اخترنا لكم

شاهدتُ قبل أيام حلقة تلفزيونية، وفيها ضيف يهاجم الفلسفة وتحديداً تعليمها في المدارس باعتبارها تعمل على تخريب العقائد، وهدم الثوابت، والواقع أنني مللتُ القول في أكثر من مناسبةٍ كغيري من الزملاء أن الفلسفة ليست مهمتها التخريب، مقابل البناء.

الفلسفة لا تشبه العلوم بدفاعها عن حقائق ثابتة وراسخة، إنها مجموع المحاولات البشرية، وحصيلة المتون النظرية، ومحتوى الاستدلالات والمحاججات الحيوية. وما كانت للفلسفة يوماً مهمة متعلقة بالهدم ولا بالبناء، وإنما تهيئة الأجواء لمنح الإنسان قدرةً مضاعفة على مواجهة المستغلق من الأسئلة، ومنازلة الدقيق من الأفكار، وما حملته من نظرياتٍ طوالَ تاريخها.

تحدي تعليم الفلسفة لا يلغي أبداً أهمية التمسك به، التعليم بسياساته لا تقوده موضات العصر، والتحدي لا يخص تعليم الفلسفة وحدها، وإنما مجالات التعليم كلها، ولذلك فإن تدريس الفلسفة يجب إنقاذه عبر تطوير سياساته، والتفكير في استراتيجيات لا تحولها إلى نشاط تسلية وإزجاء للوقت وإنما لمعمل تمرين حقيقي على قراءة النصوص ودرسها، ولذلك لم تشكُ التجربة التونسية الرصينة من مثل ذلك الخلل.

سؤال جدوى الفلسفة أكثر من طرحه الفلاسفة أنفسهم، وثمة فلسفات بنيت لمناهضة موضوعات عريقة في تاريخ الفلسفة مثل الوضعية، والتفكيكية، وفلسفات الاختلاف عموماً وغيرها، فالفلسفة يضطرب بعضها بعضاً.

إن قيمة الفلسفة ليست في نتيجتها، وإنما في طريقها. البحث هو الغاية وليست نتيجته. الفلسفة المقبلة لدى هيدغر «لا تعني التي ستظهر في المستقبل، بل الفلسفة المتجهة نحو المستقبل مهما كان الزمن الذي تظهر فيه»، بحسب تعليق إسماعيل المصدق وشرحه. أما عن إشارة هيدغر التمهيدية لـ«ماهية الفلسفة»، فإنها «لا تتعين إلا من خلال طرح الأسئلة الأساسية»، ويفكر فيها من خلال الرنين الأول للحال الوجداني الأساسي للكائن والكينونة.

يعنون هيدغر فقرة من كتابه «الأسئلة الأساسية للفلسفة»: «الفلسفة بصفتها معرفة بماهية الكائن، غير مفيدة مباشرة، وهي مع ذلك سيادية، على قدر وعمق تاريخ شعبٍ يحضر أو يغيب في بدئه المعين لكل شيء يكون شعر الشاعر، وتفكير المفكر، الفلسفة. إن شعباً تاريخياً بلا فلسفة مثل نسرٍ من غير الامتداد الشامخ للأثير اللامع الذي تبلغ فيه أجنحته الاندفاع الأكثر صفاءً»..

الخلاصة، أن الحديث عن تعليم الفلسفة لايعني أن مقرراتها هي الحل الساحر لكل معضلات العقول، ولكنها تساهم في إيجاد بيئة نقدية عمومية تُغني النقاش والحوار وتؤسس للتسامح ونسبية الحق.

***

فهد سليمان الشقيران

عن صحيفة الاتحاد الامارتية، يوم: 30 ابريل 2024

حضور شعر المرأة وإبداعها بعامة لم يكُ يتم إلا عبر وسطاء، إما رواة أو مدونين، في حين يظل صوتها واسمها تحت الظل، على أن الوسطاء، رواة ومدونين، يتحكمون بالمنشور، ثم تدهور الوضع ليصبح الاسم نفسه من الممنوعات، ولا نعرف على اليقين متى أصبح اسمها عورةً، فلم يكُ ذلك في الجاهلية مع شيوع الوأد، ولا في عصور الإسلام المبكرة، وإنما جاء متأخراً، وربما يكون ثقافة مدنية وليست بدوية ولا ريفية في الأصل، وقد أمعنت الثقافة في احتكار الصوت والمعنى الشعريين على الرجل دون المرأة، وتخصص الرجل بمصطلح الفحولة مع حرمان المرأة من هذه الصفة حتى لقد ورد في معنى (الفحلة) أنها تعني سليطة اللسان، بينما الفحل هو فصيح اللسان، ما يعني أن تحريك لسان المرأة بالصوت هو إثم ثقافي تجب المحاذرة منه وتوقيه، وحين عمت الكتابة في العصر العباسي جاء الصوت الفحولي ليمنع المرأة من تعلم الكتابة وجاء كتاب (الإصابة في منع النساء من الكتابة) للفقيه البغدادي نعمان بن أبي الثناء الألوسي، وذلك لمنعها من التحايل على قوانين الحجب الثقافي عبر استخدام الكتابة التي لا تحتاج لصوت، ولكنها تحتاج لاسم، وقد حدث أن اعتبر اسمها عورةً، ومن ثم تضافر منعها من الكتابة مع حجب اسمها ليقمع إبداعها، ولكنها لم تنقطع عن الإبداع قط، وقد روى لي أحد الأفاضل مرةً أن في عائلته الكبيرة أكثر من أربعين شاعرةً، وحين لمته على عدم تدوين هذا التراث العائلي الضخم امتعض وجهه وقال: لا لا، عيب عيب، وتعمد قطع الحديث معي وكسر سيل أسئلتي. وهذه ليست قصةً فرديةً، وإنما هي موروث ثقافي متأصل.

على أن تعلّم المرأة أخيراً للكتابة كشف حذاقة أبي الثناء في حماية إمبراطورية الفحول حين نادى بمنع المرأة من تعلم الكتابة، حيث بمجرد ما تعلمت أصبحت حقاً تنافس الرجل على الإبداع، وأظهرت مهاراتها وقدراتها، أي أن خطة منعها من الكتابة كانت هي القابع الأهم ضد إبداعية المرأة، بما إنها مع الكتابة أظهرت اسمها مثلما أظهرت بوحها، وأظهرت أن استخدام اللسان ليس سلاطةً، وإنما هو سلطة معنوية وتفرد ثقافي، وأتبعت اللسان بالقلم والورقة، ومن ثم ظهرت المبدعة وظهر التأنيث ليكون قوةً معنوية ومعرفية، وبدأ ذلك بالكتابة الوجدانية، كما لدى باحثة البادية، ومي زيادة، ثم الشعرية كما فعلت نازك الملائكة بمبارزة فحول الشعر العمودي، وفتحت آفاق قصيدة التفعيلة، وفي المثالين معاً كشف ثقافي يعصي ثقافة الفحول عبر تعلم سحر الكتابة، وإن كان البحر الشعري فحلاً فالتفعيلة أنثى، وهنا تصل الثقافة إلى التساوي العادل في ميزان القول، كما في ميزان الطبيعة.

***

د. عبد الله الغذامي - كاتب ومفكر سعودي

عن صحيفة الاتحاد الاماراتية، يوم: 4 مايو 2024 02:07

 

انتخب المستشرق الفرنسي البارز كرستيان جامبيه مؤخراً في المجمع العريق «الأكاديمية الفرنسية»، تتويجاً لجهود علمية بارزة خصص جُلها للفلسفة الإسلامية. أغلب دراسات جامبيه تناولت فلاسفة الإشراق الكبار، وهم ابن سينا والسهروردي والملا صدر الدين الشيرازي، جرياً على نهج أستاذه المعروف هنري كوربان. وكما أن كوربان أصدر في الستينيات كتابه الأساسي في تاريخ الفلسفة الإسلامية، فقد ألَّف جامبيه قبل سنوات كتاباً في الموضوع نفسه، وإن اختلف عنه في المقاربة والمنهج. وعلى عكس جل مؤرخي الفلسفة الإسلامية من الغربيين والعرب أيضاً الذين حصروا نصوصَ هذه الفلسفة في أعمال الكندي والفارابي وابن سينا وابن طفيل وابن رشد، مع القول بأن التقليد الفلسفي انتهى في التاريخ الإسلامي بعد نهاية القرن السادس الهجري (الثاني عشر الميلادي)، فقد ذهب جامبيه إلى أن الكتابة الفلسفية الإسلامية أوسع بكثير من هذه النصوص المرجعية، وقد استمرت عهوداً طويلة بعد اللحظة الرشدية، ويكفي دليلا على ذلك نسق صدر الدين الشيرازي المعاصر لديكارت وسبينوزا في الحقبة الحديثة.

وفي حين أن مؤرخي الفلسفة الإسلامية يهتمون على العادة بالمحور الأنطولوجي الموروث عن العصر اليوناني (نظرية الوجود ومسلك الميتافيزيقا)، نرى أن جامبيه يعتقد أن مفتاح التفكير الفلسفي في الإسلام هو تأويلية الذات من خلال النظر العقلي المفتوح في النص المنزل، بحسب محورية المعاد وما بعد الموت وما يترتب على هذا المنحى النظري من أبعاد روحية وأخلاقية بخصوص علاقة النفس بالجسد ونمط تدبير الرغبات والأهواء والنوازع. ومع أن فلاسفة الإسلام اهتموا كثيراً بالمنطق ونظرية العلم، إلا أنهم اعتبروا أن السؤال الميتافيزيقي مجرد مدخل للفلسفة الحقيقية التي هي التأمل في الذات وصولا إلى أخلاقيات الترقي والسمو التي تؤسس لنظرة كثيفة وقوية للحرية، وإن كانت مخالفة لدلالة هذه المقولة في السياق الغربي الحديث، كما أنها تكرس نمطاً من التجريبية الروحية التي تصل مداها في الأدبيات الصوفية والعرفانية. لقد عرف أفلاطون الفلسفةَ في محاورة «الفيدون» بأنها تهدف إلى أن «تعلِّمنا كيف نموت». وإذا كان فلاسفة الإسلام قد تبنَّوا هذه المقولة فإنهم أعطوها دلالةً مغايرة، تتناسب مع محورية المعاد والآخرة في نسقهم الأخلاقي والروحي.

وهكذا يرى جامبيه أن ما يميز الفلاسفة عن الفقهاء ليس نمط الاهتمام بالنص، بل اعتقادهم أن النشاط العقلي يمارس بحرية وإبداع ضمن تأويلية النص التي هي الوجه الآخر للوعي بالذات. وفي هذه التأويلية الروحية يمارس العقلُ قوتَه الإدراكية والبرهانية، وفق شروط ومحددات معرفية معقدة وطويلة، بحيث يكون الوصول للحقيقة مضنياً وصعباً، وإن كان جل البشر عاجزين عن اختراق الوهم والخيال. إن ميزة أطروحة جامبيه تكمن في أنه تجنَّب الموقفين السائدين في الدراسات الاستشراقية، وهما: إما النظر إلى الفلسفة الإسلامية بصفتها لاهوتاً ملتبساً، أو باعتبارها مجرد نصوص يونانية مكتوبة بحروف عربية. وهكذا يفرق جامبيه بين علم الكلام الذي هو علم جدلي في أمور العقيدة، وإن كانت له جوانبه الفلسفية العميقة، وبين الفلسفة الإسلامية التي تشكلت في تواصل ثري مع السردية اليونانية وإن اختلفت في رؤيتها ومسلكها عن الموروث الإغريقي لكونها تصدر عن إشكالات إسلامية محضة تتمايز كلياً عن الفلسفات اليونانية.

بيد أن جامبيه يبين أن الفلسفة الإسلامية الوسيطة أسست للتقليدين الكبيرين في الفلسفة الحديثة، وهما: أنطولوجيا الشيء (بدل سؤال الوجود الأرسطي) بما هو جلي في نقدية كانط التي نجد جذورَها لدى ديكارت ولايبنتز، وتأويلية الذات التي هي محور الفلسفة الحديثة والمعاصرة في الغرب. ليس من همنا عرض أعمال جامبيه، وهي هامة ومتشعبة، وحسبنا توجيه النظر إليها لكونها ما تزال إلى حد بعيد مجهولةً في الساحة الفكرية العربية.

ولعل سبب هذا الإهمال هو شيوع النظرية التي دافع عنها المرحوم محمد عابد الجابري بخصوص ما سماه غنوصية ابن سينا وفلسفة الإشراق من بعده والتي وسمها بالعرفانية غير العقلانية. إن هذه الرؤية تنجرُّ عنها ضرورةُ نفي الجانب الأساسي في الفلسفة الإسلامية الذي ركز عليه جامبيه كامل اهتمامه، وهو التأويلية الروحية والعرفانية التي اعتبرها ذروةَ العقل الفلسفي في الإسلام، بدل التصورات السياسية والأيديولوجية التي شغلت راهناً حركات التطرف الديني. ما يبينه جامبيه هو أن ابن سينا الذي قدم أهم صياغة فلسفية في العصور الوسطى لميتافيزيقا أرسطو، أدرك أن الحقيقة بمفهومها المطلق تُنال بالتجربة في بعديها الحسي والروحي، أما العقل المنفصل عن الذات والجسد فلا يتجاوز حدود المنطق الصوري المجرد، وهذه الرؤية هي جوهر الموقف الفلسفي لمفكري الإسلام الأقدمين.

***

د. السيد ولد أباه - أكاديمي موريتاني

عن صحيفة الاتحاد الاماراتية، يوم: 5 مايو 2024 23:30

منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر ظهر تيارٌ من الإصلاحيين المسلمين يدعو لفتح باب الاجتهاد لتجاوز التقليد المذهبي والتلاؤم مع المتغيرات. وكان الرائد في هذا المجال رجل الدولة التونسي خير الدين الذي اعتبَر في كتابه «أقوم المسالك» (1867) أنّ المتغيرات العالمية (النهوض الأوروبي) هي مثل السيل الذي لا يمكن دفعه إلا بالتلاؤم معه أو يجرفنا في طريقه. والتغيير المطلوب للتلاؤم له ركنان: العمل على إقامة الدولة الحديثة، وإصلاح الشأن الدنيوي استناداً إلى فقه المصالح العمومية التي يعتبرها الفقه الإسلامي الكلاسيكي. وبعد خير الدين التونسي تبلور فقهُ الإصلاح المصري مع محمد عبده الذي مضى من فتح باب الاجتهاد إلى التفكير في تجديد أطروحة المدنية.

ومثل خير الدين كان الإصلاحيون المسلمون يضعون التقدمَ الأوروبي مثالاً ونموذجاً، يلتمسون الوصول إليه بالتعرف على كيفيات نهوض الآخرين، والتأصيل من القرآن الكريم لعمليات النهوض والتمدن. وقد تجلّى ذلك في إقبال محمد عبده على إلقاء دروسٍ في تفسير القرآن الكريم جمعت فيما بعد في «تفسير المنار» الذي كانت أطروحة المدنيّة في موقع القلب منه. وعلى نفس المنزع جاء تفسير «التحرير والتنوير» للشيخ الطاهر بن عاشور في تونس خلال أربعينيات وخمسينيات القرن العشرين، والذي دعم رؤيتَه أو فلسفتَه في كتابه «مقاصد الشريعة الإسلامية».

إنّ ذلك الجهد التأويلي، وإن سُمّي تأصيلاً، كانت له نتائجه في التحاور مع الإعلان العالمي لحقوق الإنسان (1948) وموازاته بالضروريات الخمس الواردة في فقه المقاصد الشرعية: حفظ النفس، وحفظ العقل، وحفظ الدين، وحفظ النسْل، وحفظ المال. وعندما انشقّت الإحيائيات والأصوليات وظهرت الجهاديات، كافحها الإصلاحيون الجدد بشكلين: الإعلانات عن نهج التسامح والسلام، ومساعي التواصل مع العالم من خلال الحوار مع الأديان الأخرى والثقافات، والتماس فقه السلم من خلال مقولات القرآن في ذلك، والاجتهادات الجديدة في التعارف وفي نُصرة الدولة الوطنية. وقد ظهر ذلك في «وثيقة الأخوّة الإنسانية» المعقودة بين بابا الفاتكيان وشيخ الأزهر في أبوظبي عام 2019، وفي نتاجات ومؤتمرات منتدى تعزيز السلم بأبوظبي وإعلان مراكش وميثاق حلف الفضول. وما زالت الأصوليات والانشقاقات، لكنها ضعُفت ضعفاً شديداً، وتأسس ذلك على جهود الدول الوطنية في استتباب الاستقرار والتنمية المستدامة والتعايش، وفي الإقبال على الشراكات مع العالم، سواء لجهة متابعة اجتهادات التأويل وصنع الجديد، أو لجهة الانفتاح على قيم المعروف الإسلامي والعالمي، والمقاربات الأخلاقية للقرآن، تفسيراً أو استلهاماً أو تأويلاً، تقتضيه أحوال العصر وتياراته.

ومن ذلك التأويل كتاب المدينة أو عهدها والذي يتلاقى مع المشترك الإنساني في الأخلاقيات والنظم، وإنجاز المجتمع المتضامن والمنفتح. لقد كان هناك مسوِّغ للجوء إلى التأصيل من أجل المشروعية. لكنّ الجديد الكثير الذي ظهر في فقه الدولة وفي فقه الدين، والذي أفضى إلى رؤيةٍ جديدةٍ للعالم، صار مغنياً عن اللجوء الدائم إلى التأصيل، والاكتفاء بممارسات التأويل الاجتهادي والتجديد على النصوص والمواقع والأحداث. ذلك أنّ التأصيل هو سلاحٌ ذو حدين، يمكن أن يفيد منه المجددون، بيد أنّ المتشددين يستطيعون اللجوء إليه أيضاً. أما القراءة الجديدة للقرآن، فإنّ الحزبيين والمغامرين لا يمكنهم الدخول فيها أو استغلالها. إنّ لدينا اليوم تحدي تجديد الخطاب الديني عن طريق التأويل بغرض التجديد، والذي يحتاج للمتابعة الحثيثة.. والتحدي الآخر هو الذي تقود مبادراتِه الدولُ الوطنيةُ من أجل مواجهة المشكلات في الإقليم وتصحيح العلاقات مع العالم.

***

د. رضوان السيد

عن صحيفة الاتحاد الاماراتية، يوم: 4 مايو 2024 23:45

 

يشتكي المؤرخ المعروف، نيل فيرغسون، من سيطرة الأفكار اليسارية على الجامعات الأميركية، خصوصاً كليات التاريخ وعلوم السياسة والاجتماع. في حوار أُجرِي أخيراً معه قال متحسراً: «كم كنتُ ساذجاً. اعتقدتُ أن الموهبة والمثابرة والكفاءة هي معيار التقدم في العمل الأكاديمي، وفي كل مكان آخر، ولكني كنتُ مخطئاً. اكتشفتُ متأخراً أن الآيديولوجيا الفكرية هي العامل الأهم». مجموعة اليسار الفكري، كما يقول، تساند بعضها وتقصي أصحاب الأفكار المختلفة حتى يتلاشى صوتُهم وتأثيرُهم. فمع خروج كل أكاديمي محافظ من الكلية يتم استبدالُ مؤرخ ذي نزعة يسارية به، وبهذا يزيد نفوذ الآيديولوجيا اليسارية.

وهكذا يمكن أن تسيطر الرؤية اليسارية على عقول الطلاب بشكل حاسم حتى في أعرق الجامعات. ويقول فيرغسون إنه حضر مرة بديلاً لأحد الأساتذة في جامعة بيركلي، وأشار إلى الأسباب الدينية خلف تفجيرات 11 سبتمبر (أيلول). شعر على الفور بتململ وعدم ارتياح الطلاب من هذه الحقيقة، مفضلين عليها أسباباً أخرى حُقِنت برأسهم، بينها أنها كانت ردةَ فعلٍ على «الإمبريالية» الأميركية.

ولهذا يقول مؤخراً بخيانة الأكاديميين في الجامعات بسبب انحيازاتهم الحزبية والسياسية الواضحة، وأصبحوا عقائديين هدفهم أن يحقنوا الطلاب بأفكارهم ويخلقوا منهم نسخاً مصغرة عنهم بدل أن يعلموهم طرق التفكير النقدي والعلمي من دون أن يفرضوا عليهم أجنداتهم. ولكن صعود اليسار وتحول الجامعات الأميركية بشكل مزداد إلى بؤر لها سينتج بلا شك نتائج مضرة. ولا يتعلق فقط الأمر باليسار، ولكن أيضاً في اليمين، حيث ازدهرت الأطروحات اليمينية بالجامعات الألمانية في الثلاثينات من القرن الماضي، وسيطرت على الجامعات العريقة وأقصت كل الأطروحات الأخرى، وأسهمت بصعود اليمين المتطرف الذي انتهى بصعود النازية وزعيمها. طهرت الجامعات من الأصوات المختلفة وحل مكانها، لأسباب آيديولوجية ومصلحية، أصوات اليمين العنصري البغيض.

وبحسب تجربة شخصية، فقد شهدتُ كيف تغمر أطروحات اليسار عقول الطلاب المبهورة والعاجزة عن المقاومة. ففي الجامعة التي درستُ فيها أخذتُ كثيراً من الدروس في التاريخ ووجدتُ المحاضرة الأميركية معادية بحدة وتطرف لسياسات بلادها، من دون أن تذكر أي حسنات وإيجابيات لها. أخذنا دروساً عديدة عن حرب فيتنام والمآسي التي حدثت بها، وشاهدنا الوثائقي الذي يظهر فيه وزير الدفاع، روبرت مكنمارا، دامع العينين متحسراً على بعض قراراته. وجهة نظر قد تكون صحيحة لكنها تنسى الجانب الآخر من العملية، وهي أن الولايات المتحدة قد شكلت وجه العالم الحديث الذي نعيش فيه بالقوة أحياناً والدبلوماسية أحياناً أخرى، ولعبت دوراً حاسماً بمنع اندلاع حروب عالمية جديدة منذ أكثر من 70 عاماً.

فقد قضتْ على النازية والشيوعية والفاشية والقاعدة، وساندت المسلمين في البوسنة والكويت وقتلت أخطر ثلاثة إرهابيين في العصر الحديث؛ بن لادن وسليماني والبغدادي. كل هذه الأخطار كانت ستغير وجه العالم اليوم لو لم تُكافَح ويتمُّ القضاء عليها بفعل هذه القوة. ولكن من الصعب أن تطرح نقاشاً حراً في كليات تحقن الطلاب بوجهات نظر تحولها إلى حقائق مسلم بها. وبالتأكيد لأميركا جوانبها المظلمة الداخلية من العنصرية المشرعة في القرن الماضي والأخطاء الكارثية في العراق وأفغانستان. ولكن من المهم أن النقاش الموضوعي القائم على الحقائق وليس العواطف يدفع إلى مزيد من الموضوعية في الحكم.

والشيء ذاته يحدث في استهداف العلاقة بين دول الخليج وواشنطن ووصفها بـ«البترودولار»، على الرغم أنها أسهمت في استقرار منطقة ملتهبة سياسياً، ولعبت دوراً محورياً في ازدهار الاقتصاد العالمي بالعقود الأخيرة. ولأول مرة عرفت في محاضرة أن العبودية ما زالت مستمرة في الخليج، ولكن المحاضر كان يقصد العمالة المنزلية! ولكن اختيار مصطلح «العبودية» يداعب المخيلة الأميركية ويرسخ الفكرة المطلوبة بطريقة أسرع.

ولا تتوقع أن تصل ذيول هذه الآيديولوجيا الفكرية إلى تخصصات تقنية عملية، مثل الإنتاج الإعلامي ولكني كنتُ مخطئاً. من بين المناهج التي رغبتُ بدراستها تاريخ الميديا الأميركية، ولكن الإحساس بلذة الاكتشاف والتعرف على ضخامة هذه الميديا تلاشى سريعاً. المحاضرات أصبحت جلسات زرع العقيدة اليسارية أو ما يسمى الآن «اليقظة» (Wokisim) في العقول والأفئدة. فقد تحولت الدروس إلى محاكمات ونبش للأفكار والإيحاءات العنصرية المستترة في ثنايا المقالات والوثائقيات والأفلام والمسلسلات. بعضها صحيح إلا أنها ترتكز أيضاً على قراءات مبالغ بها تحركها البرانويا ومهجوسة بالحس المؤامراتي الشرير أكثر من الحقائق. ومن الغرائب أيضاً ما سمعته في درس لأستاذ شديد اليسارية، يهدف إلى فهم حركات الاحتجاج واتباع أساليبها الصحيحة لها. مادة عن العدالة الاجتماعية تحولت إلى مدخل إلى التثوير!

في كلية الاقتصاد كان الوضع مختلفاً، ولأول مرة نسمع عن مفكرين اقتصاديين كبار، مثل فريدريك حايك، ومليتون فريدمان، وتوماس سويل. السبب لأن الكلية مشهورة بإيمانها بمبدأ السوق الحرة، وكفّ يد الحكومة عن التدخل بالاقتصاد، وضد الحد الأدنى للأجور، وكل هذه الأفكار معارضة للعقيدة اليسارية المتطرفة. ولكن الكلية تعرضت لهجوم عنيف مؤخراً بسبب نهجها الفكري، وتمَّ التشكيك بأموال المتبرعين لها والهدف هو أيضاً إخضاعها لعقيدة فكرية.

وبسبب طغيان مثل هذه الآيديولوجيا المغلقة الحادة تعرض كثير من المفكرين والصحافيين والكتاب إلى الاستهداف والتضييق، وحرموا حرفياً من إقامة محاضرات مفتوحة. ولا تتوقع أن شيئاً مثل هذا يحدث في الولايات المتحدة، ولكن تشهد بين فترة وأخرى أعمال عنف وحرقاً من قبل طلاب بجامعات شهيرة بعد الإعلان عن استضافة شخصيات ذات توجهات فكرية مختلفة عن الآيديولوجيا الفكرية السائدة.

وبالطبع تمتد هذه الأفكار لتصل إلى عالمنا، وهناك من يدعو لها بصراحة، سواء إيمانها بها أو لأهداف شخصية بحثاً عن شهرة أو شعبية، وليس غريباً أن تستغل أكثر القضايا الإنسانية عدالة بحثاً عن المال والنجومية أو المناصب السياسية. وبعد أن يتم استثمارها وتنتهي الحفلة يبدأون بتدخين السيجار الفاخر على جثث الأطفال المطمورة تحت الركام.

***

د. ممدوح المهيني

عن صحيفة الشرق الأوسط اللندنية، يوم: الثلاثاء - 21 شوّال 1445 هـ - 30 أبريل 2024 م

 

بسبب طول فترة التظاهر بالجامعات الأميركية من أجل الحرب على غزة، كان هناك من شبّه ظاهرة احتجاج الشباب بما حدث في الستينات من أجل الحقوق المدنية، ثم من أجل الحرب الفيتنامية التي كانت الدولة أميركا غارقةً فيها. وكما هو معروفٌ، فإنه في عام 1971 صدر كتاب: نظرية العدالة لفيلسوف القانون الأميركي جون راولز، والذي لا تزال النقاشات دائرةً حوله بين النُخب القانونية والفلسفية طوال خمسة عقودٍ وأكثر.

كان سؤال جون راولز عن إمكانيات النظام الليبرالي في مواجهة الإغراء الآخر المتمثل في الأنظمة الشمولية في الاتحاد السوفياتي وأوروبا الشرقية. ولأنّ الاتحاد السوفياتي انهار بعد عقدين؛ فإنّ المعنى الأخلاقي البارز لحركات الشباب آنذاك ومنها ثوران أواخر الستينات للطلاب في أوروبا وأميركا توارى وتراجع. لكن معلّقين عديدين يصرّون اليوم على أنّ ما جرى ويجري كان نعياً على التنوير وقيمه وأخلاقياته والذي بدأ الثوران على مسلَّماته الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه أواخر القرن التاسع عشر وإلى زمن الفلاسفة الفرنسيين الجدد في الثلث الأخير من القرن العشرين. في حين يربط آخرون هذا الثوران ذا الطابع الأخلاقي والتطهري بأمرين آخرين: النزاع في الغرب وعليه، والثورات التكنولوجية الهائلة التي تمضي باتجاه تشييء الإنسان والعدميات المرتبطة بنزعاته الجارفة. وفي الوقت نفسه يربط آخرون من فلاسفة العلم والسياسة كل ما يجري بالنزعات الفوضوية التي يكون على الدولة الغربية مقاومتها إبقاءً على قيم التنوير بالذات!

في عام 1977 كما هو معروفٌ أيضاً ظهر كتاب إدوارد سعيد: الاستشراق، الذي يُدين ذلك التخصص أو الاهتمام باعتباره استمراراً لظاهرة الاستعمار وآيديولوجياته ومنها ما يرتبط بالتنوير ومسلَّماته. وتطورت هذه الظاهرة النقدية في بحوث التابع subaltern التي تنعى على الغرب كلّه وعلائقه بإنسانية الإنسان وبمصائر نظام العالم الحديث والمعاصر والذي يُظهر انحيازاتٍ كبرى في الظواهر اليمينية التي تحفل بها اليوم الأنظمة التي كانت تقودها أوروبا وأميركا بعد الحرب الثانية والتي ضعُف الاقتناع بها في أوساط الشباب بالذات. فكتاب جون راولز هو انتصارٌ لإمكانيات النظام الليبرالي غير المحدودة، أما جذريات ما بعد الغرب وما بعد عالم أميركا في تساؤلات الدارسين اليوم فهي إدانةٌ لذلك السواد، ودعواتٌ للتحول على المستوى العالمي.

بعد هذه التأمليات الشاسعة الأبعاد، لنتلفت قليلاً إلى مسألة إسرائيل ومسألة الترتيبات الاستراتيجية التي أنتجتها باعتبارها انتصاراً للغرب الصاعد وقيمه. فمنذ الحرب الأولى ومبدأ ويلسن في حق تقرير المصير للشعوب المظلومة (1920) اعتُبر الانتصار الثاني في الحرب الثانية إحقاقاً لقيم التنوير والعالم الأميركي ومن ضمنه قيام الكيان في عام 1948. وفي حين صار زمن ما بعد الحرب وقيام الأمم المتحدة والإعلان العالمي لحقوق الإنسان (1948) خروجاً إلى حريات عالمية؛ ما اعتبر الكبار في النظام الدولي ومنهم السوفيات، احتلال فلسطين استعماراً وليس ظلماً لشعبٍ آخر من حقه أيضاً أن يدخل إلى مبدأ ويلسون في حق تقرير المصير. وأقصى ما أمكن بلوغه بعد نضال المائة عام قول الأميركيين اليوم، بحلّ الدولتين.

سيقول أنصار الحق الفلسطيني: لكنّ الأميركيين وقبلهم الأوروبيون ما أظهروا من الاهتمام في زمن انتصارهم لقيم التنوير وحقوق الشعوب في الحرية، ما أظهروه تجاه النضال ضد التمييز العنصري وتحرر جنوب أفريقيا. وهنا تأتي الخصوصية التي تحوط المسألة اليهودية والتي شهدت اهتماماً ومعالجة حتى من جانب كارل ماركس في زمن ظهور القوميات قبل مائتي عام. فقد تعرّض اليهود لظلمٍ فظيعٍ في الزمن النازي بعد تمييزٍ استمر قروناً؛ ولذلك انتصرت قضيتهم في إقامة الدولة على حق الشعب الفلسطيني في أن تكون له أيضاً دولته. ولذلك أيضاً وأيضاً ما شهدت مذابح إسرائيل في غزة من يقول بإدانة «قيام» الكيان، بل هناك إعلانٌ دائمٌ بحق إسرائيل في الوجود، وطلبٌ ملحٌّ من الفلسطينيين والعرب أن يسلّموا بذلك شرطاً لا بد منه للذهاب المتردد باتجاه الدولة للفلسطينيين على رقعةٍ صغيرةٍ من أرض فلسطين تغصُّ بالمستوطنات!

ولنعد إلى القضايا الثلاث الكبرى: الغرب الذي صنع العالم الحديث والذي تتعرض سطوته وحضارته وقيمه لتشكيكٍ كبيرٍ من داخله ومن الأطراف التي ما عادت تقبل سيطرته - والتحولات الكبرى التكنولوجية والقيمية - وراديكاليات التحولات الملحاحة من أجل التغيير. إنّ الواضح اليوم من ظواهر العنف المنتشر بشكلٍ صاعقٍ أنّ التحول المطلوب غير المرغوب من جانب المسيطرين - لا يحمل إمكانيات التصالح أو التوافق على التغيير لصالح المجموع الإنساني. فالذين سيطروا لقرابة الثلاثمائة عام لا يقبلون في العمق تحولاتٍ باتجاه التناصف والإنصاف. إذ أين سيحدث التناصف أو التوافق مع تجنب العنف؟ سيحدث إن أمكن من خلال المؤسسات القائمة، وبنيتها غربية جميعاً، وهي لا تملك المرونة الكافية للتنازل باتجاه قيم جون راولز للعدالة. بيد أن الغربيين حتى الذين ظلوا ليبراليين يقولون إنّ الضغط الهائل الذي يتعرض له النظام العالمي يهدّد بالتصدع والانكسار والمضيّ باتجاه فوضى عارمة وإبادات ومجاعات وعواصف تشبه ما يجري في متغيرات المناخ! ويجيبهم خبراء المناخ بالقول: لكنّ اختلالات المناخ سببها أيضاً النظام الجائر وغير الإنساني الذي صنعه الغرب الليبرالي (!).

وهكذا، فإنّ الحديث بين الليبراليين المتحولين نحو اليمين المتشدد - والراديكاليين الجدد المطالبين بالتغيير– هو حديثٌ يشبه ما يجري بين الصُمّ الذين يرفعون أصواتهم من دون أن يفهم أحدهم ما يقوله الآخر.

وهكذا، فإنّ النضال الفلسطيني من أجل الحرية، يخالطه سوء حظٍ أو سوءٌ حقبي فظيع. فالزمن ليس زمن التحرر من الاستعمار، بل هو زمن المخاض الكبير الناجم عن تصدع الباراديغم الغربي، وظهور الثقوب في سائر أجزائه ومن الداخل. التغيير العالمي هو مثل التنوير صار متنازعاً عليه مفهوماً وإمكانيات ومناهج وسُبُلاً. فبماذا يأمل الطلبة الأميركيون الثائرون بالجامعات الليبرالية العريقة من أجل غزة؟

في العام 1794 كتب إيمانويل كانط رسالته في السلام الدائم. أما البابا فرنسِس فيتحدث اليوم متشائماً عن سلام الحد الأدنى المستند إلى أخلاق الرحمة والضيافة والجوار:

فهيهات هيهات العقيق ومن به

وهيهات خِلٌّ بالعقيق نواصِلُه

***

د. رضوان السيد

عن صحيفة الشرق الاوسط اللندنية، يوم: الجمعة - 24 شوّال 1445 هـ - 3 مايو 2024 م

 

فريد زكريا، مفكر سياسي وإعلامي أميركي بارز، صدر له مؤخراً كتاب مهم بعنوان «عصر الثورات.. من التقدم إلى النكوص»، يتناول فيه ما يزيد على أربعة قرون من مسار التحديث الغربي. الأطروحة الأساسية التي يدافع عنها الكتاب هي أن الغرب الحديث مر منذ القرن السادس عشر بثورات سياسية كبرى عديدة، انطلقت من هولندا التي كانت دولة زراعية تجارية صغيرة كرست التسامحَ الديني والانفتاح الاجتماعي خطاً مميزاً لها، مروراً بالثورة الدستورية الإنجليزية ثم الثورتين الفرنسية والأميركية. إلا أن هذه الثورات اتسمت بالازدواجية من حيث كونها ولدت حلماً جارفاً بالتغيير بفضل التقدم التكنولوجي والاقتصادي، في الوقت الذي أججت فيه ردود فعل قوية ضد التطور التاريخي والفردية الليبرالية. زكريا يرى أن القيم الليبرالية تبدو متلائمةً مع الثقافة المحافظة أكثر من تلاؤمها مع الأفكار الراديكالية الجذرية التي تتأسس على الانفصال والتحول الجذري ومسح الطاولة. ففي الوقت الذي كانت فيه الثورة الفرنسية تسلطية وقمعية لكونها صدرت عن عقل فوقي قهري يدّعي الحقيقة والعدالة، اتسمت الثورتان الإنجليزية والأميركية بالاعتدال والواقعية، نتيجةً لمراعاة الثوابت المجتمعية الكبرى المتعلقة بالدين والتقليد والأمة.

ولهذه الأسباب لم تعرف بريطانيا والولايات المتحدة الثورات الفاشية والشيوعية التي عرفتها دول أوروبية عديدة في النصف الأول من القرن العشرين. ومن هنا يمكن أن نستنتج من كلام فريد زكريا أن الليبرالية، وإن كانت نظاماً سياسياً يقوم على معايير الحرية والتقدم، إلا أنها تقتضي في الوقت نفسه ضوابط التعددية والتوافق والتسويات المؤقتة.. وهي محددات أظهر وأبرز في المجتمعات المحافظة التي تستوعب التنوع والاختلاف. وكما كان يقول فوكوياما، يرى زكريا أن الليبرالية هي الأفق الأوحد للتحديث الناجع ولا بديل عنها، وما نلمسه من ثورات غير ليبرالية مضادة (في قلب الديمقراطيات الغربية)، سببه النجاح المذهل للنظام الليبرالي بما انجرّ عنه الشعور بالقلق والخوف من الفراغ المتولد عن تحلل الهويات الجماعية والانتماءات العضوية، وهو ما يفسر انفجار النزعات الشعبوية والتيارات اليمينية المتشددة. لم يتحدث زكريا عن الثورات التحررية في العالم الثالث ولا عن الثورات اليسارية الراديكالية في شرق أوروبا وأميركا اللاتينية، وقد بدا له أن مفهوم «الثورة» في دلالاته الحقيقية هو نتاج ديناميكية التحديث التقني والاقتصادي التي لم تنجح بصفة حقيقية إلا في الغرب. وكما ذهب إلى ذلك مؤرخون كثر، يرى زكريا أن الاكتشافات التقنية، في ملاحة البحار بصفة خاصة، هي التي أتاحت للمجتمعات الأوروبية الخروجَ من الإقطاعية الزراعية وولوجَ عصر الرأسمالية التجارية، قبل أن تتوالى التطورات في مجالات الطاقة والنقل والاتصال.

