تجديد وتنوير

سامي عبد العالأينما وُجدت فكرة "الخِراف الضَّالة"، فإنَّها تستحضر معاني المُخلِّص القادم حتى ولو جاء كائناً عابراً. والعبور هو وضع ثقافي (اجتماعي– سياسي) بالمقام الأولِّ، يخلق رموزه الطارئة التي تهيمن على المجتمعات المقهورة. وفوق هذا وذاك، تطلب الخراف السائمة أهدافها مثلما تقتات على العشب الأخضر واضعةً رؤوسها بين الوريقات، ولا تسعى نحوها تلقائياً في غير مرةٍ إنما تحتاج راعياً منتَّظَراً. يحدوها إلى موارد الكلأ ويهدر استقلالها رجوعاً إلى قيادته طائعةً دون حراكٍ. يحدث هذا كنمط رائج على صعيد الحيوان بقدر ما يحدث على صعيد الثقافة والفكر والتربية والاعتقاد.

قال السيد المسيح: "... لم أُرسل إلاَّ إلى خِراف بيتِ إسرائيل الضَّالة ". صحيح كانت رسالته الدينية تستهدف خراف بيتَّ إسرائيل تحديداً، وهذا مثال بشري مشروط بسياقه للإشارة إلى الانحراف في السلوك والاعتقاد، وبخاصة أنَّ الخراف نوع من الحيوان يميز تلك البقاع الزراعية الشرقية التي اعتبرها المسيح (بيئة جيو سياسية دينية). وهو ما يستحضر المعنى الثقافي للفكرة بالتبعية، أي أنه لا تكون هناك خرافٌ ضالة دون عشب ديني متعاضد مع نباتات سياسية متسلقة وضارة بالإنسان في الوقت نفسه. وهي الأعشاب التي تنبت في حواشي السياسات الشرقية ومتونها كيفما تجري في مجتمعات رعاةٍ بالأساس. فلئن وجدت خراف ضالة، فهناك أساليب للحكم والتعليم والاجتماع بالطريقة ذاتها. وكأنَّ المسيح يخبرنا على نحو غير مباشر عن مدى وجود نماذج أخرى في هذه المجالات يمكن أن توجد وتتناسل مع التاريخ من مرحلة لأخرى.

 لأنَّ حيواناً من هذا النوع المشهور (الخراف) يعدُّ على علاقةٍ وثيقةٍ بالإنسان، من حيث كونه يؤكد إطاراً معيناً حول (الرُعاة والرعاية والرعاع والراعي والرعية)، وهي مفردات و تدابير لا تخلو منها البيئة الثقافية وتنعكس على حيوات الشعوب بالبقاع الشرقية تخصيصاً نظراً لميراث اجتماعي من هذا الصنف. لكن كلَّ رسالة (عملية أو نظرية) على غرار رسالة المسيح تعرف جيداً إلى من تتجه، ومن هي خرافها الضالة بالتحديد. وكيف تتعامل معها على المستوى نفسه من التأثير والأسلوب.

 مقولة " الخراف الضالة" هي حالةٌ جمعيةٌ من الفوضى، وانعدام الرؤى، وضحالة الوعي، وانتشار روح القطان، وسيادة التيوس والكباش الفارغة من المعرفة والفكر والفهم على مقاعد السلطة أيا كانت، وشيوع اليقينيات الأصولية والأيديولوجية حشواً للأدمغة، والتناحر على أتفه أسباب، والركض وراء الأوهام لتغدو ممارسة يومية بفعل السياسة والتعليم والإعلام. حتى أننا نستطيع اعتبار المقولة السابقة عنواناً لمجتمعات ومؤسسات وأفعال وأنظمة سياسية لعبت أدوارا في ترويض الشعوب المغلوب على أمرها.

في هذا الشأن، لو كانت هناك بقايا لمقولة المسيح، فماذا عن خراف بيت العرب والمسلمين؟ ومن الذي أُرسل إليهم؟ وكيف يقود الراعي المنتظر خرافه الضالة؟ وكيف تتعامل هذه الخراف مع الرسالة الموجهة إليهم؟ وإلى أي مدى تسير حياتها مع تحولات السياسة والدول والأنظمة الحاكمة التي خضعت للروح ذاتها؟ هل هناك سياق فقد مبرره كانت تتعامل هذه الأنظمة خلاله إزاء شعوبها؟

 أيا كانت الإجابات، فهي واضحة تجاه الأحوال العربية الذي انتشرت فيها فكرتا الرعاة والرعية ولكن تحتاج إلى زوايا أخرى من التحليل والتقليب المتواصلين، ولابد أنْ تفتح أفقاً أوسع لعمل التاريخ وتراكمه نحو الأفضل. والمفارقة هنا بارزة إلى حد السخرية بعد كل هذه الخطوات التي قطعتها الإنسانية من تقدم تكنولوجي والدفاع عن كيانها مستقلاً وحراً وتأسيس آفاق للحقوق والحريات وخلق أشكال الإبداع الفردي والجمعي وتأكيد المعالم الخاصة بالإنسان في المقام الأول وإنشاء أنظمة سياسية ليبرالية مفتوحة تقبع التنوع والتعدد في العيش الاعتقاد.

 أقول: بعد كل ذلك نجد هناك بالعالم العربي مَن يبحث عن تربية البشر كتربية النعاج الضالة ويبني حظائرها ويؤسس لأجيال تالية تعيش الأوضاع نفسها. و قد لا يغادر هذا المسئول أو ذاك موقعه (سياسياً ودينياً وإعلامياً) دون التعامل مع المواطنين إلاَّ بهذا الوضع. ولو افتراضنا أنه يخضع لمنطق العصر الراهن بوسائله المتقدمة، فإنه يتخفى في مظاهر حداثية بينما جوهر ما يقوم به هو في النهاية "رعاية الخراف الضالة".

نجحت نتاجات الحداثة وما بعد الحداثة في إنجاز التجريف التاريخي لرواسب مقولة المسيح السابقة وتدميرها تماماً، فلا تقارن مقولة (الخراف الضالة) إلاَّ بما يناقضها من قيم التحرر في كيان الإفراد وأفكارهم وممارساتهم كما هو موجود لدى بعض مجتمعات الحضارة الغربية: أي الاهتمام بالإبداع والانطلاق والتحلُّل من الحشد والاستقلال والعلمانية وتدمير الميتافيزيقا المتعالية والنقد الجذري وإعلان حقوق الإنسان والاعتراف بالآخر وكشف زيف الأساطير سياسياً واجتماعياً. حيث التأكيد على قيم الذات وإذاقة الإنسان معرفة أناه الحر وخياله الطلق، هذا الترياق الشافي من جروح القطعان وضغوطهم.

وإضافة إلى هذا تمَّ تفكيك حتى ما يُسمى بالضلال في مقولة (الخراف الضالة)، لأنَّ ضلالاً بمعناه اللاهوتي المسيحي يعني:

1-  تأكيد سلطة دينية متعالية إزاء من هم أدنى مكانة، وهي كذلك سلطة قد تكفر الضالين وتفرزهم عن المؤمنين والأخيار. لأن كل إقرار بالضلال إزاء البعض إنما يضمر معايير تحتاج إلى من يمسك بها للحكم على الآخرين. وهذا ما حدث عندما أفرزت مفاهيم (الضلال) وتصنيفاته تراتباً اجتماعياً وسياسياً في المجتمعات التي تستند إلى أُطر دينية أيديولوجية. وتلك السمة لا تنتهي من تربة الحياة العامة بسهولة إنما يجب الحفر حول بذورها وجذورها المهملة بين طيات التراب الثقافي وتحت أكثر الأنشطة سريانا في تضاعيف الأفعال والممارسات.

2- ترتبط المقولة بالحكم على أُناس بعينهم بالضلال والخبال. وهذا المعنى أخطر ما كان يؤدلج تعاليم الديانات عبر التاريخ، لأنَّه كان يحوِّل فكرة العمومية (المساواة والعدالة والتنوع الأفقي) بين جميع الناس إلى أداة إقصاء وإرهاب. والأداة تخلق أصحابها من وقت لآخر بموجب عدم قدرة الإنسان على الاستقلال والشعور بخصوصية متفردة. في مقابل عدم إنهاء الاستغلال، لكونه لصيق الصلة ببنية المجتمع وذراته الفرعية المكونة.

3- تحُول المقولة دون اتساع رقعة المجتمع المدني civil society، وهو مجتمع لا يلجأ إلى أية قوى خارج قدراته الذاتية ومؤسساته الحقوقية المدافعة عن مصالح أفراده والضامنة لحرية حركتهم والتعبير عنها بكامل الإرادة والشفافية. ولكن عندما يكون هناك نظام مستبد (متخلف)، فالمقولة السابقة تصبح قيد التطبيق بشكل لاوعٍ، بل هي النموذج الأمثل الذي يخدم السلطة المستبدة ويغذيها بأسباب استمراريتها.

4- تدعو المقولة إلى انتظار الرسل حتى بعد انقطاع النبوات واستحالة مجيئها. وهذا في الثقافة الإنسانية معناه ملء الفراغ بأنبياء مزيفين يتحكمون في رقاب البشر، ويتلاعبون بمعاناة الناس وآلامهم وأوضاعهم المزرية. فقميص النبوة في التراث الاجتماعي الشرقي كان يُخلع على أي صاحب سلطة نافذة ولا سيما السلطة السياسية، فالحاكم الملهم هو نبي بدرجةٍ ما إن لم يكن إلها يتحرك على رجلين.

5- تكرس المقولة نوعاً من اللغة الدينية وكأن الحياة المدنية والسياسية لم تفرز معجمها اليومي الخالي من ثنائيات الضلال والصلاح. وهي معاني أخلاقية لاهوتية لا يوجد لها مقابل في خطابات الحياة بين البشر المختلفين. فما معنى الضلال في الأفعال والسلوك ضمن آفق  متعدد الديانات والاعراق والاتجاهات؟ وكيف يأتي الضلال عبر الظواهر السياسية والاجتماعية العامة طالما وجدت ثقافة التنوع وطالما هناك لغة القوانين والمؤسسات والحقوق؟

رغم ذلك يلوك السياسيون العرب نغمة الضلال الغابرة، ففي محاربة الإرهاب يستخدمون المقولات الدينية لمحاربة خصومهم ولا يضعون حدوداً لانتشارها وتداولها. كأن يقولون أننا نحارب الجماعات الدينية الضالة وأننا نحاول القضاء على ضلال الفكر والسلوك!! وكذلك يرددون النغمة نفسها بصدد خصومهم السياسيين الذين ينعتونهم بالضلال والانحراف، والأسوأ أن يعاملوا مواطني دولهم على أساس حركة القطعان الضالة. فنجد أحدهم أو غيره يتمسكن ويتمطع ويتلوى ويزمزم ويطلق ألفاظاً ناعمة لا تخلو من الخداع الماكر على خلفية دينية سلفية. وقد اعتبر هذا المسئول أو ذاك مواطني دولته نعاجاً ليست ضالة فقط، بل تحمل ما ثقل وزنه وغلا ثمنه من  شحم ولحم وصوف وجلود. فينتظر جز صوفها وصناعة لحماً مقدداً من ذبحها بين الفنية والأخرى.

 والأغرب أن الخراف أو المواطنين ينتظرونه كما ينتظر المغلوبون على أمرهم عودة المُخلِّص في التراثات الشعبية، هذا الفتوة الذي يهزم الطاغية ويخلِّص الضعفاء والفقراء من القهر والظلم، ثم سرعان ما يتحلقون حوله ويحملونه فوق أكتافهم كمشهدٍ من مشاهد القضاء على الفتوات المتسلطين على يد فتوة جديدٍ في رواية الحرافيش لنجيب محفوظ. والفتوة الجديد سواء أكان في الرواية أو الواقع لا يُفلت الفرصة السانحة. فالخراف كنوز بشرية متحركة بدءاً من اغتصاب إرادتها والضحك الهستيري على أحوالها وإطلاق الوعود دون أجل وانتهاء  باستمرارية الأوضاع وكسب مزيد من المكاسب. لدرجة أنَّ هذه الحالة العربية أو تلك في مجملها مازالت تشكل دراما الخراف الضالة ويبدو أن دلالة المسيح كراعٍ سياسي في أوضاعه البشرية هو البطل الفعلي الذي ينذر نفسه لقيادة خراف بني الإنسان العربي.

وكذلك دينياً ينصِّب الشيوخ الإسلاميون أنفسهم كالمسيح رغم عداوتهم التاريخية لكل ما ينتمي إلى المسيحية وتكفيرها، فلا يعتبرون متابعيهم بشراً أسوياء ولا أناساً لهم مؤهلات وسمات الإنسانية المجردة داخل كل منهم، بل (هم) من وجهة نظر أولئك الشيوخ خراف سائمة لا تنطق ولا تعقل، وإلاَّ ما سبب هذه الفتاوى حول الظلم والقهر والفاقة والضنك في الحال والمآل الذي هو - كما يرددون - مما كسبت أيدي الناس، وأنَّ ما هم فيه هؤلاء لا دفعَ له لكونه بلاءً من رب العباد، رغم أنَّ الفاعلين معروفون في كل مجتمع عربي والاستبداد مشهور والتخبط السياسي والفساد المالي والإداري لا يحتاج إلى دليلٍّ. وهذا يثبت زيف هؤلاء الشيوخ وزيف خطابهم القائم على حيوانية الإنسان وهو خطاب يوضع في خدمة أي تيس قوي في الحظيرة له الغلبة والشكيمة على باقي الخراف.

ولقد فاقَ خطاب الإعلام العربي - باختلاف توجهاته ودوله - كل الحدود في تربية الخراف الضالة واجتذابهم حوله على غرار فج وقميء. إحدى القنوات الخليجية المشهورة مازالت تطرح الأخبار والتعليقات والبرامج بمنطق قطيع الخراف، حتى أنها تعول على حركته السائبة في شوارع الفوضى والإهمال والحشود، شوارع بعض الدول العربية. ونظراً لكونها قناة مؤدلجة دينياً، فإنَّها تستخدم كلَّ حيل الحظيرة السياسية لتزييف وعي المشاهدين واستعمالهم في تلوين الحقائق.

حالة الخراف الضالة لا تعلَّن بصراحة، لكنه نمط ثقافي سائد وله جذوره البعيدة بل الضاغطة ويحكم ضمنياً طرائق الفكر وممارسات السلطة وفنون الخطاب وتداول المعارف. حيث يتجاوز النمط كافة الأحزاب والاتجاهات: تجد ليبرالياً متلوناً يمارس ليبراليته بوضعية الخروف الضال، تجد قومياً قحاً يمارس قوميته بمعجم الخروف الضال، تجد سلفياً يمارس سلفيته برمزية الخروف الضال، تجد عقلانياً يزعم تمرده ولوذعيته يمارس العقلانية المنتظرة بلهجة الخروف الضال ويفرض على الآخر هذه الوضعية من التلقي السلبي والطاعة العمياء وكأنه لم يتعلم شيئاً من استعمال العقر بحرأة ودون خوف... ماذا بقيت من شرائح المجتمع لم تتشبع بهذا المعنى اللاهوتي السياسي؟

وفي الأخير إذا أراد العرب التأسيس لمرحلة من التطور وتحديث المجتمعات وبناء أجيال تسهم في عصر التقنيات والمعارف المتقدمة وتعيش الثقافات الكونية الحرة، فيستحيل الانخراط في ذلك الوضع (الذي كشفه المسيح) دون تفكيك الجهاز المفاهيمي والفكري لهذا النمط الأبوي من الحياة. ليس أقل من نسف كل ما ينتمي إليه بصلة نسفاً جذرياً، لأن الأبوة والرعاعية يتعاونان مع بعضهما في مناطق اجتماعية ودينية متناهية الصغر وعظيمة الهدم لكل محاولات نقدية حقيقية وتعطيل مسيرة الإنسان تجاه الإحساس بذاته وإنضاج رؤاه حول العالم والتاريخ.

  إنه بملء الكلمة، لا يوجد في السياسة ولا في الدين خراف ضالة، هذه الحالة لابد من تفريغها وتكسير مفاصلها وإعادة قراءتها في التفاصيل الدقيقة للوعي والحياة، ذلك بعملية تاريخية وثقافية طويلة الأمد تشتغل على صور السلطة الجارية وتلوينها بالدين والأخلاق والنظام الاجتماعي والمعرفي. حتى ولو اقتضى الأمر تثوير أبنية المجتمعات العربية وتحطيم قيودها المنتجة لهذا السلوك الفارز.

 وكما انخرطت مجتمعات الربيع العربي فجأة ودون سابق إنذار في عملية تحول بشكلٍّ ما وإن كانت منحرفةً عن جادة التطور السليم في أغلب حالاته، فلابد من تقعيد الوعي الثوري والتنويري بإنتاج خطابات تستثمر في تنمية  قدرات الإنسان وطاقاته وتطلق العنان لحرياته المتنوعة ولا تعتبره خروفاً في قطعان هائمة نحو مصيرها المجهول. إنَّ الحرية بتنوع وجوهها الإنسانية جزء من بناء وعي مضاد لفكرة (الضلالة) التي تهدد المجتمعات العربية في مستقبلها وتطورها المنشود. ولا ينبغي انتظار مالا يأتي من رسل آخرين بعد خاتم الانبياء ولو كانوا في عباءات سياسية أو اجتماعية، لأنَّ الحياة والتطور لا ينتظران أكثر من قدرة الإنسان على الإبداع والاختلاف.

 

د. سامي عبد العال

 

 

عبد الجبار الرفاعيوجودُ الإنسان مرآةُ وجود الله. الإيمانُ نورٌ يكشفُ للإنسان حقيقةَ وجودِه، ثمرةُ الإيمان تُعرف بإثرائه لسكينة الروح، وطمأنينة القلب: "الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ"1. الإيمانُ حالةٌ للروح تعيشها، وتجربةٌ للحقيقة تتذوّقها. يسكنُ الإيمانُ الروحَ مثلما تسكنه، ويرتوي بالروح مثلما ترتوي به. الإيمانُ عودةُ الروح إلى أصلها الإلهي، أودع اللهُ في كلّ إنسان روحًا منه، إلا أن هذه الوديعةَ تحتجب متى احتجب الإنسانُ عن الله، اللهُ لا ينسى الإنسانَ إلا عندما ينساه الإنسانُ: "نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ"2. لا يستردّ هذه الوديعةَ إلا الإيمان، الإيمانُ إيقاظٌ لصوت الله في ضمير الإنسان، وانبعاثٌ لما ينتمي الى الله فيه. الروحُ تنتمي إلى الله، إنها وديعتُه التي استؤمن الإنسانُ عليها، كما يؤكّد القرآنُ الكريم ذلك، فإذا ذكرَ اللهُ الروحَ في القرآن قرنها به، كما تشير هذه الآية وغيرُها: "فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ"3 .

الإيمانُ يكرّس الروحَ والقلب ويتوحّد بهما، حتى يبلغ توحّدُ القلب والروح بالإيمان مرتبةً لا يخضعان معها لمعادلاتِ الذهن ومشاكساتِه مهما كانت. الإيمانُ حالةٌ ديناميكيةٌ حيّة، تتغذّى وتنمو وتتطوّر وتتجذّر. إنه جذوةٌ متوهجة، كأنها طاقةٌ مشعّة، يضيء الإيمانُ الروحَ لحظةَ تحقّقها به، مثلما تضيء الكهرباءُ المصباحَ المظلم لحظةَ وصله بها، وهذا معنى كونه حالةً نتذوّقها كما نتذوّق الطعامَ الشهي والشرابَ اللذيذ. كلُّ ما يتذوقه الإنسانُ ضربٌ من التجربة، والتجربةُ تفشلُ لغةُ الإنسان في التعبير عن حقيقتها وكلِّ حالاتها وأطوارها.

يفيضُ الإيمانُ على صاحبه طاقةً مُلهِمة، إذ لا يجد نفسَه في غربة إلا ويهمس إليه صوتُ الله، فتستفيق روحُه بعد غفوتها، وتمتلئ بعد خوائها، وترتوي بعد ظمئها، ويتجدّد وصالُها بمن أودعها عنده. في كلّ غيابٍ للإنسان عن ذاته يرى حضورَ الله هو الحضور، واحتجابَ الله هو الاحتجاب.

الإيمانُ مُستقرَّه القلب، ومأواه الروح. إنه ليس صورةً ندركها، الصورةُ يختزنها الذهنُ. الإيمانُ، خلافًا للفهم والمعرفة، لا يتحقّق بالنيابة، في عملية الفهم يمكن أن يتلقّى الإنسانُ معارفَه من شخصٍ آخر، أو يقلّد غيرَه في آرائه. الإيمانُ تجربةٌ تعكس تسامي الروح في سفر النور من الخلق إلى الحق. إنه ضوءٌ ينبعث داخل الإنسان، إنّه صيرورةٌ تتحقّق فيها الروحُ وتتكامل، ونمطُ وجودٍ يرتوي به الظمأُ الأنطولوجي للمقدس، إنه مما تضيق في التعبير عنه العبارةُ، ولا تشير اليه إلا الإشارة.

يحقّق الإيمانُ الإنسانَ في طور وجودي جديد، فحيث يسافر الإنسانُ للحقّ تتكرّس قدرتُه، وتترسّخ إرادتُه، وتتعذّر هزيمتُه. لأنه يتحقّق بالحق فلا يشعرُ بهشاشةِ وخواء وجوده. بذلك يجعل الإيمانُ الاشياءَ المستحيلةَ ممكنة، والشاقّةَ سهلة، والمرّةَ حلوة.

الإيمانُ وحبُّ الله كلاهما كيمياءٌ للروح، كلاهما ينبثقان من جوهر واحد. يولدان معًا، ويرتضعان معًا، ويتكرّسان معًا، ويتوحّدان معًا، فحيث ينمو الإيمانُ ينمو الحبُّ، وحيث يذبل الإيمانُ يذبل الحبُّ. إنهما في صيرورة وتفاعل وفوران، يتحوّل الإيمانُ إلى حب، كما يتحوّل الحبُّ إلى إيمان. الإيمانُ عصارةُ الحبّ، والحبّ عصارةُ الإيمان، كلا الحالتين تستقيان من الشلّال ذاته، يصبح كلّ منهما صورةً لحقيقة واحدة متعدّدةَ الوجوه. حين يصير الإيمانُ حبًّا والحبُّ إيمانًا تشهد حياةُ الإنسان أنوارَ الأبد. ما أجمل التعبير الوارد في مناجاة المحبين للامام السجاد "ع": "اِلـهي مَنْ ذَا الَّذي ذاقَ حَلاوَةَ مَحَبَّتِكَ فَرامَ مِنْكَ بَدَلاً، وَمَنْ ذَا الَّذي أنـِسَ بِقُرْبِكَ فَابْتَغى عَنْكَ حِوَلاً".

الإيمانُ فرحُ الروح في زمن قلما تفرح فيه الروحُ، إذ يتهدّدُ العالَم تدينٌ كئيبٌ يغمر الروحَ بالأسى. في الإيمان تتناغم الأديانُ وتتعايش وتأتلف، بعد أن تكتشف شفرةَ اللغة الروحية الواحدة المشتركة التي يتكلّم فيها إيمانُها، وإن كانت في الاعتقاد تتكلّم لغاتٍ شتى لا تفقه كلٌّ منها الأخرى. يقول ابن عربي: "تنوعت المشاربُ، واختلفت المذاهبُ، وتميزت المراتبُ، وظهرت الأسماءُ الإلهية والآثارُ الكونية، وكثرت الأسماءُ والآلهةُ في العالم"4 .

2323 مؤمنة

لا يولد السلامُ بين الأديان في فضاء الاعتقاد، بل يولد السلامُ بين الأديان في فضاء الإيمان. الإيمانُ يتكلّمُ لغةً واحدة، المؤمنون في كلّ الأديان يستوحون إيمانَهم من منبع مشترَك هو الحق، وإن تجلّى لكلّ منهم في صورة، تتنوّع صورُ الحق بتنوّعِ دياناتِهم، وبصمةِ ذواتهم وبيئاتهم، غير أنهم يعيشون التجاربَ الروحيةَ المُلهِمةَ للطمأنينة والسكينة والسلام. الإيمانُ حقيقةٌ يتجلّى فيها جوهرُ الأديان، وأرضيةٌ تتوحّد في فضائها، ومنبعٌ مُلهِم للحياة الدينية فيها. لا يتخلّص الإنسانُ من نزاعات الأديان وحروبها إلا في فضاء الإيمان.

إن كانت نصوصُ الدين مقدّسةً غير أن تفسيرَها وتأويلَها وفهمَها يتجلى فيه الأفقُ التاريخي الذي يتموضع فيه الكائنُ البشري، لا يمكن أن يكون ذلك الفهمُ عابرًا للإطار المعرفي الذي يعيش فيه ذلك الكائنُ. إن تطبيقَ المناهج العلمية في دراسة الأديان وفرقها ومذاهبها ضرورةٌ يفرضها التعرّفُ على كيفيةِ ولادتها وصيرورتها عبر التاريخ، والآثارِ المتنوعة لها في الحياة البشرية. الأديانُ تولد في عصر مؤسّسيها، لكنها تظلّ تتخلّق وتنمو في صيرورة لا تتصرّم عبر الزمان والمكان، في سياقات نسيجِ المتطلبات المتنوّعة لحياة الإنسان فردًا وجماعةً، والعلاقاتِ العضوية بين السلطة والمعرفة، كما يشرحها ميشيل فوكو.

ما لم يتسع حقلُ دراسةِ الأديان ومقارنتِها لدى الباحثين في الدراسات الدينية، لا يمكن تصويبُ سوء الفهم والأحكام السلبية السابقة، وحذفُ الكثير من الأخطاء المتراكمة في فهم أتباع ديانةٍ لمقولات ومعتقدات أتباع ديانةٍ أخرى، إذ تتوالد من سوءِ الفهم والأحكامِ السلبية السابقة دائمًا أحكامٌ إقصائية حيالَ الآخَر المختلف.

إن دراسةَ الأديان ومقارنتَها هي المعيارُ الحقيقي لاختبار وفاءِ الأديان بوعودها، ومصداقيةِ ادعاءات أتباعها. ولا يتحقّق ذلك إلا بالعودة إلى نصوصِها المقدّسة، ومدوناتِها الخاصة الموازية لهذه النصوص، والتعرّفِ على أنماطِ حضورها في حياة الأفراد والمجتمعات التي تعتنقها، ومدى تأثيرِها الإيجابي في تنمية الحياة الروحية والأخلاقية، والتفتيشِ عن أثرها السلبي، وفضحِ ما تعمل على إخفائه أو تتعمّد حذفَه من تراثها وتاريخها الخاص. دراسةُ الأديان الوحيانية مثلًا لا تصحّ إلّا بالعودة إلى نصوصِها المقدّسة وتراثها الخاص، وطبيعةِ تأثيرها في حياة الفرد والمجتمع الذي يعتنقها، وكيفياتِ حضورها في التاريخ البشري، وما تركته من آثار مختلفة في البناء والهدم.

ليس هناك ديانةٌ تستأثر وحدها بالمحبة والحرياتِ والحقوقِ واحترامِ كرامة الإنسان، وليس هناك تاريخُ ديانةٍ منزّهٌ من التعصب والعنف وانتهاك الكرامة. لا يكفي الحكمُ على أخلاقية وإنسانية الديانة بما تشتمل عليه مدوّنتُها، وليس بشهاداتِ أتباعِها عنها، مهما ادعوا من انحصار الأخلاق والإنسانية فيها. لا يكون الحكمُ صادقًا إلا بمقارنتها بالديانات الأخرى، وتفحّص وغربلة مسيرتها التاريخية، وما صنعته في محطات رحلتها عبر الزمان، وما قدمته من مكاسب للحضارات البشرية، مضافًا إلى اكتشاف مقدار تجلّي القيم الإنسانية لهذه الديانة وأخلاقياتها في سلوك معتنقيها أفرادًا وجماعاتٍ في الماضي والحاضر.

كي تتعايش الأديان وتأتلف ينبغي العمل على تكريس المشترك الإنساني الروحي والأخلاقي والجمالي للأديان، ‏وتوظيف الرصيد الايماني والرمزي الحي لها من أجل صناعة السلام في العالَم. والكفّ عن نبش ذاكرة حروبها المريرة والانتهاكات الشنيعة في مسيرتها، وما يختبئ في أرشيفاتها من تعصّبات وكراهيات وصراعات دينية مريرة. وأن ينشد الكلُّ الكفَّ عن ثنائية أنا / أنت، والانتقال إلى الـ "نحن"، على وفق رؤية البابا فرنسيس في ترسيخ معنى "العائلة البشرية"، بوصفها مقصدًا إنسانيًا أسمى يكشف عن الغاية العظمى لكلّ الأديان، وبوصف: "الأخوّة أقوى من قتل الإخوة، الرجاء أقوى من المَوت، السلام أقوى من الحرب".

أما أن نعيشَ معًا وذلك ما ينشده كلُّ حكيم في الأرض، وأما أن نموت معًا وذلك ما يعمل عليه كلُّ متعصب أحمق. كتب الأديان المقدسة وميراثها منجم يكتنز بالمعاني الروحية والأخلاقية الأصيلة، التي تبني أُسس العيش معًا. "إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَىٰ وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ"5 .

من الضروري الارتقاءِ بالحوار بين الأديان، والانتقالِ من الكلام المكرّر، كلام العلاقات العامة والمجاملات إلى اعتماد المناهل الروحية والقيم الأخلاقية المختزنة في جوهرها، والبناءِ عليها بوصفها منطلقاتٍ للبحث في دراسة الأديان والحوار بين أتباعها. في ضوء ذلك ينبغي رفضُ مواقف كلّ من يستخفّ بمعتقدات أيّ دين آخر أو يسفهها، وأن تتعاقدَ كلُّ الأديان على رفض التكفير، وإن كان التكفيرُ يمتلك حججَه وأدلتَه داخل منطق الديانة وتراثها، مهما كانت تلك الحجج والأدلة مقنعةً ومقبولةً لأتباع الديانة. وأن ينطلق الكلُّ من واقع الحياة البشرية، وليس من الرغبات والأماني والأحلام والأوهام، هذا الواقع الذي يدلل على أن الناسَ لا يمكن أن يجتمعوا على قناعة واحدة، أو اعتقاد مشترك، أو ديانة واحدة. "وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَٰلِكَ خَلَقَهُمْ"6 .

 

د. عبدالجبار الرفاعي

....................

1- الرعد، 28.

2- الحشر، 19.

3- الحجر، 29.

4- ابن عربي، محيي الدين، الفتوحات المكية، ج3: ص 94..

5- البقرة، 62.

6- هود، 118.

 

 

سامي عبد العالفي تاريخ الأوبئة هناك أمرٌ ساخر يشوبه التناقض داخل المجتمعات العربية: هو أننا نعزل أنفسنا هُروباً من كل وباءٍ واسع الانتشار بوصفه طاعوناً للعصر، مترقبين تحسُن الأوضاع مع التملمُل لدرجة السأم من فترات الانعزال، بينما نحن (كنا ومازلنا) نحْجِر على حركة العقل طوال قرون من الخمول الحضاري، ولم نتململ قط من انعزال العقول المتمردة عن حياتنا الرتيبة.

بالفعل لقد تمَّ الحَجْر الصارم على إبداع العقول رغم أنَّ فيروسات الفكر الراكد أشد فتكاً، ليس أقلُّها انتشار التطرف والإرهاب والجهل والسقوط المريع في الحياة. ومن ثمَّ لم يكُن مُجديّاً بالتماثل (بين فيروسات الطبيعة وفيروسات العقل) حظْر تجول الأفكار المختلفة لمنع العدوى وتعطيل العقل عن أن أتي بالجديد وبما هو إنساني؟!

لعلَّ أخطر ما فعله وباء كورونا أنه قد كشف أشياء أخرى في تاريخنا الراهن، بالتحديد كشف أوبئة ثقافية وحضارية ضاربة الجذور في ثقافتنا اليومية. مثل فيروسات التخلف السياسي والجُمود الفكري وتراجع مستويات التعليم المبدع وضياع فكرة الإنسان وتدني الإسهام في الحضارة الكونية. لدرجة أننا أصبحنا مرضى لا نقوى على علاج أنفسنا وننتظر الآخرين أن يقدموا لنا علاجاً ومعرفة وفوق هذا وذاك نتاجر في أمراضنا كأنها مصالح أو استثمارات.. أية كارثة غير إنسانية نعيش؟!

الأمر أشبه بالجسم الذي يبدو قوياً صلباً في الظاهر أمام النظر طالما لم يُصبْ بأية أمراض، ولكنه عندما يُصاب بأي مرض (ولو كان بسيطاً) يبدأ في إظهار علل أخرى، نتيجة مداهمة الوهن والخلل لبنيته وبفعل انخفاض مستوى المناعة لدرجة أنَّ الفيروسات الدقيقة قد تعصف بكيانه إجمالاً. فالتباعد الاجتماعي بسبب كورونا والحَجْر على الجسم أظهرا أنواعاً من الحجْر كنا نمارسها طوال الوقت، رغم كوننا أولى بمقاومتها والتطلع لحياة أفضل.

على سبيل المثال نحن أولى بمقاومة الحَجْر على الفكر والحرية والتنوع وعلى انسانية المرأة والإبداع وقيمة الآراء المغايرة. ذلك لإحداث" ثورات نقدية" بمعناها الحقيقي تجاه عصور سالفة أُزيحت خلالها مسارات العقل وتمَّ حجبها في غياهب التقاليد الموروثة. كانت سلطة الموروثات متغلغلة في كافة التفاصيل بغطاء ديني وسياسي معاً ليس أكثر ولا تنتمي إلى أصول الديانات، واستطاعت وضع العقل ومشروعاته وشطحاته وخروقاته للمألوف تحت "الإقامة الجبرية". فلم يكُّن هناك عصر عربي اسلامي واحد يمكننا أنْ نسميه عصر العقلانية أو حرية استعمال العقل أو زمن المراجعة والنقد أو فترات التحرر من التقاليد الآسنة. مما أفقد تاريخنا (وبخاصة السياسي والثقافي) القدرة المرنة على التطور وتأكيد التنوع بطرق طبيعية.

دوماً كان الميلاد التاريخي الجديد لدينا يتم بانفجار الثورات الطارئة والهوجاء والحركات المذهبية والانقسامات الطائفية وانقلابات السياسة والأحزاب السرية والاغتيالات والدسائس والمؤامرات ... إلى آخر النفق المظلم. حتى أنظمة دولنا العربية الغابرة والراهنة، فقد جاءت على أسنة الرماح أو تحت صهيل الخيول أو فوق المدافع ووسط الفوضى والقمع إلى مداهما الأكبر. وكم أحدث ذلك الوضع رُعباً لدى أصحاب الأفكار الأخرى والديانات والمذاهب المختلفة.

وبمناسبة عدوى الفيروسات الطبيعية، تخاف مجتمعاتنا لحد الرعب من عدوى الحريات، وبات أصحاب الحرية العقلية منبوذين ولا أمل في تأثيرهم اجتماعياً وسياسياً. وهذا واضح تماماً من أنَّ أي إنسان يأتي بالجديد سيصير نهباً للإهمال والتكفير والازدراء والملاحقة والتشوّه. وعليه أنْ يموت عارياً دون مأوى أو أن يلقى في أحد السجون الاجتماعية أو السياسية نتيجة الحجب والمنع. وحتى لو كان ما أتى به جديراً بالاعتبار، فلن يتم معرفته ولا نشره في عصره إطلاقاً، بل علينا الانتظار سنوات وسنوات كي يُعاد النظر فيما فعل وترك من أفكار.

هناك المثل الشعبي الشهير في لغتنا الجارية " ذمّار الحي لا يُطرب" أو" لا كرامة لنبيٍّ في وطنه" ... وأتصور أنَّ هذا المثل يعري ذهنية المجتمعات العربية التي لا تقبل تجديداً لجلدها بسهولة رغم تمزقه وقدمه الواضحين للعيان وأنَّ  النبي على ما له من مكانة سامقة في تراثنا الثقافي لن يؤثر في قومه، سيكون مهملاً هو الآخر أو على أفضل الأحوال سيكون منبوذاً. والسخيف في المسألة أنَّ العقل يأتي من العقال في المعجم العربي، أي عقال الدابة وهو العقال لحياة الإنسان عن الرذائل واتيان القبائح. ونتيجة الخلط بين (الابداع والإسفاف بفعل فاعل تاريخي) تم وضع العقال داخل كل عقل منتج وحر، حتى بات يترقب من ذاته أدنى خروج على الشائع والمكرر. وعادة يفضل الانضمام لقطعان المدجنين سياسياً واجتماعياً عن أن يختلف فكراً. لأن المسؤولية تضع فوق عنقه تحت سيف الملاحقة وقيام وانهيار  قيم الأمة كأنه شمشون الجبار بينما هو مجرد قط بائس يلعق أرجله أو شواربه على أعتاب الحكام.

إنَّه منذ حوارات الفرق الاسلامية كالمعتزلة والاشاعرة والجهمية وفرق الشيعة المتعددة حول النص الديني لم يُعترف بنتاج العقول الحرة كنظام مشترك للتفكير والمناقشة وطرح أعقد المشكلات الكونية واللغوية قيد الفحص، وأنه منذ المتصوفة الأوائل أبو منصور الحلاج وابن عربي والسهروردي وجلال الدين الرومي المقتول لم تخرج التجارب الحرة روحياً وإنسانياً إلى الواجهة، فالتصوف كمثال بخلاف (رأي المعتوهين فيه) هو طريق فذ لرؤى الحياة والعالم والنصوص الدينية وقضايا المصير والآخر والكون والتاريخ والزمن. تختلف أو تتفق مع أقطابه تفكيراً أو سلوكاً، إلاَّ أنَّه قد راكم في تاريخ الفكر (أقول الفكر بالتحديد) طُرقاً حرة للإيمان المفتوح open faith، أي الإيمان الحُر بعبارة كانط الذي باستطاعته استيعاب الإنسانية في شخصنا المحدود.

1- التجارب الروحية ذات الطابع الإنساني تضع وجودنا فسيحاً يقبل التنوع والاختلاف والتعددية كما عند ابن عربي والحلاج.

2- أظهرت مأساة الحلاج بنية الثقافة العربية الإسلامية المستندة إلى الفهم الحرفي التقليدي للنصوص وسيادة الخطابات السلطوية حول الشريعة. وقد أودت بحياته كلمات قالها ولم يحاول الفقهاء فهما مغايراً لها رغم احتمالات التأويل.

3- تراث العقل تراث إنساني بالمقام الأول ولا يجب حجبه لصالح السياسي والديني، إنما ينبغي اعتباره تراثا قابلا لكل القراءات الممكنة.

4- أبرز ما في التصوف هو الجرأة والمبادرة على مناقشة كافة المسائل والفهم المختلف للقضايا الدينية التي تكرس السلطة وتسهم في تخلفها.

5-  ليس التصوف فقط مقصوداً لذاته، لكنه يطلعنا من ناحية الفكر على أدوات حرة ومختلفة لفهم العقل (حتى وإن كان التصوف يخالفه) وسبر أغوار الحياة ومعرفة دقائق اللغة وطبائع الأشياء والحوار معها وفهم الموت والحياة.

الآن بدت إجراءات التباعد من كورونا سخيفة إلى أبعد حد. لذلك ينبغي طرح الأسئلة التي لا تتوقف حول هكذا معانٍ: كيف نأخذ تدابير ضد الكوفيد المستجد ولا نأخذ تدابير ضد رواج التقاليد القاتلة لروح للمجتمعات مع أنَّ الاثنين قاتلان؟ بأي معنى نفرض حجْراً على الأجسام المريضة ولا نكسر حجراً عن العقول المبدعة؟ وبالمقلوب إذا كانت تشير الأفكار المختلفة إلى أفكار جديدة، فكيف نوفر مناخاً خصباً للعدوى في مجال حرية العقل؟ هل عدوى الأفكار نافذة لدرجة تحديد أفاق المعرفة والحياة؟! بأي معنى أفهمنا الكوفيد المستجد عدوى الفكر سلباً وايجاباً، فهي أشدَّ خطراً وراوحت أزمنة برمتها حتى اللحظة؟! وما الدلالة اللطيفة ثقافياً إزاء الحجْر الصحي بين الجسد والعقل؟!

التفرقة غير المنصفة التي كان يجب إدراكها بين الجانبين (تفرقة بائسة) كلّفت العالم العربي والاسلامي قروناً من الانكفاء والتخلف. فلو تم تجنب حاملي فيروسات التخلف والسقوط والدعة والاستبداد ما كانت هناك هذه العدوى التاريخية. لأن هناك تماثلاً بين فيروسات الفكر والطبيعة كما أشرت، وإذا كان الكوفيد يُفشل عملية التنفس ويدمر أنسجة الرئة ويسبب الموت البطيء بالنهاية، فإننا بقينا قروناً بلا تنفس فكري نقي ولا رئات ثقافية حرة تجدد آفاق عقولنا العامة. إن الفكر غالياً لا يكاد يحس بأهميته أحدٌ، ربما لكونه بعيداً عن "الفم والبطن والفرج" عند الإنسان العربي، هذا الثلاثي العتيد الذي يهم الرئة اليومية لحيواتنا العربية المباشرة. وهو الثلاثي نفسه الذي يحدد اليوم سياسات بعض أنظمة الدول والاعلام والفنون والأخلاقيات والعلاقات العامة ويضبط إيقاع التمدد البشري ويحكم القبضة الممسكة برقاب القطيع. فالغرائز تبقينا على مسافة مناسبةٍ داخل الحياة وتجعلنا قادرين على مواصلتها، لكن انحرافها وتضخمها يجعلنا مرتعاً لفوضى التخلف. أمَّا  مضمار الفكر (وهو المجال الأثير للعقل المنتج) فقد ظلّ نهباً لكل من هدب ودب، مجهول الهوية، لا يسأل عنه أحد .. ملْك مشاع كموضع لنفايات ثقافية.

إنَّ مجال الأفكار الجديدة والمواكبة لكونية الثقافات ليس هو المجال المناسب للحظر أيا كان، حتى ولو جاءت الأفكار شديدة القسوة في كشف واقعنا. لأنَّ الأفكار مهما حُجبت لن يحُول أيُّ شيءٍ دون انتشارها، تزيد إذا وُضعت تحت الحجر. فلم يحُل التاريخ دون زيادة قوة الأفكار حتى في أحلك العصور إلاَّ إلى حين فقط، ثم سرعان ما تنفجر في وجوه الطغاة وآكلي عقول البشر. ويجب على دولنا العربية فهم ماذا يعني تحرير العقول لا قمعها وأن هذا التحرير يخدم مستقبلاً آتياً لأجيال قادمة لأنه بناء للإنسان.

ومن أسفٍ أنْ كانت الدولة العربية الراهنة أداة تغليب للأفكار التقليدية تمشيّاً مع أهواء الحكام والساسة وأهل الحل والعقد لأنها تغذي مصالحهم بالدرجة الأولى. ولذلك لا يخشى أي حاكم عربي (صغيراً كان أم كبيراً) من أي شيء قدر ما يخشي من التفكير الحر. فهو تفكير يتوجس منه ليلاً ونهاراً ويبحث عن قتله في مهده قبل أنْ يظهر، لدرجة أن نظامه السياسي يتحول إلى أخطبوط يلتف حول أيَّة عقول مختلفة خانقاً إياها حدَّ الموت. والغريب أن مجتمعاتنا العربية تأخذ خطوات استباقية خلال هذا الاتجاه قبل أية أنظمة سياسية في ممارسة هذا الفعل الفاضح ذاته، وأصبح أي مسئول، بل أي مثقف (من الصنف المرقط) متواطئاً مع تلك الاستراتيجية التاريخية. ليتحول الإنسان إلى مجرد قطّع غيار عليه أن يخلع ذاته أمام أية ممارسة دون تفكر حر ولا أي موقف تجاه ما يرى.

 

سامي عبد العال

 

 

لا شك أنه في عمق التحولات الكبرى الحاصلة في العالم وفي عمق الواقع العربي والإسلامي على مختلف الصعد والميادين، طافت على السطح إشكالات عديدة من جراء المشكلات المتراكمة والباحثة لحلول ومخارج من الأزمات اللامتناهية، وتوالدت الكثير من التساؤلات والقراءات والمقاربات وفق منهج الشك وقوانين المراجعة والاختبار والتقويم لعدة عناوين ارتبطت باليقينيات المختلفة، مما زاد من حدة التعقيدات الفكرية والعملية، لكن بحسب الرؤية الإسلامية القرآنية، أساس التقدم والتطور هو العلم والمعرفة على هدى تقوى النظر والتفكر..

خيار التعارف.. الإنفتاح على الحقيقة أولا:

كل جهد نظري منفتح على الحقيقة، ينطلق في مقارباته الإصلاحية والتجديدية سواء بالنسبة للفرد أو المجتمع من قاعدة الإنفتاح الثقافي بعدما تجاوز الكهوف الخمسة التي أشار إليها بيكون، لأن محطة الانفتاح ثقافيا هي مقدمة لمحطات توسيع دائرة المعرفة وتركيز العلم المنهجي فالتمكن من فن التساؤل العميق، ثم معرفة هندسة بناء النقد التجديدي، كل هذا يشكل أسس تثبيت  خيار التعارف، في كل بيئات المجتمع وظروفه، هذا الخيار الاستراتيجي في تسريع خطط الإصلاح والتجديد على مختلف الصعد والمستويات بحاجة لتأسيس وترصين وفحص ومداولات فكرية جدلية مع الواقع مستمرة..

لماذا خيار التعارف؟

قد يبدو السؤال غريبا على واقعنا العربي والاسلامي العام، لأننا كمكونات ثقافية متعددة ومتنوعة لا نزال لا نعرف بعضنا عز المعرفة بل لا أبالغ ان قلت لا نعرف بعضنا الا معرفة مشوهة غير مكتملة محتشمة، معرفة قبليات ثقافية تقليدية مصداقيتها مهزوزة في الغالب الأعم، لأننا كإجتماع بشري متعدد الثقافات ومتنوع القوميات والقبائل لا نزال نصارع المراهقة الثقافية ولم ينضج اجتماعنا الثقافي لمستوى وعي التعارف كخيار تجديدي لحياتنا الحضارية المنشودة وفق معالم التقوى وآفاق الكرامة..

خيار التعارف بين الصحة والمصداقية:

التعارف كعنوان في كل البيئات السوسيوثقافية، ينال القسط الوفير من المباركة والصحة، الجميع مؤمن مبدئيا  به كرافعة ومنارة في نهج التجديد والإصلاح والتنمية، شأنه في ذلك شأن جميع القيم الحضارية كالتسامح والتعايش والاعتدال والتعاون والتقريب والوحدة،  بل إن الفاعلين في الشأن الثقافي العام يتشبثون ولو شكليا بخطاب وخيار التعارف مع الشركاء في الوطن والدين والإنسانية، بينما المأزق يتركز في مصداقية التعارف لدى كل طرف من الأطراف، وخصوصية التعارف أنه كقيمة في ذاته يمثل قيمة مضافة لكل القيم الحضارية على مستوى مناشط الفاعلية والواقعية..

خيار التعارف ليس فيلم اشهاري او لقلقة لسان أو تكتيك مرحلي، بل هو نهج حياة وتراكم معرفي ومسيرة وعي وتقوى ثقافية تكاملت في شكل سلوكيات حضارية مستديمة، تستهدف ترسيخ  مفهومي الكرامة الإنسانية والمواطنة الناظمة للتعدد والتنوع..

