ترجمات أدبية

أشيغول سافاش: نحن هنا

بقلم: أشيغول سافاش

ترجمة صالح الرزوق

***

اختفى الصيف. على طول الفولغا، تم طي خيم البيرة حيث كنا نجتمع في غضون الأسابيع الأولى، وأودعت في الشاحنات. ولعدة أيام، كان طلاب البلدة يجلسون بين الأوتاد. وفي الأسابيع التالية تم تجميع الأوتاد وحملها، وأقفر الممشى فوق الماء الرمادي.  وتبدل لون أوراق الشجر وتساقطت، مثل طلاء الأبنية الصفراء في البلدة. وظهرت القبعات المستديرة الفخمة مع أول هبة ريح قادمة من النهر. وهذا مشهد تخيلناه دائما. هو ومعاطف الفراء. وأشعلت المقاهي أضواء النيون في النهار. وجلس المخمورون الوحيدون في الحديقة الفارغة. واجتمعت العجائز المرتديات ثياب القماش والصوف لبيع الخضار الملقاة في الدلاء. وأخيرا تشكل لدينا إحساس عن مكان وجودنا. وأسعدنا الجو الغائم. ورغبنا أن تتكاثر الغيوم ويشتد البرد. وأملنا بهبوط الثلج، وانتظرنا الضوء الرمادي. وتقريبا ابتهجنا بالنادلات المكفهرات، وكنا نأمل أن يهملننا لفترة أطول، وأن يجبن بهزة من رؤوسهن حينما نسأل بلهجتنا المضحكة إن كان لديهن بيلميني (الشيشبرك). ثم نتبادل النظر ونحن نبتسم بزهو ونقول:"ها نحن في روسيا".

بالعودة إلى الجامعة، كانت حجرات مساكننا مزينة ببوسترات تصور النساء الكادحات في الفترة السوفييتية، وبإعلانات شوكولا تعرض صورة كوزيا الوجه الصبياني المجعد، ولكن لم يكن لدينا شخصيات كرتونية. كنا نشعر بالحنين لتلك الأشياء التي لا نمتلكها. فقد ولدنا بعد عدة عقود منها. وكنا نشتاق لأشياء أكثر واقعية، حتى لو أن العصر تخلى عنها قليلا.

إحدانا عقدت العزم على قراءة "المعلم ومارغريتا" بالروسية، وأخرى قرأت "الحرب والسلم". وأعلنا عن هدفنا دون تردد في أول عام لنا في الجامعة، نحن نكافح لنبني أنفسنا ونتطور. وكنا نقول إننا دائما مهتمات بهذه الثقافة وشعبها، واستعملنا كلمات مثل "رواقي" و"نبالة" لنصف بها عاطفتنا.

*

وكان هناك عدد آخر محدود من الأجانب في البلدة. قابلناهم في مقهى إنترنت حيث يجتمع الأجانب يوميا. ودعانا تاجر ألماني، عاش عاما في ديلوير، إلى حفل غداء في أسبوعنا الأول، حينما كنا جاهزات لبداية ما. وكنا نجتمع بعد المحاضرة لنذهب إلى السوق، ونتذوق الأطعمة التي لها مظهر غريب جدا. وذهبنا أيضا إلى السونا قبل أن يبرد الطقس.

أخبرنا التاجر في حفل الغداء:"أنتن جماعة عظيمة". وطلب من أجلنا الشراب وقال:"أنتن تذكرنني بأيام دراستي حين كنت طالبا".

ولاحقا حينما وقفنا في الخارج نرتجف ونسعل ونحن ندخن قال:"مرحبا بكن جميعا في روسيا. لدينا الكثير من المتعة هنا". ولكن لم نره مرة ثانية. كان هناك صبيان من البعثة التبشيرية - أو هذا ما توقعناه، بسبب هيأتهم الحسنة التي لا تتناسب مع سلوكهم المباشر. كانوا يحتارون حيال نكاتنا. وهناك بنات إيطاليات حضرن للعمل في دار الأيتام. كنا نتلاقي في KFC، ربما فقط لتكون محطة في غربتنا، ولنشعر بالتقارب حينما نتناول قطع البطاطا.

قلنا: “خيرا هذا شيء دون قشدة سميكة. شيء غير مخلل".

