قراءات نقدية

قراءات نقدية

إذا كان الشَّرُّ متأصِّلًا في البَشَر، والخير مستحيلًا- كما تُصوِّر مسرحيَّةُ (جان بول سارتر)، "الشيطان والرحمن"، في مَواطِن عديدة- فإنَّ من الخير، إنْ وُجِد، ما هو خيرٌ سلبيٌّ؛ يُعيق الالتزام بالحقِّ والواقعيَّة في النظر إلى الأمور، كموقف الفلَّاحين المتديِّنين الذين يقابلون الشَّرَّ القادم بالخير والحُبِّ(1)؛ ممَّا يفرض على الملتزِم توجيههم الوجهة الواقعيَّة، ولو استدعَى ذلك اللجوء إلى القوَّة.  والمعوِّق الآخَر: رجال الدِّين ودجَّالي الغيبيَّات؛ ممَّا يجعل مهمَّة الملتزِم صعبةً في إقناع أبناء الشَّعب بزيف ما تُحشَى به رؤوسهم، مثلما حدث عندما حاول (تيتزل)، الكاهن الدجَّال، أن يوزِّع صكوك الغُفران على أبناء الشَّعب ليَبْتَزَّ أموالهم.  وحين حاول بطل المسرحيَّة (كوتز) أن يُفهِّم الجمهور حقيقة لعبة تيتزل الدنيئة لم يُفلِح، بل لقد عاداه جمهور الشَّعب، على حين استطاع تيتزل أن يزيد حُبَّ الشَّعب إيَّاه وإطاعته.(2)  وقد يكون تضليل الشَّعب عن طريق السِّحر والشعوذة وما أشبه ذلك، مثلما نجِد في (اللوحة الحادية عشرة)، إذ تَحُكُّ السَّاحرة بِيَدٍ خشبيَّةٍ ظهور الفلَّاحين، زاعمةً أنَّهم بذلك سيُصبحون معصومين من التعرُّض للجراحات. حتى لقد استُغِلَّت هذه الطريقة لدفعهم إلى الحرب ومنعهم من الفرار. غير أنَّ (ناستي)، الذي يمثِّل قائد الثورة الشَّعبيَّة، وقف أمامهم، مخاطبًا أحد أبطال هذا الفصل من المسرحيَّة:

"ناستي: لقد جعلتُ منهم رجالًا وأنتَ تحوِّلهم إلى بهائم!

كارل: إنَّ البهائم التي تُقتَل وهي ثابتةٌ بمكانها أفضل من الرِّجال الذين يَفِرُّون."(3)

وماذا عن التعليم؟

من خلال دَور المعلِّمة التي تتولَّى تعليم الفلَّاحين، تُصوِّرُ المسرحيَّةُ التعليمَ- وكان المعوَّل عليه في تبصير البُسَطاء والجهلة بحقيقة الأمور ووظائف الإنسان في الحياة- على أنَّه لا يُعَلِّم إلَّا المثاليَّة الفارغة، وحُبَّ الخير العقيم، الذي لا يُشْبِعُ جائعًا، ولا يكسي عاريًا، ولا يشفي مريضًا، ولا يَدْرَأُ شَرًّا محدِقًا بالمجتمع.  وأنَّ تكريس تلك المثاليَّة تجعل الناس يقفون ضِدَّ من يُفتِّح عيونهم على أشعَّة الشمس الساطعة.(4)

 وهكذا فإنَّ مسرحيَّة (سارتر) تُقدِّم عرضًا لمختلف جوانب المشكلة الوُجوديَّة، وتصويرًا للصراعات بين عواملها المتباينة المركَّبة.  صراع الفقر مع الغِنَى، وصراع الواقعيَّة مع المثاليَّة، وصراع الخير مع الشَّر، وصراع الوُجوديَّة مع الدِّين، وصولًا إلى النهاية التي جاءت دعوةً إلى تحقيق وجود الإنسان.  أمَّا الوسيلة، فهي باعتماد الإنسان على نفسه في تحقيق ذلك الوجود، وبالواقعيَّة الوُجوديَّة، التي تجاهد الفساد في كلِّ صُوَره، وإنْ استدعَى الأمر العنف والإرهاب! 

أَ فيتَّفق هذا الالتزام الذي يطرحه (سارتر) في مسرحيَّته هذه مع ما دعا إليه الوُجوديُّون، وفي مقدمتهم سارتر نفسه، من أن يقدِّم الكاتب رأيه الالتزاميَّ بهدوءٍ، وبلا عنفٍ أو تَشَنُّج، بل من دون أنْ يُشْعِرَ القارئَ بفرض شيءٍ عليه، وإنَّما تُقَدَّم إليه الحقائق والاقتناعات ليُكْسَب تعاطفُه على الأقل؟ 

تلك مسألةٌ نقديَّةٌ تتطلَّب استطرادًا جانبيًّا، ليس هذا بمجاله.  ومهما يكن من أمرٍ، فلعلَّه قد اتَّضح- من خلال سلسلة المقالات في هذا الموضوع- ما جاءت تُمثِّله مسرحيَّة (سارتر) من نظرةٍ وجوديَّةٍ إلى علاقة الأدب بالسُّلْطة، وما عبَّرت عنه من التزامٍ وُجوديٍّ عميق، لا يخلو من تطرُّف.

***

أ. د. عبد الله بن أحمد الفَيفي

...........................

(1) سارتر، (د.ت)، الشيطان والرحمن، ترجمة: سامي الجندي، (بيروت: المكتب التجاري للطباعة والنشر والتوزيع)، 186- 188.

(2) انظر: م.ن، 136- 144.

(3) م.ن، 248.

(4) انظر: م.ن، 181- 190.

 

في خضم صراع الايدلوجيات وتشابك الأفكار وارتباك أو اهتزاز في بعض الانتماءات في العراق لاسيما أثناء وبعد تظاهرات تشرين 2019،التي خرجت وعلى الرغم من كل الملاحظات عليها لكنها خرجت بمسوغات حقيقية ناتجة عن فشل المنظومة السياسية الحاكمة بعد 2003بقيادة الاسلام السياسي، يصدر لنا أحد الشباب كتابا بعنوان (تحرر من القيود) وللوهلة الأولى يظن من يقرأ إنه يدعو الى كسر كافة القيود بما فيها الضوابط الشرعية والقانوية لكن عندما نسترسل بقراءة الكتاب نجده إنه ضد القوالب التي اختلقتها العادات ووبعض الطقوس المبتدعة التي تحولت إلى مقدسة يصعب التقرب منها هي من صنع ذوات المصالح وبعد ذلك تصبح قيودا وأثقالا على كاهل الفرد والمجتمع ولما نقرأ مقطوعة من الكتاب سيتبين لنا أن الكاتب محمد كريم الكلابي يدعو الى تنظيم الحياة لا انفلاتها فالتمسك بالشرع والقانون ما هو إلا تمسكا بنظم الحياة وهذه قضية يدعو أو دعا اليها  الامام علي عليه السلام إذ قال (عليكم بنظم أموركم) ونظم الأمور في واقع الحال  يعد مفتاحا لتقدم المجتمعات ورقيها ومن نافلة القول إن التقدم الذي يشهده العالم الأول جاء بعد أن أصبح القانون القوة الفاعلة هناك وخرقه مهما كان صغيرا يواجه بعقوبات رادعة عكس المجتمعات في العالم الثالث ومنها العراق الذي يطبق القانون بصورة مراعاة المصالح لا لبناء المجتمع ولابد لنا من القول إن القيود التي فرضها الانسان على نفسه لا تقتصر على من يؤمن بالأفكار الدينية أو المنحدر من التقاليد العشائرية أو القبلية بل إن الجماعات التي تقف بالضد من هاذين المفهومين أيضا طوقت نفسها بقوالب فكرية تحولت بمرور الزمن إلى قيود لا يمكنهم أن يتحرروا منهم ولذلك يصعب عليهم التحرر منها وبالتالي صعوبة مد جسور التفاهم معهم بالنسبة للجماعات الاسلامية أو العشائرية وحتى مع اللامنتمين ولو نقرأ المقطع التعريفي لكتاب محمد كريم الكلابي اللذي ينص على "إن القيود التي يفرضها الانسان على نفسه إنما هي سجن داخلي للذات يثقلها ويقيدها عن التلذذ بمتع الحياة . وتلك القيود وليدة من الانسان نفسه فهو من يخلقها ويحتضنها وينميها لتكبر فوق أكتافه متحكمة فيه ومتشعبة في أدق تفاصيله" على الرغم من سهولة المفردات لكنها دقيقة جدا فقد حمل الانسان بخلق القيود ولم يذكر أمرا آخر بل استخدم مفردة الانسان ذاتها بدلا عن مفردة الفرد لأنها أشمل وأدق في هذا المفهوم أن هذا الكتاب ينبئنا بولادة كاتب دقيق في اختياراته وكلماته وستكون لنا وقفة حوارية معه ليبين لنا كيف فكر في هذا الكتاب وما هي مشاريعه.

***

رائد عبد الحسين السوداني

كان الدافع الرئيس للقيام بهذه الدراسة حول الإسلاميَّات في "صادق أو القَدَر" لـ(فولتير) ملاحظة بعض الآثار الإسلاميَّة أو العَرَبيَّة، خاصَّةً القُرآنيَّة، أو التي قد تعود إلى حكايات "ألف ليلةٍ وليلة". فجاءت بهدف استقصاء تلك الآثار، وإرجاعها إلى أصولها. وازداد الاهتمام بالموضوع بمعرفة علاقة (فولتير، -1787) الوثيقة بالشَّرق. وأبرز دليلٍ على تلك العلاقة قِصَّة "صادق" نفسها؛ إذ كانت قِصَّةً بابليَّةً شرقيَّةً قديمة، أعاد فولتير طرحها على نحوٍ آخَر.

ولأنَّ قِصَّة "صادق" قِصَّةٌ بابليَّةٌ قديمة- نُقِلت إلى العَرَبيَّة في الفترة نفسها التي أُلِّفت فيها مجموعة "ألف ليلة وليلة"- فإنَّه يبدو من المهمِّ أن تُدرَس القِصَّة البابليَّة القديمة، أو المترجمة إلى العَرَبيَّة؛ لمعرفة ما أخذ (فولتير) منها وما ترك. غير أنَّ هذا مشروعٌ آخَر لعلَّه يتحقَّق مستقبلًا. أمَّا هذه المقاربة، فتُعنَى باستقراء الآثار الفنِّـيَّة المقارنة، اعتمادًا على الترجمة العَرَبيَّة التي أنجزها (طه حسين) لقِصَّة "صادق".

وبناءً على هذا قُسِّم الموضوع إلى ثلاثة أجزاء: جُعِل الأوَّل للمَحاور الرئيسة في قِصَّة "صادق" لـ(فولتير)؛ لأنَّ في ذلك مفتاحًا لما سيكون بعد ذلك من دراسة. أمَّا الجزء الثاني، فكان عن العلاقات التاريخيَّة، وقد انشعب هذا الجزء إلى شُعبتين: واحدة أُفرِدت لحياة فولتير، والأخرى لصِلاته بالشَّرق الإسلامي. والجزء الثالث للمقارنة، عُرِضت فيه الآثار الإسلاميَّة أو العَرَبيَّة وأُصولها، مبيَّنةً وجوه التشابه أو الاختلاف بين المؤثِّر والمتأثِّر. وانقسم هذا الجزء إلى قِسمين: الأوَّل "بين القُرآن الكريم وقِصَّة صادق"، والآخَر "بين ألف ليلة وليلة وقِصَّة صادق".

وقد كنتُ كتبتُ هذه الدراسة قبل أكثر من ثلاثة عقود من السنين، خلال الفصل الجامعيِّ الأوَّل لعام 1405هـ= 1985م، ضِمن متطلباتٍ فصليَّةٍ لمقرر (الأدب المقارن)، في مرحلة الماجستير، تحت إشراف (أ.د. أحمد كمال زكي، رحمه الله). ومرَّت السنون، ولم يتسنَّ لي أن أنشر منها إلَّا مقدِّمتها في صحيفة «الرياض»، خلال ثمانينيَّات القرن الماضي، ولم تشأ الصحيفة أن تستكمل نشر بقيَّتها، ربما بسبب السمعة الفولتيريَّة غير المقبولة إذ ذاك.

ويسجِّل لنا هذا العمل مرحلة من مراحل تطوُّر المصطلح الأجناسي في الأدب، ولاسيما في العالم العَرَبي. فالمتلقِّي اليوم سيسأل: أهذا النصُّ "قِصَّة"، ذات صبغة تاريخيَّة، كما سمَّاه كاتبه: Histoire، وكما وافقه مترجمه؟ أم هو "رواية" تاريخيَّة، كما يمكن أن نفهم مصطلح (رواية) اليوم؟ إنَّه رواية، حجمًا وبناءً، غير أنَّه كان يُسمَّى "قِصَّة"، في ستينيَّات القرن الماضي، وما قبلها. وربما مُيِّز بإضافة صفة "طويلة"؛ فسُمِّي: "قِصَّة طويلة"، بعد ظهور "القِصَّة القصيرة". غير أنَّنا هنا سنلتزم بالمصطلح المستعمل مع النصِّ، بالفرنسيَّة والعَرَبيَّة.

كما أنَّ هذا العمل يسجِّل مرحلةً من مراحل تطوُّر الباحِث، بل من مراحل تطوُّر مناهج الأدب المقارن في العالم. فليس ما يجده القارئ في هذا الفصل من انطلاق المقارنة من شرطَي (العلاقات التاريخيَّة) و(التأثُّر والتأثير) هو لأنَّ موضوع الدراسة كان يستدعيه بالضرورة، لكنَّه تبنٍّ لمعايير المدرسة الفرنسيَّة التقليديَّة في الأدب المقارن، المنحدرة من القرن التاسع عشر؛ التي تشترط ذلك، والتي ما زالت عقابيلها مسيطرةً إلى اليوم على غير قليلٍ من المهتمِّين بالأدب المقارن. وكان ذلك بالطبع هو مذهب أستاذي (أحمد كمال زكي)(1)، ومذهب جيله من المقارنيِّين العَرَب، تلاميذ المدرسة الفرنسيَّة العتيقة. على حين لم تَعُد المدرسة الأميركيَّة في الأدب المقارن تُقِرُّ بمعيارَي العلاقات التاريخيَّة والتأثُّر والتأثير ولا تأخُذ بهما، منذ الثورة على المدرسة الفرنسيَّة- في المؤتمر الثاني للرابطة العالميَّة للأدب المقارن، عام 1958- على يد (رينيه ويليك، -1995). وإنَّما تتبنَّى، عِوَض مفهوم التأثُّر والتأثير، مفهوم (التوازي) بين الأعمال قَيْدَ المقارنة. غير أنَّ عدم اشتراط التأثُّر والتأثير في الدرس المقارن لا يعني إنكار وجوده، إنْ وُجِد، كما في حالتنا هذه.(2)

وللموضوع بقايا.

***

أ. د. عبد الله بن أحمد الفَيفي

(رئيس الشؤون الثقافيَّة والإعلاميَّة بمجلس الشورى سابقًا- الأستاذ بجامعة المَلِك سعود)

.....................

(1) وفي كتابه «الأدب المقارن»، (الرياض: دار العلوم، 1984)، نموذج من ذلك المنهاج الفرنسي.

(2) حول هذا طالع مثلًا كتاب: علوش، سعيد، مدارس الأدب المقارن، (بيروت: المركز الثقافي العربي، 1987).

"كلما عشت حياتك بشكل كامل كلما كان موتك أقل مأساوية"

ايرفين دي يالوم.

العام 1973 سيشهد حدثا مهما في مجال علم النفس، حيث اصدرت المطابع كتاب " إنكار الموت " لعالم النفس الامريكي إرنست بيكر – ترجمة سارة ازهر واحمد عزيز -، وسرعان ما يحصل الكتاب على جائزة بوليترز، لكن المثير ان الجائزة لم يستلمها المؤلف الذي توفي قبل اعلان الجائزة بشهرين.. والمثير ايضا ان " إرنست بيكر " ظل طوال عمله يخبرنا ان " الدافع الحقيقي خلف سلوك الإنسان هو الخوف من الموت " اثناء تاليفه لكتابه " إنكار الموت " كان بيكر يعاني من سرطان القولون، كان في عمر التاسعة والأربعين، والمرض الذي اصيب به لا أمل في الشفاء منه. تم نقله للمستشفى حتى يقضي أيامه الأخيرة. كان يشعر بالحزن على هذا المواجهة المبكرة للموت الذي سعى الى إنكاره.ولهذا قرر ان يقدم كتابا وصفه بانه أنضج ما قدمه، يريح من خلاله الظلال الثقيلة التي تنعكس على حياته والقلق الوجودي الذي يعيشه والعدم التي يحيط به وبنا جميعا والذي اشار اليها كيركغارد قبل ما يقارب المئتين عام عندما قال ان المشلكة ليست هى" الموت"، بل المشكلة الحقة هى" أني أنا أموت"..ولهذا اصر بيكر وهو يجد الموت يزحف باتجاهه ان يحلل شخصية الإنسان الهارب من فكرة الموت، من اجل ان يمنح هذا الإنسان الفرصة لمواجهة هذه الحقيقة، أو ليرى كيف لعبت به فكرة الموت ودفعته ليشكل العالم الاجتماعي والثقافي الذي منحه الإحساس بالقيمة وساعده لكي ينسى قليلا مصيره المحتوم. لكن ماذا على الانسان ان يفعل لكي يواجه هذا المصير المحتوم ؟ يحيلنا بيكر الى كيركغارد الذي عاش ممارسة فكرية صعبة وخطيرة لكي يصل إلى فهم حقيقة الإنسان من دون أن يكذب على نفسه. هل يطلب منا إرنست بيكر ان نواجه الموت وجها لوجه؟، انه ينتظره بالخارج وسيطرق الباب عليه في أية لحظة، يحيلنا في " إنكار الموت " الى آدم وقصة خروجه من الجنة، حيث يرى بيكر إن اعتراف آدم بالخطيئة واكله من شجرة المعرفة، هذه الافعال احتوت على حقيقة الموت، حيث إن قمة معرفة الذات هي إدراك الإنسان لحتمية زوال كل شيء.ولهذا يؤكد بيكر ان الإنسان هو الكائن الوحيد بين الكائنات الحية الذي يعرف جيدا أنه سيموت، وبسبب هذه المعرفة تطور لديه الوعي والضمير، ولذلك اضطر الإنسان على مدى الأجيال للتعلم واكتساب الحكمة حتى يتمكن من تجنب الموت والبقاء على قيد الحياة لأطول فترة ممكنة.

لكن هنا تواجهنا اعمق مشكلة وجودية حيث يتساءل الانسان: لماذا أولد وأتعلم واعمل، ثم بعد كل هذا يكون مصيري الموت؟. عند هذه اللحظة تنشأ عند الانسان الرغبة في الاستسلام للحياة، فبرغم الموت والعدم، فان الانسان ما يزال يعمل ويتعلم ويتألم ويتأمل ويكافح من اجل تغيير واقعه، وكان الموت قد تحول الى خرافة، لهذا يرى بيكر ان الموت عندما يقترب منا يحدث في دواخلنا رعب رهيب، حيث تستيقظ تلك المنطقة العميقة داخل النفس البشرية التي حاولنا ان نتجاهلها من خلال مشاغل الحياة اليومية، ومثلما حاول فرويد في كتابه الشهير – ثلاث مقالات في نظرية الجنس " – ترجمة سامي محمد علي – ان يتعامل مع مشاكلنا على انها مشاكل جنسية نشأت من رفضنا لاجسادنا وكبتنا لرغباتنا. فان إرنست بيكر يطور تلك النظرية ليخبرنا ان كل ما فعله فرويد هو محاولة لانكار حقيقة الموت.

عام 2018 اكتشف الاطباء اصابة الباحثة في علم النفس والجنس مارلين يالوم بسرطان في النخاع، وستقرر مع زوجها عالم النفس الوجودي إيرفين دي يالوم تاليف كتاب بعنوان " مسألة موت وحياة " – ترجمة خالد الجبيلي، حيث يبدا الاثنان في كيفية العيش من دون ندم، برغم ان الموت يتربص بالزوجة.

كان هدف الكتاب أن تموت مارلين موتا جيدا، وان يتمكن إيرفين العيش بدونها. في الاشهر الاخيرة من حياة مارلين حاول الزوجان ان ينظرا الى الوراء لسنوات قاربت الـ " 65 " عاما من زواج بهيج، ونجد الزوج يشعر بالقلق حيال فقدان "أهم شخص في حياتي "، فهو يخشى أن يضيع الكثير من ماضيه

عالم النفس الذي كرس حياته لمعاجة المرضى وكشف وساوسهم وخوفهم، يجد نفسه لأول مرة في حياته في مواجهة "حتمية الموت" ولهذا يتساءل مع زوجته: "كيف يمكننا أن نترك هذا العالم برشاقة للجيل القادم؟".

يتذكر إيرفين ذلك الصبي البالغ من العمر خمسة عشر عاما وهو يقع في حب فتاة في عمره. هذا الرجل يبلغ الآن 91 عاما ؛ كانت مارلين تبلغ من العمر 88 عاما عندما رحلت عن عام 2019. كانت مارلين هي التي اقترحت على زوجها أن يقوما بكتابة كتاب يوثق وفاتها من منظور الزوجين اللذين كانا معا سعداء لأكثر من 60 عاما، ولهذا ارادت مارلين من خلال الكتاب ان يكون لديها ما تقدمه "للأزواج الآخرين من أفراد عائلتها الذين ربما يواجهون مرضا مميتا". فهي منذ ان علمت باصابتها بالسرطان اخذت تتبع نصيحة نيتشه "الموت في الوقت المناسب".

يقدم لنا كتاب " مسألة موت وحياة " دروسا في كيفية التعامل مع تقدمنا في السن والذي يجلب منظورا جديدًا لاشياء مثل الحب والمرض والموت. يكتب كل من إرفين ومارلين فصولا متتالية يستكشفان فيها مشاعرهما، وكيف يواجه كل منهما مسألة فقدان شريك حياته الى الابد ولأن مارلين لا تملك وقتا طويلاً لتعيش تخطط لما يجب أن تفعله بممتلكاتها، وكتبها، وكيف تقول وداعا للعائلة والأصدقاء. من خلال القيام بذلك، تقوم بتقييم ما هو مهم بالنسبة لها، وما الذي يمنحها الفرح، وما الذي يمكنها تحقيقه بين مرحلة المرض وانتظار شبح الموت.

تظهر مارلين كشخص لطالما عرف كيف يعيش والآن تريد ان تعرف كيف يجب ان تموت.تحب مارلين إيرفين بعمق، وهي في سن الثامنة والثمانين من عمرها سعيدة بالحياة التي عاشتها، هناك شعور حقيقي بأنها وان تخلت عنها لكنها تشعر بالثراء مما حققته، وما ستتركه من ارث الحب لزوجها وعائلتها وأصدقائها.في العشرين من تشرين الثاني عام 2019 ينشر يالوم خبر نعي زوجته التي توفيت في ساعة مبكرة من الصباح.

بعد الكتابة في الطب النفسي، يجرب ان يُدخل التحليل النفسي في صلب الرواية، كان يريد ان يتفوق على سيجموند فرويد الذي فشل في بداية شبابه ان يصبح روائيا، فوجد ضالته عند دستويفيسكي وراح يعطي نصائح لفرجينيا وولف، ويسخر من الصفحات المملة في " يوليسيس " جيميس جويس، ويفضل عليه عبقرية مارسيل بروست. إرفين د. يالوم المولود في في الثالث عشر من حزيران عام 1931، في واشنطن لوالدين هاجرا من روسيا، أفتتح الأب بقالة صغيرة، فوق الشقة الصغيرة التي سكنتها العائلة، لم يحب والداه الكتب، وكان اهتمام ابنهما الصغير بالذهاب على دراجته الى المكتبة العامة يثير استغرابهما:" كانت القراءة ملجأ لي، اذهب الى المكتبة مرتين في الأسبوع، لامارس هواية تخزين الإمدادات "

 يجد في الروايات ضالته، عالم من الخيال يحاول ان ينسج منه عالما بديلا يتحول شيئا فشيئا الى مصدر إلهام وحكمة: " في وقت مبكر من العمر طورت الفكرة - التي لم أتخلى عنها أبداً - أن كتابة الرواية هي أفضل شيء يمكن أن يفعله الشخص ".لكنه وجد نفسه مضطرا إلى ان يدرس الطب تلبية لرغبة امه التي كانت تتباهى بان ابنها سيصبح طبيبا مشهورا، يختار الطب النفسي، فهو الاقرب الى الادب، هناك سيتمكن من الاستمرار في قراءة دستويفيسكي وان يجد الجواب على سؤال: اي عقار مهدئ كان يتناوله تولستوي ؟، ويرافق كافكا في متاهة البحث عن المصير.

كتابه الاول " العلاج النفسي الجماعي " صدر عام 1970 فلفت الانظار اليه، حتى ان البعض وضع مقارنات بينه وبين فرويد، باع الكتاب اكثر من مليون نسخة وترجم الى العديد من اللغات، واصبح من الكتب الاساسية التي تدرس في كليات الطب النفسي،بعدها يصدر كتابه الشهير " معنى الحياة " والذي يحقق نجاحا كبيرا في المبيعات، يقول لمراسل النييويورك تايمز حين يسأله عن سر اقبال القراء على كتبه:" أنها تدين ببعض نجاحها الى عشقي للرواية، وقدرتي على الإستفادة من فن القص. لقد سمعت منذ عشرين عاماً أن الطلاب يقولون لي إن كتبي تقرا كأنها روايات "، يؤمن ان الكتب الجافة – هكذا يسمي المؤلفات العلمية – ستحقق رواجا كبيرا لو ان اصحابها قرأوا بانتباه وصايا فلوبير لكتاب الرواية:" سيعرفون حينها ان في كل كتاب يجب ان تكون هناك قصة تبقي القارئ مشدودا إلى الصفحات ".

تستهويه الفلسفة فيتعمق في قراءة اعمال افلاطون وابيقور، وهيوم ولوك واسبينوزا، وشوبنهاور ونيتشه وسارتر وكامو:" كانوا في الجامعة يقولون لنا ان علم النفس موجود في اعمال فرويد ويونغ، لكن بدا لي ان في الامر خطأ كبيراً، لان الفلاسفة منذ عهد افلاطون وحتى يومنا هذا كانوا يتعاملون مع قضايا ذات علاقة بمجال الطب النفسي".

في أوائل التسعينيات يقرر نشر روايته " عندما بكى نيتشه – صدرت عام 1992- صدرت ترجمتها العربية عام 2016 للمترجم خالد الجبيلي - قال لزوجته بعد ان قدم الرواية للناشر: "مرحبا بالخيال ".

في رواية " هكذا بكى نيتشه " نجد سالومي تطلب من عالم النفس الشهير جوزف بروير أن يتولى علاج نيتشه الذي يعاني من الكآبة وشعور بالقهر، وتخاف عليه ان ينتحر، وبهذا ستضيع امال الفلسفة بالبقاء طويلا، هكذا تخبر الطبيب عن هواجسها..ومثلما وجد فيها الفيلسوف باول ري ومن بعده نيتشه والشاعر ريلكه ومعهم فرويد نموذجا للجمال الساحر، فان اللقاء الاول الذي يحدث بين الطبيب وسالومي، ينذر بان الطبيب في طريقه ان يصبح تحت رحمة هذا الحضور الانثوي الطاغي، ورغم ان سالومي لا تعود إلى لقاء بروير سوى مرة واحدة، إلا أنها تضع امامه عددا من المفاتيح التي تتعلق بشخصية نيتشه الذي يرفض ان يسلم امره بيد شخص آخر حتى لو كان الطبيب المعالج، فهو يؤمن ان الناس لاترغب " إلا في الهيمنة على الآخرين لزيادة قوتهم. "

في العام 2005 يصدر يالوم روايته الثانية " علاج شوبنهاور" - صدرت بالعربية عام 2018 بترجمة خالد الجبيلي – حيث نجد انفسنا هذه المرة مع المعالج النفسي جوليوس، الذي يعاني من الكابة والاحباط بسبب إصابته بمرض السرطان، فهو يدرك ان الموت صار قريباً منه، وعليه ان يتامل حياته الماضية، وهذا ما يفعله، حيت نجده يتذكر أحد مرضاه المصابين بالإدمان، وهو الطبيب فيليب، الذي تحولت حياته الى جحيم لايطاق بسبب تأثير الإدمان عليه، يقوم جوليوس بالسؤال عنه ويبدأ بالبحث عن اخباره ؟ ليكتشف أن مريضه السابق قد شفي من الادمان، وأصبح استاذا جامعيا يلقي محاضرات في الفلسفة،، وكان الامر بمثابة المفاجأة لجوليوس، حيث أخذ يسأل: كيف يمكن للانسان ان يتعالج من الإدمان؟ و كيف يستأنف حياته بسهولة وبساطة وكأن شيئاً لم يكن؟.

 يكتشف جوليوس أن مريضه السابق عالج نفسه بنفسه، من خلال قراءة كتب شوبنهاور، حيث وجد في حياة الفيلسوف الالماني المتشائم تشابهاً كبيراً بمعاناته مع الحياة والمرض، فوالد فيليب انتحر مثلما انتحر والد شوبنهاور، وهو ايضا مثل الفيلسوف العدمي يكره امه و يحب العزلة ويرى في العلاقات الإنسانية مزيدا من الأوجاع، وهوايضا كارها للجنس، الذي يراه مثل السرطان يفسد كل شيء، ويحطم العلاقات الانسانية بين البشر، ويسلب الضمائر شرفها، وهكذا تعلم فيليب من شوبنهاور ضرورة حفظ المسافة بين كل شخص وآخر نفسياً وجسدياً، فسار على تلك التعاليم واعتزل الحياة، وانقطع للتفكير والتأمل، فكان ذلك بمثابة العلاج له من الإدمان، لكنه يقع في إدمان آخر، وهو التعلق بشوبنهاور، وهو الأمر الذي سيعمل الطبيب جوليوس على مساعدته للتخلص منه.

يرى يالوم، أن نظرتنا للعالم، تتشكل في سنوات الطفولة، ثم تتطور وتكتمل، لكنها لا تتبدل من حيث الجوهر، وفي الرواية نجده يتتبع حياة شوبنهاور وعلاقته بوالده ووالدته حيث يرى ان تلك العلاقة هي التي اسهمت تشكيل نظرته التشاؤميه، فقد كان والده قاسيا ً، بينما كانت والدته رقيقه، وكان زواجها بوالده اشبه بالمأساة بالنسبة لها، فهي من طبقة فقيرة تنظر إلى عائلة شوبنهاورالغنية بخوف، وتندم على تركها حياتها البسيطة وحبيبها الاول الذي لم يفارقها لحظة واحدة. في هذا الجو النفسي المتازم تشكلت اراء شوبنهاور عن الحياة.

قال يلوم إنه يقرأ كثيرا في الفلسفة والادب لكي تزداد أفكاره عن الحياة. " نحن فنّانون بالطريقة التي نرى بها العالم ونفسّره ونبنيه. فنّانون كل يوم باللعب، الحديث، المشي، الطعام، والحب. "، وهو يتذكر مقولة أندريه جيد: "إن التاريخ خيال لم يحدث. فالخيال هو التاريخ الذي ربما حدث." وهذا هو بالضبط ما أنتجته يالوم: أكثر من مجرد اجتماع افتراضي لعقول مهمة تاريخياً، " عندما يبكي نيتشه، وعلاج شوبنهاور، و " مشكلة سبينوزا " ان سرد جذاب وواضح لظروف الحياة الواقعية لثلاثة من الفلاسفة الكبار عاشوا حياة غريبة ومثيرة.

***

علي حسين – كاتب

رئيس تحرير صحيفة المدى البغدادية

توطئة: تشكل الدراسات المقارنة صورة العلاقات الثقافية والتراثية بين الأمم ولحضارات البشرية، ومن أهم هذه الدراسات في خزانة السفر الثقافي العالمي هي رسالة الغفران لأبي العلاء المعري والكوميديا الألهية لدانتي الأيطالي بدلالة مشتركات اللقاء بينهما. ولا أخفي رغبتي في البحث في مثل هذا الموضوع الخصب والثري هو تحديث التراث الثقافي العربي والأطلاع على حضارة الغرب الأوربي ومدى التلاقح الفكري والثقافي بين الحضارتين .

الفنتازيا: وسر حضور الرحلات الفنتازيا الخيالية في مجمل الحضارات هي تلك الفكرة (الأنسانية) المشتركة الكامنة في جينات الحضارات البشرية في تلك الحكايات الأسطورية الأفتراضية التي نطالعها اليوم في رسالتي المعري ودانتي، وإن هاتين الجوهرتين النفيستين تعتبران من أبدع روائع الأدب العالمي ومن أهم الذخائر التراثية الثرة والثرية التي توجت ورصعت خزانة الفكرالأنساني وأبدعت في الخيال الأفتراضي للبحث عن المدينة الفاضلة والتي يقودها الأنسان النموذجي المصلح الكامل، ولغرض الأرتقاء بالذات البشرية إلى الكمال الروحي والعقلي وأيجاد الأنسان النموذجي السوي بعد تعميدهِ من خطاياه بالتوبة الأزلية وخضاعهِ لدفع فاتورة الجلد الذاتي والتعذيب الروحي المأساوي في محطات الرحلات الفنتازية الخيالية التي تبدو لنا بشكل أساطير، ليس غريباً أن نرى اليوم شيوع (الأساطير) في زمن التكنلوجيا الرقمية وفضاءاتها الحداثوية نرى كل جامعات العالم تحتوي على "قسم علم الأساطير" Mythology وكما أرى: (إن الأساطير حضارة والحضارة أساطير) أذ لاتوجد حضارة عبر زمكنة التأريخ دون أساطير مخالفة للعقل البشري، فالمجنون يعتبرها حقيقة والعاقل يعتبرها وسيلة للتسلية والعبرة .

(يلومون الأديان لأنّها مليئة بالأساطير، وماذا تكون الدنيا بلا أساطير؟ أعطوني حضارة دون أساطير، إن الأنسان نفسهُ أسطوري بالفطرة، قيل إن ألأنسان حيوان عاقل، أبحث طيلة حياتي عن أدلة يمكنها تأكيد ذلك) الفيلسوف البريطاني / برنت راند رسل(كتاب الكوميديا الألهية/ دانتي .

الكوميديا الآلهية لدانتي

الكوميديا اللإلهّية --- الملهاة – للشاعرالإيطالي " دانتي"، 1265م – 1321م، الكوميديا تدور في أطار جديد من القيّمّ الروحية (اللوثرية) لأصلاح رجال الدين الذين يمارسون أساليب تعسفية في تغيير أتجاهات البشر في السياسة والأصلاح حسب أهوائهم وأستغلال سلطاتهم الكنسية الكاثوليكية في عصرهِ، ونسجَ أفكارهُ بشعرٍ ملحمّي تحتوي على نظرةٍ خياليةٍ في الإِستعانةِ بالعناصر المجازية حول الآخرة- حسبَ الديانة المسيحية- وتخيلَ عالماً أبدّعهُ من خياله فيه مكانٌ للخير وكذلك للشر- عندما تمرد أولُ ملاكٍ على الّرب، لسريان الشر في الأنسان نفسه، فهو يصبوا في قرارة نفسهِ ألى رحلةِ أرتقاءٍ روحي نحو الكمال، وأيجاد الأنسان النموذجي المُصلِحْ بعد تعميدِه من خطاياه بالتوبة الأزلية بعد معاناة الجَلد الذاتي والتعذيب الروحي المأساوي في مرحلتي رحلة (الجحيم والمُطّهر)، وبذلك غاصَ الشاعر الإيطالي دانتي في أعماق هذا الكائن العجيب المتمرد والمتعجرف تارةً بجبروت وخيلاء، وواهن ومتمسكن تارةً اُخرى، غايتهُ الصعود في السماوات العلا لمشاهدة الأنوار السماوية الساطعة بنور الرب أو لنقل: إنهُ يصبو إلى رحلة أرتقاء روحي نحو الكمال لأيجاد الأنسان النموذجي المصلح بعد تعميده من خطاياه وأعطائهِ فرصة التوبة الأزلية، وربما أعتقد أن هناك ثمة (فلترة) بين مرحلتي الجحيم والمطهر لأيجاد هذا الأنسان المنشود .

