ومعارفه، لا يؤدي بنا إلى اكتشاف كنوز الدين الإسلامي وثراءه المعرفي. لهذا فإننا بحاجة إلى الانفتاح والتواصل مع كل المسارات والمقاربات الفقهية والفلسفية والعرفانية والمقاصدية والشاملة، التي تستهدف فهم الدين وتظهير معارفه الأساسية..

و إن قيم الدين ومعارفه الأساسية، هي منظومة متفاعلة مع قضايا الواقع والعصر. وأية محاولة لبناء الحواجز والعوازل بين قيم الدين وحركة الواقع، ستنعكس سلبا على فهمنا وإدراكنا لمعارف الدين وقيمه الأساسية. لهذا فإننا نعتقد أن عملية التفاعل والتواصل بين قيم الدين والواقع بكل حمولاته وأطواره وتحولاته، يؤدي إلى تطور وإنضاج الرؤى والمعارف الدينية.. لهذا نجد باستمرار تحولات على مستوى الأحكام الشرعية والمعارف الدينية بتغيرات الزمان والمكان.

لهذا فإننا نستهدف باستمرار خلق التفاعل بين المعرفة الدينية وحركة الواقع، وإدراك مقتضيات الزمان والمكان، لأنها من المداخل الأساسية لفهم قيم الدين ورصد عملية التطور في المعارف الدينية، انطلاقا من تحولات الزمان والمكان.

ومن يبحث عن تطور المعارف الدينية، بعيدا عن حركة الواقع والتفاعل مع مقتضياته، فإنه لن يجني إلا الضحالة المعرفية والبعد الجوهري عن معارف الدين ومقاصده الأساسية.

ومن خلال التفاعل والتواصل مع حركة الواقع والعصر، نتمكن من إضفاء قيمة دينية على الأعمال والأنشطة والمبادرات الخاصة والعامة، التي تستهدف رقي وتقدم الأفراد والجماعات.

فالقيم الدينية ليست خاصة بعبادة الأفراد، وإنما تتسع للكثير من الأنشطة والمبادرات السياسية والثقافية والإبداعية والاجتماعية والاقتصادية، التي تساهم في تطور المجتمعات، ونقلها من مستوى إلى مستوى آخر أكثر تقدما وعدالة وحرية.

لهذا فإننا بحاجة باستمرار إلى تظهير القيم الدينية، التي تستوعب أنشطة الإنسان الجديدة. فلا فصل بين قيم الدين وحركة الإنسان والمجتمع، وكلما عملنا من أجل تظهير قيم الدين ومعارفه، القادرة على استيعاب وتسويغ أنشطة الإنسان الجديدة والهادفة إلى الرقي والتقدم، ساهمنا في تطوير وعي الناس بقيم الدين، وفتحنا الباب واسعا تجاه تطور معارف الدين الأساسية.

ومن الضروري في هذا السياق أيضا تظهير العلاقة العميقة بين عملية التجديد الديني والثقافي ومشروع الإصلاح الاجتماعي. فلا يمكن أن يتحقق مشروع الإصلاح الاجتماعي في مجتمعنا ووطننا، بدون إطلاق عملية التجديد الديني والثقافي.

لأن هناك الكثير من العقبات الموجودة في فضائنا وبيئتنا الثقافية والاجتماعية، لا يمكن تجاوزها بدون الانخراط في مشروع التجديد الديني والثقافي. فتجدد المعرفة الدينية في أي مجتمع، هو رهن بحضور المجتمع وتفاعله مع واقعه. المعرفة الدينية لا تتجدد وهي حبيسة الجدران، وإنما تتجدد حينما تستجيب إلى حاجات المجتمع، وتتفاعل مع همومه وشؤونه المختلفة.

الخوف من التجديد:

دائما المجتمعات الساكنة والجامدة، تخاف من التغيير والتجديد. وهذا الخوف يتحول بفعل عمق الجمود والتكلس إلى رهاب. أي إلى مرض مجتمعي يحول دون أن ينفتح المجتمع على آفاق التغيير والتجديد وموجباتهما.

وفي هذا السياق تبرز المفارقة الصارخة، التي تعيشها المجتمعات الجامدة. فهي تعيش التخلف والجمود والسكون على كل الأصعدة، وتعتمد على غيرها من الأمم والمجتمعات في كل شيء، وترضى بكل متواليات هذا الواقع السيء. وفي ذات الوقت تخاف التغيير، وترفض التجديد، وتقبل العيش في ظل هذا الواقع السيء..

ولعلنا لا نبالغ حين القول: أن الخوف من التغيير والرهاب من التجديد، ليس خاصا بمجتمع دون آخر، وإنما هي من خصائص المجتمعات المتخلفة والجامدة، بصرف النظر عن أيدلوجيتها وبيئتها.. فكل المجتمعات الجامدة تخاف من التغيير، وكل الأمم المتخلفة تخشى من التجديد لمستوى الرهاب.

من هنا فإن لحظة الانطلاق الحقيقية في هذه المجتمعات، تتشكل حينما تتجاوز هذه المجتمعات حالة الخوف والرهاب من التغيير والتجديد. فحينما يكسر المجتمع قيد الخوف من التغيير والتجديد، حينذاك يبدأ المجتمع الحياة الحقيقية، التي تمكنه من اجتراح فرادته وتجربته. أما المجتمعات التي لا تتمكن لأي سبب من الأسباب من تجاوز حالة الرهاب والموقف المرضي من التجديد، فإنه سيستمر في التقهقر والتراجع على جميع الأصعدة والمستويات.. والفئات والشرائح التي لها مصلحة في استمرار التقهقر والجمود، ستستثمر هذه الحالة المرضية وتبني عليها الكثير من المواقف والإجراءات، والتي تعمق حالة التخلف وتزيد حالة الخوف المرضي من كل آفاق ومتطلبات التغيير والتجديد.

وينقل في هذا الصدد عن التاريخ الصيني القديم، أنه في ظل سلالة هان (25 _ 220 ب م) صدر مرسوم إمبراطوري ينص على أنه لا يجوز لأي متأدب أن يطرق، بصورة شفهية أو خطية، أي موضوع لم يعينه له أستاذه. فليس يحق لكائن من كان أن يتخطى ميراث معلمه.وكل من تسول له نفسه أن يتعدى الحدود المرسومة يغدو مبتدعا.

وهكذا تأسس رهاب البدعة الذي شل قدرة المثقفين الصينيين على التفكير كما على التخيل. فلكأن عقولهم قد حبست في أكياس من البلاستيك حتى لا يتسرب إليها أي جديد.

فالنزوع القهري إلى رفض التغيير والخوف من التجديد، هو حالة مرضية، تزيد من انحطاط المجتمعات، وتبقيها تحت ضغط الجمود والتخلف. ولا تقدم لهذه المجتمعات إلا بإنهاء حالة الرهاب من التغيير والتجديد..ونحن هنا لا نقول أن التجديد في المجتمعات بلا صعوبات وبلا مشاكل، ولكننا نود القول: أن مشاكل المجتمعات من فعل التغيير والتجديد أهون بكثير من استمرار حالة التخلف والجمود.. وإن المجتمعات لم تتقدم إلا حينما انخفض منسوب الخوف من التغيير والتجديد إلى حدوده الدنيا. بدون ذلك ستبقى مقولات التقدم والتجديد والتغيير، مقولات جامدة ومنفصلة عن الحياة الاجتماعية. وهذا ما يفسر لنا حالة بعض المجتمعات العربية والإسلامية على هذا الصعيد. فهي مجتمعات مليئة في الإطار النظري بمقولات التقدم والحرية والتجديد، إلا أن واقعها الفعلي، أي واقع النخب وأغلب الشرائح والفئات الاجتماعية، تتوجس خيفة من هذه المقولات، وتنسج علاقة مرضية مع مقتضيات التقدم والحرية والتجديد.فتجد الإنسان يصرخ ليل نهار باسم التغيير والتجديد، إلا أنه في ذات الوقت يقف موقفا سلبيا من كل الوقائع الاجتماعية والثقافية والسياسية التي تنسجم ومقولة التغيير والتجديد، فتتضخم لديه الخصوصيات إلى درجة إلغاء مقولة التجديد.. فهو باسم الثوابت يحارب المتغيرات، وباسم الخصوصية يحارب التجديد، وبعنوان عدم التماهي مع الآخر الحضاري يقف ضد كل نزعات التغيير والتجديد.فهو على الصعيد النظري، جزء من مشروع الحل، إلا أنه على الصعيد الواقعي، جزء من المشكلة والمأزق. وكل ذلك بفعل رهاب التجديد والتغيير.وهي عناوين ومقولات لا يكفي التبجح بها، وإنما من الضروري الالتزام النفسي والعقلي والسلوكي بمقتضياتهما ومتطلباتهما.وهنا حجر الزاوية في مشروعات التجديد في كل الأمم والمجتمعات..