وقد أدت بالتدريج إلى بناء الأرضية المجتمعية الملائمة للعصر الليبرالي المعولم. وما نعيشه راهناً مع الثورة الصناعية الجديدة هو انفجار الجدل الأيديولوجي التقليدي حول غائية التقدم العلمي والتقني وما يترتب عليها من آثار سياسية وأيديولوجية، تنعكس اليوم في الصدام القائم بين الثورة الليبرالية والثورات المناهضة لها. ما الذي نستنتجه من أطروحة فريد زكريا في سياقنا العربي، الذي شهد في العشرية الماضية عودة قوية لسردية الثورة في إطار الديناميكية التي عرفت بموجة «الربيع العربي»؟ من الواضح أن تلك الحركية لم تقم على دوافع ليبرالية، لا من حيث المطالب ولا من حيث الخطاب السياسي، بل قد تكون أدت على سبيل المفارقة إلى الإضرار بالمطلب الليبرالي الذي حملته قوى مجتمعية ومدنية ظلت خارج دائرة القرار والمسؤولية. ما نستنتجه من مقاربة زكريا هو أن المجتمعات المحافظة المستقرة التي حققت مستويات مقبولة من التقدم التقني والاقتصادي، ومن الإدارة السلمية للتعددية الاجتماعية، هي وحدها المؤهلة لتطبيق الحلول الليبرالية الناجعة.

والثورة هنا ليست بمعنى القطيعة أو القلب الراديكالي، بل هي نتاج عملية إصلاحية متدرجة وفاعلة. في بلدان عربية معروفة، شهدت «الثورات العسكرية» العنيفة، ومن بعدها الفوضى التغييرية الهوجاء التي تمت باسم المطالب الديمقراطية المموهة، لا سبيل لاستنبات التجربة الليبرالية، التي تقتضي وجود مجتمعات متماسكة، ونظام مؤسسي مستقر، ودولة بيروقراطية صلبة. كان الرئيس الفرنسي الأسبق فرانسوا ميتران يقول إن بلاده لم تخرج يوماً من «عنف المقصلة»، وإن نظامَها السياسي بقيَّ معلَّقاً على حالة استقرار اجتماعي هشة هي سبب الأزمات السياسية المستمرة في فرنسا. ولقد فسر ميتران هذه الظاهرة بغياب تقليد ليبرالي حقيقي في بلاده، بالمقارنة مع بريطانيا وأميركا. خلاصة هذا الكلام هي أن الليبرالية في أحد وجهيها حرية وتقدم، وفي وجهها الآخر استقرار اجتماعي وسلم أهلي.

***

د. السيد ولد أباه - أكاديمي موريتاني

عن صحيفة الاتحاد الاماراتية، يوم: 28 ابريل 2024 23:45

 

شاركتُ قبل أيام في حلقة حوارية ضمن برنامج «ساعة حوار» على قناة «العربية» في حلقة تتعلق بمحاولة إعادة الأصولية للربيع العربي، وفيه فضّلت الدولة التنموية على الدولة الديمقراطية، بل قلت إننا لا نحتاج إلى الديمقراطية أصلاً، وإن الدول المَلكية التنموية مثل السعودية والإمارات وغيرهما، هي الأمثل والأقدر على تلبية احتياجات الإنسان، واختلف معي أحد الدكاترة بحجّة أن تطبيقها هو الحل بوجه الإرهاب والانفلات، ولكن علينا قراءة عيوب مفهوم الديمقراطية التي طُرحت من فلاسفة عاشوا وعرفوا وخبروا هذا المفهوم وجرّبوه سياسياً. وهذا ما كررته أيضاً في ندوة أخيرة عن التجارب السياسية والتنموية، وقلت إن الخلاف مع المفهوم ذو بعد فلسفي متجدد بمستوى تجدد أسئلة الديمقراطية التي تتعرَّض لتعديلات واشتراطات وإبداء وإعادة. حتى في الدول التي بلغت الذروة في تطبيقها.

برتراند راسل يقول: «إن الديمقراطية تكاد تكون مستحيلة التطبيق في شعب جاهل، وهي ترتبط بالتعليم والثقافة». كارل بوبر جاء بعد هيغل، وهو من أشرس نقاد فلسفة هيغل وفي أطروحته «المجتمع المفتوح وأعداؤه»، ربط بين الديمقراطية ومستوى تحضر الشعب بحيث يصل إلى حال احتياج للنظام الديمقراطي، فالثقافة الديمقراطية لدى بوبر تسبق التطبيق الآلي للديمقراطية. أما الفيلسوف الألماني هيغل فهو نقيض رؤية بوبر وراسل، يكتب: «إن الشعوب ليست قاصرة ولم تكن قاصرة في أي مرحلة من المراحل على الإطلاق». يستمر هيغل: «إن تطبيق الديمقراطية بين شعب تغلب عليه الأمية ستكون عرجاء أو فاسدة أو ناقصة، لكنها ستكون ديمقراطية على أي حال، وسيكون وجودها أفضل بكثير من انعدامها، فالناس تمارس الديمقراطية وتخطئ».

قبل فترة قرأتُ مبحثاً مهماً لفيلسوف فرنسي قدير هو مارسيل غوشيه بعنوان: «الديمقراطية من أزمة لأخرى»، خلص فيه إلى النقد الصريح للمفهوم حين يكتب: «يوجد مستوى ثانٍ لمشكل الديمقراطيات، وهو أشد عمقاً ولا يتعلّق بجهازها الداخلي بل بإطار ممارستها. وهنا يأخذ معنى الديمقراطية ضدّ نفسها أهميته الكاملة. من بعض النواحي فإنَّه مسموح لنا أن تعتقد أننا شهود على مسار من التآكل لأسس اشتغال الديمقراطية، إذ خلف القيود التي تفرضها على نفسها فإنَّ الديمقراطية في قبضة تدمير ذاتي لطيف، يترك مبدأها على ما هو عليه ولكن يتّجه إلى حرمانها من فاعليته. إنَّ الكونية التأسيسية التي تعمل بها الديمقراطية تقودها في الواقع إلى فصل نفسها عن الإطار التاريخي والسياسي الذي تشكّلت فيه باختصار الدولة -الأمة- ولكن في الحقيقة وبصفة عامة عن أي إطار ممارسة يكون مقيداً بحكم التحديد. فهي ترغب في نفسها دون أرض ولا ماضٍ. إن منطق الحق يشجِّعها على رفض الاعتراف بنفسها مرسومةً في الفضاء، حيث تشكل حدودها إهانة لكونية المبادئ التي تعلنها. كما ترفض في السياق نفسه الدخول في التاريخ مما يضعها في حالة اعتماد على خصوصية ليست دون ذلك احتمالاً. بمعنى آخر فإن الديمقراطية تُقَاد إلى عدم تحمّل الشروط التي أنتجتها. على أقصى حد ستلقي كلياً الفكرة التي أنتجتها».

بل يتشاءم، وهو الفيلسوف العريق، حين يقول: «إلى جانب هذه العوامل للتعبئة الذاتية المتعلقة بالتناقضات الداخلية البحتة للعبة الديمقراطية الحالية، يجب أن نضيف التحديات الموضوعية التي تواجهها مجتمعاتنا والتي تُعْنى بإعطاء شحنة ضاغطة على المراقبة المشتركة. يكفيني البحث في الجدار الإيكولوجي الذي يحملنا إليه فعل التسريع للحركة الاقتصادية حتى نشعر بالمراجعات الممزِّقَة التي تَلوح في علاقة بالإيمان السائد في سحر التنظيم الآلي. في الحقيقة إن القيد الإيكولوجي مع ما يشير إليه من شرطية لإنتاج الطبيعة ليس إلا إعلاناً لقيود عامة أوضح، إذ يجب أن يكون مجموع شروط وجودنا التي نأخذها على أنها مُعطى، مطلباً. إنه وضع لا تكون فيه موارد الذكاء والقوة المشتركة لازمة كثيراً. الكثير من الأسباب التي يبدو لي أنها تبرر التشاؤم قصير المدى والتفاؤل بعيد المدى، إنْ سمحتم لي باستعادة معادلةٍ هذا موضع تدقيقها. حسب كل الاحتمالات، في المدى القصير وفي المرحلة التي نحن فيها، فإن الأزمة لا يمكن إلا أن تزداد حدّة. فنحن لسنا على شفا تفكيك التوازنات القديمة وزخم العوامل الجديدة. وفي المقابل في المدى البعيد سيكون ثمة أزمة نمو قابلة لأن نتجاوزها. لا يقتصر الأمر على مثال الماضي في هذا المعنى ولكن توجد علامات عديدة حتى وإن كانت ما زالت في مرحلة جنينية».

الخلاصة؛ إن الغاية من الديمقراطية تحقيق العدالة بكل ما تحمله من معنى، وهذه الغاية قد تتحقق من دون الدخول بالوسائل الديمقراطية الإجرائية السطحية التي بُنيت على ما سمّيناه التعريف المتواضع للمفهوم، إذ تسعى المَلكيات في دول الخليج إلى ثمرة العدالة، وهذا منصوص عليه بالدساتير وأنظمة الحكم، والغاية محل سعي حثيث من خلال مؤسسات ترسيخ العدالة والتحاكم العادل ضد المظالم، وعليه فإن الضخّ بهذا المفهوم بوصف انعدام تحققه هو سبب الإرهاب والفقر والمجاعة وأن تحققه هو الذي يوفّرها، فيه تسرّع معرفي كبير؛ فالدول التي حققت العدالة من دون الديمقراطية ولا صناديق الانتخاب ولا الأحزاب ولا ثقافات التثوير والشعارات والشوارع، عديدة، ولهذا شواهد من الحاضر والماضي كثيرة.

***

فهد سليمان الشقيران - كاتب وباحث سعودي

عن صحيفة الشرق الاوسط اللندنية، يوم: الخميس - 23 شوّال 1445 هـ - 2 مايو 2024 م

 

يعتبر التطرق لتعريف كلمة المعرفة بحد ذاته، والانتقال لفهم ما تعنيه المعرفة أو الإبستمولوجيا وغيرها من المفردات والمصطلحات ذات الصلة، من الأساسيات التي يتعين أن يدركها العقل الإنساني بدقة.. ذلك أن فهم ماهية المعرفة وما تنطوي عليه من عمليات وعناصر يعد العمود الفقري للإدراك الإنساني القائم على تطوير المفاهيم من جهة، والقدرة على اكتساب المعرفة الحقيقية الدقيقة من جهة أخرى. وهكذا فإن المعرفة سبيل لبناء مسار واضح تسير فيه الأفكار والمفهومات والدلالات، وتأخذ مكانها الصحيح، ومن ثَم تتكون الاتجاهات العالمية والمجتمعية على حد سواء.

ومن اللافت أن مصطلح الإبستمولوجيا يرادف في اللغة الإنجليزية «نظرية المعرفة»، في حين أنه يتناظر في اللغة الفرنسية مع تركيب آخر، ويرجع السبب في ذلك إلى استخدام الفلاسفة الفرنسيين هذا المصطلح تعبيراً عن «فلسفة العلوم» والتاريخ الفلسفي للنظرة العلمية.

وقد واجهت نظرية المعرفة، مثل غيرها من المفاهيم والدلالات، خلطاً وتشوشاً في الفهم والتعريف، لذلك نجد أن العديد من المفكرين والفلاسفة أشاروا لفروقات بسيطة، لكنها مفصلية وتؤدي لمعانٍ مختلفة، ومن ذلك على - سبيل المثال لا الحصر - ما وضّحه الفيلسوف أندريه لالاند، بتمييزه بين أنواع المعرفة البشرية، لوجود مساحة واسعة تسهل الخلط أو بناء لغط مفاهيمي فيما بين الدراسات التي تناولت أصناف المعرفة البشرية، مفرِّقاً بين الإبستمولوجيا من جهة، والميتودولوجيا من جهة أخرى. وفي ذات السياق نحا العديد من المفكرين للتفريق فيما بين نظرية المعرفة والإبستمولوجيا.

كما أنه من الضروري التثبت من صحة هذه المعلومات من خلال تتبع المدلول الخاص بكلمة «العلم»، حيث إنها اليوم لا تشبه تعريفها القديم متمثلاً في القول بأن «العلم يخص الضروري والخالد» (أرسطو)، أو يعبر عن «أرقى درجات المعرفة» (أفلاطون). كما كانت كلمة «علم» تأتي غالباً في سياق الحديث عن «الحقيقة العظمى» المتصلة بالمنظومة الدينية والوجدانية العقائدية لدى الأفراد، كما يوضح لالاند.

وفي صدد الحديث عن المعرفة يتوارد العديد من الدلالات التي قد تشكل لبساً حول المفهوم، مما يزيده تعقيداً، ولذا فهناك حاجة حقيقية للتفريق بين العديد من المفردات التي تلتقي في المعنى أو في التركيب، وذلك مثل: البيانات، والمعلومات، والعلم، والمعرفة.. إلخ، وبخاصة أنه عند الحديث عن البيانات فإننا نعبر عن أصوات وصور وأرقام ورموز ترتبط واقعياً ومنطقياً بالبيئة التي تحيطنا، وبالتالي فالبيانات تعتبر المادة الأولى الخام التي يمكن من خلالها تشكيل شيء آخر، إذ بعد تناول البيانات ومعالجتها تنتج لدينا مجموعة من المعلومات التي ستتحول في مرحلة لاحقة إلى معرفة جديدة، وهذه بدورها سوف تشكل لبنة أساسية في أي علم تدخل في بنائه وتشكيل ملامحه. ومن هنا يَرد معنى جديد للمعرفة التي ترتبط بتفصيل البُنى الأساسية والمكونات الصغيرة التي تدخل في تركيبها. فالمعرفة مزيج من القواعد والأفكار والمفاهيم والإجراءات التي تفضي للخروج بقرارات وأفعال واضحة، وبالتالي فإنها معلومات متوازية مع التجربة الإنسانية وما تنتجه من قيم وحقائق وأحكام متآلفة تتناغم بطريقة سلسة على نحو يسمح بإحداث تغيير فعلي في الواقع الإنساني.

إن القدرة على تحقيق الدقة في التعريف والتوصيف لكل قضايانا في بنيتها الأساسية، من شأنها أن توفر النجاح المطلوب من كل دلالة في موضعها الصريح، بل إنه مدعم بـ «شهادة ثقة» في ما وصلت إليه تلك الدلالة من تناغم وتمازج منطقي وفطري مع حقيقة الكون الديناميكية، والحركية المستمرة التي يمكن ملاحظتها في طبيعة تشكيل كل ما يحيط بنا، والمعرفة جزء منها، مما يجعلها أكثر تجدداً وتطوراً.

***

د. محمد البشاري

عن صحيفة الاتحاد الامارتية، يوم: 24 ابريل 2024

 

مرحلة من مراحل الثقافة العربية لا تكترث للأدب ولا للشعر تحديداً

كلنا يسمع سرديات الأدباء والشعراء وكيف كانوا يقرأون قصائدهم في أماكن عامة يحضرها المئات، بل الآلاف من المعجبين، أو الجمهور المتذوق للشعر، ويُروى أن أحد الشعراء العراقيين وهو محمد صالح بحر العلوم كانت الناس تحجز مقاعدها في القاعة التي يقرأ فيها شعراً قبل موعد الجلسة بساعات، وكان الجمهور يتتبع حركة الشعراء ومواعيد أمسياتهم ليرتّبوا جدولهم في الحضور في ذلك اليوم، وقد أدركت بعضاً من تلك الظاهرة أواسط التسعينات، حيث يُقام مهرجان المربد، وكنت شاباً صغيراً أحضر دون أن أُدعى، وكان المئات حاضرين ممن ليس لهم غاية سوى سماع الشعر والاستمتاع به، جمهور لا ينتمي إلى أي اتحاد أو رابطة أو وزارة، إنما جمهور من الطبقة الوسطى يتذوق الشعر ويتفاعل معه، وهذا الجمهور هو نفسه الذي يقرأ الصحف والمجلات، وهو نفسه الذي يستوقفك في مكان ما ليناقشك حول بيت قلته في قصيدة ما قبل سنوات، أو رأي طرحته في حوار لك في مجلة ما، قبل مدة من الزمن، هذا الجمهور الذي يحضر الأمسية الشعرية في شتى الظروف والأحوال، بل وصل الحال أن يمتلئ ملعب من الملاعب في إحدى أمسيات محمود درويش في عمَّان، فضلاً عن الفعاليات التي تنتمي إلى حقل الجامعة وحضور الطلاب فيها بكثافة عالية، أما الآن فالموضوع اختلف تماماً؛ ذلك أن الحضور هم أنفسهم الشعراء، فمنذ أكثر من عشرة أعوام ومن خلال تجربتي الخاصة، وهي تجربة أبناء جيلي في العراق وبقية الدول العربية، حيث اشتركنا بعشرات الأماسي والمهرجانات الشعرية في معظم العواصم العربية وفي بغداد والبصرة، والبعض منها تكررت أكثر من مرة، كان المشترك الوحيد بين تلك المهرجانات هو الجمهور، حيث يتكرر الجمهور نفسه في كل أُمسية وفي كل مهرجان، لا يندهش ولا يتأثر، حتى تحول الجمهور روبوتاً يحضر بشكل روتيني لهذا المكان سداً لفراغ ما، أو تلبية لحاجة قد لا تكون شعرية، إنما اجتماعية في المقام الأول، كلقاء الأصدقاء والأحبة، والأمر الآخر أن هذا الجمهور الذي نبحث عنه قد اختفى، حيث لم يعد لدينا جمهور شعري يسأل ويتابع ويحضر الندوات والأماسي والمهرجانات، إنما الجمهور في المهرجانات الشعرية في الأغلب هم أنفسهم الشعراء، يسمعون لبعضهم، ويتندرون على بعضهم، ويشتمون بعضهم ويصفقون لبعضهم، وهذا الأمر لا يرتبط بالعراق ولا بدولة دون أخرى مع بعض الفروقات والتمايزات، حيث وجدت معظم الجمهور الشعري في عواصم عربية متعددة هو نفسه الجمهور المتواجد في الفندق وهو نفسه الضيوف المدعوون إلا ما ندر.

إن هذه الظاهرة، ظاهرة اختفاء الجمهور الشعري واستبداله بالشعراء أنفسهم، هي محل تساؤل، وهو أمر يكشف عن مرحلة من مراحل الثقافة العربية التي لا تكترث للأدب ولا للشعر على وجه التحديد، إنما سحبت أقدامها طرق أخرى غير الشعر، فهل للسوشال ميديا سبب في هذه الظاهرة؟ حيث انشغل الفرد منا بعالم الموبايل ووصل التوحد أقصاه في هذه الظاهرة؟ ربما...

أم أن ظاهرة الشعراء الكبار اختفت من المشهد؟ فلم يعودوا موجودين بيننا، فلا الجواهري ولا عبد الرزاق ولا البياتي ولا نزار ولا درويش ولا سميح ولا الفيتوري ولا مظفر ولا ولا، أولئك الشعراء الذين كان كل واحد منهم يشكل ظاهرة وحالة شعرية وحده، أولئك الشعراء الذين تغري أسماؤهم الناس ليملأوا أي قاعة مهما كبر حجمها، أم أن شعراء الحداثة أسهموا ببناء ذلك الجدار الكبير بين الشعر وبين الجمهور، حيث وصلوا مراحل من التجريب والانغلاق حد التعمية في الكثير من الحالات وبدأوا يصرحون أن الشاعر كلما كثر جمهوره انخفضت شاعريته، وهذا ما صرح به أدونيس في مرات عدّة، فهل هذا التصريح هو لدرء التهمة عن ضياع الجمهور الشعري وتشتته؟ أم هو إيمان مطلق بالفكرة التي تقول لا أهمية للجمهور؟ وإن كان الجمهور غير مهم لشعراء الحداثة، فعلام يصر رموزه أن يقرأوا في المهرجانات الشعرية والأماسي؟ ويمسرحون نصوصهم على المسرح حد الذوبان؟

أم أن الجمهور تحولت طريقته في التلقي، فبدلاً من الحضور في القاعة وسماع الشاعر واللقاء به دماً ولحماً، سيذهب المتلقي إلى جهازه النقال ويتابع الأمسية على البث المباشر، ولا فرق ممداً في بيته أو في السيارة أو المقهى، وتحول التصفيق «لايك»، والهياج الذي يمارسه الجمهور تعليقاً، والإعجاب الشديد مشاركة المنشور، أم أن الشعر وتلقيه ارتبطا بمرحلة من مراحل صعود الآيدولوجيات في العالم العربي، فجميع الأسماء الشعرية التي ذكرتها أعلاه والتي لكل واحد منهم جمهور عريض، فإن كل شاعر من هؤلاء الشعراء يسحب جمهوره المؤدلج إلى حد ما إلى مساحته التي يدور في فلكها، حيث نجد جمهوراً يسارياً، وآخر قومياً، وآخر مناهضاً للاحتلال، وآخر لشتم الحكومات، وأظن بزوال شمس الآيدولوجيات الساخنة واستبدالها بالعالم الليبرالي واختفاء الجيل المؤسس وما بعده، فإن فكرة الشاعر المؤدلج الآن لن تنفع كثيراً ولن يكون لها جمهور كما كانت في الستينات والسبعينات، والآن لو رجع الجواهري بنفسه وشتم الحكومات فهل سيجد جمهوره الذي كان يلقي عليه في الحيدرخانة لينطلق به في مظاهرة في ساحة الميدان؟

إن هذه الظاهرة تستدعي منا أن نقف لمراجعتها، لماذا اختفى جمهور الشعر؟ وإن وُجد فهو نفسه منذ عشرة أعوام أو أكثر، لا يقلون ولا يكثرون.

وما دعاني لرصد هذه الظاهرة تطوافي في مدن عربية عدّة شاركتُ في مهرجاناتها وأماسيها الشعرية، لم أجد تغييراً واضحاً في وجوه الجمهور الذي رأيتهم قبل عشرة أعوام، فهم نفسهم ثابتون ومقيمون ما أقام عسيب،

وما دعاني أيضاً إلى مناقشة هذا الموضوع، مجموعة صور نُشرت على مواقع التواصل الاجتماعي لأحد المهرجانات الشعرية قبل أيام، والتي كُتب عليها «مهرجان عالمي للشعر» في إحدى دول المغرب العربي، حيث تتبعت الصور التي التقطها الشعراء، ومن ثم صورة القاعة التي يقرأون فيها الشعر، فإذا هم انفسهم الجمهور، وهم لا يتجاوزون العشرين شاعراً، ومعظمهم أسماء معروفة وكبيرة، ولكن القاعة خالية إلا من الضيوف فقط، وهذا ما حدث معي أيضاً ففي إحدى الأمسيات كنت أنا وصديق لي شاعر سعودي مدعوَين لأمسية شعرية في إحدى الدول العربية، وقد نشرنا إعلاناً عن مكان وموعد الأمسية، وحين حضرنا لم نجد إلا سبعة أشخاص في القاعة، بحيث تذكرنا لحظتها مجلس العزاء الذي أقامه الفنان حسن حسني في الفيلم الشهير (كركر) بطولة محمد سعد (اللمبي) وحسن حسني، وهذا الموقف أعادني لعام 1997، حيث كنت رئيساً لرابطة الرصافة للشعراء الشباب، وقد أقمنا مهرجاناً شعرياً للشباب، حضر الشعراء وغاب الجمهور تماماً، ما الذي نصنع؟ جاءتني فكرة ساحرة، فقد ذهبت مباشرة إلى إعدادية للبنات قريبة من مقر الرابطة، ودخلت على المديرة وقلت لها بضرورة حضور شعبتين من الطالبات لهذا المهرجان، لم تمانع تلك السيدة ووجهت الشعبتين من ثمانين طالبة مع أستاذتين ترافقان الطالبات، وبالفعل، بعد دقائق توجهنا إلى القاعة وقطعنا الطريق، حيث نقود الطالبات حتى وصلنا القاعة، فامتلأت القاعة وغصت بالحضور، ونفش الشعراء ريشاتهم، لأنهم لم يروا جمهوراً أجمل من هذا الجمهور، فما إن تحرك يدك حتى تسمع التصفيقات الحارة بعد لحظة. ولو تركنا الجمهور الذي يحضر بدمه ولحمه إلى القاعة وانتقلنا إلى الجمهور الآخر، الجمهور غير الشفاهي القارئ، فهل سنجد جمهوراً قارئاً يبحث عن الشعراء ودواوينهم الجديدة ويتتبع تحولاتهم، طبعاً لن نعدم مثل هذه الظاهرة بالتأكيد، ولكن لن تكون ظاهرة واسعة ومؤثرة، بدليل سوق الكتاب الشعري ومنسوب انخفاض مشترياتها، وهروب معظم دور النشر من طباعة الدواوين الشعرية، وحتى وإن طبعت فإن سوقها لن تكون مزدهرة مقارنة بسوق الكتاب الديني أو الفكري أو حتى الرواية.فأين ذهبتم يا أبناء اللغة العربية؟ تلك الأمة الشاعرة التي يجري الشعر بدمهم ويتنفسونه مع كل شهقة، هل تركتم الشعراء يصيحون وحدهم في هذا العالم الموحش؟ والذين منذ اكثر من ألف وستمائة عام كان يصيح ملكهم الضليل:

قفا نبك من ذكرى حبيبٍ ومنزل

ليدرأ الوحشة عنه

فعلام تركتم الشعراء وحدهم كالأطفال

يلعبون باللغة دون أن يسمعهم أحد، ويبكون وحدهم بصمت، حتى جرحتهم العزلة وأصيبوا بالتوحد.

***

د. عارف الساعدي

عن صحيفة الشرق الأوسط اللندنية، يوم: 29 أبريل 2024 م ـ 20 شوّال 1445 هـ

جمع بين العشق الجسدي واندفاعة الروح للاتحاد بالآخر

يتعذر الحديث عن الحب دون التوقف ملياً عند «نشيد الأناشيد»، بوصفه أحد أهم النصوص المؤسسة لشعرية العشق والافتتان التي عرفها الكوكب الأرضي على امتداد العصور. ذلك أن في ثنايا هذا النص المدهش من جماليات أسلوبية وفنية، ومن تباريح العشق الروحي والجسدي، ما جعله شديد الأثر على الكثير من قصائد الحب التي كُتبت من بعده، بقدر ما شكّل على الدوام مصدر حيرة الباحثين الذين تناولوه بالنقد والدراسة والتحليل. ولعل أكثر ما يستوقفنا بشأن هذا النشيد، وقبل الولوج إلى جمالياته ودلالاته الفنية والإنسانية، هو وروده كسفْر مستقل من أسفار «العهد القديم»، التي تركز في مجملها على سرديات دينية تتعلق بخلق العالم وتتبُّع أحداثه المفصلية، وبسيَر أنبيائه الكثر وما عانوه، في سياق الصراع الدائم بين الخير والشر، من آلام ومكابدات.

والملاحَظُ أن حرص القرآن الكريم على تنزيه الأنبياء عن ارتكاب المعاصي، لم يقتصر على الملك سليمان وحده، بل طال أباه داود، الذي اقتصرت صورته في القرآن على العبادة والعلم وطاعة الخالق، فيما ينقل عنه «سفر صموئيل الثاني»، بأنه الرجل النزق الذي لم يتوان عن قتل قائد جيشه، لمواقعة زوجته «بثشبع»، وقد شاهدها تغتسل عاريةً، قبل أن تحمل في وقت لاحق بابنه سليمان. ولا تختلف صورة الابن في «العهد القديم» عن صورة الأب. ففي «سفر الملوك الأول» يظهر سليمان بوصفه الذكَر الممتلئ شبقاً، الذي شغف بنساء من جميع الأعراق، وبينهن من نهاه الله عن الزواج منهن، ولكنه «التصق بهن لفرط محبته لهن، فكانت له سبعمائة زوجة وثلاثمائة محظية، انحرفن بقلبه عن الرب».

وسواء تعلق الأمر بالأب أو بالابن، فإن إلحاح الرواية التوراتية على قدرات الملكين الجسدية الفائقة يعكس في عمقه نفياً واضحاً لعصمة الأنبياء، بقدر ما يبدو تباهياً بفحولة الحاكم اليهودي مقابل «تأنيث» الآخرين، أفراداً كانوا أم شعوباً وجماعات. وإذ تركز السردية التوراتية على افتتان بلقيس بجمال سليمان وسعيها الحثيث للظفر به، تذهب السردية القرآنية بالمقابل إلى أن سليمان هو الذي بذل كل جهده للظفر ببلقيس. إلا أن اهتمامه بها لم يكن بدافع شغفه المفرط بجمالها الفاتن، بل بهدف إبعادها عن ديانتها الوثنية، وإعادتها إلى طريق الإيمان القويم. وهو الأمر الذي يؤكده ما جاء على لسان ملكة سبأ في الآية الكريمة «ربِّ إني ظلمتُ نفسي وأسلمتُ مع سليمانَ لله ربِّ العالمين».

وإذ يحرص «النشيد» على إظهار سليمان في صورة الملك الشاعر الذي تيمه العشق، يبدو هذا الحرص بمثابة تصحيح متأخر للصورة النمطية التي رسمتها له أسفار «العهد القديم» الأخرى. ولعل التناقض الواضح بين صورة سليمان في «سفر الملوك» وصورته في «نشيد الأناشيد» هو الذي حدا ببعض الدارسين إلى الاستنتاج بأن سليمان قد يكون نظم «النشيد» في فترة كهولته، أي بعد تراجع تطلُّبه الجسدي، وتقدُّم الروح لكي تحتل مكانها اللائق على ساحة الهيام والوجد. ومن الباحثين من ذهب إلى مسالك ومقاربات أخرى؛ حيث تساءل أنسي الحاج في تقديمه لـ«النشيد» الذي أعاد ترجمته بلغة عالية، عما إذا كان هذا الأثر الاستثنائي من كتابة سليمان نفسه، أم هو «مجموعة أشعار بابلية المصدر في غناء حب عشتار وتموز؟ وهل كتبه كتّابه تحت الروح الهيليني، أم لملموه من الأدب الإسكندراني ونقلوه إلى العبرية؟». كما ذهب البعض إلى قراءات أخرى، فرأوا فيه رمزاً لاتحاد يهوه بإسرائيل أو المسيح بكنيسته.

والواقع أن في النشيد ما يترك الباب موارباً إزاء أي جواب حاسم بشأن مؤلفه أو مؤلفيه الحقيقيين. ومع أن اسم سليمان يتكرر غير مرة في فصوله، مثل «أنا سوداء وجميلة يا بنات أورشليم، كشقق سليمان»، أو «الملك سليمان عمل لنفسه تختاً من خشب لبنان»، أو «كان لسليمان كرْم في بعل هامون»، فإن في ذلك ما يرجح كونه بطل «النشيد»، وليس كاتبه بالضرورة. كما أن الأصوات الثلاثة التي تتعاقب على الكلام، وهي الرجل والمرأة والجوقة، يمكن أن تقودنا إلى الاستنتاج بأن النص أقرب إلى طقس عشقي ذي طبيعة دينية، كتبه شاعر أو أكثر، وتم تقديمه في الهيكل الذي بناه سليمان من خشب الأرز، تمجيداً له وتعظيماً لشأنه.

وقد يكون التداخل الملغز بين صورتي الملك والراعي في فصول «النشيد» المختلفة، واحداً من العناصر الإضافية التي تترك في ذهن القارئ المزيد من البلبلة واللبس حول هوية كاتبه. إذ ثمة ما يشير إلى أن العاشقين كانا راعيين من عامة الشعب، مثل «يا من تحبه نفسي، أين ترعى أين تربض عند الظهيرة؟»، أو «أيتها الجميلة بين النساء، أبرزي في أثر الغنم، وارعي جداءك عند مساكن الرعاة». كما أن حث المرأة حبيبها على الهرب، بقولها في المقطع الختامي «اهرب يا حبيبي وكن كالظبي أو كغفر الأيّلة على جبال الأطياب»، لا يستقيم مع مقام الملك الذي كانت تهابه الشعوب والكائنات كلها، بل يبدو فعل الطلب موجهاً إلى الراعي، الذي قد يكون دخوله على خط العلاقة، تجسيداً لحنين المرأة إلى سليمان نفسه في صورته الرعوية الريفية، بعيداً عن سطوة الحكم وأبهة السلطة المدينية.

وإذا كان من المتعذر فصل النشيد عما سبقه من مؤثرات وروافد مختلفة، بخاصة حوارات «إنانا» و«ديموزي» ذات الطابع الإيروتيكي، التي تقيم تماهياً واضحاً بين طقوس الزراعة والخصب والفعل الجنسي، كما بيّن جيمس فريزر في «الغصن الذهبي»، وصموئيل كريمر في «طقوس الجنس المقدس»، فإن «النشيد» يكتسب أهميته من جمالياته الفنية والدلالية، ومن مناخاته المدهشة التي تجمع بين الشغف المحموم ورغبة الانصهار بالآخر:

اجعلني كخاتم على قلبك

كخاتم على ذراعك

لأن الحب قوي كالموت

والغيرة قاسية كالهاوية

مياه كثيرة لا تستطيع أن تطفئ الحب

والأنهار لا تغمره

كما تتضافر في النشيد، الذي يعده زنون كوسيدوفسكي «واحداً من أروع وأندر القصائد الشعرية الشهوانية في الأدب العالمي كله»، الحواس الخمس مجتمعة، لتمنح العلاقة العاطفية ما يلزمها من أسباب النشوة الجسدية والثمل الروحي. فهو يحتشد بشتى الألوان التي يضيء كل منها جانباً خاصاً من جوانب الكرنفال العشقي. فالمرأة في «النشيد» يبدو شَعرها شبيهاً بقطيع ماعز على جبل جلعاد، وشفتاها كسمط من القرمز، وعنقها كبرج من العاج. أما الرجل من جهته، فهو لحبيبته عنقود حناء، وغدائره كسعف النخل حالكة كالغراب، ويداه حلقتان من ذهب، وجسمه مغشّى بالياقوت الأزرق.

وفي هذا العالم البدئي للعناصر والكائنات، لا يتبقى من فاصل يُذكر بين الإنسان والطبيعة، بحيث تصبح النباتات حالة من أحوال الجسد الإنساني، ويصبح البشر بدورهم امتداداً للأشجار والنباتات. وحيث يبدو الخريف والشتاء رديفين رمزيين للشيخوخة والموت، يتقمص الربيع بالمقابل صورة القيامة، متكفلاً بإعادة الحياة إلى نصابها، وبضخ الدماء الحارة في العروق التي جمدها الصقيع. ولعل أكثر ما يجسد هذه التوأمة بين طرفي الخلق هو قول الرجل العاشق منادياً امرأته المعشوقة:

قومي يا خليلتي يا جميلتي وتعالي

فإن الشتاء قد مضى والمطر مرَّ وزال

الزهور ظهرت في الأرض

والتينة أخرجت فجّها

والكروم أزهرتْ وفاح عَرْفُها

ومع عزف النشيد على وتر العلاقة المتداخلة بين الجسد والروح، كما بين الديني والدنيوي، يظهر الاحتفاء بحاسة الشم وكأنه ضربٌ من ضروب اللعب المقصود على وتر الانجذاب الجسدي، وتنسُّمٌ لهبوب الأزمنة المنقضية على حدائق الرغبات. وإذ تتكرر في النص عبارات من مثل «مَن هذه الطالعة من القفر مطيبة بالمرّ واللبان» و«خدّاه كخميلة الطيب» و«حلْقكِ كخمر طيبة»، نلاحظ في الوقت نفسه تركيزاً على التفاح ومذاقاته وروائحه المشتهاة، كما في عبارات «عَرْف أنفكَ كالتفاح» و«تحت شجر التفاح نبهتك» و«قوُّوني بالتفاح فقد أسقمني الحب». وإذا كان من البديهي أن نستعيد مع التفاح شجرة الخطيئة الأصلية وثمار الإغواء الشهواني، فإن الاستدعاء المماثل للرمان والكرمة والنخيل وغيرها، يعكس في عمقه الأخير حنيناً موازياً للعودة إلى الفردوس. فبمثل تلك العودة أمكن للعري أن يكتسي ثوبه الطهور، وللشهوة أن تنبثق عن أكثر المشاعر صلة بالعفة، وللمدنس أن يدخل في عباءة المقدس. وفي ظل ذلك الانصهار الكلي بين العناصر والكلمات، أمكن للعاشقين المدنفين أن يتحولا إلى نسخة ثانية عن آدم وحواء، سابقة على ارتكاب الخطيئة، وأمكن للجوقة الشبيهة بالكورس في المسرح الديني أن تسأل المرأة الوالهة «ما فضل حبيبك على الأحباء، أيتها الجميلة؟»، لتجيب الأخيرة بلا تردد:

حبيبي أحمر ونضر

غدائره كسعف النخل حالكة كالغراب

عيناه كحمامتين على أنهار المياه

وجسمه عاجٌ يغطيه اللازورد

ساقاه عمودا رخام على قاعدتين من إبريز

وطلعته كلبنان.

***

شوقي بزيع

عن صحيفة الشرق الاوسط اللندنية، يوم: 23 أبريل 2024 م ـ 14 شوّال 1445 هـ

تحتفل ألمانيا هذه السنة بالذكرى المئوية الثالثة لأهم فلاسفتها وهو أمانويل كانط، الذي غيّر مجرى التفكير الفلسفي الكوني بأعماله التي نشرها في خريف حياته، وما تزال إلى حد اليوم موجِّهةً للسؤال الفلسفي العالمي. تمحورت فلسفة كانط حول ثلاثة أسئلة كبرى هي: ماذا يمكنني أن أعرف؟ وماذا يتوجب عليَّ أن أفعل؟ وما هو المؤمَّل لي أن أرجو؟ وهذه الأسئلة الثلاثة تتمحور حول إشكال جامع: ما هو الإنسان؟ السؤال الأول يتصل بموضوع المعرفة من خلال توجيه النظر لا إلى الحقائق العقلية المطلقة وإنما إلى شروط المعرفة الممكنة وفق محددات التجربة التي بدونها لا يمكن للمفاهيم المجردة أن تصل إلى علم موضوعي بالظواهر الطبيعية.