رسالة الغفران لأبي العلاء المعري

أبو العلاء المعري شاعرٌ وفيلسوفٌ من العصر العباسي 363 -449 هجري---- 973 -1057 م،هاجم عقائد الدين، رفضَ أن الأديان تمتلك الحقائق التي يزعمها، أعتبرمقال الرسل مزورا لذا أتُهمَ بالزندقة لأنّهُ أعلن آراءهُ بأن الدين خرافة أبتدعها القدماء لاقيمة لها ألا لأُلئك الذين يستغفلون السُذّج من الناس، وكان نباتيا لدعم حقوق الحيوان .(اقتباس من كتاب رسالة الغفران لأبي العلاء المعري)

وأن رسالة الغفران أثمن روائع الأدب النثري العربي، وهي من سلسلة ذخائر الأدب العربي أو أسطورة اللغة العربية قبل دانتي ب—280 سنة .

وجد الباحثون تشابهاً كبيراً بين الكوميديا الألهية ورسالة الغفران لأبي العلاء المعري، وأُثيَر(بضم الأف) جدلٌ واسع في هذا المجال وأول من أثارَ هذا الجدل هو المستشرق الأسباني الكاهن *بالاثيوس*1919 أكّدَ فيها أثر رسالة الغفران بالكوميديا وأيدتها الأقلام العربية ومنهم من قال (أعمى المعّرةِ كان معلماً لنابغة ايطاليا في الشعر والخيال)، وآخر:أن الشاعر الأيطالي قد نسخ خطة الملهاة عن رسالة الغفران، مستدلين من أوجُه الشبه بين الرسالتين.

أوجه الشبه بين الرسالتين

أثار هذا الموضوع جدلاً بين أوساط النقاد، والذي وجدته الأكثرية تؤكد وجود تشابه بين النصين وحسب قناعتي نعم هناك تشابه ورد في الرسالتين وصف أحوال الجحيم والفردوس وكان كلّ منهما قديساً في وجدانهِ وشاعراً في روحهِ والرسالتان متفقتان في رحلتهما السماوية الخيالية للوصول إلى شجرة المنتهى حيث النور الألهي .

وعلى هذا أُثيرجدلٌ كبيرٌ في أوساط النُخبْ المثقفة منهم من يؤيد وآخر ينفي ويعارض، وللحقيقة وجدتُ كفةَ النافين-في التأثر والأستنساخ- أقوى من حيث قوة المنطق و حجج التباين المكاني والزماني.، ليس هناك ما يدعوالى التشكيك في أستنساخ دانتي لرسالة الغفران من المعري، صحيح أن هناك تشابها في بعض الحوانب -مثل ماعرض في المقال -ولكن هناك شواهد تأريخية ومكانية تثبت بأن الرحلات السماوية (الخيالية) كانت شائعة في تلك الفترة الزمنية مثل الرحلة النبوية: "الأسراء والمعراج"التي فيها وصفا عميقا للجحيم والفردوس و حدثت قبل أن يولد المعري، وهي الأخرى رحلة سماوية للقاء الرب والوصول الى سدرة المنتهى التي هي غاية وأمل جميع الرحلات الخيالية .

وأن الشام ومعرة النعمان تعرضتا للغزو التتري والروماني ونهبت خزائن الكتب والمخطوطات، وأن الملك الأسباني (الفونسو) ملك قشتالة أمر بترجمة رسالة الغفران الى الأسبانية اللغة القشتالية بالذات قبل ولادة دانتي بعام 1264 م، من الجائز والمحتمل أن يطلع هذا الروائي والشاعروالفيلسوف على جميع المخطوطات والكتب المتاحة في عصره، وليس من الضروري أن يستنسخ عمل غيره، وذلك لوجود تباين وأختلاف في العقلية والعقيدة والمضمون والأهداف والغايات والمشاهد والأساليب والتخيلات وذكر الأساطير، وأن التفاعل بين ثقافات الأمم والشعوب هو مؤشر صحيح لبناء الحضارة الأنسانية ----- لا يمكن لأيةِ أمةٍ من الأممْ أن تبني حضارتها بمعزل عن حضارات الأمم الأخرى، لأنّ الأنسانية جمعاء قد تتلاقى في بعض أفكارٍ وتختلف في أخرى --- تتأثر وتؤثرمن خلال عملية التلاقح الفكري يمكن أن تولد أبداعات عظيمة تُسّخَرْ من أجل خدمة البشرية، لهذا كلُه إني من المؤيدين لفكرة ما يدعو أليهِ البعض من أنّ الكوميديا الألهية غيرمستوحات من رسالة الغفران لأن لكلٍ من الرسالتين شخصيتها المستقلة، وذلك كلٌ منهما تحكي معاناة ما حولها--- الكوميديا الالهية تحكي تسلط الكنيسة وخطايا الصراع المجتمعي الروماني والأغريقي، ورسالة الغفران تحكي ظروف مجتمعية أسلامية بين التشظي المذهبي والعرقي التى أُدلجتْ بمدارس فكرية كالجبرية والقدرية والمعتزلة وتيار الزندقة --- وغيرها من المذاهب الفكرية .

الفروقات بين الرسالتين

توضحت لديي قناعة أدبية وثيقة بذكر بعض الفروق المهمة يمكنها دحض فكرة (الأقتباس) لدانتي الأيطالي:

عند وصول الرحلة إلى الأنوار الألهية كانت تمنيات وطلبات المعري (مادية) أما أحلام دانتي عند النور الألهي تؤكد على (الوصايا السبع للمسيحية)، بدأ المعري رحلتهُ السماوية يالفردوس ثُم الجحيم أما دانتي بدأ رحلتهُ بالجحيم ثم الفردوس، أن حراس الجحيم عند المعري ملائكة وعند دانتي شياطين وعصاة، والرواة عند المعري شعراء وعند دانتي رجال دين وعصاة أفاقين، والجنة عند المعري ثلاثة أقسام وعند دانتي تسعة أقسام.

***

عبد الجبار نوري

كاتب وباحث أدب عراقي مقيم في السويد

في تشرين الثاني2022

...................

مصادر البحث

-الكوميديا الألهية، ترجمة المؤرخ المصري، حسن عثمان، القاهرة

- رسالة الغفران، لأبي العلاء المعري

- رسالة الغفران، تحقيق فوزي عطوي بيروت 1968

- قصة الحضارة – ترجمة الدكتور زكي نجيب محمود1988 بيروت

حينما أثار الشعراء العرب مسألة الشعر الحر أو شعر التفعيلة، على إثر نشر نازك الملائكة لقصيدتها "الكوليرا"، كان ذلك تأثرا بالشعر الغربي. إلا أن مفهوم "الحر" يختلف من ثقافة إلى أخرى، وبطبيعة الحال الاختلاف هنا بين الثقافة العربية والغربية، تماما كما تختلف "ع" عن "غ" بزيادة النقطة أو حذفها. فمثلا الشعر الفرنسي تحدث عن الشعر الحر أو البيت المحرر مع بليز دو فيجينير Blaise De Vigenère الذي كان يشغل منصب كاتب لدى الملك هنري 3، سنة 1588. إلا أن البيت المحرر لم يتم الاهتمام به فعليا إلا في القرن التاسع عشر مع كل من موريس دو كًران Maurice De Guérin بديوانيه "الباخوسية La bacchante و القنطور Le Centaure، وألوسيوس برتراند Aloysius Bertrand بديوانه "كاسبار الليل" (Gaspard de la nuit 1842) ثم مع رامبو Rimbaud بديوانه "إضاءات" (Illuminations). يهدف إذن البيت المحرر vers libéré أو البيت الحر vers libre إلى تحرير القصيدة من ضغوطات الأوزان التقليدية المحسوبة والمنغلقة بعددها ومن ضغط القافية، مكتفيا بالايقاع الداخلي والقوافي الداخلية وما يمكن ترجمته تجاوزا بالسجع والجناس (allitérations, assonances)، وبطبيعة الحال بالصور الشعرية. في هذا الصدد يقول الشاعر البلجيكي إميل فيرهايرن Émile Verhaeren:"الإيقاع هو حركة الفكرة نفسها [...]. الشعرية الجديدة تحذف الأشكال الثابتة وتمنح الفكرة-الصورة الحق في خلق شكلها من خلال تطورها، تماما كما يخلق النهر مجراه."

وللتذكير فإن الكلمات الفرنسية مكونة من مجموعات صوتية syllabes يُعتمد عليها لتقطيع الكلمات بالبيت الشعري، و تتشكل أنواع البحور أو الأوزان حسب عدد هذه المجموعات الصوتية. فيكون البيت الأسكندري مثلا، مشكلا من 12 مقطعا صوتيا. وهكذا حينما تتحرر القصيدة، سوف تتشكل من فسيفساء من المجموعات الصوتية، حيث قد نجد بيتا مثلا من 12مقطعا وآخر من 2 أو 3 إلخ... وهكذا يتضح أن القصيدة الحرة لا تحترم مقطع انطلاق القصيدة، بل وفيما بعد أصبحت القصيدة لا تحتوي حتى على علامات الترقيم.

كيف إذن يفهم الشعر الحر العربي في تفاعله وتثاقفه بالشعر الغربي؟

ينعت الشعر حرا مقارنة بالشعر العمودي او التقليدي. بمعنى أنه يتحرر من أشكاله المعروفة، أي من البناء حيث كل بيت مكون من شطرين افقيا، صدر وعجز، وينتهي بقافية تتكرر في نهاية كل بيت، وخاضع لقوانين العروض الخاصة ببحوره وزحافاته وعلله الخ... وهكذا، بتحرره من التقليدي، يصبح شعرا حرا مكونا من أبيات توزع عموديا من غير تشدد في نفس القافية. لكن هناك من يقول بتعدد التفعيلات، وبطبيعة الحال سوف يحترم أيضا ما تفرضه الضرورة العروضية كالزحاف والعلل إلخ... وهناك من يقول بأنه يحافظ على نفس التفعيلة، حيث يجب على الشاعر أن يلتزم بنفس البحر فيما يخص الوزن، وغالبا ما تكون الأوزان حسب البحور البسيطة او الصافية.

نلاحظ إذن أن الشعر الحر في الثقافة الغربية، هو فعلا حر بمعنى الكلمة ولا يخضع لأي ضغط تقليدي، وفي المقابل فإن الشعر العربي لم يتحرر بالكامل، بل يحمل معه جينات من تقنينات الشعر التقليدي حينما يُفرض عليه، في الغالب، الالتزام بنفس التفعيلة وبنفس البحر الذي بدأ به الشاعر قصيدته، وهكذا لا تتحقق تلك الحرية التي نودِي بها. بل وحتى في حالة ما إذا تعددت التفعيلات فإنها تبقى خاضعة لما قننه العروضيون.

هل ذلك مرجعه إلى كون القصيدة العربية، حتى و كونها تُقطع حسب الحركة والسكون، ما يشكل مجموعة صوتية، تخضع في الأخير إلى "ميزان ذهبي" وهو نظام التفعيلة الذي يمر حتما بما يسمى بالميزان الصرفي، خلافا للقصيدة الغربية والفرنسية بالتحديد التي تقطع حسب المجموعات الصوتية فقط كما سبق الذكر؟ أم ذلك راجع إلى طغيان الإيقاع الخارجي المفصل حسب الوزن؟ او نكتفي بترديد ما قاله الناقد عباس محمود العقاد في إحدى حواراته المسجلة صوتا:"الشعر الحر؟ مُحرر مماذا... ليس هناك شعر حر...لا يمكن للشعر أن يتحرر من نفسه"، بمعنى أن الشعر العربي شعر بقوانينه التي استخرجها الخليل من القصائد الأولى وقننها، وما عدا ذلك، ليس شعرا.

ربما هذا هو السبب الرئيسي، المشبع بالحرية الكاملة، الذي أدى إلى ما ينعت بشكل هجين : قصيدة النثر. هذه القصيدة التي تحررت لتسقط هي نفسها مع تضخم الأنا لدى شيوخها، في سجن الرؤى والفتاوي... فهل هناك من يدعو إلى تحرر القصيدة من هذه الفتاوي؟

***

محمد العرجوني

 

 

فقدان فلسطين أكبر مأساة عرفها التاريخ العربي وقد عرفت القضية الفلسطينية أكثر من حرب بين العرب "وإسرائيل" أكثرها هزائم للعرب. لذلك فقد تركت أثرا كبيرا داخل النفوس وأصبحت محور اهتمام الأدب بفنونه المتنوعة والرواية أحد هذه الفنون للكون الرواية حقل خصب لسرد الأحداث ونقل الوقائع وتصوير النفسيات والمشاعر. ومن هنا جاءت نصوص د. غبيش التي تنوعت بين الروايات القصيرة والقصص والقصص القصيرة جدا، بمثابة مرآة لحياة الفلسطيني وبيئاته الثقافية والاجتماعية والسياسية وطرح معاناة الفلسطيني في ضياع أرضه وإقامته في مكان كان يظن بأنه طارئ وهو المخيم الذي يعتبر مكان لا بصلح للسكن الآدمي، وقد عبر عنها الكاتب تارة بالتصريح وأخرى بالتلميح كما لجأ أحيانا إلى استخدام الرمز في أكثر من موقع. وكان لهذا المكان/ المخيم معرض كامل من الصور داخل مجموعة غبيش، غربة، زواج، انفصال،حب، خيانة، فقر، برد، جوع.

وجاءت معظم روايات المجموعة لتغوص في أعماق النفسيات ومحاولة لاستكشاف الذات وتجسيد الانتماء الحقيقي لفلسطين.  وقد عمد د. غبيش إلى استخدام أبطاله لاجئين من أبناء المخيمات المعذبين المسحوقين الذين يحملون جراحات فلسطين وهم وقود الثورة والنضال ومنها أبطال رواية بيت رحيم التي تعتبر العمود الفقري لمجموعة غبيش.4535 ابراهيم خبيش

حيث ترصد هذه المجموعة التي هي من إصدارات الآن ناشرون وموزعون/ 2022، قصة شعب وهو الشعب الفلسطيني وشخصياتها ترسم لنا صورته. حيث رحيمة/ ذيبة الأم الفلسطينية التي تشبه الفلسطينيات الصابرات ففي ص71 (اسمها رحيمة..هكذا أسماها الأب..الأم والحارة ينادونها ذيبة) وفي نفس الصفحة (رحيمة سمت ولدها رحيم والاب أسماه ذيب) ورحيم/ ذيب يجسد معاني البطولة الحقيقية ولا يخشى الموت في سبيل تحرير أرضه.رحيم الفدائي الأمل الذي يعيش خارج أرضه ولا سبيل لارتباطه بها إلا بالبندقية.

يستعرض الدكتور غبيش قصة التهجير الأولى قصة رحيمة هجرة كل فلسطيني ففي ص72 (تشرد وهجرة ،فلاحة تحمل طفلا في قدح قش يعلو رأسها ،في يدها بقجة تسير وتسير).

ويخبرنا د.غبيش في رواية بيت رحيم ما حدث مع المهجرين من التسلل والعودة إلى الارض والبيت لإحضار بعض المتاع ففي ص 73 (تسلل عبد الكريم زوج رحيمة مع بعض سكان القرية كي يحضروا بعضا من متاع أو مدخرات نسوها..عادوا جميعا ولم يعد عبد الكريم.. أطلقوا رصاصا عليهم).

أما في ص74 من رواية بيت رحيم يصف لنا غبيش خيمة اللاجئ بأسلوب ساخر (بيت سقف حيطان عزلة عن الآخر ..كون أكوان... سماء.. فضاء مفتوح؟ أصبح لنا بيت..خيمة قريبة من شجرة التوت). فالخيمة لا جدار لها ولا سقف تلهو بها الريح من كل جانب فلا أمان لها مع ذلك الذي تمنحه الغرفة ذات الجدران والسقف.

واعتمد د غبيش على تصوير الحركات الخارجية لتصوير الأعماق النفسية للشخصية ففي ص82 صور لنا حركات رحيمة/ ذيبة حينما عرفها المهندس خالد حنا نجار عن نفسه (بدأ صدرها يعلو ويهبط). وعندما ذكر المهندس حنا أمامها اسم رحيم/ ذيب ص 83 (اهتز جسد رحيمة). وهذه الحركات تعطينا عدة دلالات على الوضع النفسي لرحيمة وهي تتقصى أخبار ابنها رحيم الذي ترك جامعة القاهرة والتحق بالفدائيين في أحراش وأغوار الأردن. ويصف لنا د غبيش صمود أمهات الشهداء ومشاعرهن من خلال رحيمة/ ذيبة حينما أشار المحامي هايدر لها إلى قبر رحيم/ذيب ص93 (أشار بيده..شاهدة حديدية " 2393"). فكانت ردة فعلها كما وصفها د غبيش ص94 (جثت رحيمة على ركبتيها وبدون توقع منها أخرجت الكريك وأخذت تحثو التراب عن القبر..ظهرت جمجمة، عظم الكتفين..والذراعين.. والحوض والساقين..شهقت رحيمة..لم تبك).

فأي بيت هو بيت رحيم/ ذيب؟ هل هو ذلك البيت عند التوتة؟ أم هو بيته/ قبره الذي امتلك رقما؟ أم هو بيته الأول الرحم الذي احتضنه جنينا وبحث عنه كبيرا، رحم أمه رحيمة/ ذيبة.

وجاءت بعض شخصيات روايات د غبيش لتعالج الواقع المأساوي بأسلوب ساخر ومنها ما جاء ص116 من رواية "ملذات غانم الشهير بشقروق" عن شقروق بعد أن وجد فرصة لجمع العلب الفارغة أثناء مظاهرات واعتصامات في الميدان فقبضت عليه الشرطة (معظم علبه كانت ملأى بالبول واحدة فقط بها بنزين زجاجية..اعتقدت الشرطة أنها زجاجة مولوتوف).

ومعظم أبطال دغبيش لا يجدون وجهتهم ،تائهون ،فوضويون،يهربون من الواقع نحو انتحار وعلاقات غرامية ففي ص131 عن عامر الخلعي في رواية " صحبة وأنا معهم أهل الهوى" (تنوعت علاقاته، أغلبها مع عاهرات ،بائعات هوى لم تكن لتدوم) وفي نفس الصفحة (لم يكترث يوما لتلك الفوضى التي يحياها).

وفي رواية الشتاء غواية ص47 (انتحار مهندس 53 عاما في مكتبه).

وفي رحلة المخاض التي عاشها الفلسطيني في روايات د غبيش فهو ما زال يحلم بفسخة من فرح ومنها ما جاء في رواية بيت رحيم عن خالدة (تغسل أشجارها ،نباتاتها الخضراء والملونة) مشهد يشي للمتلقي بالفرح والأمل. والأشخاص في معظم روايات د غبيش ليسوا مجرد أناس يعيشون ويتحركون في إطار الزمن والمكان والحدث الروائي بل هم رموز لقطاعات فكرية وإنسانية فعلى لسان علي زعتر من رواية فؤاد مطر ص204 (نكنس الاحتلال أولا) ومن نفس الرواية ص205( قال خليل الشيخ: تأبين المرض أم تأبيده؟ واصلنا توزيع الجرائد كل شهر).

كما واعتمد دغبيش على استخدام الرموز فمن رواية عالم قديم ص175 على لسان نور الدين عن ليلى (كانت عارية تماما) والعري هنا ليس عريا ماديا لجسد بل عري وطن واغتصاب أرض.

كما واتصفت بعض شخصيات د غبيش بالثنائية الضدية من حيث القبول والرفض، الظلم والإذعان، وغيرها.

بقي أن نقول بأن د غبيش اعتمد العبارات المركزة لطرح أفكار نصوصه. واستخدم بعض الدلالات الرمزية كما أسلفنا سابقا.

***

قراءة بديعة النعيمي

 

 

يعتبر الادب هو أحد اشكال التعبير الإنساني الذي تُسَيرهُ مؤثرات زمنية مختلفة الى جانب موروثات تاريخية واجتماعية وبيئية وثقافية... كونه ينقل او يعكس العوامل النفسية بشكل عناوين او صور مختلفة اللغات، فاللغة حال لسان، أما الكتابة فهي تشير الى النص، كما أن الأدب يشير الى دلالات اللسان والرسم.... لذا وفي نظرة الى بدايات الكتابة التي لا يجهلها احد من الباحثين في الادب إنها كانت على شكل صور على جدران الكهوف وذلك ما كشفه الباحثين عن الحضارات كحضارة المايا والحضارة المصرية والاقدم الحضارة السومرية حيث أنها تترجم بمعاني المراد منها فهمه.. فالقارب يعني ان هناك أنهار ووسيلة نقل، الخيم يعني ان المنطقة آهلة بالسكان والاستقرار، الشجر يعني ان هناك ارض زراعية أو بستان او غابة للغذاء والعمل الزراعي، كذلك ينطبق على انواع صور الحيوانات، كلها تصب على ان هناك بيئة للسكن وللغذاء وهكذا... لقد أورث الخالق عز وجل عندما خلق الإنسان بمخزون إدراك حسي للأشياء مخزون في الذاكرة متوارث فحين خلق آدم علمه الاسماء كلها... نلاحظ ان الخالق قال اسماء وليس صور.. وهذا هو المعنى العام للصور فلا يمكن ان تكون كلمة ذات معنى إن لم يكن لها صورة مخزونة، كما الحروف فالهاء تمثل دورة الهواء في الحلق وحين اللفظ، الكاف مثل كف اليد للعمل، الصاد كما هي الصنارة تستخدم للصيد وهكذا دواليك بقية الحروف التي اخذت عن الحضارة الاكدية التي جاءت بها وعددها إثنان وعشرون حرفا ثم بعدها اضيف إليها الحروف الست اخرى فصارت ثمانية وعشرون حرفا... فالسين اضيفت النقاط فاصبحت شين والصاد لها الضاد والحاء جيم وخاء الخ.. وهذه الحروف وما يمثله شكلها إنما هي صور أبدع في استحضارها الانسان، تماما مثل مخرجات الحاسوب بعد ان يكون قد ملئت ذاكرته بمدخلات للتعامل معها... فكل شيء خلقه الله تحت مسمى ذريعة فالماء ذريعة الحياة والنور ذريعة للنهار والظلمة ذريعة لليل وهكذا جميع الموجودات... يبقى على الإنسان الذي يريد أن يدخل عالم الأدب أن يتلمس كل هذه المكنونات والموجودات خلال منظار مختلف عن الانسان العادي مثل المتلقي القارئ، فالإنسان خلق بمستويات ثقافية مختلفة كما هو اختلاف المستويات الاجتماعية او البيئية... وأعني البيئة والتي اعتبرها المؤرخ الاول والاساس في إنماء العقل الباطن عندما يكون غض لم يعبئ بعد... فالعقل الباطن يسمى بمنطوق الذرائعي (الملاك الحارس) أي انه المراقب الأول للتعامل سواء بالنصوص او الصور أو الابعاد الإيحائية التي يرمز إليها الأدييب او الكاتب، فالنص كالإنسان علينا ان نتعامل معه بنفس المشاعر والأحاسيس التي تجعل من المتلقي في الكثير من الاحيان بأن يتفاعل مع النص الادبي بمشاعر قد تسبب له الحزن، الفرح، البهجة، وللبعض الآخر تسبب الكآبة أو الحقد على احد شخصيات الرواية... خاصة إذا كان التعامل النفسي باديا عند البعض من المتلقين... فهناك حالات يتعامل معها المتلقي حين يقرأها كأنها تصفه او كُتِبت لشخصه وهذا واقع لا يمكن ان ننكره... يبقى اننا عندما نعمل على نقد أي نص أدبي أن نركب قارب الحياد ونتوشح بمعنى الجراح الذي يريد ان يحيي النص بحيادية ومن خلال تشريج جسد لديمومة حياة كي يكون عامل إيجابيا مساندا للإبداع... فليس كل من قرأ نص لرواية او قصيدة شعر جعل من نفسه ناقدا حصيفا يمكنه ان يُقَيم العمل بالشكل الصحيح، إلا عندما يقرأ العنوان او النص بشكل يرقى الى ان يجعل منه موروثا أدبيا.. فَقُرّاء الرتم السريع الذي يشرحون النص بسطحية على أنه نقد لا يمكن ان يقيموا العمل الادبي كون له مقاييس ومعايير  يتضمن دخوله الى عوالم وابواب، فالقص القصير ليس مثل الشعر والشعر ليس مثل الرواية...  (إن الرواية كما يعرفها ميلان كونديرا: " ليست الرواية اعترافًا من اعترافات المؤلف، بل هي سبر ماهية الحياة الإنسانية في الفخ الذي استحاله العالم) انتهى

وهنا اقتبس من كتاب الذرائعية والنقد العلمي الادبي للاستاذ عبد الرزاق الغالي قوله:

(تعتبر من أصعب الفنون الأدبية على الإطلاق، وذلك لنفس الأسباب التي تبدو سهلة، وهى غياب الضوابط الشكلية أو التقاليد الثابتة التي تسهل على الكاتب مهمته، فهي لا تكتب نظمًا مثل الشعر، بل هي مقسمة إلى فصول ومشاهد تخضع لأعراف سائدة ومتأثرة بالظروف المحيطة، كما في المسرح، فالكاتب يسرد الأحداث دون أن يقيّده زمان أو مكان، ودون أن تحدّه حدود الطول ولا القصر، كما أنه ليس مقيّد اليدين إزاء الوصف والاستطراد، أو عدد الشخصيات، فهو يستطيع أن يقدم أي عدد من الشخصيات، وأن يتعدّى وحدة الانطباع فيخلق العديد من الانطباعات، أي أن الرواية الحديثة هي الفن الأدبي المنثور الذى حلّ محل القصة الشعرية الطويلة الملحمة وتحوّل هذا الفن من الشكل المسموع إلى الشكل المقروء، ومع أن الرواية  طويلة، لكن لها خصائص مثل القصة القصيرة، أي تشترك مع القص القصر بنفس الخصائص  والبناء... فالرواية لها القدرة على التكيف والتطوع والتطور، وقادرة على معالجة أي موضوع، وأثبتت قدرتها على البقاء في العالم رغم التنافس القوي من السينما والمسلسلات التي تمثل صورة للفن الروائي). انتهى

فالرواية تعتمد على السارد والمسرود له بما تحتوية من صور بلاغية ومحاكاة إنسانية تسمو بالتعبير لتجعل من العمل بناء متكاملا يرقى لأن يكون ابداعا... ولا يمكن بأي حال من الاحوال ان يبدع الاديب مالم يمتلك هبة الملكة الادبية فهي نفحة إلهية ليس كل من كتب صار اديبا او كاتبا فالشاعر لا يمكن ان يبدع بكتابة رواية كما يبدع في كتابة الشعر... وهكذا دواليك إن مجالات الكتابة كثيرة والاقلام التي تحترف قليلة فرواية الشيخ والبحر لهمنغواي من الادب الانجليزي او البؤساء وروايات غابريل غارسيا وشارل ديكنيز أو تولستوي في آنا كارنينا وغيرهم من المبدعين يعتبرون طفرات زمنية لعصرهم ولازل الى الان لا احد يستطيع ان يكتب بنفس المستوى والنفس وذلك لإختلاف المعاناة والحالات النفسية التي انخرطت الى عمق نفسه الروائي ليسردها مع اختلاطه مع البئة والعصر محاط بالضغوطات السياسية فالعصر الذي كتبت فيه للثقافة موروثها الخاص حينها مستحضرين الجانب النفسي والاخلاقي، هناك كتاب وأدباء كتبوا الكثير لكنهم ابدعوا في رواية او أثنتين ومن العرب يعتبر عبد الرحمن منيف من الادباء الذين اتقنوا الكتابة بجدارة وابدعوا بالعديد من كتابة الروايات مثل (الآن هنا، الشرق المتوسط ، الاشجار واغتيال مرزوق الى جانب سلسلته الابداعية التيه والاخدود.. الخ مثله مثل الكتاب العالميين.. نعم هناك غيره من مصر ومن العراق ومن السودان كما رواية الطيب عرس الزين وغيرهم بالطبع لايوجد مجال لذكرهم...

وسؤال... لم انتشرت النظرية الذراعية؟ فمن خلال حوارات مع بعض الادباء العرب والنقاد من مصر والمغرب وتونس ولبنان وكندا اعتبروا النظرية الذرائعية مدخل جديد الى عالم النقد العلمي الادبي الذي استشرى مثل وباء محمود الجانب في الوطن العربي وحتى الاوربي... فالتجدد حالة صحية فيما إذا وجدت القلوب النيرة والعقول المنفتحة... إن النظرية الذرائعية عائلة تمتلك الادوات الصحيحة لتشريح النص الادبي فحين يقرأ الناقد الذرائعي نص ما يعيش حالة من حالات التفؤد أي أنه يجعل من نفسه صورة قارئة لكل حرف من حروف الرواية وجعل قراءتها تتطلب استخدام الادوات اللازمة لإبداء المعنى بعيدا عن القراءات الأدبية السطحية، فالناقد الذرائعي يبحث عن الرسائل الخفية في النص ينظر إليها بمنظور جمالي إيحائي سيمانتيكي براغماتيكي يختلف عمن يقرأها بشكل عام، اي انه سؤال وجواب (لم، لماذا، كيف، والغرض من) مع استحضار الزمكانية التي تشغل حيز الرواية الماضي الحاضر أو المستقبل، كما ان خلفية الراوي الاجتماعية والمؤثرات التي يعيشها تصنع منه أداة ناقلة للواقع او تجعل من عقله انسانا يهرب الى الفنتازيا والخيال،  او كما  يقول باختين  (أن الروائي قد ينطلق من خلفية لسانية سيميائية، متخليًا عن ذلك الربط بين الرواية والطبقة البرجوازية، وتبنى معطيات التحليل التاريخي للمجتمع، معتبرًا الرواية مجالًا لتوليد المعاني الجديدة).

علينا ان لا ننسى ان الرواية قد وصلت للوطن العربي متأخرة في مطلع القرن العشرين عن طرق مختلفة منها التبادل المعرفي والاختلاط بين الثقافات من خلال نقل السير او ترجمة الكتب... ولا ننسى أيضا ان جميع الرويات العربية في بداياتها كانت قصصا قصيرة.. تنشر في المجلات العربية لترويجها..

و هنا اقتبس عن الدكتور عبير خالد يحيي الناقدة الذرائعية قولها:

1- للرواية في العالمين العربي والغربي نفس الأغراض والأهداف التي يبتغي الكاتب تحقيقها، ومنها:

- نقل تجربة عاشها الكاتب أو عايشها أو تلقاها محكية (ثلاثية التناص الذرائعية) 

- تصوير ظاهرة ما، سيئة أو جيدة، في مجتمع معين، وبذلك تغدو الرواية مرآة للواقع الاجتماعي.

- إعادة تقديم التاريخ بسرده في شكل قصصي بغية ترسيخ أحداثه وأهم التطورات التي عرفتها البشرية ، كالتاريخ الوطني مثلًا.

- تسليط الضوء على حالة نفسية ما، قد يمر بها الإنسان وتغير من طبائعه وتوجهاته، بل ونظرته إلى الحياة.

2- ينظر النقد إلى الرواية على أنها جنس أدبي مستقل بذاته،  سواء النقد العربي لرواياتنا، أو نقد الآخر لرواياته.

3- كل من الروايتين العربية والغربية يلجأ فيها الكاتب إلى توظيف الرمز والأسطورة، والانزياح نحو الخيال والجمال لإعطاء حرفية وجمالية أكثر للصناعة الروائية.

4- تشترط كتابة الرواية في كلا البيئتين، العربية والغربية، توافر مجموعة من الميكانيزمات الضرورية لاستقامة السرد، وهي:  الفكرة، الشخصيات، الزمكانية.  وما يفرز عنها من عناصر سردية:  كالحوار  والوصف والتشابك السردي،  فلا تبنى رواية بمعزل عن هذه الآليات.

5- إن جنس الرواية يخضع للتطور ليواكب روح العصر، وتغيرات الحياة وتحولات ظروفها، وهذا ملموس عند كل من يمتهن ويحترف الفن الروائي سواء كان عربيًا أو غربيًا.

6- تأثرت الرواية بجملة المذاهب والتيارات التي عرفها الفكر البشري بالعموم، والأدب بالخصوص، كالواقعية على سبيل المثال، هذا عند الغرب،  ومادامت الرواية جنسًا قدم إلينا من هناك_ أي من العالم الغربي_ فلا عجب أن تتأثر الرواية العربية عندنا بتلك المذاهب التي جاءتنا على نفس المركب. ألا وهو الترجمة. (إنتهى)..

فالناقد الذرائعي يوحى إليه من خلال مكامن نفسية وسيكلوجية وابعاد تراكمات قراءات متعددة مثل المحور البصري أو المحور الاستراتيجي الديناميكي او من خلال المحور الفني التقني، تقنية التدوير السردي والخطف الخلفي كأن يبدأ الرواية من نهايتها، تقنية التمازج بين السرد والحوار الى جانب العديد من التقنيات التي على الاديب ان يمتلكها مثل...

1. تقنية التضاد

2. تقنية زر الحذف

3. تقنية الرغبة الملتهبة

4. تقنية حرق الجسر

5. تقنية الفوز الصغيرة

6. تقنية التحفيز

7. تقنية الإيمان والمحبة

8. تقنية التصور

9. تقنية التحضير الفيزيائي

10. تقنية الانفصال

11. تقنية المانترا (الوساوس المرضية)

12. تقنية القراءة الجهرية

13. تقنية الإيحاء

14. تقنية تلقي الاتصالات

والناقد العالم فيها كي يسبر غور تشريح العمل بالنص الادبي  ومن خلال دراسات كثيرة للنصوص الادبية وبمنطور الناقد ان العصا تمثل الظلم او إنها تمثل الاستبداد... او السلطة او الجبروت...

لذا ومن خلال ما يمتلكه الاديب من امكانيات وتقنيات لا يسطيع إظهار جماليتها إلا الناقد البارع وبشكل نقد علمي شرط ان يكون العمل الادبي يسير على المحور الاخلاقي وكما يقال الادب عراب المجتمع أي انه يحمل دروع اخلاقية تحميه من التسفه او الاتيان بخط غير اخلاقي يؤثر في المجتمع الذي تربى ورضع العادات والتقاليد... الى جانب الخط الموازي له وهو العامل النفسي السيكولوجي... قد يكون هناك طفرات لكنها بالتأكيد هدفها العام انن تستحوذ على فكرة ما سائدة لا يرام لها التفشي او الشيوع...

