قضايا

قضايا

ثمة علاقة عميقة بين القضاء والعدالة، لأنه لا يمكن تحقيق العدالة بمعناها الشكلي أو العميق بدون قضاء، يرجع إليه المتنازعون أو المختلفون لحسم موضوع تنازعهم واختلافهم وفق الأدلة التي يقدمها المدعي أو حلف اليمين الذي يقوم به المنكر لأنه وفق القاعدة الفقهية المشهورة (على المدعي البينة وعلى المنكر اليمين).

إن من ينشد العدالة ويطمح إلى إنجازها في واقعه العام، لابد له من تطوير مؤسسة القضاء وتوفير كل أسباب نجاحها للقيام بدورها ووظيفتها كما ينبغي.. وحسناً فعل خادم الحرمين الشريفين، حينما أعلن عن مشروعه الخاص لتطوير القضاء، والذي تضمن خريطة طريق متكاملة للانتقال بواقع القضاء في المملكة من مرحلة إلى أخرى أكثر تطورا وتقدما وفعالية

لذلك فإن من ينشد العدالة ويطمح إلى إنجازها في واقعه العام، لابد له من تطوير مؤسسة القضاء وتوفير كل أسباب نجاحها للقيام بدورها ووظيفتها كما ينبغي.. وحسناً فعل خادم الحرمين الشريفين، حينما أعلن عن مشروعه الخاص لتطوير القضاء، والذي تضمن خريطة طريق متكاملة للانتقال بواقع القضاء في المملكة من مرحلة إلى أخرى أكثر تطورا وتقدما وفعالية.

والوطن من أقصاه إلى أقصاه، يتطلع إلى الإسراع في تحويل بنود هذا المشروع إلى ارض الواقع . لان تطوير القضاء أضحى ضرورة وطنية ومجتمعية لايمكن تجاهلها أو التغافل عنها.

لأن هذه المؤسسة هي حجر الأساس في تحقيق الأمن العميق للناس، ووسيلتهم القانونية لحل مشاكلهم وخلافاتهم.. ودون هذه المؤسسة، التي هي إحدى السلطات المهمة في أي نظام سياسي، تتحول الحياة الاجتماعية إلى شريعة غاب، بحيث لا ناظم لحياة الناس العامة، التي هي بالضرورة حياة ستعاني من تناقض للمصالح وتنازع على مستوى الحقوق والأولويات..

وكل هذه العناصر وغيرها، لا يمكن أن تنتظم في حياة اجتماعية سوية بدون مؤسسة للقضاء حيوية وفعالة، ولها سلطتها الرمزية والمادية لتنظيم حياة الناس بدون افتئات أو تعدّ على الحقوق من أي طرف كان..

فالقضاء هو سبيل الأمم والشعوب لانجاز مفهوم العدالة، وهو القادر وفق القانون لإعادة الحق أو الحقوق لأصحابها، وهي المؤسسة التي يناط بها صيانة وحماية الملكيات والحقوق وفض النزاعات والخصومات ومنع التعدي على الذمم والشخصيات، والحقوق المادية والمعنوية للناس..

وكلما تعقدت حياة الناس الاجتماعية والاقتصادية وتداخلت حقوقهم وذممهم المالية، تعمقت الحاجة إلى قضاء متطور وفعال، لكي يستوعب جميع المتغيرات والتطورات.. بحيث لا تتحول هذه المتغيرات إلى وسيلة أو مبرر لتضييع الحقوق والكرامات..

لهذه الاعتبارات وغيرها، اعتنت الشريعة الإسلامية بخصائص وصفات القاضي، لأنه المؤتمن على تطبيق القانون وتنزيل نصوص الشريعة على الوقائع الخارجية..

لذلك من الضروري أن يتصف القاضي بمجموعة من الصفات، حتى يكون مؤهلا نفسيا واجتماعيا وعلميا لتحمل مسؤولية القضاء بين الناس.. يقول تبارك وتعالى (إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما)، (النساء 105)..

وجاء في وصية الإمام علي بن أبي طالب إلى مالك الأشتر حين ولاه مصر (فاختر للحكم بين الناس أفضل رعيتك وأوقفهم في الشبهات، وآخذهم بالحجج وأقلهم تبرماً بمراجعة الخصوم، وأصبرهم على تكشف الأمور، وأصرمهم عند اتضاح الحكم، ممن لا يزدهيه إطراء، ولا يستميله إغراق)..