أما السؤال الثاني فيتعلق بالأخلاق التي هي قوانين العقل العملي التي تتأسس على الحرية واستقلالية الذات الراشدة، وليس على الفضيلة من حيث هي منظور قيمي جوهري للسلوك البشري. وأخيراً يتعلق السؤال الثالث بالدين الذي كتب عنه في حدود «مجرد العقل» باحثاً عن خيط وصل بين الواجب والسعادة، لتحرير الإرادة الإنسانية مِن عقالها وتوجيهها نحو فعل الخير. كل هذه الأسئلة تدور حول منظور انتروبولوجي للإنسان الحديث من منطلق حركية الأنوار التي كان كانط من رموزها الفكرية الكبرى، وقد دافع عن مبدئها الأساس الذي هو الاستخدام العمومي الحر للعقل والخروج من حالة القصور المضروبة على العقل الإنساني، مع الدفاع عن الوحدة الكوسموبولوتية للنوع البشري وفق نظام من السِّلم الأزلي الدائم. هل نحتاج في عالمنا العربي إلى عقلانية ديكارت أو تنويرية كانط؟

من المعروف أن المفكر والأديب المصري الكبير طه حسين دعا منذ عشرينيات القرن الماضي إلى اعتماد مقاييس الشك الديكارتي في كتابة التاريخ الثقافي العربي، مطبقاً هذا المنهج على الشعر الجاهلي، مما أثار ضجةً كبرى في الساحة العربية أوانها. ولقد ظلت مقولة الديكارتية مرادفةً للعقلانية، وكان الرئيس التونسي الأسبق الحبيب بورقيبة كثير الاستخدام لها، إلى حد أنه فرض على كل وزرائه وكبار موظفيه حضورَ درس أسبوعي حول العقلانية الديكارتية يقدّمه في الجامعة التونسية الفيلسوف الفرنسي الأشهر ميشال فوكو (حسب ما أخبرني أستاذي البارز فتحي التريكي الذي كان وقتَها من طلبة فوكو في الجامعة).

لم يكن لكانط هذا الحضور الواسع، ولم يتجاوز تأثيره في البداية عمل الشيخ الأزهري محمد عبد الله دراز الذي نشر في الأربعينيات كتاباً حول «دستور الأخلاق في القرآن الكريم»، ذهب فيه إلى قراءة كانطية لأخلاق الواجب في التقليد الإسلامي. ولقد تغيرت الصورة تدريجياً في مطلع الثمانينيات عندما صدر بصفة متزامنة كتاب محمد عابد الجابري «نقد العقل العربي» وكتاب محمد أركون «نقد العقل الإسلامي»، في استخدام واضح لمقولة نقد العقل الكانطية، وإن من منظور أوسع من مفاهيم ومقولات كانط. ومع أن غالبية أعمال كانط تُرجمت في السنوات الأخيرة إلى العربية، بما فيها كتاباته الثانوية، إلا أن حضور فلسفته وإشكالياته الفكرية ما يزال محدوداً وضئيلا. قد لا يكون من المجدي الرجوع إلى أعمال كانط العلمية المتجاوزة، كما أن أفكاره الفلسفية لا يمكن أن تُقرأ بمعزل عن المقاربات النقدية التي تناولتها منذ هيغل ونيتشه وهايدغر، بيد أن ثلاثةَ مفاهيمَ كانطية أساسية نعتقد أنها تدشن آفاقاً رحبة في الفكر العربي من الضروري الوقوف عندها.

أول هذه المفاهيم هو استقلالية الإنسان ورشده التي اعتبرَ أنها الدلالة الكبرى لعقل الأنوار. ومهما كان الموقف من تركة التنوير فإن هذا المفهوم يبقى صالحاً للعصر الحاضر، وهو الشرط الأساسي للتحديث المعرفي والاجتماعي الذي نحتاج إليه. ثاني المفاهيم هو ترجمة المضامين الميتافيزيقية في لغة العقل العمومي من منظور أخلاقي قيمي قادر على أن يكون مدارَ توافقات كونية شاملة. ولا شك في أن هذا التوجه يدخل في باب عملية الإصلاح الثقافي التي هي من الضرورات العاجلة في ساحتنا الفكرية العربية. وثالث المفاهيم هو الكسموبولوتية الإنسانية السلمية والمتسامحة التي يجب أن تكون الإطار الإيجابي للتعايش السلمي والتضامن الفعال مع الثقافات والمجتمعات البشرية الأخرى، وهو هدف لا خلاف حول أهميته وراهنيته. بعد أكثر من ثلاثة قرون ما تزال فلسفة كانط صالحةً لعصرنا، توجِّه لنا أسئلةً محوريةً حاسمةً، ومن هنا ضرورة إعادة قراءتها بعيون الحاضر وفي ضوء حاجياتنا الحالية.

***

د. السيد ولد أباه - أكاديمي موريتاني

عن صحيفة الاتحاد الاماراتية، يوم: 21 ابريل 2024 23:12

يقع مفهوما الهوية والتعددية في مأزق مفاهيمي تصادمي، وقد تصنّع الصدام من تعاقب السلوك الثقافي للبشر، فالبشر ينتمون لهويات جذرية هي في أصلها أحوالٌ طبيعية، حيث ينتمي الإنسان للأرض وللنظام الذهني لبيئته الجغرافية التي ستكون بالضرورة ذات تشابك لغوي وديني مما يخلق في النهاية لغةً خاصةً وبحد جغرافي مؤطر، وكل أرض تحمل ديناً يستجمع أحوال الإنسان مع مصيره ومع تفسيره أو تفهمه لمعنى رحيل بعض الذين أحبهم وظن أنه لن يفقدهم فإذا فقدهم أسعفه الدين في تقبل الحدث.

في حين تأتي التعددية بوصفها حقيقةً واقعيةً أيضاً، فكل لون وكل لغة وكل دين هي تنويعات لم يخترها أي إنسان بشخصه وقراره، ولكنه ورثها ممن سبقوه، وهذه تعددية حتمية تتقابل مع حتمية الهويات وكلها لا نختارها ولا نشترطها كذلك، بما أنها حقيقة ماثلة وكلنا كبشر متنوعون لغةً وديناً ولوناً ومشاعرَ وعقولاً، ولكن العلة هي في «اللاتعددية»، بمعنى تمييز عرقٍ على عرق ولونٍ على لون وأرضٍ على أرض، وهي تمايزات حدثت منذ قرون وقرون وعلى أقصى امتدادات الذاكرة، وتظل فعالة، وكلما تقوت أمةٌ أو فردٌ مالت الظروف لمصلحة التمييز ولمصلحة القوي، والتنافس مثلاً بوصفه قيمةً معرفيةً واقتصادية عظيمة وذات فوائد لا حصر لها، لكنه مع ذلك يتحول دوماً إلى تصارعٍ بناء على التمييز أولاً، بحيث يذهب الظن إلى أن النجاح هو خاصية جينية أو هبةٌ خاصة يغذي بها المرء خيالاته بأنه موهوبٌ، ومن ثم متميز عن غيره الذين سيكونون عنده أقل منزلةً وأقل عقليةً وأقل قدرات، ويجري توارث هذه المشاعر عبر الثقافة ومدونات الشعر والملاحم والأساطير ثم عبر الإعلام اليوم، فتترسخ صورٌ ذهنية تجعل التعددية خارج الاعتبار رغم وجودها الحقيقي، أي أن الوهمي يهزم الواقعي، لدرجة أننا نقول بالتعددية ونمارس التمييز في الوقت ذاته ومن الشخص ذاته، وهذا ازدواج ذهني ثقافي يكشف دور النسق المضمر في تشكيل الوعي ورسم شروطه وفق معانٍ تبنيها الذهنية المتوارثة أو ما سميته بقانون (تاء تاء)، في كتابي السردية الحرجة. ويعني تعاقب الفكرة وتواترها مما يرسخها في التصورات وكأنما هي قانون طبيعي خارج الخيارات وصناعة الثقافات.

وهنا يقع التعارض بين الهوية والتعددية إذ أثبتت الأحداث البشرية أن البشر يلجؤون إلى الهويات الجذرية كلما عصرتهم عواصف الظروف والوقائع، ويجري هنا تعمد إنكار قيم التعددية، وكلما تقدم الفكر البشري في رفع معاني التعددية وقيمتها الروحية والعقلية، تتكشف الوقائع عن نقيض ذلك، وهنا مأزق الهوية التي هي في أصلها قيمة انتماء وأمان (البئر العميقة)، لكن يثبت دوماً أن الأمان مرتبطٌ بالقوي، وكلما تقوى الإنسان تعززت عنده الهويات التي تميزه عن غيره، ولن يتم التميز إلا بكسر الآخر وجعله تحت تحكم الأقوى، هي قصة الجنس البشري أفراداً وأمماً، وهذه التناقضية تظل هي العنَوان الأخطر في تواريخ الأمم، ولم تفلح الفلسفة ولا الديمقراطية في ترويض الذهنية البشرية ليتقبل البشرُ البشرَ، رغم إدراك الجميع أن التقبل هو أسهل الطرق لصناعة السلام والأمان، ونظام الأمم المتحدة واتفاقيات حقوق الإنسان تظل مواد للتوظيف السلطوي وليس لتأمين مسارات الحياة. وهنا يكون مأزق الهوية مع التعددية، حيث تنقض إحداهما الأخرى مع تجاهل أي تفاوضية بينهما.

***

د. عبدالله الغذامي - كاتب ومفكر سعودي

عن صحيفة الاتحاد الاماراتية، يوم: 20 ابريل 2024 01:47

رغم الصلة العميقة التي عرفها قُطبي الشعر والفلسفة عبر التاريخ الثقافي، فإن العلاقة بينهما قد شابها بعض الارتباك خاصة عندما طرد أفلاطون الشّعراء من جمهوريته، وقيّد ابن رشد حضورهم فيها في «جوامع سياسة أفلاطون». إن الشّعر أحد موجودات المدينة، أما الفلسفة فكمال لها. فهل هذا يعني أن هناك انفصاماً بينهما؟

إننا لا نعرف قوماً عدِمُوا الشّعر، وإنْ عدموا الفلسفة بمعناها الصناعي، إذ وجدنا الشعوب تُضمِّنُ الشّعر حكمتها العملية، ووجدناهم يلجأون إلى الشّعر لنفث لواعج قلوبهم وكُلُومِها، وبثّ أشواق أرواحهم وسُمُوّها، والبوح بعذوبة عواطفهم ورقّتها. فلا تخلو أمة من قول شعري. وقد كان أوّل حكمة الشرق شعرية، وملحمة جلجامش شاهد على ذلك، وكانت الإلياذة والأوديسا لهوميروس مَجْمَع الحكمة عند اليونان، وكان للعرب في مجال الشّعر مضمار لا يبارى.

أما الفلسفة فلصيقة بالمدينة، ولم تُعرف فلسفة خارج نطاق الحضارة، بل إن ديكارت اعتبر أن مقياس حضارة أمّة مّا إنّما تقاس بمدى شيوع التّفلسف الصحيح فيها، وذلك أن الفلسفة من الكماليات وليست من الضروريات من قبيل الغذاء والسّكن والأموال بعامة، وهي وإنْ كانت مثل الشعر بهذا المعنى، إلا أنّ الحياة بدونها ممكنة، بدليل أن ليس كل الحضارات عرفت فلسفة بالمعنى الذي نفهمه اليوم، في حين أننا لم نجد قوماً قد تجرّدوا من قول الشعر، هذا الشعر الذي يتحول إلى شدْوٍ وطرب يُتغنّى به.

حقا، إن الفلسفة كمال، لكن ما هو كمال هو أهمّ مما هو ضروري، فالضّروري يغذي الجسد، وبه يقوم العيش، وكل واحد بفطرته وغريزته وطبيعته يسعى إليه، أما الفلسفة فبها يَتقوَّم جوهر الإنسان، وبها تكمُل إنسانيته، وهي بهذا لا يُقبل عليها إلا من تحرّر من هموم المعاش، فالفلسفة ضدّ الطبيعة لأنها تسعى إلى تطهيرها بعبارة أفلاطون، لذلك لم يكن يهتم بالفلسفة عبر تاريخها الطّويل إلا أصحاب الهمم العالية، والنّفوس التوّاقة إلى الكمال الإنساني، والمشرئبة إلى تحقيق إنْسِيتها في أقصى غاياتها.

ولم يكن المسلمون عن هذا الهدف ببعيدين، فقد طمحت همم ملوكهم إلى تعلّم الفلسفة كما هو حال المأمون في المشرق ويوسف بن عبد المؤمن في المغرب، وقد ربح الفكر الفلسفي الكثير من هذه العناية، فكان الكندي أوّل فيلسوف عاش في ظل المأمون، وكان ابن طفيل وابن رشد أكبر فيلسوفين عاشا في ظل أبي يعقوب، لكن هذا الاختلاف بين الشّعر والفلسفة لم يعدم وصلاً بينهما:

أولاً، لأنّ الشّعر يُقدّم الأدوات الضرورية لكل تأمل فلسفي، وهي اللغة، فالذي لم يتمرس باللغة الشّعرية يصعب عليه فهم النصوص الفلسفية وكتابتها، ولذلك نجد الفلاسفة من أكثر النّاس قراءة للشعر، وقد كان ابن رشد يحفظ ديواني المتنبي وأبي تمام، وكان فلاسفة الإسلام يقولون الشعر، ومنهم من جوّد فيه تجويداً بليغاً.

ثانياً، لأنّ حكمة الشعراء كثيراً ما أصبحت أفكاراً ذات نسق محكم في خطاب الفلاسفة، ولنا في علاقة هايدجر بالشّاعر هولدرين دليلاً على ذلك، بل إن البعض يذهب إلى أن نشأة الفلسفة اليونانية قامت على إضفاء الطابع العقلاني على أشعار هوميروس، وهي الأشعار التي كان لها الفضل في نشأة بلاد اليونان لغوياً وتاريخياً.

إن تشجيع القول الشعري هو ضرب من خلق فضاء ثقافي عام تُنشر فيه الحكمة العملية، وإنْ تراكم هذه الحكمة كفيل أن يخلق عقلية منفتحة تتطلع همّتها إلى ما هو أفضل، فضلاً عن ذلك، فإنّ الشّعر يُحرّر الفرد من كثير من الإكراهات التي لا يكون قولٌ فلسفي إلا بها.

***

د. إبراهيم بورشاشن

عن صحيفة الاتحاد الامارتية، يوم: 19 ابريل 2024

 

هناك في تقديري 3 مؤامرات تسيطر على أذهاننا. ولكن قبل أن نعددها علينا أن نفهم السحر والجاذبية في فكر المؤامرة. إنها آلية نفسية مريحة لأنها تخلي الفرد - أو الشعوب - من المسؤولية بشكل كامل وتلقي بها على الآخرين. سبب الهزيمة ليس الجيوش المتهالكة، ولكن الخونة في الداخل والأعداء الأشرار في الخارج. هي أيضاً تحقق ما يُسمى بمفهوم «كبش الفداء»؛ فكل عيوبي وعثراتي أضعها على آخَر وأقوم بعد ذلك بإعدامه وإعدامها معه، وأتطهر نفسياً بعدها. وهي أيضاً طريقة مناسبة للهروب من الواقع ومواجهة الحقيقة. ولهذا تُروى بحس استخباراتي وروح قصصية بوليسية لا تتناسب مع الواقع البارد المفتقد لحرارة الدراما وحبكات أفلام الإثارة. كل هذه مغريات تقدمها المؤامرة لمن يُؤْمِن بها. تعزله وتدخله في عالم سحري خرافي، وتنصّبه على عرش المنتصر. لماذا يريد بعدها العودة لواقع بارد لا يعرف المجاملة هو فيه المهزوم؟ وكنا نعتقد أن الأجيال السابقة هي من تؤمن بالمؤامرة وتروِّج لها، ولكنها الآن أكثر انتشاراً ورواجاً بين الأجيال الجديدة الصاعدة التي تتشرب، للأسف، هذه القناعات بعمر مبكر.

في تقديري هذه أخطر 3 مؤامرات تواجهنا:

المؤامرة السياسية: هذه المؤامرة تقول باختصار إن الدول الغربية، وأهمها الولايات المتحدة الأميركية، تنوي تمزيقنا واستغلال ثرواتنا وإخضاعنا لسلطتها في نهاية المطاف. وبسبب هذا التفكير انتشرت مصطلحات، مثل الاستعمار الجديد والتبعية والخنوع، ومؤخراً التأمرك والتصهين، إلى آخر هذه التوصيفات. ولكن القليل من التأمل في الواقع والتاريخ يكشف لنا أنها مجرد خدعة تلعب على غرائز الكرامة والأنفة وشيطنة الآخرين. الشعوب العربية لم تتعرض للتمزق والانهيار ولم تُنهب ثرواتها بسبب الغرب، بل بسبب حكام فاسدين وحكومات ثورية وأنظمة متطرفة. والحكومات التي تخلصت من هذا الوهم هي الأكثر نجاحاً؛ ليس فقط في السعودية ودول الخليج، بل في كوريا الجنوبية، واليابان، وسنغافورة، وتشيلي. كل هذه الدول عملت الشيء ذاته تقريباً ونجحت. تخلَّت عن أوهام المؤامرات وركزت على التنمية والاقتصاد وأخرجت الآيديولوجيات المتطرفة الدينية والقومية من النافذة وأدخلت الاستثمارات من الباب. تنطلق هذه المؤامرة من النظرة القديمة للاستعمار الأوروبي، ولكنها مرحلة تاريخية انقضت ولا يمكن أن تعود. العالم تغير وتبدَّل، والنظام الدولي اختلف عن مرحلة نهب الثروات أو ما يُسمى نظرية التبعية. مناصرو محور الممانعة وجماعات الإسلام السياسي الشيعي والسنّي هم أكثر مَن يبثون فكر المؤامرة السياسية ويروِّجون لفكرة الحرب القادمة مع الغرب «الكافر»، ونعرف كل الدمار الذي تسببوا به. المؤامرة السياسية لم تصبح فقط وسيلة للهروب من معالجة الأسباب الحقيقية للفشل، ولكنها تحولت لشعار عاطفي تُرتكَب تحته أكبر المآسي. الميليشيات تقتل الأطفال السوريين ويرددون بعدها شعار الموت لأميركا وإسرائيل!

المؤامرة الدينية: تختصر هذه المؤامرة المقولة الرائجة بأن هناك حرباً على الإسلام والمسلمين. ولكن إذا تأملنا الواقع قليلاً فإننا نرى أن المسلمين يزدهرون وينجحون في الدول الغربية أكثر في أحيان كثيرة من دولهم الأصلية. إذا كانوا محارَبين فعلياً لماذا إذن يُسمَح لهم بالعيش هناك؟ ولماذا تُمنَح لهم الفرصة للنجاح؟ مَن قام بتشويه صورة الإسلام ليسوا الغربيين، ولكن الزرقاوي والبغدادي وسليماني. وفي الوقت الذي تختار لندن عمدة مسلماً، يقوم الإرهابيون بتفجير الأسواق والقطارات والمطارات وقتل الأبرياء. وهناك مِن المتطرفين مَن يقول إن المؤامرة أخبث، وهي تهدف إلى تذويب الإسلام و«أمركته»؛ بنشر تعاليم، مثل التسامح والتعايش بين الطوائف. ولكن هذه أفكار ليست غريبة علينا، والمسلمون شهدوا فترات طويلة من تاريخهم متسامحين مزدهرين قبل أن يسود منطق المتطرفين، ويعلّم الأطفال كيف يكرهون المختلفين معهم في الدين والمذهب. أفكار التسامح والتعايش لا علاقة لها بالتآمر، بل هي آليات مهمة لتخفيف الاحتقان والبغضاء داخل المجتمعات. وبدل أن تتطاحن الطوائف وتتمزق المجتمعات يتم توجيهها نحو أهداف وطنية وإنسانية أسمى. المتآمر مَن يمنعها، وليس من يدعو لها. من الصعب علينا أن نقول إن الحرب الطائفية بين المسلمين في بلدان عدة حدثت لأن شياطين خارجية وسوست في عقولهم. ويجب ألا ننسى أن الحرب الطائفية قديمة قبل أن نعرف الغرب بالشكل الحديث، ولن يختفي «داعش» و«حزب الله» و«القاعدة» لو تلاشت بريطانيا وفرنسا غداً. المؤامرة الدينية مجرد خديعة صُمِّمت لطرد الأفكار الإنسانية من التأثير على ثقافتنا وعقلنتها. حتى تلك المُثل القيمة النبيلة من تراثنا وتاريخنا الإسلامي والعربي يتم الاشتباه بها من أجل حماية العقلية المنغلقة، حتى يُصد أي سؤال وشكّ يتسبب بهزها ومن ثم انهيارها.

المؤامرة الاجتماعية: تزعم هذه المؤامرة أن هناك خططاً لتغيير قيم المجتمعات تهدف لطمس هويتها وقيّمها. منبع هذه الفكرة العزلة القديمة للشعوب، حيث يصبح الغريب الآخر الذي سيجلب معه الشرور والأمراض الثقافية. ولكن هذه فكرة انهار منطقها مع تلاشي الحدود التي تخترقها الطائرات والاتصالات. اكتشفنا أن لا أحد يتربَّص بنا ويصحو من النوم لتقويض مجتمعاتنا. بل بِتْنا نرسل أبناءنا للدراسة في الخارج. فكرة الهوية لم تعد جامدة، بل متطورة ومتغيرة باستمرار. الهوية الصحية هي المتجددة والمنفتحة على لغات وثقافات مختلفة، عكس الهوية الثابتة التي تعيش في الماضي، لكن الماضي لا يعود. باتت تسكن الأفراد هويات متعددة وحتى جنسيات مختلفة من دون أي تناقض. التآمر على المجتمع يحدث بعزله وتقييده، وليس العكس. المحذرون يقولون إن المرأة هي هدف المؤامرة الاجتماعية التي تهدف إلى خلعها من قيمها. ولكن التجربة أثبتت أن هذا مجرد وهم، ومزيد من الحقوق للمرأة مفيد؛ ليس لها فقط، ولكن للمجتمع الذي تساعد في نهضته وهي تشعر بالاحترام الكامل.

كل ما سبق أفكار بديهية للبعض، ولكنها، مع ذلك، تستمر وتنتقل من جيل إلى آخر. ومن المهم أن تُنتقد وتُكشف عيوبها حتى تُحاصَر عند فئة قليلة. فكر المؤامرة لن يموت وموجود في كل المجتمعات حتى المتطورة منها، ولكنه محصور بقطاعات محدودة من المرتابين والمهووسين، ويجب ألا يكون بين المعلمين والدعاة والصحافيين وأساتذة الجامعات. إنها مثل الأقراص المخدرة، وأسوأ شيء يمكن أن نفعله لأطفالنا أن ندسَّها يومياً في أفواههم ونجبرهم على ابتلاعها.

***

د. ممدوح المهيني

عن صحيفة الشرق الأوسط للندنية، يوم الجمعة - 10 شوّال 1445 هـ - 19 أبريل 2024 م

جوزفين كوين تكتب تاريخاً جديداً للعالم القديم

ثمّة نموذج (غربيّ) راسخ في النظر إلى التاريخ بوصفه قراءة لحضارات منفصلة متمايزة، ويجعل من الحضارة الغربيّة المعاصرة نتاج مرحلة النهضة واستعادة للقيم الحضارية في الفضاء الجغرافي الأوروبي، أي تراث الإغريق والرومان، بعد فترة من الظلام المديد خلال العصور الوسطى. وإذا كان ثمة من ذِكر لحضارات أخرى قديمة في سياق التأريخ للغرب، فيقتصر الأمر عندئذ على مجرد تطعيم لمنجزات أثينا وروما من الفلسفة والعمارة إلى المسرح والديمقراطيّة بمزيج غامض من الحكايا والأساطير التوراتية.

هذا النموذج الذي يشكل منطق الكتابة التاريخيّة المعاصرة يعترف حتماً بوجود حضارات قديمة قد تثير بعض منجزاتها وتركتها الماديّة الإعجاب، كما في العراق القديم، أو مصر الفرعونية، والهند والصين، مثلاً. لكنّه يتعامل معها بوصفها حضارات الآخرين، خارج الغرب، صعد كل منها على حدة ليسود في فضاء جغرافي وبيئي وزمني محدد قبل أن يهوِي، كما لو أنها كانت مجموعة من الأشجار الأكزوتيكيّة المتباعدة التي كبر كل منها في وقت ما فأزهرت قبل أن تبيد تاركة كومة من الآثار الغريبة لتشهد عليها. وهذه الأخيرة، أي اللقى الأثرية، أصبحت تجارة رابحة وموضوعاً للنهب الرسمي، لينتهي جزء كبير منها في خزائن عرض لإرضاء فضول رواد المتاحف على جانبي الأطلسي.

من هذه الأرضيّة في النّظر إلى التاريخ نشأ خطاب الإمبرياليّة المعاصرة كما تجسد في سجال عالم السياسة الأميركي المعروف صمويل هانتنغتون حول صراع الحضارات - كما في مقالته الشهيرة من عام (1996) بعد انحسار الحرب الباردة بين الشرق والغرب. عند هانتنغتون فإن ما يفرّق البشر عوامل ثقافيّة ودينية أكثر منها سياسية أو اقتصاديّة، ونظّر لحضارات معاصرة متناقضة ومتمايزة على أسس من الدّين والجغرافيا من بينها الغرب اليهودي المسيحي الممتد من أقصى الغرب الأميركي حتى حدود الستار الحديدي الفاصل بين الأوروبيتين الشرقية والغربيّة، في مقابل الحضارات الأخرى: الأرثوذكسية الشرقية، والإسلامية، والكونفوشيوسية وغيرها، زاعماً بأن «تاريخ البشر ليس سوى تاريخ حضارات، بحيث يستحيل النّظر في تطور تجربة النوع الإنساني عبر الأيام بأي صيغة أخرى، مع الأخذ بعين الاعتبار بأنه وخلال الحقب الأطول من التاريخ البشري فإن التّواصل بين الحضارات المختلفة كان معدوماً أو عابراً في أفضل الأحوال».

جوزفين كوين، أستاذة التاريخ القديم بجامعة أكسفورد (المملكة المتحدة)، تطيح بجذريّة واثقة بكل هذا الهراء الفكري المتراكم، وتقدّم في كتابها الأحدث «كيف صنع العالمُ الغرب: تاريخ أربعة آلاف عام»، مقاربة مغايرة تذهب إلى جعْل النموذج التأريخي القائم على ربط ما يعرف بالغرب المعاصر حصراً بجذور كلاسيكية إغريقية ورومانية نظرة قاصرة وفقيرة ومحدودة، نشأت في العصر الفيكتوري ضمن المزاج الثقافي للإمبراطوريات الاستعمارية الأوروبية، فأضاعت الكثير من التاريخ الإنساني المشترك، وأعمت أجيالاً متتابعة عن الحكاية الحقيقية لنشوء (الغرب)، والتي تراها كوين أقدم وأعقد وأكثر ثراءً بكثير من فكرة (الحضارات) المتمايزة.

تبدأ كوين كتابها بمقدمة تنقض فيها منطق النموذج التأريخي القائم من ثلاثة أوجه: أولها بالإشارة إلى أن الحضارتين الإغريقية والرومانية ذاتهما كانتا بشكل أو آخر نتاج تبادل كثيف مع شعوب أقدم؛ إذ استلهمتا أفكارهما وتقنياتهما من الجوار: القوانين والشرائع والآداب من بلاد ما بين النهرين، وفنون النحت والمعمار من مصر القديمة، والأبجدية من بلاد الشام، وهندسة الريّ من الآشوريين. ومن الجليّ، وفق النصوص الكلاسيكيّة، أن الإغريق والرومان أقرّا بذلك، واحتفيا به، وثمة إشارات صريحة إلى أن الإغريق كانوا واعين إلى تشاطئهم المتوسط بالشراكة مع شعوب أخرى: كالقرطاجيين، والأتروسكان، والأيبيريين، والفينيقيين، ناهيك عن الإمبراطوريات القوية في الشرق، وهم لم يتورعوا عن استلهام ثقافات هذه الشعوب في صياغتهم لتصورهم الذاتي عن العالم بما في ذلك آلهتها وأساطيرها الدينية، فيما تجعل الأسطورة المؤسسة لروما من المدينة العظيمة ملاذاً للاجئين، ويتغنى شاعرهم غايوس فاليريوس كتولوس برحلات متخيلة مع أصدقاء ورفاق من الهند، وبلاد العرب، وفارس، ومصر، وحتى من «أولئك البريطانيين المقيمين على أطراف العالم».الوجه الآخر الذي ترى منه كوين فساد منطق النموذج التأريخي القائم متأتٍ من حقيقة تباين القيم الغربيّة الحالية عمّا كانت عليه قيم المجتمعات الإغريقية والرومانية. فـ«الديمقراطيّة» كانت في أثينا امتيازاً مقتصراً على صنف الرجال، ضمن ثقافة تمجّد إغواء الغلمان، فيما كانت نساؤهم مغيبة وخارج الحياة العامة تماماً، أما في روما فقد كانت الإعدامات العلنية تسلية شعبية في مجتمع يقوم اقتصاده بشكل كليّ على العبوديّة واسترقاق البشر.

أما ثالث أوجه النقض فمتأتٍّ من واقع تؤكده الآثار المادية والوثائق عن انعدام وجود صلة مباشرة بين الغرب المعاصر وحضارات الإغريق والرومان؛ إذ انتقلت عاصمة الإمبراطورية الرومانية من روما إلى (الشرق) - القسطنطينية - منذ منتصف القرن الأول الميلادي، وظلت هناك لأكثر من ألف عام، فيما تولى العرب مزج المعارف الإغريقية بالعلوم والتقنيات الفارسية والهندية والأفريقية، وعبرهم انتقل المنجز الحضاري المتراكم إلى أوروبا، توازياً مع حركة فرسان السهوب الآسيوية الذين حملوا بضائع الصين وأفكارها إلى أوروبا - حتى آيرلندا - وأيضاً غزوات شعوب بحر الشمال تجاه البر الأوروبي والجزيرة البريطانية. لقد كانت أمم أوروبا الصاعدة منذ القرن الخامس عشر بالمحصلة هبة تقاطع ثريّ مع عالم عريق وهجين ممتد من المحيط الباسيفيكي إلى المحيط الأطلسي استمر لألف عام، ولم يقتصر بأي حال على صلة مزعومة مباشرة أعيد إحياؤها بالإغريق والرّومان.

تجادل كوين بأن وراء هذا النموذج التأريخي المتهافت خطاب انطلق بداية من فرنسا نحو عام 1750، يتحدث عن الحضارة بوصفها صيغة تجريد لوصف شعب متقدم، ليستعير التعبير منهم فلاسفة أسكوتلنديون عدّوا الحضارة بمثابة سلسلة متراكمة من التطور باتجاه تعظيم سيطرة الإنسان على عالمه من الصيادين إلى الرّعاة، فالمزارعين، والتجار، والصناعيين، قبل أن يدّعي جون ستيورات ميل - الذي عمل لثلاثة عقود لدى شركة الهند الشرقية، أداة الاستعمار البريطاني - بأن المجتمعات الغربية لا سيما بريطانيا اكتسبت بفضل تمتعها بأعلى درجات التحضر الحق بالسيادة والتحرر في مقابل الشعوب الأخرى المتخلفة، مبرراً في ذلك التوسعات الاستعمارية كمهمات لنشر التحضر والتنوير. على أن الفرنسيين كانوا وراء نقل مفهوم (الحضارة) من نتاج بشري عام إلى حضارات كثيرة متمايزة، وشرعوا في البحث عن مصادر لحضارة أوروبا الغربية: الجرمان وروما والكنيسة الغربيّة وما لبثوا تحت تأثير حرب الاستقلال اليونانية عن الدولة العثمانية (1821 – 1830) أن ألحقوا الإغريق بها، ليتكرس بعدها تدريجياً بين المثقفين الأوروبيين نموذج التأريخ القائم على تمايز حضارات ذات خصائص ثقافية مرتبطة بفضاء جغرافي محدد، في ذات الوقت الذي انتشرت فيه خرافة أخرى لا تقل فساداً: خرافة الأعراق.

ولا يبدو أننا الآن، مع مرور أكثر من عقدين على بداية القرن الحادي والعشرين وتكاثر الدلائل من الدراسات الآثارية والوثائق المكتشفة كما التقدم الثوري في الدراسات الجينية، بقادرين بعد على إزاحة المفهوم الناتج من تلاقح فلسفة التأريخ للغرب كحضارة متمايزة جذورها مستقلة عن بقية الحضارات مع النظرة الاستعلائية لعرق أبيض متفوق عن عرش الهيمنة على الخطاب العام، بحكم أن هذا الخليط يخدم بالضرورة أغراض هيمنة (الغرب) بقيادة الولايات المتحدة في مواجهة (الشرق)، مع أن حدود الشرق/غرب هذه متحركة لتعكس الظروف السياسية السائدة - فهي وقفت عند أطراف الستار الحديدي في أثناء الحرب الباردة، لتتسع بعد سقوط الاتحاد السوفياتي فتنضم أوروبا الشرقية إلى الغرب، فيما تسببت العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا بإعادة رسم للحدود مجدداً ليمكن استيعاب الأوكرانيين ضمن نسيج هذا الغرب الأبيض.

كتاب كوين مرافعة عقلانية ضرورية لبناء نموذج معرفي تأريخي جديد - بديل للنموذج الحالي الشوفينيّ المتهافت - وذلك استناداً إلى الحقائق المؤسسة كما الاكتشافات الأحدث عن أربعة آلاف عام من التقاطعات الحضارية التي بمجموعها تقدم منظوراً محدّثاً للعالم: حيث الاتصال والصلات - سلميّة كانت أو مواجهات عنفيّة - هي التي تدفع عجلة التغيير التاريخي، لا حضارات أمم بعينها. إن لدينا من الدلائل الآن ما يكفي لكي ندرك أن الشعوب منفردة لا تصنع التاريخ. فالتاريخ كما دائماً، تصنعه الإنسانية.

................

كيف صنع العالمُ الغرب: تاريخ أربعة آلاف عام

How the World Made the West: A 4، 000 - Year His¬tory، Blooms¬bury، 2024.

المؤلفة: جوزفين كوين

by Josephine Quinn

الناشر: بلومز بيري

2024

***

ندى حطيط

عن صحيفة الشرق الأوسط اللندنية، يوم: 17 أبريل 2024 م ـ 08 شوّال 1445 هـ

جديرون بأن نميّز بعضهم عن بعض ليتضح دور كل واحد على حدة

لو كان الحديث عن الأزمنة القديمة لأضفت الساحر والكاهن لأضفت إلى العنوان، غير أن حديثنا عن الأزمنة المتأخرة نسبياً. ولربما كان حقيقاً أن نذكر الفقيه، لكنه سيجعل العنوان مزدحماً فوق ازدحامه. والغرض هنا هو تحديد عمل كل واحد من هؤلاء الأربعة، فهم مَن يصنعون الفكر والحضارات. هؤلاء الفرسان الأربعة جديرون بأن نميّز بعضهم عن بعض ليتضح دور كل واحد على حدة.

كان ابن رشيد فيلسوفاً وفقيهاً، لكنني أستطيع أن أمسك بابن رشد الفيلسوف وهو يتسلل إلى منطقة ابن رشد الفقيه عندما أنظر في كتابه «بداية المجتهد ونهاية المقتصد»، وهو في الفقه المقارن، فأجده يذكر الآراء المختلفة في مسألة، ثم يقول: «وسبب اختلافهم هو كذا وكذا». الفقيه لا يسأل أبداً عن السبب، بل جُلّ همّه أن ينصر القول الراجح عنده، أو يلوذ بالمذهب. الفيلسوف هو المشغول بـ«لماذا؟» وهذا ميدان عمله.

علامة أخرى على الفيلسوف أنه ذلك الشخص الذي يقول قولاً أصيلاً. عندما تنظر في كل أعمال فولتير، فلن تجد قولاً أصيلاً واحداً. هو مقلّد لفيلسوفين إنجليزيين جون لوك وإسحاق نيوتن ويتابعهما في تجربتيهما التي أصبحت علامة على الفلسفة الإنجليزية، ولم يكن يميل إلى الفلسفة العقلية لابن بلده ديكارت. هو نظير توماس هوبز الإنجليزي العازف عن تجريبية قومه، الميّال إلى عقلانية ديكارت.

لا أرى فولتير فيلسوفاً، وكم له من الأحكام المتهورة، كاتهامه أفلاطون وأرسطو بأنهما كانا لاهوتيين! لكن أين سنصنّف هذا الرجل الذي خصّه ويل ديورانت بمجلد في قصة الحضارة، سماه «عصر فولتير»؟ إنه أقرب إلى شخصية المثقف التي هي دون منزلة الفيلسوف، وشهرته بسبب نشاطه الاجتماعي ومعاركه الشجاعة ضد اللاهوتيين المتعصبين، وقد كان أحد المؤثرين في الثورة الفرنسية. هذه من وظائف المثقف، لا الفيلسوف، أنه قائد الجماهير وصاحب المعارك الفكرية التي لا تنتهي. الفيلسوف لا يفعل شيئاً من هذا ولا يملك هذه الحرارة، ولا الحماسة للقتال.