لهذا من الضروري لأي إنسان ومجتمع، أن ينسج علاقات جدلية ونقدية مع مقولاته وشعاراته، حتى لا تتحول هذه المقولات والشعارات إلى أقانيم مقدسة، تحارب التجديد في العمق والجوهر، وهي تتبناه في المظهر.

ويبدو من خلال التجارب الإنسانية المديدة، أن المجتمعات تتمايز على هذا الصعيد في هذه المسألة..فكل المجتمعات تصدح بضرورة التطوير والتجديد والتغيير، إلا أن هناك مجتمعات تخاف حقيقة من التجديد، لذلك فهي على الصعيد الواقعي تحارب كل ممارسة تجديدية.فالتمايز يكون بين المجتمعات، بين مجتمعات ترفع شعار التجديد وتلتزم بكل مقتضياته ومتطلباته. ومجتمعات ترفع شعار التجديد دون الالتزام بكل المتطلبات. ولعل من أهم الأسباب لهذا التمايز بين القول والممارسة هو في الخوف من التجديد والرهاب من التغيير. صحيح أن هذه المجتمعات ترفع شعار التجديد، إلا أنها على الصعيد النفسي والثقافي تخاف من المقتضيات والمتطلبات. فهي مع التجديد الذي لا يتعدى أن يكون شعارا فحسب، أما التجديد الذي يتحول إلى مشروع عمل وبرامج عملية متكاملة، فهي ترفضه وتخاف منه. وأي مجتمع لا يتحرر من رهاب التجديد، فإنه لن يتمكن على المستوى الواقعي من الاستفادة من فرص الحياة ومكاسب الحضارة الحديثة.

ولكي تتحرر مجتمعاتنا من رهاب التجديد والتغيير، من الضروري التأكيد على النقاط التالية:

إن التجديد والتغيير في المجتمعات الإنسانية، لا يحتاج فقط إلى توفر الشروط المعرفية والثقافية والسياسية، وإنما من الضروري أن يضاف إلى هذه الشروط، شرط الاستعداد النفسي والعملي لدفع ثمن ومتطلبات التجديد في الفضاء الاجتماعي. وبدون توفر هذا الشرط، لن تتمكن المجتمعات من ولوج مضمار التجديد. لأن التجديد بحاجة إلى جهد إنساني متواصل، واستعداد نفسي مستديم لإنتاج فعل التجديد والتغيير في الواقع الاجتماعي. والاستعداد النفسي الذي نقصده في هذا السياق، ليس ادعاء يدعى، وإنما هو ممارسة سلوكية، تحتضن وتستوعب كل شروط التجديد، وتعمل على تمثل وتجسيد متطلباته في الذات والواقع العام.

فطريق التجديد في مجتمعاتنا، ليس معبدا أو سهلا، وأمامه العديد من الصعوبات والمآزق، وبدون الاستعداد النفسي والعملي لدفع ثمن التجديد والتغيير، لن تتمكن مجتمعاتنا من القبض على حقيقة التجديد والتغيير. فالمطلوب دائما وأبدا ومن أجل الاستيعاب الدائم لمكاسب العصر والحضارة الحديثة، هو توفر الجهد الإنساني الموازي لطموحاتنا وتطلعاتنا.وبدون ذلك ستصبح دعوات التجديد في أي حقل من حقول الحياة وكأنها حرثا في البحر.فعليه فإن التجديد في المجتمعات الإنسانية، يتطلب وجود مجددين، يجسدون قيم ومبادئ التجديد، ويعملوا من أجل بناء حقائق ووقائع في الحياة الاجتماعية منسجمة وقضايا التجديد ومتطلباته.

إن قانون التغيير والتجديد في المجتمعات الإنسانية، لا يعتمد على قانون المفاجأة أو الصدفة، وإنما على التراكم. فالتجديد يتطلب دائما ممارسة تراكمية، بحيث تزداد وتتعمق عناصر التجديد في الواقع الاجتماعي. ولهذا ومن هذا المنطلق فنحن مع كل خطوة أو مبادرة صغيرة أو كبيرة، تعمق خيار التجديد وتراكم من عناصره في الفضاء الاجتماعي. وفي المحصلة النهائية فإن التجديد هو ناتج نهائي لمجموع الخطوات والمبادرات والممارسات الايجابية في المجتمع.

ويشير إلى هذه الحقيقة المفكر العربي (جورج طرابيشي) في كتابه (هرطقات عن الديمقراطية والعلمانية والحداثة والممانعة العربية) بقوله: والواقع أن قانون الترابط بين حركة الإصلاح الديني والتقدم الثقافي دلل على فاعلية نموذجية في الدول الصغيرة الحجم في المقام الأول. وتلك هي حالة السويد التي كانت أول بلد في العالم يطور برنامجا شاملا لمحو الأمية. فانطلاقا من فكرة لوثر البسيطة القائلة إن جميع المسيحيين بلا استثناء كهنة، وبما أن الكاهن هو بالتعريف في تصور بشر ما قبل الحداثة من يعرف القراءة، بات واجبا على البشر، كي يكونوا كهنة أي محض مسيحيين، أن يتعلموا القراءة. وعلى العكس من الكنيسة الكاثوليكية التي عارضت وصول العامة إلى النصوص المقدسة، شجعت الكنائس البروتستانتية أهالي المدن والأرياف على السواء على تعلم القراءة.ومنذ مطلع القرن السابع عشر أطلقت كنيسة السويد اللوثرية، بمساندة من الدولة، حملات واسعة النطاق لمحو الأمية. وفي أقل من قرن، كان ثمانون في المئة من السكان، في ذلك البلد القروي، قد أضحوا من المتعلمين.وما إن أطل القرن الثامن عشر حتى كان تعميم التعليم في السويد قد أضحى ظاهرة جماهيرية ناجزة، وهذا بدون وجود شبكة موازية من المدارس والأجهزة التربوية.

من خلال هذه التجربة نرى أهمية أن تترجم دعوات التجديد والتغيير إلى خطط وبرامج ومبادرات، حتى يتسنى للمجتمع اكتشاف بركات ومنافع التجديد على المستويين الخاص والعام.

وجماع القول: أن التجديد في مجتمعاتنا ضرورة قصوى. ولكن هذا لا يعني أن طريق التجديد سالكا ومعبدا وبدون مشاكل، بل على العكس من ذلك حيث أن طريق التجديد والتغيير مليء بالأشواك والصعاب.والشرط الضروري الذي يوفر لنا إمكانية تجاوز كل هذه العقبات وإبراز منافع التجديد والتغيير هو إنهاء حالة الرهاب والخوف من التجديد.

التعريف بمفهوم التجديد:

من البديهي القول، أنه كلما كثر التطور وتعددت أشكال التحول والتغير في حياة الإنسان الفرد والجماعة، كانت الحاجة إلى التجديد والاجتهاد أكثر إلحاحا.

وذلك لأن المستجدات الحياتية بحاجة إلى فهم ومعرفة وتحديد شرعي وعقلي لطريقة التعامل معها أو الاستفادة منها. فالحقائق الجديدة التي تجري في واقع المجتمعات الإنسانية، وعلى الصعد كافة. بحاجة إلى عملية تجديد فكري وثقافي لبلورة الموقف والرؤية المطلوبة تجاه هذه الحقائق. فتطور الحياة وتموجاتها المتعددة، بحاجة دائما إلى صناعة رؤية وبصيرة تجاهها. حتى يتسنى لنا كأفراد ومجتمعات التكيف الإيجابي مع تطورات الحياة. فالتطور في الحياة يؤسس لأسئلة وتحديات جديدة، والإجابة عليها يحتاج إلى عملية اجتهاد وتجديد. وهكذا فالعملية متداخلة مع بعضها البعض.. فالتطور يؤسس لضرورة التجديد والاجتهاد، كما أن التجديد في الرؤية والفكر يفضي إلى التطور النوعي في الحياة.