لذا وعندما نتحدث عن النقد الادبي العلمي بطريقة الذرائعية علينا ان ندرك أننا أمام علمية جديدة تسهم بالتأكيد بأن تعيد صياغة النقد الادبي السائد وهذا ليس تحيزا لكن لعلمية النظرية الذرائعية ومكانتها في نفوس الكثير من النقاد والادباء... والتي قد يقول البعض انها ليست جديدة لكنها صارت الان فمن له احقية الكشف عنها والبحث والدراسة في تطويرها كعلم بات كشجرة يستورف في ظلها الكثير من النقاد والادباء سواء في المغرب العربي او مصر او لبنان أو كندا وغيرها من الدول.. لا اظهر حقيقة خافية حين اقول ان العديد من الكتاب يتسارعون الى نقد اعمالهم من خلال النظرية الذرائعية البعض قد يفشل والبعض قد ينجح... إنها عالم متطور ومستحدث كما اللغة فمن يعني بتغير اللغة من حيث استخدام المفردات ذات الخصوصية العربية يعلم ويدرك انها متغير فلازالت هناك صعوبة في معرفة معاني لمفردات ذكرت في الشعر الجاهلي وإن كنت لا احبذ كلمة الجاهلي فمن يوجد لغة كرمها الله بأن تكون لغة قرآنه الكريم وعن لسانه لا تحمل صفة الجهل... إن الامتداد التأريخي لمتغيرات اللغة يجعل من الباب مفتوحا امام الروائيين والشعراء وادباء السير او المدونات ان تتغير اللغة بمفهوم التكنلوجيا الحديثة... إن العالم يتغير بشكل مستمر ودائم ونحن بحاجة الى هذا التطور سواء في الكتابة او النقد مثلما هناك اوجه للتشابه ايضا هناك اوجه للإختلاف من ناحية عصرنة الرواية وأدواتها النقدية والبعض يرى ان التجدد يلغي حضوره فيعمد الى مناطحة التجديد في النقد رغم أن بداخله قناعة يؤمن ان ذلك لابد حدوثة فالعالم كل لحظة في تغيير كما هو النظام الانواء الجوية والبيئي الذي بات مؤثرا على الكثير من الدول التي يقطنها الإنسان ويتعامل معها آنيا بما لديه من إمكانيات... وهكذا النقد الذرائعي يصنع عالمه بأدواته كي يثبت لنفسه أولا بأن التجدد لابد حاصل وإن الموروثات والتعامل بالادوات القديمة لا يمكنها ان تواكب حداثة العامل الجديد بما يحمله من مصفوفات أتقنت فن النقد العلمي للأدب بشكل عام.

***

القاص والكاتب عبد الجبار الحمدي

- معاني مترادفة وتكريس التشبيه والإسقاط للدلالة اللفظية

 - تداخل الزمن وعدم استقراره مابين اللغة وواقعية المعنى الرمزي

 التاريخ يتدلى شعراً عند جواد الحطاب والذي أفرد  له مساحة عريضة في مقتبل إكليل موسيقاه، جاء بها على ذكر اسماء الخلفاء حتى تراقصت حروف سلمه الموسيقي لتهزء من تلك الأسماء  التي تعلقت باسم الله كما قال (أرب هذا أم شماعة أخطاء) .

الاسقاط الذي بدء به الحطاب نصه الشعري ليلج من خلاله باب الذكرى بتأويل (الشباك)، وظف فيه الخِطاب الديني عبر رموز واسماء جاء بها للدلالة ثم للتمني قاصداً منها التداخل السمعي البصري للصورة التي يريد تجسيدها متكاملة أمام مخيلة القارئ.

قيل أن الأخذ ب (لو) يفتح أبواب الفتنة، فأي فتنة في شعر الحطاب أراد لها أن تكشف خبايا التاريخ بتضمينه (لو) استفتاحا لأبياته، هي لم تحدث،لكن التمني يؤدلج عقل القارئ على تخيلات ما كان لو إنها حدثت، والفتنة تكمن في ثنايا التساؤل، كما يكمن الشيطان في التفاصيل.

لو كان أبن ابي طالب قد مد يديه إلى العباس

لو أن الكوفة لم تتخاذل عن ابن عقيل

لو أن سليمان تجاهل أمر أبي هاشم

لو صدق السفاح

لو تمت بيعة ابن عبيد الله محمد

ولو أن المنصور

... هل كنت ستنشد من أجل إمارة؟!!

 التساؤل في ختام الأبيات، فتح الأفق على مضمون قضية تاريخية، تناولها الحطاب عبر أدواته الموسيقية التي عزفت لحن كلماته على "جثة البيانو" (اكليل موسيقى على جثة بيانو)، استبدال رائع لمعاني مترادفة، هي شائعة في مخيلة القارئ، (أكليل، جثة) كلاهما قبل أن يستخدم (جواد الحطاب) مفهوم الإسقاط والتشبيه، كانتا كلمتان دالتان تعبران عن مفاهيم مختلفة لأشياء على نقيض بعضهما، لكن أن يتم توظيفهما بهذا المعنى فذاك شيئ مختلف بل قمة في الإختلاف والروعة في الاستبدال والإسقاط.

هل تكون الأكاليل الموسيقية بدلاً عن (المقطوعات) عن (الوصلات الموسيقية، المعزوفات)، وكيف لذاك الإكليل أن يكون على جثة من خشب تتداخل فيها الأوتار بآلة المفاتيح، ذلك التشبيه الذي جاء به الحطاب في قصيدته استخدمه للتأويل، ومن يجيد التأويل أكثر من جواد الحطاب.

المتوكل بالله

المنتصر بالله

المستعين بالله

المعز بالله

المهتدي بالله

المعتضد بالله

المعتمد بالله

المكتفي  بالله

المقتدر بالله

القاهر بالله

الراضي بالله

المتقي بالله

المستكفي بالله

المطيع لله

التوظيف العام لمطلع القصيدة بدلالة الاسماء المذكورة، هو عبارة عن تأويل لحقب زمنية تعاقب فيها هؤلاء على الحكم، وهنا أورد الحطاب اسماءهم كيصغة استهجان تصف تلك الفترات التي كان طابعها لايتوافق مع تلك الصفات التي خلعها هؤلاء الحكام على ذواتهم، أو أنهم نسبوا أنفسهم لصفات تغلف توصيفات ممارساتهم للحكم وتنسب تلك الصفات إلى الله سبحانه، تلك السمة، وذلك التوصيف هو الذي استهجنه الحطاب مقارنة بتناقضات ما طغت عليه صفات تلك الفترات من حكم هؤلاء (الخلفاء) الذي حملوا أنفسهم تلك الصفات التي تستعين غالبيتها بالله، وتلك هي التورية التي كانت تميز تلك الفترة من عصر الخلفاء، أو ما يطلق عليه (تغليف السياسي بالطابع الديني)، وربما هي مرحلة يعيدها التاريخ اليوم باسم "علي بن أبي طالب" الذي رفع اسمه شعاراً لمرحلة الحكم الحالية التي حرقت الأخضر واليابس لكنها بقيت شعارات خلت من مبادئ "علي" الزاهد العابد المؤتمن، وأراد منها جواد الحطاب بتوظيفه (التشبيه) اسقاط تبعاتها على مايعيشه العراقيون من مآسي وويلات جَرت عليهم وعلى العراق مزيداً من الآسى والدمار و(شماعة الأخطاء جاهزة)، سيما وأن جواد شاعر مقاوم لايختلف على أداءه في معترك المقاومة أثنان.

المقتدي بالله

المستظهر المستنجد بالله

المسترشد بالله

المستنصر المعتصم بالله

ياآه ه ه ه

تضحكني هذي الاسماء

أرب هذا

ام شماعة أخطاء؟!

 في الليل  تدلهم الخطوب على النفوس، تثار المواجع، يعمل التفكير أعماله، ويأخذ الشجن مأخذه منهم، في الليل ينتظر الشارد بفكره أملاً، عله يأتي بعد انبلاج وشاح السواد، لينشر الصباح خيوط النور ويعم على الجميع، وقد قال في توصيف تلك الصورة " المتنبي" (ألا أيها الليل الطويل ألا أنجلي ....وما الاصباح منك بأمثل).

في ذاك المعنى كتب الحطاب بتداخل الزمن وعدم استقراره مابين لغة الدلالة وواقعية المعنى الرمزي واتساع الرؤيا  فجاءت كلماته تحمل إشارات الإمتداد الزمني الذي سعى إليه الحطاب  ليغلفه بنور الأمل المنتظر والذي مثله ب(الشباك المفتوح) على ظلام الليل.

نص حمل من الرمزية التي تشير لواقع دلالي قد يتغير مع مرور الوقت، والتغيير ميزة الأشياء والأزمان، فلا الحال يبقى، ولا الزمان يثبت،صورة معبرة أختزل من خلالها  جواد الحطاب مشهد الحياة دون حاجة لتوظيف التكرار الذي نعهده عند كثير من الشعراء.

توظيف الرموز في النص الشعري  دالة التشبيه، وهو في نفس الوقت دلالة رمزية تعمل على تقوية الصورة التي يرسمها الشاعر، فيما تعد مقاربة ضمنية لتذليل الصعوبة التي قد تكتنف الكلمات التي يوظفها في أبياته، لكن إن تم توظيفها بتراتبية تستند للتبسيط، وذلك ما ندعوا له في كل كتاباتنا، وهي تعتمد على مخيلة الشاعر وسعة أفقه اللغوي، فإنأمتلكها نجحت تشبيهاته، ونجح أسلوبه في التوظيف . وقد أبدع الحطاب في ذلك فصاغ نصاً رائعاً ما كان أن يكون بهذا الوصف الدقيق لو أن غير الحطاب سعى لنظمه.

شباك مفتوح في الليل على الذكرى

.....................

لو كان ابن أبي طالب قد مد يديه على العباس

لو أن الكوفة لم تتخاذل عن ابن عقيل

لو أن سليمان تجاهل أمر أبي هاشم

لو أن أبا مسلم لم يتشيع لإبراهيم

لو صدق السفاح.....

لو تمت بيعة ابن عبد الله محمد

ولو أن المنصور

... هل كنت ستنشد من اجل إمارة؟!

؟؟؟؟؟؟؟؟

؟؟؟؟؟؟؟؟

؟؟؟؟؟؟؟؟

تقلبات استعمال اللغة وتكريس النص في مجموعة من الصور هو أقرب لذهن القارئ من تباعد المعنى عبر توظيف أفكار متباينة للوصول إلى الصورة التي نريد، فكم من شاعر حاول أن يبتعد عن تثبيت الصورة عبر النص، والمحاولة لولوج القصدية الشعرية من باب تشتيت الصور في القصيدة ومن ثم جمعها،فضاعت محاولاته وضاعت صوره.

وفي هذا جاء الحطاب بالاختزال اللفظي كمنهج يعتمد عليه في رسم صوره الشعرية بسردية موجزة، أفادت القارئ وسهلت عليه عملية اقتناص المعنى الضمني، ودلت على عمق التوظيف واستخلاص المعنى، فكان الإيجاز بدلالة تنوع الإيقاع وتعدد الوظائف الشعرية والغايات الرمزية أن شكل البنية التشكيلية للقصيدة بتنوع البنى الرمزية لشعره ببناء سردي متقن، مما أثرى الحبكة التي عمل عليها وليوظفها بشكل قابل للدلالة على التحول في الفهم حسب تحول الزمن.

تناول الحطاب الرموز بدلالالتها الدينية والإنسانية، وبدلالة السلطة، ووظف الرمز ا(ديني أو سياسي) توظيفاً دقيقاً ليلج من خلاله اللاشعور ويعكسه على الواقع باستعمالات لغوية فريدة حملت افكاراً مغايرة للصور الشعرية التي نراها ونلمسها عند الشعراء، فخرجت من ثنايا قصيدته (اكليل من الزهور على جثة بيانو) رؤية واقعية لواقع مأزوم قد لانراه في أفق قصائد أخرى.

الايجاز الذي يحتكم على رؤية بأفاق وليس أفق، تمنح ما يكتب الشاعر بعداً لا متناهي من الصور الشعرية، ذلك ما ضمنه "جواد الحطاب " أكليله الرائع، ليحتفي ونحن معه بجثة بيانو طالما طربنا على ترنيمات أوتاره، لكننا نستعيض عنها اليوم بكلمات الرثاء الضمني للجثة المسجاة أمامنا (البيانو) الذي فقد إرث موسيقاه على صفحات الشجن التي خلفها التمني ب (لو)، حتى أحيا الحطاب خطاب الأمل فينا عبر شباكه المفتوح على ليل العراق الذي طال سواده،فكان كما قال:

الشٍعر في زمن القواد

دعاره.

***

سعد الدغمان

 

إن علاقة الشاعر بالألوان كرموز فنية / إيحائية لا تقوم على النقل المباشر أو محاكاة أشكالها كما هي في الطبيعة، وإنما تمثل الألوان ـ مع غيرها من عناصر البنية الشعرية ـ أدوات من خلالها يشكل أبعاد تجربته، إذ يعيد النظر في علاقتها ببعضها من جهة، وعلاقته بها في إطار التعبير عن رؤيته وتجسيد دلالتها من جهة أخرى، وذلك بكشف إيحاءاتها لا برصد أشكالها، ومن ثم يكون استخدامه لها بقدر تحسبه عبقريته، ومن زوايا يختارها لتكون في النهاية لبنة فنية في تشكيل رؤية شعورية متميزة.

" فاللون يثير لدى الشاعر طائفة من الذكريات، مما يجعله مسوقاً إلى ابتكار رمز موائم لدلالات تلك الذكريات المستمدة من اللون الذي يستمده من الطبيعة رابطاً إياه بحالته النفسية، بذلك يتجاوز الشاعر الواقع إلى نوع من التجريد في الشعرية الرمزية، إذ يؤدى اللون دوراً يفوق دلالته الوضعية، حيث صار عضواً حياً في وحدة النص، لاسيما إذا اجتمع مع اللون صوت وحركة، فلا تتحقق للرمز فائدة في مفردات معزولة، بل في شكل كلي تتآزر فيه الرموز الجزئية “. (1)

و تعامل "حسن فتح الباب" مع الألوان بكل دلالاتها الإيحائية وإمكاناتها التعبيرية قد ساعد على ثراء جوانب الشعرية في تجربته من ناحية ، فضلاً عن توسيع دائرة الفضاء النصي من ناحية أخرى ، وذلك باستعمال دوال متعددة المراجع الدلالية نتيجة للرموز و الإشارات الصادرة منها " ومتابعة الظاهرة يمكن أن يكشف عن نواتج دلالية لا يمكن لغير الألوان أن تنتجها ، وهو ما يحتاج عند القراءة إلى قدر واسع من الرؤية الإدراكية التي تتمكن من استيعاب الظواهر في كليتها أو جزئيتها ، ومتابعة خطوطها الممتدة أو المتقاطعة ، ومدى توافقها مع المردود المعجمي أو العرفي ، ومدى انتقالها إلى دائرة الإسقاطات الرامزة " . (2)

هذا ، وتشكل مفردات اللون جزءاً كبيراً من معجم "حسن فتح الباب" الشعري  ،  و النظر في أعماله الشعرية يكشف عن الغلبة التعبيرية للون الأسود ، إذ يعد أكثر الألوان تردداً في شعره ، إلا أن دلالات  اللون تتغير تبعاً لمقتضيات التجربة ومدارات السياق وإشعاعات الأثر النفسي التي " تحدث توتراً في الأعصاب وحركة في المشاعر تدفعها الحاجة إلى استكشاف الصورة أولاً ، ثم إثارة المتلقي ثانياً ، فالشعر ـ إذن ـ  ينبت ويترعرع في أحضان الأشكال والألوان ، سواء كانت منظورة أم مستحضرة في الذهن في نسق خاص تستمتع الحواس باستحضاره " . (3)

* وصدارة " اللون الأسود " لقائمة الألوان في شعر" حسن فتح الباب" تشير من زاوية ما إلى أبعاد علاقة الشاعر بالواقع المادي أو المعنوي الذي يعيشه إذ امتد " السواد " إلى جانب كبير منه، وصبغه بلون الحزن واليأس، وأضفي عليه مسحة من الكآبة والتشاؤم، ومن ذلك قوله:

لم تتشح لمزارها غير السواد

فرداؤها أبداً سواد

من قبل أن تمتد ألسنة الحريق

ومن الشروق إلى الشروق

أبداً سواد   (4)

إن الوقوف على دلالة اللون في هذه الدفقة الشعرية يمنح التجربة ثراء ً إيحائياً باشتمالها أفكاراً ورؤى أعمق من الدلالة اللغوية ، إذ تؤدى وظيفة نفسية تزيد الصورة جلاء بالنفاذ من التشابه الحسي " الرداء الأسود " إلى الإيحاء بالبعد النفسي أو الشعوري الحزين الذى يغمر الكون كله " من الشروق إلى الشروق " وإن كان الشاعر لا يقف أمام هذا التماثل الخارجي إلا بمقدار ما يعقد الصلة بين الطرفين ، لتؤول العلاقة بينهما إلى اتصال نفسي ينفذ من خلاله إلى الإفضاء بمكنون الذات ، حيث الحزن الضارب جذوره في الأعماق " أبداً سواد " .

فالسواد نقطة الثقل في هذا التحول وقد أدى دوره الدلالي بأصل المواضعة، أو بما فيه من هوامش إضافية أضفت على السياق كله لوناً من الحزن والكآبة، وإذا كان اللون قد انصب أساساً على واقع خارجي مادي هو " الثياب"، فإن بعده التأثيري قد امتد إلى الداخل أيضاً؛ على معنى أن الذات والموضوع قد اجتمعا في منطقة واحدة هي (السواد).

أما عن علاقة اللون الأسود بالمعنويات الداخلية فتصدر عن ارتباط اللون بالتجربة الشعرية نفسياً ودلالياً، ذلك أن لكل لون تردد خاص به، وكل تردد له تأثير حيوي على معنويات الإنسان.

أطوف بين القلوب الخواء المضاءات

بالنفط والشبق الأسود المتواري

وراء البطون التي انتفخت

بالحوانيت والبنك والإفك    (5)

في إطار تجربه حية أسيانة كابدها الشاعر إزاء اغترابه عن مجتمعه ومقاومة استلاب الروح وتشيئها، لا يجد أمامه إلا الرحيل، لكن المؤسف أنه رحل عن واقع منبوذ مرفوض إلى واقع أشد استحقاقاً للرفض حيث الخوض في الوحول والآثام، ويعد " الشبق الأسود " بؤرة استقطاب الدلالة ومحور تمركزها، فالقلوب المظلمة مضاءة بالنفط والشبق الأسودين، والنفوس الخواء منتفخة بالإفك، والشاعر يعمد إلى هذه الازدواجية قصدا ً إلى التمايز وبيان المتناقضات.

ومن ثم فإن الوطن هو المنفي والمأوى، فنحن مقاومون شهداء، ووطننا منفانا في الإقامة والرحيل، والأنا هو أنت ونحن هو الوطن ظلم وعدل، قهر وملاذ، وهو مرفأ وجحيم، وبهذه المفارقة تتضح أبعاد الرؤية المفعمة بالأسى الناتج عن تردى أخلاقيات البشر مجسداً في ضياع القيم والمبادئ استجابة لنزق الشهوة الرخيصة.

***

دكتور/جمال فودة

عضو الاتحاد الدولي للغة العربية

كاتب وناقد وأكاديمي مصري

........................

(1) مصطفي السعدني: قراءة المعنى الشعري / 31

(2)  يوسف نوفل: الصورة الشعرية والرمز اللوني / 53

(3) محمد عبد المطلب: قراءات أسلوبية / 42

(4) من وحى بور سعيد / 41

(5) الأعمال الكاملة: المجلد الثاني / 35

صدرت عن دار لندن للطباعة والنشر في العاصمة البريطانية السيرة الذاتية المعنونة بـ " الزنزانة رقم 7.. مذكرات سجين سياسي" للشاعر والروائي الأحوازي محمد عامر الذي سبق له أن أصدر أربع روايات وهي على التوالي: "الاغتيال"، "طيور الأحواز تحلّق عاليًا"، "سبعة أيام حُب"، و"ملحمة عِشق أحوازية". وتأتي هذه السيرة الذاتية بمثابة تتويج لجهده السردي الذي يتطوّر سنة بعد أخرى ليصل إلى هذا المستوى الاحترافي الذي يأخذ بتلابيب القارئ سواء أكان متعاطفًا مع القضية الأحوازية أو مُناهضًا لتوجهاتها ونبرتها التحررية، وسعي أبنائها المشروع لحق تقرير المصير.

يمكن قراءة هذه السيرة الذاتية كسيرة روائية أيضًا لما تنطوي عليه من ثيمة رئيسة وأفكار مؤازرة تصبُّ في النهر السردي الكبير وترفده بالكثير من الموضوعات السياسية والاجتماعية والعاطفية. كما تحتفي هذه السيرة بالعديد من الشخصيات المساندة لشخصية البطل كراويةٍ وكائن سردي في الوقت ذاته، وطبيعة تعالقه مع الحبيبة والأهل والأصدقاء والأقارب الذين يروون قصصهم وحكاياتهم الفردية والجماعية في آنٍ معًا. وقد وصل عدد الشخصيات إلى أكثر من 40 شخصية تدور في فلك البطل أو تحاذيه أو تتعاطى معه مُستجوبة أو مُقاصِصة أو مُحاورة؛ بعضهم  يؤازره وينتصر له، وبعضهم الآخر يُبغضه ويناصبه العداء حينما يكون في بيئة عنصرية وشوفينية حاقدة.

تنقسم السيرة إلى 12 فصلاً تختلف أحجامها بحسب الأحداث والظروف المأساوية التي يمرّ بها البطل الذي يتبنى الفعل السردي الذي تشاركه فيه الأم تارة، وبعض الشخصيات الأخرى التي تدخل في حوارات مباشرة معه بوصفه الشخصية المحورية في النص السردي والعصب النابض فيه.

أدب السجون.. ثنائية الضحيّة والجلاّد

تنتمي هذه السيرة إلى أدب السجون تحديدًا الذي لا يختلف كثيرًا عن البلدان المجاورة التي تشترك مع إيران في ثنائية الضحية والجلاد وإن اختلفت درجات القمع والتعذيب ومصادرة الحقوق الفردية والجماعية.

يستطيع الناقد الحصيف أن يؤشّر بسهولة الثيمة الرئيسة لهذا النص السيري وهي التشبث بالمبادئ الوطنية والأخلاقية التي تحث صاحبها على التضحية بالغالي والنفيس من أجل الوطن والشرف والكرامة الإنسانية حيث يقول الراوية:"لابدّ من الاعتراف أنّ المبادئ التي اعتنقتها وانغرست في خلايا دمي وجوارحي هي التي دفعتني إلى هذا المكان". ويقصد به السجن بزنزاناته الفردية والجماعية التي تضعه أمام خيارين لا ثالث لهما "إمّا الموت، أو الخروج سالمًا"، ولا مجال للتأرجح أو المراوغة التي لا يسمح بها القائمون على السجون القمعية بعد أن أيقظوا الوحوش النائمة في أعماقهم وأشرفوا بأنفسهم على قتل ضمائرهم ومشاعرهم الإنسانية المُرهفة.

قبل الخوض في تفاصيل هذه السيرة لابد من الإشارة إلى أنّ قساوة بعض الضباط الأحوازيين من أصول عربية هي أكثر بكثير من فظاظة ووحشية الضباط الإيرانيين سواء من الفرس أو من بقية القوميات الأخرى التي تعيش ضمن حدود "الجمهورية الإسلامية الإيرانية" الحالية ويمكن الإشارة إلى عنجهية ووحشية الضابط الأحوازي عيسى عبيات الذي يصفه الإيرانيون بأنه كلب من كلاب رئيس إدارة السجون ينقل له أخبار الضباط والمراتب وكل ما يدور في أروقة السجن من حوادث مهما كانت صغيرة أو كبيرة.

من يقرأ روايتي "سبعة أيام حُب" و "ملحمة عِشق أحوازية" لمحمد عامر سيكتشف جانبًا من سيرته الذاتية المشرِّفة التي وصف فيها بصدق معاناته الشخصية في السجون الإيرانية ولكنه لم يرد الإشارة إليها كي لا يقع في "مطبّ" التكرار. ومن يعرف محمد عامر على الصعيد الشخصي سيكتشف من دون لأيٍ وعناء حُبّه للعراق والعراقيين، وربما للنَفَس العروبي الذي يكتنف هذه البقعة الجغرافية من العالم العربي، ولكن هذه المحبة العميقة سوف تهتز ما إن يُقدم النظام العراقي السابق على غزو الكويت واحتلالها للأسباب الاقتصادية والأخلاقية المعروفة التي برّر فيها هذا الاجتياح وأعاد العراق مئة سنة إلى الوراء في أقل تقدير.

إذا كانت الثيمة المركزية الأولى هي المبادئ التي اعتنقها الكائن السيري فإن الثيمة المؤازرة التي تأتي بعدها مباشرة هي مهنة الراوي وطبيعة عمله كمترجم من اللغة الفارسية إلى العربية، فهو من جهته يدّعي بأنه يعمل في دائرة التوجيه السياسي التابعة للاستخبارات العسكرية العراقية حيث يترجم نشرات الأخبار التي تبثّها محطات الإذاعة الإيرانية، والبرقيات المهمة والعاجلة، وخُطب الجمعة، وتصريحات كبار المسؤولين الإيرانيين، وأحيانًا الترجمة الفورية للاجئين والأسرى الإيرانيين الذين تمّ جلبهم إلى بعض معسكرات الأسْر العراقية. وقد ظلّ مواظبًا على المهنة طوال سنوات الحرب العراقية- الإيرانية حتى غزو الجيش العراقي للكويت في 2 أغسطس / آب 1990م واحتلالها كليًا خلال يومين حيث اشتركت قوات النخبة من الحرس الجمهوري وبسطت نفوذها على كامل التراب الكويتي وبحره وسمائه. هنا تتشكّل العقدة الثانية، أو الثيمة الموازية للقيم والمبادئ الوطنية التي يؤمن بها الكائن السيري وراوية النص حيث يرفض المشاركة بأي شكل من الأشكال في احتلال الكويت حتى وإن دخل إليها بصيغة مترجم بعد أن تسلّم كتاب الإيفاد ولم ينفّذه فعدّته السلطات الأمنية العراقية هاربًا وأخذت تطارده في منطقة الدجيلي التي يقيم بها الأحوازيون في مدينة "واسط" ويستجوبون شقيقته بوصفه مطلوبًا للعدالة وخارقًا للقوانين المرعيّة الأمر الذي يدفعه لأن يستجير من الرمضاء بالنار فيقرر الهروب من العراق والعودة إلى الأحواز ثانية حيث يُقبض عليه ويودع في سجون متعددة تبدأ بعبادان وتمر بسجن "القدس" في الأحواز وتنتهي بسجن كارون وما يتخللها من زنزانات وكرنتينات انفرادية منعزلة. وقد صدر عليه الحُكم بالسجن لمدة 13 عامًا وسوف يقضي ثلثي عقوبته في السجن ويُخلى سبيله بعد سبع سنوات عجاف وبضعة أشهر مليئة بالقسوة والمرارة والقرف.

في كلٍ منّا لسانَ لهيب وعمود دخان

هذا هو العمود الفقري للسيرة الذاتية المكتوبة بأسلوب تعبيري صادق وشديد التأثير لكنّ أهميتها كنص سردي تكمن في التفاصيل التي توزعت على 12 فصلاً قال فيها كاتب النص وبطله كل ما يعتمل في نفسه ويدور في خاطره، ولكن القرّاء كعادتهم قد يتفقون معه أو يختلفون مع آرائه وخاصة الإشكالية منها، ويستطيع كل قارئ أن يختبر الآراء الواردة في النص السردي على انفراد ويتوصل إلى النتائج المنطقية بعيدًا عن تأثيرات الكاتب وهيمنته اللغوية والأسلوبية إذا ما أعتبرنا هذا المتلقي قارئًا عضويًا يتفاعل مع النص السردي تفاعلاً حيويًا ولا يقبل بآلية التلقي السلبي ففي كل منّا، كُتابًا ومتلقين، لسان لهيب وعمود دخان.

على الرغم من الأجواء الإشكالية التي كان يعيشها الراوية في طفولته ويفاعته ومرحلة نضجه الفكري والنضالي إلاّ أنه لم ينسَ الحُب بوصفه إكسيرًا  للحياة، ولم يتخلَ عن فكرته الرومانسية التي تتوهج في أعماقه، وتتلألأ في تلافيف دماغه فلا غرابة أن يحتضن هذا النص السيري قصتيّ حُب شهيرتين وإن لم ينتهيا نهاية سعيدة، وكلاهما ضمن الإطار الأُسَري، فالأولى هي قصة حُب والده، الشيخ عامر الذي كان في سن الخامسة عشرة ووالدته التي كانت تصغره بعامين لا غير. وسوف تنتهي هذه القصة، مع الأسف الشديد، بالانفصال والقطيعة رغم إنجابها لولد واحد وأربع فتيات. كما تنتهي قصة الراوية، وهو الذي يصف نفسه بالموظّف البسيط الذي أحبّ "حنانًا" وهي ابنة ضابط ركن كبير في الجيش العراقي يتوفر على غلاظة في السلوك وقسوة ملحوظة سواء في التعامل مع أفراد أسرته أو الناس الآخرين الذين يعملون تحت أمرته العسكرية. ورغم توافق المُحبَّين وانسجامهما في جوانب إبداعية وثقافية وفنية عديدة إلاّ أنّ رفضه المشاركة في غزو الكويت تحتّم عليه الهروب من جحيم العراق، كما يصفه، إلى ظلم الحكومة الإيرانية التي لا تجد ضيرًا في احتجازه وتغييبه لسنوات طوالا في سجونها ومعتقلاتها السرّية والعلنية.

يسلّط الروائي محمد عامر الضوء على عقلية السلطة الحاكمة وطريقة تعاطيها مع المعارضين لها والمناوئين لتوجهاتها السياسية والفكرية سواء من الفرس أنفسهم، أو من القوميات الأخرى التي تعيش ضمن حدود الجمهورية الإسلامية في إيران وخاصة العرب والكورد والبلوش والأذريين وغيرهم من القوميات التي تبحث عن مساحة أوسع من الحرية والديمقراطية والعيش الكريم. فثمة أناس فرس مغضوب عليهم ولا يختلفون كثيرًا عن الشخصيات المعارضة من القوميات غير الفارسية الذين تبتلعهم السجون وتنهال عليهم الهراوات والعصيّ المكهربة صباح مساء. كما يغيب القضاة المدنيون ليحلّ محلهم رجال الدين الذين ينفِّذون الأحكام الصادرة من وزارة الاستخبارات والأمن الوطني "إطلاعات" ولا يفعلون شيئًا سوى قراءتها على المُتهمين ولكن ذلك لا يمنع بعضهم من أصحاب الضمائر أن ينتصروا للحق في بعض المواقف الإنسانية التي لا يمكن نسيانها أو تفاديها كما حصل مع الراوية الذي زُجّ به في الكرنتينة لمدة عام وثلاثة أهشر حيث انتشله قاضٍ معمّم من شدق الموت وأعاده إلى زنزانة جماعية يقضي فيها ما تبقّى من عقوبته التي شارفت على الانتهاء.

يتعرّف قارئ هذا النص على طرق وأساليب التعذيب في السجون الإيرانية وخاصة المخابراتية منها. ففي الفصل الأول يتم اقتياد الراوية مع شخص آخر يُدعى مهدي العسكري من عبادان إلى سجن دائرة المخابرات في الأحواز وقد تعمّد القائمون على السجن ترك مكيّف الهواء مفتوحًا في شهر ديسمبر البارد. لا تزيد وجبة الطعام عن كسرة خبز يابسة، وبيضة مسلوقة، وكأس بلاستيكي فيه ما يشبه الماء. تداعت إلى ذهن الراوية أساليب التعذيب الرائجة في سورية والعراق وهي الجلد، والحرق، والفلقة، والتعليق، والخلع، والسلخ وكل ما من شأنه أن يحطّ من كرامة الإنسان ويقلل من قدره ككائن بشري. وبعد ستة أيام يُنقل الراوية إلى زنزانة أخرى وسوف يعترف عليه مهدي العسكري ويدلي بمعلومات لا يعرفها سواه وخاصة فيما يتعلق بهوية الاستخبارات الحقيقية، وهوية الجهاز الأمني الخاص المزيفة التي أصدرها له ضابط صديق مقابل أن يعلّمه اللغة الفارسية. وسوف تكون هذه الهوية المزيفة سببًا في الإيغال بتعذيبه.

مساهمة الشعب الأحوازي في إسقاط نظام الشاه

يتضمن الفصل الثاني بعض الحوادث المهمة من بينها القبض على والده الشيخ عامر من قِبل عشرة جنود على خلفية مشاركته في ثورة المحمّرة ودوره الريادي فيها بعد انتصار الثورة الإيرانية سنة 1979م، ومساهمة الشعب الأحوازي مساهمة فعّالة في إسقاط نظام الشاه في إيران، وسوف يُحكم عليه بخمس سنوات سجن، ويُنفى إلى مدينة "هاني" التي تبعد عن الأحواز 304كم، وتُفرض عليه الإقامة الجبرية مدى الحياة. كما تأتي مجموعة من العساكر للقبض على السيد حسن طاهر الغرابي لكنّ حسّه الأمني كان يقظًا جدًا حيث أطلق ساقيه للريح وفرّ هاربًا قبل مداهمة المنزل لكنهم سوف يقتلون زوجته العلوية حسنة أم ناجي. وبالتزامن مع هذه الأحداث يصل الشيخ صدّام الحامد من العراق، وهو من أهم المطلوبين للسلطات الإيرانية إثر مشاركته في الانتفاضة ودفاعه المسلّح عن مقر المنظمة السياسية. وحينما يشتد القصف على قرية "الغجرية" يقترح عليهم الدخول إلى العراق مع عوائل تسع قرى أحوازية أخرى.

ما يميز الفصل الثالث هو حديث السجناء عبر فتحة التهوية وهي الوسيلة الوحيدة المتاحة للتغلّب العزلة والضجر. كما نتعرّف في هذا الفصل على قصة الحب التي نشأت بين الراوية وحنان التي يعشقها كما يعشق الأحواز لكن ثمة أوامر مشددة تمنع زواج الأحوازي من عراقية إلاّ بعد موافقات متعسفة لا يمكن الحصول عليها في أغلب الأحيان. ومع ذلك فهو يقول:"كانت حنان تُحبني من دون أسئلة، فيما أحبّها من دون أجوبة". فهي أشبه "بقطعة السُكّر الوحيدة في أيامه المرُّة".

على الرغم من مرارة غالبية أحداث هذه السيرة الذاتية إلاّ أنها لا تخلو من مفارقات عديدة تمنح النص نكهة كوميدية ساخرة. فقد سُجن ذات مرة أستاذ من جامعة "جندي سابور" في الأحواز لأن طالبًا ضعيف البصر يجلس في نهاية الصف سأله عن شكل الجهاز التناسلي للجنين الأنثوي فرد عليه الأستاذ بأنه يُشبه الشعار الموجود على علم الجمهورية الإسلامية الإيرانية فصدر عليه الحكم بالسجن لمدة عام واحد، وفُصل من وظيفته، ونُقل إلى السجن المركزي. تبدأ أولى التحقيقات مع الراوية في هذا الفصل، وقد أشرنا إلى بعضها سلفًا، وقلنا بأنّ مهدي العسكري هو من وشى به، وهو الوحيد الذي يعرف معلومة الهُويتين الأمنيتين اللتين كانتا بحوزته.

ينفِّذ المهرّب رزّاق كريم عملية الدخول إلى الأحواز لكنهم ما إن يقعوا في حقل كبير للألغام حتى يتبنى الراوية مهمة القيادة والعبور الآمن إلى الضفة الأحوازية فهو يفضِّل الموت على ثرى وطنه وبين أهله وذويه.