من جهة أخرى، العالم هو ذلك الباحث المشغول بالجزئي، معنيّ بدراسة الطبيعة، وقد يحفظ قوانين الحركة عند نيوتن والنظرية النسبية عند أينشتاين، لكنه لا يملك رؤية شمولية عن العالم. المفهوم الكلّي عنده مفهوم ميتافيزيقي لا يمكن التأكد من صحته بيقين، ولذلك لا ينبغي الانشغال به، لأن مثل هذه القضايا غير قابلة للتحقق وغير قابلة للتكذيب. من هنا سعى العلماء الفلاسفة، أعني الوضعيين والبراغماتيين وفلاسفة اللغة في القرن العشرين، إلى تقليص مساحة الفلسفة بهدم مصطلحاتها الميتافيزيقية، وجعلوها مجرد خادمة للعلم الحديث، ومنهم من دعا صراحةً إلى قتلها، أي قتل الميتافيزيقا، رغم أنه قد اتضح أن الجميع ميتافيزيقيون، ومن ضمنهم ألبرت أينشتاين.

قد يقال إن نيوتن لم يكن كالعلماء في عصرنا، فما كتبه في فلسفة الدين أكثر بكثير مما كتبه في الفيزياء، حسب شهادة ديورانت. تفسير هذا هو أن نيوتن كان عالماً وفيلسوفاً أيضاً (بالمعنى الكلاسيكي) وينبغي أن نتذكر أن عنوان كتابه الأشهر هو «الأصول الرياضية لفلسفة الطبيعة» وهناك أعلن عن المنهج الجديد الذي يستخدم الرياضيات لدراسة الطبيعة ويُسقط فلسفة الطبيعة الأرسطية.

كل عالم يتجاوز الجزئي هو في حقيقة أمره يعلن أنه فيلسوف بالإضافة إلى كونه عالماً، وكل الثورة العلمية التي أسقطت العلم القديم كانت تنطلق من موقف فلسفي واضح. لكننا نستطيع أن نميّز العالم المشغول بالمحسوس والفيلسوف الذي يدرس الرياضيات لكي تدفع بالعقل ليتسامى عن العالم المحسوس فيرتقي إلى عالم المُثل والمعقولات.

وثمة فرق مهم يذكره أفلاطون حين يصف الفلاسفة بأنهم من يعشقون الحقيقة، يعشقونها من كل اتجاه وليس عشقاً في اتجاه واحد، على خلاف الشاعر الذي طرده أفلاطون من جمهوريته لأنه يُبعد الناس عن الحقيقة، وهذا تضليل من وجهة نظر الحكيم، والفلسفة عنده أسمى من كل فاعلية فكرية، فلا يقارنها بالدراسات التجريبية أو الأدب أو التاريخ أو الشعر.

هناك فلاسفة استخدموا النظم لتقييد أفكار فلسفية مثل قصيدة «في الطبيعة» لبارمنيدس، حيث يذكر ما يعتقد أنها حقيقة الوجود المطلقة على نحو دوغمائي يقيني. هذا ليس بشعر، وبارمنيدس ليس بشاعر. ولكي نتصور الشاعر تصوراً واضحاً سنقارنه بالفيلسوف، فهو يزعم أنه صاحب فكر، وهذا ليس موضع نزاع، لكن غاية الفيلسوف تختلف عن غاية الشاعر. فالأول مشغول بتمييز الحقيقة عن الزيف، ولا توجد لديه غايات أخرى. بينما الشاعر، مهما حاول المحاكاة، لا تشغله الحقيقة، بل ما وراء الحقيقة. إنه تلك النفس التواقة للعذاب الذي يأتي بالإبداع:

فشبّ بنو ليلى وشبّ بنو ابنها

وأعلاق ليلى في فؤادي كما هي

صورة مؤلمة للغاية يُبكينا بها ويستميل تعاطفنا، لكنّ ظاهرها غير باطنها. فالشاعر بحاجة أبديّة إلى قصة حب تعذبه أو قضية أكبر تشغل باله لكي يبدع، ولو أعطته المعشوقة ما يريد لوقع في ورطة ولجفّ الإبداع. الشعراء يشبهون الفراشات الراقصة حول النار، تتلذذ بالاحتراق. كل الأربعة يستخدم الخيال، بمن فيهم العالم، لكنّ خيال الشاعر جامح أشد الجموح ولا يمكن قياس مدى إبداعه إلا بالشعور وحده، أعني الشعور المتغير من شخص لآخر، مهما حاولت كتب الأدب أن تعرّف الشعر والإبداع فإنها لن تحقق نجاحاً كبيراً، لأنه كالتصوف يُحسّ ولا يوصَف.

هكذا نشأت العداوة بين الشاعر والفيلسوف، فطردهم أفلاطون من جمهوريته الموعودة. تصوير شعراء الملاحم للآلهة بشكل حسّي شهوانيّ أغضب أفلاطون التقيّ، وبقيت الخصومة حتى أعادهم هايدغر من جديد وخلق نوعاً من الحوار البنّاء بين الاثنين، وحين جعل الشاعر كالفيلسوف كاشفاً عن الوجود، كشفاً لا يعني أنهم سيوصلوننا إلى حقيقة واحدة، بل إلى حقائق بعدد المتأملين.

***

خالد الغنامي – كاتب سعودي

عن صحيفة الشرق الأوسط اللندنية، يوم: 15 أبريل 2024 م ـ 06 شوّال 1445 هـ

يقول بعض الذين تعرفوا عليه شخصياً في تلك الفترة بأنه كان يلبس ثياباً نظيفة عموماً، ولكن قديمة شبه بالية، ومنظره الخارجي كان يوحي بالإهمال والهجران. (وهذا ما توحي به صوره أصلاً). كان بودلير يبدو وكأنه يشبه بيتاً متصدعاً لم يُسكن منذ زمن طويل. كان يبدو عليه وكأنه مُدمَّر من الداخل. وهو بالفعل مُدمّر. لقد استسلم بودلير لتقادير الحياة وألقى سلاحه منذ البداية. كانت الصدمة أكبر منه. لماذا تزوجت أمه بعد وفاة والده؟ لماذا لم تبق له وحده؟ لطالما عاتبها بكل حرقة، بكل مرارة: من كان لها ابن مثلي لا تتزوج! بدءاً من تلك اللحظة أصبح العالم مشبوهاً في نظر شارل بودلير. أصبح العالم ملغوماً، أو شبه ملغوم. بدءاً من تلك اللحظة عرف أن الشر موجود في أحشاء العالم كالدودة في قلب الثمرة.

لكن هذه التجربة المريرة مع الحياة، هذه الضربة الساحقة الماحقة، كانت مفيدة جداً وذات مردود هائل من الناحية الشعرية. وبالتالي، فرب ضارة نافعة. فإذا لم يكن يستطيع أن يرضي أمه بأن يصبح موظفاً كبيراً في سلك الديبلوماسية الفرنسية أو سلك القضاء أو سوى ذلك، فإنه على الأقل استطاع أن يرضي آلهة الشعر وربات الجمال... يضاف إلى ذلك أن الانحطاط في مهاوي الحياة إلى الدرك الأسفل يتيح لك أن تتعرف على الوجه الآخر للوجود: قفا الوجود. إنه يتيح لك أن تعانق الوجه السلبي، الوجه المظلم للأشياء. كان النزول إلى الطبقات السفلية والدهاليز المعتمة شيئاً ضرورياً جداً لكي يصبح بودلير أكبر شاعر في عصره وربما في كل العصور. ويقال بأن أمه لم تعرف قيمته إلا بعد موته وانفجار شهرته الأسطورية. عندئذ بكت وتحسرت، حيث لم يعد ينفع التحسر والندم... صحيح أن بودلير حاول بكل الوسائل أن ينجح ويحقق الرفاهية المادية والوجاهات الاجتماعية كبقية البشر. ولكنه في كل مرة كان ينتكس ويفشل. إنه كسيزيف الذي يرفع الصخرة من أسفل الوادي لكي يضعها على قمة الجبل. ولكن ما أن يصل بها إلى القمة تقريباً حتى تتدحرج وتسقط، وهكذا دواليك... عندئذ عرف بودلير أنه فاشل لا محالة، وراح يتحمل مسؤوليته لأول مرة كشخص فاشل، متسكع، يعيش على هامش المجتمع. بدءاً من تلك اللحظة راح بودلير يصبح الشاعر الأساسي للحداثة الفرنسية وربما العالمية. راح يصبح شاعر التمزقات والتناقضات الحادة التي لا حل لها (على الأقل مؤقتاً!) إلا بقصيدة جديدة. وقد جرّب الانتحار أكثر من مرة ولكنه لم ينجح. حتى في الانتحار فشل! راح يصبح شاعر الخطيئة الأصلية التي تلاحق الإنسان المسيحي من المهد إلى اللحد. ولكن في حالته خطيئة بلا خلاص ولا غفران. كل ديوانه «أزهار الشر» ما هو إلا مرآة لروحه، أو سيرة ذاتية مقنَّعة لشخصه. حياة بودلير كلها كانت تمزقاً أو تذبذباً بين السماء/ والأرض، بين المثال الأعلى/ والحضيض، بين الله/ والشيطان... هذا التوتر الذي لا يهدأ بين المتناقضات القاتلة، هذا النزول إلى المهاوي السحيقة، هو الذي جعل من بودلير أعمق شاعر في تاريخ الآداب الفرنسية. يمكنك أن تتهم بودلير بكل شيء ما عدا أنه شاعر سطحي مثلاً! الشاعر السطحي هو ذلك الشخص الذي لم يعرف تقريباً إلا الجانب الفرح والمبتسم من الحياة. الشاعر السطحي هو ذلك الشخص الذي وُلد وفي فمه ملعقة من ذهب. الشاعر السطحي هو ذلك الشخص الذي لم يعش تجارب مزلزلة في معمعة الوجود: أقصد تجارب قصوى تصل به إلى حافة الهاوية. ولكن نحن في حضرة أشخاص من نوع آخر. نحن في حضرة المتنبي أو المعري أو دانتي أو شكسبير، إلخ... الشاعر السطحي شخص سعيد جداً ومرتاح جداً وناجح اجتماعياً جداً جداً. هنيئاً له. مبروك وألف مبروك. ولكن نحن في حضرة الشاعر غير السطحي: أي في حضرة أشخاص من نوعية إدغار آلان بو أو دوستوفيسكي أو ريلكه أو بعض المجانين الآخرين... الشاعر غير السطحي (لماذا لا نقول الشاعر العميق؟) هو ذلك الشخص الذي عاش إلى جانب الحنين والأنين لسنوات طويلة، هناك حيث الأعماق السفلية، هناك حيث الدهاليز والعتمات والمطبات. وحيث الوحدة والهجران أيضاً. الشاعر الذي نقصده هنا شخص مهجور أبدياً، سرمدياً، أنطولوجياً. بعدئذ ينفجر الشعر، يتدفق الشعر. كل شيء له ثمن. ينبغي أن تموت ألف موتة لكي تكتب قصيدة واحدة لها معنى. الشاعر السعيد، الناجح، المتفوق، ليس شاعراً بالمعنى البودليري للكلمة: إنه فقط يطرب الناس أو يدغدغ المشاعر والحواس السطحية، ويحظى بشعبية هائلة. وتحبه الفتيات والمراهقون والسيدات الأرستقراطيات... هذا لا يعني بالطبع أنه عديم القيمة، أبداً لا. ولكن لا يهمنا أمره هنا. هذا كل ما في الأمر، لا أكثر ولا أقل. نحن لا نشتم أحداً. نحن لا نهتم هنا إلا بالشعراء السيزيفيين: شعراء الأعماق والمهاوي السحيقة. نحن نريد أن نقيم علاقة بين «الشعر والعمق» كما يقول الناقد الفرنسي جان بيير ريشار في كتاب مشهور. كل ما نريد قوله هو التالي: الشاعر الذي لا ينزل إلى الأعماق السفلية، ويخاطر، ويغامر، ويقذف بنفسه في فوهة المجهول ليس شاعراً بالمعنى الذي نقصده. كان بودلير يشعر بالضجر والفشل وسأم باريس. كان يشعر بفراغ العالم وعبثية الأشياء. وبدءاً من تلك اللحظة أصبح شاعراً. بدءاً من اللحظة التي يحصل فيها تناقض حاد بينك وبين العالم، بدءاً من اللحظة التي يصبح فيها العالم إشكالياً في نظرك، فإن ذلك يعني أنك قد تصبح شاعراً، أو فناناً، أو فيلسوفاً، أو مجنوناً... أول شرط من شروط الإبداع هو اختلال الثقة بينك وبين العالم، هو حصول شرخ عميق بينك وبين نظام الأشياء. لماذا يوجد الشر في العالم؟ لماذا تزوجت أمه؟ لماذا لا يوجد إلا الخير والصفاء والنقاء والشفافية في هذا العالم؟ لماذا نُفجع بأنفسنا، بأحبتنا الذين غابوا؟ لماذا؟ لماذا؟ ربما لهذا السبب لا يوجد شاعر كبير واحد في التاريخ كان متصالحاً مع نفسه أو مجتمعه أو زمنه:

أتى الزمان بنوه في شبيبته

فسرّهم وأتيناه على الهرم

ويمكن أن نقول الشيء ذاته عن الفلاسفة والمفكرين الكبار. بالطبع يوجد في كل العصور عشرات الشعراء والكتاب الذين ينعمون بالحياة والثروات والوجاهات ولا يشعرون بأي مشكلة مع أي شيء كان. عن هؤلاء لا نتحدث هنا، ولا يهمنا أمرهم في قليل أو كثير. نحن نتحدث هنا فقط عن الشعراء الإشكاليين: أي الشعراء الذين فُجعوا بأنفسهم، الذين أصيبوا في الصميم منذ طفولتهم الأولى. نحن نتحدث عن كتّاب من نوعية بودلير، أو رامبو، أو فرلين، أو نيتشه، أو هولدرلين، إلخ... ذلك أن الصراع الداخلي مع الذات لا يقل خطراً عن الحروب العالمية أو الخارجية. حرب الداخل أخطر من حرب الخارج لأن العدو يصبح منك وفيك. وبودلير عاش هذا الصراع المحتدم ومشى به إلى نهاياته. هل كان بودلير شيزوفرينياً يعاني من انفصام الشخصية؟ بالطبع، كمعظم الكتَّاب الكبار. كل عقد الأرض، كل أوجاع الأرض، كانت موجودة فيه. ومن ذلك نتجت القصائد العبقرية! يكفي أن نفتح ديوانه على أي صفحة لكي نجد آثار هذه المعركة أو أشلاءها بادية للعيان:

أنا الطعنة والسكين

أنا الصفعة والخدان

أنا العجلة والعضوان

أنا الضحية والجلاد

أنا لَقلبي مصّاص الدم!

بودلير جلاد نفسه وليس في حاجة إلى شخص آخر لكي يجلده. لنقل بأنه استبطن العدوان الخارجي (القدر، الطفولة، زوج الأم، ضربات الغدر...) إلى درجة أنه أصبح قضية داخلية. لم يعد بودلير في حاجة إلى عدو خارجي لكي يعذبه. أصبح هو يعذب نفسه بنفسه. زوج الأم، هذا العدو المطلق، تحول وحشاً أخطبوطياً لا خلاص منه حتى ولو مات!

لكي يتخلَّص من نفسه، من مرضه الداخلي الذي يقضّ مضجعه، كان دوستويفسكي يتمنى أحياناً لو أن الأرض انشقَّت وابتلعته. وأما نيتشه فكان يتمنى لو يحصل زلزال هائل يدمّر الأرض ويخسفه معها. فيما يخص بودلير، نلاحظ أن شهوته كانت تتمثل في حصول إعصار كاسح يجرفه مع السيول:

أيها السيل لماذا لا تجرفني في انهياراتك؟ الشاعر السطحي شخص سعيد جداً ومرتاح جداً وناجح اجتماعياً جداً جداً.

***

د. هاشم صالح

عن صحيفة الشرق الاوسط اللندنية، يوم: 15 أبريل 2024 م ـ 06 شوّال 1445 هـ

في كتابه الأخير الصادر بالإنجليزية بعنوان «التقانة الإقطاعية: من قتل الرأسمالية؟»، يذهب عالم الاقتصاد والوزير اليوناني الأسبق يانيس فاروفاكيس إلى أن الثورة التقنية الراهنة نقلت العالم الغربي الحديث من الرأسمالية الصناعية، بمنظومتها الطبقية ونسقها السياسي الليبرالي، إلى نمط جديد من النظام الإقطاعي، لا مجال فيه للسوق والربح. لقد قتلت الرأسمالية نفسها، بلغة فاروفاكيس، بالخروج من منطق السوق الحرة التنافسية التقليدية إلى ما سماه بالرأسمال - السحابي (Cloud capital) الذي لا يقوم على النمو والربح وإنما على الريع وفق علاقات إقطاعية جديدة يتحكم فيها أرباب المنصات الرقمية الكبرى الذين يستغلون ملايين الخدم مجاناً من خلال استخدامهم الطوعي للشبكات الاتصالية التي غدت تتحكم في الميادين الاقتصادية وتحدد الأنماط الجديدة من التنظيم الاجتماعي.

أطروحة فاروفاكيس تخرج عن النظريتين المتمايزتين اللتين برزتا في السنوات الأخيرة في الفكر اليساري الأوروبي، حيث ذهبت أولاهما إلى أن ظاهرة العولمة هي التجسيد التاريخي لمنطق التوسع الرأسمالي المفضي حتماً إلى تدمير الطبيعة والقضاء على الهويات الجماعية (الآن باديو)، وذهبت ثانيتهما إلى أن العالم دخل في عصر ما بعد الرأسمالية من خلال الانتقال إلى نمط الاقتصاد غير المادي وإنتاج المشترك الكوني الذي هو الأفق الجديد للنظام الاقتصادي والاجتماعي (توني نغري).

أطروحة فاروفاكيس تنطلق من إدراك نفس المعطيات ذات الصلة بالثورة التقنية الراهنة القائمة على الذكاء الاصطناعي والتقنيات الاتصالية والجينية وانبثاق الاقتصاد التشاركي، لكنها ترى أن نمط التحول الجديد لا يفضي إلى منح الرأسمالية أفقاً كونياً يتلاءم مع منطقها الغائي كما ظن ماركس، ولا يؤدي إلى إبطال نظام الاستغلال الطبقي الذي كان ينخر الرأسمالية من الداخل، بل إن العالم يسير في اتجاه منظومة تقنية اقتصادية غير مسبوقة يطلق عليها «الإقطاعية السحابية» التي قد تنجر عنها حرب عالمية طاحنة بين سادة الإقطاع الجديد في الولايات المتحدة الأميركية والصين. والسؤال المطروح هنا بقوة هو إلى أي حد يمكن اعتبار الاقتصاد الرقمي التشاركي امتداداً للرأسمالية التقليدية القائمة على ثنائيتي الإنتاج والاستهلاك، والمال والبضاعة؟

وماذا يحدث عندما تنفصم الروابط بين الإنتاج المادي والسيلان المالي وتنمحي الحدود بين الإنتاج والاستهلاك؟ لا يبدو أن الفكر الليبرالي الكلاسيكي انتبه إلى هذه التحولات النوعية التي قوضت القاعدة الثابتة في المنظومة الاقتصادية الرأسمالية المرتبطة بالمجال الجغرافي والدولة القومية، في الوقت الذي لم تنتبه لنفس التحولات الاتجاهاتُ الاشتراكية التي راهنت على التناقضات الداخلية في المنظومة الرأسمالية من أجل تجاوزها في أشكال أكثر عدالةً ورفاهية من النظام الاجتماعي. ما لم ينتبه إليه التياران هو التغير النوعي في البنيات التقنية والاقتصادية للعالم الراهن، والتي طالت المحددات الثلاث الأساسية في كل ثورة صناعية، وهي تقنيات الاتصال ومصادر الطاقة ووسائل النقل.

وكما يبين عالم الاقتصاد الأميركي «جرمي ريفكين»، فقد قامت الثورة الصناعية الأولى في القرن الثامن عشر من بريطانيا وارتكزت على آلة البخار والفحم والتلغراف، بينما قامت الثورة الصناعية الثانية في الولايات المتحدة على النفط والكهرباء والهاتف والإعلام السمعي البصري. ومع الثورة الحالية تغيرت كل هذه المحددات وأصبحت تتمحور حول نظام الرقمنة الذي يكفل الربط السريع والناجع بين مختلف الوسائل والمنافع وفق «إنترنت الأشياء» الذي هو في طور التغيير الجوهري لطبيعة العالم.

لقد اعتبر ريفكين أن هذه التحولات الكبرى أفضت إلى تعايش نظامين اقتصاديين هما النسق الرأسمالي التقليدي القائم على منطق السوق، والنسق التشاركي الذي يقوم على المنافع والمصالح شبه المجانية. والسؤال الذي يتعين الجواب عليه في ضوء هذه الآراء: هل سيحرر الاقتصاد التشاركي الجماعي المجتمعات من الفاقة والاستغلال، كما يرى بعض الباحثين الاقتصاديين الاجتماعيين المنبهرين بالثورة التقنية الصناعية الجديدة (من نوع ريفكين)، أم سيؤدي إلى أخطر أنواع الجشع والغبن من خلال الاستغلال الصامت والناعم للقوة الحيوية البشرية عبر الشبكات الرقمية التي هي الميدان الإقطاعي الجديد (فاروفاكيس)؟ عندما نرجع إلى الأدبيات الفلسفية والاجتماعية التي واكبت الثورة الصناعية الأولى في القرن الثامن عشر، والثورة التي تلتها في بدايات القرن العشرين، نشهد نفس الحوار بين دعاة التقنية الانعتاقية التي تحقق حريةَ الإنسان ورفاهيته، وبين الأصوات الناقمة الخائفة من تدمير الطبيعة وتقويض التوازنات الاجتماعية والإنسانية. ما نعيشه راهناً مع الثورة التقنية الثالثة هو نفس الحوار من منطلقات وخلفيات مغايرة.

***

د. السيد ولد أباه - أكاديمي موريتاني

عن صحيفة الاتحاد الاماراتية، يوم: 14 ابريل 2024 23:30

توظف القوى الكبرى الثقافة في العلاقات الدولية والصراع الجيوثقافي بامتياز بعد تعرض العولمة لعوامل التعرية والتآكل. وبالمقابل بدأت الحروب الثقافية العالمية بسبب نقص المرونة الثقافية لدى البعض وإدراك البعض الآخر أنه غزو ناعم لا تسيل به الدماء، وهي معارك ذكية تستطيع الدول من خلالها تحقيق الانتصار تلو الآخر دون أن تلحظ «الثقافة الضحية» أنها تخوض أزمات صامتةً واجتياحات ممنهجة من قبل طرف واحد، والطرف الآخر متلقٍّ سلبي في دوامة هزائم ينتقل إثرها من جيل إلى آخر.. وتتكفل الثقافة التي تمثل الحاضنة البديلة لقيم الثقافة المعتدية بتمهيد الطريق للاجتياح الفكري والثقافي، وسلوكيات فنون الإدارة النفسية والعقلية للحشود التي تجمعها نقاط تجمّع وتجمهر افتراضية يتم اختراقها وتسييرها على غرار الحشود التقليدية، وبالتالي إثارة الفتن والبلبلة ونشر الفوضى وتفكيك الصفوف وصولاً لفقدان الكفاءة الثقافية، والتي تتمثل في عدم القدرة على التواصل المباشر وغير المشروط، وبشكل فعّال وبلغة ومبادئ مفهومة من الآخر، بنهج يتجنب الممارسات العنصرية أو التمييزية مع توفير الفرص المتكافئة للتعبير عن الأصالة غير المحدثة دون الشعور بالدونية الثقافية.

إن التواصل الثقافي يتم بشتى الطرق كالتجارة والصناعة والتعاون المهني، والتدريب والتعليم والمشاريع المشتركة والمجال التكنولوجي، والفنون والرياضة ومواد ومنتجات الثقافة الشعبية ووسائل التواصل الاجتماعي، والخدمات والمواد الاستهلاكية المختلفة التي ترتبط بتمثيل جيل أو أكثر وتكون بمثابة هوية جاذبة لفئات كثيرة من سكان العالم، ولكن يبقى التعليم أكبر أسلحة الحروب الثقافية في المدارس والجامعات والتي تعكس الثقافة الغربية وتجاربها ورموزها وتراثها، حيث أصبح مرادفاً لكلمة «حضاري»، أي أن كل ما يدور في دوائر الثقافة الغربية هو جدير بالبحث والدراسة والتمجيد والاتباع والتقليد، ولا يكون المثقف مثقفاً في باقي دول العالم إذا لم يكن يفهم ذلك الموروث ويتحدث بالنيابة عنه، وهو ما يكشف عن الأدوار التي تلعبها تلك الظاهرة في تشكيل الثقافات المحلية الناشئة.

إن الأمر يتعلق بتبنّي رؤية أكثر ثراءً وديناميكيةً وتعقيداً من مجرد مطالبة الآخرين بالنظر فيما هو صائب أو مناسب قوله سياسياً، والاقتناع أن الغرب هو المركز، وأننا لا نستطيع العيش من دون المركز، وأهمية مقاومة التشكيك في نقد ودحض حجج مركزية الثقافة الغربية كثقافة مرجعية، وإن تشجيع اللغة والسلوك الأكثر وعياً وانعكاساً للذات وحساسيتها الثقافية هو بالتأكيد لا يعني الثورة ضد قيم الآخرين ورفضها بالمجمل، ولكن فقط ما ليس لائقاً إنسانياً أو ما هو ذو أبعاد إقصائية.

إذاً هناك شيء أكبر يحدث اليوم يختلف عن صراعات القوى العظمى في الماضي ويختلف عن الحرب الباردة، وهذا ليس مجرد صراع سياسي أو عسكري أو اقتصادي بل هو صراع حول السياسة والاقتصاد والثقافة والمكانة وعلم النفس والأخلاق والدين في وقت واحد. وبشكل أكثر تحديداً فهو رفض للطرق المعتادة لفعل الأشياء من قبل مئات الملايين من الناس على نطاق واسع، وتسليط الضوء على أن الغرب يركز على الكرامة الشخصية والبروز الفردي والمادي والحرية بصورة كبيرة.

وأما تركيز بقية العالم فهو ينصبّ على التماسك المجتمعي ومكانة النظرة المجتمعية المشتركة لقضاياه، وهي نظرة تؤمن بأن البشر قوالب ثابتة والثقافات ثابتة لا حراك فيها وغير قادرة على معرفة ما هو الأفضل لها دون وجود ثقافة فوقية توجهها.

الكل يشعر بتداعيات الحروب الثقافية التي تتشابك فيها وجهات النظر المختلفة حول العلمانية والديمقراطية وأساليب الحكم والعيش، مما يفقدنا الثقة في قدرتنا على التنبؤ إلى أين يتجه التاريخ! وفي فكرة أنه عندما تقوم الأمم «بالتحديث»، فإنها تتطور على طول خط يمكن التنبؤ به، وأعتقد أن الوقت قد حان لنفتح عقولنا على احتمال أن يكون المستقبل مختلفاً تماماً عن أي شيء توقعناه، وضرورة توقف عمليات الاستقطاب الثقافي والتنافر القيمي، وهو ما سيؤدي بالضرورة إلى إحداث صدع أعمق في المجتمع الإنساني ككل، وتشجيع الثورات الشعبوية كعرض من أعراض الصراع على القيم والهوية.

***

سالم سالمين النعيمي -  كاتب وباحث إماراتي في شؤون التعايش السلمي وحوار الثقافات

عن صحيفة الاتحاد الاماراتية، يوم: 9 ابريل 2024

لا تنتعش ولا تزدهر إلا بمقتضى عواملَ سياسيّة وثقافيّة واجتماعيّة

يبدو أنّ الناس يختلفون اختلافاً خطيراً في مسألة الاستئثار بنعمة العقل الفلسفيّ. لا بدّ في هذا السياق من التذكير بما قاله عظيمُ فلاسفة فرنسا دِيكارت (1596 - 1650) حين أعلن أنّ العقل أعدلُ المزايا قسمةً بين الناس. أعتقد أنّ مثل هذا القول يَهدم جميع الأحكام الاستئثاريّة الاستعلائيّة. غير أنّ دِيكارت لم يشرح لنا الأسباب التي تجعل هذه الثقافة تستثمر استثماراً ذكيّاً مُغنياً نصيبَها من العقل الفلسفيّ، وتمنع تلك الثقافة من التمتّع ببركات التفكير العقليّ المحض. الواضح أنّ نشأة الفلسفة في المدينة الإغريقيّة لها أسبابُها السياسيّة والثقافيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة. هذا أمرٌ أجمع عليه العقلاء، ولو أنّ بعض المعارضين ما برحوا يُصرّون على انبثاق التفكّر الفلسفيّ من الشرق.

إذا أردنا أن نعالج المسألة معالجةً موضوعيّةً مُنصفة، كان علينا أن نُعرّف العقل ونُعرّف الفلسفة، حتّى نتبيّن وجه الصواب في قضيّة استثمار الفلسفة. ذلك بأنّ تعريف العقل تعريفاً منحازاً قد يجعل الناس الذين يؤمنون بالأساطير والميتولوجيات والماورائيّات والغيبيّات من أشدّ المدافعين عن مقام العقل، ويجعل الذين يعتصمون بمبادئ العقل الأساسيّة المستندة إلى أصول المعاينة العلميّة الواقعيّة الموضوعيّة المجرّدة من أسوأ أعداء النظر العقليّ. كذلك القول في الفلسفة؛ إذ إنّ تعريف الفلسفة يختلف من ثقافةٍ إلى أخرى.

يدرك الجميع أنّ بعض مباحث الفلسفة، كالمِتافيزياء والفِنومِنولوجيا وفلسفة الدِّين، تميل إلى مراعاة الفرضيّة الماورائيّة وتقبل بوجود عالمٍ علويٍّ آخر يختلف عن عالم المكان والزمان. إذا كانت المِتافيزياء تنظر فيما وراء الطبيعة، والفِنومِنولوجيا تترصّد طاقات الاعتلان في الظاهرات المتجلّية، لاسيّما ظاهرة الحياة الأرحب، وفلسفة الدِّين تتدبّر اختبارات التجاوز الذي ينعقد عليه فعلُ الإيمان، فإنّ العقل الفلسفيّ المحض يحرص على ضبط النزعة الشطحيّة والإمساك بالميل الانعتاقيّ الذي يدفع بالإنسان إلى التضجّر من حدود المكان والزمان، والترحّل إلى عالم الخيال الخصب والتوهّم المنعش. من واجب الفلسفة أن تحاذر الانشطاح والانفلات والانعتاق، وتناصر المحايثة والحيثيّة والموضعيّة والانتسابيّة. كلُّ تفكيرٍ يزيّن للناس أنّ الفلسفة تجيز لنفسها الخروجَ من دائرة المكان والزمان يجب أن يسوّغ علميّاً مرتكزات الانعتاق ومستندات التجاوز. كان مؤسّسُ الفِنومِنولوجيا الألمانيّ هوسّرل (1859 - 1938) شديدَ الحرص على استثمار الظاهرة (الفِنومِنون) في قابليّاتها الكشفيّة الذاتيّة التي لا تقذف بها في رحاب اللإمكان واللازمان واللاتاريخ. جلُّ عنايته أن يكشف لنا عن أنّ الواقع ينطوي بحدّ ذاته على طاقاتٍ اعتلانيّةٍ رحبةٍ ينبغي استثمارُها في قرائن الانتماء الرضيّ إلى المحدوديّة الطبيعيّة الراهنة.

وعليه، إذا كان الشطح الصوفيّ والانعتاق المكانيّ والمعاندة الزمانيّة في أصل فعل التفلسف، فإنّ ثقافات الحضارات الآسيويّة والأفريقيّة مارست الفلسفة منذ أقدم الأزمنة. أمّا إذا اعتمدنا تعريفَ العقل أداةً بحثيّةً تفترض صونَ المحدوديّة المكانيّة - الزمانيّة، ومراعاة الانتماء التاريخيّ الدهريّ، وتعزيز انتساب المحايثة التي تجعل الإنسان يقيم حيث هو، ولا ترمي به في لجج الرغبات التجاوزيّة ومتاهات المكاشفات الافتراضيّة، فإنّ الثقافات التي نهجت نهجَ المدينة الإغريقيّة وانتشرت في الغرب الأُوروبّيّ أقربُ إلى ممارسة التفكير الفلسفيّ الأصيل. فضلاً عن ذلك، ليست الفلسفة حدساً التماعيّاً أو نوراً مُلهِماً تقذفه الحكمةُ الكونيّةُ في صدر الإنسان، بل مراسٌ منهجيٌّ متطلّبٌ يستلزم النظر في شتيت الاختبارات الإنسانيّة واستخراج المعنى الهادي الذي يلائم وضعيّة الناس وطرائق تفكيرهم في زمنٍ من الأزمنة.

أعود فأكرّر أنّ لكلّ إنسان الحقّ في ادّعاء التفلسف الحرّ. غير أنّ الثقافات الإنسانيّة تميّزت بميولٍ ونزعاتٍ وتيّاراتٍ جعلتها أقربَ إلى الفلسفة العقلانيّة منها إلى الشطح الوجدانيّ الصوفيّ. لستُ أظنّ أنّ الشعوب الهنديّة، على سبيل المثال، أجادت في ممارسة الفلسفة العقلانيّة، وأنّ الشعوب الأُوروبّيّة تألّقت في الخوض في رحاب الوجدانيّات الصوفيّة المتعالية. قد يفيدنا أن نستذكر ما قاله أبو حيّان التوحيديّ (923 - 1023) بشأن توزيع مواهب الأمَم: «صار الاستنباط والغوص والتنقير والبحث والاستكشاف والاستقصاء والفكر لليونان، والوهم والحدس والظنّ والحيلة والتحيُّل والشعبذة للهند، والحصافة واللفظ والاستعارة والإيجاز والاتّساع والتصريف والسحر باللسان للعرب، والرويّة والأدب والسياسة والأمن والترتيب والرسوم والعبوديّة والربوبيّة للفرس» (الإمتاع والمؤانسة، ص 211 - 212). من البديهيّ أن يبتسم المرءُ حين يقع على مثل هذا النصّ، ولو أنّ عباراته تنطوي على بعضٍ من الحكمة والإصابة. الابتسامة عينها ترتسم على وجهنا حين يطالعنا فيلسوف الأمّة الجرمانيّة هايدغر (1889 - 1976) برأيه الاستفزازيّ ليحصر دعوة الفلسفة بشعبَين اثنَين: الإغريقيّ والألمانيّ.

ليس من الفطنة أن نذهب هذا المذهب؛ إذ إنّ لكلّ شعبٍ القدرة الذاتيّة على ممارسة الفلسفة. والعرب أثبتوا أنّهم خليقون بالتفلسف في العصور الوسيطة. بيد أنّ شروط الإقبال على الفلسفة لا تنعقد في جميع المجتمعات وفي جميع العصور. هذا واقعٌ لا مهرب منه. لذلك أجمع الباحثون على القول إنّ الفلسفة لا تنتعش ولا تزدهر إلّا بمقتضى عواملَ سياسيّة وثقافيّة واجتماعيّة تتيح انبثاق التفكّر العقلانيّ السليم. أخطر العوامل السياسيّة الحرّيّاتُ الفرديّة والجماعيّة والتسالم الهنيّ في حضن المدينة الإنسانيّة. أمّا العوامل الثقافيّة فتقترن أوّلاً بطبيعة اللغة وطاقاتها التعبيريّة ومَسار تطوّرها المعجميّ. من الطبيعيّ ألّا تزدهر الفلسفة في لغةِ قبيلةٍ أمازونيّةٍ لا تتجاوز مفرداتها 5000 كلمة! كذلك اللغة التي تُفرِد للأسد مائة مرادف إنّما تضع قوّتها في غير موضع التفلسف النظريّ التجريديّ المتطلّب، ناهيك عن التجمّد النحويّ المفروض على الناس من جرّاء الائتمار بأحكام النصّ الدِّينيّ. لا ريب في أنّ اللغة المقيّدة بقوانينَ وقوالبَ ثابتة لا تتيح التفلسف. ومع ذلك، فإنّ آليّات التجديد ليست مستحيلة، بل معطّلة تعطيلاً آيديولوجيّاً. أمّا العوامل الاجتماعيّة فتفترض أنّ الناس بلغوا شأواً عظيماً في فهم معاني الاختلاف والتنوّع، واستبصروا في ضرورات الفكر ومنافع القراءة وثمار المناقشة الحرّة الراقية.

تلك كانت حال المدينة الإغريقيّة التي نشأ فيها البناء الفلسفيّ المنهجيّ المتّسق. غير أنّ القول بصدارة التفلسف الإغريقيّ الأصليّ لا يعني تعزيز المركزيّة الثقافيّة الأُوروبّيّة، بل يحرّض الجميع على ابتكار الفلسفة المحلّيّة التي تصون أصول التفلسف والبناء المنهجيّ والتماسك المنطقيّ والاتّساق الهندسيّ في بناء العمارة الفلسفيّة. يعرف الجميع أنّ بضعةً من فلاسفة المدينة الإغريقيّة، ومنهم بارمنيذيس وهيراقليطوس وزينون وبروتاغوراس وأفلاطون وأرسطو وسواهم، إمّا هاجروا إليها وإمّا سافروا منها إلى الشرق للتكسّب المعرفيّ والاختبار الوجدانيّ. ولكنّ هذا الأمر لا يعني أنّ الفلاسفة المهاجرين هؤلاء، على حدّ تعبير جيل دُلوز، سرقوا البناء الفلسفيّ المكتمل من الشرق، بل تأثّروا بفكرةٍ أو حدسٍ أو التماعٍ وضّاء، وعادوا فبنَوا ما بنَوه في المدينة الإغريقيّة التي أتاحت لهم التفلسف الحرّ.