من خلال هذه المفارقة أو الحقيقة الوجودية، تنبع أهمية التجديد والاجتهاد في كل العصور وفي مختلف المواقع والظروف. والاجتهاد والتجديد وفق هذا المنظور المنضبط بضوابط المعرفة والاستنباط، هو وسيلة الحفاظ على مصالح الإنسان فردا وجماعة. إذ أن قصور الأطر التشريعية عن مواكبة متغيرات الحياة وتطوراتها، يجعل الكثير من المصالح والمنافع الخاصة والعامة عرضة للتلف والنهب والتعدي. والاجتهاد والتجديد وفق منهج واضح ومشروع، هو الذي يوفر الأحكام التشريعية التي تستوعب متغيرات الحياة ومستجداتها. وذلك لأن موضوع الحكم الشرعي في كل الأزمنة والأمكنة هو الإنسان. والباري عز وجل لا يكلف الإنسان ما لا يطيق ومالا يسعه العمل به. قال تعالى [لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أوأخطأنا ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا مالا طاقة لنا به وأعف عنا وأغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين](1).

والتجديد هو عملية عقلية ـ فكرية مستمرة، يتواصل من خلالها اليوم والأمس، وتتقاطع عندها جملة الخيارات الفكرية والإستراتيجية المطروحة في حوارات دائمة وحركة دؤوبة تتجه إلى اختيار الأنسب والأصلح من هذه الخيارات.

وبهذا المنظور فإننا ننظر إلى عملية التجديد، باعتبارها عملية شاملة، وتتطلب جهود الجميع في مواقعهم المتميزة وإمكاناتهم الواضحة.. فالتجديد ليس عملية ذهنية محضة، بل هو عملية حياتية ـ شاملة، وتستوعب كل الطاقات والقدرات، وتحتاج إلى كل الإمكانات الإنسانية المتوفرة.

والتجديد الذي نقصده، لا يقع خارج الأدلة الشرعية والمقاصد الكبرى. وإنما هو من داخل هذه الأدلة والمقاصد. كما أن التجديد لا يعني التكييف التعسفي بين وقائع العصر والنصوص الشرعية، وذلك لأن عملية التكييف التعسفي لا تفضي إلى تجديد ثقافي ومجتمعي، وإنما تؤدي إلى بتر المسلمات العقدية والفكرية عن وقائع الراهن. فالتجديد كما يعبر عن ذلك أحد المفكرين المعاصرين بأنه استمرار متطور للتاريخ، وحركة رعاية دائبة للنتاج الإنساني بين البداية والغاية، تقتضي التصحيح والتصويب حينا، والخلق والإبداع حينا آخر. وبالتالي فإن عملية التجديد من الضروري، أن تخضع لمعادلة متوازنة وواعية بين الزمني واللازمني، بين التاريخ والغيب، تحفظ للفكر الإنساني دوره في كونه امتدادا للحكمة الإلهية، وللتاريخ الإنساني موقعيته في كونه صلة بين حقائق التكوين والهدف من التكوين في حركة التطور الحضاري. لذلك فإن عملية التجديد بكل مستوياتها ومجالاتها في صيرورة مستمرة، تتعامل مع حياة الإنسان وتقلباتها وتحولاتها على هدى الكتاب والسنة. ويخطأ من يتصور أو يتعامل مع التجديد باعتباره مشروعا متحررا من كل الضوابط المعرفية والعقدية.

فالتجديد ليس تفلتا من الضوابط والقيم، بل هو قراءة عميقة للنص والواقع تفضي هذه القراءة الواعية إلى خلق فضاءات معرفية جديدة على قاعدة النص، وليس بعيدا عن مضامين النص المفتوح على كل المبادرات والإبداعات الإنسانية. لذلك من المهم التفريق بين مصطلحي التجديد والاستلاب. فالاستلاب هو في أحد جوانبه التطور البعيد عن فهم النص وقاعدته المتينة وضوابطه الحضارية. بينما التجديد الذي ندعو إليه، ونعتبره ضرورة من ضرورات الحياة في كل عصر، فهو التطور الإنساني المستند على النص فهما وروحا وتجليا. لذلك كلما تعمقنا في فهم النصوص الدينية الخالدة، توفرت لنا ممكنات إنسانية للتطور والتقدم والتجديد.

لذلك فإننا نعتقد أن التطور القانوني والفقهي في الدائرة الإسلامية، كان نتيجة في أحد جوانبه إلى المتغيرات الثقافية والاجتماعية والسياسية والحضارية، وما استحدثته هذه المتغيرات من وسائل وإمكانات لفهم ووعي الأسس والمرتكزات التي تستند عليها عملية التجديد في التجربة الإسلامية. فعملية التجديد مفتوحة على الواقع بكل إمكاناته وتفاصيله، كما أنها في ذات الوقت تتواصل بشكل علمي مع النص لاستنطاقه والبحث في آفاقه وأحكامه ضمن الضوابط الشرعية لهذه العملية. فالنص متحرك في مضمونه وآفاقه، لأنه يتحدث عن فكرة وتشريع بل ومنهج، ومن الطبيعي أن الفكرة والتشريع والمنهج لا يمكن أن يحكم عليهم بالتجمد، لأن كلا من الفكرة والتشريع والمنهج يمكن له أن يتحرك بأفق واسع وفي إطار رحب. وعليه فإن ملاحقة الواقع بمتغيراته ومكتسباته يرافق عملية الاجتهاد والتجديد من حيث حركته في الموضوعات المتغيرة والجديدة، أو من حيث حركته في المجالات والحقول المتعددة. واستمرت هذه الحاجة عبر العصور المختلفة، وناقشها الكثير من العلماء والفقهاء لتكييف الواقع مع الشرع أو بتعبير آخر لجعل التشريع الإسلامي مواكبا لقضايا العصر المستجدة والمتطورة. أضف إلى ذلك فإن الفقه في جوهره ومفرداته، هو استجابة للبيئة والظروف والتطورات التي حدثت في ذلك أو هذا العصر.

وعليه كما يقول أحد المفكرين المعاصرين، فإن مقولة ثبات النص لا تحول أبدا دون مواكبته لحركة الإنسان في الزمن، ولا فرق بين (ادفع بالتي هي أحسن) و(وجادلهم بالتي هي أحسن) بلحاظ حركيتهما، وبين أية قاعدة أو مقولة فقهية من قبيل (لا ضرر ولا ضرار) و(ما جعل عليكم في الدين من حرج) بما تختزنان من حركية ومرونة تشريعية -  اجتماعية. لأن الضرر لا يمكن له أن يتجمد في عنوان دون آخر، وصورة دون صورة أخرى، وكذلك الحرج فإنه يختلف بحسب اختلاف الأزمان والأشخاص والأوضاع والحيثيات. ولاشك أن حيوية مضمون النصوص، وعدم وقوفها عند حد من حدود الزمان والمكان، يفتح لنا الكثير من إمكانات التجديد وملاحقة الوقائع المعاصرة من داخل دائرة النص وضوابطه التفسيرية والاجتهادية. لذلك فإننا نستطيع القول: أن التجديد استنادا على النص وبالتقنية الاجتهادية المشروعة يفتح الكثير من الآفاق، بحيث لا تبقى واقعة بعيدة عن النظام الفكري والاجتهادي العام.

وإننا نرى أن التجديد من خارج هذه الدائرة، يؤدي إلى الكثير من التداعيات والآثار السلبية الخطيرة، وفي ذات الوقت يمنعنا من الاستفادة من الثروة المعرفية والقانونية التي توفرها النصوص الثابتة في الشريعة، والتي هي تتجاوز حدود الزمان والمكان. بمعنى أن مهمة المجتهد والمجدد هي في فهم النص بلحاظ الزمان والمكان ومتغيراتهما، دون حبس النص في هذه الظرفية التاريخية. وبهذا فإن عملية التجديد من داخل دائرة النص لا يمكن أن نعنونها بأنها عملية العقل المستريح أو المستقيل، وذلك لأن الدين الإسلامي لا يأبى استقبال المفردات والوقائع الجديدة، لأن الدين مثلا عندما يأمر بالعدل، ويأمر بالإحسان، فإنه يتحدث عن مفهوم يتحرك حسب المعروف والعدل والإحسان في حياة الناس المتحركة وفقا لتطور الحياة. فالمجدد وفق هذا المنظور يتعامل مع التاريخ العلمي بمراحل الزمن المختلفة، دون أن تأسره هذه الإنجازات أو تجمد عقله أو قدرته على التفكير والإبداع الفكري. والجمود الذي يلف حياتنا ويكتنف حقول أعمالنا وممارساتنا، ليس من جراء قصور النصوص من استيعاب متغيرات الحياة كما يتوهم البعض، وإنما هي من جراء عدم خلق علاقة سليمة مع النصوص. لأن هذه النصوص تتضمن قواعد وكليات قادرة على الإجابة على كل الأسئلة والمتغيرات. فحينما يقول تبارك وتعالى [ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل] فإن هذه الآية الكريمة تؤسس لقاعدة أساسية للتعامل في عملية نقل المال وتملكه والتصرف فيه، وهي قاعدة تمتلك من المرونة ما يجعلها متحركة وفاعلة ومنفتحة على المستقبل كما هي منفتحة على الحاضر والماضي.