يشتد التحقيق في الفصل الخامس وتحتدم فيه الاتهامات الموجهة إلى الراوية الذي لا يريد المُشاركة في غزو الكويت؛ البلد الذي ساند العراق في حربه ضد إيران بينما يشارك في الهجوم على الجمهورية الإسلامية كلما تهيأت له الفرصة وتوفرت سانحة الحظ. وحينما يفقد الراوية أعصابه ويتهمهم باحتلال بلده، ونهب ثرواته، ومصادرة حقوق شعبه العربي، يتعرض لنوع غريب من التعذيب حيث يمسك الجلاد قدمه اليسرى ويغرز إبرة طويلة تحت أظفره بينما يطفئ الجلاد الواقف خلفه سيجارته في قفا الضحية. ثم يعاود الكَرّة فيغرز الإبرة تحت ظفر قدمه اليمنى فيُغمى عليه.

العجز عن اجتراح الحلول

يقدّم الراوية مبرراته التي تمنعه من المشاركة في غزو الكويت تحت أي حجة أو ذريعة مُبينًا تناقضات السياسة العراقية، فتصريحات صدّام حسين تنصّ على عدم استخدام أي جيش عربي ضد دولة عربية أخرى فكيف قام باجتياح الكويت التي ناصرته ودعمته في حربه مع إيران؟ كما يعزّز وجهة نظره بأنّ الكويت  هي من بين الدول العربية القليلة التي منحت الأحوازيين حق العمل والإقامة على أراضيها فليس من العدل والإنصاف والمروءة أن يساهم بأي شكل من الأشكال في احتلالها. ثمة موقف لا يخلو من النفس الكوميدي الساخر الذي يحدث في أثناء مطاردة الراوية من قبل ضابط المخابرات حامد المشهداني حيث دلف في بيت أحد الأصدقاء وخبأته زوجة صديقه تحت سرير النوم ولمّا عاد زوجها محمد قال له:"اطمئن لن أدعهم يقبضون عليك، أنا من سيسلّمك لهم". يشهد هذا الفصل اللقاء الأخير بينه الكائن السردي وحبيبته حنان حيث يلتقي بها في فندق "الخيام" في الديوانية بعد أن صار مشرّدًا ومُطارَدًا وغريبًا ويعترف لها بأنه عاجز عن اجتراح الحلول ومع ذلك فإنّ حبها راسخ في القلب وأنها معه في كل رمشة عين، وفي كل نبضة قلب.

يمكن إيجاز الفصل الثامن بسادية الجلاد حينما يتهمون السارد بالتجسس والتعاون مع "المنافقين" ويأخذونه إلى البرية مع مجموعة من المتهمين الذين يتعرضون لإطلاق النار غير أنّ الأوامر تأتي فجأة وتأمرهم بالتوقف عن الإعدام لكن أحد الحرّاس الذي بدا متعاطفًا معه يقدّم له كأسًا من الماء البارد فيشربه دفعة واحدة ثم يغيب عن الوعي، وحينما يفيق يجد سبّابته ملطخة باللون الأزرق الذي يوحي بأنه قد بصم على شيء لا يعرف كنهه.

تنضاف في محكمة الثورة في الأحواز التُهم الغريبة للراوية وهي محاربة الله ورسولة، والإفساد في الأرض، والتعاون مع النظام البعثي المعادي للجمهورية الإسلامية، ورغم الحيرة الكبيرة التي وقع فيها إلاّ أنه وقّع على هذه التُهم خشية من العودة إلى الجلاد الأحمق. وبعد صدور الحكم على الراوية بـ 13 سنة وبضعة أشهر سمحوا له بزيارة الأقرباء من الدرجة الأولى، فزاره الأب أول مرة واطمئن عليه لمدة 45 دقيقة ثم ستزوره الأم التي لم يرَها منذ 17 سنة في الأسبوع الذي يليه. وقد نجح محمد عامر في تصوير المشاعر المرهفة لهذه الأم التي حُرمت من فلذة كبدها قرابة عقدين من الزمان. وسوف يروي الكائن السيري القصة المؤلمة لتعنيف الأب لزوجته التي رفضت بشكل قاطع أن يقترن بامرأة ثانية ووافقت على الطلاق بالتراضي شرط أن تتخلّص من نظرات الزوج المتخمة بالكراهية. تقول والدة الراوي في هذا الصدد:"لم يُوجعني ضربه المبرّح بقدر ما أوجعتني نظرات الكراهية التي لمحتها في عينيه". ثم تتساءل مستغربة:"كيف تحوّل هذا المخلوق اللطيف الذي كان يتنفس الحُب والغرام إلى وحشٍ يتلذّذ بالعذاب؟".

استنشاق عبير الحرية

بعد صدور الحكم النهائي على الراوية وتحسن علاقته بصالحي، الضابط الرفيع في الحرس الثوري، يُنقل إلى العنبر السابع الذي يتسيّد فيه ضابط أحوازي يُدعى قاسم جاسم مدلول الذي تربطه علاقة جيدة بعيسى عبيات، أحد ضباط السجن المتنفذين الذي يغلق باب العنبر في الساعة العاشرة الأمر الذي سيدفع بالراوية إلى تحريض السجناء عليه لكنه في النهاية يعصب عينيّ السارد وينهال عليه بالضرب المبرح بما في ذلك المنطقة الحساسة فيصيب فحولته ثم يقرر إيداعه في زنزانة انفرادية معزولة لمدة 15 شهرًا يرى فيها ما يشيب له الوِلدان لكن أحد القضاة ينتصف له ويعيده إلى الزنزانة الجماعية ويظل منتظرًا قرار العفو العام الذي يشمله ضمن 135 سجينًا. وبما أنه لم يكن مطلوبًا لقضية أخرى يختم الضابط على يده ختم الإفراج ويأمره بالتوجه إلى باب الخروج لينهي محمد عامر سيرته الذاتية بجملة ختامية شديدة الدلالة حيث يقول:"استنشقتُ عبير الحرية، فهل ستتنفس الأحواز عبير حريتها؟".

كثيرة هي الملحوظات والظواهر التي يدوّنها كاتب النص السيري محمد عامر من بينها ظاهرة التبعيّة الإيرانية الذين ارتكبوا جرائم النصب والتزوير والاحتيال وأودِعوا على إثرها في السجون والمعتقلات، وهؤلاء الناس تمّ ترحيلهم من العراق في أواخر سبعينات القرن الماضي عبر الحدود البريّة إلى إيران فتحاملوا على كل ما هو عراقي وعربي حيث يقول المؤلف عن تجربة ملموسة: "أنّ هؤلاء يحقدون على العرب حقدًا عجيبًا لا حدود له، مُدّعين بأنهم ليسوا عربًا وإنما من القومية الفارسية، في حين كان الفرس ينظرون إليهم باحتقار ويزدرونهم واصفين إيّاهم بالعرب الحُفاة". وهذه الملحوظة الدقيقة تستحق الانتباه والدراسة المختبرية المتفحصة مع العلم أن قضية الترحيل القسري قد قام بها النظام البائد وحزبه الحاكم ولم يكن للشعب العراقي بكل مكوناته أي دخل فيها على الإطلاق.

مَنْ يقرأ هذه السيرة بعمق ويتأملها جيدًا سيكتشف من دون عناء ظاهرة العمالة أو التواطؤ مع المحتل، فبعض الضباط الأحوازيين في السجون والمعتقلات الإيرانية لا يجدون ضيرًا في خيانة وطنهم وقيمهم الأخلاقية والاجتماعية ويتحولوا بين ليلة وضحاها إلى مرتزقة ومأجورين يشكلون خطرًا كبيرًا على أبناء جلدتهم ولعل الضابط عيسى عبيات هو أنموذج لهذا النمط الخائن من البشر. وقد سبق لنا أن كتبنا عن هذه الظاهرة اللافتة للانتباه في رواية "الاغتيال" لمحمد عامر نفسه ودعونا فيها إلى تنظيف البيت الأحوازي أو العربستاني من هؤلاء الخونة والمتواطئين الذين يشكِّلون خطرًا، في بعض الحالات، أكثر من جنود الاحتلال أنفسهم.

وفي الختام لابد من القول بأنّ هذه الدراسة النقدية تتصدى للجوانب الفنية والتقنية التي نجح فيها كاتب النص السيري ومُبدعه ولكنها لا تهمل، في الوقت ذاته، الجوانب السياسية والفكرية والنفسية التي عالجها الروائي محمد عامر وبرع في تقديمها بغض النظر عن درجة اتفاقنا معه أو اختلافنا مع آرائه ووجهات نظره الخاصة التي تبلورت في هذه السيرة الذاتية التي تبقى مُشعّة في ذاكرة القرّاء لأمدٍ طويل.

***

عدنان حسين أحمد

 

 

في المجموعة القصصية (باستيل) للقاصّة رانيا ثروت.. دراسة ذرائعية

إغناء: في كتابه" العجائبية الواقعية" وضع فرانز هلنس وجهتَين للأدب العجائبي، الأولى خارجية، والثانية داخلية، والفرق بينهما أن الكاتب في الأولى- الخارجية- يستمد شخصياته من " الكائنات الوسيطة " كالأشباح، والبيوت المسكونة، والأرواح، والتنبؤات....الخ، بينما في الفانتازيا الداخلية، والتي هي نتاج روح شعرية، تكون الشخصيات هي الكاتب نفسه، فشخصيته تتعدّد وتتضاعف، تتحوّل، تمتزج مع المادة أوالعنصر...

إذن، الفانتازيا الداخلية، أو الأدب العجائبي الواقعي، وهو أدب شاعري في الأساس، وهو مصدر الإلهام في الخيال العاطفي الانفعالي، الشخصيات المبتكرة من قِبل الكاتب في هذه الفئة هي ابتكارات وجدانية خالصة، وهذه الشخصيات هي الكاتب نفسه في مظاهره المتعددة، فهو لم ينقل الواقع مع عناصره المرئية والطبيعية إلى مستوى فوق الطبيعي، لكنه يجعل هذا الواقع يتحوّل ويندمج مع الفوق طبيعي ...[1]

المستوى الفكري (الثيمة):

الأديبة رانيا ثروت، هي قاصّة تكتب رسائل للمجتمع بطريقة عجائبية، فتخلط الخيال والميثولوجية في الواقع بطريقة راقية، مستغلة أدق الظواهر، في الحقائق العلمية، والغيبيّات الثيولوجية (الدينية)، فتنحصر كتاباتها بين علمَي:

الكوزمولوجي Cosmology:علم الجمال الكوني، أو الكونيات، الذي يهتم بدراسة الكون، الأصل والتطوّر والمصير الحتمي لكل شيْ.

والثيولوجي Theology: علم اللاهوت الذي يهتم بدراسة الدين وتأثيره على المجتمع، حيث يدرس التجربة الإنسانية للإيمان.

ف رانيا ثروت، في هذه العمل، المجموعة القصصية (باستيل)، تتناص دائمًا مع الكتب السماوية، وهي ثيمتها الرئيسية في معظم نصوص المجموعة التي ضمّنتها رسائلها الموجّهة للمجتمع باستراتيجية غرائبية.

أمّا عن التكنيك النصّي فهي قاصّة تحمّل كلماتها ومفرداتها، زيادة عن الحمولة السيمانتيكية المرئية، حمولات إيحائية متعدّدة بترتيب درجات جوانب العمق النصّي من رمزي وسيكولوجي وفلسفي وأخلاقي واجتماعي، فهي تكتب نصوصها برموز مغلقة ومفتوحة وعامة بدرجة تؤهّلها لأن نعتبرها قاصّة رمزية بدرجة راقية.

المستوى البصري واللساني الجمالي:

الجانب البصري:

العنوان: باستيل

وهو أول دلالة إيحائية صدّرتها القاصّة إلى المتلقي، وقد استلّته القاصّة من عنوان إحدى القصص في المجموعة، لأنها وجدته مكوّنًّا نصّيًّا مكثّفًّا وإيحائيًّا عن الثيمة الرئيسية لعموم النصوص في المجموعة. باستيل بالمعنى السيمانتيكي القاموسي: جاءت من كلمة باستيل أو باستل من الإيطالية pastello والتي تعني لفافة خبز صغيرة، وهي إحدى أدوات الرسم على هيئة أصابع تلوين لها عدة أنواع منها الزيتي وأقلام الباستيل والباستيل الناعم والخشن والقابل للذوبان في الماء، وهي تصنع من الطباشير البيضاء اللون وألوان مسحوقة.

 بينما إيحائيًّا: أصبح رمزًا تقنيًّا للطغيان والظلم وانطلاق شرارة الثورة، عندما أضيف إلى مفردة سجن، فأصبح سجن الباستيل: الذي أنشئ في فرنسا بين عامي 1370- 1383 كسجن للمعارضين السياسيين والمسجونين الدينيين والمحرضين ضد الدولة.

تكشف القاصّة إيحائية هذا الرمز بتقنية التوازي الدلالي، وبإيحائية متدرّجة، حين تطرح في معرض كشفها عنه دلالات إيحائية أخرى تتوالد وتتناسل بشكل تبرعم فرعي، كل ماتحته خط هو دلالة إيحائية فرعية تسند إيحائية الرمز التقني باستيل) المكثفة والمختزلة في المعاني الرئيسية الظلم والطغيان والأسر والثورة:

فكّرت أن أهرب وأبصق أفكاري في وجه العالم، لعلّه يستفيق، أتذكّر أنني فعلت ذلك مرة، هربت من مكان اسمه كاسم حشرة سامة يذكّرني بكلمة " باستيل" وبعدها رأيت ما يعجز عن وصفه فكري ولساني، كنت إنسانًا ثم حيوانًا، ثم تحوّلت لحشرة تركلها الأقدام، وتقوقعت في شرنقة نسجتها من جلدي وعظامي، متّ ثم بعثت فراشة تكشّفت أمامها الحجب، وعندما أخبرتهم بالحقائق أحضروني إلى هنا ......

الغلاف:

نجد الغلاف عبارة عن لوحة من الفن التجريدي، تمّ تكوينها من (موتيفات) عديدة، وخلافًا للمألوف، يحتل اسم القاصّة (رانيا ثروت) ببنط متوسط وباللون الأبيض على شريط بني أعلى اللوحة، بينما أسفل اللوحة من نصيب عنوان المجموعة (باستيل) بالبنط العريض واللون الأبيض، ودون أي تجنيس للكتاب...! من يقرأ نصوص المجموعة، سيجد أن الكاتبة ألقت على لوحة الغلاف دلالات بصرية للعديد من النصوص، كآلة العود التي تكرّرت في عدّة موتيفات في اللوحة من نص (مكاوي السلكاوي) بطل القصة الذي كان عوّدًا، قضبان النافدة التي تسجن خلفها فتاة بثوب مقلّم كزي السجناء، تعكس دلالات مشهدية وسيكولوجية لمعظم الشخصيات الأنثوية المسجونة داخل شقائها الاجتماعي والحياتي وخذلانها العاطفي، على سبيل المثال لا الحصر نص (الحب ... حرام).

اختيار موفق للون البني ومشتقاته، على اعتباره لون التراب، واحد من مكوّنَين رئيسيين لأصل الخلق الإنساني والكوني، مع إغفال متعمّد للمكوّن الثاني (الماء)، وهذا رمز غائب عن الطرف الحيوي في عملية الخلق لإنتاج الحياة، تسنده القاصة ضمنيًّا على استراتيجيتها المتناصة ثيولوجيًا مع الآية الكريمة (وجعلنا من الماء كل شيء حي)، فغياب اللون المائي في صورة الغلاف هو رمز لجفاف الحياة في الكون والإنسان على حدّ سواء، وحتى إن افترضنا أن ثوب الفتاة المقلم بالأبيض والأزرق قد يكون حضورًا شحيحًا للماء لكنه مسجون ومنزوعة منه خاصيته الفيزيائية الطبيعية في الجريان والتدفّق...!

الغلاف الخلفي، لوحة باهتة اخضرّت فيها الألوان قليلًا، وتكشّفت عن مجموعة من الرجال يمشون في رتل، واضح أنهم في باحة سجن، ويد تلوّح أمام نوافذ، ووجه فتاة لم يكتمل بالعينين، فقط أصبع السبابة ينتصب أمام الفم بإشارة تطلب أو تأمر بالصمت، وإلى يسارها صورة شخصية ل(رانيا ثروت) الجميلة تبتسم، وقد اختارت مقطوعة سردية من أحد نصوص المجموعة تختزل فيها فلسفة الوجودية، وثيمة الثيولوجية، تقول:

بعض الأشياء مبعثرة، أوراق وأقلام وسماعة أذن انقطع عنها الصوت فتوسدت الطاولة صامتة كالموت، وأسئلة تعبث بعقلي الأجوف، البعض يأكل الشوكولاتة والبعض تأكله الشوكولاتة فأيهما أنت؟ لم تعد هناك حقيقة مؤكدة، فهل المؤكد ما نراه أم ما يحدث فعلًا؟

الإهداء:

 نوعان من الإهداء:

خاص: لأشخاص بعينهم، الأم والأب والزوج والأولاد والعم، والصديق الأديب أحمد قاصد، والفنانة والأديبة سهير شكري، والأديب منير عتيبة والأستاذ محمد عبد الوارث.

عام: لأشخاص هم بالمجمل شخصيات قصصها المأزومة بثيمة الفقد والحرمان العاطفي والظلم الاجتماعي والخذلان النفسي، وعندما تهديهم بعضًا منها فهي تؤكّد أنها كل هذه الشخصيات باستراتيجيتها الغرائبية:

إلى الأرواح المعذّبة والمقيدة، والذين تهدّمت جدُرهم

إلى كل من فقد حلمه

إلى من قهرهم الخذلان والفقد

إلى من بكوا سرًّا وضحكوا جهرًا

إلى من تمنّوا غدًا أفضل ... ورحلوا دون رؤيته

إليكم أهدي بعضًا مني

35 نصًّا، من جنس القصّ القصير، قسّمتها القاصة إلى قسمين، الأول انضوى تحت خيمة (عنه) إشارة إلى سارد رجل، هو الشخصية البطلة في القصة، تضمن هذا القسم القصص التالية:

صلاة الإخلاص- كفر الكنبة- باستيل- دون أن يدري- عبور- منتظرون – وطن آخر- شكوك مؤكدة – نجم الشمال- عيون ملؤها الرماد.

القسم الثاني يتبع (عنهم) غلب فيها السرد عن شخصيات رئيسية مهمشة من الجنسين، والغلبة للجنس الأنثوي، عناوينها إما أسماء علم أنثوية، أو أسماء أوجمل اسمية نكرة، يضمّ هذا القسم القصص التالية:

فطيمة- مشجب- كسور- توحيدة- فصام- مكرّر- مكاوي السلكاوي- حبر- ورد وأشواك- سقف- شهامة- انعكاس- لحظات حرجة- الوشم- ندوب- مفترق- اغتراب- الحب ...حرام- جبن تركي- ليالي مقمرة- مد...مدد- السيد (س)- مساحة بيضاء- وجد- حلم أبتر.

امتدت القصص على بياض 112 صفحة من الحجم المألوف حاليًّا للمجموعة القصصية، بتنسيق مطبعي جيد، لكنه لم يخلُ من الأخطاء المطبعية والإملائية.

الجانب اللساني:

سأكتفي في الجانب اللغوي اللساني بدراسة حمولة الكلمة (سلّم الكلمة)، أي النقلة التعبيرية من المفردة باتجاه الدلالة، وهذه حالة تشكّل تمييزًا للنص الأدبي من النص التقريري.

فمثلًا، في قصتها (كفر الكنبة)، استخدمت مفردة) الكنبة (كرمز مغلق بالبداية، وهو دلالة لأشياء إيحائية سنقف عليها بالتدريج، وقدّمت عليها كل الشروحات القاموسية، ابتداءً من تأصيل وجود تلك الكنبة، بطرح دلالة العمق التراثي لها بطريقة غرائبية، والتي ستكشف فيها عن دلالة الإيحائية باتجاه موروث العادات والتقاليد القديمة، تقول:

قريتنا قرية غريبة.. أهلها يحتفظون في كل بيت من بيوتها بكنبة قديمة، يتوارثونها جيلًا بعد جيل، يحرصون عليها أشد الحرص، حتى أن اسم قريتنا اشتقّ منها....ص 13

تتابع طرح دلالات إيحائية لبناء غرائبية في الإيحاء عن التصرّف الثيولوجي لأبناء القرية حيالها، وهي دلالات ملحقة بالدلالة الأساسية (الكنبة)، فيكون التلفاز دلالة سيميائية بظاهر المعنى الإيحائي المخفي، وهو الدور الإعلامي المقابل للكنبة، الذي يتّسم بخصائص تستعرضها بدقّة، تقول:

يقبع أمام الكنبة تلفاز، يظلّون جالسين عليها يشاهدونه طوال الليل وبعض النهار تبعًا للمواعيد المقدّسة، يتابعون القناة الوحيدة صاحبة البرنامج الواحد....

وقد أرادت القاصة بتلك الثنائية الغرائبية(الكنبة والتلفاز) أن تثبت أهل البلد يؤمنون ثيولوجيًّا(طوال الليل وبعض النهار- المواعيد المقدّسة) بأن تلك الثنائية(الكنبة والتلفاز) قد تحوّلت إلى تعويذة تحميهم من الشر، وهذا إيمان ميثولوجي تطرحه الكاتبة عن طيبة وبساطة أهل القرية، وهل يعد ذلك تخلّفًا برأي الكاتبة ؟

لم تعتبر الكاتبة هذه الحالة تخلفًا بالمعنى الدقيق للكلمة، لأن الناس القرويين البسطاء يؤمنون بالتعويذات التي تنهي الصراع بين الخير والشر لصالح الخير، تقول:

يؤكّد أهالي الكفر أن الكنبة تحميهم، وتوفّر لهم الراحة والأمان، كما أنها تجمع العائلة بصورة مثالية... ص13

ثمَّ تنتقل فجأة إلى معنى إيحائي سياسي، ارتبط بلفظ (الكنبة) ارتباطًا مباشرًا في مرحلة قيام ثورة يناير، حيث تمّ تصنيف أفراد المجتمع بحسب آرائهم السياسية وموقفهم من الثورة إلى عدة مجموعات، وبعضها ارتقى أيضًا بشكل رمزي إلى لفظ أحزاب، منها حزب الكنبة، وإلى هذا المعنى تتحوّل القاصّة، لتبيّن هذا المعنى الإيحائي السياسي، بأسلوب لا يخلو من التهكم والسخرية، تقول:

.... أنها تجمع العائلة بصورة مثالية، لم يفكّر أحد في الخروج على القانون، ربّما خوفًا، وربّما عن إيمان حقيقي بأهميّتها المقدّسة.. يجلسون فاغري أفواههم، عيونهم جاحظة مفتوحة على آخرها، لا ترمش ولا ترف بشكل غريب!. ص14

وهنا نقلة تعبيرية إلى ثيمة القاصّة رانيا ثروت في الكتابة في هذا النص، بعد أن استخدمت الغرائبية والثيولوجية والميثولوجية بارتباط أهل القرية بالكنبة والتلفاز، نقلتنا إلى ظهور جيل الصغار الذين أرادوا فك الارتباط بين الدلالَتين بتحطيمها، فأرادت أن تقول: بأن الحياة عبارة عن أجيال متعاقبة، جيل يعقب جيلًا، فيظهر درجة التفاوت بين الجيل الجديد وبين الجيل القديم السابق، وكاتبتنا المثقفة تحاول أن توظّف هذه الثيمة لإظهار الرفض العلني للجيل الجديد لتفاهات وخرافات الجيل السابق، وهنا نحتاج إلى ذرائع ومبررّات تمتثلها الكاتب لإثبات الفرق بين الجيلين وأيّهما الأصح، من هذه المبررات:

1- الكنبة والتلفاز جعلت أفراد الجيل السابق يسمنون جسديًا،

2- كما أنهما أوقفا التفكير في عقولهم،

3- وجعلاهم مسلوبي العقل ك (الربوتات) إحساسًا وسلوكًا.

أمّا عن النتائج: فقد حاولت الكاتبة معالجة هذا الأمر بطريقة ذكية لتخليص أبناء القرية من هذا المرض الغريب، وأتت بالنتائج التالية:

1- جعلت أفراد الجيل الجديد يفكرون بتخريب جهاز التلفاز مجتمعين:

اتفقت وبعض أصدقائي على أن نخربّ الجهاز، الذي يستعبدنا، ويستعبد أهلنا ولو بالقوة، نوقظهم من هذا الروتين القاتل والنظام القاسي...ص 14

2- إن تخريب الجهاز سينتج عنه معالجة للجيل القديم من داء السمنة الذي أصاب عقولهم وأجسادهم، ليستعيدوا البصيرة وقدرة على المحاكمة العقلية، ورؤية الحقائق كما يراها الجيل الجديد، في محاولة لهدم الفجوة بين جيلين فقد القديم منهم اتجاه البوصلة، بذلك تكون قد خلّصتهم من هذا الموقف الغريب:

... ونعالجهم من الشحوم التي تراكمت على عقولهم وأجسادهم، لعلّهم يرون الحقيقة الغائبة عنهم، مثلما نراها نحن....ص 14

3- وعندما حاول الجيل الجديد التخلّص من التلفاز ظهرت مخلوقات غرائبية، وقامت بسجنهم داخل الكنبة (هنا تحوّلت الدلالة الرئيسية إيحائيًّا إلى معتقل)، وبقي أهاليهم يجلسون على الكنبة دون أن يدروا أن أبناءهم مسجونون داخلها، يتألّمون من ثقلهم وخنوعهم على سقف معتقلهم:

تشكّل (السلويت)[2] رجالًا غلاظ الملامح، يمسكون هراوات شائكة، قادونا إلى غرفة غريبة مملوءة بأنابيت أسطوانية تشبه " السوست"، سجنوا كل واحد منا في " سوستة"[3]، مازال أهلنا جالسين فوقنا، مع كل حركة منهم نتألّم.. نصرخ.. وما من مجيب، منّا من أعلن توبته، وتوسّل للرجوع إلى حياته؛ مؤكّدًا أن الكنبة هي الأمان، وأنّه استُدرج... ص15

4- النجاة جاءت بحدث حتمي، طرحته القاصّة إيحائيًّا (ثورة) بدلالة إيحائية جديدة(طوفان):

حتى جاء يوم سمعنا فيه الحرّاس يهرولون ويصرخون يتحدّثون عن طوفان اجتاح البيوت، وسوف يغرق الكفر، بعض الحرّس أشفقوا علينا، فأخرجوا بعضنا، ليريحوا ما تبقّى من ضمائرهم، فأخذنا نخرج من السوَست، والماء يغرق أرضية الكنبة، وأهلنا لا يشعرون...ص16

5- هنا تريد الكاتبة أن تختم كل ما قيل مسبقًا عن الكنبة رمزًا عامًا مفتوحًا يشير بأصبعه الغليظ إلى الصراع بين التخلّف والوعي، بين الحاكم والمحكوم، فإمّا أن يتفوّق الحاكم والتخلّف بالضغط على الوعي والمحكوم حينما يكون الاثنين في حالة سلبية، أو العكس حينما تكون الحالة إيجابية، بمعنى، أن القاصّة استخدمت رمزًا مفتوحًا لدلالة مشهورة هي الحاكم والمحكوم، الوعي والتخلف، ... وهو صراع دائم، ويعاني فيه الصح والحق كثيرًا حتى ينتصر...

فاض الطوفان، هدم البيوت، طاف الكنب متجهًا إلى المصرف، حتى سدّهوتراكمت جبال المياه فوقه، حتى أهلكته إلى غير رجعة، وبعد سبعة أيام، ابتلعت الأرضُ الماءَ وجفّت بعض المناطق، فنزلنا من أعالي الشجر، متخذين قرارًا في البدء ببناء كفرنا الجديد. واتفقنا على أن نسمّيه " كفر أبو سوستة"

طبعًا القاصّة بهذه النهاية تقودنا إلى المستوى العقلاني مدخل التناص الثيولوجي مع النص القرآني في قصة الطوفان وسيدنا نوح عليه السلام.

 المستوى المتحرك:

سأجمل في هذا المستوى التجربة الإبداعية للقاصّة، بالنقاط التالية:

1- تجربتها السردية راقية جدًّا لأنها تكتب تحت خيمة الإيحاء والغرائبية

2- استخدمت الرمزية المفتوحة والرمزية العامة

3- استخدمت حمولة الكلمة بشكل فلسفي جميل، فمكّنتها فلسفتها من النفاذ من الأزمة إلى الحل بطريق عبّدته بالغرائبية.

4- الاستراتيجية المستخدمة في كتابة معظم القصص تكوّنت من العجائبية والخيال والإيحاء، وهذا الخليط خليط غير متجانس، لكن الكاتبة استطاعت الجمع بينهم بمهارة وذكاء سردي.

في قصّة (مفترق) أقامت البناء السردي على تخييل مخاتل، البطلة تخاطب حبيبها، تعلن له بكل حزم إصرارها على أن يبقى حبيبها رغمًا عن كل الحيل المخادعة التي يشقيها بها، فهي تحبّه بالصورة التي تراه هي بها:

أنا لا أراك، وإنما أرى الصورة التي ولدت في خيالي منذ زمن بعيد، الصورة التي طالما كنت وفيّة لها، والتي كانت دائمًا وفية لي.... ص87

ثم تفاجئنا القاصّة أن البطلة تتحدّث إلى ميت في قبر! تطلب منه بكل جدّية وغضب ووعيد قائلة:

" أتمنى أن أجدك في انتظاري المرة القادمة، فلن أغفر لك كل هذا الإهمال، ولن أسمح بأي أعذار للغياب". ص 87

5- للميثولوجيا مساحة واسعة في هذا العمل، نجحت الكاتبة في تضفيرها مع الواقع، فكان النسيج السردي بروكارًا متجانسًا جميلًا من متنافِرَين، على سبيل المثال في قصة (سقف)، حاكت لنا لوحة فيها نار من الواقع ونار من الأسطورة:

نار المدفأة تتوهّج، تسترجع أسطورة " بروميثيوس" .. من وُهِب قبسًا من نار ليضيء العالم، أحبّ البشر ففقد حريته، وعاش مقيّدًا على صخرة.... ص70

 بطلتها مسكونة بالشخصيات الأسطورية، لذلك تقابل القاصّة صندوق البطلة المركون قبالة المدفأة، والحاوي على ذكريات الماضي، بصندوق باندورا الذي تضمّن كل شرور البشرية، وكلا الصندوقين استفزّا نارالنفس المتأجّجة بغريزة الفضول لفتح مغاليقهما، ليغدو الشرّ طليقًا:

ظلال النار تداعب صندوقًا في ركن قبالة المدفأة، كان هدية من زمن ولّى، فكّرت في لمسه وفتح مغاليقه، لكنها تذكّرت باندورا التي قتلها الفضول، فأطلقت عذابات العالم، وتراجعت. ص 70

وفي قصة (عيون ملؤها الرماد) توظيف لافت لأسطورة (خطف حادس ل بيرسيفوني) في المتن القصصي، وتحويل المتن الحكائي للأسطورة الأصلية إلى بنية حكّائية متفلّتة من القرائن الزمنية والمنطقية للأحداث، وتوظيفها في بناء المتن القصصي المعاصر بأسلوب إيحائي، يسقط فيه القاص الزمن الماضي على الواقع الحاضر في محاولة لاستنباط حلول أو كشف لمشاكل الحاضر على ضوء النهايات المعلومة لمتن الأسطورة.

6- في بعض القصص تنطلق القاصّة من اللاوعي، لكنها تسرد بمنتهى الوعي، في قصة (عبور) تنطلق بالسرد من بعد غيبي ميتافيزيقي، وهي حالة الاحتضار أو معبر الموت، تقول:

... عندما همّ بالاتجاه ناحية الظل القابع في ركن الغرفة وجده .. باب

الباب فُتح... ولج في فرجته، وكأنه انتقل إلأى عالم آخر ... إلى بعدآخر.... ص21

نفس الاستراتيجية نجدها في نص (دون أن يدري)، حيث كان مسرح الحدث قبر وعالم برزخي وبطل ميت دُفِن حديثًا:

في غرفة مظلمة أقف وحيدًا أبحث عن اتجاه صائب للخروج.....أصرخ ويزيد طرقي، والأمل يتضاءل في نفسي، يتشقق الحائط .. لكن يظل صامدًا بظلمته الكالحة، يزيد طرقي وتنطفئ عزيمتي رويدًا رويدًا حتى أسقط خائر الأمل ممزق الأحلام، أغيب عن الوعي، فقد سقط على رأسي حجر. ص 19

7- تستخدم تقنية تيار الوعي السردية بشكل لافت، ففي قصّة (المشجب) عتبة واقعية هي صورة الأب تثير تيار الوعي عند الساردة فتنطلق بالكشف عبر طرح تدريجي لدلالات إيحائية، وهذه، كما أسلفنا، استراتيجية عند رانيا، لنكتشف، بعد ضمّ الدلالات إلى بعضها البعض، أن الساردة تعرّضت لحادثة اغتصاب من قبل والدها(زنا محارم)، فقامت بقتله، وتشرنقت بحقد ثأر لم يكتمل، ولم تستطع التحرّر من تلك الشرنقة إلّا بتمزيق صورة الأب، انعكاسه الذي بقي حيًّا في مرمى نظرها على الجدار:

" انتهى الأمر، ستظل هناك مهما فعلت، ولن تتمكّن مني أبدًا، مثلما فعلت ذات مرة في الماضي، كنت صغيرة ضعيفة مطمئنة إليك، لم أعلم أن الذئب يتخفّى في ثوب الحمل... الأب ...أخذت ثأري منك مرّة، والآن أتخلّص من بقاياك نهائيًّا". ص48

وأرى أن القصة كان ينبغي أن تقف أو أن تنتهي هنا، وأن الفقرة التالية هي فقرة زائدة أو حدث نهاية مفتعل وزائد يمكن الاستغناء عنه، لأن القاصّة خرجت به عن زمكانية القص المعاصر.

8- النهايات في قصص رانيا ثروت نهايات مدهشة، مباغتة ومفارقة: ففي قصة السيد (س) خط سير السرد هوخط وصفي بصري من البداية، ولكن النهاية تنسف ذلك الوصف البصري حين نُفاجأ من دلالات رمزية وإيحائية بأن البطلة عمياء:

خرجت من ساحة السيرك، وهي سعيدة محلّقة..... تعدّل نظارتها السوداء التي ترتديها في عتمة الليل، وترفع عصاها لتشير لعل سيارة أجرة تلتفت إليها تقلّها إلى منزلها.

9- الأسلوب: أدبي إنشائي، مطعّم بالصور الجمالية، فيه حس الفكاهة من النوع التهكّمي، بعض القصص كانت تحمل وعظ وعبر، فكان السرد التقريري ضرورة بين فراغات السرد الأدبي (الوشم- ندوب- شهامة- توحيدة- الحب .. حرام- جبن تركي).