خلاصة القول أنّ الفلسفة ليست عنصريّة، بل متطلّبة! شأنها شأن العلم الذي لا يمكن أن يرتجله الناسُ ارتجالاً. والحال أنّ المجتمعات التي لم تحرز التقدّم العلميّ باءت بالإخفاق الفلسفيّ. لذلك نادى الفيلسوف السوريّ جورج طرابيشي (1939 - 2016) بضرورة الثورة العلميّة في العالم العربيّ حتّى تنشأ لنا فلسفة عربيّة أصيلة. لا عجب، من ثمّ، في أن تتكاثر أعداد المختصّين بالآداب والعلوم الإنسانيّة في الجامعات اللبنانيّة والعربيّة، في حين أنّ المطلوب تعزيز البحث العلميّ حتّى يتحرّر العقل من قيود الجهل والآيديولوجيا. لا تستطيع الفلسفة وحدها أن تحرّر العقل من قيوده، بل يجب أن يؤازرها الوعيُ العلميّ. يعتقد بعضنا أنّ الفلسفة العربيّة الوسيطة لم تزدهر إلّا لأنّ الفلاسفة كانوا يوازون العلماء مقاماً وشأناً وسلطاناً فكريّاً؛ لا بل كان معظم الفلاسفة علماء.

اعتقادي الراسخ أنْ لا قيام لفلسفةٍ عربيّةٍ معاصرةٍ ترفض محاورة الفلسفات العالميّة، الأُوروبّيّة والأمِريكيّة والآسيويّة والأفريقيّة، بحجّة أنّ الفكر العربيّ لا يحتاج إلى النظر فيما أبدعه الآخرون، والاستناد إليه والانطلاق منه، أو انتقاده وإصلاحه وتجويده. وحده التحاور التفاعليّ التضامنيّ يتيح للفلسفة العربيّة المعاصرة أن تبني عمارتها بناءً مندمجاً في قرائن اهتمامات الإنسان المعاصر الوجوديّة المصيريّة. ليست الفلسفة قلعةَ الدفاع عن الذات، بل سبيلُ الإفصاح عن خصوصيّة الحسّ الذاتيّ في تناول قضايا الوجود الإنسانيّ العالميّ. من الضروريّ أن ينشأ لنا قولٌ فلسفيٌّ عربيٌّ معاصرٌ يستجيب لمتطلّبات الوعي الإنسانيّ العالميّ، فيُقبِل عليه الآخرون يتأمّلون في مُلاءماته الصائبة ومقاصده الصالحة.

***

د. مشير باسيل عون

نُشر: 17:19-7 أبريل 2024 م ـ 28 رَمضان 1445 هـ

الحالات المستعصية في أميركا ارتفعت 134 % منذ 2010

سيجد كثير من الآباء والأمهات في كتاب جوناثان هايدت، أستاذ مقعد توماس كولي للقيادة الأخلاقية في كلية ستيرن للأعمال بجامعة نيويورك، والمعنون «الجيل القلق: كيف أن التحول في تشكيل خبرات الطفولة أطلق وباء من الأمراض العقلية» - دار «أين لين»، 2024 - ما يؤكد أشدّ مخاوفهم بشأن التأثير السلبي للأجهزة الإلكترونية الحديثة، لا سيما الهواتف الذكيّة والكومبيوترات اللوحية، على الصحة النفسية والحياة الاجتماعيّة لأبنائهم وبناتهم؛ إذ يقدّم لهم عالم النفس الاجتماعي الأميركي ومؤلف العديد من الكتب حول الصحة العقلية في الغرب، سلّة من الإحصائيات والدلائل الموثقة التي تتقاطع للإشارة إلى تحقق تحوّل نوعي وبائي الأبعاد في زيادة معدلات القلق، والاكتئاب، والكسل، وفقدان الاهتمام، وإيذاء النفس، وحالات الانتحار لدى المراهقين في العديد من بلدان العالم، مع تراجع ملموس في المهارات الاجتماعيّة والقدرة على التواصل المباشر مع الآخرين، وذلك مع بداية العقد الثاني من القرن الحالي (مطلع عام 2010).

ويقول هايدت إن تلك اللحظة المفصليّة ارتبطت بانتشار الهواتف الذكيّة، وتوسع تعاطي الأجيال الجديدة مع مواقع التواصل الاجتماعي على الإنترنت، توازياً مع تراجع كميّة اللّعب الحر التي يتمتع بها المراهقون بسبب اتجاه الأهالي إلى تجنيب أبنائهم وبناتهم التجول بحرية خوفاً من انتشار الجريمة والمخدرات، وأن العلاقات العائليّة - أقلّه من النماذج التي اطلع عليها في الغرب - اتسمت بتوترات وخلافات تمحورت أساساً حول التكنولوجيا.

بحسب هايدت، فإن رواد صناعة التكنولوجيا الرقميّة الذين تجرعوا من ذات أقداحٍ ثقة زائدة احتستها النّخبة الأميركيّة في أجواء انتهاء الحرب الباردة بانهيار الاتحاد السوفياتي (1991)، انطلقوا، كأبطال أو آلهة، بلا روادع إلا إرادتهم الذاتية، في التربح من التأسيس لما صار يُعرف بفضاء (الإنترنت) السيبيري، أي ذلك العالم الافتراضي الجديد، المتخم بالوعود والإمكانات في توازٍ مع التجربة البشرية المادية التي لم تتغير كثيراً منذ انتشار «التلفزيون» في الخمسينات من القرن العشرين.

منتجات هذه المرحلة لم تغيّر من إحساس الراشدين بالعالم فحسب، وإنما أيضاً مسّت الأطفال والمراهقين الذين يعيشون بحكم تطورهم البيولوجي مراحل من الهشاشة والسيولة العقليّة تجعلهم عجينة طيعة في يد الرأسماليّة المنفلتة من كل عقال: شركات مواقع التواصل الاجتماعي التي يحمّلها هايدت مسؤولية إفساد نفسيات المراهقات الإناث بشكل أساسيّ، مقابل منتجي ألعاب الفيديو الذين تولوا، يداً بيد مع المواقع الإباحيّة، تدمير الصحة العقليّة للمراهقين الذكور من خلال خوارزميات جبارة قادرة على توريط الصغار في لجج من الإدمان على المحتوى المتجدد لحظياً بلا نهاية.

يقول هايدت الذي بدأ بتتبع الإحصائيات حول الصحة العقلية للمراهقين الأميركيين أثناء إعداد كتابه السابق حول «الدّلال الذي يتلقاه العقل الأميركي» بأن ثمة إشارات محدودة على حدوث تغير في مستويات المعاناة النفسية لدى صغار السن مع بداية القرن الحادي والعشرين. لكن العقد التالي، أي في السنوات 2000 - 2010، شهد صعوداً متسارعاً لاستعمال الأجهزة الإلكترونية الشخصيّة مع توسع قاعدة مستعملي الإنترنت، وظهور النماذج الأولى من تطبيقات التواصل الاجتماعي («فيسبوك» 2004 و«تويتر» 2006)، ووصلت ذروتها في عام 2010 مع انطلاق الهواتف الذكية المزودة بالكاميرات التي تسمح بالتقاط الصور الذاتية، وتالياً ابتلاع العملاق «فيسبوك» لتطبيق «إنستغرام»، الذي أصبح الأكثر شعبية حينئذ بين المراهقين.

في هذه المرحلة غدا نجاح المراهقين في محيطهم الاجتماعي مرتبطاً أكثر ما يكون بقدرتهم على تقديم ذواتهم للآخرين من خلال منصات التواصل الافتراضي، والحصول على الرضا الذاتي عبر التقبّل والتعزيز الفورّي من هؤلاء الآخرين الغرباء من خلال «الإعجابات»، حتى لم يعد مستغرباً أن يفضّل عديدون منهم الفناء الجسدي (الانتحار) على الفضيحة في الفضاء الافتراضيّ. يرى هايدت أن ذلك تسبب بإنفاق المراهقين سحابة نهاراتهم وخلاصة وعيهم في إدارة معالم صورهم الشخصية على المواقع الافتراضيّة، حتى إن ما يقرب من نصف المراهقين في الولايات المتحدة يظلّون على اتصال شبه دائم بالإنترنت طوال 24 ساعة في اليوم، مع إشارات حاسمة إلى أن قضاء أكثر من 5 ساعات يومياً على وسائل التواصل يؤدي إلى حالة الاكتئاب السريري الحاد في 40 في المائة من الحالات على الأقل، لا سيّما بين الفتيات المراهقات.

لقد أغرق ذلك كله الجيل الجديد من مواليد ما بعد 1996 (أو ما يسميه الخبراء بالجيل «Z») في لجة ساحقة من متاعب الصحة العقليّة، فارتفعت بينهم حالات القلق المستعصية (نموذج الولايات المتحدة حيث تتوفر الإحصاءات)، بنسبة 134 في المائة منذ عام 2010، وحالات الاكتئاب الإكلينيكي بـ106 في المائة، وفقدان الشهية العصابي بـ100 في المائة، وحالات نقص الانتباه وفرط الحركة بـ72 في المائة، والشيزوفرانيا بـ67 في المائة، واضطراب ثنائي القطبية بـ57 في المائة، وإدمان المواد المخدرة بـ33 في المائة.

ويعتقد هايدت أن هذه الموجة وبائيّة الطابع وجدت لها أرضاً خصبة في توجه الآباء والأمهات المعاصرين (في الغرب) إلى الإفراط في الإشراف على كل جانب من جوانب حياة أطفالهم خارج الفضاء السيبيري، وتقليص فرص اللّعب الحر في العالم الواقعي أمامهم؛ ما يحرمهم من الخبرات والمهارات التي يحتاجون إليها لتطوير قدر أكبر من المرونة والخبرات اللازمة لمستقبلهم، ويدفعهم بالنتيجة إلى قضاء مزيد من الوقت أمام الشاشات (على تعدد أشكالها)، بدلاً من اغتنام الفرص للتفاعل مع أقرانهم وجهاً لوجه، وفي الوقت الفعلي.

هايدت، الذي يمتلك الشجاعة لإدانة خذلان الآباء والأمهات للجيل الجديد وتركه فريسة لشركات التكنولوجيا المتوحشة دون حماية تذكر، ينتهي، في «الجيل القلق» إلى تقديم قائمة من الحلول التي يراها ممكنة للتعامل مع الأزمة، لكنّه، وتماماً كما يليق بكاتب أميركي من نخبة واشنطن، لا يقترب من اقتراح تغييرات بنيوية تمس أسس المنظومة الرأسمالية التي مكنّت للأزمة، ويكتفي بالدعوة إلى إجراءات إصلاحية، مثل السماح بمزيد من وقت التسكع واللعب الحر غير الخاضع للإشراف المباشر، كي يتسنى للمراهقين اكتساب المهارات الاجتماعية الأساسيّة وبناء ثقتهم الذاتية بأنفسهم للمضي نحو الاستقلال، ومنع حصول الأطفال دون 14 على الهواتف الذكيّة، والمراهقين دون 16 عاماً من التجوال في مواقع التواصل الاجتماعي على الإنترنت.

وهو يرى ضرورة بناء تحالف مجتمع مدني فاعل بين كل من الآباء/ الأمهات ومدارس أنجالهم بحيث يضغط كل من الطرفين على الآخر لتبني سياسات تقلل من تعرض الأطفال والمراهقين لجبروت الشاشات شركات التكنولوجيا، بما في ذلك منع استخدام التلفونات الذكية والكومبيوترات اللوحية الشخصيّة داخل حرم المدارس، وتوفير أماكن لتخزين ما قد يحملونها منها، وذلك لحماية وتعزيز فرص التفاعل الشخصي بين التلاميذ، والتّعلم من التجارب في إطار بيئة آمنة ليصبحوا راشدين أصحاء.

الاستنتاجات في «الجيل القلق» يمكن نقدها دائماً من زاوية تعقيد أمراض الصحة العقلية، وتعدد العوامل التي قد تكون وراءها، ما قد يقلل من حجم مساهمة الهواتف الذكية تحديداً في إثارة المصاعب النفسيّة لدى الجيل الجديد. لكن المؤكد أن تلك الهواتف (والشاشات عموماً) على أهميتها الفائقة للحضارة المعاصرة، لعبت دوراً محورياً في تشويه النمو السيكولوجي لجيل كامل من المراهقين في القرن الحادي والعشرين، وأن صرخة هايدت، الخجولة (لكن المدججة بالإحصائيات والأرقام) لترشيد استعمالها، يجب ألا يتلاشى صداها سريعاً، وإلا كنا شهوداً على تَرْكنا الكوكب في عهدة جيل قلق، ومتأزم.

***

ندى حطيط

عن صحيفة الشرق الأوسط اللندنية، يوم: -8 أبريل 2024 م ـ 29 رَمضان 1445 هـ

بدأ العمل على دراسة المنظومة القيمية في القرآن الكريم في ستينيات القرن الماضي، وذلك مع محمد عبد الله دراز في كتابه «دستور الأخلاق في القرآن»، وتوشيهيكو إيزوتسو في مؤلَّفه «القرآن والإنسان»، وفضل الرحمن مالك في كتابه «المسائل الكبرى في القرآن».. إلخ. وفي تسعينيات القرن الماضي وما بعدها، ازدهرت دراسات القيم في الأديان، تبعاً لمقولة هانس كينغ المشهورة: لا سلام في العالم إلا بالسلام بين الأديان، ولا سلام بين الأديان إلا بالاتفاق على أخلاقٍ عالمية.لقد ارتبط ذلك بما سُمّي موجة عودة الدين، وحينها أقبل فلاسفة ولاهوتيون، مثل بول ريكور وليفيناس وتشارلز تايلور، على إعادة قراءة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، باعتبار أن قيمه في الأصل هي قيمٌ دينية، وأنّه من الأفضل القول بالتداخل وليس بالافتراق والتقاطع.

ثم إنّ الأجواء فيها تحديات كبيرة للنظام الدولي نتيجة المطامح والمطامع، فصارت المقاربة السائدة للمشكلات عن طريق المؤسسات الدولية ليست ذات جدوى دائماً من حيث التقدم باتجاه مواجهة التحديات واستعادة الأمن العالمي والتعايش بين الناس. لتلك الأسباب كلها انطلقت موجة من المقاربات للقرآن الكريم من وجهات نظرٍ قيمية وأخلاقية. والحق أن قيم الرحمة والتعارف والعدالة والسلام ليست غريبةً عن القرآن، بل هي أصيلةٌ فيه. وفي مطالع القرن الحادي والعشرين انصرفتُ مع فريقٍ من الزملاء في مجلة «التسامح» العمانية إلى دراساتٍ في منظومة الأخلاق في القرآن، وتوصلنا بالمتابعة الإبستمولوجية إلى أن مفردات المنظومة فيها: المساواة والرحمة والعدال والمعروف والسلام والخير العام. والاستناد في ذلك إلى مرات الورود في القرآن باللفظ أو بالمعنى، وإلى المواقع في السياق وفي النسيج القرآني العام.

وقد تبين بالدراسات أن كل هذه القيم تواصلية، وأنه يمكن من خلال الفهم الواسع لها إعادة كتابة التفسير القرآني، كما يمكن الاستناد إليها للدخول في حواراتٍ دينيةٍ مثمرة. وكان شيخ الأزهر الأسبق محمود شلتوت يَعتبر أن الجانب الأخلاقي في خطاب القرآن جرت الإفادة منه في الفقه وفي مقاصد التشريع، لكن لم تجر الإفادة منه بعد في المجال القيمي العام، وفي القضايا الأخلاقية الكبرى، لذا فهو يستحق المزيدَ من الاهتمام من أجل كشف أبعاد أخرى واعدة للقرآن. لقد ضربنا مثلاً لذلك بالمفهومين القرآنيين: مفهوم المعروف ومفهوم التعارف.. فالمعروف هو ما تعارف عليه الناسُ واتفقوا أو اصطلحوا على السير وفق قواعده في التآلف وتبادل الاهتمامات والمصالح والعيش المشترك.

وهو في القرآن مفهومٌ عالميٌّ، بمعنى أننا نتشارك مع العالم في الاصطلاح عليه، وعلى هذا المحمل فهو المشترك الإنساني الذي يطل على الأصل الإنساني الواحد، والذي صارت إليه وثيقة الأخوّة الإنسانية التي أصدرها البابا وشيخ الأزهر من أبوظبي 2019. أما التعارف الوارد في الآية القرآنية: «إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا»، فهو يعني السعي التواصلي للمعرفة المتبادلة، والمعرفة تزيل الجهلَ والأوهام، وتصنع الاحترام والمودة. وقد صدرت في الآونة الأخيرة بحوث ودراسات عن مفهوم السلام في القرآن، وهناك دراسات أقدم عن مفاهيم العدالة. لقد صار الملف القيمي في الدراسات القرآنية شديد الأهمية والاعتبار.

***

د. رضوان السيد

عن صحيفة الاتحاد الاماراتية، يوم: 6 ابريل 2024 23:45

 

بعضهم أصبح خطابه شعبوياً يكرر ما يريد أن يسمعه العامة

كتب أُمبرتو إيكو، ذات مرة: «تمنح وسائل التواصل الاجتماعي جحافل من البلهاء الحق في التحدث، وهم من كانوا يتحدثون في الحانات بعد تناول كأس من النبيذ دون الإضرار بالمجتمع، اليوم لديهم الحق نفسه في التحدث مثل الفائز بجائزة نوبل. إنه غزو البلهاء». هذا الغزو حقيقي ولا يزداد إلا توسعاً في عالمنا العربي، فعندما تدخل منصات التواصل الاجتماعي، ستجد أن كبار المثقفين الأكاديميين لا يتابعهم إلا أرقام صغيرة من الأشخاص، وقد يكونون من طلابهم المضطرين لمتابعتهم، بينما يحظى الغاغة بمتابعة الملايين، رغم أنهم لا يقولون شيئاً على الحقيقة. الناس في عالمنا العربي يحبون من يمسد على قناعاتهم ويكرر ما كان يقوله آباؤهم، ولا يحبون من يناقش قناعاتهم ومدى صحتها الأصلية.

لا ترى من هؤلاء النجوم الجدد إلا استماتة على الشهرة تحدو صاحبها على الإمعان في تكريس التفاهة، لا ترى إلا الارتزاق بأي شيء كان، حيث يقوم نجوم التواصل الاجتماعي بأي شيء كان، ومن ذلك القيام بدور المهرج، والضحك من أنفسهم، من باب تشجيع المتلقي على الضحك مما لا يُضحك. ولا يبالون في ذلك بأن الكوميديا فن رفيع وله نجومه، ولا يليق امتهانه بهذه الصورة التي تحاول أن تحوّل الجميع إلى مهرجين.

يقال، هذا ما يريده الناس، فلماذا نقف أمام إرادة المجتمع؟ وكنت سأتفق مع هذه المقولة لولا الأضرار البليغة التي أحدثها هذا الغزو الغوغائي. نجوم وسائل التواصل أصبحوا هم من يوجه العموم، وهم القدوة، وهم من يسعى الشباب إلى الاقتداء بهم، علّهم أن يحظوا بالثراء والشهرة. ونجوم التواصل الاجتماعي لم يكتفوا بدور التهريج، بل امتدوا إلى عالم السياسة فأصبحوا امتداداً لبروباغندا عبد الناصر وإذاعة صوت العرب في الستينات، فصرت ترى المحلل السياسي الذي لم يقرأ كتاباً واحداً في أي فن يناقش القضايا التي أعيت كل حكيم، وماتت الأجيال دون الوصول إلى حل فيها، كالقضية الفلسطينية.

ومن باب منصات التواصل الاجتماعي عادت من جديد خطابات الصحوات الدينية، مستغلة الأحداث المؤلمة في غزة وعنجهية الجيش الإسرائيلي، لتملأ العالم ضجيجاً عما يجب أن نعمله وما لا يجب أن نعمله. مرة أخرى، نحن أمام الغوغاء وهي تحاول أن توجه النخبة. الصحوة / الغفوة التي اندلعت بسبب الثورة الإيرانية وحادثة الحرم وعاشت تراجعاً قوياً في السنوات الأخيرة، عادت لتطل برأسها وتشعل خطاباتها المتقدة من جديد، بعد أن وجدت القضية والمنصة. هم جزء لا يتجزأ من الغاغة التي تؤثر بعمق في مشهدنا الثقافي العربي، وستبقى دائماً خطراً لا يصح التغافل عنه.

قديماً كان يقال إن ثمة فجوة بين المثقفين وعامة الناس، وسبق أن اتهم المثقفون بأنهم يعيشون في أبراج عاجية، وأنهم لا يعرفون مشكلات المجتمع واحتياجاته. هذه التهمة مشكوك فيها إلى حد كبير، فالمثقف هو ابن مجتمعه ويعرفه جيداً، وإن مال إلى العزلة أحياناً، فهذا سببه الرغبة في السلامة من الجنون، في عالم تضج فيه الأصوات بما لا يمكن التعايش معه. غِبْ فترة عن منصات التواصل الاجتماعي حتى يصفو ذهنك، ثم عد واقرأ ما يقولون وستبصر ما أحدثك عنه. العزلة أمر ضروري؛ لأن من يبقى في الدوامة نفسها لا يبصر الخلل، بل يتكيف معه ويصبح عنده الخطأ صواباً، والصواب خطأ، ناهيك عن الأضرار الأخلاقية.

هذا الاتهام بالعيش في قصور من عاج دعا بعض المثقفين إلى النزول لمستوى العامة وانحرف خطابهم، نتيجة لهذا الغزو والتنازل، بأن أصبح خطاباً شعبوياً يكرر ما يريد أن يسمعه العامة. حسناً، كيف سيتطور المجتمع فكرياً وكيف ستحدث المساهمة في نهضة بلادهم إذا غاب النخبة عن دورهم على هذه الصورة؟ المثقفون - رغم العيوب التي لا يخلو منها إنسان - هم ملح البلد، فكيف أصبح مصيرهم على هذه الصورة غرباء «كصالحٍ في ثمود»، بحسب تعبير شاعر العربية أبي الطيب المتنبي؟ لا بد من نقطة التقاء في الوسط تحل مشكلة التواصل وتبقى فيها النخبة نخبة.

***

خالد الغنامي - كاتب سعودي

عن صحيفة الشرق الاوسط اللندنية، يوم: 6 أبريل 2024 م ـ 27 رَمضان 1445 هـ

 

كيف تقدمت الحضارة الحديثة عن غيرها من الحضارات القديمة التي سادت ثم بادت؟!

للإجابة عن هذا السؤال المهم نُشِرت كتب وبحوث، تحاول أن تكشف السر، وتقدم وصفات للآخرين لكي يلحقوا بها. المؤرخ الشهير، نيل فيرغسون، قدّم وصفةً سهلةً وبطريقة عصرية، حيث قال في إحدى مقابلاته إن هناك 5 تطبيقات حمَّلتها الحضارة الحديثة المنطلقة من أوروبا قبل البقية أسهمت في ازدهارها وتقدمها. إذا أراد الآخرون أن يلحقوا بها عليهم أن يحمِّلوا بعضها، ولكن في عقولهم وليس بهواتفهم الذكية.

أول هذه التطبيقات: هو الثورة العلمية، أو لنقل التفكير العلمي. سبقت أوروبا أمماً كثيرة في تبني التفكير العلمي، حتى لم يعد هناك منافس لنيوتن وغاليليو في عصرهما. العلم نقل العالم من «المرحلة السحرية الخرافية»، حيث لم يكن الإنسان مسيطراً على حياته إلى «المرحلة العقلانية»، التي جعلت الإنسان يثق بنفسه وقدراته ويملك الجرأة ليس فقط لتفسير الفضاء، ولكن لغزوه. بعد أن كان هامشياً والأشياء تحدث له من دون سيطرة منه، أصبح هو محور الكون والمتحكم بمصيره. لقرون طويلة كان الإنسان يدور في دائرة مغلقة مظلمة، تعيده كل مرة إلى النقطة نفسها. يسافر على البغال، ويشرب المياه المتسخة، ويموت من أتفه الأمراض. تبني التفكير العلمي غيَّر كل شيء. تخيلْ لو أن الثورة العلمية لم تتحقق! لكنا الآن نعاني من سوء التغذية، ولا نعرف لماذا يدور حولنا القمر، ولقضى علينا وباء «كوفيد»، الذي تمت محاصرته بوقت قياسي. ونعتقد بأن الأرض مسطحة نخشى الاقتراب من حوافها الحادة حتى لا نسقط في الفراغ. استطاعت الحضارة الحديثة أن تسبق الجميع في العلم، وهذا ما جعلها تتقدم وتزدهر في خط متصاعد.

التطبيق الثاني: هو الثورة الطبية. وهذه مرتبطة بالتفكير العلمي. منذ اكتشف الغرب أسباب أمراض، مثل: الكوليرا والطاعون وكيفية معالجتهما، وذلك في نهاية القرن التاسع عشر، وحقق ثورةً كبيرةً أطالت عمر الإنسان. الأمراض ليست لعنات، بل يمكن أن تكافَح بالدواء وتعالَج بعد أن كانت معدلات الأعمار في الأربعينات امتدت لتصل السبعينات، ومن المؤكد أن تواصل الثورة الطبية تقدمها لتعيش أجيال قادمة إلى ما بعد الـ100 بكامل صحتها. من دون الدواء من المتوقع أننا لن نكون على قيد الحياة هذه اللحظات؛ لأن الأوبئة ستكون قد فتكت بأجدادنا في سنوات شبابهم.

التطبيق الثالث: المنافسة الاقتصادية أو الرأسمالية. أوروبا، لأسباب اجتماعية داخلية، منها التنافس الداخلي بين النبلاء والساسة ما شكَّل حالة من التوازن القوي، الذي فتح المجال لتشكُل مناخ من الحرية الاقتصادية. ولأسباب جغرافية، حيث تخترق الأنهار أوروبا، وأصبح من الصعب أن يكتسح جيش كامل المناطق على عكس الصين المنبسطة جغرافياً. شجَّع اختلاف التضاريس نشوء دويلات وممالك من الممكن أن تقوى سياسياً وتزدهر اقتصادياً من خلال التجارة من دون أن تتعرض للاختناق. ولهذا يقال إن الليبرالية سبقت الديمقراطية في أوروبا، وهي السبب الأساسي الذي مهَّد الطريق لتأسيس ديمقراطية صحية استمرت حتى هذا اليوم. فكِّر بالحرية السياسية والثورة العلمية والصناعية وستكون بعدها الرأسمالية نتيجة متوقعة. ولهذا بدأت في أوروبا وليس في أي مكان آخر. ومن هنا نفهم لماذا نبع شعور المواطنة من تلك البقعة تحديداً، لأنها نشأت بسبب المُلاك والنبلاء الباحثين عن تمثيل عادل لهم، وتشكَّل بعدها العقد الاجتماعي، وما يتضمن من حقوق وواجبات، ولأنهم يبحثون عمّن يحمي حقوقهم الاقتصادية ومن دون خوف على استثماراتهم، لهذا أصروا على وجود حكم القانون الذي تطور بعد ذلك. الرأسمالية وحكم القانون وأسس المواطنة كلها اجتمعت هناك وشكّلت خميرة حضارية متميزة أنتجت كعكة الحضارة الحديثة التي نعرفها اليوم.

التطبيق الرابع: هو نشوء المجتمع الاستهلاكي، وذلك مع بداية صناعة النسيج. هذه الثورة جعلت الإنسان يشعر بأن طقم ملابس واحد غير كافٍ، وهو بحاجة دائماً إلى التبضّع والشراء، وهذا يعني ازدهار السوق. تطور هذا الأمر وأصبح الاستهلاك مسألة أساسية في حياتنا من السيارات حتى الآيفونات. سواء أحببت أم لا تحب أنت كائن استهلاكي، حتى أولئك الرهبان في جبال التبت لا يمكن أن يخرجوا عن هذا الواقع. وبسبب هذا تشكّل مفهوم المال ليكون هو المحور الذي تدور حوله الحياة. لا يوجد موظف واحد في العالم يقبل أن تحول راتبه الشهري إلى مواعظ أخلاقية أو أغنيات رومانسية. يريد مالاً آخر الشهر، لكي يصرفه وهكذا أصبحت الحياة.

التطبيق الخامس: قيم العمل القوية والراسخة في المذهب البروتستانتي، وتحديداً في نسخته الكالفينية. الكد والعمل ومراكمة الثروة من علامات الرضا على العباد، وليس سخطها كما كانت تعظ العقيدة الكاثوليكية، التي فضّلت العالم الآخر على الحياة الدنيا. العمل يعني الإنتاج، والإنتاج يعني النجاح والتطور. وبسبب تقديس ثقافة العمل ازدهرت في أوروبا الغربية الساعات الصغيرة للمرة الأولى في التاريخ. معرفة الوقت مهمة للانضباط والالتزام. اليوم له معنى اقتصادي، وليس فقط أن شمساً تغيب اليوم وتشرق غداً.

كل هذه التطبيقات أسهمت بتطور الحضارة الحديثة التي نعرفها اليوم، وهي تطبيقات لم تكن كلها موجودة سابقاً. كم سيكون جميلاً لو كان بإمكاننا الذهاب لـ«App Store»، وتحميلها في لحظات.

***

د. ممدوح المهيني

نقلا عن صحيفة الشرق الاوسط اللندنية، يوم: الجمعة - 26 رَمضان 1445 هـ - 5 أبريل 2024 م

 

تتحول عند البعض إلى زيغ ينبغي التستر على معالمه

ليس للكتابة لون مرئي إلا على جهة المجاز، وإن تجلى الحديث عن النصوص دوماً ممهوراً بمقامات الضياء وتدرجات البياض والسواد والزرقة والحمرة والاخضرار... مثلما أن جعل الكتابة مقترنة بسلوك الكائن تظهر، بمنحى ما، سعي النقاد إلى إدراك مغزى التداول، في محدوديته أو في انتشاره وصولاً إلى تسلطه. وفي الأساس قد تقترن الكتابة بالهروب من الكلام، والتصريح بالمشاعر والأفكار أمام الملأ. فنون بكاملها نشأت لمداراة الحياء من القول المباشر، من الغزل إلى الهجاء إلى السيرة إلى روايات العواطف والجسد... تغدو الكتابة هنا حجاباً يستر ذات المتكلم الذي يحس نفسه عارياً أمام متلقيه حين ينطق ويحاور، وكأنها شيء مستقل أو يتعلق بذات أخرى لن يسلط عليها الضوء. فهذا الأخير تحديداً هو ما يؤرق المبدعين ويولّد رهاب الوجود خارج الورق. ويمكن الحديث عن روائيين وشعراء وقصاصين ونقاد مأخوذين بالظلال، لدرجة أن فعل الكتابة يتحول لديهم إلى زيغ تنبغي مداراته، والتستر على معالمه، أو على الأقل يجب أن يبقى مفصولاً عن وجودهم الاجتماعي. لهذا قد يواجه المرء في مجتمع القراءة نعتاً من قبيل «انعدام الحياء» بوصفه معادلاً للتولع بالظهور، مع قصور في الإنجاز وتسرع في النشر، فضعف القيمة متصل، للمفارقة، بالشجاعة والجرأة، إذ الكتابة السيئة مقدامة في عمقها لا تخيفها الأحكام ولا تضيرها الفضائح. والكاتب السيّئ وحده من يتقن العيش خارج الكتابة بادعائها، وربطها بشروط تعوّم قيمتها وتحتفظ فقط بمظاهرها الخارجية، التي تذلل المنابر والشاشات والمنصات.

في المقابل، يمكن استحضار التمنع (العبثي) الذي يبديه روائيون ونقاد وفلاسفة وشعراء في الاستجابة لحفلات التوقيع والحديث عن تجاربهم، يجب تفهم التمنع، بوصفه خوفاً من فقدان الهالة المتصلة بالخفاء، وصوناً لرمزية الاسم من جبروت الضوء والعلن، وللكتابة من التحول لاحتفال حارق، شيء لا علاقة له بالتعالي أو قلة الذوق. إنما هو الرغبة في عيش الكتابة داخلياً ورمزياً. لهذا يجب تفهم ذلك العنف التلقائي غير المؤذي الذي يرافق سلوك الكاتب الحي، فهو يداري في العمق هشاشة راسخة ليس منها برء، في محيط معادٍ للكتابة. ولا غرابة أن يحوله أحياناً إلى كائن خطر. وكأنما العنف قرين الخفاء وصنوه ومجنّه في الحياة والإبداع، ذلك ما يلمس من سير جان جنيه ويحيى الطاهر عبد الله وغالب هلسا ومحمد شكري وسركون بولص، ممن صيغت جبلتهم من سبيكة هشاشة وعنف.

وجود الكاتب في مشهد توقيع أمر قد يدعو للارتياب في القيمة؛ طاولة وقلة من المنتظرين لدورهم في مكتبة أو قاعة ندوات، بخلاف حفلات افتتاح المعارض الفنية، المكتسحة بالأضواء. يوحي الأمر وكأن التقاطب نهائي، والمكانة ظاهرة لمن له القدر المعلَّى في مجتمعات السلطة؛ لكن بإنعام النظر في تفاصيل المشهد يتضح أن الصورة خادعة إلى حد كبير، بالنظر إلى مصائر المتوسلين بالمكتوب من جهة والمرئي، من جهة ثانية، في مدارات السطوة والتجلي. حيث ظلت الكتابة طموحاً مؤرقاً لكل الحكام، وموهبة يتوق إلى الظهور بها الديمقراطيون والمستبدون، الحكام والمعارضون. في الآن الذي لم يكن فيه الانشغال بالرسم يشكل رهاناً متصلاً بممارسة السلطة. فغير بعيد عن المسجد الأزرق في إسطنبول، وضمن عشرات المقابر المنجمة في المدينة النائمة على أديم من أجساد الجنود والسلاطين والتجار والحرفيين الناطقين بلغات الشرق المتعددة، توجد مقبرة لا توحي بأهمية ما تحتضنه من لحود، في المدينة الموزعة بين تخوم الشرق والغرب. لكن لوحة مثبتة عند المدخل تشرح أنها تخص كتاباً أتراكاً، وبدخولك إليها وتجولك بين مقابرها ستكتشف أن كل الأسماء المخطوطة على شواهد القبور هي لـ«باشوات»، أو بالأحرى «كتّاب باشوات»؛ قادة في الجيش وموظفون سامون وسفراء، ووزراء في حكومات السلاطين. وفي مقابل هذه المقبرة نعثر على عشرات اللوحات في قصور السلاطين، بورتريهات ولوحات لمناظر طبيعية وقصور... وأحياناً لا نعرف حتى اسم الفنان الذي رسمها، يمكن أن يكون شخصاً صاحب حظوة كبيرة لدى السلطان، ويمكن أن يحوز قدراً كبيراً من الثراء، لكنه يظل رغم ذلك مغموراً. تُذكّر هذه التفاصيل بوظيفة شديدة الأهمية في بلاطات الملوك الأوروبيين إلى حدود القرن التاسع عشر، هي «رسام الملك»، التي شغلها عدد كبير من مشاهير الفنانين، لعل أبرزهم الإسباني فرنسيسكو غويا الذي كان رساماً لفرناندو السابع، لكنه لم يكن يتطلع إلى أي دور غير أن يخلد اسمه في أعمال تبجل القصور وعوالم ضيائها المبهرة، ولم ينشغل مثل ابن خلدون أو المتنبي ومئات غيرهما بالجلوس على كرسي الأمير ذاته.

لكن، في المقابل، ستبدو الكتابة ملتبسة بالسواد، وبالمصائر السوداء، مثلما يلتبس المعنى بالأعماق الموحشة. والشيء المؤكد أن الأمر لا يتعلق بأي نزوع عرقي، أو عنصري، حين تسعى مختلف التعابير الروائية والمسرحية والشعرية إلى التعلق بالمضمرات والزوايا المعتمة، وتلك التي لا تحتمل الأضواء أو البياض، لكن تشوفها الدائم إلى استخدام الأقنعة يجعل الأدب متصلاً في وجوده بجدل لوني، حيث الالتباس يكسب الحقائق وجوها عديدة، لهذا فحتى حين ننظر إلى السواد بوصفه الوجه الظاهر للحروف والكلمات، لحظة رسمها بالحبر على الورق، فإن حقيقة تطلعها إلى البياض والإشراق يبقى انشغالاً وجودياً وغير محدود في الزمن.

لكن السواد الأدبي، بوصفه قدراً محزناً، وهوية لا تبعث على الارتياح، لا ينحصر في عتبات الحبر والقاع المظلم والمعنى الباطني، وإنما يتخطاها إلى السريرة النفسية غير السوية، والعدوانية تجاه ما يوجد خارج لحائها بمعنى ما، وإلى العواطف الدالة على نزوع شيطاني؛ فما يمكن أن نسميه تجاوزاً بـ«الشر الأدبي» هو جزء من إنسانية الكتابة، وهو ما يميزها عن الخطابات الطهرانية والسرديات المقدسة، فلا يمكن أن نعزل الرواية الحديثة عن السعي المتأصل إلى تصفية الحساب مع المحيط والمجتمع والذاكرة واللغة أيضاً، فما البلاغة الروائية في النهاية إلا تحايلاً وتلاعباً بالأصوات، وإيهاماً وإثارة وسخرية، وسعياً للإقناع بوجهة نظر فرد بصدد جماعة. السواد والسوداوية والشر الأسود في هذا السياق مكونات جوهرية، في التعبير الروائي، ما دامت مهارات التمثيل والتخييل والتصوير تستند في اشتغالها على مثالب شخصية قد تبدأ بولع الاغتياب ولا تنتهي بتأصّل الحسد، في مقام نثري قد يبدو وقوراً؛ فلا قدرة إبداعية لتبيين الوجود «مع» أو «ضد»، دون ضغائن تجاه العالم.

وجود الكاتب في مشهد توقيع أمر قد يدعو للارتياب في القيمة - طاولة وقلة من المنتظرين لدورهم في مكتبة أو قاعة ندوات

ومنذ مجتمع بيزنطة الذي أُحرقت فيه كتابات الراهب آريوس، ومُنِعت من التداول، ظهر للوجود تدريجياً ما سُمي بـ«القوائم السوداء»، ولم تنفصل ما تضمنته من إرادة منع ونبذ ومصادرة، منذ بداياتها المبكرة تلك، عن مجال الخفاء؛ فالقوائم السوداء، سواء أكانت لأشخاص أو لكتب، لا تُعلن على رؤوس الأشهاد، وإنما تظل في الغالب تشتغل في العوالم السرية، ينكرها واضعوها، ويسعون إلى تعميمها في العتمة، على نحو شبيه بإطلاق الرصاص عبر كاتم صوت.

