تكريمات
ملف: قراء في قصيدة يحيى السماوي "ياصابرا عقدين إلآ بضعة"
يخطو خطواته الأولى فوق ترابها بعد تغرب عن وطنه العراق دام قرابة عقدين إلا بضعاً، عاشها غريباً فى المنافي، حيث تجرع ما تجرع من الضنى، وعصف الشوق والحنين، والحرمان.
ها هو يعلن أنه في "السماوة" مؤكداً من خلال تكرار الجملة " انا في السماوة " وخبريتها أنه حقيقة ها هنا ؛ وليبدأ في استكشاف الطريق والأماكن، معدداً ملامحها التى لاتزال باقية، وتلك التى تغيرت (الجسر القديم، قلعة مكشوفة الحجرات، السجن القديم، ساحات الإعدام، بيت أبى، بستان الإمامي ...) مشيراً في الوقت ذاته إلى الرموز الراسخة في المكان مثل " النخيل " الذي أصبح مستوحش الأعذاق والسعفات، مطلقا العنان لذاكرته في استرجاع ما يمكن استرجاعه من ذلك الماضي الأثير، ومستوثقاً من ملامح الجغرافيا (خلف السجن القديم، جهة الرُميثية) وقد هاله ما أصاب المكان من تبدل إلى الأسوأ.:
أنا في (السَماوة)..لنْ أُكَذّبَ مُقلتي
النهرُ و(الجسرُالحديدُ)هُداتــي
وهنا ـ جِوارَ الجسرِ ـ كانت قَلْعَةٌ
حَـجَريَّةٌ مكشوفةُ الحُـجَـراتِ
هذا هو (السجنُ القديمُ)...وَخَلْفـَهُ
جِهَةَ (الرُمَيْثَةِ) ساحُ إعْداماتِ
وهناكَ بيتُ أبي... ولكن لمْ يَعُـدْ
لأبي بهِ ظِـلٌ على الشُرُفـاتِ
وكأنه لشدة دهشته من مظهر التبدل الحادث بدأ يستخدم ـ مستوثقاً ـ حواسه كلها ومشاعره معاً:
لا يُخْطِئُ القلبُ الترابَ...شَمَمْتُهُ
فَتَـعَطَّرتْ بطيوبِهِ نَبَـضَـاتي
وهو الذي جاء يمنى النفس بطيب إقامة !!
سـأصيحُ بالقلبِ الذليلِ:كفى الضنى
فاغلـقْ كتابَ الحـزنِ والنَكَـبات
وأنامُ مقـروراً يُوَسِّـدني الهـوى
ريشَ الأمـاني بعد طـولِ أّنـاةِ
مضى يطالع وجوه الناس أيضاً ليستوثق من حقيقة المكان، وقد أضحى كل شيء باعثاً على الدهشة، موحياً بالتبدل وانمساخ وجه الحياة التى ألفها الشاعر في الماضي .. لكأنها ليست العراق إذن ؟! .. ولكن كيف وقسمات الناس هى نفسها قسمات الشاعر، بكل ما تنم عنه تلك القسمات من أسىً؟ .. هنالك كانت رغبته في البكاء جاهزة للتعبير عن الصدمة لا الفرحة بلقاء الأهل، وقد مُسِخَ عراقه التى جاء إليها محملاً بالشكوى .. شكوى الزمن الذي أضناه .. هى لحظة شجنية أن تمتزج الصدمة بالبكاء بالحنين بالرغبة في الشكوى بالبوح، ومن ثم كان النص حافلاً بما يعبر عن امتزاج المشاعر وتضاربها، ثمة الثفاتات كثيرة في الضمائر، وتنقلات بين الداخل بكل يقينه وزخمه الشعورى وآماله وتذكراته وبين الخارج بمظهره البائس وتبدله الصادم، ومن عمل الحوس إلى اختلاجات المشاعر، ومن صيغ المتكلم إلى صيغ المخاطبة، ومن الخبر إلى الإنشاء ومن البوح والشكوى إلى الوصف، ومن التذكر والماضى إلى اللحظة الآنية وتنامى اللحظة الشعورية، من نجوى النفس إلى عتاب القلب، إلى وصف اللحظة، إلى تداخل الأمل بالصدمة، ومن الفرحة بالوصول إلى الصدمة باللقاء .. من دهشة اللحظة إلى يقين الصدمة، ومن إطلاق النداءات التى تنم عن الحيرة والرغبة في الشكوى إلى البوح بمكنونات الذات وآمالها وتوقها إلى الأمان والراحة .. لحظة مترعة بالتداخلات، وتجربة تكتنز كثيراً من مشاعر الشكوى والأسى والدهشة والرغبة والأمل والصدمة المحبطة، تماماً كما يختلط فيها الحنين بالشجن بالفرحة، وكما يختلط فيها التذكري بالآني، وكما يختلط الماضي (الطفولة والشباب) بالحاضر (الكهولة).. إنها تجربة مشفة عن تقلبات حياتية ونفسية وخبرات عصفت بذات مشمولة بضنى تغربها، وتسلحها بصبرها وإيمانها، وتشتت الروح التي لا تزال عالقة بماضيها الذي تطالع آثاره الآن وكأنها تعاين أطلال وطن كان، في مرموزات جميلة بين الذات والوطن ..