خيار التعارف...مسؤولية حياة:

في جميع حقول الحياة الاجتماعية تطفو على الواجهة قيم الحرية وما تفرزه من آفاق للمسؤولية الذاتية والجمعية، فالتعارف كإنفتاح ثقافي يستدعي وعيا معمقا بضرورات ومنطلقات الاجتماع التنموي الراشد، وكما أشار المفكر الأستاذ محمد المحفوظ في إحدى أبحاثه المهمة حول ثقوب الوعي الاجتماعي إلى اننا كأمة: " أحوج ما نكون اليوم، إلى تعزيز وحدتنا الوطنية، وتمتين جبهتنا الداخلية.. ولا يتم كل هذا إلا بطرد تلك الثقافة، التي تربي الإنسان على الحقد والكراهية والفرز بين أبناء الوطن والمجتمع الواحد.. لا يمكن أن تنمو حقائق الوحدة في أي مجتمع مع ثقافة التعصب والكراهية، وذلك لأن هذه الأخيرة تقوّض كل أسس التوافق وأسباب الوحدة وضرورات الالتحام والائتلاف." ، بكل بساطة المأزق ثقافي بإمتياز، كما أن الإصلاح ثقافة قبل أن يصبح آليات وبرامج، لابد من مسؤولية ثقافية منفتحة على حياة كريمة سمتها الأساسية العدالة التنموية، بما يسمح لإصلاح الوعي وتجديد المؤسسات والبرامج والقوانين والتطلعات والقراءات حتما، تجاوزا لكل الاختلالات والانحرافات والتقاليد السلبية واللاإنسانية التي كرست ثقافة الخصام والتنافر والعداء والاعتداء على بعض رمزيا وجسديا وإنسانيا بإسم درء الفتن وحماية الوحدة الوطنية والدينية وما هنالك من تزييف للوعي الجمعي حتى لا ينتبه لمسؤولية التعارف كما حددها الباري عز وجل في القرآن الكريم !!

خيار التعارف...مصنع المواطنة الفاعلة

لا يمكننا بناء تصور او تمثل سليمين وواقعيين لمفهوم المواطنة خارج اطار خيار التعارف، لأن معادلة المواطنة قائمة على المساواة والاعتدال والحوار كضمانات لحقيقة المواطنة، كما أنه ليس من السهل ادعاء حقيقة المواطنة دون تعارف شركاء الوطن (الانساني، الديني، المذهبي، الاثني، الأممي، الثقافي بوصف عام..) فيما بينهم وفق اعتراف واحترام لبديهيات التعدد والتنوع والاختلاف، الاحترام المتبادل، الحوار التكاملي لا التسقيطي، لا يحق لأي طرف أن ينسب لنفسه ملكية حقيقة المواطنة ويسلبها من الآخرين المختلفين معه سواء على الصعيد الديني أو المذهبي أو القومي أو القبلي أو الأممي أو الثقافي العام.

كما أن المواطنة في حقيقتها لا تعني تمتع الأغلبية بها وبآثارها التكريمية في الحياة الاجتماعية العامة، بل هي حق وحقيقة لكل مكونات المجتمع بغض النظر عن الأكثرية والأقلية او الغنى والفقر، المواطنة في ظل التعارف تكريم للإنسان بما هو إنسان، وترسيخ لحقوقه العامة والخاصة وتفعيل لكفاءاته وتطلعاته بما يعود بالخير والامن والتطور والتقدم لنظرائه جميعا في نسيج المجتمع-الوطن، "إننا نتطلع إلى مواطنة متساوية في الحقوق والواجبات، لا تبنى على أنقاض خصوصياتنا التاريخية والفكرية، وإنما تبنى على أساس احترام هذه الخصوصيات والاعتراف بمتطلباتها والعمل على حمايتها من كل التهديدات والمخاطر ..

والتجارب الديمقراطية الكبرى في التاريخ الإنساني، لم تبن بدحر الخصوصيات والتعدديات المتوفرة في المجتمع، بل بخلق ميثاق وطني حضاري، يأخذ بعين الاعتبار حاجات التنوع ومتطلبات التعدد . مما وفر الأرضية القانونية والسياسية المناسبة، لانخراط كل القوى والتعدديات في بناء الوطن وتطوير المجتمع على مختلف الصعد والمستويات.

فالخطر الذي يتهدد الأوطان واستقرارها، ليس من جراء التعددية المذهبية والفكرية، بل هو من جراء سياسة التمييز الطائفي التي تعمل على تفتيت المجتمع على أسس طائفية مقيتة."

المواطنة  كمفهوم مدني معاصر تمتد جذور تبلوره لأحقاب بعيدة في التاريخ الإنساني ومنها الحقبة الإسلامية الأولى وبعض الومضات التالية لها إلى يومنا هذا، لقد تكامل المفهوم ولايزال يتجدد ويتطور مع كل منعطف من منعطفات الاجتماع الإنساني، بفضل تعدد الرؤى وتمايز القناعات حول الطريق المؤدي إلى النماء الإجتماعي، والخطوات العملية المفضية إلى تعزيز خيار التعارف على مستوى البيئات السوسيوثقافية في المعمورة، كما أقر الاسلام قاعدة الأخوة، عرفت الثقافة الأمريكية قاعدة "العصا الناطقة"، على كل حال وبعيدا عن السجالات التاريخية والصراعات الأيديولوجية المتعلقة بحقيقة المواطنة، يمكننا القول: إن خيار التعارف سواء على المستوى الاثني أو المستوى الديني أو المذهبي أو المستوى القبلي أو الأممي، يعني المسؤولية واحدة على عاتق كل عنصر من عناصر التنوع والتعدد وحقائقها الموجودة في العالم الإنساني عامة والعربي المسلم خاصة. ثمة علاقة عميقة بين مطلب التعارف وحقائق المواطنة في الفضاء العربي كما أي فضاء إنساني اجتماعي آخر. سواء أكانت هذه الحقائق دينية أو مذهبية أو جهوية أو عرقية أو قبلية أو ما هنالك من تعددية وتنوعات واختلافات بين أبناء الوطن أو الأمة أو الدين أو الطائفة أو القومية.

خيار التعارف..اجتثات للطائفية

من يطمح  لتنمية الاجتماع العام لأي جغرافية إجتماعية، لابد أن يتمتع بمعرفة دقيقة بالواقع الاجتماعي، خصوصا التكوين الثقافي لتلك الجغرافية الاجتماعية ويدرك تمام الإدراك الخيارات الثقافية والسياسية الغالبة والمطلوبة لتفعيل حقائق التعدد والتنوع إيجابيا في هذا الفضاء الاجتماعي، حتى يتسنى له خوض غمار بناء السلم الأهلي والاستقرار الاجتماعي المنتج للتمدن، كون أغلب الفضاءات الاجتماعية المتخلفة تعاني من مأزق التعامل السلبي مع الاختلافات الطبيعية، مما يسمح للطائفية من التوغل والتغول في الواقع وتفشي توابعها في جل خيارات نظام الاجتماع العام، وعليه لا يمكن التعارف أن يجد مساحة في ظل الهيمنة الطائفية على الواقع الاجتماعي العام، والنخب أو الأطراف أو الجهات الطامحة لتفعيل آليات التعارف في ظل اقتصاد الطائفية لن تحصد إلا المزيد من التشرذم والتصادم والتسقيط والتشويه بين مختلف الأطراف والأطياف. التأسيس لخيار التعارف ينطلق من استثمار فرص الاتحاد وتعزيز آليات تناغم الحريات في بيئات المجتمع الثقافية، أو ما يعبر عنه بالغرس الثقافي ليس اعلاميا فقط بل بالأخص تربويا وتعليميا، مما سينسج ويجذر علاقات إيجابية وتواصلية بين مكونات المجتمع سواءا الجديدة أو العلاقات القديمة التي تراكمت فوقها طبقات الأتربة الطائفية عبر الزمن..

 

بقلم: مراد غريبي

كاتب وباحث في الفكر

 

 

عادل خلف عبدالعزيزنبدأ حديثا بطرح سؤال وسنحاول أن نجيب عليه، هذا السؤال هو، هل الفلسفة جدال؟!!

للإجابة علي هذا السؤال ينبغي علينا أن نقدم تعريفا للجدل: فالجدل هو فن المحاورة وكيفية استنباط الافكار من خلال الدخول في حوار بناء مع الآخر أيا كان موضوع المحاورة، فقد تكون المحاورة فلسفية مع أهل الفلسفة ومحبيها، وقد يكون الحوار عقائدي حول الاعتقاد والمقارنة والمقاربة بين الأديان مثلاً - بما يسمي بالمناظرات- وقد يكون الحوار ثقافي بين الأدباء، أو النثار، أو الشعراء- كما يحدث في الصالونات الثقافية -من خلال عرض قصة قصيرة أو ديوان شعري، أو تحليل كتاب حتي-وقد يكون الحوار علي مستوي جماهيري عامي - كأن يتحاور مجموعة من عوام الناس مع بعضهم البعض حول مشكلة من المشكلات العامة - كمشكلة البطالة مثلا.

وقد يكون الحوار علي مستوي محدوداً، أي عن طريق عقد ندوة محدودة العدد، يلقي المتحاور بكلمته أو يطرح فكرته، ثم تدور بينه وبين الحضور نقاشات كثيرة.

وقد يكون الحوار علي مستوي واسع كما يحدث في الملتقيات والمؤتمرات الثقافية كملتقي الشباب الذي يطرح قضايا الشباب ويناقش همومهم، ويدور الحوار بطريقة منتظمة عن طريق عرض الرأي وقبول الرأي الآخر - وقد يكون علي مستوي أسري بين الزوج وزوجته، أو بين الزوج وابنائه.

وهذا ما يمكننا ان نطلق - إن جاز لنا-نطلق عليه الجدل البناء الذي يعتمد علي فرضيات ومقدمات تخضع للمناقشة من أجل الوصول الي نتائج تفيدنا في واقعنا المعيش علي كافة الاصعدة والمستويات، سواء السياسية، أو الاقتصادية، أو العلمية، والثقافية، والاجتماعية، وهذا بدوره يؤدي إلي نهضة شاملة نحلم ونصبو إليها دوماً.

إذن الجدل البناء المنهجي هو الذي يقودنا إلي الوصول إلي نتائج من الممكن من خلال مناقشتها مناقشة موضوعية نصل إلي غاية مرامنا،  فالجدل هنا المقصود به الحوار، وهذا لا مندوحة عنه فجميعنا يقبله دون إفراط أو تفريط، وهذا من وجهة نظري هو الجدال المحمود.

أما الجدل المرذول فهو الجدل المذهبي الذي يقوم علي اللاوعي، واللامبالاة، والتعصب الأعمى البغيض لفكرة ما، أو لمذهب ديني ما، كما رأينا ذلك عند بعض "الشيعة" وغلاتهم يدخلون في مناقشات ومحاورات مذهبية لا طائل من وراءها، اللهم إلا إثارة الفتنة بين الناس ولا تخرج من حواراتهم إلا بالتعصب الأعمى، وكذلك ما رأيناه عند "الخوارج" في حوارهم مع "واصل بن عطاء" عندما مر علي ديارهم -وكان الذي يمر علي ديارهم وليس علي شاكلتهم ينكلوا به بعد دخولهم في حوار معه ويسألونه عن السيدة "عائشة" والصحابة وإذا ثبت أنه يدافع عنهم ينكلون به ويقتلوه، أما المشرك المستجير يتركوه، بل ويظلوا معه حتي يبلغ مأمنه، وهذا ما فعله "واصل بن عطاء" معهم عندما استوقفوه قال لصحبه دعونا أتحدث أنا معهم، قال لهم مشركون مستجيرون فأجيرونا، إذن هذا جدل اعتمد علي المغالطات المنطقية؛ بمعني أن "واصلاً" إدعي أنه ليس من أهل التوحيد، فتركوه يمر، وأهل القبلة الذين يحبون آل البيت والصحابة ينكل بهم.

هذا هو الجدال الهدام الذي لا يؤدي الي الوصول الي الحقيقة، وهذا هو المنهي عنه ترك الجدال، ولو أنت علي حق؛ وقس علي ذلك ما يحدث الآن من جدالات قد تستمر طويلا بين أنصار الجماعات المتطرفة فكرياً التي ترمي وتتهم الناس بالكفر، بل ويصل بهم المدي إلي استباحة دم من يناقشهم بعد اتهامه بالكفر، لأنه لم يسايرهم ويتماشي مع مذهبهم كالجماعات التكفيرية التي زعموا أنهم حماة الدين وحراس العقيدة وأنك إذا دخلت معهم في مناظرة دقيقة وموضوعية تعتمد علي الفكر الحر المستنير، تجد هؤلاء يلوون عنق النصوص الدينية من أجل إثبات وجهة نظرهم وتبديع الآخر

وهؤلاء في الحقيقة لا علم لهم ولا حتي فهم دقيق لفحوي النصوص، اللهم إلا اعتمادهم علي قراءة بعض الكتب المسمومة التي تدعوا إلي التطرف، مثل هؤلاء لا طائل من وراء مناقشتهم اللهم إلا النصب والتعب ومضيعة الوقت.

وكما يحدث بين الشباب وخصوصاً شباب الجامعات من سجالات ومجادلات في محاضراتهم مع أساتذتهم كأن يقوم الاستاذ بإلقاء محاضرته، وفجأة يقاطعه شباب أو فتاة بسؤال لا يمت من قريب ولا من بعيد للموضوع محل المحاضرة أو حتي يكون له علاقة لكن لا يناقش مناقشة موضوعية بناءة وعليه أن يترك الجدال فوراً، فهذا الجدل لا ينتج عنه إلا جدلاً وقد يثير بلبلة في المحاضرة وتشويش فكري لكل الحضور، فهل نتركه يستمر ام نوقفه. ؟!

أري ان نوقفه فوراً، فهذا هو الجدل من أجل الجدل، أو أن شئت قل جدل لا عائد ولا طائل من وراءه، إلا الظهور أمام الحضور وإثبات الذات - وليس هذا اثبات للذات، بل هو إهدار للذات، وقد يتهمك الحضور بالغباء، أو بلفظ مهذب بالخواء الفكري والعبث والفوضى. وهذا ما لا نرضاه لشبابنا لماذا؟.. لأننا نهذب العقول ونهذب الأفكار حتي نستخلص منتج فكري راق يتناسب ويتماشى مع عصرنا الذي نحياه.

إذا نظرنا وأمعنا النظر في تاريخ الجدل ؛ فمنذ بدء الخليقة حدث جدال طويل بين الاخوين "هابيل وقابيل" وانتهي الأمر إلي أن يقتل الأخ أخاه.

وكذلك إذا استعرضنا تاريخ الفكر الفلسفي سنجد "سقراط" مارس الجدل مع "السوفسطائية" مستخدما منهجيته المشهورة التهكم والتوليد من أجل كشف أغاليط السوفسطائية تنوير عقول الشباب الأثيني، وكذلك استخدم "أفلاطون" جدلية العلاقة بين عالم المثل وعالم المحسوس من أجل تطبيق مثال الحق والخير والجمال علي الواقع، وأيضاً أرسطو استخدم الجدل مع راس من رؤوس السفسطائية؛ ألا وهو " أقراطليوس" الذي إدعي مثلما فعل "جورجياس" أنه لا يوجد شئ حقيقي علي الاطلاق ودخل معه "أرسطو" في حوار صامت من جانب هذا الرجل، ناطق من جانب أرسطو واكتفي الأول بتحريك إصبعه منكراً أن يكون هناك شئ حقيقي بإشارة لا، ورد أرسطو عليه إنك مجرد أن تحرك اصبعك مشيرا به دليل علي أنك موجود.

كذلك استخدم الإمام "أبو حامد الغزالي" الجدل مع بعض فلاسفة الاسلام في الثلاثة قضايا المشهورة إنكار البعث، قدم العالم، وعلم الله بالكليات، ليس هذا وحسب بل وتكفيره اياهم وهذا ما ارفضه رفضا تاما فليس ثم أحد يمتلك سلاح التكفير ولا ينبغي أن نكفر أحدا من أهل القبلة مهما اختلفنا معه في الرأي.

أيضا استخدم "هيجل" الجدل في الوصول إلي المطلق (الله)، وكذلك استخدمه "اسبينوزا" في نقده لفكرة وحدة الوجود عند "محي الدين ابن عربي"، وأيضا استخدمه "كانط" في حديثه عن جدلية العلاقة بين المعرفة القبلية والمعرفة البعدية وكيفية الوصول الي عالم الأشياء في ذاتها والتي من خلالها نصل معرفة الحق الاول.

الإنسان بطبيعته يميل إلي النقاش وإلي الجدال، حقا وكان الإنسان أكثر شئ جدلاً، لكن لا بد وأن حقاً يبغي الوصول الحق الذي يطمئن معه العقل وتهدأ به النفس عليه أن يناقش مناقشات موضوعية طارحا خلفه ما يدفعه دفعا إلي العود القهقري إلي الخلف نابذا التطرف الفكري والنزعات العنصرية التي تجعله يجنح جنوحا إلي جدل عقيم لا يسمن ولا يغني من جوع، جدلا أجوف يميل إلي السفسطة وقلب الحقائق ومجانبة الصواب، وقد ظهر ذلك واضحا جليا من خلال حوارات السفسطائية قديما، وكذلك من شبهات بعض المستشرقين وافتراءاتهم علي الحضارة الشرقية والحضارة الاسلامية والعربية علي وجه الخصوص وجدلهم العقيم الذي إن دل علي فإنما يدل علي فقدان الأرضية الحقيقية لبناء فكر صائب يستفيد منه الجميع فكر تحيا به الانسانية وتسعد به وتهنأ، والامثلة علي ذلك كثير وجورج سل ليس منا بعيد في جدله حول القرآن الكريم وانه من صنع البشر ألفه محمد، وكذلك حول جدليته حول ترجمة القرآن وأن احدي آياته المحكمة نزلت لأهل مكة وهي قول الله تعالي (يا ايها الناس اني رسول الله اليكم جميعا) نقول لهذا ولأمثاله هل عندكم من علم فتخرجوه لنا، نحاججكم ونقارعكم ونجادلكم الرأي بالرأي والحجة بالحجة ونقارعكم الدليل بالدليل، فلا يرد علي الجدل العقيم بجدل عقيم مثله بل نرد بمنطق العقل القائم علي مقدمات نستخلص من خلالها نتائج تفيد واقعنا المعيش.

 

الأستاذ الدكتور عادل خلف عبد العزيز

رئيس قسم الفلسفة بكلية الآداب - جامعة حلوان.

 

{يَأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِن ذَكَر وَأُنثَى وَجَعَلْنَكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُواْ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}(سورة الحجرات:١٣)

يمكن النظر في هذه الآية من زاويتين، زاوية بنيوية شاملة في القرآن؛ بهدف استكشاف المقاصد الكلية والحكمة العامة المستفادة من هذه الآية، وزاوية وظيفية مركزية؛ بغرض الكشف عن مباحث هذه الآية وأبعادها، ومعرفة العلاقة بين هذه المباحث والأبعاد.

بشأن الزاوية الأولى، عند النظر الشمولي في هذه الآية يمكن القول إن المقاصد الكلية هي الكرامة والتقوى والحكمة العامة المستفادة منها، هي تقرير قاعدة التعارف، وتأكيد أن التعارف هو الأصل في العلاقات بين الناس،  الأصل الذي يؤسس لقواعد الحوار والتعايش والتسامح والتآخي والتعاون وما هنالك من أسس البناء الاجتماعي الحضاري، فلا يمكن تصور العلاقات الاجتماعية وسبل تطويرها من دون التعارف أو بعيدا عنه والذي يزدهر ضمن مقاصد الكرامة الإنسانية والتقوى العملية المنفتحة على الله.

بينما الزاوية الوظيفية المركزية، يمكن الكشف عن المباحث والأبعاد الآتية:

أولا: جاءت هذه الآية وقررت العلاقة بين الإنسانية والتعارف، حين وجهت الخطاب إلى الناس «يا أيها الناس »، الأمر الذي يعني ضرورة التنبه إلى هذه العلاقة بين المشترك الإنساني ومقصد التعارف، وجعلها في دائرة التفكر والتدبر، وهي تفيد أن وعي الإنسانية كأصل مشترك يمثل عامل مؤثر لتحقق التعارف، وينبغي أن يكون داعيا إلى نهج التعارف، وحاميا له، ومحفزا لاستيعاب حقائق الكرامة والتقوى، التعارف الحقيقي والصادق يقود إلى احترام حقوق الإنسان والتي تختزل ضمن كرامته بجل حقائقها وتوطيد السلم والتعايش الأهليين، والعكس يغذي عناصر التصادم والتنازع والتصارع والعنف المتبادل، مما يطمس كرامة الإنسان ويتجاوز التقوى ويفسد الاستقرار والتعايش والسلم وينسف تجليات العدالة.

كما تفيد هذه العلاقة كذلك، أن دائرة الإنسانية بالنسبة لأصحاب الإيمان مهمة جدا في إيصال التقوى الإيمانية عبر حقائق التكريم الإلهي والكرامة الإسلامية التي تنهض بإنسانية الإنسان وذلك من خلال سبيل التعارف، فالدعوة للإسلام لا تحقق مقاصدها عبر التعالي وإنما بمنهج التعارف السليم والمنفتح على آفاق المعارف والثقافات والعلوم والفنون وهذا كله، خطوطه العريضة متجذرة في الرؤية الحضارية للقرآن الكريم والسنة الشريفة .

ثانيا: الخطاب في الآية جاء بصيغة الجمع، فهو خطاب إلى الجماعة وليس إلى الفرد، بمعنى أنه خطاب متعلق بمفهوم الجماعة وذلك لوجهين: وجه يتعلق بعنوان التعارف، ووجه يتعلق بعنوان الجماعة.

ما يتعلق بعنوان التعارف: يتحدد في كون أن فعل التعارف حاجة مجتمعية وليس حاجة فردية فقط، وما يتعلق بعنوان الجماعة: يتحدد في كون أن المجتمعات هي المعنية والمسؤولة عن تحقيق التعارف، وكذلك غاية ومقصد التعارف بحاجة لجهد الفريق ولتكامل العقول ولا يمكنه أن يتحقق في إطار الجهود الشخصية والجهوية الضيقة، لابد أن يرقى لمستوى الثقافة الإجتماعية ويكون صبغة الاجتماع الثقافي.

ثالثا: الخطاب في الآية جاء كذلك بصيغة فعل الأمر تحديدا، فهناك من جهة عامة أمر للناس و للمؤمنين خاصة بإلتزام نهج التعارف، وهو بمثابة إرشاد إنساني وتكليف إيماني جماعي استراتيجي على طول الزمن الإسلامي، وأن أمر التعارف ينبغي أن يأخذ صفة الفعل المستمر الذي لا ينحصر ولا يتحدد لا في زمان معين، ولا في دوائر محددة، وإنما هو فعل مستمر شامل ونهج استراتيجي مطلوب في جميع الأزمنة والمجتمعات، وتجاه الآخر ككل، الجواني والبراني، وسيظل فعلا مستمرا مطلوبا بلا توقف وبلا انتهاء في ظل وجود الإنسان والمجتمع المسلمين.

رابعا: اتفق المفسرون من جل المذاهب الإسلامية قديما وحديثا على أن جملة {إن أكرمكم عند اللَّه أتقاكم}، وعلى سبيل المثال لا الحصر، بحسب المفسر الفقيه المالكي العلامة الشيخ محمد الطاهر بن عاشور في تفسيره التحرير والتنوير: أنها جملة مستأنفة استئنافاً ابتدائياً وإنما أخّرت في النظم عن جملة "إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا"، لتكون تلك الجملة السابقة كالتوطئة لهذه وتتنزل منها منزلة المقدمة.

 وجاءت تنبيها إلى ان حقيقة الكرامة عند الله كشرط للتقوى.

خامسا: نهج التعارف، يتطلب معرفة حقائق الكرامة وآفاق التقوى، وهنا نبهت الآية الكريمة إلى مسألتي العلم والخبرة ونسبتها لله توحي ان علم التعارف وخبرته لابد أن تطلب من العليم الخبير الباري عز وجل، مما يحيل إلى الزاوية الأولى البنيوية الشاملة التي تفتح الأفق الرحب أمامنا في صياغة ثقافة التعارف على ضوء محاور العلم والخبرة في المدرسة القرآنية المحمدية.

هذا عن أفق من آفاق النظر في الخطاب القرآني المؤكد على أهمية نهج التعارف، لكن السؤال الجوهري والمركزي :هل لبى المؤمنون المخاطبون ضمنيا في الآية النداء ونهجوا سبيل التعارف كبديل ثالث عن الصدام والعزلة؟!

بالرجوع للتاريخ لا نكاد نقف سوى على ملاحم الصراع والتخوين والتسقيط والتشهير والتكفير والتطرف والإقصاء كخيارات مأساوية الى جانب فتاوى الاعتزال الطائفي وشيطنة الاحتكاك بالآخر المخالف والمذهبي على وجه الخصوص، بل أحيانا الآخر الكتابي أقرب للذات الطائفية من المذهبي المسلم!! بين سياسة الإبادة وثقافة التهميش والإقصاء، ضاعت فرص ثمينة عديدة لبناء الاجتماع الإسلامي الحضاري، سوى تلك التي سطعت بموجات التفاعل مع الحضارات الأخرى مما أثمر نهضة علمية وفنية وإنجازات حضارية رائدة بين بغداد والاندلس والقيروان والزيتونة وجاكرتا، ولعل أكثر الصور إشراقا للتعايش والتسامح والتعارف لا تكاد تعرف لدى إنساننا العربي والمسلم المعاصر، لأنه ببساطة ضحية الوصاية الطائفية التي لا يخدمها نهج التعارف، ففي تصحيح المعارف وفضح الأساطير والافتراءات على ضوء النظر في القرآن الكريم والسنة الشريفة والتاريخ الإنساني الإسلامي ستزهر حقائق الكرامة وآفاق التقوى في الوعي الجمعي للمسلمين، وتنتفي اوهام التوجس ومبررات الكراهية وخدع التفرقة والتسقيط لتحل محلها شجاعة التعارف وآداب الحوار ومناهج البحث العلمي الحر وأخلاق التعايش واللقاء وقيم التسامح والعفو والسلم والتعاون على البر والتقوى..

 

بقلم: مراد غريبي

كاتب وباحث

 

 

يحكى أنه جرى حوار بين عالم عارف ومتعلم على سبيل نجاة، حول نقد الذات ومحاسبتها، ومع نهاية الحوار نظر العالم في تلميذه المتعلم، قائلا: أذكر لي مساوئي وعيوبي ونواقصي التي قد استشعرتها أو استوحيتها طيلة تعاملك معي...!!

انصدم التلميذ المتعلم متعجبا من طلب معلمه، واعتذر وطلب من أستاذه أن يعفيه من هذا الأمر، لكن العالم ألّح وأعطاه الأمان بأنه لا يغضب منه مهما كانت صراحته قاسية... فنزل التلميذ عند طلب معلمه، واستهل ذكر عيوبه وبعد بضع دقائق توقف مستحييا من النظر في وجه معلمه لجرأته غير المسبوقة، ثم استعاد أنفاسه وقال لمعلمه بوقار: سيدي هل تكرمت وذكرت لي عيوبي ونواقصي فأنت أجدر بهذا مني....تبسم العالم وقال لتلميذه: بني وهل يصف ناقص ناقصا؟ أنا وأنت متعلمين على سبيل نجاة وتعارفنا الصادق هو تمهيد لتصالحنا مع ذواتنا وبعضنا البعض...قد يتفكر القارئ ماذا نستفيد من قصة كهذه؟

هذه القصة هي درس بليغ للأفراد وللشعوب والأمم في أبعاد حياتهم، لتفهم أن الله خلق الناس شعوبا وقبائل ليتعارفوا ويتعاونوا ويتبادلوا الفنون والآداب والمهارات ويتنافسوا على فعل الخيرات ومحاربة الأهواء والأوهام، وعلى الرغم من صور الحياة الإنسانية المشتركة والسامية التي يطرحها كل شريك في البنية الإجتماعية، إلا أن الواقع يكاد يكون متناثرا، ومرتكزاً على المصالح الضيقة التي حملت بعداً وهدفاً لا يمت إلى تلك الصور بصلة إلا مع الذات الخاصة لا العامة..

لقد أصبحت الحاجة إلى تكريس ثقافة التعارف على خطوط  طول وعرض التفاعل الاجتماعي في الأمة، ضرورة ملحة في المرحلة الراهنة، لما وصلنا إليه من صور العنف من الأسرة إلى الشارع والمؤسسات بشتى الحقول، ووسائل العنف تعددت وتنوعت، وارتكابه بحق شركاء الاوطان والأمة والإنسان عموماً أصبح مشرعنا، فباتت مواجهة الصراعات بين شركاء الوطن والإخوة في الدين وداخل المذاهب، والتي تعدّدت صورها لا يمكن أن تستمر، ولا يمكن أن يظل نفي الآخر -بجل تمثلاته- أساساً للحياة، لأنه إن استمر فهذا سينهي وجودنا كأوطان وأمة، ويدمّر أركانها معاً، أصبح لابد من نشر مبادئ العيش المشترك، وتطبيق تلك المبادئ، دون أن يتم تهميش عنصر من عناصر الوطن والأمة او الدين والمذهب دون الآخر. وأن يكون التعارف منطلقا لبناء التعايش بكلّ صوره الإيجابية قائماً ومصاناً من الجميع عبر الركائز التالية:

- التعريف بالذات دون تسقيط الآخر بكل تمظهراته أو تهميشه.

- معرفة الآخر عبر التواصل والتبادل المعرفي من مصادره الأصيلة.

- الاعتراف بنسبية الحقيقة والشراكة في ملكيتها وتنمية آثارها في الحياة.

- لابد من وجود القناعة التامة والإرادة الحرة، والرغبة الحقيقية المشتركة بين أهل الفكر والمذاهب والطوائف الإسلامية في التعارف؛ والنابعة من نزعة العدالة الإسلامية..

-  دراسة وتدريس تجارب وممارسات التعايش والتضامن والسلام الخاصة بالشعوب والحضارات الأخرى التي تمكنت من تأسيس وتنمية التوافقات الاجتماعية بين عناوين التعدد فيها، بعد أن مرت بصراعات دموية...

- عدم فهم خيار التعارف كصيغة تفاوضية، لأن الإرث مشترك والمصير واحد فلابد من فهم عنوان التعارف كبديل ثالث وأهم لمستقبل الأمة والأوطان والأجيال ..

 إن الحاجة إلى التعارف أساس التسامح وروح التواصل وغاية الحوار ومنتهى بغية المكرمين، وليس أبلغ وأدل على أهمية التعارف في حياة الأفراد والمجتمعات مثل الآية الكريمة: {يا أَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُوۤاْ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ ٱللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}[1]، والتي توحي لنا بضرورة مراجعة حقيقة التعارف في حياتنا كعرب ومسلمين، كعنوان حضاري إسلامي عظيم، ولابد أن نفهم أن التنوع الإنساني كخلق وجعل من الله تعالى، بالمنطق الإسلامي ماهيته تتحدد في التعارف ومدى الصبر عليه كإمتحان لمدى حيوية الكرامة عبر حركية التقوى في حياة الفرد والمجتمعات (شعوبا وقبائل)، وما القصة السابقة سوى قطرة من بحر جواهر الآية الكريمة السابقة من سورة الحجرات التي تفتح آفاقا رحبة على ثقافة التعارف كأساس لأسلمة الحياة عبر استحضار توحيد الله الذي يجمعنا على التواضع واللقاء والتراحم والتسامح...

 إن الشطحات الشعبوية والقبلية والمذهبية ورمي التهم والتباغض الإنساني بكل تمظهراته، ما هي سوى محاولة القفز على الحقائق الإنسانية الاسلامية المنيرة بنور الحق والعدل عبر ضخ الترميزات الصاخبة في مقياس الطائفية... وأي سيناريو يتجاوز أساس التعارف بكل لوازمه المشتركة بين أطرافه، هذا السيناريو ماهو سوى محاولة الانقلاب على أمر إلهي عظيم يتعلق بكرامة الناس وبالتقوى كمطلب ثقافي في المنظومة الحضارية للمسلمين.. ثم إن التعارف في المنظور الإسلامي فرض إلهي وحق لكل أبعاد التنوع الإنساني (أفرادا ومجتمعات) آثم تاركه من المسلمين إبتداءا، ظالم منكره، وجواب سؤالنا التاريخي كأمة رهينة أزمات نفسية وإجتماعية ذات منشأ ثقافي وتاريخي: لماذا أنيميا الوحدة تنخر جسدنا الإسلامي؟ هو لأننا كشعوب وقبائل تعوّدنا على مقاطعة فاكهة التعارف!!!

 إن الطائفية المحلول الوحيد الذي يكشفها في يومياتنا السياسية والمذهبية الثقافية والاجتماعية، هو ماء التعارف (الحوار العلمي، النزعة الانسانية، الشراكة في الحقيقة)، ومهما قرأنا عن شجاعة التعارف وسمعنا عنها لا يمكننا تذوق حلاوة ثمار التعارف إلا بالممارسة عبر الحوار والانفتاح لإكتشاف حقائق التسامح والتعايش... وتجاوز المأزق الحضاري  الذي يكمن في البنية التحتية المولدة لأفول وغياب ونكران قيمة التعارف، كمقولات احتكار الحقيقة وفتاوى العجب الطائفي وغيرها. حيث تتمركز معضلات ضحالة النظر وتعطيل مشاريع التجديد والانفتاح على بعضنا البعض في ظلال المحبة الإسلامية ...

إن ثقافة التعارف تبقى الوصفة المثلى للتنمية بكل أبعادها، ومركز ثقلها هو التواضع كأفراد وأساسا النخب منهم وكشعوب وقبائل وطوائف وقوميات، حتى نكون أهلا للتعارف والرقي للكرامة الحضارية الحقة التي لا تتجلى عبر الزمن كله إلا تحت لواء التقوى في تفاصيل الحياة كما في العبادات.. فتعالوا إلى نستلهم آفاق قيمة التعارف..

 

بقلم: مراد غريبي - كاتب وباحث

 

 

عدنان عويدإن طرح أية قضية نعتقد بأنها تساهم في تقدم هذه الأمة أو تخلفها، يتطلب منا وضعها على بساط البحث والنقاش والتحليل لمعرفة دورها وأهميتها وكيفية التعامل معها.

فها نحن نطرح اليوم السؤال التالي - أمام ضرورة التنوير لعامنا العربي المفوت حضارياً وعلاقته بقضية الخطاب الديني الإسلامي وخوف بعض المتنطعين عليه من التنوير:

أين هي مكامن الخوف على الدين من التنوير؟.

الدين برأي الجميع ينقسم إلى:

1- عقائد

2- عبادات

3- معاملات

ونحن نسأل: هل هناك منا من يعمل على مسألة التنويرينكر وجود الله والتوحيد به.. ?. لم أجد ذلك، فالكل يعترف بوجوده ووحدانيته وربوبيته. وإن وجد هناك آراء لدى التنويرين تشتغل على الجانب العقيدي، فهي تشتغل في الرد على الذين لم يزالوا يشتغلون من القوى الظلامية التكفيرية على قضايا القضاء والقدر، والصفات، والقدم، والمعاد، والرؤية، والكلام، والجنة والنار، والخلق والزمان.. وهذه قضايا أُشبعت نقاشاً منذ ظهور علم الكلام في الفكر الإسلامي على يدي المعتزلة والأشاعرة ولم يصلوا إلى نتيجة... حيث اشتغل عليها الكثير من الفلاسفة الإسلامين، وقد تجسدت هذه الأفكار العقديّة في كتابي التهافت للغزالي، وتهافت التهافت لابن رشد..

والسؤال المشروع الذي يطرح نفسه علينا أيضا اليوم هو: ماذا حققت هذه الحوارات حول مسائل العقيدة سوى التكفير والزندقة لبعضهم، وقتل البعض وسجنه وحرق كتبه؟!. ثم ظهور الفرق والطوائف وانقسام المسلمين إلى ثلاث وسبعين فرقة، كل واحدة تقول هي الفرقة الناجية، علماً أن النقاش في هذه القضايا لا يعلم في جوهرها إلا الله.. لذلك من منا يستطيع أن يجزم مثلاُ بأن الله يرى بالعين المجردة يوم القيامة وهو الذي يقول عن نفسه (ليس كمثله شيء)؟.

أما بالنسبة للعبادات: من منا وقف ضد الصلاة أو الصوم أو الحج ...الخ. لا أظن أن هناك أحداُ.

أما مسألة المعاملات: وهذه تدخلنا بمجال الفقه.. والفقه أساسا وضع لحل قضايا الناس وخلافاتهم في حياتهم اليومية المباشرة، حيث وضعت الفتاوى لهذا الأمر. ومن هذه الفتاوى ما هو نص ديني قرآني.. ومنه ما هو حديث للرسول مسند ومشهور، أو يتفق في متنه مع النص القرآني، وغالباً ما يؤخذ بسنده فقط.. ومنه ما هو موضوع ومنحول... الخ. كما وضعت أسس للاجتهاد وضعها الشافعي في كتابه الرسالة، حيث حدد مصادر التشريع بالقرآن والحديث والاجماع والقياس.. ولكن كل منتجات الاجتهاد ظلت محكومة حتى اليوم بمناهج التفسير والتأويل القروسطي، دون النظر بمقاصد الدين الإنسانية. الواردة في القرآن والحديث.. بالرغم من وجود الكثير من المجتهدين التنويريين الذين أقروا (بتبدل الأحكام بتبدل الأحوال) فكانت عندهم المصالح المرسلة والاستحسان وقول الصحابي وغيرها من قواعد التشريع الفرعية لمجاراة تطور أحوال الناس.

مشكلتنا مع الفقه، هي مع الفقهاء الذين يرفضون حركة وتطور الواقع، ولا زالوا يتعاملون مع قضايا عصرنا بعقلية القرون الهجرية الثلاثة الأولى، ومحاولة لجم حركة الواقع ولي عنقه كي ينسجم مع ما جاء في صحيحي البخاري ومسلم. وبالتالي فكل جديد عندهم بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.. كما اتكأوا على حديث فهموا دلالاته خطأ. وهو من شاهد منكرا فليغيره بيده الى آخر الحديث، فباسمه أوجدوا (الحسبة).. التي كان من نتائجها في عصرنا الحديث، تطليق زوجة حامد أبي زيد من زوجها لأنه خالفهم الرأي باستخدامه للعقل.. أو قاموا بتعليق الناس المختلفين معهم وصلبهم وذبحهم وأكل أكبادهم!!!. كما فعل الدواعش والوهابية. وغيرهم.

أما الشيعة الجعفرية أو الامامية: فقد جعلوا من القرآن والأحاديث النبوية التي تتفق مع موقفهم السياسي ومع ما قاله الأئمة المعصومون إضافة إلى العقل، هي مراجع التشريع، وبذلك رفضوا الاجماع والقياس.

عموما نقول: الدين بالنسبة لنا اليوم مقاصد، وخاصة في المعاملات.. فالزمن يتغير ويتطور في معاملاته، والعلم يتطور، ومناهج البحث تتطور وخاصة المتعلق منها بالعلوم الإنسانية، لذلك،ف كل ذلك يتطلب منا أن نعمل على تجديد فقهنا وفقاً لمصالحنا. فنحن خلفاء الله على هذه الأرض ..أما من يقول غير ذلك فهو يفكر ويسير معاً عكس التيار.

 

د. عدنان عويّد

كاتب وباحث من سورية

 

 

حسن العاصيعبر التاريخ، وعلى امتداد العصور، ظهر صراع جدلي بين العقل الديني والعقل الفلسفي. هذا الجدال والتناحر بين الفلسفة والدين أسهم في رقي الحضارة العربية والإسلامية، وبلوغها العصر الذهبي، حيث كان لبعض الخلفاء والولاة دوراً مهماً في رعاية الفكر والفلسفة والعلوم والآداب. كان هؤلاء يعقدون المجالس العلمية للنقاش والسجال الفكري والفلسفي والديني، في فترة شكلت الحضارة الإسلامية شعاعاً علمياً وفكرياً لكافة البشرية.

في مرحلة ما من التاريخ الإسلامي، عقب نقاش قضية "خلق القرآن" في مجالس العلم، التي بدأت في عصر الخليفة العباسي "المأمون" عام 218هـ/833م واستمرت في عهد المعتصم والواثق وانتهت مع حفيد المأمون "المتوكل" عام 247هـ/861م، اشتد الخلاف بين المتحاورين وهما المعتزلة وأهل السنة.

احتدام الجدل والخلاف بين الاتجاهين تجاوز مقياس المناظرة والنقاش نحو وضع تم فيه اللجوء إلى قمع المخالفين وسجنهم، بل وقتل بعضهم.

 حين توقف هذا الجدل غُيبت الفلسفة، وتم إغلاق باب الاجتهاد.  وبدأ الفكر العربي والإسلامي مرحلة جديدة من أهم سماتها، الأحادية والتكرار والتقليد ثم الجمود. بغياب الفلسفة أصبح الفكر العربي والإسلامي يتيماً وفقيراً، دون استفزاز وبلا فلسفة تدفعه لعدم الطمأنينة والسكون، وتجبره على النضوج والتطور.

وما أن فرضت  كلا المؤسستين الدينية والسياسية هيمنتها على المشهد، تم تكفير الفلسفة وزندقتها، وبدأ عصر التضييق على المفكرين والفلاسفة واضطهادهم وقتلهم، ثم انزلقت الدولة الإسلامية نحو قاع التناحر الديني ـ الديني، والصراعات المذهبية والفئوية التي أدت إلى ضعفها ثم انهيارها، وما أعقب ذلك من نكوص فلسفي وارتداد فكري عميق، وفشل علمي وحضاري مرعب، بسبب غياب الفلسفة، وانحسار العقل التنويري الجدلي. ثم ساد الظلام والجهل، وانتشر الهراء حتى اللحظة.

الانسداد التاريخي التنويري العربي

يلاحظ المرء نجاح تجربة التنوير في كثير من بقاع الأرض، في أوروبا، في الولايات المتحدة، في اليابان وسنغافورة، وفي تركيا أيضاً الدولة المسلمة، لكنها فشلت بصورة معيبة في نسختها العربية، وسقط التنوير في قعر الظلام العربي سقوطاً مدحوراً.

من أهم وأبرز أسباب فشل التنوير العربي والإسلامي غياب الانفتاح والحريات الفكرية بصورة مطلقة. في غياب الحريات والتعدد، تحضر الحقائق المطلقة دون غيرها، والفكر الواحد المطلق، والعقيدة الواحدة المطلقة. المذهب الواحد والراي الواحد واللون الواحد والذوق الواحد. ويتحكم في رقاب العباد الحزب الواحد والطائفة الواحدة والطاغي الأوحد. وبالتالي النتيجة استعصاء وانسداد فكري وتاريخي تعاني منه الأمتين الإسلامية والعربية منذ القرن الثاني عشر، بعد أن فقدنا آخر الفاتحين الفكريين العرب الفيلسوف التنويري "ابن رشد".

نتيجة لأسباب متعددة من بينها قمع وإقصاء المخالفين، والاستبداد الذي يكون سمة الرأي الواحد وبروز الصراعات والتناحر القبلي، بدأت تظهر الدويلات الإسلامية في المشرق العربي، والطوائف بالدولة الإسلامية في الأندلس.

ظهر الأدارسة في المغرب "788-974م" والأغالبة في شمال إفريقيا "800-909" والطولونيون في مصر "868-905م" والأيوبيون في مصر والشام والعراق "1171- 1342م" والمماليك في مصر وبلاد الشام والعراق والجزيرة العربية "1250- 1517م" والمرابطون في المغرب "1060-1147م" ثم الموحدون أيضاً "1147-1269م" وغيرهم من الطوائف مثل دويلات الأندلس "قرطبة، إشبيلية، طليطلة، سرقسطة"

سقطت الدولة العباسية نتيجة الغزو المغولي قيادة "هولاكو" للعالم الإسلامي، وسقوط مدينة بغداد عام 1258م وقتل الخليفة العباسي "المعتصم بالله" مع ولديه بعد أن هرب إلى مصر.

دمر المغول بيت الحكمة في بغداد وإحراقه وإتلاف آلاف الكتب والمخطوطات لمختلف العلوم من طب وفلك وكيمياء، ودمروا المنشآت العمرانية لبغداد.

ثم قام "عثمان الأول بن أرطغرل" بتأسيس الدولة الإسلامية العثمانية عام 1299م. وبدءًا من العام 1512 اتجهت الدولة العثمانية نحو الوطن العربي في عهد السلطان سليم الأول، وفرضت حكمها على بلاد الشام والحجاز واليمن ومصر والعراق. استمرت الدولة العثمانية لغاية العام 1923م.

تم تقسيم العالم العربي كمناطق نفوذ بين الدول المنتصرة في الحرب العالمية الأولى "بريطانيا، فرنسا، إيطاليا". نالت مصر استقلالها كأول دولة عربية عن الاستعمار البريطاني عام 1922 رغم أن النفوذ البريطاني ظل مهيمناً لغاية خمسينيات القرن العشرين. وفي العام 1971 نالت الإمارات العربية المتحدة هذا الاستقلال كآخر دولة.

في التاريخ الإسلامي تم إغلاق أبواب الاجتهاد من قبل الخلفاء والأمراء المسلمين، من بينهم الخليفة العباسي "المتوكل بالله" 847ـ861 م الذي اعتبر أن "ما قرره الخلف لا يرفضه السلف". وكان المتوكل قد وصل إلى الحكم بعد ثلاثة من الخلفاء بدأت معهم محنة خلق القرآن ـ المأمون، ثم المعتصم، ثم الواثق ـ وخلال تلك الفترة كان المعتزلة قد أصبحوا مذهباً لهم محبين ومريدين. ثم أغلقت أبواب الاجتهاد أيضاً في عصر الخليفة "المعتصم بالله" آخر الخلفاء العباسيين، حيث أعلن أنه "لا اجتهاد مع النص". هذا الإجراء مناقض لفقه الشريعة ذاتها وابديتها وتجددها على مر العصور.

إن إغلاق باب الاجتهاد قد أدى إلى موت العلوم الطبيعية، وقتل الفلسفة، وإطلاق الرصاص على العقل. فتحول الدين الإسلامي إلى مجموعة من الدراويش يعتكفون للعبادات في التكايا.

وفي معظم الفترات التاريخية كانت الصراعات السياسية والطائفية والمذهبية هي السمة الغالبة على العالمين العربي والإسلامي، وكانا في عزلة عما يجري في القارة الأوروبية من تفاعلات فكرية وعلمية.

إذن كان العالمين العربي والإسلامي في حالة سبات فكري عميق، وشلل عقلي طوال ما يقرب من ثمانية قرون. لا يمكن أن يؤدي هذا الحال إلا إلى الاستعصاء المرعب الذي نعاني منه حالياً.

مع ازدياد الصراع بين الديني والفكري، تشدد الدين وأصبح أكثر تحفظاً. ثم تراجع دور الطبقة البرجوازية التجارية العربية والإسلامية، وانحسر النشاط التجاري نتيجة انتشار قطّاع الطرق، فأصبحت دروب التجارة غير آمنة، مما أسهم أيضاً في تراجع التفكير العقلاني الذي كان يمثله التجار كونهم الطبقة المتوسطة التي كانت تصدر وتستورد الأفكار، وهي التي دعمت الفرق الفلسفية العقلانية مثل المعتزلة وإخوان الصفا. إضافة إلى أن التجار المسلمين لعبوا دوراً محورياً في التبادل والتلاقح الثقافي بين المسلمين والأمم الأخرى.