القوائم السوداء قاعدة أساسية في مجتمع الأدب، وليس القصد هنا، فقط، تلك القوائم الرسمية التي تضعها الأنظمة التسلطية ببلاهة، لمحاصرة أعمال محددة ومنعها من الانتشار، من مثل «آيات شيطانية» لسلمان رشدي أو «أولاد حارتنا» لنجيب محفوظ أو «أرخبيل غولاغ» لألكسندر سولجنيتسين، وإنما تلك الإرادة الجماعية التي تمنع أسماء وتيارات ومفاهيم من التداول، تلك الرغبة في إشاعة الصمت تجاه كتابات حقيقية، وجعلها رهينة الدهاليز المعتمة، لأسباب متصلة بالأهواء والعواطف، إنها الإرادة التي تجسد الوجه المعلن لـ«السواد الأدبي».

***

د. شرف الدين ماجدولين

عن صحيفة الشرق الاوسط اللندنية، يوم: 31 مارس 2024 م ـ 21 رَمضان 1445

 

لو تخيلنا حزمة من الاستعدادات الذهنية، وحقيبة غنية من المؤونة الأخلاقية، تُضاف إليها مسألةٌ مّا نابضة نشطة يحملها كل منا في صدره، تلح عليه مرةً تلو الأخرى بالسكون والطمأنينة الدينية.. نستطيع هنا أن نلخص معنى أن تكون إنساناً. وهذا لا يعد من قبيل الاختصار أو التهويل حول ما ذكر ولا التهوين مما لم يذكر، وإنما هو محاولة تفكيكية إيضاحية لجل ما تقوم عليه كينونة الوجود الآدمي، ما لم يتعكر بمنغصات أو انحرافات دخيلة. والاستعداد الذهني هو الهبة الربانية التي تعني قدرة الأفراد على التصرف والإدراك والاحساس من خلال سيالات عصبية بالغة الدقة، تتحد مع شتى الأعضاء البيولوجية من أجل الوصول لأدق منتوج سلوكي أو معرفي جديد.

أما فيما يتعلق بصمام القيم الذي يمثل الوجود السوي الأكثر نفعاً للإنسان، فهو يتأثر بنضوج تلك الحمولة القيمية، وينطلق من التأسيس الفطري لها، إذ ترفض الفطرة الإنسانية السوية والنقية كافةَ نقائض الأخلاق ومعكوساتها، ولو تجملت!

أما النزوع إلى الدين فهو ميل أو توجه روحي غير متقيد بالجسد، وإن كان الجسدُ أداةَ تحقيق الغايات الإنسانية عملياً.

والإمعان في تلك الأسس الثلا، أي العقل والقيم والدين، يتضح أنها تمثل «تركيبة» متجانسة تنتمي لها جلُّ النجاحات والإخفاقات في تاريخ المجتمع البشري، ولكل منها تسلسل وهيكلة لا يمكن عزلها عن الدين أو الحاجة إليه. فالعقل، وإن كان يرغب في إطلاق عنانه وإشباع جماحه الفائر، فإنه إن لم يهتد بالوحي انقلب من عقل مفكر رشيد إلى سلوك مدمر. وهنا تتجلى الأطروحات التي تحث على الاستزادة المعرفية وعلى التفكير والتفكر دونما شطط في استخدام العقل أو إهدار لطاقاته في ما يضر.

وعن القيم ومؤنساتها الأخلاقية التي تضيف البهجةَ والمعنى للحياة، فإنها وإن كانت عامة وفطرية وسابقة للدين فهي تظل قاصرة وبحاجة لما يتممها ويشحذ حوافها. وبالتالي فإن الدين حلقة وصل متينة تؤدي للتطوير والقوة والاستمرارية المبنية على أسس ثابتة صلبة.

ومما يجدر ذكره في هذا المقام أن كل ما يجري تدارسه وتناقله، وإن عُدَّ متفرداً أو أصيلاً، فلا بد من الإشارة لانتمائه وإلى ما هو أساسي في تكوينه وترعرعه، من مرجعية تاريخية ودينية واجتماعية وثقافية، وبالتالي تظل هناك آفاق طولها كطول أشعة الشمس، ممتدة كثيرة العطاء، دافئة ومهمة.. لكن انكسارها على الأجسام، أو تبدل قوتها وشكلها لا يمثل حقيقتها المطلقة، ولا يعني صيغتها الأخيرة. وبالتالي علينا دائماً الإصغاء للصورة الفلسفية الأولى، من دون تردد في مد البصر لما يختبئ وراءها، وما دفع بها لتطفو على السطح.

***

د. محمد البشاري

عن صحيفة الاتحاد الاماراتية، يوم: 3 ابريل 2024

 

لا أحد اليوم ينكر أن الفكر الليبرالي يعيش أزمة نظرية ومجتمعية عميقة، تبرز في صعود النزعات الشعبوية والقومية المتطرفة من داخل الأنظمة الديمقراطية الليبرالية نفسها، إلى حد أن فريد زكريا تحدث منذ سنوات عن انبثاق «الديمقراطيات غير الليبرالية» في قلب العالم الغربي.

ولم تفتأ الكتابات تتزايد في الآونة الأخيرة حول أزمة الليبرالية، ومن أهمها كتاب للفيلسوف البريطاني «جون غراي» تحت عنوان «اللفيتانات الجديدة: أفكار ما بعد الليبرالية»، وكتاب آخر للمؤرخ الأميركي صامويل موين بعنوان «الليبرالية ضد نفسها»، وقد خصصت لهما الباحثة المختصة بالمسألة الليبرالية «هيلينا روزنبلات» مقالةً نقديةً مهمةً في العدد الأخير من مجلة «فورين آفيرز» الأميركية (مارس - أبريل 2024).

ما يتفق فيه المؤلفان هو أن الليبرالية تعيش أزمةً خانقةً من داخلها، ولكنهما يختلفان جوهرياً في تشخيص أسباب وخلفيات هذه الأزمة واستشراف آفاقها ومآلاتها. فغراي يعود بنا إلى بدايات الحداثة السياسية، ويحيل في كتابه إلى هوبز الذي تصوّر الدولة في شكل حيوان أسطوري متوحش (اللفيتان) تقتضيه طبيعة الإنسان الأنانية وميله الطبيعي إلى العنف والتسلط. ومن ثم فإن الليبرالية، وإن ادعت الاستناد إلى قيم الحرية والإنسانية الكونية، فإنها في الحقيقة تتأسس على القهر والتحكم وإخضاع الفرد لسلطة الدولة الاستبدادية.

إن مصدر هذا الانزياح بين المبدأ والواقع هو ما سماه غراي وهمُ تلازم الحرية والسوق وما يترتب عليه من ارتباط التحرر السياسي وانتشار المنظومة الرأسمالية الكونية، في الوقت الذي يَظهر أن منطق السوق أفضى في العالم المتطور، على اختلاف أنظمته السياسية، إلى حالة متجذرة من التفكك الاجتماعي والانهيار المؤسسي هي البيئة الملائمة للاستبداد والتسلط الأعمى.

ومن بين المصادرات التي كرسها هذا «الوهم»، حسب غراي، النزعة الإنسانية التي أفضت إلى النظرة التراتبية الإقصائية لبعض أنواع البشر والمجموعات، وفكرة التقدم التاريخي المفضي لتحسن النوع البشري، والاستثناء الغربي بمعنى الإيمان بأن الإنسان الغربي ينفرد بكونه يعيش في مجتمع حر.

والحال بالنسبة لغراي أن المجتمعات الغربية في ظل التحولات التقنية والاقتصادية الراهنة، لم تعد مجتمعات حرة، بل أصبحت عاجزة عن إنقاذ الحضارة التي بنتها وعن تأمين كرامة وحرية الإنسان داخلها، وبذا فهي لا تختلف نوعياً عن بقية المجتمعات الأخرى في العالم. والخلاصة التي يصل إليها غراي هي أن الفكرة الأصلية المؤسِّسة للمنظومة الليبرالية ليست الحرية وإنما الحاجة إلى الدولة القومية الحارسة والراعية، ولقد تحولت هذه الدولة تدريجياً في الغرب إلى نظام تحكمي قهري، في الوقت الذي انحسرت آليات التوازن التي ضمنت في بعض المراحل الحريات العامة والفصل بين السلطات.

أما مقاربة موين فتختلف عن هذه الأطروحة، ذلك أنه يميز بين الليبرالية الأصلية التي راهنت على فكرة التقدم الإنساني وبلورت معايير وأدوات التحرر الفردي والجماعي، وبين ليبرالية الحرب الباردة التي كانت أقل تفاؤلاً من حيث رؤيتها السلبية للحرية وتبنيها للسلطة المطلقة للدولة، مما أدى بها إلى السقوط في فخ النزعات النيوليبرالية والمحافظة الجديدة التي هي في تعارض جذري مع الأفق الليبرالي الحقيقي.

ومن الواضح أن هيلينا روزنبلات في تعليقها على الكتابين تتبنى بقوة الأطروحة الليبرالية الكلاسيكية، وترفض المقاربة الهوبزية التي ينطلق منها غراي، وتعتبر أنها لا تدخل في نطاق الفكر الليبرالي الحديث، بل تكرس التصورَ التسلطي الإطلاقي للدولة، كما أنها تتمسك بخيار الإصلاح الليبرالي الداخلي من أجل إخراج المجتمعات الصناعية الغربية من مأزقها السياسي الذي لا غبار عليه.

ما يتعين التنبيه إليه هنا هو أن مقولة الليبرالية بقدر ما تعبر عن حقائق تاريخية موضوعية، تغطي على رهانات إشكالية معقدة عاشتها المجتمعات الغربية الحديثة. ولئن كان من الصحيح أن الأطروحة الليبرالية قامت على مثال التقدم والتحرر الإنساني بما اقتضى لاحقاً وضعَ النظم المؤسسية الكفيلة بتجسيد هذا التحرر، إلا أنها عاشت منذ البداية مفارقة الحاجة المتزايدة للدولة من أجل تكثيف الحريات الفردية في استقلال عن السلطة المركزية.

ومن هنا أدت مرجعية السيادة المطلقة للدولة وظيفتين متعارضتين: تحرير الفرد من قبضة السلطات المجتمعية المتحكمة في وعيه وحريته من خلال ربطه بالكيان العمومي المجرد، وتقليص هوامش استقلاليته وحريته من خلال نظام الضبط الشامل والتحكم الرخو الذي أطلق عليه الفيلسوف الفرنسي ميشال فوكو عبارة «السلطة الحيوية».

ومن هنا نخلص إلى أن أزمة الليبرالية الغربية لها جذورها البعيدة، وإن كانت لها تجلياتها الراهنة التي تعكس واقع وتطور المجتمعات الصناعية الرأسمالية الحالية.

***

د. السيد ولد أباه - أكاديمي موريتاني

عن صحيفة الاتحاد الاماراتية، يوم: 1 ابريل 2024

 

الأخطر من العمل الإرهابي هو التفسيرات المغلوطة التي تعقبه. خطيرة لأنها لا تعالج الإشكالية، وتتحول بسرعة تبريراتٍ توفر الغطاء العقلي والمنطقي للإرهابيين الصاعدين. إن كنا طيبين سنقول إنها تفسيرات تقال بنية حسنة، ولكن علينا أن نكون متشككين وحذرين عقلياً، لنكتشف على الفور خطورتها. القليل المحمود من سوء الظن سيجعلنا أيضاً ندرك أن بعض من يرددونها لا يبحثون عن تفسير وتحليل للظاهرة، ولكن الهدف هو خلط الأوراق وتشتيت المتابعين. وهذا ما حدث بالضبط في هجوم موسكو الدموي وأحداث سابقة، وسيتكرر بلا شك مستقبلاً.

سأذكر 7 تفسيرات خطيرة يتم تداولها باستمرار بعد كل عمل إرهابي، أرى من المهم نقض منطقها تماماً حتى لا يعاد تكرارها.

التفسير الأول يقول إن الفقر سبب الإرهاب، ولكن قادة الإرهاب من الأثرياء أو المرتاحين مادياً. من بينهم أطباء، ومهندسون، ورجال مال وأعمال. حاجتهم إلى المال ليست بكل تأكيد خلف انضمامهم إلى هذه المنظمات، ولكن عقولهم وإيمانهم اليقيني بالمهمة التي يضحون من أجلها. الفقراء أيضاً ليسوا إرهابيين ولو كان هذا صحيحاً لرأينا الملايين من البشر تحت خط الفقر يتحولون قتلة وانتحاريين. قد يقول أحد إن الفقر قد يكون عاملاً في التجنيد وربما هذا صحيح، ولكن من دون فكر متطرف لن يتحول فقير واحد انتحارياً يقتل الناس بدم بارد، ولكن سيتحول سارقاً أو مختلساً وبالتأكيد سيكونون على هيئة أفراد أو عصابات سطو محدودة وليس جماعات بالآلاف من الكوادر والمتعاطفين. ولكن وجود الفكر المتطرف هو محركهم الرئيسي. وكم هو مسيء ومعيب أن نلوم الفقراء الكادحين على كل شيء ونلقي عليهم التهم. التطرف والإرهاب هما لعبة الأثرياء ويدفع ثمنها الفقراء للأسف.

التفسير الثاني يقول إن سبب الإرهاب عدم قدرة الشباب على الاندماج في المجتمعات الغربية (أو الروسية)، فيقوم هذا البريء المهمش بسرقة أقرب شاحنة ويدهس البشر في الأسواق. تفسير خاطئ؛ لأن جماعات وأفراداً كثراً يتعرضون للتهميش والإحباط، ولكنهم لا يتحولون قتلة. قد يصابون بالجنون أو الإحباط أو ينتحرون، ولكن لا ينحرون غيرهم. لماذا لا نسمع أن مهمشاً صينياً ارتكب عملية إرهابية في دولة غربية؟ ولماذا لا نرى جماعة «داعشية» هندية تقطع الرؤوس؟ السبب يبدو واضحاً. الثقافة المسكونة بعقولهم لا تحرّضهم ولا تشجعهم على هذا. هناك وسائل أخرى للاعتراض على التهميش، إحداها العزلة عن العالم والاعتراض عليه ونقده والسعي لتغيير الواقع وليس جز الرؤوس بالسكاكين.

التفسير الخطير الثالث أن الإرهاب هو ردة فعل على الغزو الغربي العسكري والثقافي لديارنا وما يقوم به الإرهابيون ردة فعل على هجوم المدنية المباغت على مجتمعات تقليدية. مع تجاوز المغالطة الأخيرة إلا أن الرد البسيط على هذا التفسير الخطير هو لماذا إذن يقتل الإرهابيون المسلمين أكثر من غيرهم وفي بلاد المسلمين؟ ولماذا يقتل شاب أمه التي ربّته؟ هل هي مثلاً جاسوسة للجيوش الغربية وتسهل مهماتهم لغزو بلاد المسلمين، لهذا استحل هذا المجاهد المراهق إزهاق روحها؟ الغزو الذي يتحدثون عنه هو الاندماج الثقافي والحضاري الذي مزج الشرق مع الغرب، وأصبحت ترى في شارع واحد مئات الجنسيات والأديان التي تشكل الهوية العالمية الجديدة. منتج حضاري يحوله داعية كراهية (يعيش في الغرب أحياناً) معصية وذنباً يستخدمهما وسيلةً للتجييش والتحريض في خطبه ومحاضراته وأحاديثه الملغومة على حساباته. يستخدم فيه مصطلحات مثل «المؤامرة» و«الاستعمار» و«الغزو» و«الحداثة». في كل مرة تسمع هذه الكلمات تحسس رأسك.

التفسيرات السابقة ثقافية، أما الرابع فتفسير طبي. المبرر يتحول معالجاً نفسياً، ويشخّص حالة الإرهابي بالمجنون أو المختل النفسي والمصاب بالذُّهان. تفسير مغلوط لأنه يحيل المسألة الإرهابية كلها قضية جسدية صحية فردية، حيث يعاني الإرهابي مشكلة في عقله؛ لذا يقوم بأعمال لا يصدقها إنسان عاقل. الجنون هو المذنب، إذن الثقافة بريئة. يريدون منا أن نجد الحل في المستشفيات والصيدليات، ونشتري أدوية مضادة للإرهاب، ونُقعد الإرهابيين على أسرّة المعالجين النفسيين، حيث يفضفضون عن أحلام الطفولة المكبوتة التي جعلت منهم قتلة محترفين باسم الدين. تفسير ذكي ومخادع بالوقت ذاته.

التفسير الخامس السياسي، حيث يقول البعض إن الإرهابيين دعاة حرية وديمقراطية. بسبب الكبت السياسي ورغبتهم في البرلمانات فجّروا غضبهم في أجساد الأبرياء. يقولون افتحوا المناخ السياسي وسيضعف تلقائياً العنف. سنصدق مثل هذا الادعاء إذا كان زعماء الإرهاب والدماء من الظواهري إلى البغدادي يقتبسون من كتابات جيفرسون ودي توكفيل، ولا يرددون دعوات مفتوحة لسبي النساء وقتل الرجال.

التفسير السادس هو التفسير الجنائي. يوصف الإرهابيون بالمجرمين، وهذا خطأ فادح. هناك فرق بين المجرم والإرهابي. المجرم على عكس الإرهابي، لا ينطلق من خلفية فكرية تبرر له فعلته. لا يوجد سارق أو مغتصب يتقرب إلى الله بسرقته على عكس المتطرف. عندما نقول مجرم فإن المسألة كلها تتحول جنائية ولا يمكن أن تحل؛ لأن المجرمين عرفوا منذ بدء الخليقة، وسيعيشون معنا إلى يوم القيامة. تفسيرات مرتكبي الجريمة تعود إلى السلوك الشخصي أو التربية وليس إلى قناعات دينية.

التفسير السابع والأخير وهو أخطرها يعبّر عنه بجملة واحدة متكررة تقول: «ليس لدي تفسير». تقال تعبيراً عن الصدمة العاطفية، ولكن هذه تنازل سلبي واختياري، وخطورته أنه يترك الساحة للمخادعين لينشروا الإشاعات والتبريرات المغلوطة حتى تضيع دماء الأبرياء على شماعات وهمية. التطرف هو التفسير الأول للإرهاب، وهو نفسه التفسير الأخير. هل يوجد إرهابي واحد لم يكن متطرفاً سابقاً؟ هل يوجد إرهابي واحد استيقظ من النوم فجأة وقرر أن يقتل الأبرياء في الأسواق؟ الإجابة عن ذلك لا ولا، ولكن الثقافة المتطرفة صنيعة جماعات الإسلام السياسي تشرّبها المنفذون منذ الصغر وهي من أوصلتهم إلى نقطة الانفجار. كل الأطفال مخلوقات سوية نقية، ولكن تركهم يترعرعون (كما يحدث مع الإرهابيين المراهقين) في ثقافة كراهية وستلوثهم وتحولهم وحوشاً. وهم رغم بشاعة ما فعلوه ضحايا قبل أن يكونوا مذنبين. لنتخيل أنهم وُلدوا في بيئة وثقافة مختلفتين تماماً تدعوان إلى التسامح الديني والاندماج الإنساني، من المؤكد أنهم سيسلكون مسارات حياتية ومهنية مختلفة تماماً عن توظيفهم بسهولة لقنص الأبرياء وحز رقابهم وتركهم ينزفون بلا رحمة.

***

د. ممدوح المهيني

عن صحيفة الشرق الاوسط اللندنية، يوم: الجمعة، 29 مارس 2024 - 19 رَمضان 1445 هـ.

 

تجلياته الخلاقة رفدت الأدب والفن بالكثير من الأعمال

ليس بالأمر المستغرب أن يكون الحب ببعديه الجسدي والروحي أحد المناجم التي لا تنضب للإبداع، وأن يرفد الشعر والأدب عبر التاريخ بأكثر النصوص صلةً باضطرام القلب والشغف المحموم والتوهج التعبيري. وسواء كان إيروس طاقةً منبثقةً من الداخل الإنساني، كما ذهب البعض كهوميروس وفرويد، أو كان وحياً يرمي بسهامه الجارحة أناساً بعينهم، كما ذهب آخرون، فإن هذا الخليط الغريب من العسل والسم، كان ولا يزال قادراً على حقن متعاطيه بقدر غير قليل من أمصال الكتابة والتخييل والخلق الفني. وهو أمر تعود أسبابه إلى السلطة المطلقة للمعشوق، الذي لا يترك لعاشقه المتوله سوى اللجوء إلى الإفصاح عما يعتمل في أحشائه من المشاعر الجياشة، وأن يحول الآخر الذي تعذر امتلاكه إلى مُنادى بعيد في برية الفقدان.

وإذا كان فرويد قد ربط بشكل وثيق بين الحب والدافع الجنسي، فإنه أكد في الوقت ذاته على أن جزءاً غير قليل من نيران الرغبات العشقية يمكن «تصريفه» بواسطة الأنا الأعلى عبر الأدب والفن وسائر ضروب الإبداع. وقد استعان فرويد لإثبات بعض مقولاته في التحليل النفسي واللاوعي بروايات دوستويفسكي. وفي إثباته لعقدة أوديب لجأ إلى هوميروس، كما لجأ في أماكن أخرى إلى شكسبير، وإلى شخصية هاملت على وجه الخصوص.

ومع أن علاقة الحب الطبيعية هي علاقة تبادلية تتم على المستويين العاطفي والجسدي بين شخصين اثنين، فإن العاشق وفق رولان بارت هو وحده الذي يتكلم ويناجي نفسه، أما المعشوق فلا ينبس ببنت شفة. ولأنه في حالات الاستعصاء والتعذر، كما في «آلام فرتر» لغوته، مرصود للترحال والهرب والهجرة الأبدية، فإن العاشق الثابت والذاهل عن كل ما عداه، لا يجد وسيلة ناجعة لجمع شتات نفسه سوى اللغة، باعتبارها ربيبة الانتظار العقيم، وثمرة الغياب الأشهى.

وإذ يرى بارت أن الحب يجعل كلاً من المرأة والرجل جلداً للآخر، في تماهٍ لافت مع الآية القرآنية الكريمة «هن لباسٌ لكم وأنتم لباسٌ لهن»، يذهب بالمقابل إلى أن اللغة في حالات الشغف القصوى، تتحول هي نفسها إلى جلد بديل. «إنني أحكّ لغتي بالآخر كما لو أن الكلمات هي الأصابع البديلة للملامسة»، يقول صاحب «شذرات من خطاب في العشق»، ليضيف قائلاً بأن العاشق المسكون بعفريت اللغة، يؤثر أن يتحول إلى كائن مازوشي مطرود من فردوس العلاقة العشقية، لتصبح الكتابة عن الحب المنتهي نوعاً من قيام المريض بتنظيم الحداد على معالجه النفسي. وفي حالات التأزم القصوى تصبح اللغة «شبيهة بصرخة عاتية خارجة من اللحد الذي لم يُحْكم إغلاقه».

ولم ينكر الشعراء والفنانون العشاق ما للنساء اللواتي أوقعونهم في شرك سحرهن من تأثير بالغ على إنجازهم الأدبي والفني، الذي كان من دون الحب سيفقد الكثير من طاقته وشحناته العصبية والتعبيرية. ففي حين يعترف شوبان بأن وجود جورج صاند إلى جانبه هو الذي جعل ألحانه تندفع بقوة من أعماق روحه، يؤكد سورين كيركغارد أن الحب دون سواه هو ما منح المعنى لحياته ولإبداعه، ثم يضيف ما حرفيته «إن نشاطي ككاتب يعود إلى المرأة التي أحببتها، بما جعل حياتي برمتها أشبه بالجبل المشيد على شرفها ومجدها وسأحمله معي في التاريخ. إنني لا أملك سوى رغبتي في أن أسحرها، ولهذا أنصحكم أن تجربوا الحب، لأنه مركز الوجود، وما يمنح الطبيعة الإنسانية تناغماً لا يُمحى».

ومع ذلك فإن كيركغارد، الذي شكلت خطيبته ريجين أولسن المصدر الأهم لكتاباته، لم يتورع رغم تعلقه الشديد بها، عن الانفصال عنها بشكل مفاجئ ومؤلم، لتقترن بعد يأسها منه بخصمه اللدود فريدريك شليغل. ولم يكن السبب في ذلك تبدلاً في عواطف الفيلسوف الوجودي إزاء أولسن، بل كان رفضه الاقتران بها ناجماً عن خوفه من الرزوح تحت وطأة المؤسسة الزوجية، ورتابتها المفضية إلى نضوب مناجم إلهامه، شأنه في ذلك شأن المئات من الفلاسفة والكتّاب الآخرين.

على أن في الجانب الآخر من المعادلة، من جعل الحياة هدفه الأول، وقدّم الحب على الكتابة، كما فعل الكاتب الروسي إيفان تورغينيف. فقد أسرّ صاحبُ «الآباء والبنون»، الذي أحب مغنية الأوبرا المتزوجة بولين فياردو، ولم يتردد في ملازمته لها طيلة حياته دون أن يمسها، لصديقه فلوبير، بأن الحب لا الكتابة هو أولويته الحاسمة وعلة وجوده الأسمى. ثم تابع اعترافاته قائلاً «لو خُيّرتُ بين أن أصبح أعظم عبقري في العالم، أو أن أصبح بواباً أمام بيت بولين، لفضلتُ أن أكون بواباً على أن أكون عبقرياً».

وإذا كان تورغينيف يعلن انتصاره للواقع على اللغة وللحياة على الفن، فإن موقفه ذاك قد يكون ناجماً عن رغبته المقموعة في امتلاك المرأة التي شغف بها، بعد أن رفضت بولين إخراج علاقتهما العاطفية من سياقها الروحي، أو التضحية بزواجها من أجله. ومن حق المرء أن يتساءل عما إذا كان موقف تورغينيف سيظل هو نفسه لو أنه حقق رغبته بالزواج من بولين. فاللغة الخلاقة لا تنبت في الأعم الأغلب إلا في تربة الحرمان، وكثيراً ما تحضر بوصفها نائب الفاعل، أو البديل الرمزي عن الحياة المتحققة.

«إن الشفاه تغني حين تعجز عن التقبيل»، يقول أحد المفكرين. ولم يكن جاك لاكان بعيداً عن هذا المبدأ حين اعتبر أن فطام الفم الطفولي عن الثدي الذي يرضعه هو الشرط الأهم لتحريره وتمكينه من النطق. وإذ يصبح العشق نوعاً من النكوص الارتدادي باتجاه الطفولة، يشترك الطفل والشاعر العاشق في تحويل الكلام إلى طريقة مثلى لطلب الإشباع. وهو ما يفسر «لهج» الأول المتكرر باسم الأم غير القادرة، أو غير الراغبة بسدّ جوعه، والثاني باسم الحبيبة الغائبة والممعنة في الصدود والتمنع.

إن التوتر والمجازفة بأشكالهما الأكثر احتداماً هما ما يصهر الحب والإبداع في بوتقة واحدة. ولأنهما يتغذيان من النار ذاتها التي تجعل من الغياب حطبها ومادة اشتعالها الأكثر نجاعةً، فإن كلاً من العاشق والمبدع لا يستمرئ الوصول المطمئن إلى غايته، التي تشبه النقطة الختامية للنص، بل يتحول إلى صياد دائم لقلق النفس وعذابها المازوشي. وإذ يرى ابن حزم الأندلسي أن المحب يتعمد الهجر في بعض الأحيان ليرى صبر محبوبه عليه، أو يلجأ للتدلل خوفاً من الملل، مستدرجاً بطريقة أو بأخرى المعاناة التي تؤجج في داخله رغبة الكتابة، يؤكد مارتن هايدغر الفكرة نفسها، حيث عدَّ مغامراته العاطفية خارج الزواج بمثابة «وثبات هامة نحو الحقائق المخفية التي ينبغي اكتشافها». ولأنه لا رغبة توازي رغبة اكتشاف الآخر، فإن تلك المغامرات كانت الوسيلة الحتمية لإعادة تنشيط صيرورة الإبداع.

وفي بعض الأحيان يبتكر الشعراء والفنانون وسائل مختلفة لرفد نصوصهم وأعمالهم بما يلزمها من مساحات التوتر وجُذى التعبير، كأن يقعوا في حب نساء لم يلتقوا بهن أبداً، أو يرتجلونهن من بنات الأفكار وفضاءات التخيل. وقد يعمدون في أحيان أخرى إلى استبعادهن من الواقع اليومي القابل للفساد والتحلل، لكي يستردوهن في ألق الكتابة وبهاء المجاز. ولم يكن صادق جلال العظم مجافياً للحقيقة حين عدَّ أن شعراء بني عذرة قد آثروا بشكل متعمد النأي بأنفسهم عن الارتباط الزوجي بفتياتهم المعشوقات، لمنع نيران الشغف المولدة للشعر من الضمور والانطفاء. والدليل على ذلك أنهم أصروا على التشبيب الصريح بهن، رغم معرفتهم بتقاليد القبيلة التي تحظر على الشاعر الزواج من الفتاة التي «يشهّر» بها أمام الملأ. وهم حين فعلوا ذلك، كانوا في حقيقة الأمر ينتصرون للغة على الحياة، ويضحون بلحم الأنوثة الزائل لكي يربحوا النصوص التي تضمن لهم سبيلهم إلى الخلود. كما كانوا من جهة أخرى يتداوون بالشعر من سقام الحب ووطأة الحرمان. فالكتابة عن شيء ما تعني إبطاله في الواقع، أو تعني على الأقل التخفيف من مفاعيله وتبعاته الثقيلة، بما يعكسه قول المجنون:

وما أُشْرِفُ الإيقاعَ إلا صبابةً

ولا أُنشد الأشعار إلا تداويا

ولعل ما فعله أورفيوس في الأسطورة اليونانية، لم يكن ليبتعد كثيراً عما فعله العشاق الذين ضحوا بالحب على مذبح الفن. وإلا فكيف نفسر قراره بمخالفة وصية الآلهة بألا يلتفت إلى الخلف، بعد أن استجابت الأخيرة لمناشداته لها بإعادتها، وقد ماتت من لدغة أفعى، إلى الحياة؟ ألم تكن هذه الالتفاتة تعبيراً عن رغبته المضمرة في «إماتة» أوريديس الحقيقية لإحياء أوريديس المجاز، ولشحن موسيقاه بكل ما يلزمها من أسباب الحنين والعشق المستحيل وأطياف الرغبات المفقودة؟

***

شوقي بزيع

عن صحيفة الشرق الاوسط اللندنية، يوم: 26 مارس 2024 م ـ 16 رَمضان 1445 هـ

رغم أن «داعش خراسان» أعلن أنه خلف العملية الإرهابية في ضواحي موسكو، فإن هناك من ينفي ذلك! الإرهابيون الجناة يقولون إنهم من خطط للعملية ونفذها، والمعارضون يقولون لا!

يذكرني هذا بالتبريرات الغربية التي يقولها بعض المفسرين لإرهاب «القاعدة» سابقاً وحتى الآن، حيث يقول قادة «القاعدة» ومنظروها إنهم مؤمنون بآيديولوجية تكفيرية هي من تحركهم وتجعلهم يضحون من أجلها ويكفّرون حتى المقربين منهم، ولكنّ المنظرين في الغرب يرددون أن سبب «11 سبتمبر/ أيلول» وغيرها هو التوسع الأميركي والإمبريالية الحديثة وهجوم الحداثة على مجتمعات ترفضها. وقد كنت في محاضرة بجامعة غربية وردد البروفيسور كل هذه التبريرات على الطلاب، لكنه نسي أن يقول التفسير البسيط، وهو أن التطرف يولد إرهاباً! ونسي أن يقول إن المتطرفين لا يخرجون من بطون أمهاتهم متطرفين، بل شخصيات سوية طبيعية، لكنهم ينغمسون في ثقافة تحولهم إلى متطرفين ويرتقون بعد ذلك في السلم الوظيفي ليصبحوا إرهابيين!

وآخر الأعذار الجديدة هو أن «داعش» أداة استخباراتية، وهناك بعض المخبولين على وسائل التواصل من يقول إن الرئيس أوباما هو مؤسسه. وهم يرددون بذلك تصريحات ترمب التبسيطية الكيدية الذي يتهم أوباما بأنه خلف «داعش»، وهو يقصد أن انسحابه من العراق خلق فراغاً ملأه «داعش»! وفي كلا الحالتين الأمر غير صحيح، فجماعة «داعش» أعلنت ذلك في بيانها الأخير، وبينت أن دوافعها نتيجة تفكير متطرف أولاً وآخراً، وقد تلجأ دول أو منظمات لاستخدامها، لكن سبب تشكلها ونشوئها هو فكر متطرف، ونهايتها يقضي بنهاية الفكر المتطرف الذي بث فيها الحياة من البداية.

ولكن لماذا اختلاق مثل هذه الأعذار؟ هناك أصحاب نيات طيبة ينخدعون بمثل هذه الدعايات ولا يريدون إلصاق التهم بالإسلام لهذا يبحثون عن تبرير يريحهم. ولكن الإسلام كدين عظيم بريء من هذه الاتهامات، وهناك فرق كبير بين الفكر المتطرف والدين الإسلامي، ولكن، للأسف، أصبح يُنظر لهما كشيء واحد. الإشكالية أن خطاب الكراهية ساد لعقود وربما قرون، وخلق هذه البيئة الحاضنة التي جعلت المتطرفين يختطفون الدين ويتحدثون باسمه وكأنه ملك لهم، ويخرجون منهم من يريدون ويستخدمونه أداة للتحريض والتجنيد. ولهذا شهدنا في العقود الأخيرة فقط كماً كبيراً من التنظيمات الإرهابية السنية والشيعية مثل «القاعدة» بفروعها لـ«داعش» بتقسيماته إلى «حزب الله» و«عصائب الحق»، كلها قامت عملياً باختطاف الدين وتكفير غيرهم لفظياً، أو الإجهاز عليهم بالأحزمة الناسفة أو السيارات المفخخة. إنها أزمة فكر متطرف، ولنتذكر أن روسيا تعرضت لهذه المذبحة الدموية، ولكن الدول المسلمة هي أكثر من تعرض لهجمات المنظمات الإرهابية، وأبناؤها هم الضحايا، سواء كانوا القتلة أو المقتولين. تحول فتى مسالم إلى وحش عديم القلب خلال سنوات قليلة هي مسؤولية المجتمع ولا يمكن أن يلقى اللوم عليه لوحده. لو عاش في بيئة تغرس فيه منذ صغره، في البيت والمدرسة والمسجد والتلفزيون، قيم التسامح والعقلانية وفهم الجوهر الإنساني لكل الأديان هل يمكن أن يتحول إلى إرهابي؟ بالطبع لا، سيكون إنساناً سوياً متسامحاً صالحاً يحب الخير للبشرية ويعمل لخدمتها (ولخدمة نفسه كما نفعل جميعاً)، ولن يقوم بتفجير نفسه وسط الأطفال أو دهسهم بالشاحنة كالحشرات بحجة أنهم كفار!

ولكن أكثر من يردد هذه الاتهامات بأن «داعش» أداة استخباراتية هم أصحاب النيات السيئة لسبب واضح وبسيط، وهو أنهم لا يريدون محاكمة الفكر المتطرف، ولهذا يقومون بخلط الأوراق. وهم من يقولون في كل مرة إن المنفذين مرضى نفسيون ومختلون، وهذا أيضاً عذر آخر بهدف التشويش بتحويل القضية من قضية فكرية ثقافية إلى قضية صحية! ولكن المرضى النفسيين يذهبون إلى العيادات ولا نراهم ينظمون أنفسهم في جماعات مسلحة حديدية ويحرقون المجمعات ويفجرون المساجد! كل هذه مجرد خدع بصرية وهم يتحدثون الآن عن المواجهة الثقافية مع الغرب وتحويلها إلى وقود لإنعاش الفكر المتطرف وإيجاد الأعذار والمخارج له، ومن المفارقات أن هؤلاء المتطرفين يذهبون إلى الغرب نفسه الذي يمنحهم حرية التعبير، ولكن يستخدمونها للتحريض على الدول التي تتبنى الفكر المتسامح والإنساني الذي يحفظ للإسلام تساميه وروحانيته ويستعيده تدريجياً من يد خاطفيه.

ليس التوسع الأميركي أو غزو الحداثة ولا الاستخبارات ولا الاستعمار أو الإمبريالية أو المواجهة الثقافية مع الغرب. كل هذه مبررات اختلقها المتطرفون المراوغون لإبقاء فكرهم المتطرف على قيد الحياة. الإرهابيون أنفسهم أكثر صراحةً ويقولون إنهم تكفيريون ويستحلون الدماء، لنصدقهم مرة واحدة!

***

د. ممدوح المهيني

عن صحيفة الشرق الاوسط اللندنية، يوم 25/3/2024م.

 

تتصل الدلالة الأنطولوجية بالعلوم ذات العلاقة بتلك «الشطحات العقلية»، الساعية للاستزادة المعرفية والوجدانية فيما بعد الحسي والمعتاد، وفي ذلك اجتهد الإنسان وتعددت «مناوراته الفلسفية».

وعلى الرغم من الإمدادات المسهبة التي تلقفتها الإنسانية، من رحم التحولات العالمية المتعاقبة، من تغير كبير في ملامح الحضارة، وطبيعة الثقافة، وفحوى الاستمرارية، فإن ذلك لن يحول من دون الركون إلى «وسادة الدين» للحصول على الراحة المبتغاة، أي التغذية الروحية «الخالية من الشوائب»، إذ لم تنجح التطورات التكنولوجية وأدواتها، ولا معطيات الحداثة الغربية في شغل ذلك الفراغ الكبير المتروك على أنقاض «الإصلاحات الدينية» في القرون الماضية. بل إن ذلك، وإنْ بدا في حينه علاجاً ناجعاً، فإنه تسبب لاحقاً في تصدع عميق في قلب الهيكلة الفكرية والأيديولوجية لمجتمعات إنسانية عديدة، وبخاصة في ظل إطباق الثقل المفاجئ للمادية على صدر الإنسانية وإنسانيتها.

