أقلام ثقافية

أداة الجريمة: قلم

الكاتبَ ليس سوى قاتلٍ يُمارسُ مهنتهُ بطريقةٍ حَضارية.

بالنسبةِ له تكونُ ساحةُ الإعدامِ هي الورَقة، ويكونُ القلَمُ بمَثابةِ السيفِ الذي سيَهوي على الكلمةِ ليقطعَ رأسها فتَسيلُ المشاعرُ على أرضِ الساحة. كما يتفَنَّنُ القاتلُ في خلقِ فنونِ القتل، يتفَنَّنُ الكاتبُ في تذليلِ المَنطقِ وجَرّهِ إلى الاعترافِ بجَريمتهِ النَكراء. نعم يا صديقي، فمن وجهةِ نظَرِ الكاتبِ لقد ارتكَبَ المنطقُ أبشعَ جريمةٍ عرفَتها البشَرية، ألا وهي جريمةُ إضفاءِ الرَتابةِ على كل شَيء، إذ أصبحَت الأشياءُ تنتَمي لمنهاجِ التِكرارِ المؤلم، وهذا ما يدفَعُ الكاتبَ لانتشالِ قلَمهِ في كل مرّةٍ دون تَوبة. إن الوَتيرةَ المُتَّسِقةَ وتِكرارَ الواقعِ هو ما يجعلُ الكاتبَ يكتُب، فالكُتّابُ يُفّضِّلونَ الاحتراقَ بسَعيرِ البَوح على ألا يغرقَ أحدُهم في مُحيطِ الصَمتِ الذي يُغَلِّفُ العالم.

عندما يتَعَفَّنُ الكاتبُ من شدّةِ المَلل، يكونُ الخيارُ الوحيدُ والأقَلَّ سوءًا بالنسبةِ له هو أن يُوثِّقَ هذا العفَنَ بين أوراقه، أن يُقَشِّرَ تلك اللحظةَ الكبيرةَ المؤلِمةَ ليستَخرجَ منها نواةَ العِبرة، ثم يقومُ بطَحنِ تلك النواةِ وتوزيعها على البشَر ليَصيغَها ويجعلَ منها قصّةً تستحقُّ النَشر. أليسَ ذلك بَندًا من بُنودِ الرأسمالية؟ أوَليسَت الكتابةُ وسيلةً خبيثةً للمُقايَضةِ الأنانية؟ في الحقيقةِ أنا لا أعلَم، لكنني أشعرُ أحيانًا أن الكتابةَ تجارةٌ أيضًا، ككُلِّ شيءٍ في هذه الحياةِ المادّية، لكن الاختلافَ الوحيدَ يَكمنُ في كونِها تجارةً غير رابِحة، فنحنُ ننسجُ من مشاعرِنا وذكرَياتنا أوشِحةً لتَدفئةِ القُرّاء، لنَحميَهم من صَقيعِ الوِحدة، تاركينَ أنفُسَنا ليلتَهِمها البَرد. نحنُ نجيدُ التحَدُّثَ عن مُعاناتكم يا معشرَ القُرّاء، لكننا نتَسائلُ من ذا الذي سيتحدَّثُ عن مُعاناتنا؟ في كل سَطرٍ نمنَحُكم يَدًا دافئةً مَجّانية، يدًا تفهَمكم وتُرَبِّتُ برفقٍ على قُلوبكم، في حينِ نكتَفي نحن بعَصرِ الليمونِ ورَشِّ الملحِ فوق جُروحِنا المفتوحة. ما أريدُ قولهُ هنا هو أن الكتابةَ ليسَت سوى وسيلةٍ بسيطةٍ لتَجميدِ الشُعور، كقطعةِ جَليدٍ مُلتَهِبة، كثَلجٍ حارٍّ شاذ. وذلك لا ينفي كونَها عادةً مريحةً جدًا للنفسِ والعقل. إذ أنها أسهلُ طريقةٍ للانتقامِ من تَجاربِنا المؤلمة ومَواقفِنا السيئة. إن الحُرّيةَ المُرفقةَ بعمَليةِ الكتابةِ تشبهُ حُريةَ القَتل، كما يقولُ الكاتبُ المصري أحمد مراد على غلافِ كتابه: " لو لم أكُن كاتبًا لوَددتُ أن أكونَ قاتلاً مُتَسَلسلاً. " تُعَدُّعمَليةُ الكتابةِ قمّةً في الازدواجيةِ والتناقُض، إنها قَيدُ الحُرية، إنها الحياةُ والموت، الولادةُ والقتل، إنها قانونٌ يجتمعُ فيه العَفو والجَلد، مَزيجٌ مُتناغِمٌ من الصخَبِ والهدوء، من المنطقِ واللامنطق، تاريخُ ولادةِ النَشوى وشاهِدُ قبرِ الأمل. عندما نكتُبُ نقتلُ الآخرينَ في أعماقنا ونُعلِنُ انتهاءً صلاحيتهم، ولكننا في ذاتِ الوقتِ نُخَلِّدهم بطريقةٍ ما. تمنَحُنا الكتابةُ رَفاهيةَ القتلِ بطريقةٍ مشروعة، فكم من جريمةٍ ارتُكِبَت في الخفاء، وأداةُ الجريمة قلَم.

***

بقلم الكاتبة مينا بشير

 

 

في المثقف اليوم