وكنا يوميا في المحاضرة نتبادل أخبار ما حضرته العوائل لنا من طعام للغداء. الحنكليس المدخن، ملفوف من مئات الأنواع، وكعك مع جبن محلي. ولسبب ما كان ذلك يجبرنا على الانفجار بالضحك. وكنا نتبادل الحكايات عن المضيفات كأننا في منافسة، ونلاحظ كل شيء تقمن به مثل باحث أنثروبولوجي أو ممثل كوميدي. وكانت إحدانا تنام على كنبة مطوية في المطبخ. وأخرى توقعت أن "العم" الذي يزور العائلة أسبوعيا، حينما يغيب الأب في سويسرا، هو في الحقيقة عشيق الأم. وهناك حكايات كنا نتبادلها كلما عدنا بعد العطلة في العام اللاحق، وبرواية هذه الحكايات بيننا كانت تبدو مقبولة - فهي عن هذا العالم الغامض الذي نتعرف عليه. حكايات عن تجاربنا الشخصية. قبل وصولي، تخيلت أنني أستسلم لمنطق الوقت، وكأنني أدخل في شرنقة. وسأغادرها بعد التحول في غضون عام، و سأبدو نسخة مطورة من نفسي. وكنت على ثقة أن هذا العام سيمنحني كل الأشياء التي تنقصني، حتى دون أن أعرف ما هي.

عشت برفقة غالينا إيفانوفنا، وهي امرأة مسنة ذات شعر برتقالي، ينسجم لونه مع طراز الزهور الناعمة المطبوعة على ثوبها القطني. كانت تذرع الممر بخطواتها رواحا ومجيئا طيلة اليوم، وهي ترتب شبكة من الأكياس البلاستيكية المتزايدة المتدلية من مقبض السخان، وتتخلص من بقايا طعام في الثلاجة أو على الشرفة. ثم تبدل أمكنة الأكياس دون سبب واضح. وتوقعت أنها في الثمانينات من عمرها، ولكن الناس يبدون أكبر مما هم في الحقيقة (وكنا ندعو ذلك "مرض التدهور الروسي" - كل البنات الشقراوات والنحيفات ينمسخن في غضون ليلة واحدة إلى بابوشكات - جدات).

كانت غالينا إيفانوفنا تعيش في وسط المدينة، قرب الجامعة، حيث نتلقى محاضراتنا. ولبنايتها الحجرية  نوافذ مقوسة وباب صدئ مستدير ولافت للنظر. وقد أخبرتني بزهو أن فيلما تم تصويره في هذا البناء. ومن الداخل كانت تنبعث رائحة العفن. أما الشقة ذاتها فهي قديمة جدا، ذات أنابيب تسرب الماء، وذات شقوق، ولكنها مدعمة بنظام من القطع البلاستيكية، والألواح، والقطن.

كنت أنام في غرفة المعيشة على الكنبة، قرب خزانة زجاجية مليئة بتجهيزات الطعام المصنوعة من الخزف الصيني الأزرق، والأكواب الزجاجية.

وبجوارها وضعت محاليل ودهون التجميل. وفي وقت الإفطار والغداء، كنا نجلس حول طاولة المطبخ على كرسيين دون مساند، وكانت غالينا إيفانوفنا تسألتني:"هل تودين الحساء الآن؟. أم الدحاج الآن؟".

وكانت تسكب الأطباق واحدا بعد الآخر، بغض النظر عن جوابي.

من اللحظة التي قدمت فيها نفسي، وضعت اسمي جانبا وأطلقت علي اسم ماشا. قالت في أول غداء اشتمل على الحساء والكعك:"لا يوجد أحد سوانا يا ماشا".

وقد توفيت للتو أختها إيرينا، التي تقطن في الأعلى. وكانت بالنسبة لها أما حانية، أيضا، واستمرت كذلك حتى آخر لحظة. ولا أعلم هل هذه علامة طيبة، أم إشارة تدل على المصاعب. وقالت غالينا إيفانوفنا إن ابني إيرينا يعيشان في موسكو.

سألتها: "وماذا عن أولادك؟".

نفضت رأسها.

سألتها:” ولكنك تحبين الطلاب؟".

نهضت غالينا إيفانوفنا من الطاولة. وبعد دقائق، عادت ومعها ألبوم صور فوتوغرافية، جرت كرسيها إلى جواري. فتحت أول صفحة وعرضتها علي، صورة بعد صورة، وهي صور بنات في الجامعة يرتدين القمصان الرقيقة وبلوزات الحياكة اليدوية، وهن تبتسمن أمام الخزانة الزجاجية.