10-  الجمال: استخدمت الجمال النصّي بنوعيه، البلاغي وعلم الجمال، أختار بعض الصور الجمالية التي وجدتها متوفرة بكثرة في قصّة (اغتراب):

- أرتشفُ بعض الحنين الملغّز من الكابتشينو الدافئ (استعارة)

- أذوب في خفقات الكريمة وفي قطرات الكحل السائل على وجنات الغجرية المليحة

- ماضيك مرّ كقهوتك (تشبيه)

- أمامك طريق طويل يمتصّه الضباب في أحشائه مخلّفًا وهمه الأبيض، تبدّده أشعة شمس هاربة ضلّت طريقها، أشعة ذابلة تصارع من أجل الحياة (علم جمال)

- فنجانك ملئ بالرموز والصور وأكثر ما يدهشني فيه كتلة السكرالتي تجمّعت حول صورة وجه وعلم وبعض قطرات تشبه قطرات الدماء التي تقطر من قلب ممزق يقبع في قاع الفنجان (علم جمال - تشبيه)

- أحيانًا يتركنا الكلام، ويرحل عندما ييأس من جدواه (استعارة)

- يغترب في غيرنا تاركًا لنا عجز الأسرار وحيرة القرار (استعارة)

- أوراق تاريخنا المصفرة تتساقط كأوراق الشجر في خريف العمر (تشبيه) 

انتهينا من الدرجة الأولى (الجانب الرمزي) من درجات حمولة الكلمة على سلّم العمق النصّي عند رانيا ثروت في نصوص هذه المجموعة، وسننتقل إلى الدرجة الثانية وهي:

المستوى أو الجانب السيكولوجي:

ونميّز فيه المداخل التالية:

1- المدخل العقلاني:

ندرس فيه أشكال التناص وأنواعه، تبعًل لثلاثية التناص الذرائعية التي تبحث عن:

- تناص الكاتب مع تجربته الحياتية الذاتية: فشخصيات الفانتازيا الداخلية هي شخصية الكاتب نفسه في مظاهره المتعددة، وهي نابعة من وجدانه. ورانيا تنطلق من ذاتها بكل ما تكتب، من وجدانها حينما تطرح قضايا الإنسان في صراعه في مسرح الحياة بين خيرها وشرّها، بين الشقاء والسعادة، بين الأمل واليأس، بين النجاح والفشل، تنطلق من ذاتها المتألّمة وهي تشق طريقها باتجاه التشافي، من عاطفتها الجياشة قبالة انكسار قلب طفل أو فتاة أو شيخ، من غضبها حيال مظاهر التخلف والظلم بأنواعه، من ثقافتها المختزنة في هوة الإدراك، فتجيد قراءة كل الدلالات الواردة إليها، تتفاعل مع أدق الظواهر وتصيغ منها قصصًا مفعمة بالجمال الرمزي، تحترم عقل القارئ فلا تبخسه حقّه من الفهم، وتنأى عن العبث فلا تلغز ولا تبهم ...

- التناص مع التجارب النصّية السابقة: رانيا ثروت متناصة مع الأديب الدكتور شريف عابدين تناصًا ميثولوجيًّا، في إحلال الأسطورة على أرض الواقع، وتحويل المتن الحكائي للأسطورة إلى بنى حكائية تقيم عليها معمارها القصصي الفني، شغوفة مثله بحل مشاكل الحاضر بالاعتماد على نتائج وحلول الماضي.

وهي متناصة ثيولوجيًّا مع نصوص الكتب السماوية.

في قصة كفر الكنبة تناصت مع (قصة الطوفان) في القرآن الكريم، في قصة باستيل تناصت مع قصة السحرة من قوم موسى، في نص (دون أن يدري) تحاكي حال الميت ما بعد الدفن، وفي نص (عبور) تحاكي حالة الاحتضار، وتتناص مع قصة أم موسى وفرعون واليم:

الموت يدق...لا تفكر مرتين... اقفز في اليمولا تنتظر.. ذراع فرعون سكين.. ودموع فرعون سموم... والأم المغلوبة تلعن في صمت.... ص 22

 في قصة شكوك مؤكدة: نتخذ من الجبال بيوتًا ص 31 تناص بلاغي مع النص القرآني في سورة النحل، وتناص قصصي مع قصة أهل الكهف

2- المدخل التقمصي:

بعض الحكم والمواعظ والعبر التي تطرحها القاصة رانيا ثروت في نصوصه:

- ويل لأصحاب العقول الرحبة من أصحاب العقول الضيقة

- في بقعة الضوء تنكشف ألاعيب الحواة كلها

- عند النهاية تتساوى كل الأشياء

- الكبار يعرفون ما يفعلون .. هم على حق دائمًا.

- المحراب الذي ينام فيه النسّاك يصبح مدنّسًا، لايصلح مكانًا للصلاة.

أمّا الدرجة الثالثة في سلّم العمق النصي فهي الجانب الفلسفي، ونجدها في التساؤلات والجدليات الفلسفية المثارة في:

3- المدخل السلوكي:

لرانيا ثروت فلسفتها في الحياة وأصل الوجود وأصل الأشياء فهي دائمة التساؤل عن ذلك، وأيضًا هي دائمة البحث عن إجابات ترتاح إليها نفسها، لكن طبيعتها القلقة والحريصة على تحرّي الحقيقة تجعلها لا تقرّ على قرار، بل تبقى لاهثة وراء صرخات الأسئلة عن جدوى الحياة في عالم مسكون بالظلم والطغيان والمعايير المقلوبة، حين يسكن إنسان بطيبة الملائكة على أرض يحكمها الأباليس، من الطيبعي أن يصبح مسكونًا بالخوف من كل شيء، ومن المعقول أن ينبت له جناح يطير فيه إلى عالم الملائكة، من قصة (كسور):

أجنحة نبتت لي أجنحة ... لم أعد أسمع زملائيولا رئيسي ولا أي صوت، وجدتني أبتسم وأضحك، أنا سعيد لأول مرة، إنها السعادة بالتأكيد، فهو شعور لم أخبره من قبل. ص 52

رانيا ثروت ممسوسة بفلسفة الموت، لذلك نراها دائمًا تحاول التسلّل إلى غيبيّاته، فتخترق الجدر الفاصلة بينه وبين الحياة، قد تقف في المعبر، وقد تتابع إلى القبر، لكنها بكل الأحوال لا تعتبر غولًا ابتلع ميت، بل تبقى على تواصل مع انعكاس ذاك الميت على صفحة الحياة، فالموت عندها، كما الحياة، ظواهر ينبغي الاستقصاء عنها للوقوف على حقائقها ودراسة الجدوى المتوخاة من وجود الإنسان فيها، وما هو دوره المنتظر الذي ينبغي أن يمثّله على مسرحها حتى ينال تصفيق الملائكة؟!.

الجانب الأخلاقي: الدرجة الرابعة في سلّم العمق النصّي.

التزمت الكاتبة بالجانب الأخلاقي العربي فلم أجد اي تجاوز سيمانتيكي أو إيحائي في حمولة مفرداتها المكثفة، بل التزمت في كل القصص الدعوة إلى الارتقاء والسمو الأخلاقي بالتزام قيم الخير وقلع عين الشر والرذائل.

الجانب الاجتماعي: الدرجة الخامسة في سلّم العمق النصيّ، تناولت القاصّة العديد من الموضوعات الملقية على أرصفة المجتمع، يتعثر بها المهمشون من النساء والأطفال والكهول، بعضها قضايا كبرى بحجم وطن، وبعضها مسكوت عنه كزنا المحارم، والعديد من الموضوعات اترك للنقد الثقافي الخوض في هذا السياق الخارجي باستفاضة، فاهتمامي ينصبّ حسب المنهج الذرائعي على النص الوليد بدلالاته الإيحائية المنبثقة من شكله الجمالي الخارجي ومضمونه المخبوء، أي أن النص بكيانه هو الأساس والجوهر الذي يهتم به النقد الذرائعي بمستوياته التحليلية العميقة.

 ***

بقلم الناقدة الذرائعية د. عبير خالد يحيي

........................

[1] تحليل نقدي في أدب الفانتازيا والخيال العلمي – دراسات ذرائعية للناقدة الدكتورة عبير خالد يحيي- دار المفكر العربي للنشر والتوزيع - القاهرة ط1 -2020 -ص14

[2] فن السلويت هو فن الظل أو فن الصورة الظلية وهو أحد أنواع الفنون التشكيلية التي تعنى بانتاج اللوحات الفنية على هيئة ظلال الأشياء دون وجود تفاصيل وصفية تدل على الملامح الحقيقية لها- مجلة سطور 2019ديسمبر 23

[3] السوستة هو السحّاب الذي يستعمل من أجل ضم قضعتين من القماش بشكل مؤقت، ويأتي أيضًا بمعنى النابض، النوابض التي تستمل في صنع مراتب الأسرّة والكنب

 

مهما حاولنا طمس ذاكرتنا فلا بد دائما من جمار تتقد أسفل رمادها تدفعنا للبحث عن ذواتنا المفقودة بينها..

كشفت دينا المعلوف في تقديمها للرواية ص7 (عندما يهطل المطر الماضي يعود يوما) الصادرة عن الآن ناشرون وموزعون، عن المحور الرئيسي الذي ستدور حوله أحداث عملها. فالماضي ما هو إلا تلك الذكريات التي تختزنها ذاكرتنا المراوغة التي ستفعّلها متى رغبت بذلك وبطلة رواية المعلوف فعّلت ذاكرتها وما تحمله من ذكريات للبحث عن ذاتها في واقعها المتناقض.

لذلك جاءت رواية عندما يهطل المطر تجسيدا لأحداث الماضي وقد حرصت المعلوف على استذكار بطلتها حنين حياتها الضائعة وصراعها الداخلي اليومي للتأقلم مع واقعها الذي يتمثل بالشطر الأول زوجها مروان الطبيب النفسي الذي حاول علاجها من ماضيها فأحبها وطلبها للزواج فوافقت هروبا من هذا الماضي وظنا منها بأنها ستنجح في التخلص منه بهذا الزواج ففي ص15على لسان حنين (كنت مرتدية فستاني الأبيض..امشي بخطوات بطيئة كأن شيئا في داخلي يقاوم ويرفض هذا الزواج..) والشطر الثاني حبيبها الأول زياد.

لكن مروان وعلى مر السنين لم يكن سوى ذلك الأمان الذي تلجأ إليه كلما زارها طيف زياد ففي ص24 على لسان حنين (أصابني ذلك الوقت شعور بالألم يمتزج بالخجل والندم....ودون وعي وجدت نفسي أذهب إليه كأني أبحث عن الإحساس بالأمان والطمأنينة التي طالما منحني إياها) .

والمتتبع لأحداث عندما يهطل المطر سوف يلاحظ بأن تقنية الاسترجاع هي عنصر أساسي ساهم في بناء ديناميكية العمل وجماليته اللغوية. وقد أحسنت المعلوف توظيف هذه التقنية بدءا من حياتها مع مروان والزواج به ثم العودة إلى سنوات بعيدة والطواف بين أروقتها حيث شقة زياد رجلها الأوحد كما كانت تسميه والحنين إليه ففي ص32 على لسان حنين (ففي كل يوم تمر أشياء توقظ في قلبي الذكريات وتعيدني إلى ذلك الزمن حيث كنت طفلة وكان زياد رجلي الأوحد).

وقد احتفظت حنين بصور ماضيها بل وأطرتها على جدران ذاكرتها بأطر صلبة صعبة الكسر ففي ص68 على لسان حنين (حملتني تلك الصور معها إلى ذلك اليوم وذلك الباب الذي أغلقته خلفي.. تلك الحالة التي خرجت بها من بيت زياد حاملة معي حقيبة من الفرح).

ومع مرور الزمن تزداد الجمار اتقادا ،إنها ذاكرة حنين التي تأبى إلا أن تصمد في وجه الزمن وترفض الاندثار بالرغم من كل محاولاتها الكاذبة للنسيان فمهما سعينا لقتل الماضي ونسيانه إلا أنه باق فينا حيّ جزء منا لا نستطيع اجتثاثه ففي ص33 على لسان حنين (ورغم معرفتي بأن قصتي مع زياد قد انتهت قبل أن تبدأ إلا أن شيئا بداخلي يبقى متمسكا بها). وفي ص11 (لم أفهم حينها أن ما أقوم به ليس إلا محاولة يائسة مني لأنسى وأمضي في حياتي).

واستعادة الماضي هو فعل لجأت حنين إلى استخدامه للتلذذ به ففي ص 29(تذكرت كيف هطل المطر بغزارة في لحظة مجنونة فأسرع زياد ليغلق نافذة البيت ورآني هناك أختبئ تحت شرفة أحد البيوت...فسمعت صوتا يناديني..حنين.حنين ركضت بسرعة في اتجاه مدخل البناية) فبالرغم من هذا الماضي المؤلم إلا أنها كانت تطرب له لما يحمل لها بين ثناياه المتعة والسعادة.

وحنين ما هي إلا ذات عليلة تبحث عن السعادة في ماضيها.

وذات حنين تخوض صراعا وجوديا مع نفسها وتواجه عللها بمفردها محاولة فهم ذلك الخوف الساكن بأعماقها ،خوف من الزمن ومن الحب ،من المجتمع ونظرته. ذات عجزت عن التكيف مع واقعها مما دفعها إلى الماضي في رحلة بحث عن السكينة. ذات هشة لا تكف عن تأمل هواجسها وتناقضاتها سعيا إلى إثبات وجودها وإعطاء معنى لحياتها سواء تمسكها بالإرادة أو بقيم الحب ونبذ نظرة من حولها ففي ص25 (بدأت ألملم الأخزان التي تشوه روحي وأستعيد من الماضي ذاتي).

وقد صورت لنا المعلوف ذاتا إنسانية تعاني إحباطا ويأسا سببه التمزق والصراع بين الماضي والحاضر بين حب زياد وأمان مروان وعبرت الكاتبة عنه على لسان حنين عن مروان ص13 (كانت كلماته دوما تأتيني كالسحر.. فأخرج بعد لقائنا كأنني ولدت من جديد ! لكن بعد مرور بعض الوقت أعود لحزني كأن شيئا لم يتغير).

إن الخوف الساكن في الأعماق والتناقضات الدائمة والرغبة في انطلاق المشاعر والإفصاح عنها علانية وتحقيق الذات، جميعها قيم سعت المعلوف إلى بثها في شخصية بطلة عملها حنين حيث أرادت أن تجعل هذه الذات صوتا يصدح في الكون ووعيا يعكس موقفها نحو المجتمع.

 وقد سعت المعلوف إلى التغلغل في أعماق هذه الذات الإنسانية والغوص في أفكارها وتأملاتها لتمنح المتلقي القدرة على فهم طبيعتها.

وما بين الحنين الجسر الصلب الذي يفضي إلى ذلك العالم الملموس ،والأحلام الجسر الهش الذي يؤدي إلى عالم الأوهام هل وجدت حنين ذاتها أم أنها أضاعتها بين كلمات رسالة مروان التي عثرت عليها في إحدى صفحات كتاب خواطرها القديم؟

***

قراءة: بديعة النعيمي

 

كتب الكاتب الرِّوائي (جيلالي خلاص) على ظهر غلافها: (كتب بوجدرة بالفرنسية فأبدع، حتى اعتبره الكثير من النُّقاد من أكبر المجددين في الأدب الجزائري المعاصر (المكتوب بالفرنسية)، بيد أن جمهرة من النُّقاد ظَلُّوا واثقين أن قوة بوجدرة الإبداعية تكمن في إطّلاعه الواسع على التُّراث العربي ودرايته المتينة بأساليب اللغة العربية. ولا ريب أنهم لم يخطئوا. هذه روايته (التّفكك) الأولى التي يكتبها بالعربية مباشرة، فذّة، جريئة. ثورة في الأسلوب، قوة في الطّرح، وتفجيرٍ لواقعٍ طالما أرهب طَرّقه الكثيرين من مبدعينا. رواية (التّفكك) كاسرةَ جليدٍ أسطورية تشق كتلاً من الصّخر الأصم في بحر الصّحراء القاحلة التي تحاصر واقعنا المرير.)

(التفكك) هي أول رواية لرشيد بوجدرة كتبها باللغة العربية، النُّسخة التي بين يدي هي الطّبعة الثّانية الصّادرة عن الشّركة الوطنية للنشر والتّوزيع بالجزائر عام 1982. جاءت الرِّواية في حجم متوسط في مائتين وتسع وسبعين (279) صفحة موزعة على إحدى عشر (11) فصلاً دون عناوين فرعية ولا ترقيم، وقد اعتمدت في الفصلِ بينها على البياض الذي يفصل بين كُلّ فصل وآخر كالأتي: (ف 1 ص 05، ف 2 ص 21، ف 3 ص 47، ف 4 ص 71، ف 5 ص 97، ف 6 ص 125، ف 7 ص 151، ف 8 ص 177، ف 9 ص 203، ف 10 ص 229، ف 11 ص 257.).

(التّفكك) رواية تُقرأ (تحت تأثير خميرة الكلمات المتحطِّمة المفسوخة المشطّبة المتفكِّكة المتميّعة بحيث تبقى معانيها غامضة) ص 56. (فتختلط الأمور - بصفة تناوبية - والأماكن والأزمنة والإيماءات والحركات والعمليات والعهود..) (التّفكك) ص 57.

في سردية (التّفكك) (المرآة تتقشر وتفقد قصديرها أما الأيام فيغطيها قلح التّاريخ المتعشب.) ص 58.

حال قارئ (التّفكك) كحال مَن (استدرك ودخل في وجومه العادي، متربعاً لا يتحرك وكأنه الوتد المغروس في الأرض الثابتة.) ص 58.

الفضاء السّردي في (التّفكك) هو (عبارة عن متاهات ضخمة مُكتظّة بالرُّموز والإشارات والعلامات والتّخمات والشّواخص بتعرجاتها ومنعرجاتها وطياتها وشريحاتها وكأنها تنفلت وتتراكض من خلال شبكة دقيقة تشكلها الخطوط المتقاطعة والكسور المتصلة والفلق المتتابعة والسِّهام المتبرجة والرُّسوم المتكسرة، وكُلها أخذت طريقها الخاصة وكأنها مستغنية عن الأخرى، مستقلة تمام الاستقلال، رغم وجودها داخل بوتقة عامة من الرُّموز، إلى أن ينتهي به الأمر أخيراً إلى وضع اسم لها): (التّفكك)  ص 92.

في (التّفكك)، (يمكن البدء بالحكاية انطلاقاً من الوسط أو من النِّهاية، ثم الانتهاء منها انطلاقاً من أولها وهكذا كُلّ الطُّرُق تؤدي إلى عُمقِ الواقع والكتابة.) ص 109.

بين جملة البداية: (لم يكن ليحمل بطاقة تعريف ولا أي شيءٍ آخر يُعرِّف إلى هويته فكان يشعر بنوع من الخفة تصعد من جيوبه الخاوية متناسياً تلك الصُّورة الشّمسية التي كانت في جيبه. لا يحسب لها بالاً ولا حساباً وفجأةً..) ص 05، وجملة النِّهاية: (كان يقصر حديثه عن أصدقائه في الكفاح ورفقائه في الحزب وإخوانه في الثّورة ويبذل ما في استطاعته لإعطاء فكرة موضوعية عن التّاريخ وبلورتها..أما عن طفولته وعن حياته الخاصة فلم ينبس يوماً ببنت شفة، بل كان يكتب ويكتب.. وصريف القلم.) ص 279. يتمدد متن (التّفكك) في سرد لولبي دوراني للزمان والمكان والشخصيات.

* ملخص الرواية:

تدور أحداث الرِّواية حول شخصيتين مركزيتين هما (سالمة) من جهة و(الطّاهر الغمري) من جهة أخرى، (سالمة) فتاة في عمر الخامسة والعشرين تتذكر طفولتها وعلاقتها الحميمية مع أخيها الأكبر الذي خطفته المنية وترك في نفسها فراغاً رهيباً. ويحدث أن تدخل حياة (الطّاهر الغمري) كهل خاض العمل المسلح في الثّورة التّحريرية الجزائرية، ينتمي إلى الحزب الشّيوعي الجزائري، نشأ في بيئة ريفية، كان مُعلماً للقرآن ثم انخرط في جمعية العلماء المسلمين الجزائريين قبل أن يتركها وينخرط في الحزب الشّيوعي الجزائري. فَقَدَ أفراد عائلته في مجازر الثامن ماي 1945 التي ارتكبها الاحتلال الفرنسي في الجزائر. شارك في الثّورة التّحريرية رُفقة رفاقه الذين يشاركونه صورة فوتوغرافية هي كُلّ ما بقى له من الماضي الذي تقوقع فيه دون تطلع للمستقبل. مثل تقوقعه في بيته القصديري الذي ركنه في أعالي العاصمة اختباءً وهروباً من رفاق الحرب من الاتجاه الأخر الذين قَتَلوا رفاقه في تلك الصُّورة الواحد تلو الأخر ذبحاً وإعداماً ولم ينجو منهم إلاّ هو فاقداً لأي وثيقة تثبت هويته الشخصية. عاش على هامش المدينة مابين بيته القصديري وميناء المدينة وزيارات ضريح سيدي عبد الرّحمان الثّعالبي كل جُمُعة للتّزود بالشُّموع التي تُضيء ليلياته وروحه لكتابة تاريخ هذا الوطن خِلاف الشّكل الرّسمي الذي أخفى الكثير من الأخطاء والمذابح والانتقامات بين ثوار الأمس أثرياء اليوم. تدخل (سالمة) مع (الطّاهر الغمري) في جدل فلسفي تاريخي واعي حول ماهية التّاريخ، وماهية صناعته، وكتابته كتابةً صادقة دون تزييف للحقائق يُذهِبُ البريق، أو تكليف لما لا يُطيق فينكشف ويتصدّع الإناء وإن تعاقب الزّمن و(لا يستقيم الظِّلّ والعود أعوج).

وبالعودة إلى بدايات الرِّواية (التّفكك) نجدها تنفتح على شخص لا يحمل شيئاً في جيوبه الخاوية إلّا صورة شمسية شكلت الذّاكرة في هذه الرِّواية، فَتَذَكُر الحوادث الماضية كان باستنطاق هذه الصُّورة والوقوف على من هم مُصَوَرون فيها. (يحدق فيها برهة. أهو هو؟ أم لا. وهذا الذي بجانبه؟ وذاك الذي على يساره؟ فمن هما يا ترى؟ وأولئك من ورائه وكأن المُصَوِّر اِلتقطهم وقد أصابتهم نوبة من الضّحك لا يمكن كبتها فقطَّبُوا لها جَبَهَاتهم أمام الآلة فظهروا وكأنَّهُم مبهورون مشدوهون مذهولون ومعتوهون معاً وفي آنٍ واحد ثم يُعيدها بِسرعة إلى الجيب الأيسر من سترته الرّثّة فتُخلِّف في قلبه بصمة ذات الخطوط الملتوية ويشعر بخفة ووداعة لا مثيل لهما). (التّفكك) ص 6 ، ص 7. هذا الشّخص هو بطل الرِّواية (الطّاهر الغمري)، (وهو يجوب المدينة طولاً وعرضاً عاملاً على محو ماضيه خائفاً من حاضره، ضارباً مستقبله بتأشيرة اللامبالاة). ص 06. ويتجلى في التّداعي اعتزال (الطّاهر الغمري) العالم بما فيه ويقبع في بيته المنفرد المعزول والمشرف على المدينة وعلى الميناء، فكان القفز على الذِّكريات سبيله، قبل أن تدخل (سالمة) حياته فجأة وتحاول إخراجه من هذا العالم الدَّاخلي (ولا يعتم أن يرجع صاحبنا إلى بيته المنفرد المعزول والمشرف على المدينة وعلى الميناء وعلى السّيلان البشري المتدفق على قوافل السّيارات المنسابة على اختلاف أنواعها وطرازها..) ص 08. ومن ثم ينطلق (الطّاهر الغمري) كل مرة مسترسلاً من تلقاء نفسه في ماضيه الذي يريد إخفاءه عن الجميع وحتى على (سالمة) التي كثيراً ما كانت وراء استفزاز هذه الذِّكريات التي لا تتوقف. (أراد أيضاً ترك الذِّكريات المؤلمة جانباً ومذبحة ماي 1945 وبقر عائلته بكاملها بما فيها زوجته وابنتيه، فيتخلص أيضاً من شحابة الماضي ومن الهواجس الرّثّة والأحقاد البالية ومن غيرها من الأمور التي تعوّد على وتيرتها كالصُّورة التي أصبحت عبارة عن عقدة تربط أحشائه وتسيطر على تصوراته للتاريخ وعلى تصرفاته الفطرية أراد أن ينطلق نحو ميادين أفسح وأوسع وآفاق تنضج حياة وحيوية ومستقبلات مرصوصة بالغيب..) ص 243.

(أما سالمة فتشرف وهي في الخامسة والعشرين على تسيير المكتبة الوطنية وتدخن علبتين من السّجائر في اليوم وتُطالع العديد من الكتب والمجلات وتحمل في حقيبتها اليدوية صفيحة من أقراص منع الحمل وتعشق ثم تندم وتقطع العلاقة كلما شعرت بأن صاحبها بدأ يتعلق بها فتشمئز وتتركه لتوه من دون إنذار أو إرسال كلمة قصيرة لتبرير موقفها. ومنذ أن تعرفت على الطّاهر الغمري قطعت كل علاقاتها، وفقدت الصّديقات القليلات اللائي تعتز بهن، حُرّة طليقة، لا تعرف ماذا تفعل بحريتها، ترجع إلى البيت في ساعة متأخرة، لا تبالي بالصّعاليك الذين يجوبون الطُّرق..) ص 118. (سالمة تعيش بين مكتبتها في الخزانة العامة التي تشرف عليها بإحكام وضمير مهني نادر وبين دار الطّاهر الغمري القصديري ومنزل أبويها.) ص 168. (وتقضي أيامها بين العمل والعلاقتين اللتين كونتهما مع الطّاهر الغمري من جهة ومع أخيها لطيف من جهة أخرى تكتشفه وكأنه بعث عليه لتعويض تلك الرّزية التي لم يبرأ جرحها ولم تلتئم لحمتها وهي تعاني منها بصمود وسرية وكتمان منذ سنتها التّاسعة، أي منذ وفاة أخيها البكر..) ص 208.

وكان أن موت الأخ الأكبر لـ (سالمة) الذي كان يُحِبُّها ويحميها يجعلها تتذكر سن التّاسعة من عمرها إذ يوافق حدث وفاته فتسترسل في سرد الأحداث التي أحاطت بجنازته (لم أنس يوم الجنازة وإن كُنتُ لم أر شيئاً، مضغة من الانطباعات الموسيقية فقط، بين عويل وترتيل وجذام الباب الحديدي الذي لا ينقطع عن الصّرير على فردتيه وكأنه يئنُ تحت ضغط الألم، وتختلط الرّنات والتّرنيمات والموسيقى والصّدى في ذهني والمأتم مفتوح لِكُلِّ النّاس كباب الدّار، واخترق عتبته القضّ والقضيض ومن لا يُحِبُّهم أخي، لم أر أحداً أو حاجةً ولا يبقى من تلك الأيام سوى وتريات حزينة، وقد اُحتُجِزنا نحن الصِّغار في قعر البُستان. مهدي يتسلق شجرة التُّوت ويُحاول أن ينظر إلى داخل الدّار، لكنه لا يرى ما فيها.. تضحك سعيدة. تنظر إليّ لاستفزازي. تُريد أن أضحك معها ولكنها لا تُحرك ساكناً وأتجاهلها لا أعرف معنى الموت. ولكني أعلم أني فقدته نهائياً..) ص 41. وهكذا تسترسل في أحداث الجنازة وكيف عُزِلت في الحديقة مع سعيدة ومهدي إخوتها الصِّغار وقد أدركت يومها أنها فقدته دون عودة.

وبالعودة إلى جنازة أخيها في مكان أخر، نجدها (تترك المدرسة والجوائز والغوغاء والضجيج وتهرع إلى المنزل فتفتح على البق وتفرز الميت من الحي، وتبكي !.. وتتذكر يوم جنازة أخيها الأكبر.. فتعوي كالحيوان المجروح الباحث عن جيفة يستأصل منها استيهاماته.) ص 60.

أما بطل (التّفكك) (الطّاهر الغمري) فكان (يُدرِّس القُرآن ثم يُفلِّح الأرض البور، ثم ينخرط في جمعية العلماء، ثم يتركها ويدخل في الحزب، فيُرسله ليعمل بين الفلاحين الفقراء أمثاله ولبثِّ الدّعوة والقيام بالعمل السِّياسي.) ص 57. وتسأله (سالمة): (كيف لمدرس القرآن أن ينخرط في الحزب؟) ص 58. ويجيبها (الطّاهر الغمري): (أرفض أن أُتاجر بلغة القرآن.. يأتون بالدّجاج والسّمن والشّعير. قبلت في أول الأمر ثم شعرت بأعينهم تحن إلى عطياتهم. يموتون شرّاً ويُغدقون عليّ كُلّ ما لديهم. هذا هو الاستغلال بعينه! رفضتُ.. تركتُ القرية! انخرطت في جمعية العلماء والقرآن يسيل من مسام بشرتي مع العرق، تنضح الآيات من لحمي وأشكو من حالة الفلاحين الفقراء. يرفعون أيديهم سخطاً ثم الفاتحة.. وعسى أن.. أكره الاستغلال ولكن لا أفهم كيف يمكن التّخلص منه. قالوا. هذا كفر يا راجل.. تعقّل.. استغفر.. مسحتُ عن قلبي دموعي وبقيتُ حزيناً بينهم. الخطب والهتافات والتّراويح والتّسبيح وغلق.. لنبلاء القوم وبعض المشائخ ويبقى الشّعب أمام الباب يسترق السّمع للهاث.. وعويل الثيران يحرثونهن.. أركض.. أطوف البلاد.. أحوم في المدن.. أتعلم أسلوب الطّرق (الزّوافرية).. أُلقح بصمات إبهامي وأطبعها على رئتاي.. لا أنام. لا أجف. ألعن الشّيطان. لا أنام.) ص 65، ص 66. (وتعود سالمة إلى وشائجها: نابزني أبي بعد موت أخي: الطائشة!.. أستيقظ: أي حزب، يعني؟ لماذا لا يقول صراحةً؟ بقي يختفي وراء الأثير، وراء خيط الهاتف. ثم يقص الصِّلة..) ص 66. ثم وفي تداخل نصي، تنتقل سالمة للحديث عن علاقتها بأخيها الأكبر (كنتُ لا أفتح له الباب إلاّ بعد رناتٍ عديدة للجرس يلدغ بصداه جوَّ الدّار، ثم أختفي وراء الباب ويدق قلبي طبلاً وأنا كالنّجمة وراء الغيم داخل أزمنة التّفكير الخاسر، أخاف أن يُدخل ذراعه من خلال القضبان هو من خلف الباب وأنا من ورائه وبيننا سياج العشب والحديد المتقشِّر تحت وطأة الصّدأ والقلح.. ثم أفتح ويدخل، هزيع، برق، صقر. ينقضُ عليّ، يحملني على كتفيه. ثم كبرنا هو في شبابه، تاركاً من ورائه سنّ المراهقة، وأنا في بداية المراهقة تاركة أعوام الطُّفولة الصَّغيرة.) ص 66.