و"ضوابط الاجتهاد لا كوابح تعيق الحركة وهي موجهات لمن يعالج الفقه أن يتأهل لذلك وللمخاطبين أن يقوموا المجتهدين حسب كسبهم من العلم والتقوى ـ وليست حدودا شكلية منضبطة يظل المتعلم مقلدا حتى يبلغ حرفها ويظل المجتمع متميزا بها بين عامة معزولة عن تكاليف التفكر في الدين " (2). لذلك فإن استنطاق النصوص والقواعد الكلية للشريعة، كفيل بتزويدنا بالإجابات والبصائر التي نحتاج إليها في حياتنا المعاصرة. والدور المنهجي المطلوب في هذا الصدد، الانفتاح على كل الأدوات والآليات المعرفية التي تساهم بشكل أو بآخر في عملية الاجتهاد والتجديد. ولا ريب أن البحث عن التجديد وأشكال الاجتهاد المختلفة من خارج النص والسياق الحضاري للأمة، يقبر ويقتل جوهر عملية الاجتهاد والتجديد. إذ أن هذا الخروج يعد وفق المقاييس والمعايير المعرفية والحضارية تجاوزا تعسفيا للروح العلمية والموضوعية، وذلك لأنها تخضع النص لمسبقات فكرية ويقينيات سابقة، مما يدفعنا إلى القول والجزم أن هذه العملية أقرب إلى الخضوع إلى المزاج والهوى والميول منها إلى البحث الموضوعي الذي ينشد الحقيقة بصرف النظر عن المسبقات والقناعات السابقة.

وفي إطار الصيغة المنهجية لعملية الاجتهاد والتجديد في الإطار الفكري والمعرفي نؤكد على نقطتين أساسيتين وهما:

ضرورة الاعتماد على الحجة والبرهان:

فهو المنهج العلمي والموضوعي الذي ينبغي الاستناد إليه في عملية التجديد. ولقد استفاضت آيات من القرآن الحكيم في مقام الاعتماد على مقتضى العقول وحجيته. قال تعالى [وفي الأرض قطعا متجــاورات وجنــات من أعناب وزرع ونخيـــل صنوان وغير صنوان يسقــى بمــاء واحد ونفضل بعضــها علــى بعض في الأُكل إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون] (3). وذم قوما لم يعملوا بمقتضى عقولهم فقال عز ذكره [يا أهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده أفلا تعقلون] (4).

فما ثبتت حجيته بدليل قطعي من شرع أو عقل أخذ به، وما لم تثبت حجيته أي لم يقم على اعتباره دليل لا يؤخذ بالاعتبار في عملية الاستنباط والتجديد. وقال تعالى [وما يتبع أكثرهم إلا ظنا إن الظن لا يغني من الحق شيئا إن الله عليم بما يفعلون] (5).

ولما كان الظن اتباعا لغير العلم والحجة لم يأذن به الله عز وجل، ولم يكن ليغني عن الحق. لهذا فإننا نرى أن من المسائل المنهجية الكبرى، التي ينبغي أن تؤخذ بعين الاعتبار في عملية التجديد، هو استناد هذه العملية في كل مراحلها ومستوياتها إلى منهج الحجة والاتكاء الدائم على العلم الذي هو طريق انكشاف المعلوم ورؤية الواقع المقطوع به.

العلاقة بين النص والواقع:

تعددت نظريات العلاقة بين النص والواقع، وازدحمت في هذا الإطار الأيدلوجيات والأطر الفكرية التي تُنظر لهذه المسألة. وبعيدا عن المضاربات الفكرية والأيدلوجية حول هذه القضية، نوضح رأينا وقناعتنا في طبيعة العلاقة بين النص والواقع في الآتي:

إن تبدل الأحكام الشرعية الثابتة للموضوع المحدد، ليس نابعا من متغيرات العصر، وإنما نتيجة لطروء عناوين ثانوية على الحكم أو أحد متعلقاته. والواقع الذي هو العنصر الآخر في المعادلة هو الوعاء الذي يحتضن أو يستوعب العناوين الثانوية. وهي كثيرة في الشريعة الإسلامية من قبيل الضرر والضرورة والحرج والعسر والعجز والإكراه والجهل واختلاف أحوال الموضوعات بفعل الزمان والمكان (التاريخ والجغرافيا) وتبعية الأحكام للموضوعات. فبفعل هذه العناوين وأشباهها تتحول الأحكام من حال إلى حال على حد تعبير العلماء، فيصير المباح واجبا أو حراما، وقد يتحول الواجب إلى حرام أو الحرام إلى واجب. فهذه العناوين الثانوية، تمنح الرؤية التشريعية مرونة كبيرة في مجال الابتلاء والتطبيق. ووفق هذه الرؤية يتم استيعاب مساحة الواقع المتحركة بالنصوص الشرعية الثابتة. بمعنى أن النصوص الشرعية في هذا الإطار تنقسم إلى قسمين:

القسم الأول: النصوص التي تتولى البعد الثابت في الواقع الإنساني من قبيل علاقة الإنسان بالله وعلاقته بالمجتمع والآخرين وعلاقته بنفسه وأسرته وبالأشياء من حوله. والقسم الثاني: طائفة من النصوص تتولى استيعاب الواقع الإنساني المتغير وإعطاء المرونة في الحكم الشرعي في مجال التنفيذ والممارسة بمقتضى متطلبات الواقع. بشرط أن تكون العوامل والعناوين التي تكون سببا في تبدل الحكم الشرعي ومرونته في الظروف الواقعية المختلفة معرّفة ومحددة من قبل المشرع نفسه.

وبما أن الحياة والواقع هي مادة الأحكام الشرعية، لذلك فإن أي قطيعة بين الفقه والواقع ستكون على حساب ثراء الفقه وجدواه. لذلك نجد أن القرآن الحكيم نزل منجما حتى تتحد فيه النصوص مع الحياة. وبهذا لا يتورط الفقيه أو المجدد في منهجه بألفاظ النصوص فقط ولا في الوضعية الذرائعية التي تخلد إلى الواقع. لأنه يريد أن ينزل المثال على الواقع ويضبط الواقع على حكم المثال.

لذلك كله فنحن بحاجة دائما إلى الاتكاء في مواقفنا وأحكامنا على الحجة والبرهان، ونبتعد كل البعد عن تلك الآراء التي لا تستند على دليل عميق بحيث تكون جميع قناعاتنا ومسلماتنا مستمدة من العلم والمعرفة والوعي العميق بوقائع الأمور.

والمسلم المعاصر أحوج ما يكون اليوم، إلى تطوير نمط علاقته بالنصوص، حتى تصبح علاقة حيوية وفاعلة وبعيدة عن كل أشكال الحرفية والجمود. فالعلاقة الواعية مع النصوص، هي وسيلتنا لإزالة كل أشكال الغبش الذي حجب عنا الرؤية السليمة، وأدخلنا في متاهات ودهاليز، عمقت الفهم القشري لتعاليم الدين، وأخرجتنا من صميم الحركة التاريخية.

فلا مناص لنا اليوم إلا تجديد وعينا بالإسلام، فهو وسيلتنا للتمكن في الأرض والدخول النوعي في مسيرة الحضارة المعاصرة. فالتجديد ليس خضوعا لضغوطات الواقع وليس توفيقا تعسفيا مع حاجات العصر، وإنما استنطاق أصيل لثوابت النص لاستيعاب المتغيرات وتقديم الحلول والإجابات وفق القواعد العامة والأصيلة.

والدين بالمفهوم العام هو محاولة توحيد بين المثال الأعلى المنزل من السماء وواقع الابتلاء الظرفي القائم في الأرض. فالمثال والواقع ينطويان على مفارقة هي صميم الابتلاء. والتدين هو محاولة توحيدهما، حتى تدار الحياة بصروفها المتقلبة بوجه يلتزم الحق الواحد في كل حال.

ومن المؤكد ومع انتشار حركة الصحوة الإسلامية، يتطلع اليوم الكثير من أبناء الأمة الإسلامية إلى إقامة حياة إسلامية تتوحد فيها مصالح دنياهم بصلاح آخرتهم. لذا فإن الانتقال إلى فقه المجتمع يتطلب بيان مناهج الإسلام وتشريعاته انطلاقا من الواقع والحياة لا الفرضيات والمجردات. ويقول العلامة الفرنسي في الفقه المقارن (إدوارد لامبير) " أن في الفقه الإسلامي كنزا مخبوءا ينتظر من يجلوه لعالمنا المعاصر، ليهتدي بهديه ويسترشد بمنطقه في الحيرة المدلهمة التي أعجزت عالمنا الآن عن التمييز بين الحق والباطل، وبين الخير والشر وصرفة عن التوفيق الحكيم بين مصلحة الفرد ومصلحة المجتمع " (6).