وبدأت تعرفني بهن:"ساشا. آليا، لارا. تانيا. كاتيا".

وهناك أيضا صور بنات تحضن غالينا إيفانوفنا أو تقبضن على يدها. كانت تلوح بيدها في الفراغ كأنها تصرفهن، وكأنها مرتبكة، ولكنها لم تسرع بقلب الصفحة. وفي نهاية الألبوم توجد عدة صور أرسلت من الولايات المتحدة، وتمثل احتفالا جماعيا بعيد الميلاد، ورحلات قريبة، وقلعة ديزني لاند.

قالت غالينا إيفانوفنا:"هذه فلوريدا. وهذه ماين".

وأخرجت الصورتين من الصفحة البلاستيكية لتعرض علي اسم المكانين المكتوبين بحروف سيريلية على الخلف. من الواضح أن هاتين البنتين، اللتين تشتركان بشيء ما يخص حياتها، هما محبوبتا غالينا إيفانوفنا، وتتذكرهما باسميهما الحقيقيين.

قالت:” هذه جيسكاتي. انظري. وهذه الجميلة ستيفاني".

في الأمسية التالية، حينما جلسنا في المطبخ بعد الغداء، سألتني إن كنت أود الذهاب إلى المسرح. كان بمقدورها أن تسأل صديقتها، التي تعمل في شباك التذاكر، لتحجز لنا مكانين.

قلت:” شكرا لك، لا ضرورة لذلك".

حاولت أن أخبرها أنني لن أفهم مسرحية ناطقة بالروسية.

سألتني:"ما رأيك بعرض موسيقي؟".

قلت مجددا:"لا ضرورة لذلك. شكرا جزيلا".

كنت أخطط للانضمام إلى الأخريات بعد المحاضرة وزيارة KFC.

قالت:"إيرينا تحب المسرح". تساءلت إن كانت تتكلم بصيغة الحاضر من أجلي.

قلت:” أتمنى لو تعرفت عليها".

"ألن تضجري هنا، دون أي تسلية؟".

فتحت يدي بشكل كتاب، وصنعت حركات صامتة كأنني أكتب.

بعد قليل قالت غالينا إيفانوفنا: "الجميع رحلوا".

وافقت بإيماءة. ثم قلت:” أنا هنا. وأنت هنا".

بعد تنظيف الطاولة، تبعتني إلى غرفتي، وأخرجت إطارا من نهاية الخزانة الزجاجية. وأشارت إلى صورة رجل له شارب، ويتقلد ميداليات عسكرية.

قالت:"هذا زوجي. رحل أيضا. كان يقرأ كثيرا، مثل البنات".

في اليوم التالي في المحاضرة أخبرت الأخريات أن أمي المضيفة شخصية رائعة.

قلت: "يا جماعة. أعتقد أنها تعيش مع الأموات".

*

في تشرين الثاني أقفرت الأشجار وأصبحت عاقرة. قمنا بما يجب علينا في البلدة. زرنا الكاتدرائية، وعبرنا من الجسر إلى الحصن القروسطي، واشتركنا بجني الفطر مع إحدى مضيفاتنا، واستمتعنا بوقتنا في أحد الملاهي الليلية. حتى أننا حضرنا عرضا مسرحيا وغادرنا بعد نهاية المشهد الأول. وزرنا البنات الإيطاليات في الميتم وأنفقنا الأمسية مع الأطفال. وذهبنا برحلة في نهاية الأسبوع إلى بيت تولستوي الريفي، واشترينا من هناك الفرو وأوشحة مطرزة بورود تشبه ما ترتديه العجائز في السوق.  وعندما عدنا من الرحلة، كان وشاحي متدليا على ظهري بشكل مثلث، فجرتني غالينا إيفانوفنا من ذراعي إلى غرفتها وأجلستني على السرير. وأحضرت بقجة من القماش كانت على الخزانة وفكت عقدتها على الأرض.

قالت وهي ترفع بيدها ملابس من القماش:"هذه أمي". وكررت الكلمة. وعرضت علي غطاء طاولة من القماش. والفوط المناسبة له، وثوبا رقيقا من الكريب. قمت بتقليد إشارة الخياطة بيدي فوافقت برأسها.