الإصلاح المسيحي

في عام 1517 أصدر البابا "ليون العاشر" مرسوماً يتضمن غفراناً عاماً لجميع المسيحيين في جميع أنحاء المعمورة. كانت الغاية من المرسوم جباية الأموال اللازمة لإتمام بناء كنيسة "القديس بطرس" في روما. هذا الوضع كشف عن العديد من الأساقفة الفاسدين الذين كانوا يبيعون صكوك الغفران لحسابهم الخاص.

في ذلك الوقت كان "مارتين لوثر" استاذاً لعلوم الدين وراعياً لكنيسة "ويتبرج". لاحظ الراهب أن رعايا الكنيسة أصبحوا يقدمون له صكوك الغفران، بديلاً عن الاعتراف بخطاياهم، وإبداء الندم والتوبة كما كان يحصل عادة. وأوضح "لوثر" أن الإيمان وفعل الخير هما الشرط للغفران الإلهي، وليس شراء النعيم بالذهب.

في لحظات غضب وحماس قام "لوثر" بتاريخ 31  تشرين الأول عام 1517 بتعليق احتجاجه المكون من خمسة وتسعين بنداً على باب كنيسة "ويتبرج" داعياً الكنيسة الكاثوليكية وقف أعمال بيع الغفران.

كتب احتجاجه باللغة اللاتينية، موجهاً إلى علماء الدين لمناقشتهم حول كون غفران الخطايا يمنح لكل مسيحي يتوب ويندم دون الحاجة إلى شراء صك غفران. لكن سرعان ما تمت ترجمة الاحتجاج إلى اللغة الألمانية، وانتشر بين عامة الناس في كافة أنحاء ألمانيا، ثم في العالم المسيحي أجمع.

رفض "لوثر" الاستجابة لطلب البابا "ليون العاشر" الحضور إلى روما لمحاكمته. ورفض الأمير "فريدريك" والي مقاطعة "ساكسونيا" تسليم "الهرطقي" إلى روما. كما فشلت مساعي الرسل الذين بعثهم البابا في اقناع "لوثر" التراجع عن مواقفه.

عقب ذلك أصدر البابا في 15 حزيران عام 1520 مرسوما يقضي بحرمان لوثر من حقوقه وإحراق جميع كتبه، ما لم يسحب تعاليمه ويلتمس رحمة البابا خلال ستين يوما.

 كانت قلوب معظم الألمان مع لوثر، فأدرك أن الوقت مناسب لإعلان انسحابه من الكنيسة ومقاومة سلطتها علانية. ثم قام بحرق القانون البابوي وبعض مؤلفات الكنيسة على مرأى من الجماهير الغفيرة التي التفت حوله. ثم أعلن تمرده على سلطة البابوية واعتبر أنها ليست ذات مصدر إلهي، إنما هي سلطة دينية سياسية اقتصادية من ابتكار البشر، وطالب بحرية الفرد في الدين.

حركة الإصلاح الديني التي قادها "لوثر" قامت على أفكار محاربة الغفران، ورفض سلطة البابا المطلقة، وانتقاد شراء المناصب الدينية. بمرور الوقت أصبح أتباع البروتستانتية ـ المعارضة لسلطة البابا ـ هم الأغلبية في ألمانيا، مما دفع الكنيسة الكاثوليكية إلى إقامة محاكم التفتيش المرعبة ضد المعارضين. تولت هذه المحاكم مهمة ردع الناس عن الخروج على الكاثوليكية. هذه المحاكم قامت بإبادة الناس عبر الخنق والحرق والإغراق والإعدام شنقاً، واستخدمت أساليب تعذيب شنيعة ورهيبة. ثم انقسم العالم المسيحي إلى كاثوليك وبروتستانت.

وبعد ما يقرب من مئة عام على الإصلاح وانقسام الكنيسة، ونشوء صراع كبير بين الكاثوليك والبروتستانت، ومن أجل حقوقهم الدينية، هاجم النبلاء البروتستانت في الثالث والعشرين من أيار/مايو عام 1618  برج براغ، الذي يقطنه والي القيصر الألماني "ماتياس"  الذي سبق وأن أصدر قرارات لتقليص حقوق البروتستانت الدينية في الإمبراطورية الألمانية، وكانوا يطالبون بالحرية الدينية. هذا الفعل الثوري الذي سجله التاريخ كان بداية التمرد البروتستانتي، ثم سعى القيصر الألماني لإخماده، مما تسبب في حرب الثلاثين عاماً، وانهيار أوروبا الوسطى كاملة، وشكلت الحرب صدمة للقارة، وخلّفت ندوباً عميقة استمرت لعقود متتالية.

الحرب خلفت تسعة مليون قتيل، حيث تم القضاء على ثلث السكان الألمان، وانهارت الدولة، وأعادت الحرب البلاد إلى الخلف بعقود من الزمن، وشكلت نقطة فاصلة في وعي الناس..

مع انتهاء حرب الثلاثين عاماُ انتهت الأصولية الدينية المسيحية إلى غير عودة. ومهدت الطريق أمام ولادة عصر التنوير. انتهت فكرة الامتلاك والفهم الأحادي للدين كما كان يدعي كل فريق، وانتهت الاتهامات بالانحراف والضلالة والهرطقة والزندقة التي كان يوجهها كل طرف للآخر، تماماً كما تفعل المذاهب الإسلامية والطوائف في عصرنا الحالي. وكان الكهنة والقساوسة يحشدون المتدينين البسطاء من عامة الناس، وتهييجهم على بعضهم البعض ودفعهم لارتكاب المذابح باسم الدين، كما يفعل بعض رجال الدين المسلمين اليوم.

الانتقال لمرحلة العقل

بعد القرون التي عاشها الأوروبيون تحت سيطرة الكنيسة ورجال الدين الذين مارسوا ظلماً واستبداداً، حيث كان يسود الجهل والخرافات، وتحقير العلم والعلماء. في القرن السابع عشر تشكلت حركة فكرية رفعت شعار استخدام العقل مرجعاً رئيسياً للحياة بدلاً من الدين. جاء التمرد نتيجة طبيعية دموية للظلم. وظهر الفكر التحرري الذي دعا إلى إعلاء العقل والمنطق على الخرافة.

حينها تقدم عدداً من المفكرين والفلاسفة التنويريين لتفكيك العقيدة اللاهوتية المسيحية ومناقشتها علناً. وهذا ما فعله دينيس ديديرو، وفولتير، وجان جاك روسو، وهم فلاسفة ربوبيين وليسوا ملحدين. وكذلك فعل رينيه ديكارت، فرنسيس بيكون، جان بول سارتر، إيمانويل كانت، فريدريك نيتشه، جون لوك، كارل ماركس. وأسس لنشوء الرأسمالية والعلمانية فيما بعد.

هذه الفترة مهدت لقيام الثورة الفرنسية، وما تلاها من ثورات في القارة الأوروبية، وفي الولايات المتحدة، وأمريكا اللاتينية.

أُطلق على هذا العصر عدة تسميات، منها عصر الأنوار، عصر التنوير، عصر العقل. من أهم مظاهر عصر التنوير قلة عدد الصراعات والحروب الناجمة عن أسباب دينية. ثم بدء استخدام المنهج العلمي في تحليل كل الظواهر الحياتية. وتحقيق تطور كبير في العلوم الطبيعية مثل الرياضيات والفيزياء والكيمياء. وتقدم العلوم الإنسانية خاصة الفلسفة. ثم ترك الجهل والخرافة وامتلاك مناهج علمية وتفكير منطقي. فتطور الأدب والمسرح والترجمة، وظهرت الصحف التي ساهمت في نقل ونشر الأفكار والعلوم والفلسفة. أيضاً انتشرت المدارس والجامعات والمكتبات، وتم تأسيس المقاهي والصالونات الثقافية. مناقشة الأفكار نجم عنه زيادة الوعي المعرفي لدى الناس. كل ذلك أسهم في تنشيط الحركة العلمية التي أنتجت قيام الثورة الصناعية في أوروبا وازدهارها.

الإصلاح الإسلامي بين الفلسفة والدين

في فترة كان الفكر العربي والإسلامي يعاني حالة من الانغلاق والانسداد في المشرق العربي بالقرن الثاني عشر ميلادي، حيث تم زندقة الفلسفة والحط من قدرها، ومحاربة المنطق والعلوم العقلية الأخرى، وجرى تكفير أصحابها حتى قيل "من تمنطق فقد تزندق ودمه حلال"

تصدى صاحب أهم كتب الفقه المقارن "بداية المجتهد ونهاية المقتصد" الفيلسوف الأندلسي "ابن رشد" 1126ـ1198م للدفاع عن الفلسفة، وهو الرجل العالم بها والمبحر بالدين، فقال "الله لا يمكن أن يعطينا عقولاً، ويعطينا شرائع مخالفة لها" واعتبر أن ما يجري جهلاً بالفلسفة وتجاهلاً للنصوص الدينية التي تدعو إلى إعمال العقل. ثم قام "ابن رشد" بتأليف كتاب "فصل المقال" لفض الاشتباك بين الدين والفلسفة، فاعتبر أن الحكمة هي الفلسفة، والشريعة هي الدين.

ظهرت في العهود اللاحقة محاولات تنويرية دعت للعلم والعقل من دون النزوع عن الدين. قام "محمد علي باشا" عام 1827 ببعض الإصلاحات وأرسل البعثات الطلابية إلى القارة الأوروبية. ثم الشيخ "رفاعة الطهطاوي" الذي كان منبهراً بالغرب، وحاول عام 1842 تأكيد الإيمان الديني للفلاسفة التنويريين الغربيين قياساً على فلاسفة اليونان القدماء، للترغيب فيهم. ثم ظهر "جمال الدين الافغاني" الذي حذّر من الغرب ودعا إلى تجديد الفكر الإسلامي وإنشاء حزب وطني للمسلمين عام 1871. ثم ظهر الشيخ "محمد عبده" واحداً من أبرز المحدثين في الفقه الإسلامي بالعصر الحديث، ودعا عام 1882م إلى الحريات الشخصية والسياسية.

ثم ظهرت تجربة "عبد الرحمن الكواكبي" صاحب كتاب "طبائع الاستبداد ومصاره الاستعباد" مع الإصلاح، هو الذي أسس 1897 جمعية لبحث أسباب الخفوت العربي قياساً بما تقدمت به أوروبا.

ومن خارج الإطار الديني ظهر دعاة تنويريين من المفكرين والمثقفين العرب والمسلمين، منهم "قاسم أمين"، "طه حسين"، "معروف الرصافي".

المفكر الفلسطيني الليبرالي "إدوارد سعيد" الذي أسس دراسات ما بعد الاستعمار ـ الكولينيالية. والمفكر السوري العلماني "صادق جلال العظم" صاحب كتاب "نقد العقل الديني"،

المفكر والفيلسوف المغربي "محمد عابد الجابري" يعد واحداً من أبرز الوجوه العلمية التي قدمت مقاربة جديدة في قراءة التراث العربي الإسلامي في العصر الحديث. وقاد الجابري مشروعاً مهماً للحفر والبحث والتقصي عن الآليات المنتجة لمضامين ونظم ومعارف الفكر والتراث الإسلامي. فيما المفكر والفيلسوف المغربي "عبد الله العروي" يؤمن بالتاريخانية مذهباً وفلسفةً ومنهجاً للتحليل، وهو بعكس الجابري ينادي بالقطيعة مع التراث العربي والإسلامي، ويتبنى الحداثة الغربية كقيمة إنسانية.

بينما آمن المفكر والفيلسوف الجزائري "محمد أركون" بالحداثة، وانتقد العقل الإسلامي بلسان فرنسي وبعقل استشراقي غربي.

ومن خارج المؤسسة الدينية نذكر المفكر السوري "جورج طرابيشي" صاحب كتاب "نظرية العقل العربي: نقد نقد العقل العربي" الذي يعتبر أنه لا توجد في الاسلام فلسفة وما كان لها أن توجد، وأن المسيحية احتضنت الفلسفة منذ بداياتها.

ولكن من سوء طالع هذه الأمة أن كافة الجهود الني بذلها الأولين تعرضت لانتكاسات على يد الطغاة العرب، والمتشددين، وانتهت مآلاتها إلى غير عودة. وحاربت الأنظمة العربية الاستبدادية الأفكار التنويرية، ولا حقت المفكرين والمثقفين الليبراليين، وفعلت كل ما من شأنه لتقهقر مشاريع التنوير، التي استعاضت عنها تلك الأنظمة البائدة بالأيديولوجيات والقهر الحزبي والسياسي.

التنوير العربي

نحج التنوير في أماكن متعددة في العالم وفشل بنسخته العربية، ولا يزال معظم العالم العربي يرزح تحت وطأة الاستبداد والجهل والخرافة، ولا يزال يحارب الأفكار الليبرالية، وخطاه متعثرة وتائهة ومتباعدة في درب التنوير. ولا يزال العرب غير قادرين على تفكيك العقائد وتحليلها من منظور إسلامي عقلاني، وهذا يحتاج إلى عقود كي يتمكن العرب التحرر من الرؤية القديمة للعالم، ومواجهة الشعوذة، والإيمان بالتفكير العقلي، وإعادة المكانة للفلسفة، لبناء مشروع تنويري عربي.

فشلت جميع الحركات والشخصيات الدينية والمحاولات التي تدعو إلى التنوير كلاً بأسلوبه. بعض هذه الحركات آمنت بالإصلاح الديني، ثم تحولت إلى حركة سياسية، لم تتمكن لأسباب أيديولوجية من بناء نظام اجتماعي واقتصادي لإحداث إصلاحات حقيقية في بنية الفكر والعقل العربي والإسلامي لقيادة نهضة عصرية حقيقية.

يفتقد العالم الإسلامي اليوم رجلاً يفعل ما قام به الفيلسوف الأندلسي التنويري "ابن رشد" في الأندلس، حين قام بترجمة وشرح أعمال أرسطو المعلم الأول، مما ساهم في زيادة تأثيره على أوروبا القرون الوسطى.

ما يعانيه العالمين العربي والإسلامي من تصاعد الطغيان والجور، واتساع رقعة الصراعات الدينية والمذهبية والطائفية، وارتفاع الغلو والتطرف الديني والمذهبي، يتطلب من المفكرين والمثقفين الليبراليين ومن رجال الدين المحدثين العرب والمسلمين، العودة إلى ما قبل ثمانية قرون سابقة، لأنه طوال هذه المدة كان العقل العربي خلالها في حالة سبات وتخدير، وكانت الفلسفة في موت سريري.

نحن ما زلنا لغاية اللحظة لم نتجاوز التساؤلات عن/ حول الدين والفلسفة التي قدمها كلاً من ابن المفقع، وأبو حيان التوحيدي، والرازي، والفارابي، وابن سينا، وابن رشد، والكثيرين سواهم، وجميعهم اتهموا بالزندقة والكفر والإلحاد، وبعضهم تم حرق كتبه ومنهم من مات قتلاً.

إن المقاربة الموضوعية حالياً بيننا وبين الغرب، لا تظهر تخلف العرب والمسلمين فلسفياً وفكرياً وعلمياً وتكنولوجياً فقط، بل وتخلفاً في فهم الدين أيضاً.

إن من أهم المقومات التي تقود إلى الإصلاح والتنوير بظني هو أن نفهم الدين الإسلامي فهماً سليماً يتوافق مع العقل ولا يتصادم معه. حيث لا يمكن الحديث عن التنوير في ظل انتشار الجهل والخرافة والسحر والشعوذة وربطها بالدين في العالم العربي. وفي ضوء قيام بعض رجال الدين بتشجيع ما يسمى التدين الشعبي، ومحاربة أية أفكار إصلاحية تلجأ إلى استخدم العقل ـ الذي هو جوهر الدين الإسلامي ـ وتكفير أصحابها وزندقتهم.

فهل أصبح التنوير العربي في ذمة الماضي، وانتقل إلى جوار التاريخ؟

في الحقيقة أن التنوير لم يتجاوزنا ولم نتجاوزه، فنحن لا زلنا متأخرين فلسفياً وعقلياً وفكرياً، وما هذه الانسدادات والتخبطات والصراعات، إلا مرحلة لا بد الاكتواء بنارها من أجل مستقبل أفضل، حسب قانون "هيغل" للتقدم، فالتناقض هو جوهر جميع الظواهر والاشياء وهو منبع كل نمو. لأنه عبر الحركة والصراع الموجودتان في كل شيء يولد الجديد. لذلك فإن التنوير آت، فهو أمام العرب والمسلمين لا خلفهم.

 

حسن العاصي

كاتب وباحث فلسطيني مقيم في الدنمارك

 

 

محمود محمد عليهل يمكن أن يعيش الإنسان يغير دين؟، التجربة التاريخية تقول لا !، فقد حاول الإنسان أن يُحل العلم محل الدين وفشل، حاول أن يستغني عن ربه وفشل!، حاول أن ينكر وجوده وفشل! .. ما زالت الروح الإنسانية في قلق وتعب تبحث عن ركناً ركيناً لراحتها وهو الدين، إلا أن تعدد الأديان وتنوعها واختلافها ما يجعل بعض الناس في حيرة: أيهما الدين الحق؟، ومن الطبيعي أن الأديان تحتكر الحقيقة وتحتكر النجاة وترمي الآخرين بالكفر، فما العمل؟..

البعض يري الصراع حلاً !، من ينتصر يسود !، والدنيا لمن غلب !، البعض يري المقارنة والمناظرة والسجال صراع دون دم؛ فالبعض يضع الحجج والبراهين والحيل البلاغية والمنطق، والبعض يري الحوار- أي حوار الأديان ! .. لا من أجل تغيير المؤمن لدينه، بل لأجل مزيد من وعي المؤمنين بأديانهم، مزيد من القبول، والتفهم بغيرهم .. مزيد من التعايش، من التفاهم لا العنف، من المودة لا الكراهية، فكيف يتحاور أصحاب الأديان المختلفة؟ ولماذا يخوضون هذه المغامرة وسط مزايدات المتطرفين من مختلف الأطراف؟ وهل هو حوار مجدي وفعال؟ أم أنه محاولات لتأجيل المواجهة؟ وهل يملك كل طرف ما يؤهله لخوض حوار ندي أم أن طرفا يطغي علي الآخر؟ وما هو ماضي هذا الحوار؟ وتاريخه وما حاضره؟ والمهم ما مستقبله؟

في هذا المقال نحاول أن نجيب علي تلك التساؤلات، حيث يمكن القول بأنه: حين هاجر المسلمون إلي الحبشة هرباً من البطش القرشي، أرسل القرشيون خلفهم من يأتي بهم، ووقف الفريقان يتناظران بالحجة أمام النجاشي (ملك الحبشة) وكان مسيحياً، فحاول كفار مكة أن يكيدوا للمسلمين وادعوا كذباً أن المسلمين يسيئون للمسيحية، فقرأ جعفر بن أبي طالب علي ملك الأحباش آيات القرآن الكريم التي تتحدث المسيح وأمه مريم ( سيدة نساء العالمين) فأنصت النجاشي لما يتلي، ثم قال: إن هذا (أي القرآن) هو الذي جاء به عيسي (أي الإنجيل) ليخرج من مشكاة واحدة (أي من مصدر واحد) ..

أدرك النجاشي أن الرسالة واحدة، وأن المصدر واحد، وإن اختلفت المذاهب وتنوعت التشريعات، والمتأمل للتشريعات الإلهية في الأديان الإبراهيمية يجدها واحدة في جوهرها وغاياتها ومقاصدها، لكنها تختلف باختلاف الزمان والمكان والأحوال والمقامات، وقد تبادل أصحاب الشرائع السماوية التأثير في بعضهم البعض ؛ تجد ذلك في التصوف والرهبنة، كما تجده في التأثير الإسلامي الواضح في صياغات التلمود وبعض التشريعات اليهودية .

وقد ساهم هذا التفاعل والتأثير والتأثر في تعزيز التعايش السلمي بين أصحاب الديانات السماوية، وعاش اليهود والمسيحيون والصابئة قروناً طويلة في ظل الحكم الإسلامي، وتركوا من الآثار الفكرية والأدبية الدينية وكتب النقاش والحوار والتناظر، بل والاشتباك الفكري مع المسلمين ما سجله التراث الإسلامي واحتفي به، وأعاد استكشاف الآخر من خلاله، بل واكتشاف نفسه وعقيدته وذاته الدينية والحضارية .

وقد جمع المستشرق الألماني "مورتس استنشيندر" معلومات عن هذه المخطوطات وأماكن وجودها في المكتبات وتعريفا بمحتوياتها ومؤلفيها وجميعها أُلفت باللغة العربية في العصور الإسلامية المبكرة، وفي مرحلة النهضة الفكرية والتدوين، ومن أمثلتها: أصول الدين وشفاء المؤمنين لدانيال بن الحطاب السرياني في القرن الرابع عشر الميلادي، ويرد فيه علي الانتقادات الإسلامية للمسيحية، وكتب عدة تعرض حوارات وأسئلة وإجابات منها: محاولة الخليفة الأموي " عبد الملك بن مروان " مع النسطوري " إبراهيم الطبراني" .

وفي العصر الحديث راهنت بعض فلاسفة التنوير علي نهاية حقبة الأديان وانتهاء دور الدين، إلا أن التجربة أثبتت فشل رهانهم وسقطت مقولات موت الإله، وعادت الأديان والبحث عن إجابات لأسئلة الحياة الكبري لتشغل العالم الأوربي بعد أن عانت القارة العجوز ويلات الحروب والدمار، وتطلع العقلاء إلي علاقة مختلفة مع الآخر الديني والحضاري، علاقة تقوم علي اكتشاف الآخر وفهمه ومحاولة استبدال التفاعل بالصدام، التعايش بالكراهية، الحوار الديني والفكري بالصراع الدموي الصفري، وعادت فكرة حوار الأديان لتكون احدي إمارات هذا التصور، تبنتها مؤسسات ومنظمات وهيئات، ورصدت لها الميزانيات والتمويلات والدعايات، واختلفت التقديرات بين الفرقاء حول طبيعة الحوار، ومعناه، ومبناه ودلالاته الدينية والسياسية، وما إذا كان حواراً حقيقياً علي غرار سابقيه في التجربة الحضارية للمسلمين أم إعادة تدوير ذكية أنتجتها ذهنية الاستعمار .

ونعود إلي سؤالنا مباشرة: هل هناك من جدوي للحوار بين الأديان؟

اعتقد أن الحب بين الأديان قد يزحف ولكن لا يموت، وهذه حقيقة، لأن الله سبحانه وتعالي خلقنا لكي نتوحد ونعيش حالة من الحب، ولذلك أقول لكل الذين يتوحمون علي لحن التسامح ما بين الأديان لمن يتوحمون لغرس الكثير من الخناجر في خاصرة الأديان، سواء كانوا مسيحيين متطرفين أو يهود متطرفين، نقول لهم إن خيارنا أن نغرس شجرة الياسمين، مهما كانت الظروف لا يهمنا المشاريع السياسية، ولكن ما نريده الأديان، فالأديان شئ والمشاريع السياسية شئ آخر .

ولذلك إذا كان هناك أنيميا في التسامح، أو فقر دم في التعايش، فهو بسبب السياسيين، وكما يقول أنيس منصور:" السياسة فن السفالة الأنيق"، فالسياسيون هم أساس تدمير العلائق بين الأديان، وإلا ما المانع من أعيش المسيحية في قلبي، وأن يعيش المسلم في قلبي، إننا نعشق المعتدلين من هؤلاء وهؤلاء ممن يقفون مع حقوق الإنسان .

ولذلك فإنني اعتقد أن تحالف الشيطان مع مافيا الدين ومافيا السياسة هي وراء ما نعيشه من تذمر وما نعيشه من ضعف وتفكك، ولهذا فإن دورنا كرجال فكر ودين أن تُتزع الألغام المتكدسة علي الخطاب الديني، وإذا صفينا القلوب، نستطيع أن نتحرك .

ولذلك فإنني أدعوا هنا من موقع صحيفة المثقف الزاهرة إلي حزب الإنسان، لأن حزب الإنسان هو الذي يجنب هذه الخريطة من عرائس الدم .. ما الفائدة من أن تهدم الكنائس في العراق؟، أو تهدم المساجد في العراق؟، أو تهدم المآذن في سوريا؟ .. ولذلك فإنني أقول أن الضحايا ليسوا فقط من المسلمين، والمدرعة الإسرائيلية تقتل المسيحي وتقتل المسلم أيضا، وهناك العشرات والعشرات من المسيحيين ومن المسلمين ضحايا المشاريع في شارع الاحتلال وما إلي ذلك .. فهل معني هذا ألا نعيش الحب تجاه المسيحي أو تجاه الأديان السماوية الأخري .

وهنا أقول لا صراع حضارات كما قال هينتجتون، أو ولا نهاية التاريخ كما قال فوكاياما، وإنما نقول صراع التفاهات، وليس صراع الحضارات، ولذلك أقول المتطرفون هم جينات مختلفة ولكن الحمض النووي واحد، أما الذين يريدون الحفاظ علي الشخير العام لكي تعيش الأمة ضعفا وجهلا وتباعدا، فإنهم يرفضون الحوار بحجة إسرائيل أو الولايات المتحدة الأمريكية، فهؤلاء شئ، والحوار شئ، فأنا أحترم صاحب الدين، ولكن لست مسئولا بكل هؤلاء، ولذلك أقول فلتسقط نظرية أن الإسلام إرهابي أو فاشيستي، فاليمن المتطرف لا يميز بين مسلم ولا غير مسلم، فالمتطرفون يريدون القضاء علي الجميع، ولذلك أقول أيضا وتسقط مقولة " لعن الله اليهود والنصارى أحفاد القردة والخنازير"، ونقول فليحيا الحب بين الأديان، وأن أحترم المسيحية واليهودية التي تحافظ علي الخصوصية الإسلامية .

إنّ التخلص من عقدة الاختلاف هي الخطوة الأولى في كل عمل منهجي، مهما كانت مقاصده بعد ذلك. والخطوة الثانية المطلوب تحقيقها اليوم، هي التخلص من الرؤية الأحادية للحقيقة، والعقلية الكلامية برمتها، كي ننتقل إلى عصر حوار الأديان والحضارات.

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل بجامعة أسيوط 

................

حوار الأديان .. كيف نفهمه؟│قراءة ثانية (يوتيوب).

الاتجاه المعاكس- حوار الأديان (يوتيوب).

محمد الحدّاد: حوار الأديان وعقدة الاختلاف (مقال).

 

 

 

 

لم يكن لوثر في القرن السادس عشر في المانيا هو من فجر ما يعرف بثورة الاصلاح الديني كان هناك ما يجري تحت السطح وفوقه وان ببطء.

قبل لوثر بمائة عام ظهر جون هس في بولندا الذي اعترض على الكنيسة وانتقد امورا في العقيدة الكاثوليكية وتعرض للادانة والقتل علىيديها وتكونت بعده جماعة الهسيين نسبة اليه، كان هناك ايضاً علماء الانسانيات المتنورين الذين تأثر بعضهم بالارث الحضاري الاسلاميوكتابات ابن رشد وقد لعب هؤلاء دوراً كبيراً في نقد العقيدة الدينية والكنيسة وترجمة العهدين القديم والجديد الى اللغات المحلية بعد انكانا باللغة اللاتينية التي لا يجيدها الكثيرين.

كما ساهم انفتاح التعليم على الاشخاص العاديين بعد ان كان محصوراً برجال الدين بفتح افاق جديدة من التفكير خارج نطاق الدين الذيكان يتحكم بكل مفاصل الحياة ويغّيب اي لحظة تحاول الخروج من هذا الآسار.

كان الصراع بين الكنيسة والامراء والدوقات على الاراضي والثروات عاملاً مهماً ساهم في ايقاظ روح الثورة والتمرد لدى اولئك المغلوبينعلى امرهم والذين كانوا يدفعون الضرائب للكنيسة وللامراء والملوك .

كل ذلك ساهم في ظهور لوثر الذي كان قساً المانياً قام بتسجيل اعتراضه على صكوك الغفران وكتب رداً على العقائد الكاثوليكية المحمية منقبل كنيسة روما ومزق الحرمان الكنسي الذي صدر بحقه وخاض منازعات ونقاشات علنية مع مبعوثي البابا .

استمر لوثر بكتابة المقالات والرسائل والكتيبات وطباعتها ولقي تفاعلاً شعبياً كبيراً وساهم ظهوره في تسونامي هز فرنسا وانكلترا وسويسرا وهولندا فضلا عن بعض دول شرق اوربا التي كان بعضها يدين بما دان به جون هس سابق الذكر .

توسعت حركة لوثر كثيراً وحدثت نزاعات ولكن لوثر بدأ بشيء وانتهى بنقيضه لقد بدأ بحرية الضمير وانتهى بفرض البروتستانتية علىالكاثوليك المقيمين في مقاطعات تخضع لمذهبه وهكذا فعل كالفن الذي سيطر على جنيف وصنع مملكة بروتستانتية متطرفة ضمت اولئكالمضطهدين الدينيين الهاربين من ايطاليا وفرنسا فضلاً عن السويسريين المؤمنين بالمذهب الجديد.

يخيل الى من يقرأ ذلك التاريخ ان بني الانسان حين يثورون ضد الظلم سرعان ما يمارسون ذات الظلم ولكنه هنا سيكون مدفوعا ومشرعناًبقوة الثورة الجديدة، تلك سنة سيئة تتكرر كلما حانت فرصتها .

يقارن ول ديورانت بحذاقة بين منهجية ارازموس وهو عالم انسانيات وجه نقداً للكنيسة وتعرض على اثره الى محاكمات واستدعاءاتومضايقات ولكن البابا كان متعاطفاً معه لأن اسلوبه في النقد كان معتدلاً، يقارن الكاتب بين منهجية ارازموس هذا ومنهجية لوثر المتشددةو المتعنتة التي وجهت سباباً وشتائم مقذعة للبابا والمؤسسة الدينية التابعة له.

يبقى ان نقول ان الاصلاح الديني الذي منح السلطة الزمنية للامراء صلاحيات اعلى رتبة من السلطة الدينية دشن عصر الدولة الحديثة كمايقال وكان هذا ما اغرى بعض الامراء بدعم البروتستانتية وتبنيها كما اثرى الاصلاح الديني وعمّق نقاشات حول مفاهيم التسامح الدينيو الضمير الانساني والتعامل مع المختلف وفتح ابواباً لم يكن ليتخيلها كما كان له تأثيرات اقتصادية واجتماعية وحتى تربوية فالفردانيةتدين للاصلاح الديني وحتى الشيوعية ومذاهبها وجدت اولى نقاشاتها لدى ما يعرف بالمعمدانيين الذين ظهروا ابان فترة الاصلاح الديني وتوسعوا ولاقوا مصائر مؤسفة نتيجة عدم التسامح .

ان تجربة الاصلاح الديني تجربة مليئة بالعبر والامة الاسلامية بحاجة الى قراءتها والاعتبار بدروسها لاعادة ترتيب اوراقها واخذ مكانهابين الامم التي سارت شوطاً كبيراً في الحضارة، وما اكثر العِبر وما اقل المعتبرين.

 

اياد نجم

 

جعفر نجم نصرالبحث عن الاعتدال بين غوايات الحداثة والحنين الى السلفية!؟

ان اَي محاولة لبناء صياغة معرفية نقدية للدين إنما تتوخى توجيه سهام النقد والتمحيص والتدقيق الى المعرفة الدينية المنجزة التي بنيت على تأويل القران والسنة النبوية الكريمة.. هذا كخط اول.. .اَي ان هنالك جهود بشرية أنتجت مدوناتها الدينية أيا كانت (فقهية.. .كلامية.. .الخ) على تلك النصوص المقدسة، ومن ثم وجب توجيه المراجعة النقدية لها لكي تلائم روح العصر.. ولكن من دون اعتماد العبارات المطلقة بالتقييم فالكثير منها جهود معتبرة وقيمة.. التقييم يجب ان يكون ملتزما باللغة النسبية .. لا بالإطلاق فتحدث البلبة .. وتنهار المنظومة التي هي غطاء معرفي لجماعات مازالت تتعبد بها.. فالحذر الاخلاقي واجب وضروري.. والا الفتنة والاضطراب الفكري..

وقد يتطلب النقد الديني في كثير من الاحيان العودة الى أسباب نزول القران وجدلية المكي والمدني والناسخ والمنسوخ، فضلا عن الامر قد يتطلب مراجعة احاديث نبوية من جهة المتن او السند، ولكنها مراجعات ستظل تطال الجانب البشري كذلك، لانها تطال ما قاله المفسرون من جهة وما قاله المحدثون او الرواة من جهة اخرى..

ويظل النص القراني الكريم والحديث النبوي الشريف المثبت متنا وسندا.. سيظلان مقدسان .. ولايمكن لاحد الطعن بهما ابدا فهما في مجال قدسي مطلق .. يضاف إليهما ما صح متنا وسندا عن اهل البيت الاطهار.. وما ثبت لدى العرفاء والمتصوفة متنا وسندا وتجربة او ذوقا.. (وهذا موضوع خاص سنحاول الحديث عنه لاحقا في مكان اخر).. اما المدونات الفقهية والكلامية او غيرهما فهي تاريخية يطالها النقد والتمحيص .. ولكن يرافق ذلك التقدير للجهود الكبيرة للكثير من العلماء الذين كتبوا لوجه الله تعالى وليس نصرة لسلطة او طلبا للجاه او الثروة.. !!؟..

ولكن بين هذا وذاك تطل الحداثة وتاطيراتها النظرية ومناهجها التحليلية وأدواتها التفسيرية والتفكيكية لتفعل مفاعيلها وتقدم أساليب النقد الديني الجديد بغوايات مفرطة .. تدفع الكثيريين الى الاستعانة بها لاجل موضعة (القدسي) في المجال (البشري).. وهذا الامر فعله الكثير من الباحثين او المفكرين في العالم الاسلامي .. وبمحاولة سريعة نكشف الغوايات التي وقع في فخها هولاء.. فنصر حامد ابو زيد يقر مثلا بان القران مقدس في كتابا حول سيرته.. او في اللقاءات التلفزيونية.. واذا كان الامر هكذا فما ذا أنتجت بكل هذه الضجة.. نقد المعرفة الدينية .. نحن معك .. والكثير معك.. ولكن هي الغوايات الحداثوية/المنهجية لديه ولدى محمد اركون الذي ظل يدور في دائرة مغلقة كلها تدور في فلك اصطلاحي ومفاهيمي لا طائل منه ابدا ..

والأمر يشمل صاحب الحشو واللغو الحداثوي (علي حرب).. كل هولاء لم يدركوا.. اَن اَي منهج هو وليد فلسفة العلم.. وفلسفة العلم محكومة بالمحددات الاجتماعية والمعرفية التي تنشئ بها.. فالجدل يكون هنا.. عبر إسقاط المناهج الغربية على بيئة ونصوص مغايرة لمجتمع المنهج وبنيته المعرفية.. فلهذا يجوز ان توجه سهام النقد لمحمد اركون اوغيره.. .. واذا كان المنهج يتناول مسالة معينة.. تنتمي لحقل اجتماعي اسلامي.. فهنا يصار الى البيئة ذاتها ونصوصها من الداخل بمعاييرها الذاتية..

ونحتاج الى السفر العقلي بموضوعية تنتمي للحقل الدلالي الاسلامي نفسه..

ولكن رغم ذلك كله.. .هذه المناهج مهمة للغاية ولكن بشرط التبيئة المعرفية لها.. والا تصبح اجترار ونسخ لاطائل منه.. لانها جات من عوالم معرفية مغايرة..

ان هذه الآراء يجب ان لايفهم منها اننا ندور في فلك الحنين الى (السلفية).. الى النزعة الماضوية.. وبذلك نغدو خارج التاريخ المعاش والآني بكل تحدياته واسئلته الجديدة والثقيلة.. اننا مطالبون بان نحتفظ بجسر رابط مع الماضي ولاسيما مع النصوص المقدسة (القران والسنة النبوية) لاجل ان نكتشف بها .. او نعيد استنطاقها .. لاجل الاجابات الملهمة التي تكون كخارطة طريق او مرشد معاصر لنا في حياتنا اليومية.. واحسب ان هذه الإجابات موجودة بتلك النصوص المقدسة .. مادامت محاولات الاجابة ذاتها تدور في الفلك الاخلاقي والعقائدي .. بالضرورة.. .اما فلك (المعاملات) فيحتاج الى تقنين مستمر.. عبر أدوات معرفية من داخل النص ذاته وتنتمي الى حقله الدلالي..

فالذي اريد قوله هنا ان جوهر السلفية او الماضوية الاسلامية هو التوحيد .. فينبغي التشبث به اولا.. اما جوهر الحداثة فهو القيم الانسانية كما تقول .. وهذا الامر موجود في قيم القران ..

فلا تحديث مطلق بلا قيود او تبيئة مناهجية ومفاهيمية لما قدمه الغرب، ولا سلفية مطلقة (معاملاتية/فقهية) .. والخروج من حركة التاريخ.. الوسطية بين هذا وذاك كمنهج ثالث او طريق ثالث (العقلانية المؤمنة) مركزها التوحيد.. وكما قال الحق سبحانه (وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ۗ وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ ۚ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ ۗ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ )(143)سورة البقرة ..

 

د. جعفر نجم نصر

 

حيدر جواد السهلانييعتقد موسى بضرورة أن تعطى كافة الحقوق للمرأة، وأن لا يقلل من قيمتها فبناء المجتمع يرتبط ارتباطاً وثيقا بتعليم المرأة، وعلى المرأة المتعلم أن تعمل خارج البيت وتؤدي خدمة اجتماعية لوطنها، ويجب عليها أن تستغل معارفها ومهاراتها في عمل اجتماعي آخر إلى جانب الزواج والأمومة، وهذا العمل الاجتماعي هو الذي يصل بينها وبين المجتمع ويكسبها العقل الاجتماعي ويربي شخصيتها ويدرب ذكاءها ويؤكد استقلالها، وعلى المرأة أن تحيا لنفسها أولاً ثم لمجتمعها وزوجها وابناءها، كما على الرجل أن يحيا حياته لنفسه أولاً ثم لمجتمعه وزوجته وابناءه، وأن حياة الرجل والمرأة يجب ألا تتخصص للزواج، ذلك لأن حياة الرجال والنساء أعلى من هذا وأرحب من أن يحتويها هذا التخصص.

يدعو موسى المرأة إلى أن تكون متعلمة وتربي ذكاءها من خلال العمل والاختلاط بالمجتمع، ولا تكون لعبة بيد الرجال، أو خادمة له، فالرجال يتهمون المرأة بأنها غير ذكية وغير شجاعة وغير سخية وغير بصيرة، وكل هذه التهم صحيحة، لأن المرأة تمضي حياتها محبوسة بين أربعة جدران في البيت، ولو قدر للرجل أن يحبس داخل البيت لكان على هذا الحال التي تتهم به المرأة، فالبقاء في المنزل وممارستها فقط الطبخ والأمومة والغسل والاعتناء بالمنزل، لا يعطي لها القدرة على الفهم، ولذلك يكون الرجل أكثر قدرة على الذكاء والانفتاح والتعامل بحكمه مع الأمور، وذلك لاحتكاكه مع المجتمع، لأن المجتمع يوسع من أفاقه، لذلك المرأة معطلة الذهن، لأنها لا تهدف إلى الاهداف الاجتماعية العظيمة التي يهدف إليها الرجل، ونتيجة ذلك أنه يدرب ذهنه فيكون ذكياً بل عبقرياً، فالذكاء والعبقرية تتربى في بالاشتباكات الاجتماعية ومصادمة المشكلات في المجتمع ومحاولة حلها، وعلى المرأة أن تزامل الرجل في العمل، بل يجب أن تبدأ الزمالة من الطفولة، ثم تزاملي الرجل في المكتب والعمل والمتجر والمصنع، فالعبقرية ليست شيئاً موهوباً مقصوراً على الرجال، إنما هي ثمرة الاهتمامات والأعمال التي تربطنا بالمجتمع، فإذا اشتبكت المرأة في المجتمع فأنها ستذكى وقد ترتفع إلى العبقرية. ويرى موسى على المرأة أن تتعلم حرفة أو صناعة، حتى لا يقودها عجزها من أن تعول نفسها والارتماء والرضا بأي زوج، وهنا لا تستطيع أن تختار زوجاً صالحاً وجدير بالأبوة، وإنما تختار عائلاً يعيلها ولربما يكون دميماً، فتنتقل الدمامة إلى أولادها، وقد يكون مغفلاً، فتنتقل الغفلة إلى أولادها.

يعتقد موسى أن الإنسان البدائي الذي كان يعتمد على الصيد، وعدم قدرة المرأة للخروج إلى الصيد، وذلك لأنها أما حامل أو مرضعة للأطفال أو ترعى الصغار، فعدم قدرتها على الصيد اصبح الرجل هو من يتكفل برزق العائلة واصبحت المرأة مطيعة للرجل وتلبي رغابته خاصة الجنسية، ومن هنا نشأت سلطة الرجل على المرأة. أما فكرة الحجاب فيعتقد موسى أن فكرة الحجاب نشأت من الحيض عند المرأة، فلما كانت تزورها العادة الشهرية وتنزف دماً ويبقى بضعة أيام، فأنها اصبحت إنساناً نجساً، ويجب على جماعة الصائدين من الرجال أن يتجنبوها قبل الصيد ببضعة أيام، بل يجب ألا يروها بتاتاً قبل الصيد ببضعة أيام حتى يخرجوا وهم غير متلبسين بشؤم الدم، ولهذا السبب كانت المرأة تخفي نفسها عن الرجال حتى لا يتشاءموا، ولا يعرف الرجال بأن المرأة عليها العادة أو لا، لذلك بدأت المرأة بعدم الظهور أمام الرجال وكان هذا أول ظهور للحجاب. وبعد عصر الصيد جاء عصر الزراعة والذي جعل المرأة زميلة للرجل في الأرض الزراعية، لكن مع ذلك لم تلغى عادة الحجاب، ثم جاء عصر الغزو، وهو كان العصر الجائر بحق النساء، لأنه زاد من احتقارها والهبوط بها إلى ما دون الإنسانية، ذلك أن القبيلة التي كانت تغزو قبيلة وتتغلب عليها، كانت تقتل الرجال ثم تسبي النساء ويبيعن في الأسواق، والرجل الذي يؤدي ثمنها يستطيع أن يفعل بها ما يشاء، وكانت الجارية المسبية تذل لسيدها وتلبي كل شهواته، مما أضطر الزوجة الحرة إلى أن تباريها في كل ذلك، فتبرجت هي أيضاً حتى لا تتفوق عليها الجارية، ومن هنا بدأت المرأة لعبة بيد الرجل.( عصر الرق لم ينتهي ألا بعد الحرب الأمريكية الأهلية عام 1860، وأن كانت بعض الدول تحررت المرأة ليس بالشكل الكامل على يد الإسلام، وعلى الرغم من تطور العلوم، لكن تبقى حقوق الإنسان راكدة أو فقط شعارات، يتناولها الساسة وغيرهم، فمثلاً إلى يومنا هذا الكثير من الدول لا تعرف سوى منطق العنف والمؤامرات الخبيثة والتسابق في صنع أحدث الأسلحة لقتل الإنسان، وكأن لم نغادر مرحلة الصيد والغزو، بالإضافة إلى أن اصحاب الرأي لا يستطيعون الكتابة والتعبير خوفاً من الاغتيال أو السجن في كثير من الدول)

يعتقد موسى أن المجتمع الانفصالي الذي مازلنا نعيش فيه إلى حد بعيد، يحرمنا السعادة ويفسد الزواج، بل يحرض على الغش في اختيار الزواج، أنه جناية حية على كل شاب وفتاة، ويشجع موسى على التعارف والتلاقي قبل الزواج وانفتاح المرأة على المجتمع، وذلك يكثر من نجاح العلاقات الزوجية، وأن عدم الاختلاط والتمسك بالحجاب، سيؤدي إلى الشذوذ الجنسي، وربما ينتهي في يوماً ما إلى حمل صاحبه إلى السجن( وهنا يقصد موسى بالحجاب وهو حرمان المرأة من الدراسة والعمل وممارسة حقوقها الإنسانية، وعم الاختلاط بالمجتمع) ويرى موسى بضرورة عمل المرأة والاحتكاك بالمجتمع، ويجب أن تواجه أخطار العمل والكوارث التي تتعرض لها اثناء خروجها من المنزل، فما دامت الكوارث لا تقتلنا فإنها تعلمنا، هي تجربة تزداد بها خبرة وحكمة، فالذكاء اجتماعي وينشأ من الاختلاط بالمجتمع والعمل، وأنه لكي تبقى المرأة على مستوى من الذكاء والمعرفة وفي توسع وتجدد، يجب أن تحيا في المجتمع وأن يكون لها نشاط اجتماعي وثقافي وتساهم في تطور الأمة وحتى تتكون شخصيتها وتنضج مثل الرجل، فالمرأة أذا أنتجت أحست بالكرامة، وإذا عطلت عن العمل، أحست بكل ما يحس به الرجل المعطل وأضرت المجتمع بكل ما يضر به الرجل المعطل، والمرأة تعطلها أسوأ من فراغ الرجل، لأنه هو يستطيع أن يشغله في نشاط اجتماعي، أما المرأة فهي تجتر خواطرها ولا يمكن أن يؤدي هذا الاجترار إلى سوء في الصحة، فالمرأة عندما تعمل تجد الكرامة وتجد الاستقلال وتجد الأمل والثقة، فهي لا تقلق على مستقبلها ولا تخشى أن يفوتها زواج، وهي تعرف أن كرامتها وعيشها وسعادتها لا تتوقف على محاسنها الجسدية فقط، إذ لها محاسن أخرى هي ذكاؤها ومهاراتها التي تنمو بالعمل، هذا العمل الذي يربيها وينضجها ويجعلها تكبر وتحيا الحياة.