وفي تتبع تحليلي لوصف أحد الأعمدة الفكرية حول الحاجة الأنطولوجية للمقدس، نجد أن البروفيسور الأب يوسف مؤنس يربط بين الحالة الدينية «التدين» وبين الشوق الإنساني الذي يعبر عن سعيه مهرولاً نحو تخليد الحضور الإلهي على امتداد التاريخ، كما يبين أن الحاجة إلى الشعور الديني تمثل «شريان حياة» لدى أفراد المجتمعات، وهي لا تختلف عن الحاجة للمياه والهواء وغيرهما من ضرورات «صون الوجود» الإنساني. إن الكينونة البشرية تعيش في وعثاء متقلبة، ولا يمكن البتة أن تجد إنساناً صافية حساباته من المشاكل أو الابتلاءات، حتى وإن عاش داخل «طوق من أمل»، وبالتالي فإن ما يجعله قادراً على الاستمرار أو المحاولة على أقل تقدير مواجهاً «عطب» الحياة، هو تمتعه بروحانية بهية تسمو به فوق «طاحونة الحياة».

إن القدرة على الاستمرار لا تتحقق عبر أفكار «إقناعية» من الإنسان لذاته، بل عبر خلجات ذات ارتباط عميق مع بالعلاقة بين العبد والمعبود، لاسيما حين يتحول ذلك الارتباط إلى علاقة انجذاب وتعلق وهيام وعشق من العبد لمعبوده. إن الخطوة الأولى في سياق تصالح الإنسان مع ذاته، والسماح لروحه بالتنعم في عالم السكينة الأبدية، هي معرفة الله عز وجل، مما يعني تهذيب النفس وتزكيتها والفوز بطمأنينتها، وتالياً القدرة على التعامل مع أسئلة واستفهامات ذات علاقة بما وراء الفيزيقي.

وبتعبير أكثر شمولية، فإن القدرة على تحقيق التوازن بين الفيزيقي والأنطولوجي لدى الإنسان، سيؤول لإنتاج مجتمع أكثر جودة من حيث القدرة على استشعار وإدراك الحاجة للسلام والطمأنينة، وبالتالي سريان التوجهات الفكرية، وإيجاد حالة ثقافية وفكرية تحمل ذات الأسس التي تؤمن بالقيم المشتركة. إن ذلك التوازن من شأنه أن يأخذ الإنسان نحو اختيارات جديدة، كأن يبدل «ثوبه الذهني والسلوكي المستعار» تقليداً، بكسوة مختلفة يعرف ممَ نُسجت وكيف تكونت ولِمَ وُجدت.

***

د. محمد البشاري

عن صحيفة الاتحاد الاماراتية، يوم: 22 مارس 2024 23:45

 

وصفَ أستاذ العقائد الفكري المعروف «ويلفريد سميث» رجل الدين الآسيوي «أبو الأعلى المودودي» بأنه «أكثر المفكرين منهجيّة في الإسلام الحديث». لم يكن ذلك صحيحاً بأيّ حال، ولكن الإضاءة الغربيّة على المودودي كانت تجري وفق حسابات ورؤى. وكان الهدف أنْ يصبح المودودي ومن تأثّر به كحسن البنا ومن أثّر فيهم كسيّد قطب.. النموذج العالمي للإسلام. ولأنّ ذلك لن يكون محل رضا وقبول لدى عموم المسلمين، فمن شأن ذلك أن يمهّد لحروب أهلية دينية لا تتوّقف، ليدبّ الوهن في تلك الأمة التي تمتد من جاكارتا إلى داكار، ولتصبح معادلة فشلها «هزيمة بلا حرب».

تمتّ صياغة العديد من مسارات الغرق الفكري.. من جدل الخلافة، والحكومة الإسلامية.. إلى تسونامي الحاكمية والجاهلية والطواغيت. ولقد نجحت هذه الخطة المُحكمة لعقود طويلة، حيث يتم دعم المتطرفين وإضعاف المعتدلين وتشويه المثقفين، ليسقط المجتمع في حالة عدميّة من استحالة التوافق وفشل التنمية.

في عام 1963 أصدر مولانا وحيد الدين خان كتابه الشهير «خطأ في التفسير». رأى خان أن كتاب المودودي «المصطلحات الأربعة في القرآن»، وكتاب سيد قطب «في ظلال القرآن» يحملان خطأً في التفسير.. ذلك أنهما قاما بالتفسير السياسي للدين، وهو ما يختلف عن فهم علماء الإسلام عبْر القرون، والذين أجمعوا أن الدين في جوهره هو علاقة بين الله وعباده، وغايته الهداية، وليس فرض نظام سياسي.

اشتهر مولانا وحيد الدين خان الذي ألّف أكثر من (50) كتاباً قبل أن يرحل عام 2021.. بكتابه «الإسلام يتحدّى» والذي يدافع فيه عن الإيمان في مواجهة الإلحاد.

انتقد المفكر الهندي المسلم جماعات الإسلام السياسي التي أسّست «هوية قتالية» قائمة على الصراع ومحاربة العالم لكي يصبح المسلمون حكّام الأمم، وذلك تحت عنوان «استعادة حكم الخلافة» الأمر الذي حوّل الدين إلى عامل صدام.

يقول خان: لقد جعل المودودي الغاية المنشودة للأنبياء إحداث انقلاب سياسي في مجتمعاتهم للوصول إلى الحكم، وأن هذا كان هدف كل نبيّ ورسول. فالدين في فكر المودودي هو السُّلطة والحُكم، وأمّا العبادات كالصلاة والصيام والزكاة والحج.. فهي مجرد تربية وإعداد للمسلمين.. وذلك للوصول إلى الهدف وهو اقتلاع النظام، وتأسيس حكومية إلهية، وليست أركان الإسلام سوى الطريق للهدف الأسمى وهو الوصول للسلطة.

يردّ خان: إذا كان الأمر كذلك.. لماذا لم يعبر سيدنا موسى ويقيم الحُكم بعد غرق فرعون، وقد أصبح الجو السياسي مهيئاً، ولماذا لم يُقم سيدنا إبراهيم أبو الأنبياء ولا المسيح عليه السلام بتأسيس حكومة؟ فهل لم يقُم أولو العزم من الرسل بالغاية المنشودة في هذه الدنيا.. معاذ الله؟!

وفي لفتة رائعة يقول مولانا وحيد الدين خان: إن الجماعات المتطرفة تقدم الرسول (صلى الله عليه وسلم) كرجل حرب لا يترك السلاح، نبيّ مقاتل، لا يخرج من حرب إلاّ إلى أخرى، مع أنه حاربَ بنفسه (3) حروب فقط، في بدر وأحد وحنين.. وكانت مدتها (36) ساعة في (23) سنة، وأمّا باقي المعارك فقد كانت كلها دفاعيّة.

إن دعاة التطرف يتصرفون وكأنهم «محاسبو الكون».. والقرآن الكريم يقول: «فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ».. فالمسلم يكون ناصحاً لا قاضياً، وهدف الإسلام ليس وصول المسلم إلى السلطة، بل وصول المسلم إلى الجنّة.

***

أحمد المسلماني - كاتب مصري

عن صحيفة الاتحاد الاماراتية، يوم: 21 مارس 2024

الطفل ذات مستقلة وكائن لغوي يستطيع أن يفهم

في مقابلة طويلة مع المجلة الفرنسية «سؤال في الفلسفة» (Question de Philo)، الصادرة في خريف 2023، عدت الفيلسوفة الفرنسية شانتال دِلسول (Chantal Delsol) في مقابلة معها أن «الطفولة هي بداية الدهشة الفلسفية». وكانت المقابلة تدور حول كتابها الأخير المخصص حول فلسفة الطفولة وهو تحت عنوان «un personnage d’aventure» (شخصية مغامرة). وهي تعدُّ أن موضوعها الأساسي هو الطفولة، وذلك لأنه موضوع ساحر بامتياز لأنه غامض بامتياز. وهي تبرر اهتمامها بهذا الموضوع، إضافة إلى اهتمامها بالفلسفة السياسية بأنها قبل أن تكون فيلسوفة هي أُم لأسرة كبيرة مؤلفة من ستة أبناء. وهي الآن محاطة بعدد من الأحفاد والحفيدات، وذكرت في كتابها العديد من الملاحظات التي استخلصتها من حياتها اليومية معهم، وتقول إننا لا يمكن أن نتفلسف حول الطفولة إذا لم نكن قريبين جداً من موضوعنا. ولكن كيف يعبر الطفل عن الحقيقة البشرية؟ برأيها، إن ما يظهر بشكل فاقع هو هشاشة الطفل وكونه خاضعاً لعناية وانتباه الراشدين. أضف إلى ذلك كونه يجد نفسه أمام عالم ضبابي وغامض، حيث يسيطر عليه الخوف والبحث عن الدلالات. وكل ذلك هو ما يميز الكائن البشري والمحدود وغير الكامل والضعيف بشكل مرعب والخاضع أيضاً إلى عناية الآخرين وإلا أصبح مجنوناً. ولكنه غالباً ما يجهل ذلك ويظن نفسه مستقلاً. في الواقع، إن شرط الكائن البشري هو شرط كائن مصدوم أمام عالم مجهول يحاول دوماً أن يمنحه معنى ما.

إن الطفل يعرف ويقبل حالة الضعف البشرية التي يحاول الراشد باستمرار أن ينتصر عليها أو يتجاهلها. إذن، تعدُّ الفيلسوفة دِلسول أن الطفل هو المصدر ونحن نتبع للطريقة التي من خلالها نفهم أصلنا أو مصدرنا. وهي تعدُّ أن ليست هناك أي قطيعة بين الطفولة وسن الرشد، وذلك لأنه مع الطفولة يبدأ كل شيء بما في ذلك كل ما هو أكثر تعقيداً، وذلك لأن النظرة المتفاجئة لدى الطفل الذي يضاعف طرح سؤال «لماذا» ليست سوى بداية الدهشة الفلسفية، وشعور الطفل بالرعب أمام الشر الذي يجهله هو بداية الاستياء الأخلاقي.

وحول رأيها بأعمال المحلّلة النفسية فرنسواز دولتو التي تعدُّ أن الطفل هو ذات مستقلة وكائن لغوي يستطيع أن يفهم ويسمع كل شيء إذا عرفنا كيف نكلمه ونشرح له، فإن فيلسوفتنا ترى أن هذه طريقة معاصرة جداً في رؤية الأمور، حيث إن الأهل الشباب يشرحون كل شيء للطفل وحتى للرضيع. وتعتقد أيضاً أن الطفل ليس فقط شخصاً متمتعاً بكرامة كاملة بل هو أيضاً ذات تفهم؛ وإن ما يدعو للعجب هو أن الأطفال يفهمون الأوضاع، لأن لديهم قدرة كبرى انفعالية وحدسية. ونحن لسنا بحاجة لأن نخفي عنهم شجاراً أو قلقاً أو صعوبة ما، وذلك لأنهم يشعرون بذلك مباشرةً. إذن، بالنسبة إلى الفيلسوفة دلسول كل شيء يتم ويتأسس في مرحلة الطفولة. وكل شيء يتعلق بتلك الصورة التي يتم منحها للقلب وللروح. وأيضاً كل شيء يتعلق بالأحداث التي تمهر مرحلة الطفولة الطرية العود. وهي تعتقد أن الطفولة السعيدة هي بمثابة رأسمال لحياة لا يُقدر بثمن.

كي نعلّم الطفل كيف يواجه العالم ليس من الضروري إعطاؤه دروساً نظرية لأن مواجهة الواقع هي مسألة روحانية وليست نظرية أو عقلانية

ولكن، ماذا تقول فيلسوفتنا اليوم لأولئك الأزواج الذين يترددون في إنجاب طفل في هذا العالم خوفاً من المستقبل في مجتمع معرّض للإرهاب وللأخطار البيئية على الخصوص؟ في الواقع، هي تعدُّ أن الأخطار المذكورة أعلاه لا تعني شيئاً. برأيها، فلكل عصر أخطاره الكبرى. ومن دون شك كانت الأخطار أكبر في العصور السابقة مع الحربين العالميتين ومع الأنظمة الشمولية؛ ومن السخرية أن نتذرع بأخطار العالم كي لا ننجب أطفالاً. ولكن هل نساعد أطفالنا لمواجهة الواقع من خلال تعليمهم بعض المفاهيم والمبادئ في الفلسفة وعلم النفس؟ دلسول لا تعتقد بذلك. فهي تعدُّ أنه كي نعلّم الطفل كيف يواجه العالم والواقع ليس من الضروري إعطاؤه دروساً نظرية، لأن مواجهة الواقع كمحبة الأقارب والأشقاء والأصدقاء هي مسألة روحانية وليست نظرية أو عقلانية. وحتى نقبل الواقع يلزمنا ليس المعارف والنظريات، بل الفضائل مثل الصبر والمثابرة والرجاء، وهذا لا نتعلمه في الكتب، بل من خلال الوجود الواضح والجدّي المعاش مع راشد حريص. لا شيء يجعل الطفل مسؤولاً سوى وجود مربّ يتسم بالعمق والاهتمام الدائم.

ولكن مشكلة التربية الأساسية اليوم تتمثل في عدم قدرة الأهل على إجبار الأطفال على الكبت، وتعليمهم كيفية إدارة كبتهم. دلسول تعدُّ هذا الأمر بمثابة إحدى المشكلات الكبرى التي نصادفها وتتمثل في عجزنا، ضمن المجتمعات الثرية، عن حرمان الأطفال من كل ما يشتهونه... ويجب الاعتراف بأنه من الأسهل للمربي أن يُرضي كل رغبات الطفل، وذلك لأن قول «لا» يقتضي قوةً وثباتاً يشعر الكثيرون بأنهم عاجزون عن ذلك. ولكن المشكلة تكمن في أن طفلاً يكبر من دون أن يعرف الكبت يصبح منحرفاً بالقوة.

***

د. حسن منصور الحاج

عن صحيفة الشرق الاوسط اللندنية، يوم: 20 مارس 2024 م ـ 10 رَمضان 1445 هـ

انعقد بمكة المكرمة من جانب رابطة العالم الإسلامي مؤتمرٌ واسعٌ لعلماء الإسلام من مختلف الفئات والمذاهب من أجل التعاون والتضامن وإزالة الحساسيات، ونشر قيم الاعتدال والتسامح والوحدة والتطلع للمستقبل. وقد صارت هذه الملتقيات سُنةً محمودةً شكلت خلال العقود الأخيرة مظلةً في مواجهة تحديات الفرقة والقطيعة والتطرف؛ وبخاصةٍ ما صار يصدر عنها من بياناتٍ ووثائق وعقود تشارك وتعاون بين المؤسسات لجلاء القتام عن وجه الدين الحنيف، واستعادة السكينة ونشر قيم السلم والانفتاح وصنع الجديد والمتقدم.

بيد أنّ الذي أريد تجديد الحديث فيه هو الخطاب الديني العام وكيف تجري صناعته وسط المتغيرات الكثيرة والكثيفة. وهو شأنٌ كبيرٌ يمضي الحديث فيه كل يومٍ على وجه التقريب. ذلك أن المهمات الأساسية لعلماء الدين تتمثل في أربعة أمور: الدعوة لوحدة العقيدة والعبادة، والتعليم الديني، والفتوى، والإرشاد العام. ومؤتمر مكة والمؤتمرات المشابهة تتعلق بالإرشاد العام بالذات. فلا يزال التأثير قوياً ومعتبراً في الأمور الثلاثة الأولى: العقيدة والعبادة، والتعليم الديني، والفتوى؛ لكنه لم يعد كذلك في المجال الرابع: الإرشاد العام. لقد صارت هناك جهات كثيرة في المعارف والإعلام ووسائل التواصل والفضائيات، تملك أجندات لتوجيه المجتمعات، وضاق الحيز الذي يشغله علماء الدين لهذه الجهة للاشتراكات الكثيرة والتحديات الكثيرة من خلال المتغيرات والبرامج والمصالح المتصارعة في المعارف وفي الميول وفي تصورات الحاضر والمستقبل.

ولكي يكونَ واضحاً ما أقصده أذكر تحديات مواجهة التطرف، وتحديات الحوار مع الآخر الديني والثقافي خلال العقود الأخيرة. لقد كانت هناك صعوبات كثيرة سواء في المواجهة أو في التواصل، بسبب نقص المعرفة والخبرة، وبسبب متغيرات العصر والعالم. وقد احتاج الأمر إلى جهود جبارة من جانب الأفراد والمؤسسات حتى انفتحت سُبُلٌ بعد انسداد، وتبلورت شراكاتٌ بداخل المجال الإسلامي ومع عوالم الأديان والثقافات. ولا يزال. الأمر يحتاج إلى عملٍ كثير؛ لكنْ كما سبق القول فإنّ المجال انفتح؛ لأنّ الاحتياجات صارت ضرورات، وتتنامى المعارف لدينا بشأنها دونما توقف.

هناك مشكلاتٌ نوعيةٌ الآن، يقف الخطاب الديني أمامها عاجزاً أو لنقل إنه حائر. فالقرآن الكريم يأمرنا في عشرات الآيات والمواطن بصنع المعروف أو الأمر به والنهي عن المنكر. والمفهوم أنّ المعروف عالمي أو أننا نتشارك مع العالم في معرفته والتشارك بشأنه. وفي طليعة عوالم المعروف المسائل القيمية الكبرى المتصلة بحياة الإنسان وأفكاره وسبل السلوك استناداً إليها، وفي قلب هذه القيم حياة الأسرة وأخلاق العائلة، واهتمام القرآن الكريم مركزيٌّ وأساسيٌّ لهذه الجهة وما يقاربها في الأخلاق الخاصة والعامة. فهل لا يزال هناك معروفٌ عالمي يمكن تحديده والاحتكام إليه في مجتمعاتنا الجديدة ومع العالم الذي صار عميق التأثير في كل كبيرةٍ وصغيرةٍ في حيواتنا الخاصة والعامة؟! هذه المتغيرات الكبيرة هل تركت مجالاً لمعروفٍ عالمي وكيف نفهم ونواجه جهات التأثير التي تهجم علينا في المنازل والأُسَر والطفولة والتعليم ومُثل التربية والتوجه. أعرف أنني لا أقول جديداً، ولا أتحدث عن مجهولٍ من جانب الخاصة والعامة. إنما الملاحظُ أننا ما عُدنا نملك خطاباً أو أساليب للفهم والإفهام في هذه المسائل. لقد صار خطابنا - إذا أمكن تسميته كذلك - قسمين: القسم الثائر الذي يتحدى ويستنكر ويتصدى من دون عروضٍ لبدائل معقولة. والقسم الذي يلجأ للرسوّ في التقليد المعتاد وهو خطابٌ انسحابي متشائم وفضيلته أنه يتشبث بالاستقرار مع يقينه أنه جرى تجاوزه وحوصر إلى حدٍ بعيد. الدول والسلطات ساعدت وتساعد في استقرار الحياة الدينية والشعائرية وحياة الأُسرة وسلاسة التعليم وحقوق المرأة والطفل. لكنّ علماء الدين أفراداً ومؤسسات يكون عليهم أن يواجهوا الجمهور، ويخاطبوه بشأن هذه المتغيرات التي غيّرتْ معالم المعروف والمنكر.

الدين قوةٌ ناعمةٌ وخطابها الإقناعي هو المعتبر وليس الخطاب الاحتجاجي الذي لا يصنع اقتناعاً ولا ينتج رضاً أو سكينة.

المتغيرات تجتاحنا، ولا سبيل للمواجهة بعقلية المؤامرة على طول الخطّ. فكما تدربنا خلال العقود الأخيرة وبالمعرفة والتأهُّل على مواجهة التطرف والإرهاب، وعلى المصير إلى الحوار العاقل والمنفتح، يكون علينا المصير إلى استمرار التأهُّل بالمعرفة لهذه المستجدات في حقائقها وفي وقائعها وإمكاناتها وتأثيراتها في الحاضر والمستقبل. إنّ التأهيل لمخاطبة الجمهور، والتنافس مع جهات الإرشاد والتوجيه، يقتضي تأهلاً معرفياً بالمستجدات وفهماً لكي نتأهل إذا صحَّ هذا التعبير في إنتاج استراتيجيات تحمي وتصنع المبادرات باعتبارنا جزءاً من هذا العالم، لا نقصد إلى مواجهته، بل نتوخى الصيرورة إلى أن نكون ونبقى جزءاً من سلامه وأمنه وتقدمه.

فهل يمكن بالمعرفة العميقة والعقل النيّر أن نصير مع الجهات العالمية والإنسانية إلى إعادة صياغة «المعروف» وإجماعاته ليس من أجل الحماية فقط، بل ومن أجل صناعة الصيغ التي تحفظ إنسانية إنساننا وإنسانية العالم الذي نعيش فيه؟!

إنها بالطبع مهمة كبرى لا يستطيع علماء الأديان القيام بها بمفردهم. لكنّ القادة الدينيين يلعبون دوراً بارزاً في المجال القيمي والأخلاقي. ولست أزعم أن مشكلات المعرفة والفهم، قصوراً أو إنكاراً، قاصرة علينا، لكنّ المسلمين يوشكون أن يكونوا خُمس سكان العالم، وكذلك الكاثوليك المقبلون على شراكة معنا.

وقد تأثرت كثيراً بوثيقة الأسرة الصادرة عن الفاتيكان عام 2019 لما تنم عنه من فهمٍ وشجاعة وإحساسٍ بالمسؤولية. ومثار القلق لدى كثيرين في أوساطنا وأوساط أصدقائنا هذه الكراهية التي تعود للتفجر في أوساط المثقفين من العرب والمسلمين من الغرب - هكذا من الغرب كله (!). والكراهية عجزٌ وسوء تقدير ولا تفيد في مواجهة المشكلات أو الإقبال على اجتراح الجديد، سواء في الخطاب الديني أو الثقافي. لقد مضت علينا زهاء العقود الأربعة في مكافحة التطرف والإرهاب في أوساطنا وتجاه العالم. وكنا نحمل على الانشقاقات في الدين، كما كنت أُدافع عن التقليد الديني باعتباره الدرع الواقي. لكنّ هذا القصور المستشري الذي يعود للاعتصام بالكراهية لا يدع مجالاً للأمل بالخروج من المأزق. فلا بد من المعرفة المحرِّرة. ولا بد من الإرادة المسؤولة. ولا بد من المبادرات الشجاعة.

لا بد من تجديد الخطاب الديني لتكون مهمته الإرشادية الكبرى إعادة تعريف المعروف، والمصير إلى ملاقاة العالم به، بدلاً من نبذه وكراهيته. تجديد الخطاب الديني ليس موقفاً فقط، بل هو إرادة ومبادرة فلا بد من المصير إلى إنجازه اليوم قبل الغد.

***

د. رضوان السيد

عن صحيفة الشرق الاوسط اللندنية، يوم: 22/3/2024م.

 

تكوّنت تكوّناً تاريخيّاً كان يتيح للمواطنين أن يتشاركوا في ممارسة السلطة

غالباً ما يستغرب الناس العلاقة الوثيقة بين الفلسفة والتمدّن الإغريقيّ. أعظمُ فلاسفة الألمان، في مقدّمتهم هيغل وهايدغر، أثبتوا الحقيقة الحضاريّة هذه. أمّا الوقائع فتدلّنا على أنّ التفلسف الحقّ لم ينشأ عند العرب أو الفرس أو سكّان الهند أو الصين أو أفريقيا أو مجتمعات السكّان الأصليّين في القارّة الأمِيركيّة أو الأستراليّة. ومن ثمّ، يجدر بنا أن نستفسر عن العوامل الاجتماعيّة والسياسيّة والاقتصاديّة التي جعلت المدينة الإغريقيّة الناشئة في القرن الثامن ق. م تساهم مساهمةً جليلةً في ولادة الفكر الفلسفيّ المحض. أعرف أنّ جميع الحضارات الإنسانيّة اختبرت ضروباً شتّى من التأمّل الوجدانيّ النفيس. غير أنّ استخدام العقل في بناء قواعد المنطق واستخراج أحكام النظر الموضوعيّ في الحياة ظاهرةٌ ثقافيّةٌ خطيرةٌ اقترنت بما انعقدت عليه المدينة الإغريقيّة القديمة من خصائص بنيويّة انفردت بها انفراداً استثنائيّاً.

إذا كانت المدينة الإغريقيّة قد استهلّت زمناً حضاريّاً جديداً في مَسار التاريخ البشريّ، فذلك لأنّها انطبعت بثلاث سماتٍ جوهريّةٍ بالغةِ الأثر. تجلّت السمة الأولى في مقام كلام التخاطب، وقد أولاه سكّانُ المدينة الإغريقيّة الصدارةَ المطلقةَ على جميع وسائل النفوذ والسلطان المستخدَمة عصرَذاك. من جرّاء الانتظام الاجتماعيّ في المدينة، أضحى كلامُ التخاطب الوسيلة السياسيّة البارزة، وباب السلطة في الدولة وسبيلها الأفعل والأخطر، وأداة الحكم وواسطة السيطرة على الآخرين. لا بدّ في هذا السياق من التذكير بـ«إلهة الإقناع» عند الإغريق القدماء، وقد أطلقوا عليها اسم «الإلهة بيثو» (Peitho) تُسعفهم في إتقان فنّ المحاجّة العقليّة القادرة على استقطاب تأييد الشعب. لا ريب في أنّ صورة «إلهة الإقناع» مستخرجةٌ من الشعائر الدِّينيّة التي كانت تفترض في الأقوال الابتهاليّة المنطوقة قدرةً خارقةً على الاستجابة للدعوة وتحقيق الأمنية. وما لبث سلاطين الممالك والإمبراطوريّات القديمة أن استأثروا بهذا السلطان، فغدت أقوالُهم محلَّ إكرامٍ وتبجيلٍ لما انطوت عليه من قيمةٍ إنفاذيّةٍ خطيرةٍ.

بيد أنّ أهل المدينة الإغريقيّة لم يقلّدوا القدماء، بل أعادوا تعريف كلام التخاطب، فجرّدوه من صفاته الشعائريّة التعظيميّة ومن سلطانه الملوكيّ القاهر، ونسبوا إليه مقاماً تداوليّاً جعله ينبسط في صورة المباحثة الحرّة والمناقشة المفتوحة والمحاجّة البرهانيّة الموضوعيّة. من جرّاء التحوّل الخطير هذا، أصبح الكلام التخاطبيّ النشاطَ الاجتماعيَّ الثقافيَّ الأبرزَ في حياة أهل المدينة، إذ أخذ الناس يعاينون في الجماعة الملتئمة جمهوراً مُصغياً قادراً على التمييز والحُكم على مضامين المناقشة العلنيّة المحتدمة. كذلك اكتسب القاطنون في المدينة الإغريقيّة صفة المرجعيّة القضائيّة التي تَنظر في القضايا المتناقضة المطروحة على بساط البحث، وتقرّر أيّها الأقدرُ على الإقناع والأنفعُ لمدينتهم.

اعتلنت السمة الثانية في عَلانية المباحثة المنعقدة بين أصحاب الرؤى المتباينة والقضايا المتناقضة. ذلك بأنّ المدينة الإغريقيّة أتاحت للحياة الإنسانيّة أن تحظى بمنظوريّتها الاجتماعيّة في المجال العامّ أو العموميّ، بحيث أجمع أهلُها على البحث عن أسباب المنفعة العامّة المشتركة وصونها من هيمنة المصالح الذاتيّة الخاصّة. في قرائن هذا التحوّل، اضطرّ أهل السلطان إلى تقليص دائرة الممارسات الأرستقراطيّة النخبويّة التواطئيّة السرّيّة، والإفصاح العلنيّ عن عمليّات التفاوض المفضية إلى استخراج القرارات السياسيّة والاقتصاديّة. من البديهيّ، والحال هذه، أن يجرّد الناسُ أصحابَ السلطة من هيمنتهم على مصادر المعرفة حتّى يتسنّى للجميع أن يطّلعوا على المعلومات الضروريّة التي تؤهّلهم للحُكم الموضوعيّ على القضايا المصيريّة المشتركة. بعد أن كانت المعرفة محصورةً في دائرة السلطان الحاكم، شاعت شيوعَ المساواة في الاطّلاع والاستعلام. فنشأ من جرّاء هذا كلّه تحريضٌ حميدٌ على إعمال الفكر في شؤون الحياة المدنيّة العامّة، فنهض الناسُ إلى الاعتناء بتهذيب عقولهم حتّى يستطيعوا أن يواكبوا الحدث ويضطلعوا بمسؤوليّة الوعي النقديّ المستجدّ.

أمّا السمة الثالثة فظهرت في خضوع الشأن السياسيّ كلّه لسلطان الكلام التخاطبيّ التداوليّ. ذلك بأنّ المناقشة والمحاجّة والجدل أعمالٌ أمست تضبط مَسار النشاط الفكريّ والحركة السياسيّة. أمّا الجماعة الناظرة في القضايا العامّة فتحوّلت إلى رقيبٍ يدقّق في إنتاجات الفكر وأعماله، وفي اجتهادات الدولة وقراراتها. فما لبث هذا التحوّل أن أفضى إلى تغيير ناموس المدينة الإغريقيّة، بحيث نبذ الناسُ الحُكمَ الاستبداديَّ المطلق، وآثروا نظام الانتخاب المباشر والمواكبة الساهرة والمحاسبة الصارمة. ومن ثمّ، لم يَعد في مقدور السلطان السياسيّ أو الدِّينيّ أن يفرض أحكامه بالقوّة، بل اضطرّ إلى الاستعانة بالدليل الواضح والبرهان الجليّ من أجل إقناع الناس بصوابيّة السبيل الإقراريّ الذي أفضى إلى مثل هذا التدبير أو ذاك.

لا ريب إذن في أنّ التحوّل الثقافيّ الذي أصاب المدينة الإغريقيّة أتاح انبثاقَ نمطٍ جديدٍ من التفكّر المبنيّ على النظر العقليّ الموضوعيّ المجرّد. فإذا بالفكر الفلسفيّ يولَد في معترك التحوّلات البنيويّة الذهنيّة الثقافيّة الاجتماعيّة هذه، فيحرّر رويداً رويداً الوعي الإنسانيّ من تصوّراته اللاهوتيّة الميتولوجيّة الأسطوريّة، ويساهم مساهمةً حاسمةً في تجلّي زمن العقل. في سياق هذا المنعطف، يمكن القول إنّ الفلسفة الإغريقيّة لم تشهد ولادة العقل، بل بَنت بنفسها العقل، أي أنشأت الشكل الأوّل من العقلانيّة الغربيّة. ذلك بأنّ العقل الإغريقيّ، في اعتلانه الأوّل، اضطلع بمسؤوليّةٍ جليلةٍ على قدر ما أكبّ ينظر في الأمور نظرةً منهجيّةً موضوعيّةً مجرّدةً أتاحت له التأثير في عقول الناس، قبل أن يتمكّن لاحقاً من تغيير مسار الطبيعة. وعليه، يصحّ القول إنّ العقل هذا، في طاقاته الاستكشافيّة وفي حدود إمكاناته، إنّما هو ابن المدينة الإغريقيّة القديمة.

لا بدّ هنا من التذكير بأنّ هذه المدينة تكوّنت تكوّناً تاريخيّاً أفضى إلى قيامها على هيئة الانتظام الاجتماعيّ الذي كان يتيح للمواطنين أن يتشاركوا تشاركاً عادلاً في ممارسة السلطة، بحيث إنّ القوانين لم تَعد تَتنزّل عليهم من سماء التعالي الإلهيّ أو من دائرة السلطان القاهرة، بل أضحت تنبثق من صميم مباحثاتهم المستندة إلى مراعاة مصالح المدينة المشتركة. بفضل التحوّل الخطير في البنية السياسيّة هذه، استطاعت المدينة الإغريقيّة أن تستولد ضروباً جليلةً من التغيير الثقافيّ الاجتماعيّ البالغ. إذا أراد المرء أن يستجلي طبيعة هذا التغيير، أمكنه أن يحصيه في أربعة حقول أساسيّة من حياة الناس في المدينة. تجلّى التغيير أوّلاً في حقل الاجتهاد القانونيّ، إذ انبرى المشرّع الإغريقيّ الشهير سولون (حوالى 640 ق.م - حوالى 558 ق.م) يصوغ دستور المدينة الأوّل، وقد عزَّز فيه سلطة الشعب. لذلك عاين فيه أفلاطون وأرسطو مثالَ المجتهد المصلِح الجريء الذي جدّد الحياة السياسيّة الإغريقيّة. تحقّق التغييرُ ثانياً في انتقاد التقليد الثقافيّ السائد، لا سيّما في البنى السياسيّة والاجتماعيّة، بحيث عكف العقلاءُ على تعطيل القرارات التي كانت الأريستوقراطيا الإغريقيّة تستأثر بها وتُبرمها سرّاً وتفرضها على الناس. كذلك طفق الفلاسفة ينتقدون المنهج التربويّ القائم على الذهنيّة العسكريّة القتاليّة والائتمار الإذعانيّ الذي لا يبيح الشورى. أمّا موضع الانتقاد الأخطر فأصاب مقام الكلام الذي كان مقتصراً على تلاوة القصائد وحفظ الملاحم الشعريّة المبنيّة على تعظيم أصول المدينة الأسطوريّة.

تجلّى التغيير أوّلاً في حقل الاجتهاد القانونيّ، إذ انبرى المشرّع الإغريقيّ الشهير سولون بصوغ دستور المدينة الأوّل وقد عزَّز فيه سلطة الشعب.

لا عجب، من ثمّ، في أن ينعقد التغيير الثالث على ابتكار النظام الدِّموقراطيّ الذي أفضى إلى تدبير الحياة السياسيّة بالاستناد إلى مباحثات الساحة العامّة العلنيّة (الأغورا) ومجادلات الناس الملتئمين فيها التئامَ التمثيل الانتخابيّ العادل. أمّا السبيل الوحيد الذي كان يتيح تقلُّد المناصب التشريعيّة والتنفيذيّة، فالكلام التخاطبيّ التحاوريّ القادر على إقناع عقول الناس وإرشادهم إلى القرار السياسيّ الأنسب. من جرّاء الضروب الثلاثة الخطيرة هذه من التغيير البنيويّ العميق، انبثق التغيير الفكريّ الأخطر الذي أصاب الذهنيّة السائدة، إذ انصرف الناس إلى ممارسة الفعل الفلسفيّ، فالتأموا في مدارس محبّي الحكمة الذين شرعوا يحرّضونهم على ترك التفاسير اللاهوتيّة الأسطوريّة والاعتصام بالتحليل العقليّ الموضوعيّ. من أعظم هؤلاء الحكماء كان المعلّم سقراط (حوالى 470 ق.م-399 ق.م) الذي انتهج في المحاورة الفلسفيّة الحرّة سبيلَ التفكّر العقلانيّ الجريء. ولشدّة الإقبال على مزاولة المحاجّة الفلسفيّة، انبرت فرقةٌ من حكماء الدهاء البرهانيّ عُرِفوا بالسوفسطائيّين، ومنهم بروتاغوراس (490 ق.م - حوالى 420 ق.م) الذي رسم أنّ الإنسان مقياسُ كلِّ حقيقة ومرجعها، فطفقت تحثّ الناس على تعلُّم فنّ الكلام وأساليبه وإتقان لغة البلاغة والإحكام البيانيّ الساحر. أمّا أفلاطون فجسّد مثال الفيلسوف القادر على انتزاع نفسه من قرائن الخضوع لأحكام التقاليد، والارتقاء إلى مستوى النظر في عالم المثُل السامية. لذلك استهلّت كتاباتُه زمنَ الفلسفة الأصيلة التي استثمرت تحوّلات المدينة الإغريقيّة، فأخذت تسائل الوجود الإنسانيّ وتستفسره عن معناه الأعمق والأرحب. إذا كانت الفلسفة بنتَ العقل النظيف الحرّ، فإنّ الاستبداد يخنقها ويُجهِض ولادتها.

***

مشير باسيل عون

عن صحيفة الشرق الاوسط اللندنية، يوم: 13 مارس 2024 م ـ 03 رَمضان 1445 هـ

غونتر أندريس: البشريّة خلقت الظروف المناسبة لإبادة نفسها

لم تعد مسألة النّظر في التأثيرات المحتملة للذكاء الاصطناعي على مستقبل البشرية ووجودها ذاته من نافل القول، إذ اقتحمت نماذجه الأحدث كل مجالات الحياة المعاصرة، وأصبحت تطبيقاته في وقت قياسيّ جزءاً لا يتجزأ من فضاءات عديدة: الصناعة، والدفاع، إلى الطبّ، والتعليم، والإدارة، والصحافة، والنشر. ويعلّق كثيرون آمالاً كبيرة على هذه الخوارزميّات المتطوّرة بأن تعين البشريّة على التعامل مع تحديّات معقدة تواجهها كتغيّر المناخ، وتعظيم منافع الموارد القابلة للاستنفاذ، ومعالجة الأمراض المزمنة والعضال، وإنجاز المهام المتكررة والخطرة على نحو يوفّر وقت وطاقة البشر. لكن تلك الآمال الكبيرة تحمل في ثناياها تهديدات، تبدو عند محاولة تصورها، أقرب إلى ديستوبيا تامّة: من تحويل مليارات البشر إلى كتل متبطلة هائمة يأكلها البؤس بسبب أتمتة غالب الوظائف، وتطوير أسلحة متفوقة ذاتية التشغيل قد يساء استخدامها، ناهيك عن تعملق قدرات أنظمة الذّكاء الاصطناعي على نحو قد يخرج في لحظة ما عن سيطرة البشر، وينتج ما قد يتعارض مع رفاههم.

ومن الجليّ أن هذا التطوّر المتسارع لا توازيه، إلى اللحظة على الأقل، تدابير استباقيّة لضمان أن يسترشد استخدامه بأخلاقيات تمنع من تحول الذكاء الاصطناعيّ في النهاية إلى أداة لهيمنة فئة محدودة من البشر، وتبقيه دائماً في خدمة رفاهية النوع الإنساني، واستمرار وجوده.