وكررت قولها:” هذه أمي".

وفي الأسفل استقر زوج جوارب أطفال، وثوب بتطريز أزرق ناعم.  وفي تلك الأمسية، طلبت مني أن أجالسها في غرفتها لنشاهد عرضا عن بنت في المدرسة الثانوية، لها نظارات سميكة، وأساور معدنية. شربنا الشاي، ثم توجهت غالينا إيفانوفنا إلى الخزانة، وأحضرت كيسا من الحلوى. وعندما بدأ العرض، أشارت إلى الممثل ذي الشعر الأسود وأخبرتني:" كانت معجبة به. ولكنه لم يهتم بها".

حسبت أن البطلة ستتعرض لبعض التبدلات في الحلقات القادمة، كما هو الحال دائما. نهضت أثناء الإعلان التجاري، وصنعت بيدي ما يشبه وسادة ووضعتهما بجانب خدي.

قالت غالينا إيفانوفنا:"حسنا". وصرفتني بحركة من يدها.

استلقيت على الكنبة، وانتهيت من اختبارات القواعد وحضرتها لليوم التالي. وأضفت بعض التفاصيل للفقرة التي تصف بلدتي. وكتبت أن هناك أشجار قيقب كبيرة مشهورة بلونها الخريفي. وأن كل أفراد أسرتي يعشن على مقربة، ومع أن بلدتنا صغيرة، فهي جميلة. وحاولت أن أستعمل كل الكلمات الروسية التي أعرفها، ولكن التركيب لم يشبه مسقط رأسي: مكتب البريد، المكتبة، الحديقة العامة، المقعد، المسبح، السينما.

بعد ذلك أخرجت دفتري الذي أدون فيه التفاصيل كل مساء: رائحة الشوندر في الشقة، وقطع الصحف المربعة المقصوصة لاستعمالها بدل ورق دورة المياه. وأضفت رزمة الثياب القديمة التي عرضتها علي غالينا إيفانوفنا، وكيس قطع الحلوى في الخزانة.

*

وهناك الضجر الذي بالغنا به - اللعنة، هذه البلدة مضجرة - هناك الضجر نفسه.

وفي كل أمسية بعد المحاضرات، كنت أمشي في الشوارع القليلة إلى بناء غالينا إيفانوفنا، ثم أعود على الأقدام إلى الجامعة لأؤدي واجباتي المنزلية في غرفة المحاضرات. وبعد ذلك أتجول في أرجاء البلدة، وأنتهي إلى الكاتدرائية. وتذهب الباقيات إلى بيوت العائلات المضيفة. وكن جميعا يقطن في الضواحي، وكن قلقات من العودة في المساء حينما يتضاءل عدد الحافلات. لكن أنا محظوظة لانني أعيش في وسط المدينة، وأتمتع بحرية المجيء والانصراف كما أشاء. وأخبرتني الأخريات أنه لا يوجد شيء في أحيائهن - لا دكاكين ولا حديقة، فقط الأبنية الإسمنتية الكئيبة المصفوفة على طول الطريق. وما أن يبلغن البيت، كما قلن، يصبحن تقريبا سجينات. وربما كان هذا السبب في مشاركتهن في حياة عائلاتهن. يرعين الأطفال، ويزرن المعارف، ويساعدن في تحضير الأطباق التقليدية التي تحتاج لوقت طويل.  واستقروا بهذا الروتين،  وهكذا اعتقدت أنني أنا غير المحظوظة، في خاتمة المطاف - لأنني خسرت هذه الحياة الأصيلة.

في المساء استلقيت على الكنبة، أفكر إن كان لدي ما أضيفه إلى مذكراتي. كنت قد وصفت البلدة، بالإضافة إلى بعض الحقائق والأساطير التاريخية، ونسخت بعض القصائد من رواية "الدكتور زيفاغو" التي حملتها معي للإلهام.

جاءت غالينا إيفانوفنا إلى حجرتي بعد نهاية برنامجها التلفزيوني، ولم تقرع الباب، وجلست مباشرة على طرف السرير. وأخبرتني بما سأتناوله في الإفطار والغداء. أيدتها. فقالت:"في هذه الحالة سأذهب في الغد إلى السوق".