فالقضاء كما يعبر أحد العلماء يتجاوز كونه مجرد معلم ومرشد إلى الحكم الشرعي، ليكون القاضي في موقع النظر في الواقعة المتخاصم عليها..

 أولا: ليحل عقدها وتشابكها، وثانيا: ليكتشف المحق من المبطل، وثالثا: ليصدر حكما في القضايا يصلح فيه بين المتخاصمين..

لهذا فإن مؤسسة القضاء هي المعنية بصيانة العدالة الاجتماعية، وإلى تلافي وتجاوز كل ما من شأنه أن يضر بأصول التضامن والائتلاف الاجتماعي.. فتتوطد من جراء ذلك المحبة والتراحم بين أبناء المجتمع الواحد، وتزول أسباب التباغض والعداوة.. من هنا وعلى ضوء الوظائف والأدوار الكبرى والمهمة التي يقوم بها القضاء في المجتمعات الإنسانية، تتأكد الحاجة إلى بيان النقاط التالية:

1- التعامل مع مقولة تطوير القضاء وإصلاحه، بوصفها من المشروعات المستديمة، التي تتطلب باستمرار فحص الممارسات ومراقبة القضاء وشؤون تسيير معاملات الناس المختلفة.. ومن الضروري أن ندرك أن المجتمعات التي تتعامل مع الإصلاح والتطوير الدائم لمؤسسة القضاء من المهام المستديمة، هي المجتمعات التي تصون حقائق العدالة في فضائها الخاص والعام.. أما المجتمعات التي لا تعطي أولوية مستديمة لتطوير قضائها، فهي مجتمعات ستعشعش فيها المشاكل، وتتراجع فيها هيبة القضاء وستضيع بعض حقوق الناس بسبب تراجع مستوى القضاء..

لهذا فإننا نعتقد أن صيانة العدالة في المجتمعات، وهي أبرز مهمة للقضاء، لا يمكن تحقيقها بدون الاهتمام الدائم بتطوير القضاء على مختلف المستويات والصعد.. لهذا فإننا ينبغي أن لا نتوجس خيفة من دعوات تطوير مؤسسة القضاء، لأنها دعوة تعكس مدى أهمية هذه المؤسسة في استقرار الأوطان والمجتمعات.. وبدون التطوير الدائم قد تتراجع فعالية مؤسسة القضاء ما يفضي إلى بروز ثقوب عديدة في مسيرة القضاء في مجتمعنا..

من هنا فإننا ندعو إلى تأسيس إطار علمي- قانوني دائم، يعنى بتطوير القضاء ومعالجة النتوءات التي تبرز في مسيرته على مختلف المستويات..

2- لكوننا نتحدث عن بشر وعن مؤسسة بشرية، لذلك فإن النقص والتقصير هما من لوازم هذا الإنسان بصرف النظر عن موقعه ووظيفته.. ولكن للموقع الحساس وللوظيفة الحيوية التي تقوم بها مؤسسة القضاء، تتأكد الحاجة إلى تفعيل الدور الرقابي والمحاسبي للقضاء والقضاة .. فلا تطوير للقضاء إلا بتطوير القاضي نفسه علميا وأخلاقيا وسلوكيا.. والقاضي الذي يقع تحت إغراء المال أو مقتضيات القرابة ينبغي أن يصوب،

وإذا تكرر منه العمل يعاقب، وذلك للحفاظ على مؤسسة القضاء نزيهة وبعيدة عن كل أشكال الانحراف والفساد.. لأن فساد القاضي مع السكوت عنه، يفضي إلى مخاطر ومفاسد عديدة .. ولا قدرة لنا لمقاومة هذه الأشكال من الانحرافات إلا بتطوير أجهزة المراقبة والمحاسبة.. فثمة أخطاء يصل بعضها إلى مستوى خطايا، ارتكبها قضاة تحت تأثير الإغراء المالي أو ما أشبه، كلفت مجتمعنا ووطننا الكثير على المستويات كافة..

وحتى لا تتكرر هذه الخطايا، نحن أحوج ما نكون إلى القطيعة النفسية والعملية مع النزعات النرجسية، التي تغطي على عيوبنا، لأن هذه النزعة ساهمت بطريقة أو أخرى في تراكم بعض هذه الأخطاء.. فليس عيباً أن يخطئ القاضي أو يقع تحت تأثير إغراءات أو عوامل ليست منسجمة ومعايير النزاهة والعدالة، ولكن العيب هو أن تستمر هذه الأخطاء، ولا تتم محاسبة المرتكب..