فالاجتهاد والتجديد والفهم المقاصدي للدين، لا يعني بأي حال من الأحوال الاندماج في البنى المعرفية والمنهجية الحديثة، بل يعني تطوير نظام الفهم والمعرفة لقيم الدين ومبادئ الإسلام.

فالتجديد عملية تواصل عميق بين النص والواقع، إذ لا تجديد حقيقي في الدائرة الإسلامية، إلا على قاعدة الإسلام، ولكي يتم تجسيد قيم الإسلام في الحياة، يحتاج أن نتعرف بعمق على حركة الواقع بكل مجالاته وآفاقه، وهكذا تجمع عملية التجديد فقه النص وفقه الواقع، ومن خلال التفاعل الحيوي بينما تنتج الرؤى الجديدة والبصائر الرسالية التي تفضي إلى إقامة القسط والعدل في المجتمع والحياة. ومن خلال الأصول والقواعد والمقاصد العامة للدين، تتم الاستجابة للمتغيرات، وتتبلور الحلول الواقعية للمشكلات الخاصة والعامة. فالجمود الفكري والمعرفي لا يمتلك إمكانية استنطاق النص ولا التفاعل مع الواقع مما يؤدي إلى غربة مزدوجة.. غربة عن النص بآفاقه ومضامينه الحيوية والمتحركة، والواقع بتياراته واندفعاته وممكناته وتموجاته. وهذه الغربة المزدوجة، تعمق خيار الجمود واليباس الفكري والمنهجي.. لذلك فإن إرساء معالم التجديد الفكري والمنهجي في الواقع الإسلامي المعاصر، يتطلب باستمرار العمل على طرد كل عوامل الجمود واليباس من واقعنا وفضائنا المعرفي والاجتماعي. فالجمود بمتوالياته النفسية والمجتمعية، هو العدو الأول للتجديد. لذلك فإن العمل على نقد أسس الجمود، هو الخطوة الأولى في مشروع التجديد الفكري والمنهجي. وهذا بطبيعة الحال، لا يعني نفي صفة التراكم في عمليات الاجتهاد والتجديد، ولكنه لتحرير المجدد من سلطة المسبقات التي قد لا تنسجم وروح النصوص الإسلامية. وبالتالي فإن التجديد يتطلب رؤية مفتوحة وعميقة على المنجزات العلمية والفقهية السابقة لاستيعابها وفهم نظامها وروحها الداخلية، دون الانحباس فيها. بمعنى أن استمرار التراكم العلمي والفقهي، يتطلب التواصل العميق مع هذه المنجزات، دون الوقوف عندها، وإنما العمل على الإضافة عليها وتطوير حركتها العلمية والتاريخية.

فالتجديد لا يساوي القطيعة وعدم التواصل مع المنجزات العلمية السابقة، بل يعني التواصل الواعي معها، وامتلاك القدرة العلمية والإمكانية المنهجية للإضافة عليها.

لهذا فإن التعمق في الدرس الفقهي، يعد ضرورة ماسة لكي يتمكن المجدد من إنجاز مفهوم التواصل العلمي والمنهجي. التعمق الذي يبتعد عن أشكال التكديس والتوصيف، ويذهب إلى روح العلم والقيم الأساسية التي تقف ورائه، والعدة المنهجية التي تم الاستناد عليها في عملية الاجتهاد والاستنباط.

وبالتالي فإن مواكبة العصر، وخلق إطارات فكرية ومعرفية جديدة، والشهود والحضور الدائم في كل مساحات الحياة، هي الوظائف والمهام المتوخاة من عملية التجديد والاجتهاد.

فالتجديد ليس سجالا أو مماحكة بلا أفق، وإنما هو استنطاق النص وخلق الإجابات على هداه في موضوعات الحياة المختلفة لذلك فإن " أي عمل على إسقاط جدوائية العقل الإنساني -  المدعو في النص الشرعي المعتبر بحجة الله الباطنة -  في تحمله لدوره الذي يستحق سينتهي في النهاية إلى استمرار العجز التنظيري في المساهمة الحضارية، وبقاء الفشل في صياغة مناهج وأنظمة كفوءة في ساحات الاقتصاد، والسياسة، وما إلى ذلك من مفاصل الحضارة المعاصرة. هذا وأن إلغاء الإنسان العقل من طريق الاجتهاد الديني تحت ذريعة أن النص الديني يغنينا عن ذلك، يتنافى مع أوليات الفهم الصحيح لمدلول الوحي، وما أحتل العقل فيه من هامش كبير وموقع متميز يمكننا في ظله استنباط واستنطاق النص المتمثل في الوحي، والحديث الشريف " (7).

والاجتهاد المقاصدي، لا يمارس اعتباطا أو بعيدا عن مقتضيات النصوص، وإنما هو بحاجة إلى دراسة عميقة للنصوص الشرعية (الكتاب والسنة) مع إطلاع وتواصل معرفي مع المتون الفقهية، واستيعاب لملاكات الشريعة، وإطلالة دائمة على الواقع بتحولاته وتطوراته.

والقرآن الحكيم هو المرجعية العليا، التي تحدد مقاصد الدين والشرع، لذلك فإن الاجتهاد والفهم المقاصدي للدين، يتطلب علاقة حيوية ودائمة مع القرآن الحكيم، حتى يتسنى لنا من خلال آيات الذكر الحكيم من تحديد المقاصد ونظام أولياتها. والمفردات القرآنية كما هو معلوم، تستوعب كل لحظات الزمن، وتحتضن كل الظروف، لذلك فإننا نستطيع من خلال التدبر في آيات الكتاب العزيز من بلورة منهج الفهم والاجتهاد المقاصدي للدين وقال تعالى [وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر قد فصلنا الآيات لقوم يعلمون] (8).

وإن متغيرات الحياة المتلاحقة، ينبغي أن لا تدفعنا بعيدا عن مرجعيتنا الفكرية والعقدية، لأن هذا الابتعاد لا يؤهلنا على المستويين الذاتي والموضوعي لفهم واستيعاب هذه المتغيرات. إن القبض على تطورات الحياة، لا يتم إلا بتفعيل وتطوير العلاقة مع النص الشرعي والعمل على استنطاقه بعيدا عن أرضية الجمود والركود ومنظومات الاستلاب والارتداد.

وجماع القول: إن عقولنا ينبغي أن تنفتح وتتواصل مع كل المنجزات المعرفية والعلمية، وتستمع إلى كل النظريات والمقولات، وتتبع أحسنها وما ينسجم والمضمون الحضاري للإسلام. قال تعالى [الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الألباب] (9).

فالمطلوب هو أن نمارس التفكير ونوظف كل طاقاتنا وإمكاناتنا لفهم واستيعاب منجزات العصر والإنسان، دون شعور بدونية أو مركب نقص، وننخرط بعلم ووعي في مجريات الحياة المعاصرة.

الثابت والمتغير في الأحكام:

بعيدا عن تفاصيل هذه المسألة، ونود أن نتحدث عن الإطار الأساسي لتحديد الثابت والمتغير في الأحكام الشرعية.

فللأحكام الشرعية أنماطا عدة، ينسجم بعضها مع الفطرة الإنسانية تمام الانسجام، وشرع وفق مقاييس الجبلة الإنسانية، بمعنى أن مقتضيات وضع تلك الأحكام والقوانين الشرعية هي الفطرة الإنسانية وإنسانية الإنسان من حيث كونه إنسانا وليس شيئا آخر..

ومن هذه الأحكام: قاعدة البينة على من أدعى واليمين على من أنكر، وقاعدة لا يكلف الله نفسا إلا وسعها، والصلح خير، والناس في سعة مما لا يعلمون، ولا ضرر ولا ضرار وحرمة القتل والسرقة والغش والكذب والخيانة ووجوب العدل والصدق والأمانة وغيرها.

هذه الأحكام والقوانين لا تطالها يد التحول بسبب أن هذه الأحكام تمس فطرة الإنسان، وتعنى بخصوصيته. لهذا هي تعد أحكاما مسلما بها ومثل هذه الأحكام كمثل القوانين الفيزيائية كـ (الجسم يتمدد بالحرارة) أو أن الجسم يحتاج إلى حيز لأنه ثلاثي الأبعاد طول وعرض وارتفاع. فهذه قوانين ثابتة لا تتغير ولا يطالها التحول.