من هذا المنظور، يمكن تفهّم تلك الاستعادة المفاجئة لأعمال الفيلسوف غونتر أندريس (1902 – 1992) إلى قلب الجدل الفكريّ المعاصر بعد طول إهمال. كان أندريس، مثل زوجته الأولى الفيلسوفة اليهوديّة الشهيرة هانا أرندت، قد تأمّل عميقاً في تراجع الأخلاق الإنسانيّة، وبحث في العوامل التي قد تدفع الإنسان إلى تعليق قدرته على التفكير المستقل، وخضوعه الطوعيّ للأنظمة على حساب حساسيته وتعاطفه الإنسانيّ.

في منتصف القرن العشرين، أي بعد تكشّف فظائع الحرب العالميّة الثانية، واستعمال الأسلحة النووية في حسم الحرب على الجبهة الآسيوية، ومن ثم انطلاق سباق التسلح بأسلحة الدّمار الشامل، لم تكن هناك مهمة أكثر إلحاحاً على الصعيد الفلسفي من فحص تلك النتائج التي قادت إليها الحداثة التقنية وجعلت من تكرار التوحش أمراً ليس ممكناً فحسب، بل إنه الاحتمال الأقرب.

انفصال أندريس عن أرندت في العلاقة التي جمعتهما، انعكس لاحقاً في تباعد مصائرهما ومساراتهما الفكريّة، إذ تحولت الأخيرة إلى عشيقة لمارتن هايدغر، الفيلسوف الذي يعده الكثيرون أباً فكريّاً للنازية، وهاجرت لاحقاً إلى الولايات المتحدة التي احتفت بها في أرقى الأكاديميات، وتحوّلت إنتاجاتها باللغة الإنجليزية إلى أدوات تبرر للهيمنة الأنجلوساكسونيّة في مواجهة النقيض الاشتراكيّ وكذلك للمشروع الصهيونيّ العنصريّ في فلسطين، فيما عاد أندريس، الذي هاجر مع موجة المفكرين اليهود الفارين من تعسّف النظام النازي إلى الولايات المتحدة، تالياً إلى القارة القديمة، واستمر ينظّر بالألمانية لمعنى كوارث الحرب الكبرى، وتأثير التكنولوجيا على الحداثة والحالة البشرية، لا سيما الهيمنة التدريجية للتكنولوجيا على جميع جوانب النشاط البشري: من التسليع الشامل، والتجريد من الإنسانية، إلى فصل النظرة إلى العالم عن الواقع الحقيقيّ بصورة بديلة أنتجتها تلك الهيمنة، وتعاظم احتمالات انقراض نوعنا بشكل نهائيّ.

لكن وعلى الرّغم من أهميتها الفائقة، فقد ظلّت أعمال أندريس غير معروفة في العالم الأنجلوساكسوني النّاطق باللغة الإنجليزية حتى وقت قريب، ليس فقط بسبب ما تحمله من «تشاؤم نقدي لاذع لا يرحم» - كما وصفها هربرت ماركوزه، ولكن أيضاً لأن تلك النّذر كانت لا تتوافق مع مضامين المشروع الآيديولوجي للغرب في تلك المرحلة من القرن العشرين. ومع ذلك يتم الاعتراف به الآن رائداً فكريّاً لعدد من الموضوعات الفلسفيّة الرئيسيّة التي تناولتها أعمال العديد من الفلاسفة اللاحقين له أمثال جان لوك نانسي، وبرنارد ستيجلر، وجان بيير دوبوي، وزيغمونت بومان.

غادر أندريس بلاده إلى باريس عام 1933، وانتهى به الأمر بعد نشوب الحرب العالمية الثانية لاجئاً في كاليفورنيا، بالولايات المتحدة، يكسب رزقه من خلال كتابة سيناريوهات الأفلام لصناعة السينما في هوليوود والقيام بوظائف متواضعة أحياناً في المصانع ومستودعات الأفلام. على أن تلك التجربة الحياتية القاسية هناك بموازاة اختلاطه بالمثقفين اليهود رواد مدرسة فرانكفورت مكنته من أن يراقب عن كثب ذلك الصعود الدراماتيكي للثقافة الاستهلاكية في الغرب، قبل أن يعود في عام 1950 للاستقرار بشكل دائم إلى فيينا ويشرع في تدبيج المقالات حول المعضلات التي تواجهها الحالة الإنسانية في مواجهة صعود التكنولوجيا بلغة سهلة قريبة من الجمهور العادي، متخلياً عن الأسلوب الأكاديمي المتعجرف لمعلميه إدموند هوسرل ومارتن هايدغر.

استنكر أندريس متلازمة العمى الجماعي للنخبة من السياسيين والمثقفين التكتيكيين، وانعدام الوعي لديهم بخطورة استغلال التهديد بالإبادة النووية لأغراض سياسية، وكتب محذراً بأن لا أحد منا لديه معرفة تتناسب مع ما يمكن أن تنتهي إليه حرب نووية ما يعني أن نهاية عجلى للعالم هي، في جوهرها، في أيدي ثلة من غير الأكفاء والحمقى، عاداً أن «الاستخدام الحديث للطاقة النووية أدى إلى طمس التمييز بين المدنيين والعسكريين، وجعل إمكانية وقوع كارثة حاسمة أمراً يمكن أن يبدأ من أي مكان. لقد تجاوزت البشريّة عتبة ربما لا يمكن العودة عنها بعدما علّقت متعمدة سيفاً مسلطاً على رأسها، وخلقت الظروف لإبادة نفسها».

وعدَّ أندريس أن الكوارث المروعة التي شهدها القرن العشرون كانت نتيجة تلقائيّة ومنطقية لذلك الاستبعاد التدريجي للبشرية من جميع عمليات الإنتاج الذي أطلقته الرأسماليّة - ما يسميه كارل ماركس بالاغتراب -، وهو الأمر الذي لم يعد يثير استهجاناً بقدر ما كان مدمراً، مشيراً إلى أن القنبلة النوويّة كانت التجسّد المادي لقوة غير مكتشفة ومقلقة ومؤرقة تؤججها أدوات التكنولوجيا المعقدة، التي كلّما تطورت وتقدمت تضاءل النوع الإنساني أمامها، وكلما أصبحت قدرتها غير مشروطة وغير محدودة، صار وجودنا ذاته مشروطاً بها ومرهوناً لها.

قراءة أندريس اليوم، كما كانت في الخمسينات من القرن الماضي، موجعة، لكنها ضرورية كما دواء مرّ

في عمله الأهم، «تقادم الإنسان» - الذي ظهر مجلده الأول بعنوان فرعي «عن الروح في وقت الثورة الصناعية الثانية» عام 1956، والمجلد الثاني «حول تدمير الحياة في وقت الثورة الصناعية الثالثة» عام 1980، قدم أندريس نقداً صارخاً للواقع الاستهلاكي الذي أنتجته التكنولوجيا الحديثة منطلقاً من تحليل عميق لنموذج العمل الحديث الموجه جذرياً لتعظيم الربح، الذي جعل العامل معنياً بعملية جزئيّة متكررة غافلاً عن المنتج النهائي، وما قد ينشأ عنه من عواقب اجتماعيّة أو بيئية، مع تلاشٍ متلاحق لإمكانية التعبير عن الذات أو التفكّر في أخلاقيات العمل. وعدَّ أن تقزيم بروليتاريا العمل توازي جنباً إلى جنب مع تصنيع مواد ذات نوعية رديئة مبرمجة للتقادم الفوري: إذ لم يعد المقصود من الأشياء أن تدوم، بل أن يتم استهلاكها كمواد قابلة للتلف، واستبدالها بمعدل محموم، وفي دورة لا نهائيّة من الإنتاج والتدمير، ما مكّن الإمبراطورية التكنولوجية الشمولية من اختزال البشر إلى مجرد تروس من الآلة الضخمة، تحت التهديد الدائم بالتصفية والبطالة لمصلحة الآلات.

بعض نذر أندريس المبثوثة في أعماله تبدو غريبة في قدرتها على التنبؤ بالكيفية التي تؤثر بها الأجهزة والآلات في أفكارنا ومناقشاتنا ومشاعرنا وحتى علاقاتنا، وكيف يتم حبس الأفراد وتجريدهم من إنسانيتهم وعزلهم عن بعضهم تحديداً من خلال توفير أدوات ظاهرها مطلق الحرية الشخصية وحقوق الفرد.

على الرغم من زيادة ترداد وسائل الإعلام لهذه التهديدات التي وصفها أندريس، فإننا نعيش عصراً من «فقدان القدرة على الخوف»، كما يقول، إذ ما زلنا بعد ما يقرب من 75 عاماً على تفجير أول قنبلة نووية سلبيين بشكل كبير في مواجهة كل هذا التطور التكنولوجي. فهل لنا الحق في مواجهة احتمال انقراض نوعنا غير البعيد أن نكتفي بالكسل المطلق والاستسلام للاستهلاك المفرط المتهور؟ إن «عمانا عن مواجهة استحقاق نهاية العالم»، الذي، وفقا لأندريس، دائماً نهج متأصل للثورة الصناعية الثالثة، التي يبدو البشر في ظلها مستمرين بـ«وضع الخطط والعيش كما لو أن كل شيء سيستمر في تقدمه كما عهدوه». أليس هذا وضعنا المؤسف تماماً اليوم قبالة تغوّل الذكاء الاصطناعي؟ قراءة أندريس اليوم، كما كانت في الخمسينات من القرن الماضي، موجعة، لكنها ضرورية كما دواء مرّ.

***

ندى حطيط

عن صحيفة الشرق الأوسط اللندنية، يوم: 19 مارس 2024 م ـ 09 رَمضان 1445 هـ

الوهج الشمسي للمعشوق يشلُّ قدرة العاشق على تبيُّن ملامحه

لم يترك الفلاسفة والشعراء والباحثون وجهاً واحداً من الوجوه الكثيرة للحب، إلا وتناولوه عبر حقب التاريخ المختلفة بالدرس والتمحيص والتحليل. ورغم أنهم أسرفوا إلى أبعد الحدود في امتداحه أو هجائه، واختلفوا في تأويله واكتناه طبيعته، مدبجين حوله الكثير من الكتب والمصنفات، دون أن يصل أحدٌ في تأويله له إلى مرسى أو يقين، فقد أكد الجميع، وبمعزل عما يصاحبه من فرح غامر أو تكلفة باهظة، بأن الحب هو العنصر الملازم للحياة نفسها، والأكسير الأكثر نجاعة الذي من دونه يتحول الكوكب الأرضي إلى صحراء.

ولم يكونوا بعيدين عن الصواب، أولئك الذين توصلوا إلى الاستنتاج بأنه ليس علينا أن «نفهم» الأشياء لكي نصادقها، وأن نحيل كل ما نود عيشه أو تعاطيه، إلى مشغل التفكر والتفكيك. ليس فقط لأننا بذلك نحول الحياة إلى جحيم من الكوابيس والهواجس العصية على التبدد، أو نسلخها عن متعة انسيابها التلقائي، بل لأن سعينا المفرط للوقوف على الجوانب الحسية الظاهرة من المعشوق يمكن أن يُفسد الخلطة السحرية اللازمة لكل افتتان، والتي يشكل المتخيل ممرها الإلزامي ورأس حربتها الأهم.

ولعل عبارة «الحب أعمى»، التي يتداولها العرب وغيرهم من الشعوب، لم تأت من فراغ محض، أو تأويل اعتباطي لهذه العاطفة المشتركة بين بني البشر، بل هي الترجمة الفعلية لطبيعته الملتبسة، وللانجذاب الغامض الذي يؤلف بين قلبين، كما للمعايير الجمالية المتفاوتة، التي من دون طابعها النسبي كان يمكن للرجال أن يعشقوا امرأة واحدة، وللنساء أن يفتتنوا برجل واحد. والواقع أن الشخص المحبوب لا يلزمه أن يبذل كبير جهد لكي يوقع المحب تحت سطوته الجاذبة، «فعين الرضا عن كل عيبٍ كليلةٌ»، كما يقول الإمام الشافعي، والعاشق تبعاً لذلك يخلق المعشوق من عندياته، مؤالفاً بينه وبين نموذجٍ للجمال ماثلٍ في بهاء التصورات أو في حياة سابقة، كما ذهب أفلاطون.

على أن مفهوم العمى لم يكن واحداً لدى الفلاسفة والدارسين وعلماء النفس والاجتماع. فالإغريق تحدثوا عن قدرة الجمال المعشوق على حجب الحقيقة عن عيني العاشق الرائي، وعن الإشعاع الشمسي للكائن المشتهى، بما يملأ عينيه بغبش دامع، ويسد عليه سبل الإبصار. ولم يكن تشبيه الحبيبة بالشمس في الشعر العربي وغيره، سوى ترسيخ إضافي لهذا المفهوم، حيث يتدفق من جهة المعشوق جمالٌ عصيٌّ على الفهم، لا تملك العين لسحره دفعاً، «وله كل ساعة تجديد»، وفق ما وصف به ابن الرومي جمال وحيد المغنية. أما رولان بارت فيرى أن الشخص المصاب بالعشق يبدو وكأنه يتخبط في عتمة واسعة، دون أن يعرف الجهة التي باغتته من صوبها ضربة الحب. ولأنه محروم من نور إدراك الأسباب والغايات، فهو يتعلق بشكل أعمى بالأشياء، أو بما ينجم عنها من فوضى. ومع أن الشهوة التي تعتريه ناقلة للضوء، فيما لو شاء البحث عن مخرج، فهو لا يكف عن استبدال ليل بآخر، مؤثراً بشكل طوعي أن يلازم عتمة اللامعنى، لأنها بالنسبة إليه «بوابة العجائب». واللافت في هذا السياق أن نيتشه، بتأثير من علاقته الفاشلة بسالومي، ومن سوء تكيفه مع المحيطين به، لا يكتفي بجعل الحب حالة من أحوال العمى، بل يضع الصداقة في خانة مشابهة، مختزلاً العلاقتين بقوله «الحب أعمى والصداقة تغلق عينيها».

وإذا كان أكثر الفلاسفة والدارسين قد اتفقوا على الربط بين الحب والعمى، إلا أنهم اختلفوا حول الأسباب والأدلة التي قادتهم إلى ذلك الاستنتاج. فقد رأى شوبنهاور بأن المخاتلة هي من طبيعة الشخص المعشوق. والمرأة على نحو خاص «تشبه سمك الحبار الذي يطلق حبره الداكن، لكي يحيل الماء من حوله ماءً حارقاً، فهي لا تمتلك للدفاع عن نفسها في مواجهة الرجل سوى الخداع والتمويه». والعمى، وفق ساراماغو، في روايته التي تحمل الاسم نفسه، هو أن لا نرى سوى لون واحد من الألوان، حتى لو كان الأبيض لا الأسود هو اللون المرئي، وسواء تعلق الأمر بالحب أو بالأفكار والمعتقدات. أما جان لوك ماريون فيرى في كتابه «ظاهرة الحب، ستة تأملات» أن كل حب جارف لا بد أن يولّد الغيرة والوساوس المؤرقة، وليست مقولة الحب الأعمى سوى طريقة البشر في التعبير عن خوفهم من اكتشاف الحقيقة «المبصرة». ولأن الحب نقيض الفكر، فإن الآخر عنده لا يحضر بوصفه مفكراً بل بوصفه معشوقاً. فالعاشق لا يرى مَن يحبه كما هو بالفعل، بل كما تتخيله رغبته. ولأنه لا ينظر إلا بعيون الحب العمياء لشدة بلبالها، «تصبح المرأة الكبيرة عنده مهيبة، والصغيرة لذيذة، والهستيرية شغوفة، والفاجرة مثيرة، والبلهاء عفوية، والمماحكة نبيهة».

ومع ذلك فنحن لا نستطيع إشاحة النظر عن الآراء المضادة لفلاسفة وباحثين آخرين رفضوا بإصرار مقولة الحب الأعمى، معتبرين أن هذا الأخير ليس مجرد عاطفة بحتة وكلمات خاوية، بل هو طاقة «مضادة للعقم، ولا تقايَض إلا بالحب نفسه»، وفق تعبير كارل ماركس. فالحب بالنسبة لإريك فروم فن نتعلمه بالدأب والخبرة، كما نتعلم الرسم والهندسة والموسيقى، بقدر ما هو رعاية وحدب وعطاء، «فأن تحب الزهور يعني بالضرورة أن تسقيها، وإلا فإن حبك كاذب». ويسخر فروم من مقولة الحب الأعمى، لأنها تضع الشخص العاشق في مرتبة انعدام الشعور بذاتيته، بما يجعله يغترب عن قواه ويميل إلى تأليه المحبوب وعبادته. وإذا كان هذا النوع من الحب لا يعكس سوى جوع العاشق وبؤسه وامحائه، فإن الحب الحقيقي في رأي فروم، لا يكون ممكناً إلا بتواصل العاشقين من مركز وجودهما الإنساني والمتكافئ.

وخلافاً لما ذهب إليه شاتوبريان من أن إقحام العقل بالعواطف، وإخضاع ذلك الجزء من كياننا الذي يعيش بالحب للمراجعة والتحليل، هو عملية شائنة ورعناء، فإن باسكال يعتبر بأن الحب والعقل هما الشيء ذاته مع فارق قليل في التوقيت، وما يفعله الأول ليس سوى استعجال الثاني وتمهيد الطريق له. والشعراء وفق باسكال «ليسوا على حق حين يصورون الحب بأنه أعمى، إنما يجب أن ننزع عن عينيه العصابة التي تحجب عنه نور العالم».

ولم تغب ثنائية الإبصار والعمى عن أذهان الشعراء العرب، الذين أعشى العشق أبصار بعضهم عن جمال النساء كلهن، ولم يضئ لهم سوى النور الذي يشع من جهة المرأة المعشوقة. وهو ما يعكسه قول عروة بن أذينة، في أبياته الحوارية مع حبيبته سعدى:

قالت، وأبثثْتُها وجدي فبحتُ به

قد كنتَ عندي تحب الستْر فاستترِ

*

ألستَ تبصر مَن حولي ؟ فقلت ُلها

غطّى هواكِ وما أَلقى، على بصري

وإذا كان بعضهم قد رأى في الحب ضياعاً للبصر والبصيرة، فقد رأى فيه آخرون العيون التي يبصرون بها، والتي يفقدون بفقدها الطريق إلى فردوس الوجود الآمن. وهو ما جسّده قول الفرزدق في نُوار، وقد عمد إلى تطليقها في لحظة غضب، قبل أن يأخذ منه الندم والأسى كل مأخذ:

ندمتُ ندامة الكسَعيّ لما

غدتْ مني مطلّقةً نُوارُ

*

وكانت جنتي فخرجتُ منها

كآدمَ حين لجّ بها الضِّرارُ

*

وكنتُ كفاقئٍ عينيه عمداً

فأصبح لا يضيء له النهارُ

إذا كان بعضهم قد رأى في الحب ضياعاً للبصر والبصيرة فقد رأى فيه آخرون العيون التي يبصرون بها.

لكن الأمر يختلف تماماً حين يتعلق بالعشاق المكفوفين، وفاقدي البصر بالمعنى المحسوس. فهؤلاء لا يحتاجون إلى مزيد من العزلة المعتمة لكي يتمكنوا من مواصلة حياتهم، بل إلى الحب الذي يؤنس وحدتهم، ويتحول عندهم إلى عصا النجاة من الوحشة والتعثر. ووفق مبدأ التعويض عن الحاسة المفقودة بأخرى غيرها، فإن المصابين بالعمى الفيزيولوجي يعولون على الأذن بدلاً من العين، وعلى إشراقة القلب والبصيرة بدلاً من البصر المطفأ. وهو ما جسّده بوضوح بشار بن برد، الذي لم يمنعه عماه من الشغف بالحياة والنساء والملذات، قبل أن يقع في حب «عبدة»، المرأة التي سحره جرْس صوتها وأشجته حلاوة ألفاظها، وبات قوله فيها «والأذن تعشق قبل العين أحيانا» أحد الأمثال السائرة عند العرب. أما الإبصار بعين القلب فيختصره بشار بقوله:

يزهّدني في حب عبدةَ معشرٌ

قلوبهمُ فيها مخالفةٌ قلبي

*

فقلتُ دعوا قلبي وما اختار وارتضى

فبالقلب لا بالعين يبصر ذو الحبِّ

وإذا كان بورخيس الذي فقد بصره باكراً، قد وجد في الكتابة حبل النجاة المشع الذي مُدَّ له في ليل حياته الدامس، وفق اعترافاته لألبرتو مانغويل، فإن طه حسين، وقد تقاسم مع نظيره الأرجنتيني وطأة العمى وملكة الابداع، لم يجد خلاصه في الكتابة وحدها بل في الحب. وهو ما يؤكده قوله لسوزان، حبيبته وزوجته الفرنسية، «أشعر بدون وجودك أنني أعمى حقاً. أما وأنا معكِ فأتوصل إلى الشعور بكل شيء، وأمتزج بكل الأشياء التي تحيط بي».

***

شوقي بزيع

عن صحيفة الشرق الاوسط اللندنية، يوم: 12 مارس 2024 م ـ 01 رَمضان 1445 هـ

مع كل حدثٍ يستجدّ تبدو معضلة «إدارة الأزمة» ماثلةً للعيان. من السهل أن تصنع أزمة، ولكن الأصعب أن تديرها، وأن تخرج منها، وأن تكون أنت المتحكم بها لا العكس. مرّ زمن طويل علينا في المنطقة وأحداثها، تبدو الأزمة هي التي تقود صانعها، بل وتتحداه وتتجاوزه وربما هزمته. ولا يمكن إنجاح إدارة الأزمة من دون الخروج من مناخ العاطفة والحماسة، والتوجه نحو العقل والمنطق. إن التفكير بدمٍ بارد مع أي حدث عاصف وأزمة خانقة يسهّل من حلها، أما النواح والصراخ يجعل الأمور متجهةٍ نحو التفاقم والانفجار، وفي زمنٍ قل فيه الحكماء وكثر فيه الحكاة وصنّاع الشعارات لابد من الذهاب لتفسير الأزمة، للصلب المفهوم.

الفيلسوف المعمّر «إدغار موران» له كتاب معروف: «مفهوم الأزمة» فيه درس المعنى وعالج صيرورة المفهوم وتحولاته، ليست الأزمة بالضرورة تطوّريّة، إذ يمكن - كما يقول - أن تُستوعَب في رجوع إلى الوضع القائم، لكنّ للأزمة احتمال قابليّة التطوّر. فهي تحمل عند نشأتها خصائص التطوّر. ولفهم هذا، يجب التخلّص من فكرة أن التطوّر عمليّة متدفّقة متواصلة. فكلّ تطوّر يَنشأ دائماً من أحداث أو حوادث، ومن اضطرابات تولّد انحرافات تصبح بدورها اتجاهاً يدخل في تعارض ضمن النظام ويجرّ اختلال تنظيم أو إعادة تنظيم متفاوتة الدراماتيكيّة والعمق. إذن، يمكن اعتبار التطوّر سلسلة من اختلال التنظيم ومن التنظيم شبه الحرج. إذن الأزمة حقل للتطوّر. إنها نوع ما مخبر لدراسة العمليّات التطوّريّة. إنّنا في مجتمعات تتطوّر باستمرار وبسرعة، ويبلغ تركيبها مبلغاً يجعل هذا التطوّر مرفقاً بغياب استقرار وباضطرابات كبيرة. كما أنّنا اليوم لا نعرف هل إنّ التطوّر المستمّر، وانطلاقاً من لحظة معيّنة، يمثّل أزمة مستمرّة أيضاً. لكنّنا نستطيع أن نفرّق بين المفهومين لكون الأزمة غير مستمرّة، إذ إنّها تتجلّى بين حدود زمنيّة معيّنة. ويجب أن يكون هنالك ما قبل وما بعد «عاديين» تقريباً: فالأزمة بالمعنى الدقيق تتحدّد دائماً بالنسبة إلى فترات استقرار نسبيّ، وإلّا فإنّ فكرة الأزمة سوف تغرق في فكرة التطوّر. بهذا، وبما أنّ كلّ تطوّر يحمل مظهراً «أزميّاً»، يمكن القول إنّ التّطوّر ينطوي على عنصر «أزميّ»، ويمكن أن يكون مُصَمَّماً على شكل سلسلة من الأزمات غير القابلة للرجوع.

هذا المفهوم عن الأزمة يمكن توسيعه ليشمل لا الأزمات الفكرية والاقتصادية والاجتماعية التي عرج عليها في فصول الكتاب، بل لتشمل حتى الحدث السياسي، أو الأزمة السياسية، لأننا على الدوام مع مستجدات كل حدث نواجه معضلتين:

أولها: التكييف الأخلاقي للمشكلة ومن ثم الانقسام على أساس ذلك التكييف، كما حدث في حرب الخليج حين وقفت دول مع صدام حسين لأنه «يريد تحرير فلسطين عن طريق الكويت»، بينما الطرف المؤثر وصاحب الحجة والمرجعية القانونية هو الذي قرر تحرير الكويت من غزو يخالف كل قوانين الأمم ومواثيقها. وثانيهما: كيف يمكن لملمة الأزمة والخروج منها، لا ننكر أن آثار حرب الخليج لاتزال ماثلةً حتى الآن على مستويات اقتصادية وفكرية واجتماعية.

لابد من التعامل مع الأزمة بطريقةٍ عادلة وحكيمة، يمكنك أن تتجاوزها حين تتأمل بها من خارجها، وأن تكون مدركاً للأزمة لا منخرطاً في أثرها ولظاها.

***

فهد سليمان الشقيران - كاتب سعودي

عن صحيفة الاتحاد الاماراتية، يوم: 12 مارس 2024

 

(الكهنة في العصور الوسطى حوَّلوا الدين قيوداً وأصفاداً).. كارل ياسبرز

طيلة سنوات عديدة كنا مبهورين بفلاسفة الإلحاد في الغرب من أمثال ماركس وهيدغر وسارتر وعشرات غيرهم. بل وكنا نعتقد أنه لا يمكن أن تكون فيلسوفاً كبيراً إن لم تكن ملحداً. وكنا نتوهم أن الفيلسوف المؤمن لا يمكن أن يكون إلا شخصاً متخلفاً عقلياً، بل وطائفياً. وذلك لأن التدين كان مرتبطاً طيلة العصور الوسطى بالانغلاق داخل جدران الطائفية والمذهبية. ولكن فيما بعد اكتشفنا أن هناك فلاسفة كباراً مؤمنون فعلاً وليسوا متخلفين ولا طائفيين. من بين هؤلاء كارل ياسبرز الذي كان معاصراً لهيدغر ومنافساً له على عرش الفلسفة الألمانية. أياً يكن من أمر فإن المناقشة الخصبة التي اخترقت الفكر الأوروبي منذ بداية العصور الحديثة كانت هي الخاصة بالعلاقة بين العلم والإيمان، أو الفلسفة والدين. والبعض يحاول أن يحصر هذه المناقشة الكبرى في خيارين متطرفين لا ثالث لهما: فإما أن تكون مؤمناً تقليدياً طائفياً رافضاً للعلم والفلسفة، وإما أن تكون فيلسوفاً ملحداً رافضاً لكل إيمان أو تعالٍ رباني!... أما ياسبرز فيفضل اتباع الخط الثالث: أي خط الوسط الذي يجمع بين العقل والإيمان. إنه يرفض التضحية بالفلسفة مثلما يرفض التضحية بالدين أو لنقل جوهر الدين. وهذا هو الخط الوسطي العقلاني الذي يناسبنا نحن في العالم العربي الإسلامي. ليس لنا أي مصلحة في اتباع الخط المادي الإلحادي المحض السائد في الغرب حالياً.

في مقالة له بعنوان «الإيمان والتنوير» يقول هذا المفكر الكبير ما معناه: يوجد فهمان للدين: الفهم التقليدي الأصولي القائم على التسليم الأعمى أساساً، والفهم الحديث القائم على العلم والعقل والبصيرة الفلسفية. ولكن المشكلة هي أن معظم الناس لا يستطيعون التفريق بينهما. ثم أنهم يعتقدون أن التنوير يؤدي إلى الإلحاد بالضرورة. ولكن هذا مفهوم خاطئ أو ناقص للتنوير. ولكن ما هو التنوير يا ترى؟ ينبغي العلم بأن التنوير يتعارض مع التعصب الأعمى الذي يعتقد بأفكار دوغمائية معينة دون أن يخضعها للتفحص النقدي. التنوير يتعارض مع الأفكار السحرية والشعوذية والخرافية. إنه يرفض الحَجْر على حرية التفكير باسم الإيمان أو العقائد الدينية. كما ويحارب الأحكام المسبقة والأفكار المذهبية العتيقة التي ثبت بطلانها وضررها، بل وخطرها على المجتمع. إنه - أي التنوير - يتطلَّب منا بذل الجهد باستمرار من أجل البحث عن الحقيقة، وعدم تصديق أي شيء إلا بعد غربلته وتمحيصه على ضوء معايير العقل والمنطق. وبالتالي، فهناك فرق كبير بين الإيمان القائم على التسليم الأعمى، والإيمان القائم على التعقل والتنوير. ولهذا السبب قال كانط، فيلسوف التنوير الأكبر، بأن التنوير يعني انتقال الإنسان من مرحلة القصور العقلي إلى مرحلة البلوغ وسن النضج. فالإنسان في العصور المسيحية الأوروبية السابقة كان يطيع الكاهن بشكل أعمى ويصدق كل ما يقوله ويخضع له دون أي مناقشة. وهذا يعني أنه كان يُعَاْمَل معاملة الطفل، أي كالقاصر الذي لا عقل له. بدءاً من عصر التنوير، أي عصر العقل والعلم، أصبح الإنسان مطالباً بأن يفكر بشكل شخصي حر أي متحرر من شيخه أو كاهنه. لقد شب الإنسان عن الطوق في عصر التنوير. لقد بلغ سن الرشد.

لكن دعونا ندخل في التفاصيل أكثر:

بعض الكهنة المسيحيين يقولون: لقد قضى عصر التنوير على الاعتقاد الديني في أوروبا. فلعنة الله على التنوير والمتنورين أجمعين! وهذا ما ابتدأ يقوله أيضاً بعض المثقفين في العالم العربي. فكثيراً ما نسمعهم يتهكمون بالتنوير ويسخرون منه كأن يقولوا مثلاً: هذا الشخص تنويري أعوذ بالله! هذا الشخص تنويري أجارنا الله! أوف! أوف! أوف! معظم من يقولون ذلك من المحافظين العرب إن لم نقل الرجعيين... فما هي حقيقة القصة يا ترى؟ يقول لنا كارل ياسبرز ما فحواه: لا ريب في أن التنوير الراديكالي المتطرف أدى إلى تدمير التراث المسيحي الذي كانت ترتكز عليه حياتنا كلها من المهد إلى اللحد، ومن العمادة إلى القبر... لقد فكَّك الإيمان والمعتقدات الموروثة أباً عن جد منذ مئات السنين. لقد تركنا يتامى، مهجورين، وأوصلنا إلى الفراغ، إلى حافة العدمية... فالتنوير إذا ما فُهم بشكل خاطئ ومتسرع وسطحي كارثة.

ولكن الفيلسوف الكبير يرى أن هذه الانتقادات لا تنطبق إلا على التنوير الخاطئ أو الفهم الخاطئ للتنوير. فليطمئن الناس إذن وليهدّئوا من روعهم!... فالفهم الخاطئ للتنوير، أو لنقل الفهم المغرور والمتعجرف والمتغطرس، يعتقد أن كل معرفة ترتكز على العقل فقط. هذا في حين أن العقل ينبغي أن يُستخدم فقط كأداة ضرورية لإضاءة ما يُقدَّم له من مكان آخر يتعالى عليه. ثم أن الفهم الخاطئ للتنوير يحول المعارف الجزئية التي يحصل عليها الإنسان عن طريق عقله التجريبي ثوابت مطلقة أو حقائق يقينية ونهائية. نقول ذلك ونحن نعلم أنها عابرة ومؤقتة، وكل تاريخ العلم يثبت لنا ذلك. فالنظريات العلمية تتوالى وراء بعضها بعضاً وتصحح بعضها بعضاً أو تلغي بعضها بعضاً. يضاف إلى ذلك أن الفهم الخاطئ للتنوير يغري الإنسان ويجعله ينتفخ ويعتقد بأنه يمتلك معرفة كاملة لوحده. يحصل ذلك كما لو أن الإنسان هو وحده الكلّ، وأنه لا ينتمي إلى جماعة كبرى تتجاوزه... إن معنى الكائن الأعظم، أي الله عز وجل، يخفى على المتنوّرين المتسرعين السطحيين، وكذلك معنى الهيبة العليا أو الفوقية. نقول ذلك ونحن نعلم أن كل حياة بشرية ينبغي أن تسلك طريقها على ضوء الإيمان بالله والهيبة الفوقية أو الذروة الأخلاقية العليا التي تعلو ولا يعلى عليها. باختصار، فإن الفهم الخاطئ للتنوير يعتقد بأن الإنسان مكتفٍ بذاته وليس في حاجة إلى أي مساعدة أو هداية من خارجه أو من فوقه. إنه يحثّ على المعرفة، لا على الإيمان.

والآن نطرح هذا السؤال: ما هو إذن المعنى الصحيح للتنوير؟ وعليه يجيب ياسبرز بما معناه: إنه الفهم الذي لا يحدد بشكل مسبق للعقل حدوداً من خارجه. إنه الذي لا يحصره مسبقاً بفرضيات دوغمائية طائفية متحجرة. فالعقل ينبغي أن يظل حراً، منطلقاً، من دون قيود أو حدود تعسفية. والفهم الحقيقي للتنوير لا يكتفي بتفكيك الأفكار التعصبية، والخرافات، والأساطير الطائفية وإنما يضع نفسه على محك الشك والنقد أيضاً. فالعقل التنويري ليس معصوماً. وحده العقل الدوغمائي المتحجر يعتقد أنه معصوم. ولكن عقل التنوير لم يُطِح بمعصومية العقل اللاهوتي السابق لكي يحِل محلها معصومية جديدة. فحرية البحث والتمحيص تظل مفتوحة. وينبغي أن تُطبَّق على التنوير ذاته لأنه ليس فوق النقد ولا فوق الفحص. والفهم الصحيح للتنوير لا يخلط بين مجريات العقل وبين القيم الأخلاقية العليا. فهذه القيم يمكن إضاءتها عن طريق المجريات الفكرية للعقل، ولكن لا يمكن أن تجد في العقل أساسها أو قاعدتها التي ترتكز عليها. إنها تتجاوز العقل البشري أو تعلو عليه، إنها إلهية لا بشرية.

إذا ما فهمنا التنوير على هذا النحو فإنه لن يقضي على الإيمان بالمعنى الجوهراني، الداخلي، الحر، للكلمة. على العكس؛ فإنه سيؤدي إلى اتساع الإيمان واستضاءته كلما اتسعت معارف الإنسان وزادت علومه. نقول ذلك بشرط ألا نخلط بين الإيمان الداخلي والإيمان الخارجي القائم على الطقوس الكنسية والشعائر والقوالب الشكلانية ذات الطابع الإكراهي والقسري بالضرورة. ثم يوضح ياسبرز الفرق بين الفهم الصحيح للدين والفهم الخاطئ ويقول: هناك فرق بين جوهر الدين وبين التأويلات الدوغمائية المتعصبة الطائفية التي قدمها الكهنة عنه على مدار القرون. فإذا فهمنا أن جوهر الدين هو الحرية وأن الله ذاته لا يتجلَّى للإنسان إلا من خلال الحرية فإننا نعرف عندئذ سبب انصراف الناس في أوروبا عن المسيحية وسبب نجاح حركة التنوير. فالمسيحية تحولت في بعض المراحل قيوداً مرهقة وعبودية. بل وتحولت محاكم تفتيش. وضد كل ذلك نهض التنوير.

نعم، إن الكهنة حوَّلوا الدين قيوداً وأصفاداً، إكراهاً للضمائر والعقول، مجرد طقوس وشكلانيات... فأنت أصبحت مجبراً على الإيمان ببعض العقائد والطقوس إجباراً غصباً عنك. بمعنى آخر، فإنهم حولوا الدين إلى عكسه، إلى إكراه في الدين. هذا في حين أن الدين محبة وعقلانية وحرية. وأعطوا عن الله تصوراً مضاداً لطبيعته وجوهره. فالله هو الخير المطلق والحق المطلق والعدل المطلق ولا يريد بعباده إلا خيراً (بين قوسين: لاحظوا كيف أن كلامه هنا يتطابق حرفياً مع كلام المعتزلة في الإسلام دون أن يكون مطلعاً عليه). ولكن الكهنة في العصور الوسطى قدموا عن الله صورة مخالفة تماماً لجوهر الله عز وجل. لقد قدموه على هيئة جلاد لا هم له إلا تعذيب الناس وتخويفهم! وبما أن هذا التصور ساد طيلة قرون وقرون فإنه تحول حقيقة واقعة لا تقبل النقاش. وأصبح يصعب علينا أن نقدم تصوراً آخر عن الدين والله، تصوراً أقرب ما يكون إلى أصوله الأولى وجوهره. والناس الذين يظهرون العداء للتنوير هم أولئك الذين لا يستطيعون الخروج من التصور القديم الموروث عن الأسلاف. لقد تعودوا عليه، أي على العبودية إلى درجة أنهم أصبحوا ينكرون طعم الحرية. فهم يشعرون بحاجة نفسانية للخضوع للكهنة الذين يقدمون أنفسهم وكأنهم الناطقون الرسميون باسم الله على وجه الأرض! ولكن إذا ما فهمنا الله على أساس أنه مطلق الحرية والخير والعدل والحق فإنه لا يعود هناك أي تناقض بين التنوير والإيمان. وسوف يظل الإيمان مستمراً حتى بعد انتصار التنوير. بل إنه سيصبح أقوى إشعاعاً بكثير. سوف يصبح نوراً على نور: نور الإيمان ونور العقل، نور الدين ونور الفلسفة! فاطمئنوا أيها الناس ولا تخافوا من التنوير.

***

د. هاشم صالح

عن صحيفة الشرق الأوسط، يوم: 11 مارس 2024 م ـ 29 شَعبان 1445 هـ

الصفحة 1 من 7

في المثقف اليوم