وفكرت ربما هذه هي طريقتها في الاستفسار إن كنت أريد مرافقتها.  في بعض الأوقات، وهي تدردش، تفك أزرار ثوبها دون أي شعور بعدم الراحة. فهي ترتدي عدة طبقات تحته - قميص قطني مدسوس تحت سروالها الداخلي، جوارب طويلة - ولذلك لا يمكنها أن تتعرى أبدا. ولكن تملكتني الدهشة أول مرة حصل هذا أمامي، حتى أنني وقفت وذهبت إلى الخزانة للتخلص من عدساتي اللاصقة. خلعت غالينا إيفانوفنا ثوبها، ووضعته على ركبتيها. سألتها هل تستعد للنوم؟.

قالت كأنني أعرض عليها أن تتكئ علي وهي تعبر الشقة لتتمكن من الوصول إلى فراشها بسرعة: “لا تهتمي. لدي أمور يجب أن أنتهي منها". 

كان يحيرني طريقة التفكير بسرد ما يجري للآخرين. ولكن فترة التسابق على تبادل غرائب مضيفاتنا كانت قد مرت وانقضت.

*

في نهاية تشرين الثاني، وصلت علبة من أبوي إحدى الطالبات، مملوءة بألواح شوكولا سنيكرز، والحلوى القوية، والفوشار، وعدد كبير من الكتب المتنوعة. ولا بد أن الأبوين سمعا أننا استهلكنا ما لدينا من كتب ولم يتبق جديد في مكتبات البلدة، وعموما لم يكن فيها غير ثلاث مؤلفات بالإنكليزية: صورة دوريان غراي، النساء الصغيرات، ونداء البراري. في العلبة وجدنا روايات جاسوسية وتشويق، من النوع الشائع في مواطننا، وكتبا عن أماكن غريبة ومواقع تاريخية - بعضها تجري أحداثه في كابول، وشنغهاي، وسانت بطرسبورغ، وهي عن الثورات أو الخياطات.

وزعنا الكتب بيننا وكنا نتبادلها بانتظام. كنت أقرأ أسرع من غيري وأحثهن على قراءة ما لديهن بسرعة. بعضهن قدمن لي كتبهن دون قراءتها. كن حينها مرتاحات في روتينهن. لاحظت التبدل، هدوءهن، وتراجع حيرتهن من هذه الحياة الجديدة.

قرأت دون اهتمام بالحصص، كنت أسرع إلى غرفتي حالما أصل إلى البيت، ودون أن أمنح غالينا إيفانوفنا الفرصة لتأتي وتسرد لي وقائع يومها. كان قد استقر بنا الحال على روتيننا، نعيش يومنا دون أن تقلق إحدانا الأخرى. كنت أغادر البيت قبل الإفطار، وأقرأ في قاعة المحاضرات قبل وصول الآخرين. وأنضم إلى غالينا إيفانوفنا للغداء، وأنهض لغسل طبقي حالما أنتهي منه، رغم احتجاجها وطلبها المتكرر أن أتركه في المغسلة. ثم أذهب إلى غرفتي لأواصل القراءة.

كانت الشخصيات وجغرافيا الأمكنة تندمج معا - العجيب والمألوف، المأساة والملهاة. وكنت مسرورة لأنني أكتشف قدراتي على التركيز، وقراءة كل ما أجده في طريقي، كان هذا دليلا على حبي. وأخيرا كان هذا هو البهاء الناجم عن تبدلي.

*

انتسبت الأخريات إلى دوائر اجتماعية تضم أخوات وأخوة مضيفاتهن. وأصبح لبغضهن هواية: طلاء الخشب، الأيقونات، الغناء مع الفرق المحلية. إحدى البنات أسست فريقا من الطالبات الروسيات للعب الكرة اللدنة، وكانت تدربتهن في أوقات المساء.  وقد ساعدناها في ترتيب بيع معجنات لتشتري للفريق قمصانه، وجاء كل الطلاب والأساتذة، مبتهجين بهذه المناسبة. ونظمت بنت أخرى دروسا لتعليم الإنكليزية في الميتم.

أخبرنا منسق البرنامج أننا فريق مثالي. فقد تأقلمنا بشكل جيد وبسرعة. ولم ينغص علينا غير حادث سيء واحد، حينما تأخرت إحدى الطالبات في الليل، وذهبت من الملهى الليلي مع شقيق مضيفتها. أرسلت جامعتنا رسائل إلكترونية تدل على التعاطف والتحذير، ولكن أدركنا أن الأمور تجري هذا المجرى في أي مكان.