وثمة قوانين وتشريعات في الإسلام لا ترتبط بالفطرة الإنسانية وطبيعتها، بل بالظروف الخاصة للمجتمع ومذاقه العام والخصوصيات التي تحيط به، هذه العوامل وأمثالها هي التي تملي تلك التشريعات والقوانين.. لهذا فإن هذه التشريعات تكتسي خصوصية معينة، وتدور حول مدار ذلك المجتمع بعينه وبالتالي فإنها قائمة بقيام الظروف الخاصة لذلك المجتمع بعينه.. فتتحرك تلك التشريعات مع تحرك الظروف التي تحكم خطى المجتمع وتضبط إيقاعه ومن الأمثلة البارزة لذلك حديث [إذا اختلفتم في الطريق فاجعلوه سبع أذرع] وواضح أن الأحكام المرتبطة بشؤون الطرق والمسالك والأزقة كانت تتلاءم ومتطلبات الناس المحدودة والبسيطة آنذاك، ولم تكن الحاجة تستدعي أبعد من ذلك.. وتدخل في هذا السياق أيضا التشريعات المتعلقة بالسباقات والرماية وأحكام الرق التي تشمل الغلمان والإماء وما أشبه.

أثر الزمان والمكان في التجديد:

الدين بقيمه ومبادئه، هو كائن حي ومتجدد، وينهض بعناصر الحياة والديمومة، من خلال قيمه العليا المتجاوزة لحدود الزمان والمكان، وتفاعل الإنسان المسلم معها.

وعبر هذه العملية يتم التغلب على المشاكل التي تعترض طريق المجتمع، وتتم مواكبة المتطلبات والحاجات الجديدة.

فعوامل الزمان والمكان، تؤثر في فهمنا لقيم الدين.. وبالتالي فإن المعرفة الدينية التي ننتجها هي متأثرة ومتفاعلة مع الظروف والتحولات والحاجات التي نعيشها..

لهذا نجد أن فقه المدينة له ملامح معينة مستلهما من خصوصيات البيئة ومتأثرا بمتغيراتها، وحينما انتقل إلى العراق والكوفة، اتخذ طابعا مختلفا ولونا مغايرا عنه في بيئته الأصلية. والفقه الشيعي (تاريخيا) في مدينة قم، التي كانت مركزا لكبار المحدثين، كالشيخ الصدوق، وحينما هاجر هذا الفقه إلى بغداد حاضرة العلم وحل في بيئة تختلف في مفرداتها عن سابقتها، فحمل متطلبات المحيط الجديد وخصوصياته.. والشيخ المفيد بعطاءه العقدي والفقهي هو أحد العناوين البارزة لهذه المرحلة.

فالفتاوى والأحكام الشرعية تتغير بتغير الزمان والمكان والأحوال. وينقل في هذا الصدد ابن إدريس عن الشيخ الطوسي أنه قال في كتاب (عدة الأصول): لقد أوردت في الاستبصار وتهذيب الأحكام نقلا عن أئمتنا عليهم السلام ما يربو على خمسة آلاف حديث متعارض ومختلف في المسائل الفقهية، ويقف علماؤنا من هذه الأحاديث مواقف متباينة (فلكل رواية جعلها مستند فتواه). والمعروف عن العلامة الحلي أنه في أغلب مؤلفاته الفقهية كان في كل مرة يراجع مصادر الحكم فيصدر فتوى جديدة تختلف عن سائر فتاواه في كتبه السابقة.

وباختصار نشير إلى أهم العوامل التي تتضح من خلالها عملية تأثير الزمان والمكان على عملية الاجتهاد والتجديد.

تحول القيم الأخلاقية: وأبرز علاماته هو مسألة العبيد، فإن انخفاض مستوى الاهتمام بها (مسألة العبيد) في الكتب الفقهية، هو من جراء إلغاء نظام العبيد في البلاد الإسلامية.. وهناك من يذهب إلى تفسير هذه المسألة بانتفاء الموضوع، في حين أن السبب الحقيقي يتمثل بالتحول الذي طرأ على القيم الأخلاقية.. فلو قتل كافر في المجتمع الإسلامي مسلما، فهل يحق لورثة القتيل المسلم، أن يسترقوا الكافر ويتخذوه عبدا ؟ هل سألنا أنفسنا عن طبيعة المانع الذي يحول دون الاستفادة من حق التملك الشرعي هذا.

وتتضح هذه المسألة أيضا على طبيعة علاقة الزوجة بالزوج.

وذلك من خلال إثارة هذه العناوين:

هل ينطوي مفهوم المعاشرة بالمعروف [وعاشروهن بالمعروف] في مجتمعنا المعاصر على معناه السابق نفسه الذي كان عليه، وهل يتساوى، بين حياة القرية وحياة المدينة.

هل تنطوي قيمومة الرجل ورآسته للأسرة [الرجال قوامون على النساء] على معنى امتثال التكليف وحفظ الأمانة، أم يعبر هذا الموقع عن نزعة التسلط وإشباع نزعات الرضا والميول الشخصية لدى الزوج.

وخلاصة القول: إن التحول الهادئ في القيم الأخلاقية، أعاد ترسيم الحدود المألوفة والمتوارثة، واقتضى بروز اجتهادات فقهية جديدة.

العوامل الجغرافية والمكانية: لقد أبرز عدم أتساق سن البلوغ الشرعي عند البنات مع الواقع الطبيعي والاجتماعي المعاش في عصرنا الحاضر ميلا للقول أن سن التكليف إنما هو أحد العوامل الكاشفة عن البلوغ، وليس موضوعا كاملا.

تغير العلوم والتقدم التكنولوجي: نص الفقه أن البرص والقرن عند المرأة من أسباب فسخ العقد والنكاح، والسبب الذي يذكر لذلك هو أنهما صعبا العلاج وكذلك يقال عن العنن الذي يصاب به الزوج والآن لنفترض أن الطب الحديث استطاع أن يعالج هذه الأمراض بالدواء أو بالجراحة، فهل تبقى بعد ذلك هذه العناوين كأسباب لفسخ عقد النكاح.

تغير الاحتياجات والضرورات: ليست قليلة هي الأحكام التي أدرجت في الفقه استجابة لحاجات الناس الملحة أو جاءت جريا على الأعراف السائدة في زمان سابق. وفي عصرنا الحاضر تفرض بعض الضرورات إيجاد تحولات في القواعد الحاكمة على بعض الجماعات الاجتماعية التي تعيش حالة العجز أمام المستطيعين والأقوياء. وأهم جماعتين تبرزان على هذا الصعيد هما العمال والأجراء.

ومن الأمثلة الفقهية التي تم التحول فيها هي: عقد التأمين، إذ أن الفقهاء في السابق كانوا يحكمون ببطلان المعاوضة التي لا يعلم أحد عوضيها، لأجل الغرر المنهي عنه.

وبيع ثمرة العمل بالمؤجل فقد حرم هذا النوع من الضرب من البيع في زمن كان الحكم فيه قانونا لتنفيذ العدالة، والحيلولة دون الظلم الذي يطال العامل الكادح. أما اليوم فقد برزت مصالح أهم أخذت تدفع للقبول الفقهي بمثل هذا الضرب من التعامل. لهذا فنحن اليوم نبيع النفط بهذه الطريقة، ونؤمن جميع ما نحتاج إليه من بضائع وسلع عن طريق بيع السلعة بالسلعة.

تغيير البنية الاقتصادية: في الوقت الذي تستطيع فيه المعامل الصغيرة أن تؤمن حاجات المجتمع برساميل صغيرة، فإن صاحب العمل يحتاج لإدامة حياته الاقتصادية إلى الأجير والعامل، وفي الوقت نفسه يحتاج الأجير والعامل إلى صاحب العمل..

وفي الحصيلة يمكن لعقد الإجارة الذي ينظم عن تراض بين الطريفين أن يؤمن العلاقة العادلة بينهما.. أما اليوم فإن الواقع يعكس وجود أصحاب رساميل جشعين مع عمال ذاقوا مرارة البطالة مما يدعو الفقيه إلى ضرورة إيجاد منظومة قانونية تحمي مصالح هذه الفئة المستضعفة والمحرومة.

النص والعقل:

لقد امتدح الباري عز وجل في كتابه الكريم العقل مرات عدة، وأوصى بضرورة التعقل وجعل العقل أساس الدين وبنيته، كما اعتبر رسوله الكريم (ص) العقل إحدى حجتي الله على الأرض، بعد الأنبياء، بمعنى أن دور العقل (في بعض الحالات) شبيه بدور الأنبياء أنفسهم، وأنه يرتجى منه ما يرتجى من النبي في الدلالة والقيادة وبيان المنفعة والضرر والحسن والقبح والمصلحة والمفسدة فردية أو جمعية.