إنها لعبة الثنائيات المشفة الموحية بفعل الزمن على كل من الذات والوطن، ومن هنا تبرز معاناة الذات وتتحول من الذاتى إلى الوطني، ومن الذات الفرد إلى الذات المجموع، ومن هنا تأخذ التجربة قيمتها في رصدها لمتغيرات اللحظة التى تمر بها العراق، وفي شفافيتها بموقف الشاعر من هذا التغيير الذي أصاب العراق تحت الاحتلال.
لقد عاد الشاعر إلى وطنه بعد طول غياب وضنى واغتراب ليجد محبوبته / ليلاه / عراقه بين أحضان الغريب .. تماماً كحال ابن عذرة ( قيس بن الملوح العامري) الذي صبر على معاناة حبه لليلي وتشرده بعيداً عن القبيلة سنيناً، حتى فوجئ في لحظة العودة أن ليلاه في حضن آخر غريب .. هكذا بدت العراق بالنسبة للشاعر، كما صورها في ذات اللحظة التى يصور فيها نفسه .. مستسلمة بين أحضان الغريب لا حول لها ولا قوة، غير الاستسلام لمصير داكن، ومشيئة حمقاء . :
لـيلاكَ في حُـضْنِ الغريبِ يَـشِـدُّها
لســريره حَـبلٌ من (السُـرُفاتِ)
تبكــي وَتَسْـتَـبكي ولكن لا فَتىً
فَيَـفكَّ أّسْـرَ سـبيئةٍ مُـدْماةِ
يا صابراً عِـقْـدَينِ إلاّ بضعـةً
(ليلى) مُكَبَّـلَةٌ بِـقَـيْدِ (غُـزاةِ)
رغم ذلك يعلن الشاعر ـ كلون من الإخلاص ـ عن رغبته في البقاء وحتى آخر العمر ؛ ليدفن في تراب وطنه
جَـهِّـزْ ليومــي في رحابِكَ فُـسْحَـةً
وَحُـفَـيْـرَةً لغـدي تَـضمُّ رُفــاتي
ويستطرد الشاعر في تأمل حال ليلى وهو يخاطب نفسه متفجعاً متحسراً في ذات اللحظة التى يرصد فيها مظاهر الاحتلال بآلاته الغريبة وتوجهاته الشنيعة، إلى أن يتوقف أخيراً عند باب بيتهم، فكانت تلك اللحظة بالغة الدلالة بالغة الدراما بالغة الأسى، لكأنه أخيراً عانق مأساة العراق جميعها في لحظة وصوله إلى أهله، لتجتمع المتناقضات : الأمل الذي جاء به، والإحباط الحاصل، الأهل والأرومة والشمل الجميل المتخيَّل، بالحاصل من فرقة وتفجع وفقد وشيخوخة وعجز وفقر .. هى لحظة تشد كل الماضي الجميل إلى لحظة حاضرة مأساوية .. أظنها لحظة تمثل ـ سرديا ـ ذروة الحدث، الذي ما وصل إلى ذروته إلا ليتخامد؛ أو لينتهى عند لحظة مؤسطرة تماماً.
لاشك أن القصيدة تنم عن وعي كبير بصنعة الشعر، كما تؤكد امتلاك شاعرها لكثير من الأدوات المؤهلة للتعبير عن تجربة خصبة على نحو ما رأينا.. لقد لمسنا أكيداً قدرة الشاعر على :
1 ـ توظيف اللغة بشكل إيحائي رامز يتوازى مع ذلك توظيفها بشكل تصويري أيضاً.
2 ـ توظيف عناصر الدراما التعبيرية (السرد، المناجاة، المفارقة، الجمع بين المتناقضات والثنائيات المتضادة)
3 ـ توظيف عنصر الزمن في البناء الأفقى المتمدد نحو استيعاب اللحظة الحاضرة وتصويرها، بالتضافر مع البناء الرأسي الذي يمتد من الماضي البعيد إلى اللحظة الحاضرة أيضاً.
4 ـ تنوع الأساليب البلاغية والالتفاتات .
5 ـ توظيف التراث واستدعاء نماذجه وتوظيفها في استخلاص قيمة جمالية ودلالية تخص التجربة.
6 ـ توظيف الموروث الشعبي النصوصي على سبيل التضمين في حدود ما يخص اللحظة الشعرية ويناسبها ...
و : ومن ثم أحيي شاعرهذه القصيدة الجميل يحيى السماوي ..
* شاعر وروائي وناقد مصري
...........................
الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (عدد خاص: ملف تركيم الشاعر يحيى السماوي، الخميس 1/1/1431هـ - 17/12/2009)