*

وفي أول ليلة مثلجة، قررت أن أقوم بنزهة. جاءت غالينا إيفانوفنا إلى الباب وأنا أرتدي بوطي وأخبرتني أن الجو قارس البرودة، ولا يصلح للخروج.

قالت:"اجلسي معي وشاهدي العرض". وابتسمت مثل بنت فمدت يدها لتقبض على ذراعي.

قالت: "لماذا تفضلين دائما أن تكوني وحدك يا ماشا؟".

أخبرتها أنني لا أستطيع عمليا متابعة ما يجري في العرض.

قالت:"هراء. راقبي كلامك".

أخبرتها أن مفاتيحي معي، ولا ضرورة للقلق حول عودتي للنوم.

تجاوزت الجامعة والحديقة إلى الكاتدرائية. كانت رقائق الثلج تعصف بصمت في الضوء الذي ينهمر من نور الشارع. كانت الساحة خالية. دخلت في واحد من الطرقات التي تتفرع كالأشعة من الكاتدرائية. كانت هذه صفة تميز تصميم المدن القروسطية وعزمت أن أضيفها إلى مذكراتي. وصلت إلى النهر، وكان متجمدا بطبقات رقيقة.  وتقدمت نحو الحصن. من الشاطئ المقابل، تناءت البلدة واستسلمت لجدار معتم من الأشجار. كنت أفكر بسطور يمكنني إضافتها إلى مذكراتي، وحاولت أن أتذكر مشهد الساحة الفارغة المحتشدة بالثلوج، وحينها سمعت صوتا ورائي، يطلب مني أن أكون متنبهة وحذرة.

وقف شاب بعمري تقريبا على مبعدة أمتار قليلة، وهو يدخن سيجارة. ابتسم ابتسامة سطحية. فأومأت برأسي.

كرر:"كوني حذرة. وإلا ستتجمدين".

ولم أستوعب هل كلماته عدائية أم صديقة فهززت كتفي.

قال:"عموما ماذا تفعلين هنا؟". واقترب. توقعت أنه مألوف. سألته:” هل أنت شاعر أو شيء يشبه ذلك؟".

قال:"لا". بدأت بالعودة إلى اتجاه الكاتدرائية وسمعته يضحك من ورائي.

صاح:"هيي. ماذا يجري؟".

لسبب ما، مع أنني لم أشعر بالخطر، أسرعت بخطواتي. وما أن بلغت الكاتدرائية شرعت بالجري. في البيت، لاحظت أن لفة النقود سقطت من جيب معطفي.

في الصباح التالي بعد محاضرة الثقافة، طلبت مقابلة المشرفة وأخبرتها أنني أيضا خدعت في الأمسية السابقة.

أضفت:” لا شيء خطير. ليست خسارة عظيمة".

ولكن أخطرتها إنني قررت أن أعود، ولن أنتظر فصل الربيع أيضا. حذرتني المشرفة من الاندفاع إلى قرار سريع. وقالت من المخجل العودة الآن، ولا سيما أنني بدأت أعتاد على اللغة الروسية. وافقتها، وكنت أهز رأسي كل الوقت وهي تتكلم.

سألتني:” متى ستسنح لك فرصة مماثلة؟".

أضفت أنه في الحقيقة هناك مشكلة أخرى: أنني لا أحظى بحظ كبير في الكلام بالروسية مع مضيفتي. قلت لها هي كبيرة بالعمر. ولست متأكدة أنها قادرة تماما على استضافة طلاب وهي بهذا العمر. وأشرت إلى حقيقة أخرى وهي ضعف قدراتها الفيزيائية المحدودة، وربما هي ليست عقليا جاهزة كذلك - ولا يمكنها أن تميز بوضوح بين الحي والميت، وفي عدة

مناسبات، كانت تتعرى أمامي.

استنفرت أحاسيس المشرفة.

قالت:” لم نكن نعلم بذلك. ولكن كل البنات كن معجبات بها على الدوام".

واقترحت أن تجد لي عائلة أخرى.