من هنا فإن الأنبياء عليهم السلام يستندون إلى وحي السماء في إصدار الأحكام، يمكن للفقه الاجتهادي والتجديدي الاستناد إلى العقل في حال انعدام الدليل النقلي أو في فهم وإدراك مقاصد الدليل النقلي.

والمفارقة العجيبة على هذا الصعيد، هو أن العلماء والفقهاء بذلوا جهودا مضنية في إثبات رقي العقل ورجاحته في علم أصول الفقه، لكن في الفقه هناك تخليا عن دور العقل في استنباط الأحكام الشرعية – الفرعية.

وثمة علاقة سببية وطردية بين إيمان الإنسان، وبين تلبية حاجاته، فكلما كانت استجابة الدين لتلك الحاجات أعلى تضاعف إيمان الإنسان وازداد قوة وصلابة وثباتا، فضلا عن ازدياد تعلقه وشغفه بهذا الدين الذي سيضحى قضية محببة للإنسان..

والدين إذا انكص عن النهوض بمتطلبات المجتمع الحي المتجدد عبر القرون والإعصار، وعجز عن توفير أسباب الازدهار والارتقاء للمجتمع، فإنه لن يفلح في فرض المعتقدات عليه.

و الفكر الإسلامي وعبر أطواره المختلفة، أنقسم من ناحية معرفية -  استمولوجية إلى قسمين:

1-  تيار العقل وهو الذي ينافح عن مرجعية العقل، وتفوقه على النص.

ومثل هذا القسم في التجربة الإسلامية الشخصيات الفلسفية والكلامية.

2-  تيار مرجعية النص، الذي استمات في الدفاع عن أصالة النص مرجعية لا يمثل العقل سوى تابع لها إذا اعترفت به تابعا.

ومثل هذا القسم غالبية الفقهاء والمحدثين.

ويبدو من الناحية التاريخية أن قدر الأديان والأفكار الكبرى هو هذا الصراع الذي يستهدف تحديد المرجعية الأولى، هل هي العقل أو النص وقد قدم المفكرون والعلماء حلولا عديدة وصياغات متفاوتة، لحل أزمة العلاقة هذه، من دون أن يجري التوصل إلى إجماع حاسم يفرض الموضوع أساسا مسلما به.. ولعل أول تفجر في الدائرة الإسلامية التاريخية للأزمة بين العقلي والنصي كان مع أبي حنيفة (ت 150هـ) في النصف الأول من القرن الثاني. فقد ركز أبو حنيفة أعمدة العقل وحصر، إلى حد بعيد، دور النص ونشاطه في النطاق الفقهي.. وقد شكل ذلك بداية انقسام فقهي حاد في شأن مرجعية العقل تمثلت في أهل الحديث وأهل الرأي.. وكانت نهايته انتصارا لأهل الحديث بلغت ذروته مع أحمد بن حنبل، وذروة ذروته مع ابن تيمية الحراني في القرن الثامن الهجري.

أما الشيعة فكان الأمر مختلفا بالنسبة إليهم، إذ أنه، وفي القرن العاشر بالذات، دخلت فقهياتهم، مخاضا عسيرا، أسس لنصية جديدة ومتطورة.. فقد قدم محمد أمين الاستربادي مجموعة من التصورات في كتابه [الفوائد المدنية] والذي بدأه بترسيم أولي لقدرات العقل وانتهى به، إلى إيجاد تقليص جديد، تخطى استبعاد العقل إلى تقليص النص نفسه لصالح نص آخر..

فقد استبعد النص القرآني بشكل من الأشكال، وأزيح العقل والإجماع في عملية الاستنباط الفقهي، قابله توسعة لا سابق لها للحديث الشريف إلى حد القول بقطعية الكتب الأربعة، أو اعتبارها حجة بالمطلق.. وقابل هذه المدرسة، مدرسة أصولية، توازن بين النص والعقل وهي مدرسة آمنت بمرجعية مميزة للعقل في العقديات، وفي بعض المراحل وبالذات لدى الفلاسفة والمتكلمين، اعتقدت انسجاما مع السياق الفلسفي العام، بتفوق عقلي – شهودي على النص بمعنى من المعاني. وأول من دشن مرحلة الرد على المدرسة الحديثية – الإخبارية هو الوحيد البهبهاني.

آفاق التجديد المعاصر:

على المستوى المعرفي والروحي والأخلاقي، يشكل الدين الإسلامي بكل أنظمته وتشريعاته، ثروة هائلة وغنية بالمضامين التي تساهم في رقي الإنسان مادة وروحا، ولكن هذه الثروة المتميزة، تحتاج باستمرار لمواكبة العصر ومستجدا ته، والإجابة على أسئلة الراهن وتطوراته، إلى إعمال العقل واستفراغ الجهد الفكري والمعرفي، لتظهير هذه الكنوز المعرفية والروحية والأخلاقية..

ودون عملية الاجتهاد الفكري والمعرفي والفقهي، ستبقى هذه الكنوز في كليات القيم والخطوط التشريعية الكبرى في الإسلام.دون قدرة إنسانية على الاستفادة منها حق الاستفادة.

لهذا فإننا نعتقد أن عملية الاجتهاد الفكري في هذه اللحظة الراهنة، ضرورة إسلامية، وحاجة مجتمعية وجسر عبور للشهود الحضاري في هذا العصر..

وتجدد المعرفة الدينية في أي مجتمع، هو رهن بحضور المجتمع وتفاعله مع واقعه.فالمعرفة الدينية لاتتجدد وهي حبيسة الجدران،وإنما تتجدد حينما تستجيب إلى حاجات المجتمع،وتتفاعل مع همومه وشؤونه المختلفة.والمهمة الملقاة اليوم على الفقهاء والمفكرين والدعاة، هو صياغة تصوراتهم ونظرياتهم ومشروعاتهم الفكرية والمجتمعية على قاعدة إن مهمتهم الأساسية هي المشاركة في تحرير الإنسان فردا وجماعة، من كل الأغلال والعقبات التي تحول دون عبادة الله سبحانه وتعالى، وتسعى نحو أن تكون تصرفات الإنسان متطابقة ومنسجمة وقيم الإسلام ومثله العليا.

و كما يقرر الباحثون في التجارب الإصلاحية الدينية والسياسية: إن التجربة الدينية والفكرية لأغلب المصلحين والعلماء والجماعات الدينية، تنطلق من قناعة مركزية ومحورية وهي: إن العامل أو المكون الذي يكون هو مصدر القوة لدى أمة من الأمم في زمن حضاري ما، قد يكون لعوامل تاريخية متعلقة بالفهم والركام التاريخي هو عامل تراجع وانحطاط وتخلف..

لهذا فإن إحياء قيم الإسلام وإزالة الركام التاريخي وبيان أنه (الإسلام) صالح لكل زمان ومكان، وضرورة خلق الفاعلية الحضارية للمسلمين عن طريق تفسير نهضوي لقيم الإسلام ومبادئه.. إن هذه العملية هي مرتكز مشروع الإصلاح، وهي الإطار النظري له.. وحين التأمل في الواقع السياسي والاجتماعي للمسلمين، نجد أن هذا الواقع يعاني من تاءات أربع (التخلف – التجزئة – الاستعمار بمرحلتيه المباشر وغير المباشر – الاستبداد) والعلاقة بين هذه الوقائع متداخلة وعميقة.. فلولا التخلف لما كانت هناك تجزئة واستعمار وديكتاتورية.. ولكي يديم الاستعمار هيمنته، هو بحاجة لإدامة التخلف والتجزئة والاستبداد..

فكل حقيقة تتغذى من الأخرى، ولكن جذر المشكلة هو التخلف.. ويمكن مواجهة هذه المعضلة الأساسية من خلال التقاط التالية:

1- صناعة الوعي الإسلامي الطارد لجذور التخلف وإحياء قيم الإسلام في نفوس وعقول المسلمين..

2- العمل على بناء نخبة واعية، تأخذ على عاتقها صناعة الوعي والحقائق المضادة للتخلف في المجتمع..

3- المساهمة في بناء وقائع وحقائق مجتمعية تتبنى مشروع الإسلام وتعمل من أجل تمكينه في الأرض..

وعليه فإننا نعتقد أن عملية التجديد الديني والإصلاح الثقافي والفكري في أي تجربة إنسانية، هي عبارة عن عملية تفاعل وجدل بين العناصر الثلاثة (النص والفكرة – الواقع بكل مستوياته – الإنسان الذي يقوم بعملية الربط والتفاعل والاستنباط)..