ثم تصف (سالمة) بدقة متناهية الغرفة القصديرية التي يعيش فيها (الطّاهر الغمري)، الغرفة التي استحوذت على النِّسبة الأغلب للنّص الرِّوائي، واستوعبت المجال المكاني في سردية (التّفكك)، (كانت نواة الغرفة القصديرية تحوي سريراً صغيراً، ومنضدة من الخشب القديم يُقضقض طوال الليل، وضع عليها كأس من الماء لا يجف أبداً، ووردة صفراء مزروعة زرعاً في حفرة صغيرة تتوسط المائدة المرقوشة ببق الأعوام وبموسٍ حافية نحتت جملة لا تخلو من الغرابة، لِيَضُمنِي ظِلَّهُمْ ! كما وضِعت عليها كراسات ومقلمة وعلبة من المعدن تحتوي على صمغ بين الوردي والصّدأ وكتب قديمة وصفراء، ثم موقد نسي حتى لونه يحمل غلاية مبعجة بأورام الأصفار والتِّرحال ومسخمة بطلاء بلاد السُّودان الأبدي، ثم لوحة قرآنية مزخرفة ومكتوبة {تبّت يدا أبي لهب..} عُلِّقتْ على أحد الجدران المشبوة بمسمار ناتئ وكأنه مصمم على الدّوام طيلة قرون عديدة، ثم أيقنة من الأواني الأشياء تزحف شتاتاً وسط الحجرة الصّغيرة حيث يبعثرها ويتركها بدون موضوعية، فتتشرب كُلّ يوم مزيداً من القلح والدّردى والسّحالة، تزحف كالبزاق تاركة ورائها آثاراً مشكوكاً فيها يُلطِّخها زنجار الأعوام المالحة وهي تُكركر من ورائها الثّواني شَذرة شَذرة، فتترك صاحب المكان يشتط في كتابته على أوراق المصائب والأزرار فلا ينبس بكلمة ولا ينبض بحركة، وباستثناء صريف القلم على الورق يجري حثيثاً فإنه يحوم على الحُجرة صمت رهيب صمت ما بعد التّاريخ.) ص 71. ثم نتابع بعض ما يشغل (الطّاهر الغمري) في غرفته تلك (يكتب الرّجُل ليلياته ويندم على استعمال الورق، ومن حين إلى آخر ينظر إلى اللّوحة المعلقة على الحائط المطلية بغضار الماضي، فتتصاعد إلى منخريه رائحة المستنقعات المُعشوشبة المحاطة بسياج من القصب، إذ يذكر أنه اعتاد وهو يُدرِّس القُرآن، الذّهاب مرة في الأسبوع إلى بُحيرة ملحية ليقص أحسن القصب ويبحث عن عشبة خاصة تُعطي للصّمغ كثافته ولزقته، ويكتب ويده كالكمّاشة العظيمة تضغط على قلم القصب ولا ينقطع عن الكتابة إلاّ لتنجيره بموسٍ صغيرة وكأنه بستاني يزبر الأشجار بجدّيةٍ وحماس ودِقّة وإتقان.. لا يُبالي ويزاول كتاباته، يُطوِّقُ إطار الكراس بخطه القرآني، يغترف التّاريخ اغترافاً يكتب حول المشاكل التي عاشها والمشاكل التي يعيشها، يمزج بين الأمس واليوم، في بعض الحالات، يعبر بلا جسرٍ نحو المستقبل..) ص 72. (يُكرِّس وقته في تدّبيج هذه اللّيلات مِن خلال جولاته عبر البِلاد نَاجَ نفسه بعد أن اغتيل الآخرون وتدّبيجها مِن خلال تجواله عبر المدينة والميناء المكتظّ بالسِّلع والبضائع والبقر المستورد.) ص 73. (ويحدث أن تدخل سالمة بيته القصديري ذات مساء وهو نائم بعد أن غيل صبرها ويأكلها حُبّ الإطلاع وقد جاهدت عبثاً في تملك على شعورها الذي كان يرميها رمياً نحو علبة القصدير الموضوعة هكذا على الرّبوة الخالية، لا حركة فيها ولا حسّ، فيستيقظ ويجدها جالسة وراء المنضدة على كرسيه الأعرج وكأنها لم تفارقه أبداً، يخالها إحدى ابنتيه حليمة أو جميلة (يامنة / ياسمينة) ثم يهرع نحو ثيابه يلبسها وهو يرتعد من فرط الخوف وتأثير المفاجأة. أما هي فتنظر إليه بكل براءة. وبعد أن ينتهي من ارتداء ملابسه، يقبع أمامها لا يدري ما يفعل ويشعر بأنه لا زال عاري العورة وهو حليق الجمجمة فيحاول تغطيتها بشاش قديم لم يعد يعتمر به منذ زمن طويل، منذ أن هرب وهم يترصدون أسماله كداء الحفر الذي ينقط معدته ببراغي الآلام والضغينة. لكنه لا يكره أحدا. يكتب إذن (يا لك من مدرس غريب؟ علّمت القرآن واستعملت الفلقة وضربت ضرباً مبرحاً على مثل دأب معلمي القرآن الآخرين.. ثم تترك الكُتّاب وتنخرط في جمعية العلماء!) ويكتب دون مسودة ودون أدنى تشطيب، وغمره وهو على هذه الحال نوع من الغبطة، حتى تدخل عليه سالمة وفي يدها دجاجة مربوءة شمطاء، تُطلق سراحها قبل أن تجلس على الكرسي الفريد وهو جالس على فراشه والمنضدة أمامه حيث الكُرّاس مفتوحٌ كقلبٍ مشرّح إلى شطرين  والوردة مزروعة في سُرّتِها العادية لا تفتقر إلى الماء والكتب مبعثرة على السّرير وتحت المائدة. يُغلقُ كُرّاسه بسرعة، وتعربد الدّجاجة على السّاحة. لا يفهم وسالمة تضحك وتقول: (كُلّ الدّواجن حلال إلّا الخنزير!) ويبقى باهتاً خامداً ومبهوراً، وسالمة ترقبه في رجاء بريء وعفوي فتحسّ بشيء من الشّفقة عليه وهي تراه من وراء منضدته يمضغ أحلام التِّرحال والعبور والتّنقل يوم كان لا يعرف للاستقرار معنى وقد كان يذهب من مشتةٍ إلى مشتة ومن دوارٍ إلى دوار ومن قريةٍ إلى قرية، وعلايته على ظهره تتأرجح وقد ربطها بخيط اللامبالاة..) ص 73. ص 74. (وسالمة تضحك.. والدّجاجة تهدُّ الأرض وتمخرها جيئةً وذهاباً، طولاً وعرضاً، فتسود سريرة الطّاهر الغمري وهو يُعاني من صخب الدّجاجة ومن ضحك الفتاة معاً، لا يعرف كيف يفعل وماذا يفعل فيغلق دفتره، يتأبطه وينهض خارجاً نحو الباب بينما تبقى هي جالسة والدّجاجة من حولها مقرقأة النقنقة هي الأخرى. ينحدر نحو المدينة ونحو الميناء في وجه النّهار وكُرّاسه تحت إبطه كأنه سبيكة ذهبية لا سعر لها ولا معيار.. وفهم أن هروبه هذا كلما جاءت سالمة بشطحة جنونية، إنما يرمي إلى تحاشيها، وهو في الواقع يود لو يبقى قريباً من هذه البشرة الزّنبقية ومن هاتين العينين الخضراوين، ومن رنة صوتها قد غمرته بلة وبحة وعذوبة وموج وسمك ونرد وشبق قد خلى جسمه منذ زمن طويل، رغم عشيات يوم الجمعة التي قضاها في زاوية سيدي عبد الرّحمان حيث تَعَوَدَ الذّهاب لشمِّ رائحة الأُنوثة وسرقة الشّمع الذي لا يصلح لأي شيء إلى أن يذوب من فرط الحرارة في الصّيف، على الضّريح، وعلى الضّريح تتراكم القرابين والشُّموع والنُّقود والأقمشة والزّرابي، لا يعرف ما هو مصيرها ولمن تُعطى.) ص 74. (يريد الرُّجوع إلى البيت، يخاف قوقآت الدّجاجة ويخاف من العطر المنبثق من بشرتها. هي سالمة. بنيتي! لا يمكن.. يسمعها ترد عليه: عم الطّاهر. لكنه يحلم. (أضرب خمسة!) لم يعد له مكانٌ يستقر فيه ولا مأوى يركن إليه ما عدا الزّريبة التي بناها للبقر..) ص 75. يصف الطّاهر الغمري جمال وتمرد سالمة (إنها جميلة. بل أكثر، إنها آية في الجمال. بشرتها زنبقية وعيناها خضراوان ورائحتها عنبرية ولكن فضيلتها الأساسية كامنة في قوة طاقاتها المتمردية. تعمل في الخزانة الوطنية. تعيش بين الكتب.. تهزأ بي لكنها تُحِبُّني.. (عم الطّاهر) تقولها وفي صوتها نبرة استهزاء..) ص77. يُحاور نفسه وكراسه تحت إبطه. (مدرس قرآن بسيط. بطاقة هويتي عبارة عن صورة. فقط. أحملها كدرعٍ يصونني أو حرزٍ يقيني من شرِّ النّاس ومن السّاسة.) ص 78. وتستطرد سالمة (أخاف الانفجار وهو آتٍ عما قريب. عيل صبري. أنا أُحِبُّه وهو لا يُحِبُّني. إنه يشتم رائحة الأنوثة وكفى.لا يحمد الله فهو مُلحد. لا يُثرثر في هذا الموضوع. كيف أنتَ مُلحد؟ لقد علّمتَ القُرآن. وبعد؟ يغضب عليّ يثور. يهيج.. ويقول كفى بنيتي..) ص 79. (انخرط الطّاهر الغمري في جمعية العلماء سنة 1945 ولم يبق فيها إلّا مدة عامين. ثُم انسحب ولم يعد يطيق سماع قهقهة المشايخ عندما يقول أن الفلاحين الفقراء يفتقرون إلى الأرض الخصبة. تعبت أيديهم وتعبت شفرة المحراث البالي بين أذرعهم. أخذ الشّك يدب في جفنيه وهو يسعل ويسعل. اتقِ الله يا رجُل! ارتبك، خشخش ويسعل مرةً أخرى. لم يقُل الفحشاء ولم يدمن على أي مكروه، بل هو يُرتل القُرآن ويؤذن بباب المسجد. لا منارة له ولا صومعة ولا مضخمات الصّوت، كبلال. بين الرّبِّ وبين السّماء. يرفض كُلّ وساطة. وتفاقم سُلّه وعسف الاستعمار. واحتشد الفلاحون فنظّمهم هو وابتعد عن المدن. قفل راجعاً يبثُّ الدّعوة فيهم. أتاه الحزب. قال أُصلي. قالوا ولو لا؟. انخرط في الحزب سنة 1947.. هذا ليس ديانة، إنما حزب.. دخل المعمعة بسلاح آخر ولم يقهقه أحد يوم راح يُطالب بأرضٍ خصبة لِكُلِّ فلاح. استقر في القرية هناك على رأس الجبل. وأصبح الجبل عرينه ومأواه وملجأه ومكان عمله.. وهو في تجوال مستمر لا انقطاع له. تعرف عليه الفلاحون وأخذوا يسترقون السّمع إلى سُعاله. يعرفون من بعيد أنه آتٍ وسُعاله يموج الأثير فيقولون: سي الطّاهر جاء يزورنا اليوم.. فيحضر عند دشرة وكأنه شيخ تفسخ جلده وأخاديد الجوع رسمت بصماتها على وجهه. ترك الكُتّاب وجمعية العلماء وجاء إلى الحزب.. يشرح ولا يترك الضّباب يتراكم في جماجمهم رغم السُّلّ الذي يسمه بميسمه ويُثقل عليه وزره وقد تقرمط وتزنج وراح يقرأ كتب التّاريخ وكتب النّظريات الفلسفية فلا يسفسف عليه أحد.. وأخذ يلتهم الكُتُب ليعرف ما حدث في العهود البعيدة أيضاً ما في وراء الجُدران من أسرار تتعاقب داخل عقلية الفلاحين الذين يموتون فاقةً ووباءً وتعذيباً وكدّاً.) ص 80. ص 81.

سالمة (تتذكر الصُّورة والرّجُل الذي يتوسطها. تقول: المسكين، لم يبق إلاّ هو. ماتوا كُلّهم وكُلّ واحد على طريقته الخاصة، إلاّ هو نجا من الموت أو أفلت منهم وهو على شعر شفرة منها، يهرب ويأخذ في عبور البلاد واكتساحها شرقاً وغرباً بحراً وصحراء، يختفي عند الفلاحين الفقراء أمثاله وينظم العمليات معهم وينصب الكمائن ويعود مكراراً، من عرينٍ إلى عرين ومن رأس جبل إلى رأس جبل... وقد تعلم كُلّ المنعطفات وكُلّ المنعرجات وسلك كُلّ الطُّرُق المختصرة والدروس الوعرة، ماحياً كُلّ سفسة، ضارباً سهمه في صميم الموضوع فيقاوم ويقاتل ريثما.) ص 83. (بعدما اعتصم في الجبل بسلاحه رفقة سيدي أحمد وأبو علي والألماني والحكيم والآخرين. المقهقهين على الصُّورة الذين يفتعلون الضّحك أمام عدسة المُصوِّر.) ص 90.

(لم يكن يحمل معه بطاقة تعريف ولا شيئاً آخر فيشعر بنوعٍ من الخِفة تصعد من جيوبه الخاوية وهو يتناسى تلك الصُّورة الشّمسية ولا يحسب لها حساباً وفجأةً تسقط أمامه حمامة سمينة تسترق حركة بطيئة فينسى الصُّورة التي لا يحمل سواها ويتساءل عن الصُّورة؟ ماتوا كُلّهم حتى آخرهم، مَن قال أن الألماني مات في فراشه؟ إنها أسطورة! لقد مات مذبوحاً! مات ويا لها من ميتة! والآن وقد أخذت تشك في أقواله ومزاعمه، آثر الصّمت! ويتركها تتلو الأحداث السِّياسية كأنما الأمر يتعلق بقراءة أدبيات حزبية أو روايات تاريخية شُوِّهَتْ كُلّ أحداثها عن قصد.. ) ص 97. (وكلما ازدادت سالمة تمسكاً بتلك الفترة التي عاشها هو وصوَّرها بشخوص لا يفتأ يتحدث عنها: 1945، 1954، 1962، 1965، 1978، كلما انزلقت من عصر إلى آخر وحاولت تحديد وجهة الزمن والفضاء،.. فتضيع وتتيه وتدوخ وتشحذ نفسها في آنٍ واحد، لكنه سرعان ما يعود فيتحدث عن الصُّورة بعد أن رفض حتى ذكرها مدة طويلة من الزّمن، ويتحدث عن الأشخاص الماثلين فيها،.. وهو عاجزٌ كُلّ العجز عن التّخلص من ذكرياته،.. وقد قُدر له أن ينجو من الموت هو لوحده، فيتوغل في عزلةٍ مقيتة تزيدها سالمة حدةً ومرارة، فتأتي عليه وتقتحم أيامه تلك التي كان نظمها تنظيماً وسطرها تسطيراً،.. يتقوقع ويضم الصُّورة بين ذراعيه ويبقى على هذه الحالة أياماً كاملة شاخصاً بعينيه إلى سقف الكوخ..) ص 98. (وهو تحت الكابوس مثلوماً للتاريخ أو اقتصاراً عليه وعلى ما فيه من مجازر وحروب وإبادات على أنواعها، فيتذكر السّنة الملعونة، 1945، يوم دخل الجنود إلى كوخه في غيابه وقتلوا كُلّ أفراد عائلته بما فيهم زوجته وابنتيه الصّغيرتين..) ص 99.

تجادله سالمة وتفكك هويته التي لم يبق منها إلاّ تلك الصُّورة التي يحملها معه ولا يكاد يتخلى عنها فهي شخصيته وذاكرته: (أراك تتجول في الطُّرُقات لا تحمل بطاقة هوية ولا أية ورقة مطبوعة بخاتم الحاكم ولا تحمل إلاّ صورة رثّة قرضها العثّ ولا تحمل إلاّ خفقان قلبك.. لماذا تحملهم هؤلاء في الصُّورة وقد ماتوا كُلّهم، فكأنك بحملك إياهم تقتلهم ثانية وثالثة، فسيد أحمد أُحرِق حيّاً بدون أن ينبس بحرفٍ واحد يفرج به كربه، لقد مقتهم واحتقرهم.. لقد مات اللّحام أيضاً، بوعلي بوطالب مات باهتاً والضوء الأزرق يتلوع في صنع قنبلة زمنية في ورشته ولكن وجوده على الصُّورة فما معناه؟ كان يأتي إلى الجبل من حينٍ لآخر لتصليح آلات الإرسال والاستقبال، أما الحكيم فقد مات، هو أيضاً، مات مذبوحاً بسكينٍ حافية، والألماني؟ ماذا عنه؟ ما هي قصته؟ هل مات في فراشه أم مات مقاتلاً وماذا عن وجوده في الصُّورة؟ لم يكن ألمانياً بل لقب هكذا لكونه أشقر الشَّعر، أبيض البشرة، أزرق العينين، طويل القامة وقد أُسِر في ألمانيا أثناء الحرب لعالمية الثانية وقد كان يُحارب في صفوف الجيش الفرنسي، أرغموه على التّجنيد في الجيش الفرنسي فتعلم الألمانية وقرأ كُتُباً كثيرة. لا لم يمت في فراشه! لقد مات مذبوحاً بموسٍ حادة قاطعة.) ص 108، ص 109.

تأخذ الصُّورة، صورة المقاتلين الخمسة حيّزاً زمانياً ومكانياً من (التّفكك)، تسرد سالمة: (فهمت كُلّ شيء عن الأشخاص الموجودين على الصُّورة وعرفت عنهم الكثير. كان عملي يُساعدني على جمع الوثائق والبيانات والبراهين والمعلومات. دونت حياة كُلّ واحد منهم، فتحت ملفات أربعة وملأتها بالأوراق والملاحظات والوثائق: أولاً: بوعلي طالب. ثانياً: أحمد اينال الملقب بسيد أحمد. ثالثاً: الدكتور كنيون الملقب بالحكيم. رابعاً: محمد بودربالة الملقب بالألماني. يبقى ملفه هو فارغاً. ملف الخامس: الطّاهر الغمري. كانوا كُلهم أعضاء اللجنة المركزية. كانت اهتماماتي تدور حول الثُّلاثي المتكون من بوعلي بوطالب (عامل) وأحمد اينال (مثقف) والطّاهر الغمري (فلاح فقير). مثل رائع لتحالف الطبقات التي فهمت أن الثّورة شيء حتمي وطبيعي لا يكون إلاّ لصالحها.) ص 172.

يسكت ثم يسكت الطّاهر الغمري، ثم يأخذ في الحديث ثانيةً ويستطرق: (يبقى أننا كافحنا وتمردنا وأخذنا السِّلاح، قاتلنا، صنعنا القنابل، نظمنا شبكات المقاومة المسلحة في المدن، كان من بيننا المسلمون المسيحيون اليهود الملحدون.. لنا أبطال أُعدم البعض منهم رمياً بالرصاص وأنزلوا المقصلة على رؤوس البعض.. أتينا بكميات هائلة من السِّلاح.. نصبنا الكمائن.. دفعنا ضريبية الدّم.. صحيح ترك البعض صفوفنا، خانوا والخونة في كُلِّ مكان وفي كُلِّ الثّورات.. في الأول كنا نخاف وشاية الفلاحين الفقراء أكثر من قوة الجيش الفرنسي وبطشه..ذبحنا الكلاب وبعض الأئمة.. أعدمنا بعض الفلاحين الفقراء هذه هي الثّورة.. يُزنى فيها.. يُخان فيها، يُذبح فيها..كان لنا نقائص.. لا أنكر هذا.. لكن المُهم: دفعنا جزية الدّم وضريبة الالتزام. لا يمكن تجاهل الظُّروف التّاريخية..) ص 148. ثم يُضيف: (ننطلق فجأةً نلهث في ظِلِّ المقابر حيث ندفن من سقط منا وبين أيدينا ونُطلق الرّصاص ونرش العدو رشاً ونترك جروحنا الحيّة المتفتحة تُغطيها النّدبات العميقة ولا يبقى لنا إلاّ شق ضيق نملأه احتضارا ونحشوه نزعاً ونعمره كرباً وكرزاً، فتتحول آنذاك كل الثّلمات الدّقيقة إلى هاويات لا قعر لها جنونية المنطلق والمنطق تبرق داخل أذهاننا بوميض مستميت، لا هدنة فيه ولا هوادة.) ص 154. (مات العديد من المقاتلين ليس برصاص العدو، بل بسكاكين الثُّوار أنفسهم، هم أنفسهم وحتى في بعض الأحيان بأيديهم.. منهم من مات مذبوحاً ومنهم من مات مخنوقاً ومنهم من مات رمياً بالرّصاص وكلها تصفيات حسابات.) ص 160. وكان قد (فقد كُلّ الأوراق الرّسمية ولم يحتفظ إلاّ بتلك الصُّورة التي لا تفارقه منذ أن هرب وهو مسجل في قائمة الاغتيالات السّوداء.) ص 193.

ويُجادلها محاولاً إقناعها (أين أنتِ والتّاريخ وما ذُقنا من عذابات التّعاسة والتّشريد والمشي على الأقدام أشهراً وأعواماً! قلتُ لكِ التّاريخ لا يصنعه أحد كالعشب ينبت ولا تراه ينبت ولا كيف ينمو.. قالوا لا بطل غير الشّعب.. كُلّ ذلك استفزاز! دعاية! تصفية حسابات وخوف من الموتى.. الشّعب بلا طليعة لا شيء هذه هي الحقيقة..) ص 178. (في أماكن أخرى كان التّاريخ يفتقد إلى الوضوح وازدهرت المدن السُّفلى وتكاثرت، متجاهلة الدّم وموقع المسالخ. كذلك الأمر في هذا الوطن وفي هذه المدينة بالذّات حيث رمم الطّاهر الغمري عرينه على ربوة تشرف على الميناء وأخذ يكتب التّاريخ بكُلِّ نزاهةٍ وشجاعة، يُعطي للذّاتية قيمتها وللموضوعية نصيبها وينتهي به الأمر إلى التّفجر وهو يُعاني من سلِّ الرئتين واختفاء االرِّفاق وقلّة المصادر وتحذر الشُّهود، فيكفر ويجلجل ويقول أن التّاريخ لا يصنعه أحد لأننا لا نراه ينسج خيوطه إنه كالشّرنق يتكوم تدريجياً وهو كالعشب لا نراه ينبت. لكن الرّجُل مُصر على كتابة التّاريخ، يريد أن يترك شهادة عن موقف فئة من الشّعب وعن أعمال رِفاقه الذين ماتوا وطُوِّقُوا بكتانِ النّسيان. في كُلِّ مكانٍ يفتقر التّاريخ إلى الوضوح والظِّلُّ لا يكفي ليحفظ الأحياء من تُجار الموت وطحلب العتمة والظُّلمات.) ص 182. وأما سالمة (هي الأخرى لقد فكرت أكثر من مرة في معنى التّاريخ واتفقت أكثر من مرة على أنه مصيدة ومصفاة وأنه قرح لا يكف أبداً عن التّعفن.) ص 185.

جدلية التّاريخ تؤسس علاقة الشخصيتين المحوريتين في سردية (التّفكك) سالمة والطّاهر الغمري إذ (كانت العلاقة تتمتن بينهما حتى ذلك العهد الذي جاء فيه يفاجئها أن التّاريخ لا يصنعه أحد وكالعشب لا يزرعه أحد. فتدهش في أول الأمر وتظن أنه يمزح، لكن الرّجُل يُصرُّ ويعيد الكرّة ويغضب، فتقاطعه وهي على يقين من أن التّاريخ تصنعه البشرية من شعوب وأُمم وأفراد وهو كذلك عبارة عن تطاحن مستميت بين المغلوب والغالب وبين المقهور والقاهر وبين المُستَغَل والمُستَغِل..) ص 185. (وهكذا وصل إلى هذه النتيجة أن التّاريخ لا يصنعه الرِّجال كما قيل له وكما قرأه في الكتب، وإنما هو أيضاً نتيجة ردود الأفعال والإستثارات.) ص 193.

وفي صورة أخرى ينتقد الرَّاوي على لسان الطّاهر الغمري الثُّوار الانتهازيين بعد الاستقلال الذين نسوا وتناسوا المبادئ الثّورية التي قامت عليها الثّورة التّحريرية وانغمسوا في وحل الماديات الباذخة على حساب الشّعب البائس (لقد راح أثرياء الثّورة يُخزنون ثرواتهم داخل صوف المطارح التي ينامون عليها ويحتالون ويتضخمون. جُعنا طويلاً والآن قتلتنا التُّخمة والسُّكر والمذلّة وأصبح أبو نواس مجرد علامة بيرة رديئة.) ص 190.

(أصبح الطّاهر الغمري يُعاني من عواقب معركة مميتة تدور رحاها بين طيات جسمه الهزيل وتتلخص في تواجد نزعتين متناقضتين: الأولى تحمل حُبّاً لا حدود له والثّانية جُبناً لا يستطيع التّفوق عليه وهو الذي اشتهر سابقاً بشجاعته وبطشه وانتهى به الأمر إلى أن انتصر على خوفٍ غير معقول، كان مصدره سالمة ثُمّ سالمة. فكانت الزّوبعة التي أنهكت قواه وتركته على شاطئ الأوراق البيضاء، محكوماً عليه بأن يملأها قبل أن يملأ القيح رئتيه، فيموت من غير أن يفهم مسيرته الشّخصية، وبداخله الشّك فيدمدم ويبصق ويصفر كالأفعى ويهيج ويغضب ويكتب، يكتب، لا يأكل ولا يشرب ولا يغتسل ولا يُغير ثوبه.. وهو أن لحيته طالت إلى حد غير معقول ورائحته أصبحت كريهة لا تُطاق وعيناه ضعفت قوتهما فيشعر أنه يتدلج في الظُّلمات حتى أنه أصبح لا يلم إلماماً كاملاً باختراعه الجديد حول التّاريخ..) ص 193.

(وأخيراً تأتي سالمة. تُزيح الغُبار وبيوت العنكبوت وتوبخه وتأمره بالذّهاب إلى الحَمَّام وإلى الحلاق وتُعِيره مالاً لشراء ثيابٍ جديدة من السُّوق السوداء.. بينما هو منصرف إلى المدينة تَفتح الباب على مصراعيه وتُخرِج كُلّ الأثاث وتُنظف أرضية الحجرة.. ثُم تُرتب البيت من جديد.. وما أسرع ما شعرت بالنّدم يغمرها تجاه الرّجُل المسكين الذي تركته لحاله وهذيانه وعماه لمجرد جملة قالها حول التّاريخ ما كانت لتقتنع وتتناقض ربما وما تعلمته في المدرسة السِّياسية اليومية ومِن خلال الكُتُب..) ص 195. (يرجع عم الطّاهر بعد ساعات. فيلمع وجهه الأملس مِن فرط الحكِّ والدّلك، استبدل ثيابه القذرة بأخرى تكاد تكون أنيقة، سرح شعره بطريقة جديدة. لقد تغير تماماً. لقد صغر وشبّ وربح هكذا عشر سنوات. يترك ابتسامة خجولة تموت على فمه.) ص 199. ص 200. وتقترح عليه سالمة برغبة (أنتزوج عم الطّاهر؟ يلتفت نحوي.. يضحك.. يُقهقه.. بنيتي.. لا تمزحي.. وأنا متزوج.. أعني.. أرمل. يضحك وتمر عليه سحابة الحزن والكآبة وكأنه تركها في الحمّام مع الأوساخ والقذارة تتزحلق نحو البالوعات تحملها ‘إلى البحر ومِن هناك إلى السّماء مِن حيثُ تُمطر مطراً فاتراً.. عينا الكآبة مِن جديد.) ص 200.

(تغير الطّاهر الغمري. لم يعد نفس الرّجُل. أصبح منزله نظيفاً وقد ألصق الصُّورة التي ما كانت لِتُفارق جيب سترته الأيسر ولا يحمل سواها، على الجِدار المقابل، بعد أن طلى الحُجرة بالجير الأبيض وغير موضع الأثاث والأشياء، بين عشية وضحاها.. حتّى إذا ما عادت قطنته على هواها. وأخذ، وكأنه ألمّتْ به حُمّى سالمة المُعدية وحركتها العصبية وضوضاؤها المعتادة أخذ يرصف الكُتُب ويُصفصف الأواني ويحك الغلاية المبعجة ويُزيل عنها سناج الأعوام السّوداء وسخام البلبلة الذّهنية.. ويُنظم الفضاء الشّحيح بكُلِّ مهارة ودقة ويوزع المكان بلا حرج ولا مبالاة غير مبالٍ بحدود المساحة، ويفتح نافذة في الحائط حيث كان الرّسم الوهمي الذي سقطتْ في شبوهته سالمة لأول وهلة، فاتسعت الحجرة وتبلور جوها وتشفف مناخها وكأن جدرانها قد أُزيحت مِن مكانها العادي وَوُضِعتْ بِضعة أمتار أبعد مما كانت عليه، لتوسيعها وتجميلها وتفخيمها. وكأن الطّاهر الغمري قام بهذه التّغيرات الجذرية وأشرف عليها رغبة منه في أن يكون له مكان مناسب لاستقلال سالمة وقد أفزعه غيابها، فقرر أن يُرتب البيت بطريقة محكمة فَيُبَوِّب ذِهنه بكيفية دقيقة ويتجنب إذاك بينه وبينها كُلّ الحزازات وسوء التّفاهم، تأهباً منه للتّراجع تدريجياً وبِكُلِّ أناة في ما صدمها به في تحديد التّاريخ.. وعاد إلى كتاباته بعد أن فرغ مِن قلب الأوضاع وتغيير المجاري العادية للأمور.. وهو ينظر مِن حين إلى آخر إلى الصُّورة المُعلقة على الحائط نظرة تعبِّر عن عرفان بالجميل نهائي وغير مشروط وأبدي وكأنه يُطالب رفاقه الذين ماتوا كُلّهُم أن يغفروا له زلّته وهو يعترف الآن وقد عاد إلى حاله الطبيعي وبدأ يمحو الذِّكريات المحمومة، أن الكلام تجاوز مفهومه للتّاريخ (التّاريخ لا يصنعه أحد، إنه كالعُشُب لا نراه ينبت ساعة ينبت..) بل وإعادة النّظر أيضاً في أجزاء حياته وتفاصيل معاشه وكيفية عزلته. وهو يعلم أن عليه الآن ترميم الأحداث مِن جديد وأن يُشكلها بطريقة أخرى وأن يتصورها ببرودة دمّ وأن ينفض عنه غبار الموت والانتحار والزّولان والخوف وأن يستخلص مِن كوابيس الدّم والأمعاء والمجاري المسدودة بروث التّاريخ وأزبال البشرية وجنون الإنسانية. فهم حتمية مراجعة كُلّ النّتائج التي توصل إليها واستعمال تلك القُدرة الخارقة التي يمتلكها الإنسان على النّسيان وقد تعنّت منذ هروبه عبر الجبال والأودية والفيافي والقُرى وحتّى المُدن وقد علم أنه حُكِم عليه بالموتِ ذبحاً لأنه يعتزّ بعقيدته فالّتزم النّزاهة مع نفسه، فاعتزم على الرّفض والحقد والتّمرد ليس فقط على مَن خانوا ثقته والعشرة والمصير المشترك بل وعلى شقاء الإنسان عامة وعلى تلك الحتمية الكريهة التي تَفرِض عليه أن يُمارس الشّرّ فينتقم ويحقد.) ص 216. ص 217. ص 218. (قرر أن يترك على الهامش مشكل تحديد التّاريخ، حتى يُناقشها في الأمر بتعقلٍ وسكينة، ثُم يتخذ قراراً نهائياً بالنِّسبة لهذه المسألة التي أصبحت رُمانة الشِّقاق بينه وبينها ويحدث أن كُلّ ما في الأمر أنه مجرد سوء تفاهم وكيفية طرح المشاكل وإشكال لِساني لا أكثر ولا أقل.. ويتساءل وهو يكتب عن الأسباب التي تضغط على المرء فتجبره على الكتابة وعلى سرد الأحداث وعلى التّكلم لنفسه وللنّاس عن مسائل تكاد تكون تافهة خاصة وأنها لا تهم في الحقيقة أحداً، ولكنها ضرورية يفتقر إليها كُلّ مجتمع بحيث أنه ما لم تتوفر له فَقَدَ شخصيته وجذوره معها.. يتساءل ويُحاول تركيب الأحداث مِن جديد (كُلّ الأحداث التي عاشها منذ شهر ماي 1945) ويحاول العثور على معادلات لفظية تواكبها وتعبِّر عنها بوضوح ورزانة وأوزار، وهو لا يرضى أن يترك ما فعله مدة خمسة وثلاثين عاماً ولو أثراً بسيطاً ويموت هكذا كما ينفذ الحلم في النّوم ويهترئ في اليقظة، ينساه المرء ولا يتذكر منه متى يذكر إلاّ القليل القليل..) ص 219. (لكنه.. لم يتراجع بِصفة نهائية عن فكرته حول التّاريخ، إنما يترك الباب مفتوحاً للنِّقاش والإمكانيات حُبلى بالافتراضات والمفاهيم محشوة بالتّفاصيل. ) ص 220. (هل يستقيم العود والظِّلُّ أعوج؟ لا. طبعاً لا.. لكن التّاريخ يصنعه الرِّجال بعملهم وكدِّهم ونضالهم ودمائهم وأعمالهم وأيديهم.. وإلاّ فاستقامة الظِّلِّ تُصبح قهرية وحتمية ويستقيم العود إذاك ويُصبح الخطُّ باستقامته واضحاً. فأين الوضوح ونحن نرى الشُّعوب المقهورة تمشي وتتحسس طريقها بعصيها البيضاء، على غير هُدى، فلا تعرف أين الخطّ الواصل وأين وضوحه؟) ص 229.

وها هي سالمة (تعود في يومٍ مِن الأيام إلى الطّاهر الغمري فتجدهُ ميتاً ومضرجاً بدمه الذي تقيأه مِن فمه وقد تهرأت رئتاه نهائياً. لقد كان يعلم هو بذلك وأبى أن يُعالجه أحد بعد أن عالجه الحكيم فلا يريد طبيباً غيره يُعالجه.. ولكن ما الحيلة وقد مات الحكيم منذ زمنٍ طويل كما مات بوعلي طالب وسيد أحمد ومليون شخص آخر..) ص 265. (تأتي – سالمة - فتجده سابحاً في دمه.. ((مات عم الطّاهر)).. مات وترك لها يومياته وليلياته.. وها هي الآن مكبة عليها تقرأها وتعيد قرأتها. وترك لها.. وترك لها.. وترك لها ذكرياته التي تَمُت كُلّها إلى الصِّراع القائم بين الفقراء والأغنياء، بين المُستَغِلين والمُستَغَلين..) ص 267. (وقَبِلَ بالتوصل معها إلى حلٍّ وسط حول تحديد التّاريخ وكثيراً ما كان قد صدمها بتصريحاته الاستفزازية يوم كان يذهب إلى أن التّاريخ لا يُصنع بل أنه كالطُّحلب لا ينبته أحد.. وقد كان يغضب مِن رفضها ومِن عدم موافقتها أقواله فكان يعتمد المُغالاة في الرّأي فيذهب إلى أن التّاريخ مخرأة..) ص 268. (ويموت عم الطّاهر ويترك لها يومياته ولا يوصيها بشيء ولا يترك لها أية وصية..) ص 268. (لقد عاش وكأن حياته كُلّها ما كانت سوى هذه الأوراق المتراكمة التي قضى في كتابتها الليالي تلو الأخرى، محاولاً حشو فجوة التّاريخ الهائلة وذلك ليس بقطن الصّمت وسبيخ النّسيان وصوف الخفية وكتان الكذب والتّزوير، بل بفيض من الجرأة ومن تفاصيل الأمواج المتعاقبة فتكون أنهاراً وبحاراً وطوفاناً ويتّضح هكذا التّاريخ على ما فيه مِن شحنة الرُّموز والألغاز المتراكمة بين طياتها، وتبقى الأسئلة مطروحة ونقاط الاستفهام قائمة تجرح الورق وتحرقه.) ص 269. (ألم يلعب هذا الرّجُل في حياتها دور الأب والعشيق والرّائد والثّوري ذاك الذي أبى أن يخون قضية وأن يجحد بصديق، فترك نفسه يتآكله سرطان السُّلّ وفاءً منه للحكيم الذي عالجه في أيامه وينال منه الموت وقد كان وفياً للأفكار التي كان يحملها في صدره فلم يرض التّراجع عنها.) ص 273. تلك كانت النِّهاية وهكذا كان الأمر.

* نقاط على هامش قراءة رواية (التّفكك) لرشيد بوجدرة:

- تشير الرِّواية إلى صراع الأجيال، يتجسد ذلك في الاختلاف الجذري في مفهوم التّاريخ بين سالمة التي تمثل جيل الاستقلال والطّاهر الغمري الذي يمثل جيل الثّورة وما قبل الثّورة في الجزائر. الطّاهر الغمري الذي يؤمن بنظرية الصُّدفة في التّاريخ، وبأن التّاريخ يصنع نفسه بنفسه دون تدخل يد الإنسان فيه. بينما سالمة تؤمن بأن الإنسان هو الذي يصنع تاريخه.

- تمتاز رواية (التّفكك) بأنّها رواية إيديولوجية بامتياز، إذ تظهر فيها إيديولوجية الكاتب رشيد بوجدرة التي تتجذر في جسد النّص تطغى على المتن. فالفكر الأيديولوجي للكاتب يتضح عبر (التّفكك) كصراع واضح بين الرّأسمالية والبرجوازية من جهة والشُّيوعية من جهة أخرى فالطّاهر الغمري يحتاط من سالمة ويظن (أنها من البرجوازية الصّغيرة، الصّغيرة، الصّغيرة، لكن أعلم أنها قصرية الرّأسمالية.) ص 116. بل وتتعمق هذه النّظرة الإيديولوجية بشكل لافت تجاه الدِّين من خلال صورة الطّاهر الغمري حين كان معلماً للقرآن. فكثيراً ما ترددت الآيات القرآنية بشكل أو بآخر لكن بما يوحي بالاستهزاء وخاصة سورة المسد. فالرِّواية تكشف عن نظرة غير موضوعية للدِّين، فتكتفي بطرح الشّخصية الدِّينية كنموذج متواطئ، ولا تقدم صورة مقابلة تطرح بديلاً إيجابياً يمكن تقبله أو الرِّضى عنه. والواضح كذلك أن الكاتب له موقف سلبي تجاه الأصولية (الشّعب بلا طليعة لا شيء والطّليعة بلا شعب صفر مثقوب.) ص 189. (هل هذا رمز الأصولية؟ الشّعب بلا طليعة.. الأصولية ضربت أطنابها وتوغلت فينا وحتى الفقراء يظنُّون أن لهم قسمة ونصيباً فيها.) ص 190.

إن الوظيفة الإيديولوجية هي السِّمة التي تطغى على عمل الرَّاوي في (التّفكك) خاصة فيما له علاقة بالمعتقد من خلال توظيف بعض الرُّموز الدِّينية بشكل يقترب من التّهكم (أين الطّليعة وأين الشّعب؟ لا جسر بينهما بل هناك هاوية. الإقطاع العربي الإسلامي كان خلاقاً مبدعاً، مغامراً، متاجراً، أما الآن فأصبح حذراً، لا يوظف أمواله إلاّ فيما لا يُغني، ويترك للدولة الأوزار الأخرى. قتلتنا المقاولة والمقاولون والدّجالة والدّجالون.. أين الشّعب وأين الطّليعة؟ الحزب ليس في المستوى والمرحلة دقيقة. هرع النّاس إلى المساجد وسئموا الوقوف أمام دكاكين التّهريب وحوانيت السّلب وأروقة الزُّور والغِشّ. الطّليعة ليست في المستوى.) ص 191. وفي مقطع واضح يحمل دلالة إيديولوجية تجاه الدِّين بتهكم: (غصّت المساجد بالتّائهين في القرن العشرين. وأُمورنا تُدبر بعيداً عنا ونحن هزلى وصدورنا ضيّقة ومسلولة. أصواتنا بحة رهيفة لا يسمعها أحد ولم تفلح إلاّ في تشييد المآذن على شكل صواريخ تفتقر للطّاقة النّووية لتقلع نحو القمر والنّجوم والكواكب.) ص 191.

- رواية (التّفكك) تقوم على وجود شخصيتين بطلتين هما الطّاهر الغمري وسالمة، فكلاهما كشف عن حقيقته، وكلاهما جرى الكلام عنه ورويت قصته. لقد كانت شخصية الطّاهر الغمري وسالمة الصّوتان المسموعان في رواية (التّفكك) وتكشفت لنا تدريجياً بمرور الحوادث والأحداث أما باقي الشّخصيات المذكورة في الرِّواية فكانت ثابتة لم تقدم الكثير للرواية. لقد استخدم رشيد بوجدرة الأسلوب الحُرّ المباشر في روايته التّفكك ليمنح شخصياته حرّية التّعبير والإفصاح عما في داخلها.