وافقت أن غالينا إيفانوفنا امرأة رائعة. ولكنها تتقدم بالعمر، وهذا ليس خطأ أحد. وأضفت ربما من الأفضل لي أن أركز على الجانب الأكاديمي المتوقع في الفصل القادم في كل الأحوال. ثم إن د اللغة الروسية ليست أول اهتماماتي. حثتني المشرفة على الاستمرار على الأقل حتى نهاية العطلة. ولاحظت أنها مهتمة، من أجلي وكذلك من أجل سمعة البرنامج.

قالت:” حسنا. وشكرا لكل شيء".

وقبل مغادرة مكتبها، أخبرتها أن غالينا إيفانوفنا حساسة جدا. ومن الأفضل أن لا ينمو لعلمها  أي

شيء مما قلت.

*

كان البعض ينفق العطلة مع المضيف. أخريات سافرن إلى موسكو. وقررت الانضمام لهن، ومن هناك أتابع برحلة أخرى، ربما إلى قازان، أو شمال أرخانجيلسك - وكان في ذهني خطة رحلة بالقطار تنتهي في مكان خرافي وأسطوري، وذلك قبل العودة إلى البيت.

خلال الأسابيع الأخيرة لي في البلدة، شاركت بالمحاضرات بحماس، وصنعت صفا من بطاقات الكلمات، وأضفت إلى مذكراتي كل المشاهد والأصوات التي كازت في طريقي. وحضرت تمارين الفرقة الموسيقية، وذهبت إلى الميتم في يوم المباراة مع الأطفال. وعندما رجعت إلى البيت، أخبرتني غالينا إيفانوفنا أنها تركت لي الطعام على الطاولة، فقط إذا كنت أريده.

سألتني في أحد الصباحات وأنا أغادر:"هل أخطأت معك يا ماشا بشيء؟".

فقد أخبرتها  أنني بعد المحاضرة سأزور مضيفة إحدى زميلاتي على الغداء.

قلت:” كلا". كنت أريد الاستمتاع بكل وقتي قبل أن أنتهي.

قالت: "ستغادرين لأنك لا تحبي هذا المكان؟".

قلت:"كلا. أنا أحبه فعلا".

ولم يكن في ذهني كلام آخر أقوله.

*

لحق بي المرض قبل الرحلة إلى موسكو بيوم واحد. وفي الصباح التالي، حينما كانت الآخريات تصعدز على متن القطار، أصبحت عليلة جدا، ولم يكن بمقدوري الوقوف. كانت غالينا إيفانوفنا تأتي إلى حجرتي  على مدار الساعة، وتضع يدها على جبيني، وتبدل كيس مخدتي، وتحضر الحساء للطعام، ولكن لم ألمسه.

قالت:"هيا يا ماشينكا. خذي القليل منه فقط".

وكنت أبكي كلما حثتني على الطعام بهدوء وأنا أشعر بالخزي.  في إحدى المساءات، حينما تمكنت من أكل عدة ملاعق، حملت كتبي إلى جانب سريري.

قلت بحركة من رأسي: كلا. وشكرتها.

قالت :"ولكنك تحبين القراءة". وجعلني هذا أبكي.

أحضرت المقعد من المطبخ، وجلست في غرفتي بقية يومها. كنت أغط بالنوم وأفيق وغالينا إيفانوفنا جالسة على الكرسي، ويداها في حضنها، دون أي علامة تدل على نفاد الصبر.

قلت لها:"ستمرضين أيضا. من فضلك لا تبقي هنا".

لوحت بيدها.

في اليوم التالي غادرت السرير وحصلت على حمام سريع. في المساء جلسنا عند طاولة المطبخ. بعد ذلك ذهبت إلى غرفة غالينا إيفانوفنا لمشاهدة العرض التلفزيوني. كانت البنت لا تزال ترتدي الأساور والنظارات السميكة. ولكنها ضمنت لنفسها مكانا في مجتمع غرفة الصف. ولا حظ الولد ذو الشعر الأسود ذلك.

حينما كنت عائدة إلى غرفتي سألتني غالينا ايفانوفنا ما هي خطتي في المساء القادم. ليلة العام الجديد.

أخبرتها:” لا شيء".

قالت:” سنأكل معا. من المهم أن نكون متلازمتين".