الزوج ليس رئيساً لزوجته، وإنما هو زميل لها يتعاون معها، إنسان مع إنسان، رجل مع امرأة، كلاهما على مستوى واحد، ليس أحدهما رئيساً والآخر مرؤوساً، وإنما هما زميلان، ومعنا الرياسة التي موجودة في الوطن العربي، والذي يتمتع بها الزوج، يجب أن تلغى، إذ يجب أن تكون العائلة ديمقراطية يتساوى فيها الزوج بزوجته، فلا رئيس ولا مرؤوس، هو يأمر وهي تطيع، ولابد من مكافحة فكرة السيادة للرجل على المرأة ومحوها وأقام بدلها فكرة المساواة والزمالة، إذ زمالة المرأة للرجل قوة كبيرة، إذ هي تتربى بهذه الزمالة، وتعرف الدنيا الواسعة التي كانت إلى وقت قريب محرمة عليها، أي تعرف الانتاج والكتب وتتخذ أخلاق الرجال في الجد والعمل والدرس والطموح، بل أن الرجل يتربى أيضاً بهذه الزمالة، فلا يؤمن بأنه رئيس زوجته، لأنه حين يتعود الزمالة في المدرسة ثم في المصنع أو المكتب، ينقل هذا الاحساس إلى البيت، فيتعود الزمالة مع الزوجة، والزواج على أساس الزمالة والمساواة يقوم الحب من الزوجة مقام الاحترام لزوجها، والحب أبر وادعم للعائلة من الاحترام، الزوجة التي تحب زوجها خير من الزوجة التي تحترمه، ولن يسود الحب في البيت ألا إذا كانت الزمالة تأخذ مكان الرياسة. ويقر موسى بأن العرب لديهم الإرادة في تحرير المرأة واعطائها كل الحقوق، ومن الخطأ الضن بأن الاستعمار لم يكن يتدخل في شؤون المرأة العربية، فأننا نعرف أن مدة الاحتلال الإنجليزي أقفلت مدارس البنات عقب استيلائهم على الدولة، وأقفلوا جميع المدارس سوى مدرسة واحدة للبنات وللمرحلة الابتدائية ومديرة المدرسة إنجليزية.(1)

تعقيب:

سلامة موسى (1887 - 1958) مفكر مصري ويعد رائد الاشتراكية ومن المروجين لأفكارهم، إذ يرى في الاشتراكية هي السبيل لتحقيق العدالة الاجتماعية، وقد كان موسى يعتقد بالفكر ويعده هو الضامن للتقدم والرخاء، وقد آمن موسى بأن تحقيق النهضة في مجتمعه يستوجب التمثل في الغرب.( يعد موسى من اصحاب الاتجاه القطعي مع التراث، فيعتقد أن علينا أن نأخذ بالمنتج الغربي كما هو، وفي الحقيقة أن هذا الاتجاه كان هو الغالب قبل نكسة حزيران، إذ بعد نكسة حزيران تغير الكثير من مواقفهم تجاه الحضارة الغربية ولعل من أبرزهم زكي نجيب محمود، وقد ظهر بقوة الاتجاه التوفيقي والذي يرى علينا أن نأخذ من التراث ما يلائم واقعنا، أن مشكلة الأصالة والمعاصرة هي من أهم المشكلات وأكثرها التي كتب عنها المفكرين، إذ طرح السؤال التالي هل أن تحقيقي النهضة يلزم القطيعة مع التراث أو الرجوع إلى التراث، فظهرت ثلاثة اتجاهات وهو الاتجاه القطعي والتوفيقي والسلفي، وعلينا أن نأخذ بالتجربة اليابانية، إذ أن الحضارة اليابانية أخذت بالمنتج المادي الغربي وتحقيق النهضة الصناعية وتعليم الشباب الحضارة الساموراي وذلك من خلال التربية والتعليم، وبذلك علينا أن نتخذ من التجربة اليابانية نموذج يحتذى به، إذ اليوم دخلت العولمة والمنتج الغربي من خلال وسائل التواصل الاجتماعية أو سهولة السفر، وبذلك على الدولة اعطاء أولوية كبيرة للشباب من خلال تعليمهم أو عملهم وتعليمهم الاحساس بالمسؤولية تجاه الوطن والتراث) وقد تعرض موسى لكثير من النقد سواء من المفكرين أو السياسيين فمثلاً يصفه العقاد بأنه الكاتب الذي يكتب ليحقد ويدين بالمذاهب ليربح منها، ويقول العقاد أن سلامة موسى أثبت شيئاً هاماً، هو أنه غير عربي، كما قال عنه إن العلماء يحسبونه على الأدباء والأدباء يحسبونه على العلماء، لهذا فهو المنبت الذي لا علماً قطع ولا أدباً. وبذلك أن سلامة موسى يعتبر أحد القلائل الذين أثاروا الجدل الفكري على مدى القرن العشرين بسبب جرأة أفكاره وثباته الفكري الطويل لغرس قيم الوعي بالنهضة عبر الكتابة والدعوة المستمرة لعدة عقود. من مؤلفات موسى: مقدمة السوبرمان 1910، الاشتراكية 1913، أشهر الخطب ومشاهير الخطباء 1924، الحب في التاريخ 1925، احلام الفلاسفة 1926، الحرية وابطالها في التاريخ 1927، اسرار النفس 1927، العقل الباطن 1928، نظرية التطور واصل الإنسان 1928، اليوم والغد 1929، السيكولوجية في حياتنا العادية 1934، غاندي والحركة الهندية 1934، ماهي النهضة 1935، الشخصية الناجعة 1943، حياتنا بعد الخمسين 1944، البلاغة العصرية واللغة العربية 1945، التثقيف الذاتي 1946، تربية سلامة موسى 1947، عقلي وعقلك 1947، فن الحب والحياة 1947، مصر اصل الحضارة 1947، محاولات 1953، هؤلاء علموني 1953، كتابات الثورات 1954، الأدب والشعر 1956، الأدب والحياة 1956، دراسات سيكولوجية 1956، المرأة ليست لعبة الرجل 1956، احاديث إلى الشباب 1957، برنارد شو 1957، مشاعل الطريق للشباب 1957، حرية العقل في مصر، الدنيا بعد ثلاثين عاماً.

ينتمي كتاب "المرأة ليست لعبة الرجل" في الأدبيات الفكرية إلى التيار النسوي، وهو تيار تحركه دوافع متعلقة بقضايا المرأة، حيث أن هدف التيار هو القضاء على اشكال القهر المجتمعي المتصل بالنوع الجنسي، ليسمح لجميع النساء بالنمو والمشاركة في المجتمع بأمان وحرية. ويأتي كتاب موسى من ضمن الكتب التي تحاول أن تغير نظرة الرجل إلى المرأة واعطاؤها كافة الحقوق، أن كتاب موسى صدر عام 1956، وفي هذا الوقت بالفعل كانت المرأة أشبه ما تكون مهمشة ولها دور بسيط في الحياة الاجتماعية والسياسية، وكتابه هنا يخص المرأة المصرية، وهو كان بالفعل حال أغلب نساء الوطن العربي، ولربما نساء مصر كان أفضل حال مع بقية البلدان، وذلك بفعل أن النهضة العربية الفكرية، أول ما بدأت في مصر وارسالهم البعثات واحتكاكهم في الغرب، لكن مع ذلك هي لم تأخذ حقوقها، لكن في وقتنا الحاضر نعتقد أن سلامة موسى لو رأى ما حصلت عليه المرأة من حقوق، لربما لا يصور مظلومية المرأة بهذه الطريقة، فاليوم المرأة العربية تستطيع أن تكمل دراستها وأن تعمل و تختار الزوج المناسب لها، لكن مع ذلك إلى يومنا هذا لم تأخذ المرأة حقوقها الكاملة فمثلاً عندنا في الوطن العربي لم أشاهد امرأة استلمت منصب سيادي في أي دولة من دولنا العربية.

يتطرق موسى ويدعو إلى اعطاء المرأة كافة الحقوق ولابد من تعليمها والاختلاط المباشر بالمجتمع من خلال العمل، فهذا يزيد من توسع عقلها وذكاؤها، ويعتقد موسى بأن حجم المرأة أكبر من البيت ويدعوها للعمل. (لا اعرف لماذا هذا الاستصغار من قبل المفكرين للمرأة التي تهتم بتربية الأولاد وشؤون البيت، ولا اعرف لماذا يعتقد البعض مثل موسى أن المرأة إذ اخذت حقوقها عليها بالعمل، وهل عمل البيت هو عمل قليل، هذا العمل يفوق عمل الرجل بكثير، أنا اعتقد بعمل المرأة في كافة المجالات وبضرورة تعليم النساء، لكن ليس معناه التقليل من شأن البيت. أما دعوة موسى لتعليم الفتيات الرقص، والرقص يجعلها أكثر اتزاناً، فلا نعتقد كما يعتقد موسى أن المرأة عليها التعلم والعمل ولكن ليس من دواعي الاتزان الرقص، إذ الرقص وإن كان معتدل فهو يفتك بالعادات الإسلامية وأيضاً يثير الشهوة، أما دعوته للاختلاط، لأن عدم الاختلاط يؤدي إلى الشذوذ، أن الشذوذ لا يأتي من عدم الاختلاط بل هو حالة مرضية عند البعض، ويخيل لنا موسى في كتابه أن الرجل عندما لا يرى المرأة يبدأ لديه شذوذ، ويبدأ يتأمل الشاب وذلك لفقدانه الاختلاط بالمرأة، وهل الشاب الذي في المدينة أو القرية لم يرى المرأة لماذا يضن موسى أن الاختلاط هو فقط في المدرسة والعمل، المجتمعات العربية مجتمعات عشائرية والشاب يعرف الالف النساء من اقاربه ومن تعمل معه في المزرعة، وكثير من قصص الحب نسمع بها أغلبها تأتي من القرى، أن رؤية موسى حول المرأة والذي نتفق معه في كثير من المواقف، يريد أن يغير المرأة وتصبح كالمرأة الاوروبية، وهذا غير ممكن نحن نعيش على أرض تحمل تاريخ، من دين وتقاليد والخ...، لا يمكن أن تكون المرأة العربية كالمرأة الاوروبية ونعني هنا بالتقاليد، أما بالنسبة بالذكاء لدينا عالمات جليلات. لكن موسى مع كونه ناقماً على الظلم الواقع على المرأة، لكنه في كتاب مقالات ممنوعة وكتابه الصحافة حرفة ورسالة: يرى أن المرأة بدأت بالارتقاء من الأسلوب الشرقي إلى الأسلوب الغربي وهذا الارتقاء قد اتبع تغيرات عديدة في العلاقات الاجتماعية فأصبحت كلمة حب من الكلمات التي لا يخجل منها الشاب والفتاة، وأيضاً بدأ انتشار المدارس وظهور الكثير من المتعلمات والعاملات.(2)

 

حيدر جواد السهلاني

.................

الهوامش:

1 - ينظر سلامة موسى: المرأة ليست لعبة الرجل، دار هنداوي، القاهرة، ص(8 - 9 - 11 - 12 - 13 - 14 - 15 - 20 - 21 - 23 - 24 - 25 - 30 - 43 - 44 - 46 - 47 - 50 - 51 - 65 - 95 - 96 - 97)

2 - ينظر سلامة موسى: مقالات ممنوعة، دار هنداوي، القاهرة، ص109. وأيضاً ينظر سلامة موسى: الصحافة حرفة ورسالة، مطبعة التقدم، القاهرة، ص97.

 

باسم الحسناويليس التجديد سهلاً في الحوزة، حتى وإن كان سهلاً بعض الشيء في الأوساط العلمية والفكرية الأخرى، فنحن نقرأ في كتب الأدب -على سبيل المثال- أنَّ أديباً ما، أو أنَّ جماعةً أدبيةً ما، عانت الكثير من أجل أن ترسي قواعد مذهبٍ جديدٍ في كتابة الشعر أو في كتابة القصَّة والرواية.. إلخ، وقل الشيء ذاته عمَّن يختطُّ لنفسه منهجاً جديداً لمقاربة الموضوعات الفلسفية أو التأريخية أو الإجتماعية، قد دخلوا في صراعاتٍ فكريةٍ عديدةٍ قبل أن تصبح طريقتهم مبررةً من وجهة نظر الفنّ الذي يكتبون فيه، فللقارئ إذن أن يتخيَّل حجم المعاناة بالنسبة إلى الفقيه الأصوليِّ عندما يريد أن ينهض بمهمَّة التجديد في الحوزة، وهي التي أضفت عبر مراحل تأريخها على العديد من سلوكياتها وطرائق تدريسها ومناهجها قداساتٍ مزعومةً لا تختلف في نظر الجماهير عن القداسات الحقيقية الأخرى التي تعتبر جزءاً لا يتجزَّأ من جوهر الشريعة والدين.

ما كان يدهشني في السيِّد محمَّد حسين فضل الله قُدِّس سرُّه أنه كان يخوض مغامراته التجديدية بالكثير من الهدوء والطمأنينة، فهو هادئٌ ومطمئنٌّ على طول الخطّ، حتى لا يكاد المرء يلمح شيئاً من التشنُّج في ردوده على تشكيكات خصومه ومناوئيه، فحتى حين لا يكون الرأي المضادُّ بريئاً من الدوافع الشخصية للخصوم، فإنه كان يجرِّد الرأي من تلك الآثار السلبية لشخصنة الآراء، وينهض بها إلى مستواها التجريديِّ والموضوعيّ، بغضِّ النظر عن مصدر الرأي وقائله، ثمَّ يمنح ذلك الرأي في الأثناء كلَّ ما يتمتَّع به الرأي الحرُّ من الحقِّ في حواره ومساجلته على قاعدة الدليل والبرهان، وتلك واحدةٌ من أجمل صفات السيِّد محمَّد حسين فضل الله في الحقيقة، وهي صفةٌ لا تتوفَّر في الكثير من دعاة الفكر الحرِّ أنفسهم، ناهيك عمَّن درجوا على تقديس ما لا قداسة له عبر التأريخ بدوافع دينيةٍ وعقديةٍ مختلقةٍ أو مزعومة.

  من المعلوم أنَّ السيِّد محمَّد حسين فضل الله كان قريناً للسيِّد محمد باقر الصدر وأحد كتاب مجلَّة (الأضواء) الشهيرة، جنباً إلى جنبٍ مع مجموعةٍ من الكتاب الإستثنائيين في مقدِّمتهم السيِّد الشهيد محمَّد الصدر قدِّس سرُّه، ولقد سمعت من مصادر أثق بها أنَّ السيِّد محمَّد حسين فضل الله كان يكتب العديد من المقالات الرصينة بأسماء مستعارةٍ، لكي تحافظ المجلَّة على منهجها الرصين في تجديد الفكر الدينيّ آنذاك.

الآن أريد أن أسأل: لماذا لم تشأ بعض المرجعيات أن يكون للسيِّد محمد حسين فضل هذه المكانة الكبيرة في العالم الإسلاميّ، وليس مقنعاً القول إنَّ أحداً لم يكن يفعل ذلك، فإنَّ ذلك خلاف الحقيقة كما يعلم المتابعون للشأن الثقافيِّ والمرجعيّ، كما اننا لا نقصد على الإطلاق أن نثير من القضايا ما يكون سبباً في ضعضعة الصفّ، بل كلُّ ما نرمي إليه هو أن نضع حداً للممارسات التي من شأنها أن تكبح عجلة التطوُّر الفكريِّ والفلسفيِّ والثقافيِّ في أوساطنا الإسلامية والحوزوية مستقبلاً، هذا كلُّ ما نرمي إليه، لا سيما وأنَّ السيِّد محمد حسين فضل الله أصبح في ذمَّة الخلود الآن، فليس من أثرٍ سلبيٍّ إذن في الحديث عن هذا الموضوع بالذات.

أعتقد أنَّ مواقف السيِّد فضل الله وخياراته السياسية مستنداً فيها إلى استدلالاته وبراهينه من الكتاب والسنة وأحاديث آل البيت عليهم السلام هي السبب وراء ذلك.

هذا من جهة، ومن جهةٍ أخرى فإنَّ للسيد فضل الله فضاءه الإجتماعيَّ الخاصَّ داخل لبنان، ومن الطبيعيِّ أن يكون رأيه الإجتهاديّ بخصوص العديد من القضايا التي تخصُّ فقه الفرد والمجتمع وفقه السياسة وغير ذلك مختلفاً عن الآراء الإجتهادية لغيره من الفقهاء، وهذا ما جعل العديد من الفقهاء الذين يعيشون في ظلِّ ظروفٍ وملابساتٍ اجتماعيةٍ مختلفةٍ عن ظروفه هو، يشنِّعون عليه وينظرون إلى فتاواه تلك بعين الإستغراب، ولم يقفوا عند هذا الحدّ، فصاروا يحكمون عليه بأنه يأتي بالغريب من الفتاوى التي يخالف فيها جمهور الفقهاء.

لو أنهم أنصفوا فضل الله لصارحوا الجماهير الدينية بأنَّ هناك فضاءً في الشريعة يسمح له باستنباط تلك الأحكام الفقهية التي استغربت منها بعض الأوساط، لكنهم تركوا أنصاف العلماء يشنِّعون عليه وينقدونه ويطعنون في نزاهته من دون أن يحرِّكوا ساكناً مع الأسف.

عندما أفتى السيِّد محمد الصدر بعدم مفطِّرية الدخان، استغلَّ أنصاف العلماء عدم معرفة الجماهير الدينية بالمستند التشريعيِّ والفقهيّ لهذه الفتوى، فصاروا يشنِّعون على السيِّد الشهيد في حينها، ولم يصارحوا الجماهير الدينية بأنَّ السيِّد محمد الصدر ليس منفرداً بهذه الفتوى، بل يشاركه فيها العديد من الفقهاء حتى وإن لم يفتوا بذلك في رسائلهم العملية للناس.

ومن جهةٍ ثالثةٍ، فإنَّ أعداداً كبيرةً من مقلِّدي سماحة السيِّد فضل الله، كانوا من الوسط النخبويِّ والثقافيِّ المنتشر في العالم العربيِّ وأوربا، ولم تكن مثل هذه الحال لتسرَّ بعض الفقهاء، ولذلك فإنهم حاولوا أن يحطوا من شأنه، وأن يطعنوا في ملكة اجتهاده، ولم يصيبوا نجاحاً في تقديري على الإطلاق، بل كانت مساحة تقليد السيِّد في اتِّساعٍ مستمرٍّ، وحتى  من لم يقلِّده فإنه كان يعتبره في طليعة علماء الدين التقدُّميين في هذا الزمان.

إنَّ السيِّد محمَّد حسين فضل الله مجتهدٌ، بل إنه مجتهدٌ واسع الأفق والنظرة، وبالتالي فإنَّ له الحقَّ أن يشتغل على الموضوعات الفقهية بآلته الإجتهادية كما يراها هو بوصفه مجتهداً، ولا يمكن أن يلغي سلطة الحجة العلمية والدليل كما يظهران لديه من أجل مراعاة ما درج عليه الفقهاء الآخرون في مجال إصدار الفتوى أو اتخاذ الموقف العلميِّ أو التأريخيِّ بخصوص عددٍ كبيرٍ من القضايا التي يكون له فيها رأيٌ اجتهاديٌّ خاصّ، وأنا أسال:من هو المجتهد، هل هو الذي لا يصدر الفتوى إلا على أساس ما يمكن أن يتقبَّله منه المجتمع الدينيّ، أم هو الذي يعلن ما توصَّل إليه رأيه الإجتهاديُّ مهما كانت النتائج، يقول محمَّد حسين فضل الله:"أنا لا أنظر إلى مسألة أن يقبل المجتمع الفتوى أو لا يقبلها، المسألة المنفتحة على الخطوط الإجتهادية العلمية لا بدَّ من أن تدرس موضوعياً في العناصر التي يمكن الإنسان أن يكتشف فيها ما يراه حقيقةً، لذلك ليست لديَّ أيَّة مشكلةٍ في الفتوى حتى تلك التي قد تكون مخالفةً للمشهور من الفقهاء. أنا كنت أوَّل فقيهٍ أفتى بطهارة كلِّ إنسانٍ، بينما كان الرأي الفقهيُّ عند الكثير من علماء الشيعة هو الحكم بنجاسة الكفار، وقد حصل هناك بعض التطوّر، فأصبح البعض يُفتي بطهارة أهل الكتاب، لكن بنجاسة الباقين من الملحدين... أما رأيي الإجتهاديّ منذ عدَّة سنين فهو أنه لا دليل عندنا على نجاسة الإنسان جسدياً، لذلك أفتيت بطهارة كلِّ الناس. نعم هناك نجاسةٌ في الفكر، قد توجد في المسألة السياسية، الإجتماعية، وقد توجد في المسألة الدينية. بعضهم يقول: الله يقول (إنما المشركون نجسٌ)، نحن قلنا إنَّ النجاسة هنا هي النجاسة المعنوية، باعتبار أنَّ الشرك يمثِّل قذارةً فكريةً لا يحترم فيها الإنسان عقله".

الرجل لديه دليله الإجتهاديّ من الكتاب والسنة، وهم يلجأون في محاربته إلى تأليب رأي الناس عليه، مستغلين الوجدان الشعبيَّ الذي تربّى على الإعتقاد بالنجاسة المادِّية للكفّار، وهكذا سوف يصبح محمَّد حسين فضل الله في نظر الجماهير الدينية منحرفاً.

هذا من جهة خصوم السيِّد محمد حسين فضل الله، أما من جهة محبيه ومريديه، فإنَّ هناك وهماً كبيراً مرتكزاً في أذهانهم، إنَّ عدداً مهمّاً منهم يعتقدون أنَّ السيِّد محمد حسين فضل الله كان يصدر تلك الفتاوى من واقع الشعور بضرورة تسهيل الأحكام الفقهية عليهم، وهذا ليس صحيحاً، فالرجل مجتهدٌ، ولا يمكن أن يخضع إلا للحجَّة والدليل، يقول فضل الله: "أنا لا أنطلق في الفتوى من عقدة تسهيل أمور الناس، بل من خلال العناصر الإجتهادية التي تجعلني أقتنع بالنتائج في هذا المجال".

كذلك يجد المغرضون ضالَّتهم في التهكُّم على مختلف الفتاوى التي أصدرها السيِّد لمعالجة القضايا الجنسية وغيرها من شؤون المرأة، وينسون أنَّ لبعضهم فتاوى مضحكةً حقاً ليس ها هنا مجال التعرُّض لها، لكنهم لا يوافقون على أن يراجع السيِّد مختلف الفتاوى المشهورة بناءً على استعمال آلته الإجتهادية، إذ هذا بالضبط هو دور المجتهد، وإلا كان المجتهد مقلِّداً بطبيعة الحال، وقد أوضح السيِّد رأيه في هذا الموضوع وكان على حقٍّ فقال: "أما بالنسبة إلى النساء، فأنا أرى أنَّ الكثير من النظرات في فتاوى النساء تنطلق من خلال التقاليد، لا من خلال الحقيقة القرآنية، لذلك أفتيت قبل مدَّةٍ فتوى أثارت الكثير في العالم الإسلاميّ، وهي حقُّ الدفاع عن النفس بما أنه حقٌّ لكلِّ إنسان، فللمرأة الحقّ، إذا أراد زوجها أو أخوها أن يضربها، أن تدافع عن نفسها، وقد طلبت من النساء أن يتدرَّبن على الأخذ ببعض أسباب القوَّة التي تتيح لهنَّ الدفاع عن أنفسهنّ سواءٌ في هذا الجانب أو في الإعتداءات التي قد يتعرَّضن لها كالإغتصاب وما أشبه ذلك. طبعاً نحن نعتقد أنَّ الحياة الزوجية قائمةٌ على المودَّة والرحمة، لكن قد تصل المسألة أحياناً لدى الزوج لأن يضطهد زوجته، فمن حقِّها أن تدافع عن نفسها كما للرجل الحقّ في أن يدافع عن نفسه فيما إذا كانت زوجته أخت الرجال".

من الطبيعيّ أن لا تعجب هذه الفتوى المجتمعات الذكورية، فهذه المجتمعات تعتقد بتفوُّق الرجل على المرأة من الناحيتين التكوينية والتشريعية معاً، ولا ينتبهون إلى أنَّ عشرات النصوص القرآنية تقف ضدَّ هذا الإعتقاد الزائف، فلا علاقة لاعتقادهم بمتبنيات العقيدة في الواقع بقدر ما تكون علاقته بالموروث القبائليِّ البدويِّ أكيدةً وراسخةً، وقد واجه السيِّد الشهيد محمَّد الصدر قدِّس سرُّه الكثير من المعاناة في إعادة النظر بالعديد من التقاليد العشائرية في المجتمع العراقيّ، حتى تمكَّن أخيراً من فرض مقولات الشريعة على مقولات القبيلة، وهي ذاتها المشكلة التي واجهها السيِّد محمَّد حسين فضل الله في الدائرة الخاصَّة بفقه المرأة في المجتمعات العربية والإسلامية، يقول فضل الله: "لم يسلِّط الله الرجل على المرأة إلا في دائرة ما يقتضيه عقد الزواج. الزواج عندنا ليس سرّاً خفياً، بل هو تعاقدٌ بين الرجل والمرأة. ليس للرجل أيَّة سلطةٍ على زوجته، ولو بنسبة واحدٍ في المئة، إلا بما التزمت به المرأة في الجانب الجنسيّ باعتبار أنَّ الزواج يقوم عليه، لذلك ليس لها أن تمنعه من نفسها إذا كانت له حاجةٌ في ذلك، ولم تكن لديها موانع شرعيةٌ أو صحيةٌ أو نفسيةٌ فوق العادة، ومن حقِّها على الرجل أن يستجيب لحاجاتها الجنسية. غير ذلك، لم يسلِّط الله الرجل على المرأة مثلاً في إجبارها على القيام بشؤون البيت إلا إذا اشترط عليها ذلك ضمن العقد، وإلا فللمرأة أن تحسب نفسها عاملةً في البيت وتأخذ أجراً على عملها، لكنَّ الله أحبَّ لها أن تكون علاقتها بزوجها وأسرتها علاقة المودَّة والرحمة".

أليس هذا هو حكم الإسلام، فلماذا يعتبرون السيِّد فضل الله مارقاً من الدين لأنه يصدمهم بضرورة العودة إليه، والتخلِّي عن الموروثات البدوية التي اعتادوا عليها كثيراً حتى حسبوها جزءاً لا يتجزَّأ من الدين؟

طبعاً هم يحتجون بأنَّ الرجال قوامون على النساء، هكذا يحتجون بطريقةٍ فجةٍ لا تعتمد التحليل والإستدلال، لكنَّ فضل الله يوضح أنَّ "القوامة لا تعني السيادة، بل الإدارة، بمعنى أنَّ الرجل في الإسلام هو المسؤول عن الإنفاق على زوجته، ولو كانت غنية. كذلك، إنَّ الرجل هو الذي يستطيع أن يدير الأمور باعتبار الظروف الخاصة للمرأة لجهة الدورة، الحمل، الحضانة، لا فرق بين الرجل والمرأة في الإسلام. اقرئي سورة الأحزاب، وسورة النمل التي تحدث فيها عن ملكة سبأ وأنها أعقل من الرجال، امرأة فرعون، ومريم ابنة عمران. أختصر، القوامة ليست السيادة بل الإدارة، لأنَّ الرجل هو مسؤولٌ عن ميزانية البيت، وهو الذي يملك حرية جسدية في قضية العمل".

طبعاً، لا يعجبهم مثل هذا البيان، لا لأنهم حريصون على أن يطبِّقوا حرفياً تعاليم القرآن، كلا، ولكن لأنهم حريصون على أن يبقى المجتمع محافظاً على تراتبياته الهرمية الظالمة في العائلة وفي المجتمع وفي الحكومة وفي كلِّ شيءٍ، إنهم حريصون على تزييف تعاليم الإسلام لا أقلّ ولا أكثر.

حتى تلك الإشكاليات الكبيرة التي تثار في وجه الإسلام بخصوص بعض التشريعات التي باتت تثير حساسية الإنسان المعاصر، فإنَّ خصوم السيِّد فضل الله عاجزون عن تقديم إجاباتٍ مقنعةٍ للضمير الإنسانيِّ المعاصر، فغالباً ما يثار هذا الإشكال: لماذا لا يوافق الإسلام على زواج المسلمة من اليهوديِّ أو المسيحيّ، في حين يوافق على زواج المسيحية أو اليهودية من المسلم، فيقدِّم الفقهاء التقليديون إجاباتٍ مضحكةً أو غير مقنعةٍ في هذا المجال، لكنَّ السيِّد فضل الله يقدِّم جواباً عبقرياً مقنعاً حقاً إذ يقول: "إنَّ الإسلام يعترف بالمسيحية واليهودية، والعكس غير صحيحٍ، لذلك فإنَّ الرجل المسلم، عندما يتزوَّج مسيحيةً أو يهوديةً، فهو لن يجرؤ على الإساءة إلى مقدَّساتها من خلال دينه، لا من خلال الجانب الإنسانيِّ فقط، فيما غير المسلم قد لا يحترم كلَّ مقدَّسات المسلمين، فلا يحترم مقدَّسات زوجته".

إنَّ هذه الإجابة تقع في الصميم من المنهجية التي يعتمدها السيِّد فضل الله في مقارباته الإجتهادية لمختلف القضايا، إنه لا يقدِّم إجاباتٍ جاهزةً، بل يعيد النظر مراتٍ ومراتٍ من خلال أخذ حساسية العصر في نظر الإعتبار فيكتشف كثيراً من المعاني الجديدة من خلال هذا التأمُّل المنهجيِّ الجديد في القرآن والسنة، بينما يعجز الآخرون عن تقديم مثل هذه الإجابات الشافية التي تنسجم مع الحساسية العامَّة لثقافة الإنسان في الزمن المعاصر.

إنَّ السيد محمد حسين فضل الله جرئٌ في كلِّ مناحي التفكير التي يخوض فيها، حتى تلك التي تخصُّ نقد رجال الدين،  انطلاقاً من قناعته بأنَّ النقد حالةٌ إيجابيةٌ يجب أن تصبح شائعةً، لكن من موقع الحبِّ والرغبة بالإصلاح، وليس من موقع الحقد أو من موقع الرغبة بالحطِّ من شأن رجال الدين، ولا يجب أن ننظر إلى من يقوم بمهمَّة النقد بوصفه خصماً كما أكَّد سماحة السيِّد محمَّد حسين فضل الله قدِّس سرُّه على هذا المعنى مراراً في عددٍ كبيرٍ من المناسبات.

يقول بهذا الصدد:"رجل الدين هو الذي يملك ثقافةً دينيةً واسعةً، والتزاماً دينياً، ودوره ينطلق مما قاله الله للنبيّ: (ولذلك فادعُ واستقم كما أُمرت). ليس كلُّ ما يفعله رجال الدين يمثِّل الدين، علينا أن ننقد رجال الدين، حتى في أعلى الدرجات، كما ننقد رجال السياسة والإجتماع، ليس هناك معصومٌ عندنا في هذه الحياة. رجل الدين يفكِّر وقد يخطئ أو يصيب، وعلينا أن ننبهه إلى خطئه، ولا نعدَّ أخطاءه  حجَّةً على الدين. لا مقدَّس إلا الله ورسوله وأولياؤه الذين فرض قداستهم".

 

د. باسم الحسناوي

 

 

باسم الحسناويما الذي فعله السيِّد جمال الدين الأفغانيّ ليستحقَّ من النخب الثقافية في العالمين العربيّ والإسلاميّ كلَّ هذا التقدير والإجلال؟!.

هل ترك الرجل مؤلَّفاتٍ عظيمةً نستطيع أن نقيِّم فكره من خلال الرجوع إليها، أم أنَّ طلابه نقلوا إلينا أنه كان يحمل فكراً ضخماً فقط، وأنه لم يجد الظروف المواتية للكتابة والتأليف، فقاموا هم بنقل أفكاره، حتى أنَّ الشيخ محمَّد عبده كان يقول عن جميع ما كتبه في العروة الوثقى أنَّ اللفظ له، وأنَّ المعنى للسيِّد جمال الدين الأفغانيّ.

 وهكذا قل عن صاحب تفسير المنار الشيء نفسه، إذ أخبرنا بأنه ينقل الكثير من آراء السيِّد جمال الدين الأفغانيّ في هذا التفسير.

إنَّ السيِّد جمال الدين الأفغانيّ من ذلك النمط الذي يعطي زخماً للعصر في أن ينزع جلداً ليلبس مكانه جلداً آخر، وليختطَّ له مساراتٍ أخرى غير المسارات السابقة التي هي إمّا أنها أدَّت دورها في السابق، وأصبحت فاقدةً للفاعلية في مجال الوصول إلى الغاية في المراحل التأريخية التي تلت ذلك، وإما أنها كانت تمثِّل مسالك خاطئةً أصلاً، فلم تؤدِّ إلى أيَّة غايةٍ محمودةٍ على الإطلاق.

ولهذا فإنَّك لن تستطيع أن توجِّه اللوم إلى أجيالٍ تعاقبت من المبدعين والمفكِّرين الذين يشيرون إلى السيِّد جمال الدين بوصفه نقطة الإنطلاق المهمَّة في رسم الإتجاه الجديد للتفكير حول المشكل الحضاريِّ كلِّه داخل الأمة الإسلامية، من دون فرقٍ بين العلمانيين والإسلاميين، فإنهم جميعاً يؤكِّدون على أهمِّيَّته الإستثنائية في هذا المجال.

إنَّ حركة النهضة العربية والإسلامية في كثيرٍ من مجالاتها التنويرية لا يمكن أن تغفل ذكر السيِّد جمال الدين الأفغانيّ بهذه الصفة، كما انها تفعل صواباً إذ تضيف الحسنات التي تصيبها في المسيرة التي أعقبت وفاته إليه، بينما تتحمَّل وحدها وزر الإخفاقات التي تتورَّط فيها، لأنها لم تستطع أن تسير في الطريق الصحيح الذي حدَّد معالمه المهمَّة ذلك المصلح الإسلاميّ الكبير.

الشيء المهمُّ في هذا السياق أن نجري مقارنةً بين الشخصيتين، بين شخصية السيِّد جمال الدين الأفغانيّ والسيِّد محمد حسين فضل الله، لنرى هل إنَّ دور الثاني يقلُّ عن دور الأوَّل، أم انه يتفوَّق عليه في الكثير من المفاصل الرئيسة داخل مشروع الإصلاح والتنوير الإسلاميّ، مع ضرورة التنبيه إلى أنَّ غايتنا من إجراء هذه المقارنة، ليست هي أن نمجِّد شخصية السيِّد محمد حسين فضل الله، وهو الذي أصبح الآن في ذمَّة الخلود، ولا يمكن أن ينتفع من تمجيدنا بحالٍ من الأحوال، كما انَّ قدحنا فيه لا يمكن أن يؤثِّر فيه مثقال ذرَّةٍ على هذا الأساس.

المقارنة الأولى: الإحساس بالمعضلة الحضاريَّة:

 تلك حقيقةٌ صادقةٌ، وهي أنَّ الأمَّة الإسلامية كلَّها قد عاشت تداعيات القطيعة المعرفية والثقافية الطويلة مع عصور الإستنارة الإسلامية، لكنَّ المشكلة هي أنَّ هذه الأمة لم تشعر بقسوة هذه التداعيات عليها، حتى في اللحظة التي اكتشفت فيها مقدار الهوَّة الفاصلة بين المستوى المتخلِّف الذي تعيش تحت وطأته واشتراطاته، وبين ما بلغته الحضارة الغربية على صعيد ذلك البعد المدنيِّ المهمّ من الحضارة، من دون أن نغفل الترابط الأساسيّ بين البعدين المدنيِّ والروحيّ أو المعنويّ في كلِّ الأحوال، ولكنَّ الشيء الخطير بالفعل هو أنَّ الأمة إذ اكتشفت تقدُّم العالم الآخر عليها في المجال التقنيِّ والعلميِّ التطبيقيّ الذي كان في غاية الوضوح حتى بالنسبة إلى الأعمى الأصمّ، فضلاً عن البصير السميع من الناس، لم تفكِّر بجدٍّ في سبل تجاوز هذه القطيعة بوسائل مناسبةٍ توصلها بالفعل إلى تحقيق  هذه الغاية من دون التفريط بالجانب المعنويّ والروحيّ من الحضارة، حيث كان منسوبه في الحضارة الإسلامية عالياً بشهادة العديد من فلاسفة الحضارة الغربية المتفوِّقة في الجانب التقنيّ والتجريبيّ أنفسهم، فكانت ردَّة فعل الأمة في اتجاهين:

الإتجاه الأوَّل: ذلك الإتجاه الذي بقي مصرّاً على عدم أهمية هذا الجانب من الحضارة، وأنَّ المهمَّ هو أن تركِّز الأمة اهتمامها على ما لديها من التراث الروحي والمعنوي والديني، وأن تصون كلَّ ذلك من الخطر الداهم الذي تمثِّله التقانة الغربية الحديثة.

الإتجاه الثاني: هو الإتجاه المعاكس، الذي بالغ تماماً وما زال يبالغ إلى الآن باستغلال الإعتراف بواقع تلك القطيعة المعرفية ذاتها للدعوة إلى نبذ التراث كلِّه، بما في ذلك الدين نفسه، أو تفريغه من الجوهر الإيمانيّ القاضي بالإلتزام والتعبُّد على الأقلّ، كشرطٍ أوَّليٍّ للتخلُّص من حالة التخلُّف في المجالات المختلفة، ولم يقتصروا على الدعوة إلى تجديد المناهج أو العلوم بالإنسجام مع الروح العامَّة للحضارة العربية والإسلامية، بل أرادوها قطيعةً تامَّةً مع كلِّ جذرٍ حضاريٍّ لهذه الأمَّة، لاسيما الجذر العقائديّ والدينيّ، واستغلوا تلك الرؤى والتصوُّرات التي حكمت أذهان الفئة المتزمِّتة الأولى، فصاروا يبرهنون على أنَّ مشروع تحديث الأمَّة بالإنسجام مع الروح العامَّة لموروثها العقائديِّ والدينيِّ مشروعٌ يدعو إلى التهكُّم والسخرية على أساس ذلك.

 فكان الإتجاه الفاصل بين هذين الإتجاهين هو الإتجاه الذي اختطَّه السيِّد جمال الدين الأفغاني بالذات، حيث  دعا علانيةً إلى أن تنتبه الأمة إلى واقعها المتخلِّف، وأن تأخذ بأسباب التطوُّر في مجال التقانة والطبِّ والزراعة وما إلى ذلك، وأن تعيد النظر في الكثير من متبنيات الناس العقائدية مما توزَّعَتْه المذاهب الإسلامية المختلفة، وأن يوجدوا سبلاً للوحدة بدلاً من التشرذم الذي ورثته من القرون السالفة بسبب الإختلاف الموجود بين هذه المذاهب، وقطع السيِّد جمال الدين بالفعل أشواطاً معتداً بها في هذا السبيل.

المشكل الحضاريُّ ذاته، هو الذي عاناه السيِّد محمَّد حسين فضل الله وأحسَّ به بعمقٍ، في ظرفٍ لا يختلف كثيراً عن الظرف الذي اكتنف مشروع السيِّد جمال الدين، وهو الظرف الذي يشير إلى وجود شريحتين من المفكِّرين تتجاذبان مناطق الصراع:

الشريحة الأولى: هي شريحة المفكِّرين العلمانيين المتزمِّتين بين ملحدين وليبراليين وماركسيين وقوميين.. إلخ، وهؤلاء جميعاً كانوا ينظرون إلى الدين على أنه عقبةٌ كأداء في طريق بناء الدولة العربية الحديثة، وسواها من الدول التي وجدت في العالم الإسلاميّ.

الشريحة الثانية: هي الشريحة التي تنظر إلى الدين نظرةً متزمِّتةً متخلِّفة، أي انها تسقط تخلُّفها وتزمُّتها على الدين، فتكون النتيجة هي أن يكون الدين إما خارج منطقة الصراع أصلاً، وإما أن يكون محكوماً عليه بأن يعاني الخسارات والإنكسارات المتتابعة على الدوام.

 فكان الخطُّ الذي عمل السيِّد محمَّد حسين فضل الله ضمنه، وهو خطُّ السيِّد محمَّد باقر الصدر، فكان هذا الخطّ فلسفياً حتى النخاع، وحاملاً للهمِّ الإسلاميِّ من وجهة نظرٍ حركيةٍ خالصة، مضافاً إلى الإحساس العميق بأصل المشكل الحضاريّ، في البعدين المادِّيّ والمعنويّ، على صعيد مشكلات الأمة، وقد ساعد السيِّد محمد حسين فضل الله أن يمارس دوره بقوَّةٍ في تلك الفترة وجوده في وطنه الأمّ لبنان، لأنه لم يكن هناك مضطراً لأن يمارس أيَّ دورٍ من أدوار التقية كما هو واضح.

المهمّ هو أن نقول في هذا السياق أنَّ السيِّد فضل الله كان قطباً أساسياً من أقطاب الخطِّ الثالث المشار إليه، فكانت نقطة الإلتقاء الكبيرة بين مشروعه ومشروع السيِّد جمال الدين الأفغانيّ من هذا الجانب.

المقارنة الثانية: ترسيخ وعي المقاومة للإحتلال:

هذا هو المشترك الثاني بين الرجلين، فللسيِّد جمال الدين الأفغاىني يعود الفضل في بلورة الوعي المقاوم في تلك الفترات التي لم تكن فيها المجتمعات الإسلامية تملك وعي المقاومة على الإطلاق، مضافاً إلى أنَّ النخب القليلة فيها إما أن تكون غير معنيةٍ ببلورة هذا الوعي، كونها فاقدةً له على صعيد الذات، أو أنها عاشت تبعات التفكير بإحداث القطيعة، كما فعلت الكثير من النخب الثقافية التركية، حتى انتهت إلى ترسيخ المبدأ الأتاتوركيّ الذي انتهى بالوعي القوميِّ التركيّ مؤخَّراً إلى الرغبة بالإنسلاخ من الهوية الإسلامية من الأساس، وكذلك فضل الله، فإنه قام بدور ترسيخ الوعي ذاته في الظروف ذاتها تقريباً، فمن الواضح أنَّ النخب الثقافية العربية والإسلامية عاشت الإنقسام ذاته، ولكن بصورةٍ أشدّ، إذ إنَّ النخب الثقافية في الفترات التي اشتدَّ بها عود السيِّد فضل الله قد تسلَّحت بفكرٍ حداثيٍّ غير عاديّ، وباتت الكثير من الأفكار والرؤى والتصوُّرات التي لم تكن تحتاج كبير جهدٍ في السابق لتفنيدها وردعها، باتت بحاجةٍ إلى استخدام ترسانةٍ فكريةٍ وفلسفيةٍ غير عاديةٍ في سياق المواجهة الثقافية معها.

قد يقال إنَّ العديد من المفكِّرين قاموا بالدور ذاته من خارج الدائرة الحوزوية أو الدينية، فما بالك تركِّز على عمل السيِّد جمال الدين أو على عمل السيِّد محمد حسين فضل الله على وجه التحديد؟

الجواب: نعم، يوجد الكثيرون ممن قاموا بهذا الدور، إلا أنَّ تأثيرهم لم يكن كبيراً على مستوى توفير القناعة لدى الجماهير العربية والإسلامية، وهذا هو المهمّ، فمع الأهمية القصوى للأعمال التنظيرية التي يقوم بها المفكِّرون من خارج دائرة الحوزة، فإنَّ تأثيرهم على مستوى توفير القناعة لا يمكن أن يكون موازياً لأهمية ما يكتبون بالتأكيد، وتلك حقيقةٌ معلومةٌ للجميع ولا تحتاج في رأيي إلى البرهنة.

من هنا، فإنَّ الأهمية الكبيرة لفكر السيِّد جمال الدين الأفغاني، أو لفكر السيِّد محمد حسين فضل الله تنبع من هذا الجانب، وكذلك أهمية كلِّ مفكِّرٍ يمارس عمله التنويريَّ من داخل الحوزة أو المؤسَّسة الدينية على وجه العموم.

لقد نادت العديد من الحركات القومية بضرورة مقاومة الإحتلال الإسرائيليّ، لكن متى أصبحت ثقافة المقاومة ثقافةً شائعةً في أوساطنا الشعبية، أليس بعد أن تمكَّنت بعض المرجعيات الحركية، ومنها مرجعية السيِّد محمد حسين فضل الله، من التثقيف المباشر للمجتمع على ضرورة المقاومة باستلهام الدافع العقائديِّ والدينيّ، وقد ذهبت كلُّ الدعوات القومية في هذا المجال أدراج الرياح.

المقارنة الثالثة: التأثير في الوسط الثقافيّ النخبوي:

هذه هي النقطة الأهمّ، فلا يستطيع كلُّ مرجعٍ حوزويّ، أو كلُّ رجل دينٍ سنيٍّ أو شيعيّ، التأثير في تلك الأوساط، فهي عصيةٌ على التأثير من قبل رجال الدين في الحقيقة، لأنها طبقةٌ تعتدُّ بثقافتها وفكرها في مقابل الثقافة التي يروِّج لها رجال الدين، وهي ثقافةٌ لا تستجيب لمتطلَّبات العصر في رأي الغالبية منهم، ولهذا فإنَّ رجل الدين التقليديّ من الخير له أن يسكت أمام هؤلاء، كي لا تحملهم الإستهانة به على مخالفته في كلِّ مبادئه، وجلُّها حقٌّ في الواقع، إلا أنه لا يستطيع بسبب تخلُّفه الثقافيّ الترويج لها بثقافةٍ عصريةٍ رصينةٍ تكون مهمةً ومحترمةً في نظر هؤلاء.

لن تتأثر النخب الثقافية والفكرية إلا بالمرجع المفكِّر الحركيّ في الواقع، أي ذلك الرجل الذي يستطيع أن ينهض بمتطلَّباتهم وتطلُّعاتهم كلِّها بالإضافة إلى القيام بمسؤوليته الدينية والتعبوية.

هذا هو العنصر الرئيس في نجاح مرجعية السيِّد محمد باقر الصدر وتغلغلها في وجدان المفكرين والمثقفين في العالم الإسلاميّ، وهو العنصر ذاته الذي يعزى الى تأثيره نجاح المشروع الإصلاحي الكبير للسيد محمد الصدر، وهو ذاته العنصر الذي ساهم في نجاح التجربة المرجعية للسيِّد محمد حسين فضل الله كذلك.

المقارنة الربعة: الإشتغال على المعطى الفلسفيِّ الحداثيِّ الغربيّ:

ليس المهمّ الآن أن نركِّز على الموضوعات الموروثة من علم الكلام القديم، بل يجب الإشتغال على الموضوعات والمحاور الجديدة لعلم الكلام الجديد، هذا هو المهمّ، فلك أن تناقش عشرين أو أربعين عاماً كلَّ مباحث علم الكلام التقليديّ، وأن يكون لك الباع الطويل فيها، ولكن عليك أن تعلم أنَّ جهدك هذا لا قيمة له في الواقع، إلا من الناحية الأكاديمية الخالصة، فمن سمة هذه المباحث أنها لا تقدِّم حلولاً واقعيةً للمشكلات النظرية والواقعية المطروحة، فتكلِّف نفسها وتكلِّف القارئ جهداً كبيراً لا تكون حصيلته إلا الإبتعاد عن المشكل النظريِّ أو الواقعيِّ المطروح.

إنَّ السيِّد جمال الدين الأفغانيّ أحدث نقلةً كبيرةً في هذا المجال في محاور العروة الوثقى، وكذلك فعل طلابه الذين ساروا على دربه، مع أننا لا نملك وثيقةً تشير إلى انخراط السيِّد جمال الدين في التأليف ضمن هذا المجال، إلا تلك الوثيقة الصغيرة التي تحمل عنوان (الردّ على الدهريين) فقد أبدى فيها مسامحةً كبيرةً تجاه الكثير مما كان يطرح في ساحة الجدل العلميّ، خاصةً ما يتعلَّق بنظرية دارون في النشوء والإرتقاء، فبيَّن أنَّ الإعتقاد بتلك النظرية على فرض صحتها وعدم نهوض الأدلة والبراهين العلمية في الحاضر والمستقبل ضدَّها، فإنها لا تنفي معقولية الإيمان بوجود الخالق، بل على العكس، فإنَّ التفسير الفلسفيَّ لها سائرٌ في خطِّ الإيمان ذاته.

المهمُّ أن نقول إنَّ السيِّد جمال الدين الأفغانيَّ فتح الباب واسعاً أمام خوض هذه التجربة، وهي الإنفتاح الجديّ على الكثير من المعالجات النظرية المبتكرة في حقل علم الكلام الجديد، الذي لم يكن معروفاً بهذا الإسم إلا في أيامنا هذه، فكانت خطواته وخطوات مريديه تأسيسيةً في هذا المجال.

وقد فعل الشيء نفسه السيِّد محمد حسين فضل الله من موقعه المرجعيّ، وهذا هو ما يمنحه الخصوصية، فكانت أغلب محاور كتبه تصبُّ في هذه الغاية، حتى عندما يجيب على الإستفتاءات الفقهية الخالصة، فإنه سرعان ما يتَّخذ حديثه سبيل التنظير الفلسفيِّ والمعرفيِّ والكلاميِّ الذي يصلح لتزويد المسلم المعاصر بترسانةٍ مهمَّةٍ من المفاهيم والإصطلاحات والأفكار، حيث تركِّز التلقي العقلانيّ للشريعة، وتبتعد به عن مواطن الخرافة والفهم السطحيِّ الساذج.