ولا يمكن أن تتم عملية التجديد والإصلاح بدون العلاقة العضوية بين هذه العناصر.. ولكي لا نقع في اللبس وسوء الفهم، في تقديرنا أن عملية التجديد الديني والإصلاح الثقافي والفكري تعني:

1- تجديد الفهم والمعرفة للنصوص الشرعية والواقع..

2- إنهاء المفارقة التاريخية بين الإسلام والمسلمين، بين الشريعة وفهم الشريعة، بين الدين والتدين، بين الإسلام المعياري والإسلام التاريخي..

3- القدرة على استيعاب التفاصيل والجزيئات والمتغيرات في إطار الثوابت والكليات وذلك عبر عملية الاجتهاد..

4- تقديم تفسير جديد لمفاهيم الإسلام وقيمه.. فالتجديد يساهم بتقديم رؤية جديدة لقيم الإسلام التي صنعت أمجاد الحضارة الإسلامية.

واليوم وفي ظل الأوضاع السياسية والاجتماعية والاقتصادية السائدة في المجالين العربي والإسلامي، لا يمكن أن تسود قيم الإسلام الحياة العامة، وبدون التجديد الديني والإصلاح الثقافي..

لأن هناك حواجز وعقبات كثيرة، تحول دون انطلاقة الإسلام في الحياة العامة.. لهذا فإن التجديد والإصلاح هو جسر العبور نحو هذه الغاية..

فالتجديد وفق الرؤية المذكورة أعلاه، هو ضرورة دينية وحاجة إسلامية معاصرة، وجسر عبور المسلمين لكي يعيشوا الإسلام والعصر معا..

والتجارب الإسلامية الناجحة والمعاصرة اليوم، هي التي توسلت بطريق التجديد الديني والإصلاح الثقافي، لأنه لا يمكن أن تقوم نهضة إسلامية حقيقية في ظل سيادة ثقافة التبرير والتخلف وأنظمة اجتماعية وثقافية تلغي إنسانية الإنسان وتمتهن كرامته.. فحجر الزاوية في مشروع الإصلاح والتجديد هو بناء ثقافة المسلمين ووعيهم المعاصر لذواتهم ولمحيطهم وفضائهم الإنساني بعيدا عن نزعات الاستئصال والجمود وتكرار المقولات التي عمقت وعززت جذور التخلف بكل مستوياته في حياة المسلمين المعاصرة..

فالتجديد والإصلاح هو الذي يحررنا من ثقافة الاستبداد والتخلف.. لهذا لا يمكن أن تتأسس تجربة إصلاحية بعيدا عن هذه القيم ومتوالياتها العقلية والثقافية والاجتماعية.

ولعلنا لا نجانب الصواب حين القول: أن الالتزام بخيار التجديد الديني والإصلاح الثقافي، هي من أهم عناصر القوة في تجربة أي مجتمع إسلامي معاصر لأنه يوفر له إمكانات وآفاق عديدة للعمل وخدمة الإسلام والمسلمين من خلالها.. صحيح إن تبني خيار الإصلاح والتجديد له كلفته الاجتماعية والسياسية، ولكن من ينشد إصلاح أوضاع الأمة، وإعادة مجدها التاريخي، لا يمكن أن ينجز ما يتطلع إليه بعيدا عن خيار التجديد والإصلاح..

اتجاهات التجديد:

إعادة صياغة منظومة التشريع الإسلامي صياغة حديثة، قادرة على المخاطبة والفعل في العقول الجديدة.. وهو اتجاه حاول إعادة تقديم الفقه والتشريعات الإسلامية بصورة جديدة، محافظين إلى حد بعيد على المضامين السابقة.. مثلا كتاب العروة الوثقى للسيد اليزدي، كتب بلغة حديثة في(الفتاوى الواضحة) للسيد محمد باقر الصدر.. وكتاب المكاسب وكتاب الروضة كتبا بلغة معاصرة في [فقه الإمام الصادق] للشيخ محمد جواد مغنية.

وهذا الاتجاه لم تكن التغييرات المضمونية هدفا أساسيا، وإنما الأولوية هي لإعادة إنتاج لغوي للنصوص العلمية القديمة..

تمثل في ابتكار منظومات مفاهيمية وعقلانية، أريد لها أن تخلع على الموروث المعاد صياغته.. ولم يكن بالإمكان تحقيق هدف كهذا من دون الدخول في عالم [فلسفة الأحكام] و[تاريخية التشريع] و[علم الكلام الجديد] و[تطوير نظام المعرفة الدينية].

لذلك فإننا نعتقد وبنسب متفاوتة، أن كل العلماء والمفكرين الذين كتبوا في العناوين السالفة الذكر، هم ساهموا بشكل أو بآخر في خلق تجاه ومدرسة تجديدية في الفكر الإسلامي.

ولعل أهم الخطوط التي اشتغل عليها هذا الاتجاه هي:

قراءة الموروث الإسلامي، مع الاستعانة بالجهود العقلانية التي توصلت إليها الحضارة الحديثة.

الاقتراب المنهجي من موضوعات وقضايا فكرية وفلسفية مسكوت عنها.

. القيام بصياغة جديدة لبعض المفاهيم والبنى المعرفية.

. الانفتاح والتواصل مع المنجزات المعرفية الإنسانية والحديثة.

. تقديم تفسيرات عقلانية للأحكام والتشريعات الإسلامية.

واستند هذا الاتجاه في عملية تجديده على النظريات التالية:

نظرية المستقلات العقلية: إذ أن هذا الاتجاه يعتقد أن الفقه الشيعي تعامل مع المستقلات العقلية [ما يستقل به العقل العملي] تعاملا نظريا، ولم يمنح هذا العقل حركته ميدانيا عدا في عموميات لا تأثير معتد به لها كقبح الكذب وحسن الصدق. وقد نادى هذا الاتجاه بإشراك العقل في هذه المساحة، وهو إشراك تبدو قضايا فلسفة الأحكام ذات دور فعال فيه..

نظرية اكتشاف الملاك (11): إذ يرى هذا الاتجاه، إننا قادرون على اكتشاف الملاكات الموجودة في الأحكام، إذا ما استثنينا دائرة العبادات كالصلاة والحج، وأنه لا بد من تخفيف تلك الهالة الغامضة التي حاول العقل الفقهي الإغراق فيها، محيطا الأحكام الشرعية بها، لتبدو الملاكات من خلالها مستحيلة الرؤية.

وهكذا تتحول المكتشفات العقلانية في الأحكام الشرعية إلى وسائل استنباطية جديدة لدى بعض الفقهاء والباحثين. وتجلت تأثيرات هذه النظرية في فقه المرأة والفقه السياسي ونظريات مقاصد الشريعة.

***

أ. محمد محفوظ

.....................

الهوامش:

. القرآن الحكيم، سورة البقرة، آية (286).

. منهجية الفقه والتشريع الإسلامي، حسن الترابي، ص 5، دار أقرأ للنشر والتوزيع، الخرطوم.

. القرآن الحكيم، سورة الرعد، آية (4).

. القرآن الحكيم، سورة آل عمران، آية (65).

. القرآن الحكيم، سورة يونس، آية (36).

. الاجتهاد والمنطق الفقهي في الإسلام، مهدي فضل الله، ص 5، دار الطليعة، بيروت 1987م.

. مطارحات في منهجية الإصلاح والتغيير -  رؤية إسلامية، نجف علي الميرزائي، ص 66، المجمع العلمي للتربية والثقافة المعاصرة، الطبعة الأولى، بيروت 2002م.

. القرآن الحكيم، سورة الأنعام، آية (97).

. القرآن الحكيم، سورة الزمر، آية (18).

10. منية الممارسين، الشيخ عبد الله السماهيجي البحراني، وروضات الجنات، الطبعة الحجرية، ص 35 -  36..

11. الملاك يعني المعيار، وضابط العلة، والدليل. يقول ابن منظور وملاك الأمر، وملاكه، قوامه الذي يملك به وصلاحه وورد في الحديث (ملاك الدين الورع) و(ملاك العمل خواتيمه) والملاك فقهيا يعني المصلحة الكامنة وراء التشريع والعلة الداعية إلى تشريعه ويأتي بمعنى العلة التامة وبمعنى حقيقة الحكم وقوامه الذي يشمل الأحكام التعبدية وغير التعبدية، وفقا للمصالح والمفاسد المترتبة على موضوع الحكم.

الصفحة 4 من 5

في المثقف اليوم