بعد الظهيرة ذهبت إلى الكاتدرائية، كانت جدرانها تنهض من تحت الثلج، وقبابها المذهبة مطمورة بالأبيض. اشتريت هدايا من الغرف الخشبية الموزعة حول الساحة لأحملها معي إلى بلدي. كان مرشد سياحي يتكلم عن نمط الطرقات التي تنبع من الكاتدرائية. وقبل أن أنصرف، نظرت إلى صفوف الأيقونات الكثيرة، وأياديها ترتفع للتبريك أو للاعتراف، وحاولت أن أستخلص شيئا من هذا المشهد لأحمله معي أيضا. ثم توجهت إلى السوبر ماركت واشتريت كعكة بالمثلجات.

أحضرت غالينا إيفانوفنا طاولة المطبخ إلى غرفتي، وغطتها بغطاء من قماش أحمر، ووضعت عليها أكوابا من الزجاج. وعلى طاولة صغيرة مقبلات وقارورة كونياك. كانت صورة زوجها كذلك على الطاولة، مع صورة إضافية لطفل، بعمر سنة أو اثنتين، وكان ملفوفا بملاءة من التريكو. رفعنا كوبينا لنشرب نخب العام القادم. أومأت غالينا إيفانوفنا للصورة قبل أن تأخذ رشفة. وحينما كنا ننظف الطاولة، شكرتها على حسن ضيافتها لي، وقدمت لها دبوسا عنبريا بشكل القلب، اشتريته في ذلك اليوم من أمام الكاتدرائية.  وفي الوقت الذي كان التلفزيون يعرض به الألعاب النارية من الساحة الحمراء، كانت تغط بالنوم على الكنبة.

*

لاحقا تذكرتها بحنان. وصفت مخللاتها وحساءها، وأثوابها القطنية المطبوعة، وذهنها البطيء المشتت، كما لو أنها شخصية في قصة خرافية. وقلت كانت العجوز تدعوني ماشا. بعد بعض الوقت كتبت إليها، ووقعت باسمي الأجنبي الذي خلعته علي. حتى أنني أرسلت لها صورة تذكارية - لحجرتي في المساكن، وغرفة الطعام، وبيت والدي، والشوارع، وحدائق المدينة، والكنيسة الخشبية البيضاء المشيدة على التلال.

أخبرتني بالهاتف إن بلدتي تبدو مثل بلدتها.

قالت:” لا بد أنك كنت في بيتك معنا".

وآخر مرة كلمتها فيها، كانت في عشية العام الجديد، ليس قبل وفاتها بمدة بعيدة.

صحت أقول:"عاما سعيدا. أتمنى أن أمامك كأسا من الكونياك".

"هل تتذكرين يا ماشا حينما احتفلنا معا".

"طبعا. كانت لحظة رائعة".

"كنت الأخيرة. أخبروني أنه يجب أن لا أستضيف بعدك أحدا".

قلت:"ولكن كنت مضيفة متميزة جدا".

قالت:"ما كان عليك أن تكلميهم عني، أيا كان ما قلت لهم".

ثم أضافت:"ولكنني أغفر لك".

*

بسرد تفاصيل حكاية مغامرتي الروسية، لا يفوتني أن أقول إن تلك الشهور، برفقة مضيفتي العجوز، كانت وقتا مؤثرا ترك ظله على حياتي، وعلمني شيئا عن حياة الآخرين. ولكن من بين كل التفاصيل التي لم أذكرها في القصة، ونسيتها مع الوقت، لا أزال أتذكر عصارى اليوم الذي أحضرت فيه غالينا إيفانوفنا مجموعة الكتب. ولسبب ما لم أفهم تماما، لماذا جعلني مرأى تلك الكتب أبكي.

جلست غالينا إيفانوفنا على مقعد قرب سريري وفركت لي يدي ببن راحتيها. ولاحظت أنها كانت تبكي أيضا.

وأعتقد أنها قالت لي:"هذا محزن جدا".

ولست متيقنة أنني فهمتها على نحو صحيح.

قلت:"أنا غير حزينة. أنا على ما يرام".

هزت رأسها.

قالت:"نحن هنا. الواحدة بجانب الأخرى".

وأخبرتني إنها آسفة، لأنه ليس بمقدورها أن تقدم لي مساعدة أكبر.

***

.................

* إيشيغول سلفاش Aysegul Savasكاتبة تركية تعيش في باريس. صدرت روايتها الأولى بعنوان "المشي على السقف". 

النص الإنكليزي منشور في مجلة "غورنيكا" الأدبية.

 

في نصوص اليوم