إننا ندعو إلى محاسبة المرتكب وتطوير الأداء الرقابي تجاه المؤسسة القضائية، لأنها هي حجر الأساس في مشروع صيانة العدالة الاجتماعية ومنع التعدي على الحقوق العامة والخاصة.. وبمقدار ما ندعو إلى احترام مؤسسة القضاء، بذات القدر ندعو محاسبة المقصرين ومعاقبة المسيئين للقضاء ومؤسسته..

3-ثمة حاجة لكي يكتمل عمل مؤسسة القضاء إلى الإسراع في تأسيس جمعيات للقانونيين والمحامين، لأن جهودهم هي مكملة لجهود القضاء ولا يمكن أن تنجز العدالة في أي بيئة اجتماعية، إلا بمأسسة عمل أهل القانون والحقوق وأهل المحاماة، لأن عملهم يساهم في صيانة العدالة، ويحول دون الوقوع في الخطأ والانحراف..

لذلك فإننا نعتقد أن عمل المحاماة وأهل القانون والحقوق، ليس منفصلا عن عمل القضاة، بل إن عمل الأوائل أي أهل القانون والمحاماة، هو المقدمات الضرورية لصوابية عمل القضاة وبدونها يبقى عمل القضاة ناقصا..

وجماع القول: إن قوة مجتمعنا في سعيه المتواصل لتحقيق العدالة بين أفراده.. ولكي تنجز العدالة على نحو مؤسسي، فنحن بحاجة إلى التطوير الدائم لسلك ومؤسسة القضاء، وتوفير منظومة مؤسسية متكاملة يسند عمل القضاة وعلى رأس هذه المنظومة أهل القانون وأهل المحاماة فهم سند في إنجاز العدالة في بعدها المؤسسي في واقعنا الاجتماعي والوطني..

***

محمد محفوظ – باحث سعودي

مفتتح: تعرف الثقافة بأنها مجموعة المعارف والقيم والمعتقدات والعادات والسلوكيات وأساليب الحياة والفنون والمؤسسات والرموز المشتركة بين أعضاء المجتمع أو المجموعة الاجتماعية الواحدة. هي نظام من المعاني والممارسات التي توجه تصرفات وطريقة حياة الأفراد في المجتمع. والثقافة هي أيضاً ظاهرة ديناميكية، تتطور بمرور الوقت، وتتأثر بالتفاعلات الداخلية (مثل التغيرات الاجتماعية أو السياسية) والتفاعلات الخارجية (مثل تأثير الثقافات الأخرى أو التطورات التكنولوجية). كما تتمتع كل ثقافة بطريقتها الخاصة في التفاعل والتصرف في المجتمع وحل الصراعات ومواجهة التحديات. ويشمل ذلك العلاقات بين الأفراد والمجموعات (الأصدقاء والعائلة والزملاء والجيران)، وكيفية التواصل، ومفهوم الاحترام والسلطة، والسلوكيات المناسبة في سياقات محددة.

رؤية شاملة للثقافة

الثقافة ليست كياناً معزولاً، بل هي شبكة معقدة ومترابطة من المكونات. نذكر على سبيل التوضيح، مدى تأثير المعتقدات على القيم، والتي تؤثر بدورها على الممارسات الاجتماعية. حيث تساعد التقاليد والرموز في الحفاظ على التماسك والوحدة داخل المجموعة الاجتماعية، في حين تخلق تمييزات مع الثقافات الأخرى المزاحمة أو المشاركة لها في الحقل الاجتماعي.

وعليه تلعب الثقافة دوراً أساسياً في الهوية الفردية والجماعية، واستكشافها يساعد على فهم التاريخ والتوترات الاجتماعية وطرق الحياة المتنوعة في جميع أنحاء العالم بشكل أفضل.

 هكذا كان ولا يزال تطور الثقافة عملية معقدة جدا، تشكلت عبر قرون من التغيرات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والبيئية. فهي مكون ليس ثابتا، بل إنها تتحول استجابة للعديد من العوامل المؤثرة في تكوينها وسيرورتها.

إن تطور الثقافة هو عملية تتأثر بشكل مستمر بالتغيرات التكنولوجية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية. ولقد ساهمت كل مرحلة تاريخية في تحويل الثقافة الإنسانية بطرق غير متوقعة. وعلى سبيل المثال التحدي الكبير الذي نواجهه اليوم هو الحفاظ على التنوع الثقافي في ظل عالم مترابط بشكل متزايد.