- جاء إختيار رشيد بوجدرة لأسماء بطلي روايته (التّفكك) (الطّاهر الغمري وسالمة) يحمل رمزية ودلالة تأويلية، فـ (الطّاهر) رمز لطُهر الرّجُل الذي قاتل الاستعمار الفرنسي، وعدم انغماسه في مكاسب ما بعد الثّورة كثمنٍ لنضاله وكفاحه لتحرير الجزائر مثلما قد فعل الكثير من المجاهدين الذين حازوا امتيازات مادية ومالية ونفعية ميّزتهم عن بقية المواطنين البُسطاء. و(الغُمري) في الجزائر هو اسم ذكر الحَمَام الذي يعيش في أعالي الأشجار قرب الماء - كحال بطل الرِّواية الذي يعيش في أعالي العاصمة قرب الميناء - والذي يُحلِّق عالياً مرتحلاً في الأجواء - كما كان الحال مع البطل - ليستقطب أُنثاه المميزة دون غيرها من الحَمَائِم. وكأن الكاتب يريد أن يرسل بمعنى يخص بطله ويُمكن إسقاطه على من هم أمثاله في الجزائر المستقلة، وهو أنه لن تكون طاهراً إلاّ إذا حلقت عالياً فالقاع قد طمّ. أما اسم الفتاة (سالمة) ففيه دلالة ورمزية على السِّلم والمُسَالِمَة التي يمكنها التّعايش والمعايشة مع أفراد عائلتها ومحيطها رغم اختلاف طباعهم ومشاربهم وأفكارهم وحيواتهم. كما أن اسم (سالمة) فيه إشارة رمزية إلى الجزائر المُستقلة الرّاغبة في التّعايش مع محيطها الإقليمي والدُّولي في سِلم وسلام.

- تقوم رواية (التّفكك) على المونولوج الدّاخلي في غياب حوار صريح وواضح بين شّخصياتها. حيث يتقمص الكاتب وعي الشّخصيات بأسلوب المونولوج المروي، ويعرضه بضمير الغائب دون أن يقطع الخيط السّردي، وفيه يتوارى زمن القصة وزمن الكتابة وهو يقترب من أسلوب المونولوج الدَّاخلي، حيث تقدم الشّخصية وعيها بنفسها لحظة بلحظة بحيث لا يشعر القارئ بالرَّاوي.

- سلك رشيد بوجدرة مسلكاً مختلفاً في الإبداع السّردي إشارته الأولى الكتابة دون حدود خارج سلطة الرّقابة  الفنية والسِّياسية والدِّينية. فهو يحاور في جرأة كبيرة كل المحرمات والمقدسات التي كرستها الكتابة المنحنية. فرواية (التّفكك)غارقة في اللامسموح به في) الجنس والدِّين والسِّياسة(.

- الكتابة السّردية عند رشيد بوجدرة تتميز بأنها كتابة عقوق وانحراف عن الطُّرق المعهودة، فهي كتابة تمرد على تاريخ الكتابة العربية إنها كتابة السُّفلي (الجسد) لكشف العلوي (الفكر). إن التّعامل مع كتابات رشيد بوجدرة مخاطرة لأنه يقدم أساليب قد لا تتلاءم مع ذائقة القارئ العربي الذي ظلّ إلى وقت قريب سجين نمط كتابي معين.

- تتكون رواية (التّفكك) لرشيد بوجدرة من الحكايات الدّائرية اللّولبية التي تخلق عند القارئ في تطورها ودورانها الذّاتي انطباعاً بكابوسية الانزلاق والانغماس والغرق في خثارة البطل وشقائه.

- من أهم ما ركزت عليه رواية (التّفكك) في جل فصولها هو عنصر تكسير خطية السّرد، إن قارئ هذه الرِّواية يحسّ بالخلط والتِّكرار واللّف والدّوران في نقطة واحدة أو العودة فجأة إلى نقطة انطلاق سبق الإشارة إليها. يقول الرَّاوي على لسان سالمة: (اسمع، يمكن البدء بالحكاية انطلاقاً من الوسط أو من النهاية ثم الانتهاء، منها انطلاقاً من أولها وهكذا كل الطُّرق تؤدي إلى عمق الواقع والكتابة.) ص 109.

- يعتمد البناء الزّمني في رواية (التفكك) على الدّيمومة باعتبارها زمناً نفسياً وتياراً متدفقاً يكشف عن أعماق الشّخصية من الدّاخل. كما أن اعتمادها على الذّاكرة يجعل الماضي فيها يظهر غير منتظم وغير مرتب. وهذا ما يعرف بالبناء المتشظي للزمن، حيث يفقد المتلقي القدرة على جمع خيوط النّص أثناء القراءة، وربما يحتاج إلى قراءة ثانية تجعله قادراً على استجماع هذه الخيوط ونسجها. تقول سالمة: (جاءتني تلك الأيام والأسابيع التي إذا قستها بالثّواني والدّقائق وتعاقبها المطرد، كانت تومض لي بهشاشة العالم ولوعته، فبدأت أشعر أن الأيام السّابقة التهمت نصف حياتي وأضافت ألف عام على قدر عمري إلى حياتي، لقد أصبح كل موقف تحدياً وكل ساعة محنة، كل يوم أصبح قرحاً.) ص 177.

- يبدو أن الكاتب رشيد بوجدرة في رواية (التّفكك) يريد الكشف عن بعض الأمور التي جرت أثناء الثّورة التّحريرية خاصة التّصفيات الجسدية التي لاحقت حتى  بعض من صعد الجبال لأجل تحرير البلاد، يخاطب الطّاهر الغمري سالمة (دعيني وخرافاتك وموت أخيك وهلوسة عمتك فاطمة ودروشة أبيك وزواج أخواتك وورشة الخياطة وموقف حميد بالنسبة للإشاعات التي يتناقلها الحي حول حياتك الشّخصية وموسيقى ماهلر وأغاني المواخير.. دعيني.. أقول أنهم ذبحوا الكثير منا وخططوا لاغتيال.. فهربت.. لا أُصدق.. إلى يومنا هذا لا أُريد أن أثق في أحد.. ) ص 186. كما ينتقد الظّواهر الجديدة التي طفت على سطح البلاد بعد الاستقلال من أثرياء الثّورة (لقد راح أثرياء الثّورة يُخزنون ثرواتهم داخل صوف المطارح التي ينامون عليها ويحتالون ويتضخمون. جُعنا طويلاً والآن قتلتنا التُّخمة والسُّكر والمذلّة.) ص 190.

- تواتر تكراري للعبارة اللازمة (هل يستقيم الظِلّ والعود أعوج) في العديد من صفحات رواية (التّفكك) يعطيها بُعداً رمزياً يتجه تأويله إلى كُلِّ ما يتعلق بالثّورة وما بعد الثّورة.

- في (التّفكك) نجد رشيد بوجدرة يعتني باللّفظة التي تؤدي وظيفتها في السِّياق الرِّوائي داخل الفضاء الزّماني والمكاني، وهذا ما يُعطي لخطابه السَّردي متانة فنّية. فهو يمتاز بثروة أسلوبية ولغوية في كتاباته، حيث نجد الجمل تمتاز بمعجمها الفصيح. كما أن رشيد بوجدرة لا يكتب للقارئ العادي بل يكتب للنُّخبة والقارئ الذي يبذل جهداً في عملية القراءة لهذا فهو يستعين بلغة حوشية مليئة بالألفاظ الغريبة القليلة التّداول في الأدب الحديث.

- ما لم يعجبني في رواية (التّفكك) لرشيد بوجدرة، هو استعماله لبعض الألفاظ القبيحة الفاحشة التي يتعفف القارئ عن سماعها أو قرأتها. أنا شخصياً أضطر إلى استعمال القلم الأسود لمحوي كلمات الفُحش في الرواية.

* اقتباسات من رواية (التّفكك) لرشيد بوجدرة:

- (سوقي كسدت منذ زمن طويل وأنا لا أعلم أن العالم تغير. لم أتغير. أنا الوتد الثّابت.. العالم تغير وامتلأ بضوضاء العظام البشرية تتبعه أينما ذهب وأينما صد.) ص 75.

- (دهاليز التّاريخ وأروقته الحالكة دهاليز لا حدّ لها ولا منطق والتّاريخ يدور ولم ينته بعد من الدّوران يدور حول معطياته نفسها التي لا تتغير.) ص 88.

-  (التّاريخ ليس مادة آلية ركبت على مبادئ عالية رسامية فقط بل هو يهتم أيضاً بالأشياء التي تظهر تافهة.. هذا هو التّاريخ.. بلا زخرفة ولا تأمثل ولا تجميل.) ص 94.

- (لقد جرفت البلاد تلك الغزوة التي كانت قد تمت ذات صباح 1830 فتجعل من البلاد منفىً رهيباً سوف يحفل بالجرائم والمجازر والتّخريبات والحرائق والتّجويع والتّقتيل والتّمسيخ على أنواعها فيسجل فيه أصحاب تلك الغزوة جميع الأسباب التّاريخية والقوانين العلمية التي كان لا بُد منها لتغيير وجه البلاد ومحو ذاكرتها وخصي شخصيتها.) ص 101.

- (هل التّاريخ عبارة عن خرقة تستخدم لتشرب هدر حيض الإنسانية وهذيانها؟ أليس التّاريخ شيئاً آخر لا يمكن تحديده بدقة وانضباط وصرامة.) ص 103.

- (الكِتابة عبارة عن آنية مستطرفة.. كُلّ جزءٍ يصب في الآخر حتى يملأ العَالَمَ بِضجةٍ لا مثيل لها، الكِتابة تفتح كُلّ الأبواب لذا تكتب.) ص 109.

- (يا لرهبة الصّمت ويا لصريف القلم وهو يخدش الورق فيخيل إليه وكأنه يكتب بريشة حديدية، صريف القلم هو أحمل موسيقى يعرفها، والكِتابة سياج مطاطي يلولب العزلة ويقولبها حسب حسب الوتيرة التي يختارها.) ص 136.

- (العَلَم ليس بخُرقة وإنما رمز يُمكن فكّه وحله والبحث عما وراءه.) ص 159.

- (والآن. تضخمت المدن وكادت تموت تحت شحمتها وسمنتها والأرض المخضبة بالدِّماء لا تستغل كما يجب وتنبت المساجد كالفطور ويزنى في الدِّين وتكتظ الشّوارع بالانتهازيين وتكثر الرّشوة..) ص 160.

- (التّاريخ قاطرة خارقة للزمن والفضاء، التّاريخ يُصنع بالدّم والوحل.. لكنه يُصنع، الإنسان يصنعه والمجموعات والأمم والشُّعوب تُصنفه.) ص 165.

- (قالوا لا بطل غير الشّعب.. كل ذلك استفزاز. دعاية. تصفية حسابات وخوف من الموتى. الشّعب بلا طليعة لا شيء هذه هي الحقيقة..) ص 178.

- (والتّاريخ يشهد أننا رجعنا إلى الوراء حضرياً. تقهقرنا ولم نتبع لا الكتب القديمة ولا الكلمات الرّثّة ولا الأفكار المسبقة ولا حتى أحذيتنا المثقوبة. لم يبق لنا إلاّ العنتريات وحتى الرّباب مات، قتلته الطّقطوقة الشّرقية والغربية. لا بد من نكش التّاريخ من جذوره..) ص 180.

- (غابت الشّمس منذ أيام وألعق أنا شعور الوحدة وما زال أخي الميت واقفاً على أجفاني وكأنه على عتبة الدّار وشعره أسيل وقد صقله المطر وفي عينيه مياه الموت الرّاكدة تعوم والصُّداع لا يُفارقني..) ص 181.

- (في كُلِّ مكانٍ يفتقر التّاريخ إلى الوضوح والظِّلُّ لا يكفي ليحفظ الأحياء من تُجار الموت وطحلب العتمة والظُّلمات.) ص 182.

- (الشّعب بلا طليعة لا شيء والطّليعة بلا شعب صفر مثقوب.) ص 189.

- (لقد راح أثرياء الثّورة يُخزنون ثرواتهم داخل صوف المطارح التي ينامون عليها ويحتالون ويتضخمون. جُعنا طويلاً والآن قتلتنا التُّخمة والسُّكر والمذلّة.) ص 190.

- (لا الشّعب بطل ولا الطّليعة بطلة ولا رجُل واحد يقدر وحده على قلب الأوضاع واقتحام الواقع. هذا الجيل يفقد صبره بسرعة والتّاريخ لا يُعد بالأعوام ولا بالقرون. الإنسانية كُلّها مازالت تحبو، فما بالك بِنا؟ تنقصنا الجرأة وينقصنا الذّكاء وينقصنا الخيال وتنقصنا النّزاهة.) ص 191.

- (السِّياسة نوع من المخدر لا يمكن لمن يمارسها عن نزاهة وإخلاص من تركها هكذا.. يمكنه التّخلي عنها مدة زمنية بسبب أزمة شخصية أو استيلاء ذاتي أو حتى معطيات موضوعية أخرى..) ص 196.

- (اللغة اقتصاد وسياسة. كلّ طبقة تصنف اللغات حسب مصالحها.) ص 197.

- (العنجهية يُمكن تحديدها في إصرار المرء على متابعة وحي الموهبة وغموضها مهما كلفه ذلك من عناء ومشقة.) ص 203.

- (كأن أمه كانت بالمرصاد وراء الباب، تتجسس أنفاسه وشخيره، وفور توقفها، هرعت إليه حاملة طبق الفطور مرصعاً بفنجان القهوة تُضيف إليها حباتٌ قليلة من القرنفل وصحناً فيه فطائر تسبح في عسل الأمومة والحنان، وكأن رائحة القرنفل تزيد بهجة الصّباح عُمقاً وشفافية فيحتسي وهو يشرب القهوة بها الكون كله ورونقه وسطوعه وسناه، فيقبِّل أُمه تقبيلاً شيقاً ويُداعبها ويمازحها ويمرر يده تحت ذقنها حيث البشرة رخوة وطرية وقطيفية النسيج) ص 205.

- (رفضاً من الجنين أن يقطع صِلة الرّحم فيُلفظ هكذا في الفضاء البشري فيتيه على وجه الأرض ويكبر ويشيخ ويموت فيما تروح المشاكل الحياتية والعائلية والاقتصادية تلاحقه حتى فراش الموت، وأوقات القلق والسَّأم والغثيان، تُطارده حتّى سرير الاحتضار والغيبوبة العضوية، وقد علم - قبل خروجه من دهليز أمه الدَّافئ الفاتر الطّري الهشّ - أن حياته سوف تكون لا محالة ومَهما فعل وما قام به من أعمال جدِّية وثرية ومبدعة وبطولية، فشلاً ذريعاً، كَكُلِّ حياة وكُلِّ ممات.) ص 206.

- (عندها نزعة تيمية بالورق وبكُلِّ ما هو مصنوع منه.) ص 207.

- (الشّاعر – والقُرآن يشهد على ذلك – هو الشّخص الذي لا يملك البراءة فقط بل ويُمارسها تلقائياً وفي حياته اليومية، فهو رجُلُ التّجلي، لأنه قادرٌ على استعمال وعيِّه ووضوحه وتعبئة كُلّ طاقاه الإبداعية في ملاحقة القضاء والقدر وحتمية التّاريخ عبر فيافي المخيلة، وهو يشعر بأنه قادرٌ على الخلق لأنه يعلم علم الحدس واليقين أنه غير قادر على ترويض وتليين حوافي العالم وحواشي الكون وتخوم الأشياء.) ص 211.

- (يتساءل عن معنى الكتابة ومغزاها وعن أهدافها وواعزها وسببيتها ومبرراتها فيقول في قرارة نفسه: لعلّ الأحداث والوقائع والحوادث تأخذ في الوجود بطريقة ذاتية ومستقلّة عمّن يعيشونها وما أن تُصنف في قالب الكلمات وتبوب في إطار الجمل وتصاغ في لحمة الأسلوب والاستطراد والبنية الكلامية والهيكلة اللسانية.. حتى تسلك طريقها بنفسها فلا تحتاج وقد رصفت كلمة كلمة، وسطراً سطراً، ودونتْ كُتُباً كُتُباً، إلى شهادة شاهد عامة ولا إلى شهادته.. فتستغني هكذا عن كُلِّ مساندة بشرية ودعامة إنسانية وكُلّ المشاحب مهما كانت نوعيتها ومهما كان مصدرها..) ص 220.

- (للتاريخ مجرى وتياراً جارفاً، يهزُّ الطّبقات كُلّها عند الإعصار ويُحطم الحواجز كُلّها عند الحاجة وعند الضّرورة.) ص 220.

- (الكتابة بإمكانها تصريف الخوف البشري وتفريغ الأفكار الثّابتة المتراكمة في جُبِّ كُلِّ إنسان.) ص 221.

- (هل يستقيم الظِّل والعود أعوج؟ لا، طبعاً لا.. لكن التّاريخ يصنعه الرِّجال بعملهم وكدهم ونضالهم ودمائهم وأعمالهم وأيديهم.. وإلاّ فاستقامة الظِّل تصبح قهرية وحتمية ويستقيم العود إذاك ويُصبح الخط باستقامته واضحاً، فأين الوضوح ونحن نرى الشُّعوب المقهورة تمشي وتتحسس طريقها بعصيها البيضاء على غير هدى، فلا تعرف أين الخط الواصل وأين وضوحه؟.) ص 229.

- (هل الأشخاص يصنعون التّاريخ بأيديهم أم هو التّاريخ يصنع الأشخاص بحذافيرهم؟ فالمسألة لا تتعلق بإشكالية فلسفية بل الأمر منوط بالمصير الحياتي..) ص 230.

- (الفقير يُصوت بفخرٍ واعتزاز يوم الانتخابات، اعتقاداً منه أنه أن له دوراً يلعبه ولو مرة.. ولا يتركه يفلت من يديه وهو يعلم علم اليقين أن الانتخابات في وطنه لا تتجاوز الشّكليات وهي مجرد تمظهر بالدِّيمقراطية.. هنا نجد التّاريخ.. وكل الشُّعوب في هذا الميدان سواسية.. إن التّاريخ لا يُصنع وكالحزاز لا نراه ينمو.. التّاريخ مبني على تناقض أساسي. لا نفهمه إلاّ بعد مروره.. ولا يمكن استيعابه على الفور..) ص 232.

- (ماذا يفعل المعذبون؟ إنهم بأمس الحاجة إلى الطّليعة. وهيهات أن تعرف الطّليعة الفقر أو الجوع.. في الأمر أيضاً تناقص فادح. ما العمل؟ وماذا يمكن للطليعة أن تعمل؟ هي بأمس الحاجة إلى من يحركها ويدعمها ويشهر السِّلاح بأيديها.. الكادحون لا يفقهون من السياسة شيئاً وإن فهموا فعن حدس مستتر في تلافيف أجسامهم الهزيلة، فيهومون على وجوههم سكارى في فجاج الأرض يسبحون في الأجواء بقوة خيالهم وفكاهتهم النّاضجة وعبقريتهم الفذّة ويأتي الزِّلزال..) ص 233.

- (التّاريخ مزيج من الصّدفة والإرادة البشرية.) ص 234.

- (ولا أحد يعرف أين المفتاح وحتى لا يعرف أين الباب.. كلنا مسؤول عن هذه الحالة وحتى الأموات مسؤولون.. هل من محاسبة تجري للأموات يوماً؟ لنفتح ملف التّاريخ والتّواريخ كُلّها متشابهة بطبيعة الحال. مسكين المثقف في بلادنا ومسكين الواعي.. يتلوع ويعجز هو أيضاً بدوره. أين البوصلة؟ أين الخرائط البحرية؟ أين المناخاتّ؟ أين الرُّزنامات؟ هل نحن محكوم علينا بالضّيق مدى الأزمان..) ص 241.

- (التّاريخ هو عبارة عن سيل جارف متواصل لا يتوقف عن الدوران ولا يكف عن السَّير واللّف بل يمضي في سيلانه فيمر في أروقة العَالَم وفي دهاليز الأشخاص وتعرجاتها الدّاخلية حيث يمطر في القلوب مطراً فاتراً رزازاً.) ص 270.

- (تأتي التّجاعيد الرّخوة فتغطي وجوه أولئك الذين يدّعون بأنهم يصنعون التّاريخ فيما التّاريخ صانعهم، التّاريخ بما فيه من أحداث وحوادث وصدفة وحتميات، ناهيك عمّا في الحُكم من متاهات وما تحمل السُّلطة من إغراءات فيتعلمون مذاق العُزّلة المُرّة ووحشة الوحدة وانطواءها على نفسها مما يُغذي عنجهيتهم وما فيهم من جموح إلى العظمة والفخفخة والغطّرسة المشحونة بالجنون، وما أن يَرمِي بهم الـتّاريخ في مزابل النّسيان حتى يتسارع النّاس إليهم ولا يتورع الأعداء والأصدقاء على السّواء عن الانتقام منهم مظهرين ما كانوا عليه من علّات وعيوب وآفات ونقائص وقد كانوا في الأمس ينزلون أحكامهم تنزيلاً فتهبط كالصّاعقة من السّماء ذاهبة بكُلّ خلق ووجود.) ص 270.

- (لقد حسبوا أنفسهم - صانعوا التّاريخ أولئك – خالدين ملهمين أو مبعوثين  لبثِّ رسالة ما والمناداة بها ويذهب بهم الأمر إلى النِّهاية فيعتبرون أنفسهم من جبلة الرُّسُل وما بُعثُوا إلاّ لإنقاذ الإنسانية جمعاء فيتباهون وينتفخون ولا يجعلون لغرورهم حداً فيما يمضي التّاريخ ويقف لهم بالمرصاد يترقبهم على أرصفة المستقبل ويحطمهم شر تحطيم ويغطيهم مأموروهم بغطاء الفناء وبطبقات كثيفة من دخان النّسيان الأزرق فتكون عاقبتهم عاقبة مَن ظنُّوا أنفسهم خالدين لا أثر لموت فيهم  ولا للمرض أو الخطأ وهم عن ذلك واقون وإذا بالتّاريخ يترصدهم فيغرقهم في أوحال بولهم وغائطهم في دمهم ودموعهم. يا لها من سقطة رهيبة.. إنها سقطة من حسبوا أنفسهم على كُلِّ شيءٍ قادرين  وعلى استقامة الظِّلِّ على هواهم وكما يشاؤون عازمين يقررون وهم في الحقيقة معوجون يقررون تكييف معدن التّاريخ على هويتهم وهم إلى تحديد هويتهم مفتقرون..) ص 271.

- (قاطرة التّاريخ تخرق فيافي العقائد وتفتت الآراء وتبعثر الاعتقادات.) ص 273.

- (يرصد ما يقع تحت أنظاره من ظاهرات اجتماعية تَمُت إلى النِّساء بِصِلة، لكي يفهم من خلال ما يلاحظه في وضعية المرأة اليومية ما هي وضعية البلاد وكأن تصرفات المرأة إنما تعكس المآسي التي يعيشها الوطن على اختلاف أنواعها.) ص 279.

***

أ. السعيد بوشلالق

..............

* رشيد بوجدرة: روائي جزائري ذو توجه يساري ماركسي، يكتب باللغتين الفرنسية والعربية، ولد في عين البيضاء في 05 سبتمبر 1941. له العديد من الرِّويات، منها: ألف عام وعام من الحنين. التطليق. الإنكار. الحلزون العنيد. المرث. الرعن. معركة الزُّقاق. ضربة جزاء. تيميمون. التفكك..

 

محمد المحسن"القصيدة تكتب شاعرها" (موريس بلانشو)

“طقطقة كعب “إبحار في سراديب الذات، ومصباح في زجاجة من الأرق والألم، والقلق، والسؤال، إنّه ايغال في -الغرام النبيل-لا يملأه إلا الفضاء، وهو أيضا بحث عن دفء الرغبة في ظل سكون، وصمت، رهيبين يقلان صخب الرعشة والحلم..

تطلّ علينا هذه النفس المتشظية والهادرة من عتبة هذه القصيدة، وعتبتها عنوانها، وعنوانها يؤجج الإحساس فينا- بشوق صاخب لأب رحيم- يهجع خلف الشغاف..

إنّ صيغة عنوان هذه القراءة النقدية لقصيدة هادية آمنة مستوحاة في جوهرها ممّا تتأسّس علي تلك النصوص الشعرية من مرجعيات كتابة وأسئلة متن ومستويات كلام تُسهم مجتمعة في تشكيل الكون الشعري وتحديد المفيد من سماته الفكرية وخصائصه الجمالية.. فالذاكرة حاضرة بكثافة في تشكيل مُجمل نصوص الشاعرة التونسية هادية آمنة.. نصوص تستعيد الذاكرة أفق خلاص من حرائق الراهن، ترتحل عبرها إلى زمن ماض يبدو أرحم وأرحب.. هي ذاكرة فرد: الذات الشاعر، وهي ذاكرة جمع: مجتمعة، وهي ذاكرة الإنسان: الإنسانية فالشعر خطاب يتجاوز حدود الذات الضيّقة، ليعبّر عن هموم الجماعة قبل أن يصوغ أوجاع الإنسان في المطلق.. ويبقى الشعر رسما بالحروف والكلمات.. ينفتح على الرسم التشكيلي فيستعير بعض ألوانه وأشكاله ورؤاه الجمالية تشكيلا بصريا للكتابة الشعرية على بياض ورقة الكتابة.. بعد أن تداعت الحدود بين الفنون فتداخلت التخوم..

تتثاءب الحروف.. وتتململ الكلمات كي تتشكّل ابداعا شعريا يلامس نرجس القلب، وذلك في شكل فضاءات دالة على ما يشكل هذا العمل الشعري من عوالم إبداع.. يتقاطع فيها وَجِدُ العشق بوجَع الحصار…

تتعدد المداخل إلى النص الشعري المعاصر وتتنوع، بحكم أنّه يبقى قابلا لأكثر من صورة تأويل، ومنفتحا على أكثر من شكل احتمال للمُمكن والتوقع للكامن.. فمدار الإبداع عامة والشعر منه خاصة، بحث يسكنه الإرتحال إلى المجهول من الآفاق، والقصي من جماليات الكتابة ودلالات الفكر.. توقا لتحقيق المغايرة للسائد الشعري..

وتبدو ملامسة تخوم الكون الشعري الذي تنحته نصوص الشاعرة التونسية هادية آمنة مدعاة للتأمّل عبر عناوينها: طقطقة كعب”، بإعتبار أنّ مثل هذا العنوان قد يختزل مُجمل العلامات الدالة على أسئلة متنه الشعري وجماليات صياغتها.. فالعنوان، رغم ما يشي به-بعده المجازي-، إلاّ أنّه يُضمر كتابة دلالية تجعل منه أحد المفاتيح الأساس لفتح مغالق النّص الشعري، والكشف عمّا تبطنه من دلائل لا تخلو من علامات غموض وتعتيم، وتتوسّل به من أدوات كتابة سحرية، تبقى دوما متغيرة، ومتحوّلة من تجربة إلى أخرى، وحتى من نص إلى آخر داخل التجربة الشعرية الواحدة.. فجوهر الإبداع تجاوز ينبغي دوما أن يدرك المدى الذي لا يُدرك، للكائن من الأشكال، والراهن من أسئلة الشعر..

أما المتن الشعري الذي ترسم معالمه نصوص هذا العمل الإبداعي وتحدّد المفيد من سماته الفكرية والجمالية في آن، فإنّه يقوم على تيمتين أساسيتين تشكّلان محوري القول الشعري، وهما الوفاء للأب الراحل وعطر الأنوثة، محوران يتنوّع حضورهما داخل القصيدة، إذ تأخذ علاقتهما أشكال التوازي أو التحاور أو التقاطع.. وقد وزّعت الشاعرة-ببراعة واقتدار-قصيدتها المدهشة بينهما..

للشاعرة التونسية هادية آمنة قدرة على استبطان اللغة وتشكيلها بحيث تعطي أقصى طاقتها في الدلالة على ما تريده وكأنما قد ألينت لها العربية .. واللغة ليست صماء بكماء إلا حال استخدامها من قبل أصم أبكم أعمى فساعتها تجدها جامدة ..

وتظهر اللغة أسرارها حال الاجتماع والبناء إذ اللفظ في ذاته مجرد أداة ولا يظهر مكنونه ومعناه بغير اجتماع لذا كان اللفظ في مبني بحيث يكون لبنة من لبنات هذا البناء غيره في معجم ..

ولنرى معا مدى توفيق الشاعرة وقدرتها على جعل الحرف يبوح بمكنونه وسره بين يديها :  قول الشاعرة :  بكعبها العالي جاءته تُطقطق

بمساحيق الغواية وجهها يغرق

بالعطور الباريسية أعطافها تعبق

براءة المكر من عيونها تُدهق

قبلات الورود على خدودها تُشرق

فاتنة في حبّها الكثير يغرق

على نخبها طهر السلسبيل يُهرق

بيادر الرياحين من مجالها تعبق

حروف الأبجديّة بالكاد تنطق

حرف الراء بلكنة عسل

غاء تُطلق

ينظر إليها الزيتونيّ و يضحك

شهد فيها ضياء سناها

وهام أبوها بطلق هواها

ظرف القطط في رسم خطاها

هويدتي

أخاف عليك مجون السنون

وعبث الدنيا فأنتِ فُتون

طوّقتِ العيون وأنتِ صغيرة

فكيف الحال إن صرتِ كبيرة ؟

سكبتُ فيك من روحي شِعري

منهل للحرف في لحظة التجلّي

علقتِ خواطري أمانة

احكيها

ترانيم شوق على أهداب قصيدة

غّنيها

من الجدير –في هذه القراءة المتعجلة-أن نتبيّن معالم البنية الصوتية للتشكيل اللغوي في هذه القصيدة في محاولة لربط هذه المعالم بما لها من دور في إنجاز التجربة، وفي تحقيق قدرتها التأثيرية، فالملامح الصوتية التي تحدّد الشعر قادرة على بناء طبقة جمالية مستقلة (1)، والبنية الصوتية للشعر ليست بنية تزينية، تضيف بعضا من الإيقاع، أو الوزن إلى الخطاب النثري ليتشكّل من هذا الخليط قصيدة من الشعر، بل هي بنية مضادة لمفهوم البناء الصوتي في الخطاب النثري، تنفر منه، وتبتعد عنه بمقدار تباعد غايات كل منهما، وهذا يعني أنّ إرتباط الشعر بالموسيقى إرتباط تلاحمي عضوي موظّف، فبالأصوات يستطيع الشاعر أن يبدع جوّا موسيقيا خاصا يشيع دلالة معينة، واللافت أنّ هذه الآلية الصوتية غدت في نظر النقاد مرتكزا من مرتكزات الخطاب في الشعر العربي الحديث، وهذا المرتكز يقوم على معنى القصيدة الذي غالبا ما يثيره بناء الكلمات كأصوات أكثر ما يثيره بناء الكلمات كمعان(2)..

وإذا كان الأمر كذلك فليس بوسع الدارس أن يتجاهل ظاهرة أسلوبية لافتة ساهمت في إنجاز جمالية التجربة عند الشاعرة هادية آمنة كما ساهمت في تحديد معالم رؤاها وهذه الظاهرة هي تعويلها على المدود أو الصوائت الطوال، وهو ما يلمسه المرء في الخطاب الشعري على مستوى المفردة، وعلى مستوى التركيب، إذ تتجلى هذه الظاهرة الصوتية في هيمنة مفردات حافلات بالمدود الطوال على هذا الخطاب، وذلك من قبيل: هواها-خطاها-سناها-.. إلخ

ومن هنا، يبدو واضحا أنّ التعويل على الصوائت الطوال ظاهرة أسلوبية صبغت الخطاب الشعري عند هادية آمنة التي حمّلت هذه الصوائت عميق أحاسيسها وانفعالاتها مما يجعل خطابها في كثير من الأحيان قائما على ما يسميه جان كوهن بالكلمة الصرخة، ويذكر أنّ العلاقة وثيقة بين الصُّراخ والشعر، فالصراخ حالة هيولية من حالات الشعر، وفي ذلك يقول جان كوهن: ”الشعر يتميّز عن الصّراخ، لأنّ الصراخ يستخدم جسدنا على النحو الذي أعطتنا إيّاه الطبيعة، أما القصيدة فتستخدم اللغة، إنّ الشعر يستخدم المسند الذي تستخدمه اللغة غير الشعرية، إنّه يقول كما تقول: إنّ الأشياء كبيرة أو صغيرة…حارة أو باردة لكنّه يصنع من كلّ واحد من هذه الألفاظ الكلمة الصرخة، إنّ الشعر ذو جوهر تعجبي”(3)

على سبيل الخاتمة:

قد لا أبالغ إذا قلت أنّي لست من الذين يتناولون القصائد الشعرية بأنامل الرّحمة ويفتحون أقلامهم أبواقا لمناصرة كلّ من ادّعى كتابة الشعر، إلاّ أنّي وجدت نفسي في تناغم خلاّق مع هذه القصيدة التي فيها كثير من التعبيرية وقليل من المباشرة والتجريد تغري متلقيها بجسور التواصل معها، مما يشجع على المزيد من التفاعل، ومعاودة القراءة والقول، فكان ما كان في هذه الصفحات من مقاربة سعت إلى الكشف عن بعض جماليات هذه القصيدة مربوطة بالبنية اللغوية التي عبّرت عنها..

والسؤال الذي ينبت على حواشي الواقع:

هل لامست كلمات الشاعرة شيئا ما في دواخلنا وحركت بحور شوق لأبائنا ساكن فينا ؟ وهل هزت وتراً ما من مشاعرنا وألهبت حماسنا لأخذ زمام المبادرة لصياغة قصيدة تهدى لأب حنون كان بالأمس وسادة ريش لنا حين يداهمنا السقوط.. ؟

ويظل الجواب.. عاريا.. حافيا.. ينخر شفيف الروح..

 

محمد المحس- ناقد تونسي

.............................

الهوامش:

1-اللغة العليا ص: 116جون كوبن.. ترجمة أحمد درويش.. ط2 القاهرة 2000

2-البنيات الأسلوبية في لغة الشعر العربي الحديث ص: 38-ط-الإسكندرية 19903-اللغة العليا-ذُكٍر سابقا-ص: 74

3-اللغة العليا-ذُكٍر سابقا-ص: 74..

 

قصي الشيخ عسكرتمهيد: الدكتور علي القاسمي لغويّ وباحث متمرس وأديب يتعامل مع الكلمة بإحساس مرهف وخيال عميق أضف إلى ذلك كونه يجيد عدة لغات حيث اطلع من خلال الدراسة الأكاديمية على الأدبين الإنكليزي والفرنسي، واستوعب عبر المطالعة والبحث النظريات والتيارات الأوروبية الأجبية والفلسفيّة ممّا ترك ذلك أثرا إيحابيا على ماكتبه من بحوث وماصجر عنه من إبداع أدبيّ.

وكان من حسن حظّي أن أطّلع على كتابه الأخير الذي يختوي عدة قصص منها قصة <الآنسة جميلة> التي نشرها في إحدى الصحف الألترونيّة فلفتت نظري فكتبت عنها ثلاث مقالات نشرتها في الصحيفة نفسها.

والحق إنّي أدركت بعد قراءتي لقصة <الآنسة جميلة> والقصص المنشورة معها في هذا الكتاب أنّ الدكتور القاسميّ أبدع فنّا جديدا يمكن أن نطلق عليه <قصص السيرة> إلّا إني في هذا البحث لم أعالج حميع موضوعات قصص الكتاب بل تناولت جانبا منها ألا وهو موضوع الاغتراب آمل أن يدرس مجالاتها الجمالية والفكرية النقاد والأدباء ويوفوها جقها من البجث والتحليل.

