أقلام ثقافية

زائري الغائبُ طويلاً يعود من جديد

jawadkadom gloomفي مسار حياتنا محطّات جميلة يصعب نسيانها لأنها جزءٌ لايتجزّأ منا، تتشّكل في ذاكرتنا الفردية والجمعية وتصبح علامة بارزة وملمحا واضحا من مكوّناتنا الموروثة ولو اختفت بعضها بسبب التغيّرات التي تطرأ على المجتمع، نتحسس فقدانها ونمنّي أنفسنا بان تعود، ومن تلك الملامح الرائعة التي تجلب السعد والهناء في النفس البشرية والتي غابت عنا هي شخصية ساعي البريد، حيث كنّا نترقّبها بكل شوق ولهفة لتنقل لنا أخبار وأوضاع وحكايا أحبّتنا البعيدين عن أنظارنا والأقرب الى قلوبنا، فمازلت اذكر صديقنا الحميم ساعي البريد وهو يركب دراجته الهوائية ببدلتهِ المميزة ويضع جرابين على شكل جيوب يعلقهما في المقعد الخلفي الصغير للدراجة الهوائية التي يعتليها يضع فيهما مظاريف الرسائل ويجول من مكان الى اخر يوزع الرسائل والطرود الصغيرة الى هذا الجار وذاك القريب وينقل الينا بشارات الاهل والأحبة المقيمين بعيدا عنا وأخبارهم ومجريات حياتهم في بلدان الغربة والمناطق النائية في وطننا الجميل

ففي زمن العولمة واتساع التواصل وطيّ المسافات البعيدة بلمح البصر، ضاع ساعي البريد في الدروب الوعرة من حياتنا الصاخبة هذه وتاهت درّاجته في عوالم وأزقّة ومتاهات الغوغل والياهو والهوت ميل وغيره الكثير مما لايعدّ ولايحصى من وسائل التقريب واختفت رسائل الشوق الحميمة الملأى بالعواطف والأحاسيس الصادقة وعوّض عنها برسائل الايميل والماسنجر والسكايب والواتس ساب والفايبر وغيرها من طرائق الاتصال الباردة البلهاء التي لاروح فيها ولاتشجي قلبا لاهفا ولا تهدئ عيونا ذارفة الدمع

تمزقت اوراق الرسائل المختومة بالورد، والمرسومة بقلب اخترقه سهم الحب والقبلة التي طبعناها على ورق الرسائل بشفاهنا، اختفت بفعل غبار العولمة وصارت قبلاتنا تمرّ عبر زجاج شاشة الحاسوب بلا ملمس اليد النديّة وأثَر الشفتين المطبوعتين على الورق بأحمر الشفاه واصفرّت الزهور التي كانت مطبوعة على اوراق الرسائل بعد ان حلّ خريف الجفاء والفرقة وتغلّب على سخونة وحرارة العلاقات الانسانية ودفء الترابط الحميم بين الأهل والمعارف والأصدقاء والمحبّين الاباعد

تطايرت رسائل الامس المفعمة بالحرارة بعد هبوب العواصف القارصة البرد في اجوائنا وتناثرت أوراقها بعيدا ولم يعد باستطاعتنا اللحاق والامساك بها لأن الزمهرير الذي استقرّ في نفوسنا ماعاد يتلطّف علينا فجمدت أحاسيسنا وانكمشت أصابعنا بردا حتى عجزنا ان ننفخ فيها بأنفاسنا الحرّى منذ ان كنّا صغارا ونحن نتّجه الى مدارسنا في صباحات البرد لعل دفئا عابرا يتسلل اليها ويعيد لها نشاطها ... ولكن هيهات

الاسبوع الفائت طُرقتِ البابُ بقوّة مرتين متتاليتين، نهضت فزعا من غرفتي لأرى من الطارق، وانا هنا لااتحدث عن فيلم اسمه " ساعي البريد يقرع الباب مرتين " الذي شاهدته ابان الثمانينات من القرن الماضي وهو يسرد لنا قصة زوجة جميلة شابّة وجذّابة مفعمة بالرغبة والاشتهاء تعيش مع زوج عجوز أقعدهُ الهرم وغادرته الفتوة ولم يعد يوفيها متطلباتها الجسدية وفجأة يدخل حياتهما رجل وسيم، غريب، مفعم بالفحولة يقلّب حياتهما رأسا على عقب ويثير في الزوجة مكامن الانوثة والعواطف الجيّاشة ... بل ان حديثي يحكي عن ساعي بريد غاب عنا طويلا حتى نكاد ننساه مثلما نسينا الكثير من الأشياء التي ألفناها وعاشت معنا ردحا طويلا وصارت جزءا عزيزا من تكويننا وها هو الساعي يطلّ عليّ مخترقا اسوار الماضي المحصّنة متسللا بين زحام شبكات التواصل الحديثة الهائلة ليقف امامي وجها لوجه بعد ان طرق بابي بغتةً وحمّلني رسائل من اصدقائي المقيمين في الشتات القصيّة حاملا نسخاً من مؤلفاتهم ونتاجهم الادبي هديةً لي وكم كان فرحي في اوج عنفوانه وسعادتي لا تسعها الارض حينما وقّعت بالاستلام ووضعت قبلة على جبين زائري الذي افتقدته منذ أمَد ليس بالقصير

ومثل طفلٍ صغير يفاجأ بهدية جميلة تبعث فيه السعادة والحبور فقد اخذت طرد الكتب وشممتُها وتلمّستها بقوة وكأنّ الصديق الغائب يصلني بلحمه وعظمه وشحمه، أتحسس وجوده معي وحواسّه قبالة حواسّي وأنفاسه تتخلل أنفاسي وصدى كلماته تصل الى أسماعي رائقة واضحة النطق وكم كانت بهجتي لاتوصف بهذا التواصل المفرح مع اني لم انقطع عن أحبّتي والمقربين اليّ من شعرائنا وكتّابنا الذين زاملوني أيامئذٍ وأتقنت استلام وتسليم كتب المعارف والاحبّة والاصدقاء بطريقة ( pdf (المعتادة الكترونيا

لاشك انكم تتذكرون الجملة اللازمة التي غالبا ماكنّا نراها في مظاريفنا الاوَل "شكرا لساعي البريد" غير انني بعد ان قبّلته وصافحت يده تمنيت من الله ان يعيد شيئا من بهاء وحلاوة ذلك الزمن المرهف بالمشاعر الصادقة النبيلة والعلاقات الحميمية المليئة بالحنوّ

ودّعت زائري الخفيف الظلّ غير مفارقٍ لأنه وعدَني بزيارة لاحقة ...فاردفتُ قائلا وأنا ألوّح بيديّ امتناناً : شكرا لعودتك ساعي البريد، انت أضفيت ليومي هذا لمسة حانية لم نعتد عليها في واقعنا الاجرد الذي نعيشه

 

جواد غلوم

في المثقف اليوم