المجتمعات والثقافات الأساسية:

لقد تشكلت المجتمعات البشرية قبل ظهور الحضارات الأولى بوقت طويل. في البداية، كان البشر يعيشون بشكل رئيسي في مجموعات من الصيادين وجامعي الثمار، وكانت ثقافتهم مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالطبيعة والبقاء والمعتقدات الروحية. ومع ذلك، ومع تطور المجتمعات، ظهرت ممارسات ثقافية أكثر تعقيدا نشير لبعضها بإيجاز:

أ‌.   مجتمعات الصيد والجني

تم تنظيم مجتمعات الصيد والجني بطريقة متساوية نسبياً. تجلت ثقافة هذه المجتمعات من خلال الطقوس الروحية (التي غالباً ما ترتبط بالطبيعة)، ورسوم الكهوف، والمعتقدات الروحانية (الاعتقاد بأن الأرواح تسكن الأشياء الطبيعية)، والهياكل الاجتماعية القائمة على التعاون. وكان الترحال يشكل جانباً أساسياً من أسلوب حياتهم، وكانت التبادلات الثقافية تتم من خلال الهجرات واللقاءات بين المجموعات.

ب‌. الثورة الزراعية وظهور الزراعة

حوالي عام 1000 قبل الميلاد، أدى اكتشاف الزراعة إلى تغيير المجتمعات البشرية بشكل جذري. وفي ظل الاستقرار نشأت مجتمعات دائمة، وبالتالي ميلاد القرى والبلدات، مما شكل التسلسلات الهرمية الاجتماعية والأنظمة السياسية وثقافة مادية أكثر تعقيداً. كانت هذه بداية تراكم السلع وتخصص العمل وولادة الثقافات المتميزة بمعتقداتها الدينية، وأنظمة الكتابة، والفنون، والعادات الخاصة بهم.

ج. التأثير التاريخي على الثقافة:

لعبت الأحداث التاريخية دوراً رئيسياً في تطور الثقافة ولاتزال كذلك. كونه التاريخ ليس مجرد سلسلة من الأحداث السياسية والعسكرية، بل هو أيضاً يتميز بتغيرات ثقافية عميقة. وفيما يلي بعض الأمثلة حول كيفية تأثير الأحداث التاريخية على الثقافة:

الفتوحات والغزوات:

كثيرا ما أدت الغزوات والتوسعات الإقليمية، مثل تلك التي قام بها الرومان أو المغول أو المسلمون، إلى اندماج أو خلط الثقافات. على سبيل المثال، قامت الإمبراطورية الرومانية بنشر الثقافة الرومانية (القانون واللغة والعمارة) على نطاق واسع في جميع أنحاء أوروبا، من الشرق الأوسط إلى شمال أفريقيا، مما أدى إلى خلق إرث روماني لا يزال يؤثر على بعض الهياكل القانونية والثقافية إلى يومنا هذا.

تأثير الإمبراطورية الرومانية على أوروبا: تركت الإمبراطورية الرومانية بصمة دائمة على الثقافة الغربية، ولاسيما من خلال تبني الإمبراطورية الرومانية، إنشاء أنظمة الحكم، وطرق التجارة، والهندسة المعمارية التي لا تزال تلهم الهندسة المعمارية الحديثة.

الدين الخاتم (الإسلام): من خلال تقديم مفاهيم مثل الحرية والكرامة الإنسانية والأخلاق الاجتماعية والمواطنة والسلم والمساواة أمام القانون، غيّر الإسلام بتشريعاته جذرياً الطريقة التي تنظر بها الثقافات إلى الإنسانية والملكية وأنظمة الحكم والاجتماع والعلاقات الاجتماعية والاقتصادية، ويبرز ذلك منذ العهد الإسلامي الأول وصولا إلى دولة الأندلس في أوروبا.

الثورات الاجتماعية والسياسية:

لقد كان للثورات، مثل الثورة الفرنسية عام 1789 أو الثورة الصناعية في القرن التاسع عشر، تأثير عميق على الثقافات. وقد أعادت هذه الأحداث تعريف العلاقات الاجتماعية والسياسية، وشجعت على تبني مبادئ مثل المساواة والحرية والحقوق الفردية. ونتيجة لذلك، أدت هذه الثورات إلى تغيير الطريقة التي تنظر بها المجتمعات إلى الطبقة الاجتماعية، والعمل، والأسرة، والتعليم.