تعريف الاغتراب:

الاغتراب: alienation، في اللغة الإنكليزية مشتقّ من اللغة اللاتينيّة وهو نفسه اعتمدته الفرنسية، ويعني تجريد الفرد من ممتلكاته وبيئته [i] والمعنى ذاته نجده في قاموس الهجين الدنماركي[ii] أمّا في اللغة العربيّة فالاغتراب مشتقّ من الفعل أو المصدر <غرب> ومعناه غاب وبعد[iii] أو غاب وبعد واسودّ وجهه وغمض وخفي[iv] وإذا انتقلنا من المعنى اللغوي إلى المصطلح نجد أنّ الغربة تعني اصطلاحا العجز والاستسلام والهراء وفقدان المعنى [v].

وعلى الرغم من المعنى السلبيّ الذي تتضمنه كلمة اغتراب وغربة في اللغة العربيّة إلّا أنّ هناك معنى إيجابيا ورثناه عن تراثنا الشرقي القديم بصفة عامة والعربي الإسلامي على الأخصّ، ففي الفكر الشرقيّ الروحيّ نطالع قول النبيّ يعقوب <ايّام سني غربتي مائة وثلاثون سنة قليلة وردية كانت أيام سني حياتي ولم تبلغ إلى أيام سني حياة آبائي في أيام غربتهم>[vi] إنه يحد حياة اغتراب آبائه الطويلة مدى إيجابيا لأنّ الاغتراب بنظره يحمل الإنسان بعيدا عن كدر الدنيا فيجعل حياته قريبة من الصفو والتأمّل، ولنا عبرة أيضا في التراث الإسلاميّ حيث الحديث النبوي الذي يؤكد المعنى الإيجابيّ للاغتراب <بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا طوبى للغرباء>[vii]

على وفق المفهومين السلبي والإيجابي المذكورين آنفا سندرس في الصفحات التالية مفهوم الاغتراب وفلسفته في قصص السيرة عند الأديب الدكتور علي القاسمي حسب العنوانات التالية:

1 - السرد الوصفي

2- شخصيات الاغتراب

3- الحيوانات والطيور

4 - أدوات الاغتراب

السرد

يستند السرد الاغترابي عند القاسمي إما إلى الاستناد للتاريخ بتفصيلات مهمة تنقل القارئ من لحظة الحاضر إلى الماضي فيضعنا في اللحظة التاريخية كما لو كنا نحن الذين نعيشها عبر معايشتنا لأهل ذلك الزمان في قصة الآنسة حميلة نقرأ النص الآتي الذي اقتطعناه من قصة الآنسة حميلة:مدينة شفشاون التي تُلقَّب بـ &quot;الجوهرة الزرقاء لروعة طبيعتها الجبلية الخلابة، تأسَّست سنة 1472 لإيواء مسلمي الأندلس الذين طردهم الإسبان، فحملوا شيئاً من ثقافتهم الأندلسية معهم إلى البلدان المغاربية التي لجأوا إليها. ولم يكُن أولئك اللاجئون من أصول مغاربية إسلامية فحسب، بل تعود أصول معظمهم كذلك إلى جميع أصقاع الإمبراطورية الرومانية النصرانية القديمة. وقد أسلموا إبّان الحكم الإسلامي المتسامح لإسبانيا الذي دام ما يقرب من ثمانية قرون. وعندما أمشي في أزقة شفشاون، أرى الأطفال بعيونٍ خضرٍ وزرق وشهلٍ وسودٍ وبنيةٍ وعسليةٍ، وبشعرهم الأسود والبني والبني الدافئ والأشقر والأشقر الذهبي وغيرها من الألوان. وقد تحوّلت هذه المدينة إلى قلعة لمقاومة الاستعمار الأوربي في القرن السادس عشر وما بعده. ويمتزج جمالُ أهلِها بشموخِ التحدي والإباء.

فالقاص بهذا الوصف جعلنا نعيش أجواء الماضي كأننا ضمن المجموعة التي طردها الأسبان وهو وصف دقيق استند إلى ثقافتين واسعتين ثقافة أدبية وتاريخيّة.

وهناك أيضا وصف الطبيعة الساكنة والمتحركة الذي يزيد قصص السيرة حيوية ويبعدها عن الرتابة والملل.قصة الصديقة الفرنسية:

وأخيراً وصلنا جبل سان ميشيل وهو جزيرة صغيرة تبعد حوالي كيلومتر واحد عن ساحل منطقة النورماندي في الشمال الغربي من باريس. وترتفع هذه الجزيرة التي على شكل جبل من صخور الغرانيت حوالي 80 متراً عن سطح البحر. وخلال القرون الوسطى بُني عليها ديرٌ وحديقة يعدان من روائع العمارة القروسطية. ونشأت حول الدير قرية سياحية تكثر فيها الفنادق والمطاعم.

أو أن يستند الوصف الاغترابي عنده إلى وصف المكان الحالي الذي نجده غامضا بنظرنا ولا نعرف كيف نتعامل معه وربما نتردد في التعامل معه حتى نكتشف سرّه .نقرأ في قصة ذكرى:

تردَّدتُ وهلةً قبل أَنْ أجتاز عَتبةَ الدار بِوَجَلٍ، لأُلفي نفسي في جُنينةٍ واسعة لم تُشذّب نباتاتُها منذ مدَّةٍ طويلة، فَنَمَتْ أعشابُها وتشابكتْ شجيراتُها مكوِّنةً عدَّة أجمات، فاستحال العثور على كُرتي. وأخذتُ أفتِّش عنها بين الأعشاب وخلف جذوع الأشجار بإحدى عينَيَّ، في حين ظلَّتْ عيني الأخرى ملتصقةً بالمرأة تراقبها وتُحصي حركاتها.

وفي طرفِ الجُنينة القريب من باب الدار الداخلي أُقيمتْ طاولةٌ مغطّاةٌ بغطاءٍ حريريٍّ مزخرفٍ تحيط بها أربعة كراسٍ، وعليها إبريق شاي وعددٌ من الفناجين وقالب حلوى كبير.

وجلستِ السيدة إلى المائدة، وقد صبّتْ لنفسها فنجانَ شاي، ولكنَّها لا ترتشفه، وأمامها قطعة حلوى في صحن صغير، ولكنَّها لم تأكل منها.

الوصف آنفا لحديقة امرأة تعيش وحدها في عزلة عن الناس ولم تكن هي التي اختارت العلة أو الغربة تلك بل المجتمع الذي ظنها جنية وتحاشاها لنجد فيما بعد أن الرعب الذي عشناه هو في الحقيقة وهم زرعناه في نفوسنا لأسباب متباينة منها نفسية واجتماعية وسواهما من التأويلات الأخرى.

إنّ الوصف الاغترابي في قصص السيرة عند القاسمي قد يهاجر في الزمان فيتداخل بالحاضر أو أن يتناول المكان والمكان يمكن أن يتوزّع بالشكل التالي:

1- المكان المحلي مكان ولادة الشاعر على وفق ماوصفه في إحدى قصصه لمدرسته ومعلميه وورفاقه الصغار ونهر بلدته والناس المحيطين به.

2- المكان العربي وهو العراق ولبنان وبعض الدول الىآسيوية وأوروبا وأمريكا وأفريقيا بخاصة المغرب والحق إن القاسمي سافر إلى كثير من البلدان فالتقطت عينه المتأملة الخبيرة كثيرا من المشاهد فهو رسام بالوصف نقل لنا في قصصه مشاهد عالمية كثيرة لطبيعة تلك البلدان مثل نهر السين في فرنسا وغابة بولونيا والقلاع والحصون الأثرية والمعالم الحديثة وأناس تلك البلدان وعاداتهم وتقاليدهم وطرق تعاملهم.

إنّ وصف الشاعر في قصصه يتعزز للاستناد إلى موضوع الاغتراب باختيارات دينيّة وأدبية وفلسفية منها:

أولا: الاستشهاد بالقرآن الكريم ومافيه من قصص يعززبها الكاتب أسلوبه ونفسية شخوصه:

وفي اللحظة نفسها، تمثَّلَ لي أبي وهو يفسِّر لي سورة يوسف في القرآن. يعقوب يحبّ كثيراً أصغر أولاده، يوسف. إخوة يوسف يغارون منه، لأنهّ يحرمهم من حبّ أبيهم، أو هكذا يتوهّمون. يتآمرون على يوسف. يأخذونه معهم إلى البادية للَّعب، على الرغم من اعتراض أبيهم. يذهبون به بعيداً عن القرية. يلقونه في بئرٍ للتخلُّص منه.

إذن سيتأكَّد لأبي أنَّني أغرقتُ أخي حسن عمداً. قد لا يفعل شيئاً، تماماً مثل يعقوب. ولكنَّ قلبه سيظلُّ حزيناً مكلوماً، ولا مكان لي فيه.

ثانيا: الاستناد إلى الشعر العربي القديم والحديث:

قم للمعلم وفه التبجيلا كاد المعلم أن يكون رسولا

وهو في هذا الموضع يبين منزلة المعلم عند التلاميذ والمحتمع في ذلك الزمان.

ثالثا: الاقتباس من النصوص الإنكليزية أو الفرنسية ليجعلنا نعيش أجواءها من خلال ترجمته القصة رقم 8 أستاذتي الدكتورة سيرين ديلي:

في مجرى الذكريات، وقفَ أخي ينتظرني، ويداهُ مملوءتانِ بالتوت:

أختاه! هذه حبّاتُ جسدي، خُذيها وكُليها!"

رابعا: الهوامش التي يستعين بها الكاتب لتوضيح فكرة أو استطراد أو استدراك وهو أسلوب تستخدمه القصة والرواية الحديثة واستخدمته في روايتي التوثيقية قصة عائلة فنحن نحتاح الهوامش حين ناحدث عن وقائع وتواريخ مما يضفي على القصص أو الرواية بعدا فنيا وجماليا مؤثرين.

خامسا: إيراد بعض المصطلحات والعبارات الأحنبية كما هي في لغتها الأصلية وبالحرف اللاتيني إما لانتفاء معادل عربي لها أو قصد أن يحعلنا الكاتب نعيش أجواء قصصه وعوالمها.

سادسا: الحكمة والأمثال مثل المثل المشهور : لِكلِّ فتاةٍ خاطبٌ، ولِكلِ مرعى طالبٌ".[viii]

وكلّ ذلك جاء بإطار عبرت عنه الألوان فاكتمل بها، ولو تتبعنا قضية السرد المذكورة آنفا لوجدنا أنها اتخذت بعدا فلسفيا في الاغتراب بشقيه السلبي والإيجابي لأن الالوان تحمل مدلولات عالمية وفق ثقافات الشعوب وأديانها فقد أصبحت الالوان شعارا للأجناس وفق رأي دارون[ix] حسب الألوان:

الأبيض: رمز السلام باقة ورد من الطلاب بيضاء للأستاذة المهاحرة إلى لبنان قصة رقم 8 أستاذتي الدكتورة.

الأبيض للنقاء والزينة بنت الحيران التي كانت ترتدي فستانا أبيض قصة وفاء، وقصة غزال يستجير بفلاح رقم 5 مرتجيا ثوبه الأبيض.

العنف: السلاح الأبيض قصة الجرس الأول.

السواج: الحزن والكآبة:

اصطدم بصري بحسم متلفع بالسواد قصة الذكرى رقم3

الشؤم: سرب من البط البري تتقدمه بطة كبيرة قاتمة اللون كالبجعة السوداء[x]

الازرق: قصة رقم 8

باقة ورد من عصافير الجنة الزرقاء التي ترمز إلى الفرح.

الأصفر: الخوف

قصة السباح أصبح وجهي أكثر اصفرارا.

ولا نفغل أيضا ورود الألوان في وصف الطبيعة وحمال الآثار التي حفلت بها قصصه وحاءت ضمن الوصف في السرد في مواضع كثيرة.

الشخصية المغتربة

تعبّر عن شخصية البطل في قصص السيرة عند القاسميّ الضمائر التالية:

ضمير المتكلم: الأنا

الغائب: هو هي

التداخل بين ضمير المتكلم والغائب.

أن تكون أنت القاص عن نفسك سواء في قصص السيرة أم غيرها يعني أن عينك تراقب وتدور وأنك تصبح حرا من قيود الصنعة والمباشر إن القص بضمير الأنا يعطيك مساحة أكبر في التعبير عن نفسك ومساحة أوسع في الوصف والشمولية، وابطال قصص القاسمي في ضمير الأنا ينضوون على وفق القائمة الآتية:

أبطال أطفال صغار أو صبيان

أبطال كبار مثل البطل الحامعي أو الموظف.

في الأبطال الصغار نجد المؤلف يتحدث في بعض القصص عن طفولته فيرسم صورة ناصعة لبطل مغترب إيحابي صغير بطل يتغلب على الخوف الذي اختلقه المحتمع وعاش فيه فلم يجرؤ أحد من الكبار على اقتحامه أما البطل الصغير <الأنا> فيصبح مكتشفا ينهي عقدة المحتمع تلك كأنه يقول لنا نحن حيل المستقبل نحن أصحاب العلم والمعرفة ونحن المكتشفون.إنّ الطفل البطل في القصة هو تجديد لحياة المجتمع وتصجيج لمعتقداته فقد فكّ حلقة العزلة عن امرأة ظلمها المجتمع الذي يظنها ساجرة أو حنية بينما تعيش هي على ذكريات الماضي وصور تختفظ بها لأحبة فقدتهز.إنها تعيش اغترابا سلبيا واقتحام الطفل لبيتها بصورة جريئة على وفق القانون كونه طرق الباب بصبر بعد أن نفد صبره ولم يحاول أن يقفز أو يتسلل إلى البيت فقد دخل عالما جديدا بحياة اغترابية إيجابية حصل منها على معرفة جديدة.البطل بضمير الأنا يصف ما اكتشفه في قصة الذكرى:

ووضعتْ يدَها على رأسي برفق، وقبّلتْ وجنتي بحنان، وأَوصدتْ الباب خلفي في تُؤدة.

وفي الزقاق، شاهدني أَحدُ الرفاق من الأطفال، وأنا أخرج من دارها، فقال لي بدهشة:

ـ هل رأيت الجِنِّيّة؟!

أجبتهُ باقتضاب:

ـ إنَّها على غير ما كنّا نظنّ.

ومضيتُ إلى منزلي بصمت.

فلماذا لا يكون دخول البيت الغامض لنا هو قراءة تاريخنا الذي فهمناه خطأ وما الطفل إلا رمز للجيل الجديد الذي عليه أن يبر أغوار الماضي ليعرف الحقيقة ويدرك نفسه جيدا؟

أما البطل الطفل الثاني فتجسده قصة <السباح> البطل يتحجث بضمير الأنا وشخصية الغائب هو موازية له من حيث الأهميّة البطل عمره أثنا عشر عاما وأخوه ستة أعوام الكبير سباح ماهر يروم أن يعلّم أخاه الصغير السباحة فيغتنم فرصة سفر الاب في شغل ليقنع أمه أن تسمح له باصطحاب أخيه إلى النهر، وهنا يبدو لنا زمن مستقطع هو زمن السفر الاغترابي للأب الذي يستغله البطل من أجل فعل يظنه منفعة أو خيرا يذهب مع أخيه إلى النهر ومن المدهش أنه يمارس تمرين أخيه فيغفل عنه دقائق ولم يعد يراه أما الأخ ذو الأعوام الستة قيغط غطة طويلة.هنا لدينا زمن اغترابي قصير يستغله الشخص الثاني في القصة يريد أن يصادق الماء فيبقى داخله أطول فترة ممكنة إلى درجة أنّه يظنّ نفسه غرق.وهنا نصل إلى ذروة الاغتراب الإيجابي الصغير البرئ يتطهر يمنحه أخوه درهما شرط الا يقول للأمّ أنّه غرق لكن من خلال الحوار الآتي نجد أن الطفل يرفض أي عرض مقابل أن ينكر الحقيقة:

ولكي أبرهن له على صدق وعدي. أخرجتُ آخر درهم لدي ودسَستُه في يده، قائلاً له وأنا أفتح باب المنزل:

ـ على شرط أن لا تُخبِر أُمّك ولا أختك بتلك الغطسة.

ما إنْ دخلنا المنزل، واستقبلتنا أُمنا باسِمةً فرِحةً بعودتنا، حتّى صرخ حسن بأعلى صوته قائلاً:

ـ ماما، أنا غرقتُ في النهر. أتعرفين؟ أنا غرقتُ.

عند ذلك أمسى وجهي أكثرَ اصفراراً، وقلتُ لأُمّي بعينيْن مُنكسرتَيْن وبنبرةِ اعتذار:

ـ صدّقيني، يا أُمّي، أنَّني قرَّرتُ إذا غرق حسن، فإنَّني سأُغرِق نفسي معه، ولن أعود إليك.

قالت أمّي:

ـ يا لِخيبتي! يا لِلذَّكاء! لكي تنكبني بولدَيَّ كليهما، بدلاً من ولدٍ واحد.

إن ّ صبيّا بعمر 12 سنة يفكر بالإقدام على الموت فيما لو حدث مكروه لأخيه بسببه وهو تفكير بمسألة عظيمة لأنّ الموت لا يخص البشر وحدهم بل ايشمل المخلوقات كلها[xi] وقد ورد التفكير في سره ومعناه منذ ملحمة جلجامش مرورا بالعهد القديم أو كما يقول النصّ الدنماركي إن حهود الأطباء تنحصر فقط في تأجيله لكنّ بطل القصة يختصره في لحظات فلو مات أخوه لانتحر غرقا هو موقف اغترابي سلبي أمّا الزمن القصير جدا الذي مارسه الصغير تحت الماء فهو بالتأكيد أقلّ من دقيقة، وهو زمن الاغتراب الإيجابي حين اختفى الصغير في النهر تلك اللحظات التي تداخلت بطفولته فانطبعت بسلوكه وتقدمت به خطوة أخرى نحو الرجولة.أي مايشبه غيبة النبي يوسف في الجب التي توافقت مع نبؤته فتغلبت على اغتراب إخوته السلبيّ وتجدر الإشارة إلى أن التبي يوسف الذي مارس العلاقة مع الماء في الخب هو الشخصيّة الأولى في القصة أما الصغير الذي مارس الغوص في الماء فهو الشخصية الثانية.

إنّ فلسفة الموت في قصص الأخوة تتخذ في أغلب الأحيان وحهة اغترابية سلبيّة سواء أكانوا أكثر من أخ أم أخوين فمنذ قتل ثابيل أخاه هابيل احهت بنا القصص نحو التناقض، فيما بعج ظهر أخوة يوسف، وفي الآداب الأوروبية نقرأ الكتب ونسمع الموسيقى عن أخوة الدم وهي قصة عن أخوين يولدان في عائلة فقيرة تتبنى أحدهما عائلة غنية والآخر يبقى مع أمه يعيش فقيرا فيتحرف وأخيرا يتنافسان على حب افتاة فيقتل الأخ أخاه[xii] وقد اسنوعبت السينما العربية الفكرة ذاتها فقدمتها في أكثر من شريط، أما القاسمي الذي استوعب درس الأخوين فإنه نآى بهما عن العنف وجعلهما ينسجمان باغتراب آخر إيحابي لايتحكّم فيه الموت بل خاطر الموت البعيد فيما لو أخفق الأخ الصغير في تحربته الجديدة ولم يخفق لكنه انتقل إلى حالة أخرى من الوعي والتطهير.

وتتمثل شخصية الأنا والهو أي المتكلم والغائب في قصة < لقد سقاني القهوة> في انسجام تام فتبدو الشخصيتان على اختلاف من الناحية الفكرية.الابن واقعي لايؤمن بالأحلام ونتائحها كونه متعلما ذا ثقافة والأب يؤمن الأحلام والغيبيات إنه ليس شخصية سلبية تمارس الاغتراب وتتخذه نهحا سلبيا فتنحو به منحى التشاؤم بل الهو شخصية تتخذ من الحلم وهو اغتراب زمني داخلي منهحا للتفاؤل

" لا تخَفْ، يا ولدي، فقد رأيتُ حُلُماً الليلةَ البارحة. رأيتُ نفسي واقفاً أمام لوحة الإعلانات في مدرستكَ، وقد علّقوا عليها قائمةً بأسماء الناجحين، واسمكَ الأوََّل في القائمة."

تهلّلَ وجهُ أُمّي بالفرح، وارتفعتْ أصوات أخوتي بالتهنئة، إذ كانت لهم ثقةٌ مطلقةٌ بأقوال والدي وأفعاله. أمّا أنا فقد أخذتُ قوله على سبيل الشفقة عليَّ، والتسكين والطمأنة لي، لئلا تسوء صحّتي بسبب القلق والتوجُّس.

وقد تطالعنا شخصية الغائبة مع الأنا في منهج اغترابي يتحول من السلب إلى الإيجاب مثل شخصية جميلة التي تخطئ عن عمد لكنها تصحح خطأها فتتعايش مع الموسيقى الأندلسية والموسيقى الأندلسية موضوع اغترابي قوّمت به البطلة مسارها فاندمجت بعالمه، وهناك البطلة في قصة< > التي حملت في فترة الخطبة ونخلى عنها خطيبها كونها فقيرة في القصة انتقل البطل من اغتراب إيجابي إذ كان يحاول العمل والسعي في المجتمع الجديد وعندما تحقق له ماأراد تخلى عن خطيبته الفقيرة ولم يشفع لها أنها حامل منه فبدت خلال كفاحها المسنمر أنها تعايش في محتمعها اغترابا إيجابيا على الرغم مما مرت به من مأساة.

وقد نحج في قصة من قصصه شخصيّة موازية في موقفها الإيجابي من شخصية تاريخية مثل قصة <غزال يستجير بفلاح> وتعنى القصة بغزال طارده إبان احتلال الإنكليز للعراق ضابط إنكليزي فلجأ إلى خيمة بدوي فمنع الضابط الإنكليزي من أن يقتل الغزال وحدثت مشادة بينهما فقتل البدوي الضابط وتذكّرنا هذه القصة الحقيقة التي عايشها أشخاص معاصرون للسارد بشخصيّة مجير الجراد الذي ضرب المثل به <أحمى من مجير الجراد> وهو مدلج بن سويد الطائي الذي طارد قوم سرب جراد فحط على خيمته وحين جاء الصيادون ليلتقطوه قال لهم لقد استجار بي وستتحول الشمس ‘لى ناحيته بعد ساعة فإذا طار وابتعد عن خيمتي لكم الحق في صيده[xiii] وللموازنة بين القديم والحديث نقول إنّ الشخصية الجاهليّة لم تعش حالة الاغتراب لكن الشخصية المعاصرة وعت العادة القديمة في حماية الحار ومارست الجفاع عن النفس ثم قُدِّمت إلى المحاكمة وعاشت اغترابا حقيقيا بعد المحاكمة لتواحه بعج سنوات الاغتراب الحكم بالموت من جديد.

علينا أن ندرك إذن أن هانك شخصية رئيسية بضمير الأنا الذي إما يكون بطلا أو مراقبا ساردا للحدث وشخصية الهو التي تكون إما سلبية أو شخصية شريرة مثل الضابط الإنكليزي أو شخصية سلبية مثل شخصية مزيد العلوان في قصة <حسناء وأختاها> القصة رقم 12 حيث يمارس كريم وهو شخصية ثانوية اغترابا إيجابيا في بداية قدومه إلى المغرب ثم يتخلى عن كل ذلك ويوغل في اغتراب سلبي بعد أن يصبح ذال مال، ومن الشخصيات السلبية الرئيسية مثل شخصية جانيت الباريسية التي يكتشف البطل أنها رغبت في عرضه الصداقة للانتقام من حبيبها والحبيب السابق نفسه يمارس اغترابا سلبيا حين يتخلى عنها ويصادق عربية لبنانية وينتبه البطل في النهاية لكل ذلك فيرفض أن تذهب معه إلى شقته<القصة رقم 13> الخيانة والانتقام.

في قصة الشخصيّات تبقى إشارة مهمة إلا وهي إن بعض الشخصيات التي تحدث عنها السارد بضمير الغائب المؤنّث<هي>قج لا تكون تمارس اغترابا إيحابيا أو سلبيا بل هي شخصيات مهاجرة تركت أوروبا للعمل في الشرق مثل السيدة سيرليان دولي ومادموزيل كوليت حيث تعمل الأولى أستاذة للغة الإنكليزية في الجامعة الأمريكية ببيروت والأخرى لها في العاصمة اللبنانية محل وكلتلهما مهاحرتان وللثانية تاريخ عريق في الأدب والفكر ورثته من حدها الكاتب المشهور وقد عادت بعد هجرتها إلى باريس وتوفيت هناك.

الأدوات

هناك رموز للطبيعة المتحركة مثل الطيور والحيوانات والطبيعة الحية الساكنة كالنبات استخدمها الكاتب لتعزيز قصص السيرة ومنحها افقا فلسفيا واغترابيا من هذه الأدوات:

البط:

أعطى الكاتب الشخصيّة الثانية في قصة<وفاء> الرقم 2 فهي توازي بطل القصة الطفل الذي يتعلق ببطة اشتراها له أبوه فأصبحت صديقة التي تودعه حين يذهب إلى المدرسة وتنتظره حين يعودـأ أود الإشارة إلى أن البط على وفق التصوّر العالمي يرمز إذا ما ظهر في الحلم إلى التفاؤل ابطة التي تمشي أو تطير فإن خبرا يصل إليك بالبريد والبط الذي يسبج يشير إلى حالة صحية حيدة وعلامة على أنك تتغلب على مناوئيك[xiv] والبط في قصة السيرة وفاء يحقق لللبطل سعادته على حساب اغترابه هو ذلك الاغتراب الذي لا نحس به إلا في النهاية فالبط يسبح ويطير ويتعايش مع البطل الطفل لكنه في الأخير يطير مبتعدا حين يرى سربا من طيور البطل مهاحرة في السماء فيلتحق بها عندئذ نشعر أنه كان يعاني من اغتراب نفسي بل هو اغتراب إيجابيّ كونه أضفى على البطل الصغير سعادة غير متناهية.قصة البط تذكرني بشريط سينمائي شاهدته في كوبنهاغن عام 1989 يحكي قصة شاب يربي حيوانا يسمى ثعلب الماء

Otter

لا أتذكر اسم الشريط ولا تفاصيل القصة غير أن مابقي منها في ملامحي أن ثعلب الماء يترك البطل الشاب حالما يرى ثالب الماء في النهر فينضمّ إليها وقد تلخص ما نحن بصدده القصة القديمة الطبع غلب التطبّع.

الغزال

تأخذنا قصة غزال يستجير بفلاح إلى قدسية الغزال في فكرنا العربي القديم لارتباط الغزال بمسألة العبادة فقد كانت الشمس تسمى عند العرب بالغزالة، والغزالة كانت موحودة على ظهر الكعبة، ويقال إنّ الحارث بن عمرو جد الشاعر امرئ الفيس طارد غزالة فصادها وأكل منها فمات.وحدث أن هلكت أمة من الامم لأنها لأنها طاردت غزالة لحأت إلى الكعبة فرمتها بسهم[xv]

إن الحيوان نفسه حين يمارس الهرب إلى مكان مقدس يمارس اغترابا إيحابيا لحماية نفسه فالكعبة تؤوي الحيوان وخيمة الفلاح أو البدوي تؤوي الطائر إن المادة أو الأداة هي بنظر البنيويين واحدة وإن تغيرت المسميات.

القهوة

بالرجوع إلى تراثنا العربي حقبة ما قبل الإسلام التي أطلقنا عليها العصر الجاهليّ نحج أن كلمة قهوة تعني الخمر ورد في المعاجم اللغويّة :قهوة من قهو وهو فعل يجل على الخصب ورجل قاه كثير الخصب وسميت الخمرة بالقهوة لأنها تغني شاربها عن الطعام والخمرة ما أسكر من عصير العنب [xvi] يقول الأعشى في معلقته الشهيرة

وفتية كسيوف الهند قد علموا أن هالك كل من يحفى ةينتعل

نازعتهم قضب الريحان متكئا وقهوة مزة راووقها خضل[xvii]

ويمكن أيضا في عصر متأخ مراحعة ديواني أبي نواس وابن المعتز في التغزل بالقهوة الخمرة، ويبدو أن القهوة بمفهومها المعاصر تتخذ موضعين في قصصه الأول ذكرها بصفتها عادة يتناولها المرء في المقهى أو عند الصباح وفي أوقات معينة أو تقديمها للضيوف، بصفتها علامة ترحيب ولكونها تدل على الراحة وحبة لها نحده يترحم لنا قصيدة في القهوة لشاعر فرنسي قصة الصجيقة الفرنسية رقم14

صبَّ القهوة

في الفنجان،

وصبَّ الحليبَ

في فنجان القهوة،

ووضع السكر

في القهوة بالحليب،

وبالملعقة الصغيرة

خلطها..

شربَ القهوة بالحليب،

وحط الفنجان

والموضع الآخر علاقة القهوة بالأصالة والمستقبل فقد أصبحت القهوة مرادفة لكلمة عربي نقول القهوة العربية أو القومية التركية كما يصفها الغرب بكلمة قهوة تركية على الرغم من أنها قدمت إلى البلاد العربية من أثيوبيا في القرن 16 وجخلت إنكلترة في القرن 17 عبر الرحالة الذين كانوا يصفون ذلك الشراب الذي يتناوله المسلمون في مقاهيهم[xviii]، وقد خصص الكاتب عنوانا لقصة من قصص السيرة هي قصة لقد سقاني القهوة فحاءت تعبر عن الأصالة العربية والمستقبل معا.لقد قلنا إن معنى القهوة القلب من السلب إلى الإيحاب فالكلمة التي كانت تدل على معنى سلبيا يجعلنا نغترب معنه الإسلام فحاءت مادة أخرى غير الخمرة حعلناها تحمل معنى الخمرة[xix] فدلت على الخير في القصة البطل الشاب ينهي دراسته الثانوية لكنه شارك في مظاهرات تشحب بعض سلبيات الحكومة وخشي ألا تمنحه الدائرة الأمنية نصريحا بالدخول إلى الجامعة فيصحب أباه معه إلى تلك الدائرة وفي بابها يلتقيهما رجل يسقي القهوة ويختفي وعندما يدخلان يسألان عنه فينكر الموظفون أن هناك شخصا بهذه المواصفات يعمل معهم ويحصلان على التصريح.لقد قرأت القهوة مستقبل ذلك الشاب الذي أصبح فيما بعد

يحتل مركزا مهما ورحلا مشهورا.والعحيب أن القهوة الغريبة عنا المنبهة أساسا مسحا فعل القهوة الخمر فأصبجت تدل على أصالتنا ومستقبلنا.

على وفق هذا المنظور كان من المفروض أن تسير الحياة برمزها الإنساني القهوة نحو الممارسة للاغتراب الإيجابي لكن هناك بعض المظاهر التي تشذّ عن القاعدة فقج كان السارد يتناول القهوة في مقهى فيصل مع الشاعر اللبناني المرموق خليل حاوي الذي انتحر فيما بعد بسبب غزو إسرائيل للبنان وأثر هذا التغرب والاغتراب السلبي في نفس القاص قصة رقم 8 أستاذني الدكتورة سيرلين ديلي.

النهر

النهر يمثل الطبيعة الحيوية المتحركة وفي فلسفة اليونان ورد أنك لا تدخل النهر الواحد مرتين لأن مياها جديدة تجري من حولك أبدا[xx] بإمكاننا أن نبدل كلمة النهر فنضع مكانها البحيرة أو البئر على وفق رأي البنيويين الذي يرون أن الكلمة المرادف يمكن أن تحل بصفتها بديلا يؤدي المعنى نفسه[xxi] واللافت للنظر أن الكاتب في قصص السيرة تحدث عن نهر بلدته في قصتين من قصصه هما الدرس الأول وقصة وفاء بصفة النهر تطهيرا ووسيلة معرفة لاغتراب إيحابي جديد، إن النهر أو الماء بلا شك وسيلة تطهير في كل الثقافات والأديان[xxii]، في التطهير يمثل النهر غرق الأخ ورحوعه إلى الحياة وهو اغتراب إيجابي.قصة السباح.

المعرفة: الأب يصطاد السمك من النهر ويعيده إليه والسمك يرتبط بالمعرفة قصة وفاء، وفي قصة الصديقة الفرنسية نجد الكتب حنب النهر:

 

وبعد درس يوم الأربعاء، اختارت جولييت أن نسير إلى الضفة اليسرى لنهر السين التي لا تبعد كثيراً عن السوربون، وذلك لنعبر إلى الضفة اليمنى ونجلس في أحد المقاهي في ساحة كاتدرائية نوتردام دي باريس. وفيما كنا نسير مستمتعين بمنظر النهر الذي كانت تمخر فيه أنواع مختلفة من القوراب والسفن، توقفتْ عند أحد أكشاك بيع الكتب القديمة المنتشرة على الضفة اليسرى من النهر، وسألت صاحب الكشك عن الطبعة الأولى لديوان " كلمات " للشاعر جاك بريفير، فأخرج الرجل الكتاب واقتنته جولييت.

الكرة:

وردت الكرة في قصة ذكرى وهي الأداة الوحيدة التي سقطت في منزل المرأة المعتزلة التي يظنها الأطفال جنية ونظن أن الكرة ترمز هنا إلى اغتراب العالم وحهلنا بالآخرين الذين يمارسون غربة إيجابية مقابل اغترابنا السلبي عنهم.

 

د. قصي الشيخ عسكر

..............................

[i] Etymology on line dictionary(alienation)

[ii] Fremmed ord I danske

[iii] ابن منظور لسان العرب، مادة غرب

[iv] الفيروزآبادي، المثلث المختلف المعنى، منشورات جامعة سبها، 1988، مادة غرب ص 287

[v] الفلاحي، الدكتور علي إبراهيم، الاغتراب في الشعر العربيّ في القرن السادس الهجريّ، ط 1، 2013 عمان الأردن، ص15.

[vi] تكوين 47\9

[vii] صحيح مسلم، رقم الحديث، 2145، ابن ماجة 3986، بحار الأنوار 52\191.

[viii] لسان العرب مادة رعي

[ix] Faber Birren، the symbolism of color، Citadel press1988 p7.

[x] يراجع كتاب الدكتور حسين سرمك، رسالة وجودنا الخطيرة، 2020 ص 34، كذلك قصي الشيخ عسكر رواية رسالة.

[xi]Bent A.Koch، Den sidste Fjende، København، 1969.p14، 59

[xii]Blood brothers، Willy Russel، Samuel French، London، 1985

[xiii] راجع بصدد القصّة : الميداني، مجمع الأمثال، المثل أحمى من مجير الجراد

[xiv] Edwin Raphael، The complete book of dreams، foulsham، Great Britain p120

[xv] راحع كتابنا معجم الاساطير والحكايات الخرافية الجاهلية نشر دار الوراق عمان الأردن، 2014، مادة غزال، غزال الكعبة

إضافة إلى كتب التراث مثل الأغاني معحم مقاييس اللغة مادة عفر، جيوان حسان بن ثابت ص26 – 30.

[xvi] لسان العرب مادتي قهوة وخمرة

[xvii] الشنقيطي، شرح المعلقات العشر، حققه محمد عبد القادر الفاضلي، بيروت المكتبة العصرية، 1426 للهحرة 2095 م، ص207-208

[xviii]Phil Withington، Puplic and Private Pleasures، history today، vol70، Issue6June2020، p16-17

[xix] المنقلب والمتحول من الكلمات مخطوط مادة قهوة

[xx] د جعفر آال ياسين، فلاسفة يونانيون، طبيروت، 1972 ص18

[xxi] D.W Fokkema، theores of literature in the tweneeth century، 197926.

[xxii] فيليب سيرنج، الرموز، ترحمة عبد الهادي عباس، دار أمل، جمشق، 1992، ص353

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم