أقلام حرة

قاسم حسين صالح: الأربعينية أكبر تظاهرة دينية بهوية إنسانية

لم تعد زيارة الأمام الحسين تخص طائفة.. نعم، كانت تخص طائفة يوم شعر الطاغية ان الزيارة الأربعينية صارت خطرا عليه، اما الآن فانها اصبحت تخص كل الطوائف والأديان والأقوام، وصارت اربعينيته، برغم انها اكبر تجمع ديني عالمي، أشبه بمؤتمر انساني عالمي للتلاقي الفكري والتواصل المعرفي والتلاحم الاجتماعي بين المسلمين من مختلف دول العالم، تسود ملاينها مشاعر المحبة والأخاء والأنسانية، ويوحدهم شعور نبيل وعظيم هو ادراكهم أن هدف ثورة الحسين هو تحرير الأنسان من الظلم والطغيان وان يعيش بكرامة في نظام قائم على العدالة الأجتماعية.

ليس هذا فقط، بل أن زيارة الأربعين وفرت، في سنواتها الأخيرة، فرصة استثنائية لأكتساب ثقافات وافكار جديدة من مجتمعات اخرى لديها ثقافات اخرى. وان الأجواء السيكولوجية للمناسبة اشاعت بين المشاركين روح التفاهم والتسامح والتعايش السلمي ونبذ الكراهية والطائفية والتعامل مع الناس بالتساوي.

وما يدهشك ان ثورات عظيمة في التاريخ، باتت الآن منسية، فيما ثورة الحسين تتجدد وتبقى خالدة رغم ان القائم بها كان رجلا واحدا، وانه مضى عليها اكثر من الف عام.. والسبب هو ان موت الضمائر وتهرؤ الاخلاق والزيف الديني هي التي تشطر الناس الى قسمين:حكّام يستبدون بالسلطة والثروة، وجماهير مغلوب على امرها.. فتغدو القضية صراعا ازليا لا يحدها زمان ولا مكان، ولا صنف من الحكّام او الشعوب.ومن هنا كان استشهاد الحسين يمثل موقفا متفردا لقضية انسانية .. عالمية مطلقة، مادامت هنالك سلطة فيها:حاكم ومحكوم، وظالم ومظلوم، وحق وباطل.. ما يعني أن زيارة الأربعين تكتنز قيماً ومبادئ اجتماعية ودينية وثقافية وسياسية ينبغي ان يوليها الأعلام العراقي اهتمامه بالتركيز عليها وتغليبها على الأنفعالات المبالغ بها بضرب الزنجيل وتلطيخ الرأس والوجه بالطين، التي ادانها الشيخ احمد الوائلي وخاطب الشباب أن (تادبوا بأداب الحسين، تخلقوا باخلاقه) ودعاهم الى ان يحملوا فكر الحسين. ومن جميل ما حصل في السنوات الأخيرة من شباب نقيض هؤلاء انهم نصبوا في طرق المشاة الخارجية من بابل والنجف الأشرف وبغداد الى كربلاء المقدسة سرادق ثقافية تعرض فيها الكتب والكراسات بعناوين ذات اهتمام الناس، وتحت شعار: "طالع ساعة واحصل هدية كتاب"، في تجربة متطورة لاقت اعجاباً وتفاعلاً من الشباب على وجه التحديد.

وقضية اخرى لم ينتبه لها كثيرون، ان ثورة الامام الحسين تنفرد بتعدد النظريات التي تفسر اسبابها، والشائع منها تمنحها هوية سياسية او اسلامية فيما الهوية الحقيقية لها انها ثورة اخلاقية. فلو كانت سياسية فان هدف القائم بالثورة يكون الوصول الى السلطة فيما الحسين كان يعرف انه مقتولا.ولو كانت اسلامية لما تعاطف معها مسيحيون وقادة غير اسلاميين بينهم غاندي، فضلا عن ان الحاكم (الخليفة) كان يحتاج الى الدين لبقائه في السلطة، وتلك قضية كانت غائبة عن الأعلام العراقي لسنين.

ودرس آخر نتعلمه.. يتعلق بـ (المبدأ)، فقد كان بامكان الحسين ان ينجو وأهله واصحابه بمجرد ان ينطق كلمة واحدة:(البيعة).. لكنه كان صاحب مبدأ: (خرجت لطلب الاصلاح في أمة جدّي) والاصلاح مسألة اخلاقية، ولأنه وجد أن الحق ضاع: (ألا ترون أن الحق لا يعمل به)، ولأن الفساد قد تفشى وشاعت الرذيلة.. وكلها مسائل اخلاقية.

وكان عليه ان يختار بين: ان يوقظ الضمائر ويحيّ الاخلاق، أو ان يميتها ويبقى حيا.. فاختار الموت.. وتقصّد أن يكون بتلك التراجيديا الفجائعية ليكون المشهد قضية انسانية أزليه بين خصمين:سلطان جائر.. وجموع مغلوب على امرها، ورسالة واضحة المعالم الى كل الطغاة للكف عن أساليبهم في انتهاك حقوق الأمة، و أخرى للفقراء والمظلومين والمستلبين.. ان لا يأس مع من يقتدي بقيم الحسين، ويدرك أن هدف ثورته هو تحرير الأنسان من الظلم والطغيان وان يعيش بكرامة في نظام قائم على العدالة الأجتماعية.. ويتباهى ان الأربعينية صارت الآن اكبر تظاهرة دينية بهوية انسانية.. كربلائية.. عراقية!

***

د . قاسم حسين صالح

في المثقف اليوم