المقارنة الرابعة: الهدوء والبساطة وعدم التهاتر مع الخصوم:

وهذه نقطةٌ أخرى تلتقي من خلالها الشخصيتان موضوع المقارنة، فلا يكاد القارئ يلمح شيئاً في التراث المكتوب عن السيِّد جمال الدين الأفغانيِّ يشير إلى أنه كان يحبُّ الإنخراط في المهاترات الفارغة مع الخصوم، بل إنه كان يتجنَّب كلَّ ذلك بأن يتغافل عنه بشكلٍ تامّ، حتى لكأنَّ هذه الشخصية الإشكالية لم يكن لديها خصومٌ على الإطلاق، وهو الذي خاض غمار التجديد على الصعيد العلميّ والدينيّ، كما يُعدُّ أبرز من تصدّى للعمل السياسيِّ المعارض للإستبداد الداخليِّ والإستعمار الخارجيِّ من بين مفكِّري عصره، إلا أنه كان يتمتَّع بهذا الخلق الذي وفَّر عليه الكثير من المتاعب في الحقيقة، وساهم مساهمةً فاعلةً في نجاح مشروعه، كما كان يتمتَّع بشخصيةٍ أريحيةٍ وجذابةٍ مع العلماء من كافَّة المشارب والمذاهب والأديان، وكان يحظى باحترام خصومه من جميع الأطراف بسبب ذلك.

وكذلك السيِّد فضل الله، فإنه لا يختلف عن السيِّد جمال الدين الأفغانيّ في هذا الجانب، بل كانت شخصيته أقرب إلى التحلِّي بهذه الصفات كلِّها، مع التركيز طبعاً على أنه كوَّن جيلاً من المريدين الكبار عن طريق هذا التأثير أكثر من التأثير والإنتشار اللذين حقَّقهما السيِّد جمال الدين الأفغانيّ نفسه.

 

د. باسم الحسناوي

 

ظريف حسينإن أكثر أربع نظريات تأثيرا في تاريخ العلم صاغها ملحدون، كما أدت بدورها إلى دعم الملحدين، برغم أن فصل التفسير العلمي عن الاعتبارات الدينية يتم في ذهن العالم بطريقة تلقائية، وهذا لا يعني بالضرورة أن العلم يتناقض بصفة عامة مع الدين، ولكن طبيعة العلم نفسها هي التي تفترض تفسير الظواهر بظواهر أخري فقط لا غير.

وسنعرض لأهم وأقدم هذه النظريات كما يلي:

1- نظرية التطور:

وتتلخص في أن حياة الإنسان الفرد هي تكرار أبدي لتطور النوع البشري علي مدار التاريخ، أي أنه بدأ بخلية واحدة وارتقي ليصبح في النهاية إنسانا مارا بكل أشكال الحياة الحيوانية الأدني منه في الرتبة.

و لقد سببت هذه النظرية أكبر صدمة للمؤمنين بالله، أي الذين يعتنقون نظرية الخلق الواردة في الكتب المقدسة، من كل الملل والنحل السماوية ظنا منهم أنها تتضارب مع الاعتقاد بأن الإنسان مخلوق علي صورته الحالية، طبقا لما جاء في العهد القديم اليهودي، وليس مجرد كائن حي متطور عن الأحياء الدنيا كما قرر دارون.

ولكن هؤلاء المؤمنين قد لا يمكنهم جحد الأدلة العلمية التي قدمها دارون تصديقا لما قال، وخاصة الحفريات، وعلم الوراثة الجزيئية، وعلي الأخص الچينوم البشري علي صدق نظريته.

2-النظرية المادية التاريخية:

وهي المعروفة بالماركسية وملخصها أن طريقة حياة الإنسان أو ثقافته يصنعها عمله ودخله فقط، وبالتالي فإن الاقتصاد ومستوي معيشة الناس هو الذي يحدد طريقة تفكيرهم. وليس العكس: أي أن نوع العمل وأدواته والأشكال القانونية التي تضمن وجوده مثل الاتفاقيات والتعاقدات والقوانين المنظمة للعمل.. هي التي تحدد مكانة الناس في مجتمعاتهم، ومكانة المجتمعات نفسها في العالم، أي تحدد مدي سلطة كل منهم علي الآخرين.

وهذا يعني ببساطة أن الإنسان طبيعته مادية، وبناء عليه فإن الإقتصاد هو الذي يحدد نوع السياسة والنظام السياسي...،

وبصفة عامة تصبح الثقافة بكل أشكالها وأرفعها مقاما وقداسة مرهونة بالمستوي الاجتماعي الذي هو بدوره مرهون بالمستوي الاقتصادي للناس.

ومن الواضح هنا اشتراك هذه النظرية مع نظرية التطور لدارون في اعتمادهما معا علي التفسير المادي الطبيعي فقط، أي علي اكتفائهما بالتفاسير المادية، أي الطرائق العلمية لوصف التحولات الحيوية والاجتماعية، علي الترتيب، وتجنب كل ما يتعلق بالأديان وخاصة ما يعرف عادة باسم "الروح" والنظر إلي كل ما ليس "ماديا" علي أنه شكل أعلي من أشكال التحولات المادية، ومن ذلك الدين والأخلاق والفن... وبالاختصار:كل أشكال الثقافة وأرفعها قيمة في نظر الشعوب المثالية والمقدسة.

3- نظرية التحليل النفسي:

وتتلخص نظرية فرويد في أن الحياة النفسية للإنسان محكومة ببنية مادية لا بمنطق روحي غيبي علي الإطلاق؛ فالطاقة النفسية - ككل أشكال الطاقة-ذات طبيعة مادية، وهي عبارة عن غريزة لها دافعان متصارعان أحدهما إيجابي وهو "التمسك بالحياة" والآخر سلبي وهو "الخوف من الموت"، وأن كل شيء في حياة الفرد محكوم بهذين الدافعين الرئيسين.

ولقد قرر فرويد أن يؤسس تفاسيره للعمليات النفسية علي أنها عمليات مادية بحتة، يحكمها أيضا منطق مادي له صورتان:

الأولى: شكل من أشكال "قانون بقاء الطاقة".

والثانية: هي قانون نفسي يعد ترجمة نفسية مباشرة للصورة الأولي مؤداه أن "كل شيء لا بد من أن يعبر عن نفسه وإنجاز وجوده باحدي الصور المتاحة، وأنه إذا استحال عليه ذلك بالطرائق الطبيعية للإشباع في تاريخ إشباعها الطبيعي، فإنه سينشأ المرض النفسي الذي يسميه بـ" العصاب" الذي قد يأخذ منحي أكثر حدة، أي صورة "ذهان" أي اضطراب عقلي.

وأن كل هذه التصرفات إذا لم تتم تحت رقابة الوعي فإنها ستتم حتما في غيابه، أي سيتم إشباعها والتعبير عنها بطريقة "لا واعية" وهذا التعبير يعتمد علي محتويات الوعي، أي علي مضمون الثقافة. وكل ذلك محكوم بـ"حتمية نفسية"، بمعني أن كل شيء نفسي محكوم بإجراءات صارمة لا يمكن أن يحيد عنها وإلا نشأت الأمراض أو الانحرافات التي هي أعصبة نفسية وربما عقلية.و بذلك يكون فرويد قد استورد قانوني بقاء الطاقة وقانون بقاء الكتلة من عالم الفيزياء إلي عالَم النفس.

وتستبعد هذه النظرية النفسية كل ما يعده المؤمنون من مظاهر الروح أو النفس التي هي - في نظرهم - من أصل غير مادي، أي مستقلة عن الجسد. فالنفس طبقا لهذه النظرية المادية مجرد مجموع وظائف المخ الواعية وغير الواعية بنفسها، أي مجرد مظاهر للوظائف العليا للمخ وخاصة مراكز الفكر والعواطف.

وكان من نتائج هذه النظرية تفسير الأمراض النفسية والعقلية بوصفها مجرد ردود أفعال لتعويض النواقص في إشباع الرغبات المادية في مراحل الحياة الباكرة، طبقا لقانوني "بقاء الطاقة" و"الحتمية النفسية"، كما قلنا، أي ضرورة إشباع الحاجات النفسية الحيوية بطرائق معينة وفي تواريخ محددة.

و برغم التعديلات التي طرأت علي هذه النظرية سواء من فرويد نفسه أم من تلاميذه ونقاده، فإنها حققت نجاحا ملحوظا في فهم النفس البشرية، ويظل النهج المادي في تفسير الظواهر النفسية بصفة عامة هو أبرز نقاط الاتفاق بينها وبين طب المخ والأعصاب الحديث.

4- النظرية النسبية:

وهي النظرية التي استطاع بها آينشتين القضاء علي أشباح المطلق المادي في الكون ولكن المثقفين الذين تلقفوها وظفوها كعادتهم توظيفا عاما ومطلقا، وفي كل المجالات.

و أهم ما في هذه النظرية هو أننا يمكننا السفر عودة إلي الماضي الذي كان مستقبلا في يوم ما، وبذلك يقبل الزمان الرجوع للخلف.

و لكن العائق الأوحد لإنجاز ذلك السفر هو غياب وسيلة المواصلات التي تمكننا من الانتقال بسرعة الضوء علي الأقل.

وما أود أن أقوله هنا هو أن الطبيعة لا تعطي علمها إلا للعالمين بقوانين عملها فقط. وبذلك كانت الطبيعة في النظريات الأربع السابقة مستقلة تماما عن معتقداتنا الدينية التي لم تعد مكونا من مكونات معارفنا؛ فكوننا مؤمنين أو ملحدين ليس له أدني علاقة بمكانتنا في العلم ولا في العالم!

وكذلك الأمر في مجالات السياسة والاجتماع...؛ فلا بد من أن تكون في كل ذلك علمانيا لتفلح في فهم الأشياء وتسييرها طبقا لقوانينها التي أودعها فيها بارئها، أي أنه لا محيص لنا عن الفصل بين المناهج العلمية والعقائد الدينية، فعندما نمارس العلم وأي نشاط إنساني آخر، فلابد من الرجوع إلي قوانين الله في الطبيعة وليس إلي الله نفسه، بغية التحكم في الطبيعة، وإلا حجزنا مقاعدنا في قطار التخلف الذي لا يسير أبدا إلا إلي الوراء!

 

د. ظريف حسين

أستاذ ورئيس قسم الفلسفة بجامعة الزقازيق - مصر

 

سامي عبد العالحجمُ الإهانةِ داخل أيِّة ثقافةِ متعثرةٍ لا يتم باجترار كهوفها المظلمة ومواضِع التخلف فيها، إنما بإفشال إمكانية نقد وغربلة الأسس القائمة عليها، والحيلولة دون فهمِ الأحداث والقضايا فهماً حقيقياً. والإهانةُ ليست أخلاقيةً هنا، لكنها معرفية، لأن الأخلاقيات لدينا تنفذُ إلى كافة المستويات وتتشكل بأكثر من وجوه، ليس أبعدُها أنْ تقلل من شأنك، لكن أقربها أنْ تستنفدَ وجودَك وعقلك.

هذا هو الحاصل ضمن بعضِ ثقافتنا العربية بامتياز تاريخي، على سبيل المثال فكرة "السمع والطاعة" إلى حد الخنوع والإذلال (وهي فكرة سياسية) قد تأخذُ وضع المعرفة الواثقة، بينما جذرها هو المعنى القائل: ليس في الإمكان أبدع مما كان، حيث يتواطأ الفعل السياسي والديني والاجتماعي. أي إبقاء الأوضاع على ما هي عليه، كأنَّ هناك قائلاً يقول: لا تقترب أيها المثقف(أقصد المثقف الحقيقي) مما نعتقد، كُن بعيداً بقدر ما لا يبلغُك سوطُ اللعنة. لو اقتربت، فرّدُ الفعل لن يكون متوقّعاً، الرد من أطراف( متناقضة) في وقت واحدٍ.  صحيح أن التشكيل غريب، بيد أنه يحتاج تاريخاً من التحليل والتفكير، كل آفاق اشكالية لا تُعطي نفسها لأول وهلة، إنما تتمنّع عن الظهور والانفكاك لدرجة الاستحالة.

إذن المثقف منبوذاً، مطروداً، كالجمل الأجرب في الحياة العربية هو واقع الحال. النبذ نوع من الترك والطرح بَعيداً دون اهتمامٍ، مصير هو الإقصاء والابعاد بسبب معنى غير قابل للمهادنة. والنبذ عادةً نتيجة التجرؤ على ما يمثل شيئاً ذا بال، ولا نقبل النّيْل منه في الأفق العام. تحمل دلالةُ الكلمة جوانب الازدراء والهُجران وتترك نكهةً لاأخلاقية بعد سماعِها. كأنَّ المنبوذ قد ارتكب ما يستحيل التسامح معه. وبالقرآن جاء اللفظ في سياق التنابذ بالألقاب ربطاً بالفسوق بعد الإيمان(الأخلاق+ المعرفة+ الاعتقاد). إذن من يحمل المعنى يغدو مفعولاً به جمعياً في المعجم العربي، أي أنَّ النبذ نتيجة عامة وليست خاصة بحالٍ. وهذا هو "مصير المثقف الحقيقي" منبوذاً إذا فكَّر بجديةٍ، أنه المَرْمِي هناك بأي مكان، فقد يقرنه البعض بالعزلة نتيجة اهتماماته الخاصة، لكن الرمي فعل مقصود (الاهمال) إزاء حالة عامة (تراكم الثقافة).

حيث ثمة فوبيا من انتقاد الموروثات الفكرية الرائجة، ويتجنب المثقف طوال حياته ذلك، لدرجة أنَّه تجري ملاحقة من يقول شيئاً مخالفاً، فهو المتهم سلفاً قبل أي شيء آخر. وسيكون عليه أنْ يدفع تهمة لم يرتكبها وجريمة لم يقترفها، وهي: انتهاك كيان الأمة والتسبب في ايقاع الأذى بالسلف والخلف وبالمقدسات الحيّة والميتة. إنَّها حالة الرفض الكلي الذي يترصد الكُتاب والأدباء والباحثين الجادين مع النتائج المترتبة على ما يطرحون فكرياً وسياسياً.

لقد شكلّت المحرمات الثقافية - باتساعها- لعنة تصيب كل من يقترب. لأنَّ قداستها غدت فخاً يُدمي أقدام كل مستكشف قادم، لمجرد أنَّه يطّأ أرضاً لم يسر عليها الآخرون. هكذا تورط المثقفون في معركة أشبه بمعارك طواحين الهواء التي لا تنتهي. فهم يحاربون ظلالَّهم الكئيبة نتيجة تداعيات القضايا الفكرية بهذا التوصيف... مثل قضية الأصالة والمعاصرة أو قضية تحديث المجتمعات العربية أو قضية قراءة التراث أو قضية ابداع انسانية كونية عامة. والأنكى أنْ تستدير الظلال الهاربين منها لتحل محلهم .. فتقوم الثقافة مرةً أخرى بمطاردتهم (دائريةُ عودٍ على بدء). لكن: كيف يُحال دون الظلال المشوِّهة للمثقف بكل عنفٍ؟! ما طبيعة الثقافة التي تأكل أبناءها؟! ولماذا تنقلب إلى جحيم دنيوي؟!

إذا تصورنا القدرة  النقدية خروجاً عن الثقافة المتراكمة، فلتكن قدرةً لتطوير المهام التساؤلية والفكرية لكل مثقف مبدع إزاء مشكلات المجتمع وظواهره. وهذا سبب محاصر المثقف داخل زجاجة مغلقة، بحيث لا يقترب من المحظورات الاجتماعية. ومن ثم ينهض أتباعُها دفاعاً عنها (من غير معرفة أبعاد الموضوع). ذلك لكون ارتباطهم بإنتاج الثقافة يؤكد وجودهم ووجودها معاً. أحياناً يدخل الناسُ معركة (الأفكار الجديدة) ظنّاً منهم أنها معركة حياةٍ أو موتٍ، بينما هم الخاسرون قبل أنْ تبدأ، وأنَّ الطرف المقابل ليس هو دائماً الخصم الصحيح. لأنه لابد في المعارك الفكرية من الوعي الخصب بما يجري ومعرفة أبعاد المسألة قبل البدء في إطلاق  عبارات النفير.

فقد يظهر مثلاً التواطؤ بين الإسلاميين المتشددين والثقافة الشائعة على نبذ المثقفين. حيث توجد مصالح مُشتركة كانت ممتدةً ومازالت بين الطرفين. في الحقيقة كانت زواجاً بين التدين الشعبي وحالة الذهنية الشائعة بميثاق سياسي غليظ. لأنَّ السياسة - في  تاريخ المجتمع العربي- لم تكن لتضمن الولاء إلاَّ بضمان هذين (التدين والذهنية الشائعة). فكم خدم الإسلاميون أيةَ سلطةٍ سياسيةٍ استبدادية بقدرِ خدمات الناس العاديين لها.

ذلك بالرغم من الصورة المنتشرة عن محاربة الارهابيين للسلطة القائمة وأنَّ الأخيرة تحاول تطهير البلاد والعباد من رجسهم الشيطاني. إنَّ الفكرة هي قمة الزيف الذي انكشف بجلاء في التاريخ القريب، عندما تعايش الاثنان في مصر طوال السنوات الماضية. حتى افسحت الأنظمة السياسية للمتشددين البرلمان كجماعة الإخوان المسلمين والسلفيين. ثم وجدناهم وقد اخذوا السلطة نفسها بعد الربيع العربي في أكثر من دولةٍ عربية. وشكلوا الرهان الغالب في عين الغرب للملمة قطعان الثوار وهوام الفوضى التي كانت بداية للعيان.

براجماتياً في الواقع، لم تكن ثمة خصومة بين الجماعات الارهابية والأنظمة السياسية الديكتاتورية أيضاً إلاَّ بصدد الوسائل فقط. السلطة القمعية تبلغ مآربها باحتكار العنف باسم القانون والشرعية السياسية ذات الآليات الحديثة، ثم تغلفها بنصوص اللوائح وطقوس العقوبات السياسية والقانونية البراقة. بينما يمتلك الاسلاميون – كما يظنون- مشروعية العنف بقرائن دينية وبآليات عنف مبررة مرحلياً. الفارق أن السلطة لها الغلبة بموجب المُؤسسات ومواقع الحكم في حين لا يجلس الآخرون (الذين تطاردهم لذات الهدف) داخل المؤسسات.

الأخطر أنَّه لو كان هناك صراع بينهما (السلطة- الإسلاميون) فليس لصالح الشعب إنما كان جرياً وراء كرسي الحكم. وكل مبررات تساق في هذا المجال لا قيمة لها إطلاقاً إذا لم نأخذ بالحسبان هذا الجانب غير المطروق. وذلك ما يجعل غالبية الناس البسطاء هم وقود الصراع المشترك كذلك. ولذلك يتناوب الإسلاميون والسلطة الحاكمة اللعبة الشهيرة بينهما: "تديين السياسية وتسييس الدين" حتى أخر رمق.

فرأينا السياسيين يلتحفون عباءة الدين بالمناسبات العامة وغيرها. يغتنمون الفرص تباعاً لتدجين الشعوب العربية بمطارق الدين الناعمة (فالدين يوازي الصلاح والإخلاص والطاعة). ولكن نظراً لخشونة الإرهابيين، فإنهم يعلنون نواياهم على الملأ مباشرة دون مواربة. وإذ ظلوا يرددون أنهم يقصدون وجه الله حتى سقط القناع – أثناء الربيع العربي وبعده- باعتبار دولَّهم إسلامية. وحتى أصبحت الخلاقة مثل القناع الأكبر الذي يضم كافة الوجوه الاخوانية والسلفية وغيرها. إلى درجة أن التحدي الجسيم لكل فكر عقلاني هو: كيف يستطيع اقتلاع هذا التصور من الأدمغة؟!

كم يخرج رحال الحكم ليعلنوا على الملأ أنهم يخشون الإرهاب تحت مظلة الدين. وبالمقابل يعلن الارهابيون أنهم يحاربون من يحارب دين الله. ويستهدف الاثنان التهام رؤوس القطاع العريض من الناس. وإذا حدث نبذ للمثقف ومطاردة له، فإن الأخيرة مطاردة مزدوجة. الإسلاميون يفعلون ذلك لحماية المقدسات ثم يتضامن معهم السياسيون بالصمت المريب. والأنكى أنْ يفتحوا لهم المؤسسات القضائية الحداثية لإقامة دعاواهم ضد المثقفين. ويدخلها الإسلاميون بثقة منقطعة النظير بضمان التعاطف الشعبي دفاعاً عن دين الله. ولخداع الناس أيضاً من زاوية أنهم يحترمون اجراءات القانون وأصول الدولة المدنية. بينما هم ينتظرون الفرصة المواتية لتقويضها والانقضاض على السلطة. على الجانب الموازي يبتهج السياسيون كثيراً. لأن الاسلاميين سيخلصونهم من مصادر الازعاج (المثقفين) وبخاصة إذا لم يستطيعوا ترويضهم.

إذن هناك ازدراء صامت (ومتبادل) في صلب كل اتهام للمثقفين والأدباء بالتطاول على المقدسات. لم يكن لتهمةٍ أن تبحث عن مجرم وهمي إلا بإيعاز من كراهية شاملة (من العامة والإرهابيين والسلطة السياسية). فالمثقف الحقيقي كائن منبوذ إلى حد الرجم في المجتمعات العربية، لا محل له من الاعراب. أصلاً يقال: ماذا يقدم؟ هل سنأكل من عمل يديه؟ ما أهميته هنا أو هناك؟ ألاَ يمثل خطراً سياسياً؟ إن تلك الأسئلة المفترضة - كلما أدلى برأي أو طرح تحليلاً أو اخذ موقفاً- تنطلق تلقائياً من جميع الاتجاهات المذكورة.

كل ازدراء تجاه أي شيء يهون أمام ازدراء المجتمع بجميع أطيافه المختلفة للمثقفين. لقد تركهم يتسولون لدى الحكام ووضعهم خارج حساباته. ولذلك ما كان لأي إرهاب أنْ يتصيدهم (كطعن نجيب محفوظ وتكفير نصر حامد أبو زيد مثلاً) دونما أخذ الاشارة الخضراء من المجتمع. كما أن هذا الارهابي بلغ مكانته عن طريق خيول الفتاوى والخطاب الديني وثقافة الدهماء. الإرهاب يعشعش بجميع أشكاله في أحشاء اجتماعية متخلفة كانت لها الغلبة إزاء أي فكر نقدي. وحتى لو كان المثقف صاحب انجاز حقيقي، فلن يجد موضع قدم مقارنةً بخطاب ديني متشدد يسلب عقول الناس مقابل وعدهم بالنعيم والحور العين.

هكذا فالأسوأ أنَّ المثقف لا يلاحقه الارهابيون والساسة فقط، بل القطاعات العريضة من المجتمعات العربية أيضاً. وبالتالي كل اتهام له يصبح ثلاثي الأبعاد بصرف النظر عن ماذا يكون: اسلام سياسي كان يدفعه إلى المحاكم ويحاول إهانته وقتله، ثم يتلاعب به النظام السياسي، فيقف الناس له مهللين!! هذه المأساة جعلت التواطؤ السالف كماشة تقتل كل ابداع فكري وثقافي.

إن المشكلة لن تنتهي إلاَّ بنقض محددات الثقافة ذاتها، نسفها من الجذور التي تسمح بتضامن المتناقضات وتواطؤها على السطح إزاء الفكر. بحيث أن اتساع الهوة يبقي منظوراً بين هذه الأطراف، لكن سرعان ما تجتمع للاتفاق البراجماتي فوق جثة المثقف.

والتهمة الجاهزة (ازدراء الاديان وخلخلة المجتمع وتكدير السلم العام)، كانت بهذا المثلث نوعاً من التنكيل بأي مثقف يفكر بصورة مختلفة. لأنَّها تهمة تبحث عنه بثلاثة مقابض (المجتمع والدين والسياسة) أينما ذهب. كما أنها تركت بموجب القانون عصا غليظة في يد الناس لانزال العقاب الجماعي به لو أحيل إلى المحاكمة. وذلك يفسر أنه كلما تثار قضايا نقد النصوص التراثية تذهب إلى القضاء فورا بمباركة السلطة. وفي النهاية يزعم الإسلاميون دفاعهم عن هوية الأمة. وكأن تلك الهوية هي الصليب الذي يُعلق عليه المثقف، حتى تترك جثته في العراء لأكلي الجيف من البشر. رغم أننا تجاوزنا عصر الهويات القاتلة كما يقول الأديب اللبناني أمين معلوف. وحينما يسمع الإنسان العادي بالخطورة القائمة على هويته ينطلق للدفاع عنها بأنيابه ومخالبه.

وبالتالي سيستّحِل أي إنسان عادي دماء المثقف مصمماً على أخذ الثأر بنفسه. والحقيقة كما رأينا مع نجيب محفوظ فقد قام بطعنه شاب جاهل ثقافياً. لم يقرأ كلمة واحدة من كتاباته ولا يعرف من هو محفوظ ولا أهميته ولا حتى كيف يتجرأ على قضايا الدين. وبالتالي لم يعرف قيمته الأدبية في تاريخ الرواية. بل كانت تلك  الأفكار بالنسبة إليه هلوسات لا قيمة لها.

لقد صيغت تهمة "ازدراء الأديان" التي توجه للمثقفين لإشباع نهم السلطة والاسلاميين والناس العاديين من دمائهم. إنَّ سك الازدراء بوصفه انتهاكاً للموروثات يعني تطويقاً لكل محاولة تفكر في المعتقدات الجمعية. وحينما تتكيف كلمة الازدراء مع القوانين والدساتير، فهي تهدم أسس الدولة المدنية. لأنه ليس ثمة شيء في الدولة الحديثة اسمه انتهاك المقدسات. إلاَّ إذا تمَّ تسييس ما لا يُسيَّس كما أشرنا. والتهمة مجهلَّة " القادر" على اقامتها من جهة الحق والإمكانية والقبول والتبرير والمعاني حتى. وبالتالي تصبح اللغة كخطاب  من هذا الصنف سلاحاً في يد كل من يريد ملاحقة المثقفين والأدباء رغم تفاهتهم في حالات كثيرة.

لقد أمست تهمة ازدراء المقدسات خارج حتى القانون. لأن وقعها الاجتماعي والديني أكبر من دلالتها قانونياً. ذلك والإسلام السياسي كان قد نحج في خلط الأوراق مسرباً قناعاته إلى الرأي العام كما في مصر والأردن مثلاً. وربما لو دققنا النظر فليس ثمة فارق كبير بين الإرهاب وهذا الوعي الصامت. فمن أين خرج الدواعش؟ لماذا يجند الاسلاميون أتباعهم بسهولة على النت ومن دور العبادة؟ حتى جاءت تهمة ازدراء الأديان مرادفة للكفر، لأنه لا يتم مناقشته وتحول من مجال المعرفة والتساؤل والنقد إلى مجال الدين. ولهذا لم يكن ليقيّم أحدٌّ أعمال الكتاب والمثقفين ويرد عليها إنما يكفرونهم مباشرة.

والتقييم الديني على النوايا في ضوء ثنائية الكفر والإيمان يغالب أيَّ تقييم فنيٍّ داخل هذا المناخ. كما أنَّ التواطؤ الثلاثي السابق (الاسلاميون- السلطة- الناس) يُعْلي نبرة التشفي تجاه المثقفين. حتى أنه يمكننا اعتبار تهمة ازدراء الاديان المجاني قتلاً لا إنسانياً لهم. وفوق ذلك تغذي التمادي في تناولها بالأوصاف اللاأخلاقية، وأساسها هو كراهية التغير والمشاركة في حالة من التفكير تجاه الواقع وأزماته.

 

سامي عبد العال

 

سامي عبد العالعلى مستوى الفلسفة، لا يأتي تكوين التساؤل الكلي في ثقافةٍ ما(كأسئلة الماهية– المعنى– الحقيقة- الإنسان) جُزافاً، فتشكيله يتعيّن كمعطى وجودي أصيلٍ للعصر الذي تعيشه. حتى أنَّ تَمَيُز التكوين يتمُ تبعاً لبناء الرؤى الفلسفية خلال هذا العصر (حيث يجمعنا كونياً بالآخرين). قد نسميه الحضارة الإنسانية إجمالاً بقدر ما نُسهِم لا بقدر ما نستقبل فقط، وربما في غير سياق نُطلق عليه ظواهر عالمية خارجَ أفقنا الفكري. والتكوين معناه: كيف نبتكر الرؤى وكيف تتخلَّق ثقافياً؟ إذ سنكتشف أعماقنا الفكرية في إطار إنساني كوني، وإلى أي أساس نستند؟ وكيف سنُعبر عنها؟

لنلاحِظ أنَّ وجود المفكر الأصيل صاحب الرؤية ليس خبط عشواء، هو يلتقط بكل دأبٍ ما هو مشترك بين عناصر الإنسانية، وإنَّه لكي يصبح قادراً على الإبداع، لابد أنْ يخرج من دائرته المحدودة. أي لن يعود محليّاً على غرار زَمّار الحي (وحتى زَمّار الحي لا يُطرب عادةً). وأمام هذه المرحلة، ليس الأمر سهلاً كذلك، فلا يكون مفكراً كما نعتقد إلاَّ إذا كانت أسئلتُه الجوهرية مؤثرةً على نطاق واسع، مما يقتضي فهماً لروح العصر والقضايا الحيوية وابدع المفاهيم والقدرة على طرح المختلف.

بعبارةٍ أوضح كان للمفكرين أصحاب الأسئلة الأصيلة تأثيرٌ في الثقافات الإنسانية التي هي راهنة ومستقبلية بالوقت نفسه. على سبيل التوضيح كان ابن رشد شفرةً فلسفية لعصره ولعصور تالية، لقد ترك الرشدية اللاتينية بأصدائها البالغة في أوروبا. فلم يكن شارحاً محايداً للفلسفة اليونانية، لكنه ترك بصمات دلالية في التركيب اللغوي للنصوص الكبرى التي تعامل معها. فالترجمات والشروح هي ضيافة النصوص وتحميلها بالكرم الفلسفي والتأويلي الذي ظل معها إلى الآن. أي إعادة كتابة وخلق للنص في رحاب ثقافةٍ هي ثقافة الشرق، لدرجة أنَّ الفلسفة الغربية نهلت من الكرم الشرقي في صورة مفكريه ومازالت. وكذلك مارتن هيدجر لم يكن فيلسوفاً عارضاً، بل كان أثراً فذاً لعصر كامل من الإبداع الفلسفي ونقد الحداثة وتحويل عقارب الفكر نحو ما بعد الحداثة. ليس ثمة فلسفة ما بعد حداثية لم تمر بأسئلة هيدجر سلباً وايجاباً حول التقنية والإنسان والفن واللغة والنصوص والحقيقة والشعر والمعنى الأصيل للوجود.

دوماً السؤال الخصب فلسفياً مسكون بهذا التطلع نحو الكوني، أي لا يفقد نبرة التعميم إلاَّ وقد فقد إمكانية تأثيره. ولاسيما أنَّ الفكر الأن لم يعد حكراً على مساحة جغرافية من العالم. إنَّ جغرافيا العالم ليست هي الأقاليم الجيوسياسية فقط، لكنها أيضاً جغرافيا العقول المشاركة في إنجاز الأفكار الكبرى والاتجاهات والنظريات النقدية والفكر الفلسفي. ونحن كقاطني كوكب الأرض إنْ لم نكن لنسبق إلى الجديد، فعلى الأقل ينبغي أنْ نتزامن فكرياً مع الآفاق نفسها.

أيضاً السؤال الفلسفي من خطورته إنَّه يحرك ما هو قديم. بمعنى أنك تستطيع بسؤال مبتكر تجاه التراث أنْ تستنطقه وتعيد إبداعه. فالزمن لا يُبلي الأسئلة أيا كانت، إنَّما قد يأكل الإجابات الواحدة تلو الأخرى. فلقد رأى الغربُ في الفلسفة اليونانية جذراً لأصوله الثقافية، اتصلت أسئلة أفكاره بالجذور القديمة للمجتمع الأوروبي. ولم يأتِ أيُّ فيلسوفٌ راهن ولا حديث دون أنْ يشتبك مع تلك الجذور البعيدة وصياغة تحولها المستقبلي. ثمة أسئلة حديثة ومعاصرة كانت تُطرح باستمرار على أفلاطون وأرسطو. وهما الفيلسوفان اليونانيان، لدرجة أننا لا نستطيع احصاء كم "عدد أفلاطون" وكم "عدد أرسطو" قد واصلوا حياتّهم الأوروبية إلى الآن!!

أزعم أنَّ هناك عدداً من "أفلاطون الألماني" -بقدر التأويل والنقض وإعادة القراءة- داخل نصوص فشته وهيجل وشوبنهور وشلايرماخر ونيتشه وجادمر وكارل بوبر وفتجنشتين. هناك كم آخر من "أفلاطون الفرنسي" ضمن نصوص سارتر وجاك دريدا وميشل فوكو وجيل دولوز وبول ريكور وجان فرانسو ليوتار. وما جرى بصدد أفلاطون جرى بالمثل على أرسطو في أي أفق فلسفي أوروبي بإيطاليا وانجلترا ورومانيا وهولندا.

إذن وفقاً لأهمية الأسئلة، ليست الفلسفةُ باحةً نسقيةً لمقابر الفلاسفة، ولا أضرحة فكرية (الأنساق والمذاهب والأيديولوجيات) يتبادلون زيارتها. لكنها فن صياغة الحرية الفكرية وتذويب تكلسها- لو حدث- بآليات الأسئلة الكبرى. كان نيتشه فيلسوفاً هاوياً إزاء تلك المهمة السرية، صاغ من فلسفته فناً لتحطيم الأصنام( الفكرة الإبراهيمية القديمة). فقد عرف جيداً ماذا تصنع الفلسفة (حين ترتكس وتصدأ) بأدمغة الناس، فأراد تعليمهم ماذا تعني أنْ تكون أقدام الأصنام من صلصالٍ. ولهذا وضعَ نصوصاً ثورية بلهجة معاصرةٍ، أقصدُ تحرير طاقات الأسئلة لا انهاء وظيفتها. لم يعطل نيتشه السؤال عن أداء واجبه المقدس، لكن أعتبره ضد القداسة التي قد تُخلع على أي شيء. وهناك فرق شاسع بين الواجب بذلاً ودأباً بروح كانط وبين وقوعه في شرك القداسة اللاهوتية باسم الفكر.

التأسيسُ الفلسفي يعلِّن فرادةَ الماهية لا نَسْخَاً بين فكرٍة وأخرى، على غرار ما فعل بعض الأسلاف( مؤرخو الحكمة والفلسفة لدينا) بين فلاسفة اليونان معارفنا التراثية. وكذلك ليس التأسيس محاكاةً بأسوب الصورة والأصل بطريقة تعاملنا حالياً مع الفكر المعاصر، لكن بكون "ماهية أي تأسيس"- بين قوسين- لا تخلو من بَذْرٍ خالقٍ. هكذا يُوجد غموضٌ تصنيفي حتى فيما يُنسب إلينا فلسفياً كعربٍ ولا يتجانس مع أفقنا الروحي والثقافي. لقد أطلقنا على أفلاطون وأرسطو حكيمين بإعلان مباشر لأحد كتب الفارابي "الجمع بين رأي الحكيمين".

لكنهما كانا حكيمين بنبرة دينيةٍ لدى مؤرخي الحكمة والملل والنحل كابن النديم والشهرستاني وابن أبي اصُيبعة في التراث، فما سكت عنه الفارابي أنطقته الثقافة السائدة ومبررات الاعتقاد على ألسُن أخرى. لا ابالغ حينما أقول "تم صناعة النبوة في شخصيتي الفيلسوفين اليونانيين"، أُعيد إنتاجها في أفكار أفلاطون وأرسطو الاسلاميين هذه المرة (أي أسلمة العلوم والمعارف منذ القدم). نُقلّت فكرة النبوة حرفياً وجرى استعمالها بمنأى عن النقد وظل تأثيرها سارياً في الفلسفة بقدر تأثيرها أدباً وحكمةً. قالب النبوة أقرب القوالب للذهنية العربية نظراً لحماستها وايمانها بالخارق الغيبي في مجالات كثيرة.

وكما كانت النبوة سقفاً لا يعلوه سقف ولا ينبغي، فيستحيل تجاوزها معرفياً إنما قد تُدَّعى فقط كحال مدَّعي النبوة: مسيلمة الكذاب وسُجاح ومازال البعض يراها كذلك إلى يومنا هذا. والنبوة بالنسبة إلى ذهنية العربي سلطةُ وضع الحقيقة معلقةً ميتافيزيقياً فوق كل العقول. وهي هبوط الوحي من مصدرٍ لا قبل له به، من قوة إلهية تختار من تشاء وتقرر ما تشاء وتصرّف الحياة كيفما تشاء. لكنها تحولت إلى مجالات السياسة والاجتماع، فأصبحت النبوة كافيةَ الاستعمال فيما يرى ابن خلدون (الملك القائم على النبوة) لإخضاع الإنسان وغدت قادرةً على إلهاب عواطفه وتحريكه للمنافحة عن أصوله المحفوظة. لعلَّ كانط أصاب حين اعتبر الإسلام ديناً شجاعاً إزاء الأغيار. فإنْ كان هناك ما يميزه عن سائر الأديان من وجهة نظره، فيتميز بشجاعةٍ ليست تقنية صراعية، لكنها عمل كوني جعله ديناً عالمياً. وهنا تمتص الثقافة الأنماط الكبرى للسلطة وتعيد إفرازها وتوزيعها في جوانب ثقافية أخرى (النبوة من الدين إلى السياسة).

المفارقةُ تبرز هنا في وجود أكثر من أفلاطون وأرسطو في الفلسفة الغربية بينما في الفكر الإسلامي ظل الشخصان كما هما، لم يتغيرا بل أُضيفت إليهما مساحيق النبوة وطبقة دلالية سميكة من نبوءات الأخلاق والحكمة. هذا هو الفارق بين الذهنيتين العربية والغربية. بل بإمكاننا العثور عند العرب على الفيلسوفين محنطين كمومياء ثقافية، فلم نبتكر أسئلةً جديدة جدة وجودنا الحضاري، لأننا ما عدنا لنتجاوز مواقفنا بدورها إلاَّ نقلاً أو حفظاً.

وهذا لا يعنى عدم اسهامنا في مسيرة الفكر الفلسفي. فالإسهام واضح ببصمات الفارابي وابن رشد – كما نوّهت- على التراث اليوناني أثناء عبوره إلى الغرب، ولكن هذه جهود فلسفية فردية لم تؤثر في بنية الثقافة الأم. وهنا اتحدث عن طريقة ولادة الأسئلة في الذهنية العربية، كانت ولادة داخل البيئة بإمكانياتها على التفكير التساؤلي واجهاضه كذلك. ولادة قيصرية من حيث أن الأسئلة تتجزأ وتنهضم خلال البنية العامة، تلك التي تتميز بالنزعة التجزيئية كما تقول الشاعرة نازك الملائكة.

يبدو أننا لكي نُطلق عناناً لأسئلة حقيقيةٍ لابد من تجاوز هذا الهضم الثقافي. فكل اسهام فكري لا يحاول تجاوزاً للمواقف المحدودة يظل تجزيئياً، ولا يفعل أكثر من تمتين البنية المهيمنة في كافة الجوانب الحياتية. إن الهضم الثقافي- الذي يشعرنا بالامتلاء والاريحية- هو الصورة المتنكرة في عباءة براقةٍ، غير أنَّها مرقعة بنفس الجوهر. بالمقابل فإن التفلْسف بكونه أسئلةً ماهويةً، يفترض انتهاكاً فكرياً لهذا الوضع( كشفه ونقضه من الجذور). فلم يعد شأنا يخص فرداً أو جماعة أو طائفةً، إنما بنية ثقافية تطال الجميع حتى المثقفين المتنورين وأصحاب الاسهام الفكري.

السؤالُ الفلسفي يحرر العقل من سلطة العقل (التي هي تاريخه الثقيل)، لكونَّه سؤالاً (فيه وله) قبل أنْ يتجاوزه إلى غيره. التحرير شرط للطرح (أي يجب اشتراط فهم التاريخ)، لأنَّه استشكال لوجوده، ومساءلة بقاياه السارية بواسطة مفاهيم نمطيةٍ. من حينه لن يهادن الاستفهامُ موضوعه، ولا يكتفي بهذا الوضع، لكنه لا يدع أساساً دون نسفه من الداخل. فهو كاستفهام ينخرط عاملاً على تحرير دلالة الكلِ، وهو بهذا سيعلِّن عن قلقه بالمثل، فنبرته الميتافيزيقية لن تكون بدون أضرار مثلما يتوقع كانط.

فالعقل الخالص– من رأي كانط- قد يهدم مبادئه بنفسه، إذا طرح السؤال الذي يعجز عن الإجابة عليه. بل تصور الفيلسوف الألماني أنَّه قد يكون سؤالاً واحداً (من بين مجموعة الأسئلة) هو الكفيل بإتمام ذلك. فلو ثبت أنَّ مبدأ العقل الخالص لا يقدر على الإجابة عنه فعلاً، فلا مناصَ من رفض المبدأ ذاته، لكونه سيفشل كما يعتقد في إجابات أخرى حيال بقية الأسئلة بصورة وافية ومتسقه مع الكلِ.

لم ينس كانط تذكيرنا أنَّه مهما بلغت مبادئ النسق العقلي من الكمال، يظل شمول هذا النسق نفسه عرضة لخطر التآكل الاستفهامي. أي يجب ألاَّ تغيب عنه مبادئ مشتقة نتيجة أسئلة مطروحة بعد تبلور الأفكار. فحيث لا يمكن تقديم المبادئ المشتقةَ بصورة قبليةٍ بل يتم اكتشافها بالتدرج، ينفتح النسق على أفاقٍ أخرى. هو لا ينفتح قسراً، إنما من طبيعة ذاته لأنه منطوٍ على إمكانيات نقائضه. أي نسق فكري وأيديولوجي ينطوي علة تلك السمة التي تهدد كيانه قد أن يتساقط بفعل الصراع من الانساق الأخرى وعوامل النقد الخارجي.

التغاضي عن تلك النقطة يؤدي إلى "الفقر الفلسفي"، حالة من الدوار- بحجم الحياة- تؤرجح وجودنا: هذا الارباك العربي الذي نشاهده في الأوضاع الاجتماعية والتنظيم السياسي والمجال الأخلاقي واهتزاز بوصلة القيم. نظراً لغياب الفلسفة عربياً وتضخم المذاهب والأيديولوجيات المتشددة، فالفلسفة سؤالٌ لشيء أعمق من كلِّ الأشياء. شيء لم يعد قادراً على احتواءنا، ومع هذا ينتج كلَّ طاقته لتمرد الوعي، ويفتحُ اهماله ثقباً فيه بحجم ثقب الأوزون الذي يمتص كافة الطاقات، هذا هو مناخ الفكر الذي تساءله الفلسفة جذرياً وتصنع منه أسئلة حيوية لصالح الإنسان. إنسان ربما يخرج يوماً عن "قواقع الأنظمة" اجتماعياً وسياسياً، حيث يعلن عصيانا جذرياً للفكر.

إذا أردنا توضيحاً للموضوع تبعاً للذائقة العربية، فالسؤال المؤثر استشكال خلْقِي بلغة الله الخالق لا بكيانه. لأنَّه كسؤال من جسد الثقافة بحدِّ ذاتها لا يضع هناك مرجعية لاهوتية لما يطرح. فلم يكن الله في القرآن حين عرض قضية أدم على الملائكة طارحاً للكلام بصيغة آمرةٍ وهو القادر عليه، لقد طرحه بمضمون الاستفهام. كان مضموناً استشرافياً باعثاً لدى المتلقي على التوجس والخيفة والترقب. هذا معناه أنَّ كل سؤال به هذا الارهاص الكوني، هذا البعد المستقبلي؛ أي الارهاص البدئي بالأشياء الخطرة.

ليست خطورتها جزئيةً، لكنها خُطورة كلية من نقطة بعيدةٍ تكاد تلامس دلالة الإله وقدراته في الأفق العام. فلم تكن قصة الخلق التي تحدث عنا القرآن (خلق آدم) وضعاً معرفياً وحسب. لأنَّ الله قال لملائكته: "إني أعلم ما لا تعلمون"؛ أي رفع عنهم عبء المعرفة المنجزة بمنطق المستقبل. وجعلهم في حلٍّ من نتائج سقوط توقعاتهم. إذن ليس السؤالُ موقفاً معرفياً فقط. ولهذا هم ردوا بصيغةٍ استفهاميةٍ تصديقاً لكلية السؤال، قالوا "أتجعل فيها من يفسد فيها ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك"، لقد فهموا الموقف كطرح لمسألةٍ تحتاج إلى بدء حياة مغايرة لمعرفتهم لا مجرد اثبات فكرةٍ مسبقةٍ.

الاستفهام الإشكالي به هذا الطابع الخائض في المستقبل، به ذلك الحدس المتجاوز للظرفي. وكلام الله في القرآن هو طاقة الخلق ليست غير، مثلها مثل فكرة الألوهية في تاريخ الثقافة الإنسانية، إذ تعبر أحياناً عن قدرتنا على ممارسة الحياة. أي طاقة المعنى عند إنسانٍ قادر على الشعور بالله ايمانياً في تجارب مختلفة، إنَّها لغة القيمة الإجمالية لتنوع الأفعال والأشياء. وأيا كان تعيُنها خلال أشكال ومعتقدات أو غيرها، فستظل على وعدها الذي تحمله، كوعد تكويني بالأساس وفوق ذلك يذهب الوعد خارجاً نحو التحقق. سيكون السؤال علي أثرها عملاً مهموماً بإعادة تأسيس نفسه وتدعيم طاقته بذات المعنى. ليس الله هو الشكل ولن يكون اتجاهاً، ولهذا نفته الأديانُ الابراهيمية في جوهرها، فكان بدلالةِ العرفان هو اللا حدود.

ولو دققنا النظر، لوجدنا في حركة السؤال (أي سؤال فلسفي) معنى متفجراً، قدرةً على التأويل المبتكر والفهم المفتوح المترتبين عليه وأحياناً المصاحبين له. إنَّه يؤكد حالة الحيرة التي تكتنف فكرة الكشف والتجلي وبدلاً من التّعيُّن في نقطة ما ينطلق الاستفهام بالرغبة التي تلاحق مجهولاً محتملاً. السؤال يتخطى إمكانية طرحة، مهارته الذاتية أبعد من مجرد الصياغة والتفكير في حدوده، وقد يتعاونان على خلق طريقة في التفلسف.

إنَّ أصالةَ الأسئلة ليست عتاداً في مواجهة التراث وصورته المكتملة ماضياً. هي تحمل بكارة الفكرة، وطرح الاختلاف- لو اتيح - وسط استحكام العقل، فليس هنالك أكثر من البحث عن الحياة المتغيرة. إنَّ نهراً كلياً في هديره هو الحياة إذ نحن مغمورون فيها، أحداثها واعدة بالجديد، وأفعالها غير متوقعه، مخلوقاتها مذهلة تظهر أحياناً وأخرى تختفي. إنَّها استحالة التصور لما يُطْرح من أساسه. تماماً مثلماً كان رد الملائكة على الله هاجساً حياتياً عاماً (أتجعلُ فيها من يُفسِد فيها ويُسفك الدماءَ ونحن نسبحُ بحمدك ونقدسُ لك)، ردٌّ كَشفَ خطورة الحياة في المخلوق (آدم) الآتي من القادم لا من الماضي، فكانوا يتكلمون بعبارات المستقبل.

السؤالُ إذن: هو أنْ تعيش حياة الفكر بشكلٍ أكثر أصالةً، بشكل أكثر جذريةً كما هي، لا كما يُراد لها بالإنابة، فلا أحد يعيش مكانك أو يأخذ قدّرك، وتاريخنا العربي تقريباً جرى "بالإنابة عن لا بالأصالة في". إذا كانت  الفرق الإسلامية(كالمعتزلة والأشاعرة ) قد طرحوا مشكلة حرية الإرادة على نحو تفصيلي، فالتراث العربي، بخاصة السياسي والاجتماعي، أثبت العكس، تراث الاستعباد تحت الحاكم المستبد والأنظمة القمعية، فأكد عملياً قيام الإنسان بدور المُكْرّه لا الفاعل.

بالفعل كان إثباتاً لخطأ الطرح الكلامي (أو لمكره الثقافي)، حيث جاء توظيفاً سياسياً وثقافياً للإرادة الإنسانية، فحياة الناس سارت بأدوار وظيفية تحركها السياسة والتقاليد لا بدوافع ناشطةٍ ذاتياً وروحياً. وهذا كان منبتُه أنَّ المعتزلة والأشاعرة انطلقا (بحسن النية) من تبرئة الإرادة الإلهية إزاء الشرور وأفعال السوء، فكانت إرادة الحاكم هي المبرأة رغم تورطها في استعباد الإنسان. وهنا تم خلع صفات الجلالة والقداسة والصفات الالهية على الحكام رسمياً ودينياً. وأصبح الفقهاء الذين برأوا ساحة الله من التعطيل والتجسيم والتشبيه قد تورطوا في تجسيم رجال السلطة وتشبيه أفعالهم عياناً بياناً، وضعوا نوعاً من الوثنية المقلوبة من حيث لا يعلمون.

إنَّ آليات السياسة هي تفريغ آدم الكوني من أهميته، تلويثه سياسياً بالعبودية والخنوع والتدجين والمسخ. حياة المجتمعات العربية إفشال صريح لمشروع آدم، وتصفية لقضية الجعل الإلهي للإنسان جعلاً حُراً بخَلْق إلهي. وعندما يُوصف المشروع بالمهم، تأتي الأهمية من خطورة ماهيته الإنسانية. فهو كائن بصلاحية الإله (خليفة بلفظة القرآن)، لكن بقدرات بشريةٍ جاء العربُ ليتنازلوا عنها للسلاطين والملوك والطوائف الاجتماعية والتقاليد. أي تنازلوا (عن الله) فيهم بشكل حر لصالح عبوديتهم لغيره الأكثر عنفاً. وليس تُستثنى من ذلك جماعة أو طائفة، ولذلك فإن هؤلاء الدُعاة الذين يتكلمون باسم الله، قد أسسوا لاهوت السلطة وعلاقات الراعي والرعية وهيكل الكهانة ولوثة الوسيط العنيف وانحرافه.

ومن ثمّ، فحدودُ الوعي بالسؤال ليس تلقيناً لمواقف مستهلكة ولا تلقيماً لأفكار بائدة. إنَّه انفتاح بإمكانيات الماهية المتجددة، التي ليست نحن حصراً بقدر ما نبتكر وجودنا ابداعياً. فالإنسان من حيث هو كذلك يستعيد وجودّه من الضياع حين ينطلق مع التفكير الحر. قد يخشى العواقب، لكن من العواصف تُخلق الأجواء الحرة، ومن الأنواء الهادرة تعبر السماء عن تشكيل العالم. المعنى الدال في هذا أنَّ كلمة السماء في العربية لا تدل على التعالي المناوئ لأي سقف، لكنها تُستعمل فعلاً بمعنى السطح القريب. بلاغة الأسطح الدنيا في السياسة والاجتماع والمعرفة هي سماء العقل العربي حتى الاختناق. فكل ما يعلو الرأس يسمى في العربية سماءً، وهذا مصدر القيود واستعصاء اختراقها. لهذا لا يستطيع المفكرُ العربي تجاوزها، بل يضعها لنفسه ويسلسل بها أرجله ويعلن زيفاً أنّه طليق حر!! وأخطر أنواع القيود تلك التي تترسخ داخل اللاوعي نتيجة الخوف من ملاحقة التقاليد أو السلطة أن الهواجس الاجتماعية.

باصطلاح هيدجر تعدُّ ماهية الأساس لدينا تسطيحاً للمبادئ إلى درجة التعميم الانفعالي. فلئن كانت الفلسفة تعلمنا التفكير بالمفاهيم، فنتيجة غيابها المأساوي في مجتمعاتنا العربية، يصبح التفكير مجرد انفعالات لا رابط بينها. ولذلك لن تكون ثمة قيمة للفكر لكونه غير مؤثر وهو انطباع عام لا يلوي على قدرة عقلية تحقق نفسها أو تسعى إلى ذلك. ثم إنَّ الواقع يُعلن منذ بالبدء كما تقول الأم في الثقافة العربية داعيةً لابنها (اللهم يكفيك شرَ الفكر يا بني). إذن الفكر في الوعي الشائع مرض عضال وشر نفسي يجب اللجوء إلى الله لإزاحته دون طريق من نحب وهو مجال علة لا مجال صحة.

والأم هنا هي الثقافة التي تردد ما تضمر وتكشف نفسها في المواقف الحرجة باسم فلان أو علان (الأب أو الأم). وربما أنَّ كون الفكر شراً هو أبلغ ما يُوضع تحت الاستفهام، لأن الأنظمة السياسية استغلت الدعاء بزوال الفكر عن الناس لتتلقفهم، حيث فكرت بدلاً عنهم، وحلت المشكلات عوضاً عن وجودهم وبالنهاية أصبح لا وجود لهؤلاء الفارين من الفكر حتى فروا من الحياة ذاتها. فجاء المواطنون في دولنا العربية كـ" العصف المأكول"، لا قيمة لهم ولا أهمية، إنه سقف الأفكار المعلقة في مناخ قريب من الحس اليومي، حس هو "ضعف العمران والعصبية والتوحش" بلغة ابن خلدون، لغة شارحة وكاشفة تاريخياً للأحداث والتحولات العربية حتى هذه اللحظة من عصرنا.

 

سامي عبد العال

 

 

سامي عبد العال"ما قدْ تراه هنالك، ليس إلاَّ أصدافاً على شاطئ بحرٍ لا حدود له.."

"دوماً الأسئلة لا تهدأ.. ولن تتوقف عن اثارة  المجهول.."

رُبَّ سؤالٍ يزعجُ معرفتنا الغارقةَ في سُباتِّها حتى الإيقاظ. عندئذ لن يكون النوم حالماً، إنما أرق بملء العيون، ملء العالم والتاريخ والزمن. نوم هو اليقظة، حيث لا يستغرق النائمُ بعضاً من شعيراتَ جفونه، النوم اليقظ الذي يتقلب مع الأفكار يساراً ويميناً، أعلى وأسفل. إذن على الفكر أنْ يسهر فلسفياً، السَهر الفلسفي هو انعدام الغفلة، الجلَّد ومغالبة النعاس والفتور العقلي، هو درجة قصوى من الكشف النهاري إزاء كلِّ ليلٍ محتملٍ. كانت هذه الدرجة أحدَ أشكال الوعي بالأسئلة وشقاء العقل، لقد ظل ديوجين اللائرثي في اليونان القديم يبحث عن الحقيقةِ حاملاً مصباحه في وضح النهار!! على حد قولِ المتنبي:

 ذُو العقلِ يشْقى في النعيمِ بعقلِّه     وأخُو الجهالّةِ في الشقاوة ينعمُ.

بكلمات أخرى، يقظة الفكر هي ملء الليل (ليل الحياة والثقافة والروح واللغة) بالنهار. والنهار كلمة عامةٌ تأتي إلى عيون النائم وهو في أعماقه، كأنَّك تغمض على ضوءٍ ولا يبارحُك. النوم والموت خاصان بالإنسان، في أعماق نومك وموتك لا ينام معك أحد ولن يموت معك كذلك. فأنت النائم متوحداً مع كيانك لا يدخل إليك شيءٌ. وحين يسهر الفكر، فأنت من يشعل شيئاً من نهارٍ، بأي عنوان كان سيأتيك. علي الفكر أن يسهر حتى الفجر، ضمن هذا المعنى قد يصبح الفجر في أي وقت وبأي عيون.

ففي تاريخ الفلسفة، بدا إيمانويل كانط مثالاً لنائم أيقظه ديفيد هيوم من رقادٍ عميقٍ. وباعتراف كانط نفسه، لم يكُّن إلاَّ كائناً هائماً على وجههِ، وأخذَ يتحيّن الفرصة لقرع طبول الأسئلة. كانت أسئلة هيوم جامحةً وجذريةً حول المعرفة وعجز العقل عن تجاوز حدود الأشياء. لعل أزيزها المدوي كصدى الرصاص طال جوانبَ الفكر: مفهوماً وإدراكاً ومنهجاً. وقد جاءت مرحلةُ كانط " نقد العقل الخالص"Critique of pure reason بمثابة الصدى المباشر لهذه اليقظة المفاجئة.

كانت دلالة قرع الطبول– في الحياة البدائية- إعلاناً عن حادث كوني، حضور آلهة، طقوس، موت، ميلاد حياة، حروب. هي تناشد مجهولاً ما، تأخذ بلياقة التعامل معه وتتحين الوقت لمعرفته، وفي الأغلب كانت تحاول بالأصوات ترويضه وجعله مألوفاً. وإلى وقت قريبٍ في الثقافة الشعبية لمجتمعات شرقية (عربية)، استُعملت الطبول بهذا الإيقاع الحياتي – الكوني. كانت أصواتها تحذر من قدوم شيء مجهولٍ ليس لنا احتماله دون اليقظة أو إقامة شعائر الاحتفاء بمصير ما حياةً أو غسقاً. مثل ضرب الطبول لخسوف القمر أو لغياب بعض النجوم اعتقاداً بأنَّ كائنات شريرة تحجب رؤيتها( فقد كان يُقال القمر مخنوق). وأنَّ صوت الطبول سيجعل الكائنات تتراجع عما تفعل وتهرع من حيث أتت!! وكأننا مسؤولون عن رعاية الأشياء والعالم( عبارة هيدجر: الكائن الإنساني أو الدازاينDasein هو راعي الوجود).

الفلسفة تاريخياً أحد دروب اليقظة التي تستدرك نيام البشر. كأن انغام رباعيات عمر الخيام تتهادي بصوم ام كلثوم لإيقاظ الناس للاغتراف من معين الحياة: "سمعتُ صوتاً هاتفاً في السحَـرِ نادّىَ مـن الغيب غُفاةَ البشـرِ، هِبُوا املأوا كأس المُنى، قبلَ أنْ تملأ كأسُ العمــــــر كفُ القدر". إنَّ الفلسفة كمغامرة عقلية قصوى تستوجب انتباهاً ينزع النعاس عن الجفون، وأنْ يكون الانكباب عليها كحال المنكب على كأس المُنى، كأس العمل، كأس الطموح، كأس الفكر، كأس الحب. الفلسفة هي فن العيش بعدما كانت تمريناً أفلاطونياً على الموت. والاثنان: الحياة والموت يتبادلان الدلالة الإنسانية، فمن يبلغ موته بأريحيةٍ صانعاً مصيره الخاص، هو من يمكنه الحياة بملء الكلمة (الموت اختيار وصناعة كما الحياة).

في الثقافة اليونانية أيضاً، كان سقراط يسمى "ذباب الخيل "Tabanidae ، ذباب يجعل الخيول مستنفرةً وكثيرة الاهتزاز والصهيل. الأسئلة السقراطية كانت تنقر الوعي (مثل دجاجة تنقر الحبوب)، ليعرف ما يُحاك له، وما ينزلق إليه، وهي عمل أصبح ضرورياً بهذا المسمى في المجتمعات المعاصرة. فالوعي الغُفْل قد ينعدم يوماً ما لم تُثِرْهُ أسئلةٌ حقيقيةٌ، تصقل أدواته وتدفعه للانتباه، لأن السؤال استدعاء لحركة المستحيل ولو كان نائياً، أمَّا العجز فمن صفات الاستكانة إلى ما هو جاهز ومتاح.

الاستيقاظ أحد وجُوه الوعي الفلسفي الذي يلاحق الإنسان بضرباته. لكن طبيعياً أنْ نلتمس التوضيح: استيقاظ من ماذا وإلى أي مدى سيكون؟! هل يغيب وعي الفيلسوف أم تُوجد جوانب أخرى للمسألة؟ الأمر يضمرُ كون النوُم الفلسفي غفلةً فكريةً تلفُ العقل. وإذا كان ذلك شأن غطيط الأفراد، فما بالنا بمناخٍ ثقافيٍّ يدعو للنوم وسط قارعة النهار ووسط يقظة العالم المتطور والحي. المعنى اللطيف أنَّ الأسئلة الفلسفية اشبه بأصوات كانت تعلن النفير العام، لكنها تقدح زناد الفكر والترقب للمستقبل. ومن حينه كان العقل يتأهب لأخذ مواقع جديدة وابداع رؤى مغايرة. ولن يكون الأمر إلاَّ مرتهناً بأرق فلسفيٍ يؤكد أصالةَ التساؤل وأصالة الاستجابة الفلسفية له.

المهمة جد خطيرة للفيلسوف: أنْ يبتكر الآفاق العقلية المناسبةَ لإيقاظ المجتمعات من غفوتها وسقوطها. فالحياة اليومية أشبه بغطاء كثيفٍ حدَّ الموت لأُناس نيام على قارعة التاريخ، هم يحتاجون تدريجياً من يمزق الأحجبة ويجعل ضوء النهار نافذاً إلى عيونهم ووعيهم وأسماعهم. تبدو معاني هذا الفعل التاريخي عالقةً بالتفلسف كفنٍّ لكشف طبائع الحياة والثقافة. سيكون مرتبطاً بالنور والانكشاف والتجلي والتمزق والتفتق. إنَّ عملية تحرير الأسئلة من أغلال الصمت جزءٌ لا يتجزأ من هذه الدوائر. في تاريخ الفلسفة، لم يكن ذلك مجرد معرفة، لكنه فهم لعمل الفكر إزاء قضايا المصير والحقيقة والعيش.

هكذا كانت أسئلةُ ديفيد هيوم بالنسبة لكانط وخزات للتعرف على العالمِ والأشياءِ. لقد أكد هيوم، من نقده للفلسفات العقلية، أنَّ أفكارنا مستمَدة من الخبرة التي يحتويها العقل لا من العقل نفسه. والعالم ليس وليد أوهام خاوية، لكنه نتاج النشاط والفعل. الأمر الذي  أوعز إلى كانط بخلع سباته الدجمائي. ولا يخفى كون الدجما الفكرية كآراء جاهزة التكوين قد تلقي على أصحابها رُقاداً أبدياً ما لم يسمعوا قرع طبول الاستفهام.

في كتابه نقد العقل الخالص يبرز كانط أنَّ موضوعات "المعرفة" الممكنة هي "الظواهر"، أي موضوعات العالم الفيزيائي القابل للرصد تجريبيّاً. وقد انتقد، بالوقت ذاته، الرؤية التجريبية عند لوك وهيوم، طالما جعلت الانطباعات الحسِّية وحدها أساساً للمعرفة. والرأي عند كانط أنَّ "الأفكار من دون محتويات فارغة، والحدوس (جمع حدس) من دون المفهومات عمياء"، آخذا من أرسطو عبارة " المقولات الأساسية "، على أنها مصدر كلِّ مفاهيم الفهم، بوصفها مفاهيم قَبْلية، لا تصبح التجربة ممكنة إلاَّ من خلالها، وهي ترتبط بالضرورة وبالتجربة معاً.

وقد اعتبر كانط مقاربته للمعرفة " ثورة كوبرنيكيةً "Copernican revolution، على غرار نفي كوبرنيكوس لدوران الشمس والنجوم حول الأرض، مفترضاً أنَّ الأرض هي الدائرة  حولها لا العكس. ولقد سبقه ديفيد هيوم إلى هذا، حين حلَّل دلالة "العلاقة العلية" بين الظواهر والأحداث، من حيث لا وجود لضرورة عليةٍ حقيقيةٍ في العالم، لكن الشعور بالضرورة لا ينشأ إلاَّ من مسلمات الذهن البشري.

وتباعاً اعتقد كانط أنّ التجربةَ كفيلةٌ بحل مسألتين بدا اعتقادُه فيهما خاطئاً. مسألة: النقائض (المفارقات)، ثم مسألة: الأصل في كل فكرة كليةٍ وكل ضرورة معرفيةٍ. في هذا الشأن استيقظ فيلسوفُ النقد- بمطرقة هيوم ثانيةً- مفرِّقاً بين مادة التفكير وصورته؛ أي التمييز بين صورة الذهن verstand وصورة العقل vernunft. الصورة الأولى كالمكان والزمان بينما الصورة الثانية مثل العلة والجوهر والممكن والضروري.

لتؤكد تفرقة كانط أنَّ الذهنَ ملكة لإنتاج تمثُلات حصولاً على المعرفة، هو ملكة التفكير في الموضوع الحسي بمساعدة مقولاتٍ وأحكامٍ. أمَّا العقل، فملكة الصور اللا مشروطة، وغير المقيدة زماناً ولا مكاناً.  يتجه أولاهما إلى الجزئي، بينما يتجه ثانيهما إلى كلِّ التجربة وإلى المطلق فيها. وقد أحدثت تلك التفرقة تحولاً جذرياً نحو  طبيعة المرحلة النقدية في فلسفة كانط بمجمل زخمها.

كانت المحصلةُ أسئلةً كانطيةً أكثر جذرية: ماذا يمكننا أنْ نعْرف؟ ما الواجب علينا فعْله؟ وبماذا يمكننا عقلانياً أنْ نتفاءل؟

حيث اخفقت كلُّ إجابةٍ لا تواكب القدرةً على تجاوز المواقف الجزئية، وحيث طافت الأسئلةُ كافةَ مجالات المعرفة بحثاً عن الشيء المختلف. إنَّها كانطياً مشروطةٌ بالإطاحة بأي تأسيس لاحق على التفكير الاستفهامي. فينشأ التفكير في نقد منطلقاته، إنْ لم يهدمها مغايراً أية رؤية يتحدَّد فيها. هكذا غدت الأسئلةُ تمارين على السهر الكانطي داخل فضاءٍ يتسعُ كلما اقتربنا منه. الاسئلة تعلمنا فناً للسُهاد عبر اركان المعنى النائية نأي المجهول. وبالإمكان لو أثرنا أسئلةً دون قيودٍ إزاء الواقع المعيش، لكان التفكيرُ أكثر عُمقاً. فالسؤال ينبعُ من حرية أصيلةٍ للعقل خارج القوالب الجاهزةِ، ناهيك عن احساسه بالمشكلات بصورة مبتكرةٍ. وليس ذلك إلاَّ ليكمل "أرقاً فلسفياً" يشمل كيان الانسان.

يقول الميتافيزيقي المتشرد اميل سيوران: " هناك نوعان من العقل: أحدهما نهاري والآخر ليلي، لا يتشابهان في النوعية ولا في الجوانب الأخلاقية. تراقب نفسك في وضح النهار وتجود بما لديك ليلاً. النجاعة أو العواقب الفظة تهم قليلاً الرجل الذي يُسائل نفسه عندما يكون الآخرون فريسة للنوم، وعليه فهو يتأمل بناءً على الحظ السيئ لكونه قد وُلد، دون مبالاةٍ بأي أذى قد يسببه للآخرين أو لنفسه. بعد منتصف الليل يبدأ سُكْر الحقائق المدمرة ."

ما من فلسفة جد مثيرةٍ إلاَّ وتتوافر على مخزونٍ خصيبٍ من الأرق الفكري الذي لن يُحسم بسهولة، لأنه دائم التساؤل. فأي فلسفة تبحث عن تدمير قيود ما، قد يراها الفيلسوف أو المتصوف أو الشاعر بدقةٍ دون أنْ يراها الآخرون. كما يوضح جلال الدين الرومي أنَّ القيد قد يكون صورة هي المسخ للحقيقة، يقول: "إنك قدْ رأيتَ الصورةَ، ولكنك غفلت عن المعنى". لأن الصور هي الحجم النسبي الذي يحول دون الكل الأبعد ورائه. الصورة قيد يختزل الوعي ويحبس الخيال، لكونها تجلُّطاً للمعنى في هيئةٍ بعينها، حجاب عرضي يواري ما هو غير قابل للاختزال بلغة الفلسفة.

والمعنى المتفلت من القيود يبرز وجهين: ما هي القيود المفروضة عليه وما هي طبيعة الصوة التي تأخذ مكانه؟! يؤكد الرومي: " ولكن ما الصورةُ إذا جَاءَ المعْنى"، أي أنَّ المعنى قدرةٌ مفتوحة للخروج من الاغلال وكسرها بلا رجعةٍ، إنها مهمة التفلسف أيضاً ناهيك عن التصوف، فالإنسان العادي يرى الصورة، يحن إلى القيد، يتمنى الارتباط به، ولذلك هو دوماً يتجمل للصور واقفاً بالقلب منها، بينما أهل الفلسفة يتعلقون بالمعاني، تلك المتناثرة والهائمة خارج الصورة.

الصورة -كما يقول الرومي- هي غفلة المعنى، نوم المعنى على طريقة نوم كانط، والإيقاظ هنا هو لا عودة إلى الإطار المحدود من معانينا، بل إلى فضاء الكل اللامتناهي. وعبارة الرومي الدالة تقول: " يسمعُ الطائرُ صوتَ أبناءِ جنسهِ، فيّجيءُ من الهواءِ فيجدُ الشبكّةَ والسِكِّيْن". تلك النهاية الفارقة في الوقوع بالفخ: أنْ يكون فريسةً غير مأسوف عليها. وإذا كان الإنسان يلجأ إلى الاحتماء بالآخرين، فذلك ضياع الهواء الطلق (الحرية – المعنى– العشق). جميعناً يرى في القيود أمناً يريح هواجسه، لكن الثمن أنها افقدته أهم ميزة في الحياة، التحليق خارج الأنظمة وبعيداً عن الأسوار.

- القيود التي قد نعيها هي تكوين الفكر بحسب الثوابت والحنين إليها.

-  في وجود الآخرين، تكون الشِبَاك والسكين منصوبين للإيقاع بالحرية.

- الهواء الطلق هو الخيال الرحب الذي لا يبارح الإبداع والانطلاق.

- الأسئلة النافذة أحد أدوات تمزيق شباك الصياد الأيديولوجي أو المعرفي.

- لتكن الأفكار بكلمات الرومي خارج الأقانيم، خارج الأشكال، خارج الصور.

- التحرر لا يأتي لطائر في الهواء وإلاَّ ما الفائدة، فهو بالهواء الطلق تلقائياً، لكنه تحرر مهم لمن هم في الشباك ولا يعلمون.

هذا يعني أن ثمة بحثاً فلسفياً في القيدِ الفكري ذاته قبل تحطيمه. وهذا يفسر: لماذا يشعر الإنسانُ بقيوده بخلاف الكائنات الأخرى؟ كيف تتعلق القيود بنا نحن البشر؟ وما هي أبعادها؟ فلو اردنا تعريفاً بسيطا للإنسان، فهو الكائن الشاعر بالقيود دون سواه والذي يريد التملص منها ولو أدمتْ كيانَّه، قيود سيكولوجية وقيود كونية وقيود معرفية وقيود فكرية وأخرى سياسية ... وسيعني التعريف أيضاً وجودَ القيد بالنسبة للأسئلة بما هي طرح اشكالي. فلا استفهام دون طرحٍ لمحددات الفكر تحت نشاطه المتجاوز. أسئلة التفلسفِ أكثر جذريةً من غيرها، بل لها طابع كلي وتُرْهص بتكوين أفق عامٍ لمجالاتٍ عديدة. فالعلم لا يسائل القواعد القائم عليها. كلُّ علم هو طريق لطرح مشكلة جزئية والاستجابة لها بمزيدٍ من الأسئلةِ.

أمَّا الفلسفةُ، فتعمد إلى النبش الجذري في الأسس، تأسيس الأسس ذاتها. هي اشكالية حول (وداخل) المشكلات لا مجرد ايجاد حلول لها. لهذا هي تحتاج الحرية في طرح استفهامات توازي عمق التأسيس ومساحته. الفلسفة تعمل على أصول الرؤى وأنماطها الأولية (الروح-العقل– العالم – الكون...). إن أصالةَ السؤال في هذا الحال أكثر أهمية من الاجابة، لأنَّه يستطيع تغيير نمط التفكير. لن يكون السؤال ترفاً، لكنه ذروة الكدِّ العقلي، هذه الجدية المفرطة التي تذهب إلى أفقٍ غير مطروقٍ.

لعلَّنا نكُّف عن النظر إلى الأشياء بمجرد الأداءِ المعرفي الجزئي. لأنَّه أداءٌ لا يُعلن جديداً إلاَّ تعلُقاً بقديمٍ ما. وهو بذاته تمثيل لمنظومةٍ مستعارةٍ تستهلك فاعليتها (وفاعليتنا بالمثل) حين تُطرّح. فبالإمكان ارتداء باروكة من الشعْر دون انهاء حقيقيٍ لحالة الصلع. ونحن في حياتنا الفكرية العربية نَقلّةٌ أُمناء لمضامين فكرية ليست لنا، حتى ولو كان أسلافُنا التراثيون هم صانعيها، فما بالنا بنفس النقلِ الفلسفي من المختلف ثقافةً وفكراً. فالحرف المُقلَّد واحد، سواء أكتبه قدماءٌ هم جسدنا التراثي أم معاصرون أمامنا على ضفاف غربيةٍ!!

هل سنظل نطابق بُعداً معرفياً لحياتنا مع حيوات الآخرين؟ حياة ليست لنا وفوق ذلك نتقمصها كما لو كانت نحن. أين اسئلتنا الوجودية والثقافية المعبرةِ عن أعماقنا وموقفنا تجاه قضايا الحياة والإنسان والتاريخ والكون؟ كيف نكَّون سؤالاً راهناً في حياتنا الفكرية؟ وماذا يعني كونَّ السؤال اشكالياً لماهية أي تفكير من هذا الصنف؟

 

سامي عبد العال

 

 

جعفر نجم نصرمحاولة لكشف المفكرين المزيفين في العراق

(يوجد في هذا العالم معلمون مزيفون أكثر عدداً من النجوم في هذا الكون. فلا تخلط بين الأشخاص الأنانيين الذين يعملون بدافع السلطة وبين المعلمين الحقيقيين).

شمس الدين التبريزي


ان ادعياء العلم لم يكونوا وليدي اللحظة الراهنة، إذ شهد العالم ومنذ قرون الكثير منهم، والذي نجحوا في استجلاب الجماهير لساحتهم وسماع مقولاتهم المزيفة/ المخادعة، بل وتأييدها أو لنقل تقليدها حرفياً، ولعل محاولات التصدي لهم انطلقت بعدة وسائل وآليات عمل وبحسب خصوصية العصر وسماته وتقنياته.

ونحن إذ نحاول وضع معالم أو لبنات للتصدي لهؤلاء الذين ينفقون ليل – نهار عبر عدة وسائل- مستغلين كل قنوات المعرفة لترويج أطروحاتهم ومقولاتهم لأجل التسيّد على المجتمع والبرهنة على أنهم الاعلم، فأننا نبدأ بسؤال أولي: هل يوجد مفكر ما صديق للجميع؟ لعل هذا سؤال ضروري لأجل فتح آفاق واسعة لأجل الفهم فيما بعد أحدى أساليب أو حيل أدعياء العلم. وقبل الاجابة عن السؤال اعلاه، نذهب نحو تساؤلات محورية كمقدمة للأجابة عن السؤال آنف الذكر، وهي:

متى يمكن ان يعد كاتباً ما أو مثقفاً ما بوصفه مفكراً؟ أو متى يمكن ان نطلق عليه صفة أو سمة [المفكر]؟، أعتقد ان لذلك شروطاً عدة ينبغي الالتفات لها وهي:

أولاً: ينبغي ان يقدم مشروعاً فكرياً ذا سمات تنويرية – تجديدية - واقعية، وان لا يكون مقلداً لاتجاه أو تيار اصلاحي ما، يستنسخ مقولاته أو اطروحاته عبر استخدام لغة أدبية – فضفاضة (تلوي عنق الكلمات)؟!.

ثانياً: أن يكون له منهج واضح في التعامل مع القضايا أو المسائل التي يوجه لها سهام النقد أو التجديد أو التحديث، وأما ان يكون طرحهُ عاماً غير مستند إلى موجهات أو تأطيرات منهجية، فهو يعد بذلك مثقفاً استعراضياً، يلوك المصطلحات الفلسفية لا أكثر ولا أقل، وحينها لا يعد علمياً أو صاحب اتجاه نقدي (متميز)، ما دام قد افتقرت اطروحاته للمنهج العلمي.

ثالثاً: ينبغي ان يقدم بديلاً معرفياً –عن كل الاطروحات أو المقولات التي قال بها غيره من اصحاب المشاريع/ النقدية المعرفية، وإلا أن عملية تكرارها عبر الاستعراض يُعد هدراً أو لغواً لا قيمة له.

رابعاً: أن تكون اطروحاته أو مقولاته النقدية تستهدف قضايا محددة، أو جوانب واضحة المعالم، بدل ان يكون طرحه ضبابي/ مصلحي لا يقوم على تشخيص حقيقي، بل مجرد استعرض مقولات عامة لا تخاطب (السلطة الدينية/ السلطة السياسية/ الشريعة ونصوصها/ المجتمع وظواهره/ الغرب واتجاهاته (بلغة نقدية)، أي ان لا تكو أعماله مجرد حشو لا طائل منه عبر لغة معبأة بالمصطلحات أو العبارات الملتوية، كيما يضحك بها على الافراد البسطاء أو على بعض المثقفين/ الاستعراضيين القشريين الذين يملؤون صفحات [الفيس بوك].

أي ينبغي ان يكون المفكر قدم اطروحات مست مصالح أو قضايا أو اتجاهات حيوية داخل المجتمع العراقي، فإنه اذا لم يُغضب على سبيل المثال:

أولاً: السلطة السياسية: فهذا لأنه غير عابئ بفسادها وقصورها العام، بل هو جزء من منظومة الفساد والمروج لها عبر صمته عنها ضمنياً، بل لربما مستفيد منها.

ثانياً: السلطة الدينية (الفقهاء): اذا كان هو صاحب مشروع تنويري، اصلاحي فهو بالضرورة يؤمن بالفردانية وبعدم الوصاية على الفرد، اي لا يؤمن بالبطريركية الدينية التي تدعي الوصاية على المجتمع، وهذه أولى أو جوهر مركزية [النقد الديني] أو الاصلاحي التنويري، ان كان يدعي ذلك، وهو ان لم نتلمسه في عمل أحدهم، فهو أذن حليف هؤلاء وأبنهم البار الذاب عن حرمهم، والا لو كان لديه مقولات أو اطروحات نقدية/ أو تنويرية لمسهم في كتاباته وأذن لغدا ألد أعدائهم ومن خصومهم.

ثالثاً: فئات المجتمع العراقي: هنالك ظواهر أو قضايا اجتماعية عديدة تتطلب عملية نقدها أو اصلاحها تطال بنى اجتماعية عدة من ضمنها القبيلة والقبائلية، التدين الشعبي أو الطقوسيات الشعبية المعطلة للوعي وللأنتاج في الوقت نفسه، وغيرها الكثير من الظواهر التي ترتبط بالبُعد الديني ان كان يدعي معالجتها بأعماله، فإذا كان المجتمع يستقبل اطروحاته برحابة صدر بغير عداء، فهذا يعني انه كان يغازل مجتمع الفئات بأعماله ومن ثم فهو ليس بمصلح أو ناقد أو تنويري، لأن المجتمع لم يغضب على أعماله.

لعل معترض يقول: الكاتب الناجح هو من يداري مشاعر قرّائه ومن ثم لا يستجلب العداء منهم؟ ولماذا العداء اذا كان يكتب بلغة علمية (بحسب إدعاء البعض)؟.

لعل الجواب عن ذلك هو: ان أي عملية تشريح نقدي للنصوص الدينية أو للظواهر الاجتماعية أو للسلطات الدينية أو السياسية تستوجب وضع القراءة التصحيحية بوضع البديل الممثل بأطروحات أو مقولات النقد، بعبارة أخرى ان اي متصدي لعمليات النقد أو المراجعة داخل المجتمع يستوجب منه تحديد الجوانب السلبية التي تطال هذهِ القضايا التي يتصدى لها، فأن راجع النصوص الدينية على سبيل المثال: يتطلب منهُ نقد القراءة الرسمية لها بوضع بديل لها، يكشف من خلاله كيف ان الاجيال أو ابناء المجتمع عاشوا في غيبوبة دينية عن أدراك المعاني المغايرة لما اعتنقوه أو آمنوا به طوال قرون، فأنه ان قام بذلك يجعل من سدنة الدين التقليديين (الفقهاء) وجماهيرها المعطلة ذهنياً بمثابة أعداء شئنا ذلك أم أبينا، ولكن ان كان يقوم بقراءة مدلسة لتلك النصوص أو يقدم مشروعاً نقدياً/ استعراضياً لأجل عدم المساس بمصالحه وبمقامه الاجتماعي والثقافي، فأنه سيكون معصوماً من الناس، وسيغض الطرف عنه إلى أن يموت وهنا يشيع بوصفه المفكر الاسلامي الاكبر الذي كان حامي حمى العقيدة حياً وميتاً؟.

من الامور التي يمارسها هؤلاء الذين يدعون أنهم مفكرون اصلاحيون/ تنويريون، هي استخدام لغة فضفاضة لا يمكن لأحد ان يمسك من خلالها على عبارة تمس (الدوائر القدسية) ان كانت نصوصاً أو اشخاص أو مؤسسات، أي انهم يقومون بعملية التعمية الفكرية على الجماهير التي غدت تنتظر المنشورات (الفيسبوكية) أكثر مما تقرأ، بل نعيش الان أجيال من المثقفين يعتاشون على الغير ومناقشة منشوراته اكثر ممن يناقشون الكتب والاعمال العلمية.

ولكن للأمر السابق بقية خطيرة: الا وهي ان هؤلاء المفكرين/ المصلحين الذين يدعون انهم اصحاب مشروع محاطين بمجموعة من اشباه المثقفين والاكاديميين والمعممين الحوزويين الذين يشتركون معهم على ذات المصلحة، لاسيما وان هذا المفكر الذي لم يغضب (نملة) في كثير من الاحيان يتولى منصب كبير ومقرب من رموز دينية وسياسية ومجتمعية كثيرة، وهنا يظهر مشهد الاجتماع على (القصعة الواحدة الدسمة والوقوف على التل أسلم).

أن عملية التوعية بمخاطر هؤلاء والمتحالفين معهم أراه واجب أخلاقي لأجل اسقاط رمزيتهم المصطنعة والمختلقة والكشف عن نواياهم المريضة في الصعود عبر سلم المعرفة لأجل نيل التبجيل والاحترام بل وحتى التقديس.

ولعل الطامة الكبرى الان في المجتمع العراقي ان كل شيء مزيف، فقهاء لا يمارسون ادوارهم بردع الفساد بل يشتركون فيه، جامعيون لا هم لهم سوى قبض المعاش واستعراض أربطة عنقهم واعمالهم المسروقة، زعماء سياسيون أكلوا الجبل وشربوا دجلة بفسادهم هم وقطعانهم البشرية الخاضعة،.. الخ. من مظاهر التزييف مستمرة، ولكن أخطرها ان يكون مفكراً/ نقدياً هو غطاء لهم وحليفهم جميعاً (صديق الكل)، وهل يمكن للناطق بالحق ان يكون صديق الجميع؟!.

 

جعفر نجم نصر

 

بشار الزبيدييقول سارتر: "المُثقف هو من يهتم بأمور لا تعنيه إطلاقًأ"

ترجمة: بشار الزبيدي

يُفرق سارتر بين "تقنيي المعرفة العملية" وبين"المثقفين العضويين". فمن ناحية يرى أن المثقفين ينحدرون من الصنف الذي يُطلق عليه تسمية "العضويون" لأنهم تكونوا تقريبًا بشكل طبيعي، ونشأوا في الطبقة البرجوازية الطموحة. حيث أنتجت الرأسمالية التجارية المُبكرة العلم بوصفه أداة،وظهرت فيها الكثير من المؤسسات وأصبحت فيها التجارة أكثر أهمية. كان البحث العملي المرتبط بذلك هو الشرط الأساسي لظهور المُثقفين الذين تبنوا مُمارساتهم ووجهات نظرهم مثل التناقض ورفض أي سطوة وأي شمولية للقوانين. هذه التقنيات، التي تعلمها المُثقف العضوي بسبب انتمائه إلى الطبقة البرجوازية ووظيفته كأداة للرأسمالية،يُطبقها على مشكلات التاريخ والمُجتمع". فهو مُثقف عضوي لأنه قام بتقديم ذلك كجزء من الرأسمالية،وفَهِمَ البرجوازية على أنها شمولية تميزت عن الخصوصية الإقطاعية من خلال طريقة التفكير هذه، وانتقدها بنشاط وقرب هذا النقد من المواطنين.

ومن ناحية أخرى وكما ذكرنا سلفًا، يتفرع المُثقف في تعريف سارتر من "تقنية المعرفة العملية" وينحدر من الطبقة الوسطى أو الطبقة البرجوازية الصغيرة. يتم استخدامه في هذه الطبقة كأداة لتمثيل المصالح المتعلقة واستغلال الطبقات السفلى. تحدد الطبقة الحاكمة عدد تقنيي المعرفة العملية بناءً على غرضهم وتحدد تكوينهم بطريقة تتوافق مع إيديولوجية الطبقة. وهكذا يُصبح فني المعرفة العملية شريكًا تلقائيًا في إيديولوجية مُعينة، وهو ما يتعارض مع الشمولية المذكورة أعلاه، والتي تنسب نفس القيم للجميع، بغض النظر عن الطبقة. لذلك ينشأ فني المعرفة مع تناقض، بالأحرى تناقض بين الإنسانية، كما تعلم في المدرسة، وبين الوضع الواقعي في المجتمع حيث يسود الصراع الطبقي والانتقاء والاستغلال. يتشكل المُثقف في الحداثوية حسب سارتر من تقنية المعرفة العملية إذا أصبح مُدركًا لهذا الظلم وهذا التناقض، ومنذ ذلك الحين يرفض هذه الإيديولوجيا ويمتنع عنها. ثم يُصبح عدو للمجتمع الانصرافي ويصبح ذلك الوحش، أي المفكر، الذي يهتم بما يهمه [...] ويقول الآخرون عنه أنه يهتم بما لا يعنيه"

يذكر سارتر أيضًا في مقالته أن المثقف ليس له وضع ولا تكليف. وبما أن تأملاته عامة وبالتالي تنطبق على الجميع،فإن المُثقف نفسه يبقى مجهولاً ولا يدرك وجوده. ولكن ما هي وظيفته إذن؟  يستمر بالبحث لأنه لا يمتلك معرفة ولا قوة في البداية، مما يعني أنه يجهل الأمور، على عكس المثقف التقني. هو بمثابة "مُحقق" يستكشف أولاً وجوده ويحاول مواءمة التناقضات المذكورة، والتي يخضع لها كتقني في المعرفة العملية. يُمكنه بعد ذلك تطبيق ذلك عمليًا على المُجتمع. في الوقت نفسه، عليه أن يعترف بنفسه كجزء من المُجتمع الذي يتقصى فيه. لذا يدور الأمر هنا حول تعاكس مُستمر،"الذات يعكس العالم،والعالم يعكس الذات". وبما أن تناقض المُجتمع يتوافق مع تناقض كيانه الخاص، فمن المُستحيل عليه أن ينظر إلى المجتمع بموضوعية. ولكن لا يكفي أيضًا أن ينظر المُثقف إلى نفسه بشكل ذاتي، لأنه لا يُمكنه الانفصال من هذا المجتمع على اعتباره جزءًا منه. هذا التحول المُستمر،الذي يُسميه سارتر"المظهر الخارجي للعالم الداخلي،وإعادة  المظهر الخارجي للعالم الداخلي"،ضروري للتغلب على بعض التناقضات. يجب على المفكر دائمًا أن يعود إلى ذاته ويفهم نفسه على أنه "فرد مُتنوع" . ويجب أن يتجنب التعميمات وأن يُشير بدلاً من ذلك إلى حالات مُحددة.

لذا فإن دوره هنا هو دور القدوة كفرد مُتنوع. يُمكن أن يُساعد المظلومين على وضع أنفسهم وإدراك خصوصيتهم التاريخية. وفي الوقت نفسه، يُمكنه دعمهم في "نضالهم من أجل التوسع" ضد الظُلم والاستغلال. لهذا السبب فإن عمل المُثقف هو انتقاد أيديولوجية الطبقة الحاكمة باستمرار بحيث تُصبح عودة هذا الفكر مُستحيلة. ويستغل في المقابل المعرفة التي وفرتها الطبقة الحاكمة لتعليم الناس. يقوم بتدريب مواطني الطبقة المظلومة ليصبحوا تقنيين للمعرفة العملية ولا يُمكن للطبقة الحاكمة ان تقوم بشيء من هذا القبيل لكي تبقي النخبة المُثقفة مُتشابهة قدر الإمكان وتواصل مهامها. ووفقا لسارتر فإن الكاتب يلعب هنا دورًا مهمًا، حيث أنه بطبيعته مُقدر له اتخاذ موقف فكري.

 

 

سامي عبد العالالأسئلةُ لا تسقط كالأمطار من السماءِ ولا تنبتُ من الأرضِ كالأعشاب، لأنَّها نشاط إنساني يثير قضايا فكرية خطيرة. الخطورة من زاوية كشف أبنية الثقافة، ولماذا تتفاعل مع حركة التاريخ، كلُّ ثقافة تلقي برواسبها العميقة على ضفاف المجتمعات كالنهر الذي تكتنفه تيارات شتى فيحرك الراسخ. والثقافة الإنسانية دوماً كونية التكوين والتطور وإنْ كانت نوعية الطابع. وكلما كان الفكر متمرداً، استطاع إثارة أسئلة أكثر جرأة وابتكاراً.

لا توجد حياة إنسانية دون أسئلة تبحث في أعماقها وتنتقد أسسها القائمة. فالأسئلة ضربٌ من المواجهات بين أزمنة ما كانت لتلتقِ إلاَّ بألوان الحوار العميق. وهي تقلل درجات الصدام إلى حد التلاقح، وبدلاً من اتيانه صداماً عنيفاً، يغدو أكثر خصوبة وتجاوزاً.

توصف الأسئلة بالزيف نتيجة غياب موضوعها الأصيل. والموضوع بهذا الوصف يحتاج تاريخاً حتى يكون كذلك، أي يجب أن تكون هناك حياةً حرّة تجعل الفكر والتساؤل جزءاً من همومها اليومية. ففي مجتمعات لا تعيش عصرها، ولا تبتكر رؤاها الحيوية لن تُثار إلاّ اسئلة تافهة. وهي كضرب من المعرفة ستكون في غير موقعها النوعي. السؤال عبارة عن طلب لحوح، بحث دؤوب عما يسد حيرة الإنسان كجائع ينهشه الجوع ويبحث عن شيء يسد رمقه!!

الاسئلة الزائفة هي وليدة هامشية هذا الجوع للمعرفة والاختلاف، أنها نتاج الفراغ العبثي في معدة الثقافة وامعائها لمزيد من التحرر والامتلاء. كلُّ ثقافة لديها قدرة على الهضم واعادة انتاج محتوياتها إنَّ لم تجد جديداً لتأكله. لكن عوضاً عن توجه الأسئلة في طريق مختلف، تغدو عرضَّاً طافحاً لهذا المرض التكويني، فأي سؤال زائف هو نتيجة باثولوجيا التفكير pathology of thinking فيما لا يفيد واجترار قضايا غثة.

بكلمات أخرى تعتبر الأسئلة الزائفة مجرد ادعاءات بصيغة الطلب request خلف أشياء وأفكار لا مجال للتحقق منها هنا والآن، اشياء قد لا تخص الإنسان إلا إيماناً حتى وإن عرف إجاباتها. ابرز الأمثلة أسئلة دينية تسود من حين لآخر مثل: هل نحن محاسبون على قتل البعوض؟! ما هي اشكال الملائكة وألوانهم؟! كيف يتناسل الشيطان والجن؟! هل ثمة خطة مصممة للأقدار يمكننا كشفها بدقة؟!

علما بأنها اسئلة وسط واقع لا نعرف عنه شيئاً ومغطى بالتحريمات التي تدهس الإنسان!! التناقض الساخر: أن الواقع مجهول ونبحث عن مجهولات في عوالم أخرى لها سياقها. يبدو أن اسئلة من هذا القبيل حيل ملتوية للهروب من مناخ لا هوتي وثقافي يحول دون الفكر الحر وتدعيم حركة المعرفة والمشاركة في الحياة بكافة جوانبها.

ذلك الزيف يبرز مفارقات أوسع: كيف نتساءل عن الحقائق في مجتمع كذوب؟! كيف نبحث عن الإنسان وسط انسانية مهدرةٍ قبل كل شيء؟! على المنوال ذاته: لماذا تأتي المساواة والعدالة ضمن أنظمة سياسية قمعية لا تعترف بأية عدالة؟  لماذا نبحث عن الآخر ونحن نقتله يومياً؟ كيف ننقب عن صدق الايمان وقد تحول الدين إلى إكراه؟! كيف نبحث عن دين مزقته الجماعات الدينية إلى أشلاء؟!  لماذا نزعم أننا نتجه صوب الله ونحن نكفر كلَّ مؤمن آخر؟ لماذا نطرح أوجه اختلافنا ونحن نُسخ مشوهة من بعضنا البعض؟ كيف نلوك عبارات الحرية وقد أمست التربية تدميراً للإرادة والمسؤولية؟ كيف نريد ترسيخ قيم العقلانية بينما يسير المجتمع كالعربة الحمقاء دون كوابح؟ كيف نتطلع إلى الجنة ونحن نقف في طريق الباحث عنها بل ننتهك وجوده؟!

إذا طُرحت هكذا قضايا باحثين وراءها عن أسباب، كانت قضاياً كاشفة إلى درجةٍ بعيدةٍ. بل قد تؤكد علاقات وصوراً وأبنية فكرية لها ذات التكوين الخادع. فالسؤال هو جوهر الوجود الإنساني سلباً وايجاباً. وبإمكانه أن يكشف ما وراءه من أفكار، لأنه ابقى من الإجابة وأوسع نشاطاً. وكم من أسئلة لديها القدرة على الانفلات من عصرها، لأنها تخبو نتيجة القهر تمهيداً للظهور في وقت تال.

لكن.. بأي معنى هناك أسئلة زائفة false questions؟! هل يجري الزيف منطقياً أم بلاغياً أم حياتياً؟ الاسئلة حينما تكون مزيفة، فليست تقنية طرح لها دهشتها ودلالتها الفاعلة. ربما سيكون طرحها بهدف مغاير لما يفهم منها مبدئياً. فالسؤال -وإن كان غير ضروي - يثير أسئلة تالية لا تتوقف. وهذه سمة لا تتضح في أغلب الممارسات الفكرية الأخرى. فسؤال: لماذا لا نطير مثل الطيور في السماء؟ يبدو سؤالاً مصوغاً على نحو خاطئ. بيد أننا لو دققنا النظر سنكشف مغزاه الآخر، فنحن لا نطير، لأننا كائنات مختلفة جسداً وطاقة وقدرة، بينما الطيور مزودة طبيعياً بتلك الإمكانية.

وبالتالي من زاوية التاريخ، كان السؤال السابق مؤولاً لاختراع تكنولوجيا الانتقال عبر الفضاء وتجاوز حدوده. إذن ليس ثمة سؤال مزيف إلاَّ باستطاعتنا تأويله. سيكون مزيفاً طالما وجد ثمة سائل يلقيه في المكان الخطأ وعبر دلاله ليست له. إضافة إلى هذا، فإن السؤال يرتب وضعاً ما، فأنت تطلبه وهو يطلبك بفتح طريق معين.

إن الأسئلة الزائفة هي افراز لحياة مزيفة. فكلُّ واقع زائف لن ينتج إلاَّ شيئين:

أولاً: وعيٌّ فارغ تغذيه المشكلاتُ المفتعلة سواء بين الأفراد أو الجماعات. فالجذر الدلالي للزيف مرتبط بالتكلُّف والاصطناع والخفة وانعدام الأصالة. وهذا ما يظهر يومياً مع وسائل الإعلام ومساحات البرامج التي تغذي التراشق بين المجتمعات وتغذى فاض التفاهة المتراكم.

ثانياً: تضخم اللغة في أشكال استفهاميةٍ لا قيمة لها بحيث تشغل الفراغ. أي تصبح الثرثرة سمة عامة كجزءٍ من بناء الحياة اليومية.

والنقطتان السابقتان قد تحددان عصراً كاملاً بحجم التخلف الذي تعيشه بعض  الأنظمة الاجتماعية والسياسية. فيحدث هناك امتلاءٌ فارغ كالريح التي تصْفُر في كهفٍ أجوف.

وإذا كان الاستفهام بذلك الوضع يعد عرَّضاً، فسرعان ما يشكل جوهر الأفعال والتصورات المترتبة عليها. والمتوقع أنَّه يربك العقل الناقد بكم الإجابات التي في غير مسارها. وقد يحاول حتى الامساك بمعايير للنقد، حيث لا مشكلة ولا سؤال من أساسه. وتصبح هناك قضايا زائفةٌ وأفكار زائفة وثقافة زائفة. ليس بالمعنى الذي يقصده الفكر الوضعي المنطقي حين يطابق بين الألفاظ ومدلولها الواقعي (مبدأ التحققverification)، بل بالمعنى الثقافي المؤكد لدلالة النشاط الحي وأهمية اللغة كأفعال إنجازية. فالأسئلة انجازات عقلية لها قضايا ما كانت لتأتِ لولا طرحها باللغة التي هي بناء الفكر.

هكذا في تاريخ العالم العربي قد يوجد لدينا سياسيون دون أسئلة سياسية فعلية. ورجال دين من غير تدين حقيقي كمشروع إنساني، وعلماء عباقرة في كافة العلوم بلا علم ولا إبداع. واساتذة لامعون وألقاب أكاديمية دونما مضمون، ودولة بلا دولة وأنظمة بلا نظام، لكونها دائرة في فلك بدائي خارج التاريخ، وتوجد قوانين يقال عنها مصونة وفوق الكل بلا مشروعية حقيقية. قِسْ على ذلك أغلب الكيانات والأسماء والخطابات المشابهة والتي تسير بالطريقة ذاتها.

عندئذ: ماذا سيقدم السؤال غير التزييف؟! هو سيطرح نفسه بجدية التفكير لكن بلا قدرة على الاستفهام!! هكذا يطلقون على العملات المزيفة في الاقتصاد أوراقاً مالية بلا قيمة. إما لأنَّها لا تساوي شيئاً في الأسواق. وبالتالي تكاد تنعدم قوتها الشرائية وتزيد نسبة التضخم. وإمَّا أنها مزيفة فعلاً لتكون مجرد ورقة عليها أرقام عشوائية. من يأخذ الأسئلة على محمل الجد حتى في تاريخنا الثقافي العربي القريب؟! من ذا الذي يعني بالكد وراء الإجابات ولو وراء نصفها؟!

ستكون كلُّ تداعيات الاسئلة المزيفة غير حقيقيةٍ هي الأخرى. الأمر الذي يعطي مشروعية لكيانات تعيش في الأخيلة وحسب، لأنَّ الأسئلة ستعود إليها في محاولة لتأكيد مكانتها. كما أنها ستظل مرتبطة بظروفها الفكرية والثقافية التي ظهرت بشكل غير منطقي. فالأزمات هنا لها آثارها في أشكال عدة، من بينها الأسئلة السطحية التي تلتهم الوعي. ولئن أظهرت شيئاً فإنّها تفضح خلل استعمال اللغة بذهنية غارقة في الأوهام. والسؤال المزيف بالنسبة للثقافة العربية هو فتيل الأزمة، تلك التي ليست خاصة بمجال معين بقدر ما تتغلغل عبر مجالات أخرى.

وبالرغم من كون السؤال صيغة مقننة العبارة، إلاَّ أنه واسع الأثر. وكلما تلقى إجابة كلما ازداد التأكيد على موضوع "غير موجود". وتعبير "غير موجود" لا يعني معدوماً. فقد يمثل انشغالاً بما لا يجب وافتعالاً لأحداث ونزاعات لا طائل منها. أو بعبارة ابي العلاء المعري " لزوم ما لا يلزم". فالثقافة المزيفة تجعل الهامشي –على أهميته أحياناً- متناً ضخماً. ينشغل به الناس والاعلام والقاءات العامة والكتب الصفراء (كتب الأرصفة) بقضايا هامشية، مثل أخبار وفضائح رجال السياسة والدين وجرائم العائلات والعلاقات الجنسية وأخبار الحوادث والنزاعات الشخصية وكواليس السياسات وحماقات الأفراد وخصوصياتهم.

وبخاصة أن شبكات التواصل الاجتماعي جعلت هذه الأخبار متناً ً تلوكه العبارات وتنشره التعليقات كالنيران في الهشيم. لدرجة أن التفاعل والتغريد عبر صفحات الفيس بوك وتويتر وانستجرام يعيدان ترويجها بلا حدود. إن الذباب الالكتروني كالذباب الطبيعي يقف على الجيف والجثث ولا يعيش إلاَّ وسط الركود. وبتنا نرى استعمالاً دارجاً لوسائل التكنولوجيا والاتصال يكرس " فقر الفكر وفكر الفقر" بعبارة يوسف إدريس.

ذلك عودة مرة أخرى إلى الثالوث المحظور مقاربته أو تناوله (الدين والجنس والسياسة) في المجتمع العربي. فنتيجة انعدام الحرية وغياب المعرفة الفعلية شكل الثالوث السابق هوساً جمعياً. بل جعل الحديث فيه- ولو كان تافهاً هو الآخر- موضوعاً للرواج والاسفاف الاجتماعي والأخلاقي. المدهش أن ثمة فئات في المجتمع العربي تعرف هذه الآلية فيتربحون مادياً ورمزياً من هذا الوضع.

ففي المشهد الثقافي المعاصر، نجد الاسفاف الفني يأخذ مداه على هذا النحو. الغناء مجرد مُواء أنثوي أو تخنُث رجولي، لكنه في النهاية يسمى فناً وتفتح له الأبواب والنوافذ معاً. كذلك التمثيل الفني صراخ وعويل في الأفلام والمسلسلات ناهيك عن التكرار والسطحية. وفوق هذا وذاك يدِّر ارباحاً لا طائل لها مثلما يبدو في أجور الفنانين. كما أنه يضع القائمين على انتاجه في صدارة المبدعين كأنَّ الأمر حقيقي.

ونتيجة الأسئلة الزائفة في هذا الباب تظهر أوضاع جانبية لكنها مرَّضية. بمعنى أن الهامشي يحتل مكانة المتن التي ليست له. ليغدو ثقافة رائجة تعيد دغدغة وتفتيت القيم والأولويات في المجتمع العربي وإهدار الأنشطة الإنسانية. فأصبح الكسب الخاطف فرصة لمن يتطلع للثراء السريع. وبات معروفاً لكل شاب وفتاة أنَّ الممثلين والممثلات ورموز الرياضة ورجال السياسة هم أيقونة المجتمع. وفي هذا المناخ ظهر أيضاً بذات الأسلوب رموز الخطاب الديني ودعاته الديجيتال. هؤلاء الذين جعلوا الدين ظاهرة زائفة وكهنوتاً له كل الأتباع والمريدين، بحكم الطقوس والرسوم والقشور التي غرقوا فيها. إذ حرصوا على الشهرة وارتداء المسوح العصرية واستعمال اساليب الاعلام البرّاق والوسائط المبهرة في الدعوة والتوجيه، بينما خلا كلامهم من أي منطق وتسامح فعليين.

أبرز مثال الفتاوى الدينية حينما مثلت صلب الاسلام الراهن وجماعاته المتطرفة. وجميع الفضائيات تفتح الهواء للفتاوى ليلاً ونهاراً حتى غدت هي الدين ليس إلاَّ. وإذا كانت الفتوى قائمة فقط على أسئلة فهي ظاهرة التزييف المراوغ: الأسئلة والحياة معاً. فالدين في وجوده الإنساني لا يحتاج سؤالاً ينحرف به عن الإيمان  والامتلاء الروحي. هكذا رأينا الفتاوى المعاصرة تغزل سلطتها على استفهامات زائفة. مثل: هل اللحية من الشريعة أم لا؟! هل يكون جلباب الرجال قصيراً أم طويلاً؟ هل لبس النقاب من ضرورات الإسلام أم غير ذلك؟ (أسئلة الفتنة التي لانهاية لها) وهل الضرب المبرح للمرأة شرعي أم الضرب الخفيف؟ وهل يمكن للخاطب رؤية خطيبته منفرداً أم في وجود محرم؟ وهل للفتاة أن تتصفح الفيس بوك أم سيقودها إلى الرذيلة ويجب أن يكون معها محرم؟ (لنلاحظ الأسئلة الذكورية) وهل تستطيع المرأة شرعاً قيادة السيارة؟ (هكذا أصبح رجل الدين عسكري مرور وخفير درك)، أسئلة تعمي من يطلقها ومن يجيب عنها على السواء.

ذلك لأن القضية بالأساس ليست مهمة دينياً ولا أخلاقياً ولا لإنسانياً. كقول أبي الطيب المتنبي: أغايةُ الدين أنْ تحفوا شواربكم... يا أمة ضحكت من جهلها الأمم. كما أنَّها تستفتي كهنوتاً في شعيرات وملابس لا تمس جوهر الإيمان والروح ولا الحياة!! في الوقت نفسه الذي تقطع فيه الجماعات الإرهابية رؤوس المسلمين وغير المسلمين!!

أي منطق وراء استفهام يجتزئ مسألة تافهة؟! بينما الواقع القميء والمتدهور لم يُمس من قريب أو بعيدٍ. لقد غدا الدين الإسلامي فتاوى وراء فتاوى بأشكال غير ضرورية. فتاوى بإمكانها تحت تأثير الهوس الديني أن تفجر الناس(الارهاب والمجتمع) وغيرها باستطاعتها أن تشق المجتمع طولياً بعمق التاريخ الاسلامي (شيعة وسنة). أخطر الأمور أن يصبح الدين والله والجهاد والآخرة مجرد فتاوى لدى ذهنيات جاهلة وارواح نابضة من الحياة. لأنَّها لن تكون اعتقاداً خاصاً، بل سيتلاعب بها شيوخ الفتاوى تبعاً للمصالح. وشيوخ الفتاوى (في هذا الباب) غير مطلعين على الثقافات العصرية ولا هم يزودون أنفسهم بالرصيد الوافر من المعارف العالمية والتاريخية المتعلقة بالمجتمعات الراهنة. يتعاملون مع الظواهر الثقافية الكونية تعاملهم مع الشياطين التي تحل في خفاء وبليلٍّ بهيم، لا يدركون كيف نشأت هذه الظواهر ولماذا هي واسعة التأثير والانتشار؟!

هناك خاصية لأي استفهام مزيف: أنه يأخذ دوراته المعرفية في عمق الثقافية الجارية، وبالطبع ستلف معه اجابات وهمية (الاسئلة تتردد على ألسنة الأفراد جميعاً). وسيجري وراء المعنى جريَ السراب وراء السراب. ولدى هذا السؤال هناك الجديد: لأن رواج الاجابات يُمكِّن أصحابها من البناء عليها. فيأتي آخرون لتكملة المشوار في الطريق الخطأ. على سبيل التوضيح وقع أصحاب مشاريع النهضة العربية والاسلامية في هذه الفخاخ. كان هاجسهم الأول والوحيد التوفيق بين "الأصالة والمعاصرة "، بينما أغفلوا جوهر الحياة العربية ذاتها (الآن وليس أمساً وليس غداً). فكانت رؤيتهم للتراث غير ذات أهمية بالنسبة لحركة الحياة. لكونهم لا يرون فيه غير التاريخ الماضي لا الثقافة الكونية المتواصلة. وكذلك رؤيتهم للمعاصرة اعتماداً على  مجرد الاستعارة والنقل من الغرب. وهذه ظاهرة غريبة على المجتمعات الشرقية (الشرق كان أصل الحضارة!!) ولكن حينما افتقدت لروح الإنسانية المواكبة  للجديد، لم تشارك فيها وانكفأت على مصيرها المجهول.

ليس السؤال المزيف فردياً، إنَّه يدور مع التصورات المتداولة، ولا ينتهي عند هذا الحد. لأنه قد يتغلغل في وعينا الهائم نحو التاريخ. فيحيي صراعاً أو مفهوماً غابراً أو يستحضر صورة غابرة من التراث. وبالتالي لا يعاد طرح السؤال المزيف مصادفة، إنما يكمن في طرائق الحوار والتفكير. ليشكل بنيه فارغة تفترض أجوبة من ذات القبيل.

كذلك لا يعد السؤال الزائف كاذباً بمعناه العادي. لأنَّ الكذب صورة مخالفة لواقع الحال، بينما الزيف عبارة عن وهم هذه الصورة كأنها الحقيقة. أي إرجاع كل صفات الحقيقة لهذه الصورة ولا شيء سواها. بالتالي سيكون الزيف كذباً وتشويهاً في الآن عينه، وهو أيضاً صادق منطقياً في زيفه لدرجة التصديق، وبجانب أنه سيأخذ صفة الحقيقة والتكرار.

فارق آخر مهم أن السؤال الزائف لا يموت، لكنه يستفيق وينبعث في أوقات الأزمات. ويصر على طرح نفسه- من خلال المناخ السائد- رغم عدم وجود مبرر له. ولكن مع اكتشاف أمره بهذا الفهم السالف، يمكننا معرفة أصالته المفقودة.

يصحُ هذا فقط، إذا أدى السؤال الزائف إلى استفهامات نقيضةٍ تضعه خلال إطار إشكالي يتجاوز ادعاءاته وإجاباته. بمعنى أننا يصعب التخلص من الأسئلة الزائفة، فهي مفتاح لخريطة الأزمات وجزء من الحلول. لأنها تنمو كالأعشاب البرية المتسلقة وسط الحقول الزراعية وتتغذي على غذاء الأشجار والنباتات الاساسية!!

 

سامي عبد العال

 

 

سامي عبد العالليس العنف باسم الدين مجردَ فعل طارئ، لكنه عمل مُركَّب يحتاج خيالاً يَفوقُه تهوراً وجُموحاً. إنَّه عمليات من الشحن الأيديولوجي والتهيئة والتفنُن بتوقُّع الأثر وفوضى المَشاهِد ورسم المجال وانجاز الأفعال وانتظار النتائج وافراغ الكراهية إلى أقصى مدى. الخيال الديني imagination  religious هو الآتون الواسع الذي تُطهى فيه هذه الأشياء وتضاف إليها عناصر القسوة والتشفي (أليس الارهاب صادماً ومؤلماً في عملياته؟)، ثم ينتظر الإرهابيون نُضجَها وقطف ثمارها في أحد الجبال أو تحت سقف التنظيمات والجماعات المتطرفة.

الأمر بلغة بيير بورديو هو عنف رمزي symbolic violence مضاعَف ومغلَّظ المعاني في قفزة فوق عقلانية تسمى بالتخييل. إذن العنف موجود، لكنه يتحرك بقفزات زائدة عن الحد ويتحول عبر وسائط أخرى مشبعاً برمزيتها. هذا ناهيك عن استيلائه على فائض القداسة التي يوفرها الدين في كيان الأفراد وآفاقهم الميتافيزيقية والروحية.

ولذلك فكلُّ عملية ارهابيةٍ هي صورة خيالية imaginative image بلغت حد اللعنة كلعنة الخرافات والأساطير القديمة التي تستهدف الأعداء، حيث تجيئ العملية من النقطة العمياء وغير المتوقعة تماماً في الأداء اليومي للمجتمعات (مسرح الارهاب). وهذا ما جعل العنف والارهاب باسم الدين يحملان تلك المعالم.. كونِّهما مسكونين بجميع ما يُضاد الإنسانية عبر كل إنسان (بتعبير القرآن: من قتل نفساً فكأنَّما قتل الناس جميعاً)، كما أنَّهما- عنفاً وارهاباً- يختمران (يتكونان) بوافر الدلالة على مستوى الفكر والفعل.

 وطبعاً ليس ذلك غريباً على الكائن (الارهابي)، لأننا كذوات بشرية نحن أصلاً عبارة عن حفريات مطمورة من العنف وأخيلته المعتَّقة تاريخياً وتراثياً، سواء من جهة الغرائز أم الأفكار أم الهلاوس، وحتى الأحلام والتسامي والوداعة والعواطف.. جميعها متشربة ببقايا مهولة من العنف الرمزي. لكن الغريب هو استعمال الدين واعتباره صورا ملتحمة بتبريراته المعدَّة سلفاً كالعبوات الناسفة أو بجانب السكين التي يحملها هذا الارهابي أو ذاك. فالخيال العنيف يحتاج تغذية راجعة feedback وسقاية بماء الكراهية والغضب (تجاه كذا...) طوال الوقت.

وهذا ما التقطته الجماعات الاسلامية بحسها البيولوجي المستنفر دوماً (مثل ذئاب وضباع وحيوانات مفترسة نائمة لكنها متيقظة للانقضاض). هي حالة حيوانية رمزية تستجمع قوى الفعل المباشر دون تفكير ولا اعتبارات إنسانية. والملاحظ أنه لا يوجد لدى (تلك الجماعات) فاصل ولا فارق بين (الخيال والبيولوجيا)، بين (العقل والغريزة)، فالإرهابي كائن بيولوجي وخيالي مذهل بشكل غريب، ذهنية معجونة من التخييل الذي هو الحس التلقائي الفاعل مادياً دون ضابط. العالم كله بالنسبة إليها ساحة حرب ودماء، لا تشعر بآلام ولا بندم ولا بمراجعة نقدية لما تفعل، وتلك نراها لدى حالات القاعدة والدواعش والإخوان والتكفير والهجرة التي تتوحد بالغرائز الأولية في شكل تدمير وقتل.

 ولو سألت إرهابياً: لماذا تقتل باسم الدين؟، لكانت تلك الأفعال لديه آتية في معاني الجهاد والتسامي والشفقة على الآخرين. الشفقة من كون ضحاياه غارقين في براثن الكفر والذنوب والفحشاء، وأنه يرى ذاته نبياً في ثوب مجاهد لتطهيرهم من الآثام المؤدية لعذاب السعير. هذا هو "الانقلاب المتخيل" لفعل التدمير تجاه مخالفي أفكاره ونمط حياته. أي يعكس الحياة داخله وداخلهم، يدفعها دفعاً لصالح الموت بمبررات اعتقاده ذاهباً لتحقيق ذاته من خلالهم (الموت معاً نحن وهم). والحس البيولوجي (الغرائز والشهوات) هو الذخيرة التي تشعل خيال الارهابي في ليل العالم كما يتوهم.

 وهكذا فإنَّ الأعمال الدموية التي يرتكبها شباب اسلامي في أوروبا ليست مصادفةً، ولا سيما مع تجددها من وقت لآخر. فلم تختفِ حتى مع وباء كورونا (عمليات الطعن بفرنسا– ألمانيا– انجلترا)، رغم أنَّ القارة العجوز قد نخر الفيروس في عظامها، دخلت الملاجئ وانزوت بردهات العزل الصحي، ولم تواصل – كما يقولون- الفُحش الحضاري ولا العولمي حتى. أصبحت أوروبا رجل العالم المريض كما كانت تطلق على الدولة العثمانية في الأزمنة الحديثة.

 بالفعل أوروبا صحيَّاً – لو رسمناها بالكاريكاتور- مُلقاة على أسرّة العناية الفائقة ... تكُح وتسعل وتعطس وتتهاوى بالمرحاض ولا تجد من يأخذ بيدها!! الوجوه مجرد كمامات عمياء فوق أنوف حائرة. القارة تخشي حتى من الاتحاد الذي صنعته وتباهت به أمام المجتمعات الأخرى وقالت أن كورونا بمثابة شهادة وفاة له. وبالمناسبة حالة كورونا أظهرت عمق أزمات الحضارة الغربية التي قد تنفرط عما قريب أو بدت، ربما ترجمت اضمحلال الغرب وانحطاطه كما قال اشبنجلر وأكده إدموند هوسيرل في كتابه "أزمة العلوم الأوروبية" و مثلما عبر عنه لاحقاً سلافوي جيجك وإدجار موران: نحن إزاء الكارثة أو في انتظارها.

لكن من قال لمتطرفي الاسلام ألاَّ يرحموا انساناً أيَّا كان؟ هل الإسلام كرحمة للعالمين قال ذلك؟ أليس الحال يطال الجميع (أوربياً وغير اوروبي) فوق تراب القارة العجوز؟ هل سيفرق فيروس كورونا بين مسلم ومسيحي ويهودي ولا ديني؟ وبجانب هذا وذاك... لماذا يُمعن هؤلاء الارهابيون في قتل من يصادفون بساحة الجهاد (كما يتصورون)؟ بمعايير الأمراض: ربما يكون الفيروس أرحم من هؤلاء، فقد يصاب به إنسان ويشفى بعد فترة المرض والنقاهة، لكن  فيروس الإرهاب لا يشفى منه أصحابه فضلاً عن أعدائه ولو بعد حين.

أعمال الارهاب وُعود تاريخية ونصوص فقهاء وفتاوى لاستحلال كيان الغير بعمر الاسلام السياسي. لم يكن هذا الشاب أو ذاك الذي يطعن من يقابله في فرنسا  إلاَّ وقد رُوبي ونُشّيءَ على تصنيفات القتل تحت عمائم التنظيمات الدينية: مؤمن / ملحد، إيمان / كفر، غرب/ شرق، الله / الشيطان، حياة الهداية / حياة الضلال. وكل تصنيف من هذه التصنيفات يقف على اعتاب الجنة أو النار، حيث يراه الارهابي فيما يردد رُؤيَ العين. ولا يكتفي بهذا، بل يزعم أنه يسابق الملائكة لإدخال (من يحب) الجنة ويزج (من يكره) إلى النار. فكيف ستكون النتائج التالية في واقع الحياة والبشر؟!

هكذا ليس لمسلمي أوروبا المتطرفين إلاَّ مخزون العنف الآتي من أضابير التأويلات الدينية الغارقة بالدم. إنَّ أجسادهم وعقولهم قنابل معَدّة للتفجير تجاه أي انسان. وللأسف فإنَّ حشو القنابل شرقيٌ إسلامي خالص مثلما هي عبوات الأدمغة التي صنعتها التربية الخيالية للتنظيمات. وأن سحب الفتيل الذي ينفجر بعده كلُّ شيء هو مجرد مبرر فقهي فارغ من الحياة. لِمَ لا..؟ وهؤلاء المتطرفون مقبرةٌ حيةٌ تنمو فيها فتاوى القتل واستحلال دماء المسيحيين واليهود. ودوماً هم في بلاد الكفار كما يزعم منظرو الجهاد وممارسوه كأبي الأعلى المودودي وأبي الحسن الندوي وايمن الظواهري وأسامه بن لادن وغيرهم. فإذا كانت ديار الإسلام ديارَ أمن وسلامٍ، فإنَّ ديار أوروبا خريطة للدماء المفترضة.

 إنَّ المُسلم يصاب بصدمة قاتلة بمجرد أن تطأ قدماه أوروبا، لا لشيءٍّ إلاَّ لأنَّ ما يعرفه عن الحياة والآخر والعالم يتضاءل إلى درجة التلاشي. وأنَّه يحمل ما برأسه وحياته أينما ذهب مقيِّماً على أساسه ما يراه دون السياق واختلاف العيش. هذا التصور يخترق معظم الاتجاهات الفكرية الاسلامية: تقليدية وتنويرية.. بأي معنى ذلك؟!

 لقد نوَّه الشيخ الأزهري رفاعة رافع الطهطاوي إلى باريس قائلاً: بلد النور والنار، بلد الجن والملائكة!!.. أيُّ جنٍ إذا كان ما يحمله برأسه محض هواجس من بطون كتب الفقهاء والتفسيرات والحواشي القديمة؟! وأيَّة ملائكة مادام يصف الآخر (المغاير حضارياً) باعتباره مناوئاً ديناً وأخلاقياً؟! إنَّ الطهطاوي مهما قيل عن استنارته وانفتاحه في هذه النقطة بالتحديد إلاَّ أن القراءة العميقة لكلامه تكشف: كم كانت عقول فقهاء الازهر التقليديين قشوراً مهترئة لإحساس اقصائي بالباطن، هم غالباً غير شاعرين به ويمارسونه كأنَّه الحقيقة.

الطهطاوي طوال الوقت يتحدث عن الفرنسيين وعاداتهم ومكانة المرأة لديهم والدستور وطبيعة الدولة والحياة الاجتماعية بنظرة ليست بريئة دينياً، نظرة الشيخ السلفي المتخيل الذي تربى على يديه ومازال يسكنه من الداخل. وليس هو الشيخ الذي يواكب الحضارة ولا الذي يتزامن مع الفرنسيين داعياً إلى ايجاد دستور وقانون موازيين، إنما هو الآتي من قرون على اعتاب القرن العشرين. المشكلة أنَّها قرون عاطلة من الحضارة ومليئة بالتقليد الذي انكفأ عليه المسلمون أمام عصر معرفي وحضاري (في أوروبا) لا نملك أمامه إلاَّ المفاجئة والاحتذاء. نظرة الطهطاوي هي نظرة منحازة ثقافياً إلى ما ينبغي أن يكون في ضوء التاريخ الإسلامي، أي كان نمط الإسلام لديه نموذجاً سلفياً وهو الفيصل بينه وبين العالم. نحن نريد أن نعرف ماذا يحمل في رأسه وكيف تدخلت حمولته في رؤيته؟!

 بالتأكيد أنَّ كل من قرأ الطهطاوي دهشته مؤلفاته التي تحدث فيها عن أوروبا (تلخيص الإبريز في تلخيص باريز، و المرشد الأمين في تربية البنات والابنين)، أي نظر معه (بمنظاره هو) إلى الحياة والثقافة الأوروبية، بينما هذه المؤلفات تكشف تماماً تكوين الذهنية الشرقية واللاهوتية رغم أنَّ صاحبها لديه استعداد التعرف على الآخرين. وهو إذ يفعل يقف للأوروبيين بالمرصاد كاشفاً إلى أي مدى يختلف هؤلاء عنا (ثنائية العنف: نحن- هم). وكأنه يقول نحن في حالة تناقض حضاري حادٍ، لأننا أصحاب الدين الحق وأصحاب الثقافة القويمة بينما هم أهل الباطل والانحراف. والطهطاوي في هذه اللحظة المزدوجة يقرر ما يعتقده صحيحاً لا رجعة فيه، كأنَّ (الاوروبيين) غائبون تماماً بينما الكلام يقيِّم حالهم عن كثب (أمام محاكمة تاريخية إن صح التعبير). ذلك يؤكد بخلفية المتابع نتيجة الطهطاوي القائلة: كم نحن مختلفين جذرياً عن أوروبا، ولسنا في حاجة إلى ما يؤمنون ولا ما يعتقدون ولا ما يمارسون. فقط يا ليت لدينا معارفهم وتقنياتهم وسياساتهم لإحراز سبق المدنيّة والتقدم!!

وتلك هي الرؤية السطحية التي لا تعرف تطوراً تاريخياً ولا حضارياً للغرب (التطور في اتجاه- والحياه في اتجاه آخر). وهذا لا يعني هنا دفاعاً عن أوروباً بالتبعية، ولا يعني العيش كما تعيش أوروبا فهذا مستحيل!! المهم هو كيف قيَّم الطهطاوي أوروبا وذهبت ثقافته إلى حيث لا تتطور طالما وقفت عند الشكل والاحتذاء كما نادى. ولذلك يستحيل استنساخ الحضارة ولو على ركام الماضي، لأن الثمن الباهظ هو تحويل المستقبل إلى جثة متحركة.

الأوضح من ثمَّ أنَّ الطهطاوي جعل ثقافته معياراً لدراسة الآخرين باختلاف أطيافهم. ثم وضَّعهم في قوالب ذهنية لا يعبرون عنها بالضرورة. وهذا يتضح أكثر في حديثه عن العلاقات بين الرجل والمرأة. حيث يشير دوماً إلي أخلاقيات الشرق، حين تحرص التقاليد لدينا على علاقاتٍ بعينها بين الجنسين (الأساس الاخلاقي). وبذات الوقت ينفيها – يستنكر انعدامها- إزاء الأغيار بحسب قيمهم وطرائق حياتهم الاجتماعية (هم هكذا يعيشوا)، أي سيرى أفعالَّهم كأنها جرائم وتُهم اخلاقية. وهذه النظرة عنيفة في أساسها، لأنها نمطية ولا تتجاوز الفوارق الحضارية بين الشرق والغرب، كما أنَّ المسألة ليست أخلاقية فقط. لو انها مسألة أخلاقية ما كان يجب على الطهطاوي الذهاب إلى أوروبا وهو يعرف ذلك جيداً!!

كيف إذن لأزهري معمم بالثقافة أنْ يرى الواقع والحياة خارج عمامته؟! إن

ما حدث مع الطهطاوي حدث مع محمد عبده، فلم يتخلص الاثنان من العبارات التكفيرية برداء اخلاقي. إنَّ الاخلاق التي يري البعض فرضها فرضاً تعد أكثر تكفيراً وعنفاً من الدين نفسه. الفارق أنَّ التكفير لدى جماعات العنف الديني كان بارزاً بينما كان يُغلَّف لدى المستنيرين بالإعجاب تجاه الغرب، ثم يرتدي عباءة التقييم الأخلاقي للحياة.

لكن التصنيف في قاعه البعيد واحد: المسلم/ غير المسلم، صاحب الاخلاق/ الفاسق، نحن الأفضل/ أنتم الأسوأ.. وبالتالي المواقف واحدة في ميزان العنف لو أخذنا بهذا الجانب. المنظوران الاثنان (المستنير والارهابي) لم يفهما لماذا يختلف الغرب عن الشرق، ببساطة لأنهم لم يفهما ابتداءً الأسس الفلسفية والفكرية والمعرفية للحضارة الغربية. فهم فقهاء يشربون من معين واحد في جبة عصرية لا تُغير شيئاً لا بالتاريخ ولا الجغرافيا.

ومن ثمَّ لا يجب وضع مسلمات أمام قراءة(الفكر العربي الحديث) من قبيل أن هذا شيخ عصري وذاك تقليدي، هذا شيخ حداثي وآخر رجعي. فأكبر الأخطار فلسفياً النظر إلى ممثلي الفكر العربي (الطهطاوي ومحمد عبده والافغاني والكواكبي ...) كرموز للتجديد والتنوير هكذا بمطلق الكلمات. إنَّ في كتاباتهم طبقة سرية من الجمود والتصنيف غير العقلاني لقضايا الشرق والغرب. وإذا حفرنا وراء أحدهم أو غيره سنجد أن أغلب قضاياه مشبعةٌ بآراء فقهية وانحيازات دينية(غير عقيدية) بالأساس. وأنَّ التسامح ونقل التحضر والأفكار المدنية "حيلة عصرية" لمواكبة التطور والتقدم، لكن العداء يلتقي مع سواه الأشد فتكاً في الغاية. وأنَّه كان لا مهرب حضاري لديهم من التعلُّم، بينما كراهية الغرب مستمرة بأشكال أخرى، تماماً مثل الفارق بين قطُع اليد التي تكرهها (موقف الارهاب) وبين تقبيلها مؤقتاً للإفادة منها (موقف المستنير).

 لقد كانت اجاباتهم لسؤال شكيب أرسلان: لماذا تقدم الغرب وتأخر المسلمون؟ اجابات غير صحيحة. لأن الحضارات لا تقارن كأنها تمتلك الدرجة الصفر ذاته للتقدم والانطلاق. كما أنَّ الاستفهام يؤكد الاقصاء والتنافر بالوقت ذاته، وكذلك هو سؤال يقارن حالتين لا مجال للمقارنة بينهما حياتياً. لأنَّ كل حضارةٍ لها طابعها المميز من الوجود والفعل. وأنَّه لا يجب احتذاء الواحدة للأخرى اطلاقاً مهما تكن. وإلاَّ لأضحت أحداهما عبئاً تاريخياً ولا قيمة لها. ومن هنا أخذا بنصائح التنوير فإنَّ تاريخ العرب المعاصر كله كان سائراً بالطريق نفسه، لا قيمة حضارية لهم، إنهم مجرد طفيليات متسلقة على أكتاف الغرب... معرفة وعلماً وتقنية وفكراً.

إنَّ مناقشة محمد عبده لقضايا العصر في كتابه "الاسلام بين العلم والمدنية" أمر غير منطقي. لأنَّ الاسلام كدين إجمالاً ليس معنيَّاً بماهية المدنية والمعرفة العلمية الراهنة وماذا يجري فيها. كما أن الاسلام بتلك الصيغة " كلمة عامة" بما لا تُحد إجمالاً. فأي اسلام يقصد محمد عبده؟ هل الاسلام الاعتزالي الآخذ بالعقل وحرية الإرادة الإنسانية كما هو مشهور عنه؟ وإذا كان ذلك كذلك فلم يقدم هذا الاعتزال رؤية متماسكة حول العالم والحضارة بمنظورهما الحالي (قياس الحاضر على الماضي). تلك الأشياء المتأخرة التي تعتبر خارج نطاق الدين بأي معنى كان. ومن ثمَّ يصعب بل يستحيل التحدث عن الدين إلاَّ في إطار تجربة حياتية بعينها، وبالتالي لن تقارن تجربته (الشرقية) بسواها (الغربية) إلاَّ بالاختلافات وبعوامل القصور. إنه يجب على العرب والمسلمين ابتكار وجودهم الحضاري بمعطيات معرفية وثقافية مميزة عن سواهم وليس مجرد التوفيق والتلفيق.

كما أنَّ تصورات الدين والاسلام والحقيقة والعلم- وإنْ وردت في جذور تاريخية لدينا- لم تتخلص بعد من الدلالات التقليدية. وهذا يتجاوز فكرة الاسلام الإعتزالي أو الأشعري أو الشيعي. جميع الإسلامات تتطلب غربلةً وتنقيةً صارمتين بما يضبط حركة النصوص المؤسسة وفقاً لغاياتها مقاصدها كما يقول الأمام الشاطبي. وبما يزيل عنها كل الطباق الخارجية التي رانت عليها وأخفتها وجعلتها صوراً مشوهة في أيدي المتطرفين. لأنَّ بذور التخلف الفكري كامنة فيها كصناعة بشريةٍ تختلط بالأسس المقامة عليها إنْ لم تكُّن من السلف فمن الخلف.

الاسلام في أشكاله المذهبية ليس نقيَّاً ولن يكون، أشكال الفِرّق والملّل والنحل الكلامية هي الرواسب التاريخية التي انفجرت وكونت أخيلة المسلمين حتى الآن. وهذه مازالت حاملة لكل غلالات العنف والخشونة التي كانت شائعة في ثقافة القبيلة والعشيرة والبيئات القديمة. القضية في صورة الاسلام لا تقاس بالأوصاف العامة من جهة العقلانية والنقد والتفكير. بل بكيفية المضامين وطرق التغيير والآفاق الجديدة التي تحملها الثقافة للحياة المنتظرة منها. وأنَّ الحيوات تتلاقى خلال مستواها الإنساني الذي لا يقبل تصنيفاً ولا كراهيةً. فلئن كنتَّ أنتَ تحمل حياة مفتوحة، فإنك ستقابل المصير نفسه... وإلاَّ فالعكس مدمر.

إذا كان هذا شأن التنويريين فكيف بغيرهم؟ يذهب المسلم العادي والمتطرف إلى أوروبا وهو يدرك أنه في بلاد مختلفة. لأن الحياة تثير داخله غرائز العدوان والجموح، ذلك بفضل الالحاح الديني كما يفهمه رعاة الشرق وفقهاؤهم. ففي الفضاء العام يقوم الخطاب الديني على الاساءة والتحريض تجاه ما يسميه بالعُهر والاستعمار وانحلال المرأة. ثم يُرجِّع أسباب ذلك كلُّه إلى أوروبا وانتشار الموضات الفكرية والفنية والأيديولوجية والسهر على متابعة الوسائط الاعلامية والتواصلية. وهذا الجهل لا يدرك من فوق المنابر أنَّ الحياة ليست فقط مظاهر وأشكالاً إنما هي " قانون ثقافي". وأنَّ الأوروبي ينشغل كامل الانشغال بالعمل والانهماك في ابداع إيقاعه اليومي.

إنَّ نمط الحياة الأوروبية ينسف كلَّ تصورات الاسلاميين من الجذور، لأنه نمط يلاصق أداء الحياة المنفتحة التي قد لا تعني الفسق والفجور بالضرورة  طالما أنَّها لا تجبرك على شيء. هذا هو الأصل الذي تشتغل عليه فتاوى الفقهاء بكراهية (أي لكي تكون لهم أهمية، يجب حكم الناس بصيغة: عليك أن تفعل كذا أو لا تفعل). كان كبت هذا الانفتاح وقمعه هما المُنقذ الوحيد من عطالتهم. فمازالت روح الكهانة القديمة كامنة في شُرّاح الدين ومفسريه كما لو كانوا يمتلكون الحقائق المطلقة من فم الغيب. بينما اتباعهم ورعاياهم كائنات شهوانية تمشي على الأرض!! ولهذا حينما يعيش الاسلامي المتطرف في أوروبا، إما أنه يعرف روحها، فيتماشى مع تسامحها الإنساني وتنوعها العرقي والفكري (على الأقل التنوع الخاص)، وإما أنه يتصلب بذهنية عدوانية تقطر دماً.

الأغلب أنه سرعان ما يأخذ الموقف الثاني باطناً أو ظاهراً. لينكفئ على نفسه وعائلته معتبراً الأوروبيين مما يجب مسايرتهم شكلياً (بحكم التقية والممالأة). صورة الإسلام والمسلم في هذه الحالة ستمثل حاجزاً ضد الحياة التي يحياها. لأنَّ خياله مجرد "كومة تحريمات ثقافية" من عصور قاحلة مضت، يحملها المتطرف من خلال ذاكرة المجتمعات التي نشأت فيها وفرَّخت. فهل هناك تحرير لهذا الخيال الديني العنيف؟ وكيف يمكن تحريره إنْ أمكن؟!

 

د. سامي عبد العال

 

عبد الله الفيفيكنتُ توقَّفتُ في معارضةٍ شِعريَّةٍ نقديَّةٍ أمام بعض ما جاء في بائيَّة (أبي تمَّام) الشهيرة(1)، التي يسمِّيها بعض المعجبين "ملحمة". وهي كذلك بالفعل، لا بمعنى الجِنس الشِّعريِّ المعروف، ولكن بمعنَى ما تضمَّنته من عُنفٍ لُغويٍّ ضِدَّ المرأة، مسبيَّةً، منتهكةَ الإنسانيَّة، باسم الإسلام والعروبة والثأر والنَّصر المبين! ونحن عادةً لا نقرأ الأبعاد الثقافيَّة والحضاريَّة وراء النصوص، ولا نلتفت إلى مقدار البشاعات الملبَّسة بغُلالات البطولة القوميَّة أو الدِّينيَّة؛ فإذا هي تطغَى العواطفُ الهمجيَّةُ على العقلانيَّة، والحماسيَّاتُ العنصريَّةُ على الحساسيَّات النقديَّة. لقد جاء في قصيدة أبي تمَّام تمجيد السَّبي للنساء، بل جعل ذلك غاية (المعتصم) وجيشه من الحملة على (عمُّوريَّة)، 223هـ= 838م، وهو ما لا مسوِّغ له، مهما كان من فِعل الإمبراطور البيزنطي (ثيوفيلوس أو توفلس، -842م) وأتباعه، وإلَّا تساوت القِيَم والرؤوس في جاهليَّاتها، وإنَّما هي فُرَص القَنصِ تدور في سباسبها:

كَــــمْ نِـيْــــلَ تَحْـــتَ سَـــناهــــا مِنْ سَــنا قَمَــرٍ ... وتَحْتَ عارِضِها مِنْ عارِضٍ شَنِـبِ

كَمْ كـانَ في قَطْــــعِ أَسْبـــابِ الرِّقــــــابِ بِهــــا ... إِلى الـمــُـــخَـــدَّرَةِ العَــذْراءِ مِـنْ سَــــبَــــبِ

كَـمْ أَحْـرَزَتْ قُضُـــبُ الهِنْـدِيِّ مُصْلَتَـــــةً  ... تَـهْـــــتَـزُّ مِنْ قُـضُـــــــبٍ تَـهْـــــــتَـزُّ في كُــــثـُــبِ

بِـيْضٌ إِذا انتُضِيَتْ مِنْ حُجْبـِها رَجَعَتْ ... أَحَـقَّ بِالبِـيْـضِ أَتْرابـًا مِنَ الحُجُـبِ

فما القول في هذا الفتح العظيم لنَـيْلِ أقمار النِّساء، كما يُصوِّر أبو تمَّام، لا فُضَّ فوه، مغريًا غرائز جماهيره الذُّكوريَّة بأوصافٍ جسديةٍ حسيَّة "ملحميَّة"؟!

لو جاء هذا في غَزَلٍ، لعُدَّ شِعرًا ماجنًا فاحشًا، ولكان للمدافعين عن سفاهات الشاعر الحربيَّة مواقف أخرى. وهكذا يذهب شاعرنا الفحل إلى أنَّ قتل الرجال كان سببًا في الوصول إلى العذارَى في خدورهن، وإلى انتهاك أعراضهن، مقدِّمًا خلال ذلك معرضًا جسديًّا، يذكِّر بأسواق النخاسة الداعشيَّة، وما ذاك منَّا ببعيد! ها هي القصيدة شاهدةٌ على نفسها، وعلى ثقافتها المريضة. فماذا نقول؟! وبِمَ نُغطِّي شمس سيوفها التمَّاميَّة؟!

 - لا، لا ينبغي أن تنتقد هذا الخطاب!

...

وهذا مؤشِّرٌ واضحٌ على أنَّنا نُقدِّس الآباء والأجداد، ونَخِرُّ على نصوصهم صُمًّا وَعُمْيَانًا، وبُكمًا أيضًا، على طريقة أجدادنا من كفَّار قريش! نرفض انتقادها، مهما كانت واضحةً فاضحةً في نُبُوِّها عن الذَّوق الدِّينيِّ والحضاريِّ والإنساني. وهنا يأتيك مَن يَفِحُّ في وجهك:

- كيف تنتقد حماسةَ (أبي تمَّام)- قدَّس الله شِعره!- لحملة (المعتصم) على الرُّوم؟

وهذا سؤالٌ ينفث الكذب والمغالطة من سجائر مغشوشة! يدلُّ- كما رأينا في مقالٍ سابق- على أن المدافعين عن التُّراث بهذه الحماسة، وعن أصنامه بتلك الاستماتة، منافحين عن صريح خطابٍ غير سَوِيٍّ فيه، هم أنفسهم في حاجةٍ إلى علاجٍ قرائيٍّ قبل دراسة التراث أو الحِوار معه. والأغرب أن تكون تلك البطولة الدفاعيَّة عن البطولة البربريَّة آتية من قِبَل المرأة، التي كثيرًا ما كان الخطاب الذي تُدافع عنه لا يتوانَى في قتلها، أو التشجيع على وأدها، وانتهاك إنسانيَّتها، عربيَّة كانت أو غير عربيَّة. ولا تفسير لهذه الحُمَّى الحضاريَّة إلَّا أحد أمورٍ ثلاثة، كما أشرنا في مقالٍ سابق: إمَّا أنَّنا لا نقرأ تراثنا، وإمَّا أنَّنا نقرؤه ولا نفهمه، وإمَّا أنَّنا نقرؤه ونفهمه، لكنَّنا لا ننظر منه إلًّا إلى ما ننتقي ونهوَى، على منهاج "ويلٌ للمصلِّين..."، هذا من جهة، ومن جهةٍ أخرى لا ننظر منه إلًّا إلى ما لا يتصادم مع تقديسنا المطلَق للسَّلف، الصالح والطالح معًا، على منهاج "إنَّا وجدنا آباءنا...".

ولقد يأتيك آخَر من آخِر الصفِّ صارخًا، إلى جانب صرخة (أبي تمَّام):

- ربما خفي على الشاعر أن الدُّوَل العُظمَى اليوم تفعل بالشعوب الضعيفة أضعاف ما فعل العَرَب؛ فهم يقتلون بالآلاف ويجوِّعون الملايين ويدمِّرون الحضارات!

موقنًا صاحبنا أنه بهذا التهافت في الاحتجاج قد أقنعك، بل قد أفحمك، ولاتَ حينَ مناص! فلا ينبغي عند صاحب هذا الخطاب أن تنتقد التراث، وإلَّا فأنت تنتقد العَرَب والمسلمين كافَّة، ولا أن تنتقد بعض ما وَرَدَ في كتب التاريخ، وإلَّا فأنت عدوٌّ لتاريخ الأُمَّة! ثمَّ بعد المغالطة تلك ينتقل بك إلى أرجوحة التبرير، محتجًّا بأنَّ الأُمم الأخرى تفعل وتفعل وتفعل، فلماذا تنتقد أن نفعل نحن كفعلهم؟ وهذا بابٌ شعبيٌّ عتيق، ينزع إلى تبرير الخطأ بالخطأ. وإلَّا لو كان ثمَّة منطقٌ سليمٌ، لكان: ما دُمْتَ تنتقد ما يفعله الآخَر بك وبالشعوب المستضعفة، فلماذا لا تنتقد نفسك وقومك وتاريخك أوَّلًا، لكيلا تفعل مثل تلك الأفعال المشينة، ولا تَسُنُّها للناس، بالقول أو الفعل أو الإقرار، بحالٍ من الأحوال؟ وإلَّا صدقَ عليك بيت (أبي الأسود الدؤلي):

لا تَنْهَ عَنْ خُلُقٍ وتَأتيَ مِثلَهُ ... عارٌ عَلَيكَ إِذا فَعَلتُ عَظيمُ!

ومنطق "مَن يَنْهَى عَن خُلُقٍ ويَأتي مِثلَهُ " هو منطق الإرهابيِّين المعاصرين وقاعدتهم، ومنطق وَرَثَتهم فِكريًّا. فهم- وإنْ لم يكونوا بالضرورة من أتباع القاعدة عمليًّا، بأحزمة الديناميت الناسفة- أتباعهم نظريًّا بأحزمة الفِكر الناسفة، الأكثر خطورة. هذا المنطق يقول، ببلاهة:

- هم يفعلون، وينبغي أن نفعل مثلَهم، والبادئ أظلم!

إن الأزمة الثقافيَّة التاريخيَّة، إذن، تبدو أخطر بكثير من الأفعال الإرهابيَّة الطارئة، التي لا تمثِّل سِوَى أعراضٍ لأمراض مزمنة، متغلغلة في النسيج الثقافي، ومن ثَمَّ في النفوس والعقول، وما برح بيننا مَن يُحامي عنها، ويُحرِّم انتقادها، أو المساس برموزها وأعلامها. وهذا يؤكِّد الكَمَهَ الثقافيَّ المطبق، الذي لن ينقشع دون مراجعاتٍ عِلْميَّة، متجرِّدةٍ من العواطف العشائريَّة، والتبعيَّات التاريخيَّة، وجوقات الاصطفاف والترديد؛ مراجعات جديدة وجادَّة، تسمِّي الأشياء بأسمائها، بلا غمغمةٍ ولا مداجاة، فتَقبل الصواب لصوابه، وتردُّ الخطأ لخطئه، كائنًا ما كان مصدره، وَفْقَ معايير إنسانيَّة، من الحقِّ والخير والجمال، لا بمعايير التعصُّب والهوَى والقوميَّة والإديولوجيَّة وتقديس التاريخ والتراث.

 

أ. د. عبد الله بن أحمد الفَيفي

...................................

 (1) انظر: صحيفة "الجزيرة"، السبت 19 ربيع الأوَّل 1441هـ، ص16:

http://www.al-jazirah.com/2019/20191116/cm48.htm

 

 

عصمت نصارإذا كانت الأقوال السابقة التى أوردتها «للمنفلوطي» تبرهن على أصالة خطابه؛ فحسبنا في السطور التالية الكشف عن الجانب الاجترائي في أقواله التى عبّر خلالها بشجاعة عن رفضه للكثير من الآراء السائدة والمعتقدات الفاسدة التى تبنتها معظم قادة الرأي المحافظين ونقلوها إلى الرأي العام والعقل الجمعي وجمهور العوام، الأمر الذى جعل منها مُثّلاً مقدسة لا ينبغي الخروج عليها أو العزوف عنها.

ومن أمثلة هذه المبادئ والأصول والآراء، الإجماع أو استبداد الكثرة وتقديس العوائد وجحد البدع واتهام الأغيار بالدُّونيّة والجهل وإقناع الجمهور بأن منبر الدين الذى فسّروه وأوّلوه هو عين الحقيقة ودونها باطل، فها هو يحتج على المفاهيم والأحكام الذائعة في الدين التى تستند إلى ما يطلقون عليه إجماع، مؤكدًا أن حجية الإجماع الشرعي ليست مطلقة بل مشروطة إمّا ببرهان نقلى قطعي الثبوت وقطعي الدلالة، أو برهان عقلي لا يقبل الشك في صحته - بديهي لا يختلف عليه عاقل.

إنّ من يتأمل حجية الإجماع بذلك المعنى؛ فإننا نؤكد أنه يستمد قوته من حجية العلة التى يستند إليها فلم يجمع الفقهاء في الإسلام إلا على الواضح، الضروري والثابت من الوحى - مثل قواعد الإيمان وأصول الإسلام - أما ظني الدلالة من النصوص والمحتكم إلى الواقع من الفروع والمحتاج إلى إمعان النظر لاستنباط المقصد من الأوامر والنواهي، فليس فيه إجماع، بل هو موقوف على ظهور المجددين والمجتهدين وأصحاب الرأى لمسايرة الواقعات ومعالجة المشكلات التى تتعلق بأمور الدين والمجتمع، وأن من يشكك في أن الإجماع ليس حجة في ذاته عليه بدراسة تاريخ الفقه الإسلامي واختلاف الأئمة الذى يعد برهانا على منهجية المفكرين في الاستنباط من جهة واحترامهم لرؤى الأغيار من المجتهدين بغض النظر عن كم المؤيدين أو المعارضين من جهة أخري.

وهو يتفق في ذلك مع «الشيخ حسن العطار» ومدرسة «الإمام محمد عبده»، الذين قدموا الاجتهاد في الأمور الظنية من الأمور الشرعية وبينوا أن تجديد الدين مرهون بوجود الاختلاف، كما أنهم أنكروا تمامًا الادعاء الشائع بأن خير المسلمين في التمسك أو الانتصار لرأي واحد حتى لو كان غير صائب مادامت الكثرة معه؛ فالمراد بالإجماع عندهم هو إجماع المجتهدين في كل عصر وأن رأيهم غير ملزم الآخذ به في عصرٍ آخر أو في أوضاع وظروف مغايرة لرأي المجمع عليه من السلف.

كما يرفض «محمد رشيد رضا (1865م - 1935م)» ما يدعيه بعض المحافظين بعصمة المجتهدين أو أهل الحل والعقد بل هو رأى الذى يصدق عليه الصواب والخطأ، ومن ثمّ فالمعيار هو المصلحة وتحقيق المقصد الشرعي.

ويضيف «عبدالحميد الزهراوي (1855م - 1916م)» أنه من العسير الوقوف على كل آراء المجتهدين قديمًاً وحديثًاً ومن ثم يصبح مصطلح الإجماع غير موجود في الحقيقة، ويشهد بذلك الواقع المعيش؛ فالقائلون بوجود الإجماع أقرب إلى الوهم منهم إلى الحقيقة، وأن «ابن تيمية (1263م - 1328م)» قرر بأن الإجماع المدعى في الغالب إنما هو عدم المعرفة بالمخالف.

ومن أقوال «المنفلوطي» في ذلك «ليس إجماع واحد أو عشرة آلاف أو مائة ألف متأثرين بشعور واحد مستمدين قوة واحدة على رأى من الآراء دليلًا على صحة ذلك الرأي، لأنه رأى فرد واحد تأثر به الباقي تقليدًاً وعدوى، ورأى الواحد مترجح بين الخطأ والصواب».

وقد تأثر بهذا الرأي «الشيخ على عبدالرازق (1888م - 1966م)» و«الشيخ عبد المتعال الصعيدي (1894م - 1966م)» و«خالد محمد خالد (1920م - 1996م)» وغيرهم من المجددين في النصف الأول من القرن العشرين الذين صرحوا بأنه ليست هناك سلطة كهنوتية في الإسلام، وأن باب الاجتهاد لم يغلق بعد عصر الصحابة كما يزعم بعض المتعصبين من الجامدين الرجعيين.

وينتقل مفكرنا إلى الخصومات المذهبية والمناظرات الفكرية موضحًا أن تثاقف العلماء وتناظر المبدعين مطلوب دومًاً لتقدم الأمم وانتخاب الأفضل للتغلب على المشكلات وجلب المصالح وسد الاحتياجات.

أمّا التراشق اللفظي والتعصب المذهبي والعنف الطائفي واستبداد الكثرة أو أصحاب السلطة أو المتطرفين فكل هذه الأشكال غير مرغوبة تماماً، أمّا الاصطفاف والاجتماع على قرار فليس السبيل إليه تظاهر العوام وعلو أصواتهم باسم الديمقراطية ولا أصحاب المصالح من الحكام باسم القوة والهيمنة والسيطرة ولا بفتاوى المتعالمين من أرباب الفتن الملية والطائفية بل هو الاحتكام للعقل دومًاً والقراءة المتأنية للواقع والظروف المحيطة والمنفعة العامة وفهم دقيق لمقاصد المقدس ومآلاته.

ومن أقواله في ذلك:" إن وجود الاختلاف بين الناس في المذاهب والأديان والطبائع والغرائز سنة من سنن الكون، التى لا يمكن تحويلها أو تبديلها حتى لو لم يبقِ على ظهر الأرض إلا رجلٌ واحد لجرد من نفسه رجلًا آخر يخاصمه وينازعه، ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة».

«إن هذه الأحقاد الدينية التى تلتهب في صدور الناس التهابًاً لا تؤججها في صدورهم الأديان نفسها، بل رؤساء الأديان الذين يستخدمونها ويتجبرون بها في أسواق الغباوة والجهل».

ويتضح ممّا سبق أن مفكرنا «مصطفى لطفى المنفلوطي» يعد بحق من الأدباء المجددين الذين أدلوا بدلوهم الإصلاحي في الثقافة العربية، وأثروا في معظم المثقفين في النصف الأول من القرن العشرين، ولعلّ ما أوردناه من آرائه يبرر حكمنا عليه، ويؤكد في الوقت نفسه صدق دعواتنا إلى ضرورة القيام بمراجعات نقدية لأفكار قادة الرأى في الفكر العربي الإسلامي الحديث والمعاصر، والتحرر من التصنيفات والأحكام المتسرعة التى مازلنا نعانى منها. وللحديث بقية عن عالم آخر من المجددين في معية المحافظين.

 

د. عصمت نصار

 

محمود محمد عليما زلت أؤمن بل ربما أكثر من أي وقت مضي مع أستاذي الدكتور حسن حنفي بأن التواصل بين الأجيال أحد مكونات الوعي التاريخي؛ حيث إن كل جيل يبدأ من الجيل السابق ويتجاوزه؛ فلا يوجد جيل بلا أساتذة إيجاباً أم سلباً؛ وكل جيل يواصل الجيل السابق ويقطع معه؛ ولا أحد يبدأ من الصفر حتى يحدث التراكم التاريخي الضروري لبلورة الوعي التاريخي الفلسفي كنواة للوعي التاريخي العام. ولا يعني تواصل الأجيال التكرير؛ تكرير الجيل اللاحق للجيل السابق أو المديح والتقريظ الذي يصل إلى حد التملق والتفخيم والتقديس والتأليه طلبا للشهرة الإعلامية والذي ينقصه الصدق نظرا لأنه يتوجه للكل وفي كل المناسبات بلا استثناء . بل يعني القدرة علي الإكمال وإعادة القراءة من الزمن الأول؛ زمن كتابة النص؛ إلى الزمن الثاني؛ زمن قراءته والذي قد يصل إلى حد نصف قرن؛ قل أو كبر؛ وهو عمر الجيل . يعني إعادة كتابة النص الأول ونقله من ظروفه الأولي إلى ظرفه الثاني؛ وكأن الجيل السابق قد بعث من جديد في روح الجيل الحالي؛ وأخذ  يتكلم بلسانه؛ فالروح تتواصل في التاريخ؛ والتاريخ يتراكم في الروح؛ والمراحل تتوالى علي الأمد القصير والدورات تبدأ وتنتهي علي المدي الطويل

وإذا كانت لكل عصر من العصور سماته وقضاياه؛ فإن الكثير من قضايا العصر الحديث  مرتبط بالمرأة؛ فالحديث لا يتوقف ولا يهدأ عن تحرر النساء وحقوقهن السياسية والاجتماعية والاقتصادية؛ وعن إزالة كافة أشكال التمييز عنهن؛ كثر الحديث عن المرأة في التاريخ وعند الفلاسفة والمفكرين .

ولقد ظهرت فلسفة حديثة أطلق عليها الفلسفة النسوية أو الفلسفة الأنثوية أخذت علي عاتقها أن تري الوجود كله بعيون الأنثي؛ حتى العلوم الطبيعية أخذت نصيبها من الفلسفة؛ ومع بداية العصر الحديث ومع قيام الثورة الصناعية والحاجة للمزيد من الأيدي العاملة؛ ومع حروب عالمية استهلكت البشر كما استهلكت البيئة؛ كان التدشين لعصر جديد للنساء يدخلن آلة العمل بقوانينها الجبارة؛ وكان لا بد من قيام أفكار وفلسفات جديدة لخدمة هذا التوجه؛ فكانت حرية المرأة؛ وحرية الجسد؛ والبحث عن دور جديد للنساء ... الخ (وذلك حسب ما ذكرته الباحثة سلوى محمد نصره في مقدمة كتابها الفلسفة النسوية في فكر الإمام محمد عبده).

ومع دخول القرن التاسع عشر ظهر الفكر النسوي في شكل ثورة تطالب خلالها بحقوق المرأة نتيجة الاضطهاد الذي عانت منه عبر العصور وفي مختلف الديانات، انطلاقا من نقدها للسلطة الكلية للرجل على المرأة من خلال تغيرها لعدة مفاهيم، فتعتبر أن الأبوية ذريعة اتخذها الرجل للسيطرة على المرأة، باستغلاله لطبيعة جسدها الضعيف أمام جسده، فليكون هناك توازن على المرأة أن تحقق هويتها وذاتها بأن تكون عنصر فعال في المجتمع، لتظهر خلال هذا كله موجات وتيارات نسوية، فالموجات النسوية تمثلت في ثالث موجات ابتداءً من الموجة الأولى التي كانت تبلوراتها خلال سنة 1792م كتمهيد للموجة الثانية التي كانت بين سنة 1960م حتى نهاية القرن 20م، لتأتي الموجة الثالثة كآخر موجة التي كانت بداياتها من التسعينيات لتمتد إلى يومنا هذا؛ حيث عملت النسوية خلال هذه الموجات إعادة الحقوق للمرأة مهتمة بكل قضايا المرأة. نفسها. لنجد التيارات على تحقيق العدالة والنسوية التي تبدأ بالتيار النسوي الماركسي، ثم التيار النسوي الليبرالي، فالتيار النسوي الاشتراكي، أخيراً نجد التيار النسوي الراديكالي. لتبرز الفلسفة النسوية الغربية وحتى العربية في كافة المجالات العلمية والفكرية.

ومن أهم المفكرين الذين أولوا قضية المرأة عناية فائقة والمنظرين لأسس الفلسفة النسوية بمفهوم ورؤية خاصة تستحق الدراسة والتحليل هو الأستاذ ماجد الغرباوي؛ ذلك الرجل الذي يمثل (كما قال الأستاذ شاكر فريد حسن في مقاله ... ماجد الغرباوي المثقف التنويري والمفكر المضيء): رمز ونجم فكري وثقافي نقدي لامع يتجدد كل يوم في فضاءات العلم والثقافة والسياسة والمعرفة؛ ويقف ضمن طليعة المفكرين والمثقفين العرب المستنيرين والنقديين المشتغلين على نقد الفكر الديني والحركات الاسلامية ومسائل النهضة والاصلاح والتجديد والمعاصرة والتنوير والعنف والتسامح بين الاديان والعقائد والمذاهب؛ وقضية المرأة ومسألة تحررها المرتبطة بتحرر المجتمع كله . فهو يتمتع بموهبة أدبية ابداعية وخلاقة وآفاق علمية واسعة؛ ويتصف بالذكاء والفطنة والبصيرة الثاقبة وبعد النظر والرؤية الواضحة والوعي المتجدد المتوهج المتوقد ... وهو المفكر المتواضع الثري بالثقافة الاسلامية والفكر الانساني والوعي النقدي؛ والانسان العصامي؛ الصلب؛ المقاتل والمحارب بالكلمة والقلم؛ والثورة لديه فصل حب وعشق كوني شمولي ... هو كذلك المفكر المتمرس المتبحر في التراث الاسلامي؛ يملك الأسس العقلية المنفتحة والأدوات الفنية التي يعتمدها اسلوبه الكتابي النقدي ومقارباته الفكرية والثقافية؛ التي تعد اهم ركائز واوليات الاستنساخ للمثقف المبدع الخلاق المبتكر المجدد ... وهو أيضا كاتب وباحث عميق وجاد؛ صاحب مشروع فكري نهضوي معاصر يسعى من خلاله الى ترشيد الوعي عبر تحرير الخطاب الديني من سطوة التراث وتداعيات العقل التقليدي؛ ومن خلال قراءة متجددة للنص الديني على اساس النقد والمراجعة المستمرة من اجل فهم متجدد للدين كشرط أساس لأي نهوض حضاري وعصري متقدم وجذري  يساهم في تأصيل قيم الحرية والتسامح والعدالة في اطار مجتمع مدني خال من العنف والتنابذ والاحتراب .

والسؤال الآن : ما هي رؤية ماجد الغرباوي لأفكار الفلسفة النسوية من مكانة المرأة ؟ والمساواة؛ والحرية؛ وحقوق المرأة وأيضا موقفه من الفلسفة النسوية الغربية والفلسفة النسوية العربية؟ ما وماهي المنطلقات الفكرية في نظر الأستاذ لنسوية ما بعد الكولونيالية ؟ وهل يعد القهر الذي تتعرض له المرأة موضوعا عالميا وليس موضوعا عربيا؟؛ وكيف تقهر المرأة من وجهة ماجد الغرباوي ؟ وما هو مفهوم النظام الأبوي وما ماصدقاته؟ وماهي الأصول الفلسفية لتبعية المرأة في هذا النظام ؟ وما فلسفة النظام الأبوي في تربية المرأة ؟   وذلك من وجهة نظر الأستاذ انطلاقا من الايدلوجية التي يتبناها ماجد الغرباوي ؟ وأسئلة كثيرة أخري صاغها كاتب تلك السطور وأجاب عنها بإفاضة الأستاذ ماجد الغرباوي .

إن رؤية ماجد الغرباوي تتضح من خلال مشروعه التنويري والذي يقول عنه: أما عن مشروعي، فسأبداء ببيان الخطوط العريضة لرؤيتي حول النسوية، معززة بالمبادئ التي اؤمن بها:

أولاً - أسعى في مشروعي إلى إقامة مجتمع مدني متحضر، يأخذ بأسباب العلم والمعرفة، ويعزز قيم الدين والفضيلة، باعتبارهما قيما إنسانية أصيلة تكافح الظلم والعنف وتعضّد روح التسامح والسلم الأهلي. وتقوض مشاريع الهيمنة والتوسع والسيطرة، وخطط إذلال الشعوب ونهب ثرواتهم. وتساهم في التحرر من سطوة المؤسسات الدينية والأفكار المتطرفة والهدامة. وعلى هذا الأساس أقارب موضوعات النسوية تارة باعتبارها فردا، وثانية باعتبارها جزءا من المجتمع.

ثانياً- تعريفي لمفهوم النسوية - Feminism، وفقا لمفهوم الفلسفة المعاصرة، القائمة على النقد والعقلانية، هو: (تحرير وعي المرأة وإعادة تشكيله وفق رؤية إنسانية عادلة). ليكون موضوعها: (نقد مكونات الوعي وارتهانات تشكيله). وقد تمت الإشارة له سابقا، أذكر به للمناسبة.

ثالثاً - تبدأ الخطوة الأولى على طريق تحرير المرأة، واستعادة حقوقها، من استرداد إنسانيتها، واستعادة ثقتها بنفسها، وبعقلانيتها وحكمتها وقدراتها العقلية والنفسية، بعد تحرير الوعي من تراكمات التربية والبيئة وسطوة التراث والعادات والتقاليد، وعقد النقص والدونية.

رابعاً - توظيف الخطاب الديني العقلاني، وقيم الحضارة الحديثة، والقيم الأخلاقية والإنسانية، لإعادة تشكيل وعي الرجل بالمرأة، وانتزاع اعتراف حقيقي بإنسانيتها، يضعها على قدم المساواة معه. للتخلص من منطق المنّة والشفقة والتكرّم والتفضّل المستوطن وعي الذكر في تعامله معها.

خامساً - ما لم يكن اعتراف المجتمع بإنسانية المرأة اعترافا حقيقيا يبقى التسامح معها تسامحا شكليا، ويواصل الرجل نظرة الازدراء، يضع نفسه فوقها، ويتعامل معها بتعالٍ ذكوري.

سادساً - تستمد حقوق المرأة مشروعيتها من إنسانيتها. تبقى تدافع عنها على هذا الأساس، وتشعر بالظلم والإهانة عند الاستهانة بها. أما المرأة المنهزمة فتبقى مشروعية حقوقها مرتهنة للرجل وإرادته. فتتعرض للاضطهاد والظلم، دون التمرد عليه باعتباره قدرها. وهذا فارق جوهري اؤكد عليه دائما في مسألة النسوية، وأعتبر جميع الحقوق بناء فوقيا، ينبغي أن يؤسس على أسس إنسانية وعقلية وأخلاقية. ينبغي للمرأة أن تحدد حقوقها بنفسها، بعيدا عن سطوة الرجل وسلطته. وهو ما نراه الآن، حيث الذكر هو الذي يحدد حقوق المرأة.

سابعاً - أؤمن من حيث المبدأ بحرية المرأة ومساواتها مع الرجل، ما لم تمسا قيم الفضيلة، التي هي أساس تماسك الشعوب. لذا أميل للحرية العادلة، والمساواة العادلة. والعدالة قيمة نسبية، تحددها مصالح الشعوب ومرتكزاتها الفكرية والعقدية إضافة إلى التزاماتها الاجتماعية (عادات، تقاليد، تعليمات دينية، لوائح قانونية، مقررات) التي تستمد شرعيتها من شرعية تعاقد مضمر بين أبناء الشعب، أو عقد اجتماعي، وجود الفرد يؤكد قبوله به، فيفرض عليها الالتزام به. ومن يعش داخل مجتمع، يلتزم بما يلتزم به أفراده. التزام يحيل على عقد اجتماعي يستمد شرعيته هو الآخر من عدالته والالتزام به. وقد يحد المجتمع من حريات أفراده، شريطة أن تكون قيودا عقلانية، تصب في مصلحة الجميع، وينتفي عنها صفة الاعتداء والظلم. أي أن تحديد الحرية التي هي صفة وجودية للإنسان، لا يعتبر اعتداء، مادام له مردود إيجابي على الجميع والمرأة جزء منه. فهي تتنازل عن بعض حريتها لأجل تعزيز قيم الفضيلة التي تعضد تماسك الشعب. وهكذا بالنسبة للمساواة، فهي حق للمرأة أصالة، لكن لا ينبغي للرجل استغلالها لإقحام المرأة باسم المساواة إلى سلوك يضر بمصداقيتها، كأن يجبرها على عمل شاق فوق طاقتها وقابلياتها، باسم المساواة فيوجب عليها ذلك، لذا اشترطت في المساواة العدالة، كشرط أساس لتحقيق توازن قيمي، يراعي خصائص المرأة، خاصة البايلوجية. والعدالة تحفظ حقوق الجميع، دون غَبن أو ظلم. فثمة فرق بين الحرية والمساواة باعتبارهما لازمين لوجود المرأة. وبين الحرية والمساواة كممارسة اجتماعية خاضعة لشروط العقد الاجتماعي.

ثامناً - الدين تجربة روحية تروي ظمأ الإنسان المتعطش للمطلق، والمرتهن للغيب والمقدس. يغمره قلق مصيري لا شعوري، وتوق جنوني للسمو يستبد به وهو يعيش تجربته، فتنعكس آثارها على سلوكه ومشاعره ومواقفه. والدين بهذا الفهم الصوفي يساهم في تعميق قيم التسامح والسلم الأهلي، حينما يضفي الدين معنى لحياته وتضحياته، ويرفد المجتمع بقيم المحبة والسلام، ويساهم في تماسك الأواصر الاجتماعية، والحث على العمل الصالح. وعدم التآمر ضد مصالح شعبه ووطنه. لا يسود الاستقرار والأمن، ولا تحقق المواطنة أهدافها من خلال القوانين وقوة القضاء، بل ينبغي وجود ثقافة موازية تثقف الشعب على القيم والمبادئ الكفيلة باستقرار الشعب. والدين بالمعنى المتقدم يلعب دورا إيجابيا عندما يخلق وازع التقوى، وحب الخير، وحينئذ سيلتزم بالأنظمة والقوانين حتى في خلواته بعيدا عن عدسة الرقيب الأمني. وهذا النمط الديني يعارض منطق الفرقة الناجية، ويفتح باب النجاة أمام  الجميع، ويحول دون دعوى احتكار الحقيقة، وسيادة منطق التكفير.

تاسعاً - الأحكام الشرعية، أحكام نسبية، ترتهن فعليتها لفعلية موضوعها، وبعد أربعة عشر قرنا، حصلت تحوّلات حقيقية، ينبغي أخذها بنظر الاعتبار، إذا أن الشريعة قائمة على أساس ملاكات ومصالح ومقاصد، ويمكن اعادة النظر بجملة منها، باستثناء بعض العبادات.

عاشراً - أهم إشكالية تواجه المرأة عامة والمرأة المثقفة خاصة، تحرير العقل الجمعي من ذكوريته وسلطويته واستخفافه، ليرقى إلى مستوى إنسانيته في تعامله معها. مع تعميق ثقتها بذاتها وبمنجزها، بعيدا عن تاء التأنيث، تحاشيا لإعادة انتاج الذكورة من خلال تكريس الأنوثة. وهذه اشكالية مركبة، تتطلب من المرأة عملا مزدوجا. تنقية العقل الجمعي من قيم التمايز الجنسي، وتأكيد إنسانيتها، من خلال مواقفها ومنجزاتها بعيدا عن التكريس اللاشعوري للأنوثة. فتارة تكرّس المرأة الذكورة وهي تقاوم تحدياتها، فتعيد انتاجها بصيغ مختلفة. وهذا ما يحصل حينما تصرّ المرأة على تأنيث منجزها تفاخرا أو تحديا، أو تكريسا لخصوصيتها، ليبقى المجتمع العربي في دوامة ثنائية المرأة / الرجل. الذكر / الأنثى. وتبقى نبرة الرجل تعلو صوت المرأة، رغم حضورها الكبير على المستوى العلمي والأكاديمي والاجتماعي والثقافي والأدبي والفني. بل ونافست الرجل في أعلى مناصب القيادة عندما مارست السلطة والحكم (رئيسة دولة أو رئيسة وزراء)، أو كوزيرة ومستشارة، ومديرة، ورائدة فضاء، وبرلمانية... وللحديث بقية !

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل بجامعة أسيوط

................................

يمكنك الاطلاع على الكتاب من خلال الرابط أدناه 

 

الفلسفة النسوية في مشروع ماجد الغرباوي التنويري

 

 

 

 

 

 

الشعبوية تعنى بالشعب والجماهير، خاصة من الناحية الكمية وليست الكيفية، وما يؤثر في توجهات الجماهير سلباً أو إيجابا، ومتعلق في مسألة الوعي الجمعي والمجتمعي.

وقد ارتبطت الشعبوية بالعمل السياسي، ولكننا لا ننكر أنها تسربت إلى كل أنماط السلوك والعمل الاجتماعي، ويلعب وعي الجماهير دورا كبيرا أيضاً في توجيه السياسيين والدينيين وغيرهم من المعنيين في الساحات الاجتماعية.

ولو انتقلنا بالفكرة من بعدها السياسي إلى بعدها الديني والثقافي، لوجدنا أن الشعبوية هي جزء من سلطة العوام على مسيرة تطور الفكر الديني والثقافي، التي تتحكم بعمل الفقيه في استنباطات الحكم وفق أسسه السليمة، وتلعب أيضا في رسم توجهات كثير من المثقفين، ورسم معالم أولوياتهم في الاصلاح والنهضة، وعلى مستوى الثقافة والفكر والنقد والأدب.

أي ان النظام المالي ليس المعني الوحيد بهيمنة العوام على هذه المسيرة، ولكن أيضاً الشعبوية، التي إما يتقوى بها الفقيه والنخب من المثقفين والمفكرين السياسيين لطرح ما لديهم من أطروحات قد يكون بعضها تقليدياً تراثياً، أو بعيدا عن هموم النهضة ومعيقاً في مسيرة تطور الفكر الديني والثقافي، وإما أنها تكون القيد الذي يقيد الفقيه وتلك النخب ويحد من قدراتهم للإفصاح عن الحقيقة "الفتوائية" لحكم ما، خوفا من العوام، وأيضا ينطبق ذلك على النخب الفكرية والثقافية.

فلولا العوام لكان الكثير من الفقهاء والنخب مبسوطو اليد واللسان في الافصاح عن حقيقة كثير من الفتاوى والأفكار التي تم التعتيم عليها، خوفا من العوام.

فنحن هنا أمام عدة حالات أهمها:

١- شعبوية تعيق وتقيد العلماء والنخب، وهنا موقف هذه النخب يعتمد على تشخيص الأصلح والأهم، إما وفق قاعدة تزاحم وتعارض المصالح، أو قاعدة تشخيص المصلحة والمفسدة، ولكل حالة يفترض من النخب دراستها وفق أسس سليمة وتشخيص مفاسدها ومصالحها ومن ثم بناء موقف وفقا لدراسة التشخيص الأنسب، أما الرضوخ الغير مدروس بحجة الخوف على المشاريع الخاصة، أو العزل الاجتماعي، فإن ذلك يكرس مع الجهل على حساب الوعي، وهنا لا أدعو لمواجهة هؤلاء مواجهة عنفية، بل أعني أن النخب من العلماء والمثقفين وظيفتهم هنا تشخيص الموقف الأنسب لكشف الحقيقة وآليات كشفها، ورصد كل الوسائل الممكنة في مواجهة هذه الشعبوية الصوتية غالبا، مواجهة معرفية مدروسة.

٢- شعبوية ترجح آراء لحساب آراء، وهذه الشعبوية غالبا لا تعتمد في ترجيحاتها على مرجحات علمية وموضوعية مدروسة بشكل دقيق، بل تعتمد غالبا على انفعالاتها وميولها خاصة العقدية، لذلك تلعب دورا مهما في تقوية مسار ضد آخر، وفي تبني آراء وإهمال أخرى، وهذه الشعبوية يستخدمها كثير من النخب من العلماء والمثقفين في مواجهة الآراء الأخرى خاصة الجديدة منها، مواجهة ليست معرفية قائمة على المحاججات البرهانية، بل مواجهة عنيفة يسقط فيها المختلف اجتماعيا وتسقط معه آراءه حتى لو كانت صائبة، وهذه هي الشعبوية الموجهة التي يستغلها البعض لتحقيق ما يراه هو، فهناك مرجعيات دينية وعلماء ونخب وخطباء استطاعوا فعليا أن يستخدموا سلطة العوام، أي الشعبوية، في الحفاظ على مكتسباتهم الفكرية التي تعتمد على التراث أكثر من اعتمادها على أصول ثابتة ومعاصرة في الفكر الديني. وقد تكون ظاهرة المنابر وما يرشح عنها هي أكبر ظاهرة تدلل على سلطة العوام، فالكثير من الخطباء يلجؤون إلى الطرح، إما التقليدي جدا البعيد عن واقع الدين والمختلط بالأعراف والتقاليد الباطلة، وإما إلى الطرح المذهبي القصصي نزولا عند رغبة عوام الناس.

٣- شعبوية واعية تواجه الانحراف بكافة أشكاله، وتضم في صفوفها النخب الفاعلة، التي تواجه الآخر المختلف مواجهات معرفية رصينة، تقوم على المحاججات البرهانية، ويكون جل همها رفع منسوب الوعي عند الجماهير، وتحويلها لرصيد فاعل في النهضة والتغيير.

فوظيفة المثقف أن يكون هو الراصد للإشكاليات الاجتماعية وهموم المجتمع، وأن يلعب دورا فاعلا وإيجابيا في وعي الجماهير وتوجيه هذا الوعي في تحقيق واقع الاصلاح والتغيير، وليس تحقيق مصالحه الخاصة. فالشعبوية ليست شر مطلق ولا خير مطلق، بل هي تعتمد كأداة فاعلة في التغيير، على الوعي وعلى معايير الخير والحق، وهي معايير على المثقف أولا استيعابها بشكل فاعل ، هذا إضافة إلى أن المسؤولية المكتنزة في داخل المثقف هي التي تدفعه لمواجهة القوة الخفية في الاجماع الشعبوي على قضية من القضايا، لأنها تعري مخاوفه النابعة من حب الانتماء للجماعة، والتي يرتفع منسوبها عند بروز إشكاليات اجتماعية يريد أن يواجهها بوعيه لا بوعي الإجماع الشعبوي، وتحت ضغط حب الانتماء والخوف من الإقصاء الاجتماعي والعزل التي تبرز عند الإجماعات الشعبوية وقوتها الخفية، فالمثقف عليه التخلي عن هذا الشعور الانحيازي للانتماء وحاجته له، وأن يواجه هذه القوة الخفية وهذه الحاجة الذاتية بفهم الواقع، وإدراك واقع هذه الإشكاليات وجذورها ومواجهة الإجماع الغير صائب، بالحقيقة والحلول التي تحل هذه الإشكاليات جذريا وليس ترقيعيا نزولا عند رغبة المجتمع، مراعيا في ذلك القابليات المختلفة في المجتمع، وموظفا خطابا يدركه الجميع، ومراعيا الرفق في طرح الحقيقة بتدرج لا يخل بالواقع وحقيقة الحلول.

"يؤكد مولر في كتابه[2] على ضرورة الحوار مع الشعبويين والإنصات لجمهورهم وعدم معاملتهم بدونية واحتقار، وهو ما يستلزم أيضاً محاولة فهم السياقات التي تدفع بالجماهير إلى الارتماء في أحضان الحركات الشعبوية، وهو تنبيه مهم في سياق مآلات الربيع العربي، خاصة وأن هذه المآلات السلبية في عدد من دول الربيع قد أدت بالعديد من النخب إلى تغليب الرأي القائل بأن الجماهير ميالة دائماً للعاطفة والعنف. فأحد المؤشرات المثيرة للاهتمام على هذه النظرة الدونية في الدول العربية هي الشعبية التي أصبح يتمتع بها في السنوات الأخيرة كتاب “سيكولوجية الجماهير” الذي صدر منذ أكثر من قرن للمفكر الفرنسي غوستاف لوبون، وهو كتاب يؤكد على النوازع العاطفية والغرائز اللاعقلانية والتدميرية للجماهيرـ وهي رؤية  لا تخلو من التبسيط، وتؤدي في نهاية المطاف إلى نفس النظرة التحقيرية والمتعالية التي يحذر منها مولر"[3][4].

وللشعبوية اليوم أدوات عديدة وجديدة، فلم تعد الساحات العامة والأماكن الحساسة في البلد هي الساحات الفاعلة فيها تلك الجماهير، فاليوم هناك وسائل سهلة جدا ومتوفرة بشكل كبير لدى الجماهير، أهمها مواقع التواصل الاجتماعي، التي تحولت إلى منابر صوتية، يمكن من خلالها تشكيل رأي عام ضاغط يدفع باتجاهات غالبا صوتية غير مدروسة، وتكون في كثير من الأحيان مؤثرة في قرارات أي سلطة، دينية كانت أو ثقافية أو سياسية.

فبعد ظهور مواقع التواصل الاجتماعي، لم تعد صناعة الوعي محصورة دون صدى، بل باتت تفاعلية ذات صدى عالمي، يتفاعل فيها الأفراد من المجتمعات المختلفة تفاعلا تواصليا ينعكس على حركة الوعي الفردي والاجتماعي، وتتواصل فيها مكونات المجتمع كافة بشكل مباشر وإن افتراضي مع النخب من العلماء والمثقفين والمفكرين والأكاديميين، وتطرح الأسئلة بكافة إشكالها دون حرج، ويتم التفاعل مع هذه الحوارات والآراء بشكل مفتوح وواسع وكبير جدا.

ويتم من خلال هذا التفاعل تشكيل حركة موجية تتسع بشكل سريع ومتدرج تنتقل فيها الآراء والمعلومات بسهولة، ويتشكل خلالها وعي غير مكتمل، كون هذه المنصات إما تتحكم بها قوانين معينة أو محددات تمنع من تعميق الأفكار وتكاملها، وتطرح رؤوس أقلام تتحول ضمن ثقافة الجمهور إلى مسلمات دون فحص كل جوانبها ومبانيها وزوايا النظر فيها. فيتم تلاقف الآراء التي قد يكون مصدرها مجهولا أو منسوبا لشخصيات موهومة، يتم تناقل هذه الأفكار كمسلمات معرفية، بسرعة كبيرة تنتشر في مساحات وعي الجمهور وتشكل إما معول هدم وتبديل، أو معول بناء وتطوير، ويعتمد ذلك على نوعية الأفكار، ومستوى وعي الوسط الاجتماعي المطروحة فيه، ومدى فاعلية النخب وقدرتها على تفنيد تلك الأفكار ومواجهة غثها وسمينها.

وفي دراسة للمركز الديموقراطي العربي بعنوان : "دور مواقع التواصل الاجتماعي في السياسة الدولية" يذكر: "لقد أحدثت مواقع وسائل التواصل الاجتماعي ثورة في عوالم الاتصال والتواصل والمعلومات ، ومست بقوة بمنظومات القيم الاجتماعية والثقافية وتدخلت على نطاق واسع في تغيير البنى والمؤسسات السياسية وفي حتى التلاعب بموازين القوى السائدة ، فقد أجمع خبراء الاتصالات على أن دخول أدوات الاتصال الجديدة إلى مجتمع ما ، يؤدي حتما إلى تعديلات وتأثيرات في منظومة القيم الإجتماعية مما ينعكس على النظام السياسي الداخلي ، وعليه فمنذ انطلاق مواقع التواصل الاجتماعي عبر شبكة الانترنيت والمتضمنة (face book  &Twitter & YouTube)    وإلى حد هذه اللحظة بلغ عدد مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي في العالم إلى ما يقارب ٤ مليارات مستخدم يملكون حساب وصفحة، سواء أكان هذا الحساب في الفيس بوك أو التويتر او الانستغرام أو حتى تطبيقات الأندرويد) فايبر و واتس اب وتليغرام ..الخ (حيث لاتزال هذه الوسائل تلقي الرواج والانتشار السريع لأنها اصبحت (ثورة العصر) أولاً ، وثانياً هناك من وضع الخطط لنشرها عن طريق توفيرها بأسعار زهيدة الثمن وتكاد تكون مجاناً ، ولذلك يختلف تعامل الدول والمجتمعات مع هذه الأدوات التواصلية من دولة لأخرى، وذلك حسب نظامها السياسي وأيديولوجيتها ودرجة حساسيتها الثقافية والسياسية"[5] .

"أن الابعاد الخاصة بشبكات التواصل الاجتماعي والتي لا تنشأ في الأصل من فراغ وإنما تخضع الى اعتبارات إيديولوجية فمؤسسو الشبكة سواء كانوا أفراداً أو جماعات يتبنون أفكاراً معينة، وتنشأ بناء على هذه أفكار الشبكة (نموذج شبكة الفيس بوك)، وهذا لا يعني أن هناك حالة سكونية في البناء الشبكي، إذ قد تتغير الوجهات الفكرية لمؤسسي الشبكة تبعاً لتغيير الإيديولوجيا المسيطرة على تفكريهم، خاصةً أن الإيديولوجيات ليست حتمية ولذلك ظهرت محددات تبرز الطابع الإيديولوجي للشبكات الاجتماعية ومنها:

١- الإيديولوجيا السياسية وما يدور حولها من أحداث، أذ أصبحت هذه الشبكات أشكالاً من المداولة والنقاش حول الشأن العام، وسمحت للنخب تجاوز أليات تغيبها في المجال العمومي التقليدي الذي تسيطر عليه الدولة.

٢- الشبكات الاجتماعية لا تعمل بمعزل عن سياقها أي (المجتمع الافتراضي (، و إذا كانت الفرضية الأساسية للمجتمع الافتراضي منذ نشأته ترتكز على مشاركة الاهتمامات، فإن الأفراد أو الجماعات عند النفاذ إلى الشبكات الاجتماعية، يحتكمون إلى الاهتمامات التي تعد بدورها محدداً إيديولوجياً ينطوي على عنصر اختيار، يستمد مرجعيته من الأطر الفكرية الحاكمة للمستخدمين.

٣- إن الشبكات الاجتماعية أفرزت أشكالاً جديدة من الفعل الجماعي، وخلقت فضاءات بديلة اقتضت جماعات افتراضية، وتكونت حولها مشاغل مشتركة سياسيه واجتماعية وفنية ورياضية ومهنية تنطلق من أيديولوجيات متعددة. 

بروز قادة رأي عام حدد لهم منابر إعلامية وتقنياتهم الخاصة لحشد الجماهير وتعبئة الأفراد ،وقد تكون هذه من أهم المحددات الإيديولوجية للشبكات الاجتماعية ، وذلك لكون قادة الرأي العام في مواقع التواصل يؤثرون بالمجتمع، وأصبحوا فاعلون باستطاعتهم أن يغيروا في الحياة ألاجتماعية والسياسية والثقافية ، ومع هذا وفي ظل تحولات العالم سياسية وخصوصا الواقع العربي برز فاعلون جدد من مختلف دول العالم، لا يأخذون جهداً في التسلسل للمجتمع الشبكي والذي أصبح نظاماً للعلاقات السياسية والاجتماعية والإنسانية والاتصالية ومتحكما فيها أيضا ، إذ يحاول هؤلاء استغلال أية وسيلة أو منصة لتكون وسما لهويتهم[6]. 

"من الناحية السيسيولوجية، فأن دخول التكنولوجيا الرقمية في المجتمع حوّل التفاعلات بين الإفراد ووسطهم الاجتماعي، لكن التطورات الاجتماعية بقيت مستقلة عن التقنية نفسها، فالإنترنت والهواتف المحمولة لها قدرة فائقة على محو الحدود بين الفضاءين العام والخاص واختصار المسافات واختزال الوقت، مما يجعل العمل الجماعي أكثر فعالية وتأثيراً، أي أنهما يسمحان بالاتصال بين عدد غير محدود بين المساحات الجغرافية وتبادل المعلومات وتنظيم اللقاءات والأنشطة وتوفير الفرصة بغض النظر عن المسافة وطبيعة المكان ما بين الأفراد، فالتقنية نفسها ليست من يحول العلاقات الاجتماعية بل أن طريقة استخدامها هي التي تحفّز القوى التي كانت موجودة أساساً في المجتمع قبل انتشارها وتجعلها راهنة، أنهم المستخدمون أو المستهلكون أو المستعملون الذي يستخدمون التقنية لأغراضهم وليس العكس (Ayari & Geisser, 2011, 47)"[7].

وتخضع أيضا هذه الوسائل لقانون الشعبوية، كون نوعية المطروح كما أسلفنا خاضع لمستوى وعي وثقافة الجمهور، الذي غالبا لم يعد محليا خاصا، بل تجاوز التفاعل خارج الحدود الجغرافية، وتحول لتفاعلات مفتوحة الفضاء، مختلفة الثقافات والأفكار والإيديولوجيات، لكن أحد أهم إشكاليتها أنها غير مكشوفة الهوية، أي أن حقيقة المتحدث غير معروفة وقد تكون افتراضية غير واقعية، وتكون خلف هذه المنصات مجموعات أو قيادات مؤدلجة وموجهة، وطبعا هنا تصبح المساحات مختلفة وبالتالي يصبح الخطاب الموجه أشمل وأعمق ويتطلب دراية أكبر، وهو ما لا يمكن للمثقف الفرد القيام به منفردا، بل هذه المواجهة تتطلب المثقف المؤسسة، بمعنى قيام مؤسسات أهلية من أعضاء مثقفين ومراكز رصد ودراسة وتوثيق، لمتابعة آخر المعطيات الثقافية والإشكاليات التي تواجه المجتمعات في مواقع التواصل الاجتماعي، مضافا لوظيفتها الداخل محلية الخاصة بها، لذلك لم يعد مفيدا مواجهة الشعبوية مواجهة فردية من قبل المثقفين منفردين، بل على المواجهة أن تكون مؤسساتية توزع فيها الأدوار والمهام، وقائمة على أساس عمليات كالمراقبة والرصد والمعلومات ، ليستطيع المثقفين من تحليل المعلومات المقدمة ورصد الإشكاليات وفقها، وتقديم معالجات واقعية وعصرية، وهنا لا نعني بالمواجهة الصدام مع الشعب أو الجمهور المتكتل بعنوان قضية موحدة، بل نعني مواجهة الشعبوية معرفيا وإعادة صياغة وعي وازن يقلل من سلبياتها ويدفع لرفع أرصدتها الإيجابية في حركة المعرفة والتغيير والوعي. وهناك شعبوية إيجابية سأقوم بعمل إطلالة سريعة عليها. وهذه المؤسسات قد تتبناها الدولة وتفرض عليها سياق معرفي محدد وموجه، وقد تتبناها شخصية اقتصادية وتفرض وجهتها السياسية والمعرفية، وقد تتبناها مؤسسات دينية وكذلك تفرض نسقها المعرفي، ولكل الحق في التصدي، لكن في واقع الأمر معالجة هذه الإشكالية بدون تحيز معرفي، يتطلب تصدي النخب من المثقفين المستقلين، الذين يحملون هم المعرفة والوعي خارج نطاق التحيزات المعرفية خاصة السلبية منها.

خاتمة: 

هناك عوامل مهمة في بناء علاقة سليمة بين المثقف والمجتمع هي:

١- إن وظيفة المثقف ومسؤوليته تفرض عليه أن يكون كفؤا في إنجاز مهمته، هذه الكفاءة تتطلب منه فاعلية على مستواه الشخصي من حيث السعي المستديم في طلب المعارف وتوسيعها، وإدراك الإشكاليات الاجتماعية إدراكا مجملا يمكنه من خلاله أن يشخص الخلل ويضع الحلول. مسؤوليته أولا لبناءه الذاتي ليكون كفؤا للتصدي الاجتماعي، وثانيا بناء المجتمع معرفيا، وهذا متوقف على كفاءته التي من خلالها سيصنع جسور ثقة تعزز من مصداقيته اجتماعيا، خاصة عندما يربط قوله بفعله، وهذه المصداقية تؤثر بفاعليته الاجتماعية وتأثيره في وعي المجتمع.

٢- الصدق من أهم ما يجب أن يتحلى به المثقف، صدقه مع ذاته من جهة، وصدقه مع مجتمعه من جهة أخرى، وهذا الصدق يحتم عليه عدم محاباة المجتمع والنزول عند ما يريده دون تصويب ونقد وتقييم وتوجيه، فقط يكون ما يريده المجتمع حقا ولكن يحتاج أن يصوب بطريقة مدروسة لتحقيق الهدف، ويحتاج أن تستخدم طرق وأدوات سليمة، لذلك المثقف يجب أن لا يحقق رغبة الجمهور تحت ضغط الجمهور عليه، أو بحجة الإسقاط والتشهير الاجتماعي، لأن من مصاديق صدق المثقف هو صدقه مع مجتمعه في كشف الواقع والحقيقة كما هي، لا كما يريده الجمهور.

٣- الاستعداد لتقديم التضحيات لأجل مسيرة الوعي، وصيرورة المجتمع في طريق الوعي، وعدم الالتفات للمصالح الشخصية والمكاسب الذاتية في هذا الطريق.

 

إيمان شمس الدين

 ...............

 [1] من كتاب المثقف وجدلية القهر والاستبداد/إيمان شمس الدين/ ص ٢٤٢-٢٤٩+ ٣١٦/ دار الانتشار العربي ط١/ بيروت

[2] راجع الهوامش في في هذا الكتاب

[3] http://www.al-jazirah.com/2018/20180213/ar7.htm

 [4] رغم أن كتاب “سيكولوجية الجماهير” قد صدر سنة 1895، وتلته انتقادات عديدة منذ مراجعة سيغموند فرويد لنظرية لوبون سنة 1921، من المثير للانتباه ملاحظة شعبية كتاب لوبون على مواقع التواصل الاجتماعي في الدول العربية، وكذلك توالي الطبعات العربية للكتاب، حيث صدرت منذ سنة 2011، أي سنة الربيع إلى اليوم أكثر من ست طبعات. كمثال على استعمال كتاب لوبون للتعبير عن نظرة دونية للجماهير تبرر في نفس الوقت النخب الحاكمة في الدول العربية، انظر: رجاء العتيبي، “سيكولوجية الجماهير”، 13 فبراير 2018. 

[5] مجلة اتجاهات سياسية – العدد الأول ديسمبر – كانون الأول – سنة “2017” احدى اصدرات المركز الديمقراطي العربي 

[6] - بابكر مصطفى، معتصم /أيديولوجيا شبكات التواصل الاجتماعي وتشكيل الرأي العام/ مركز التنوير/ الخرطوم/ 2014/ ط 1/ ص 191-192. 

[7] التحولات في النظام العربي: الجذور والأسباب وتحديات بناء الدولة العصرية / د. حسن عبدالله جوهر ـ أ. د. غسان العزي

قسم العلوم السياسية/جامعة الكويت

 

الصفحة 2 من 2

في المثقف اليوم