حركات إنهاء الاستعمار:

في القرن العشرين، سمحت عملية إنهاء الاستعمار للعديد من الثقافات المستعمرة بإعادة اكتشاف هوياتها. ومع ذلك، تأثرت هذه المجتمعات أيضاً بشكل عميق بالثقافات الاستعمارية، مما أدى إلى مزيج فريد من التقاليد المحلية والتأثيرات الكولونيالية. على سبيل المثال، في المستعمرات الأفريقية والآسيوية والكاريبية السابقة، تحولت الثقافات المحلية بفضل العناصر الأوروبية مثل اللغة والدين (المسيحية) والتعليم، لكنها أيضا هذه المجتمعات استجابت لإعادة اكتشاف تراثها الثقافي والحفاظ عليه.

التقدم التكنولوجي والعلمي:

كان للابتكارات التكنولوجية، مثل اختراع الطباعة في القرن الخامس عشر أو الإنترنت في القرن العشرين، دورا أًساسيا في نشر الثقافة. حيث سمحت المطبعة للأفكار الثورية (مثل أفكار عصر النهضة أو الإصلاح البروتستانتي) بالانتشار بسرعة، مما أدى إلى تغيير المعتقدات الدينية والسياسية في أوروبا. وعلى نحو مماثل، أدت شبكة الإنترنت وتقنيات الاتصالات الحديثة إلى تغيير جذري في الطريقة التي يتواصل بها الناس، ويتشاركون بها الأفكار، ويستهلكون بها الثقافة، مما أثر على الموسيقى، والأفلام، والأزياء، وحتى القيم الاجتماعية.

آثار العولمة على الثقافات المحلية:

تبدو العولمة على أنها العملية التي تصبح من خلالها الدول والمجتمعات مترابطة بشكل متزايد من خلال التبادلات الاقتصادية والتكنولوجية والسياسية والثقافية. من خلال تعبيرات الثقافة المشتملة لمجموعة واسعة من العناصر التي تتجلى فيها نظرة المجتمع أو المجموعة البشرية للعالم وقيمها ومعتقداتها وممارساتها. ويشمل ذلك اللغة والتقاليد والفنون والموسيقى والطقوس والرموز والسلوكيات الاجتماعية والعديد من أشكال التعبير الأخرى من منظور عالمي شمولي. وتختلف هذه التعبيرات بشكل كبير من ثقافة إلى أخرى، وهي تعكس المعايير والمخاوف والواقع الاجتماعي الخاص بكل مجتمع.

1.اللغة: هي إحدى أقوى الوسائل للتعبير عن الثقافة في ظل العولمة .فهي ناقل أساسي للقيم والمعتقدات والعادات. ويتجلى ذلك في التنافس الكبير بين اللغات عبر الترجمة والدورات والمهرجانات والاشهارات وما هنالك من محاولة تشكيل تكثلات لغوية كتكثل الناطقين بالفرنسية او ما يعرف بالفرنكوفونية، وبالمقابل الحضور القوي للانجليزية الأمريكية بقوة وصعود لغات أخرى عبر العالم رغم ضآلة التأثير الثقافي..

2.التقاليد والطقوس

غالباً ما ترتبط الطقوس بالمعتقدات الدينية، أو طقوس الاثنيات، أو الأحداث المهمة في حياة الفرد أو المجموعة. التي يعمل أصحابها على تعزيزها ضمن معاملات الهوية الثقافية والاجتماعية الخاصة بهم.

على سبيل المثال، يتضمن الزواج في الهند سلسلة من الطقوس التقليدية، بما في ذلك حفل "سابتا بادي" (الخطوات السبع حول النار المقدسة)، والذي يرمز إلى الاتحاد والالتزامات المتبادلة بين الزوجين. كما تشكل احتفالات سان جان في كيبيك مثالاً على التقاليد التي يتم الاحتفال بها من خلال إشعال النيران والرقص والغناء، مما يسلط الضوء على التراث الثقافي الفرنكوفوني في أمريكا الشمالية.

3.الفنون

تعتبر الفنون البصرية والموسيقى والرقص والمسرح من الأشكال الرئيسية للتعبير الثقافي.

الفن الأفريقي: غالباً ما تحمل المنحوتات والأقنعة الأفريقية معاني عميقة مرتبطة بالمعتقدات الروحية أو طقوس العنصر او الجندر.

الموسيقى: البلوز في الولايات المتحدة، وهو نوع موسيقي نشأ في المجتمعات الأمريكية الأفريقية، وهو تعبير ثقافي مرتبط بتاريخ العبودية والألم والأمل.

الرقص: الفلامنيقو في إسبانيا أو السامبا في البرازيل من الأمثلة التي ينقل فيها الرقص المشاعر والقصة، ويدمج الحركات الجسدية والتأثيرات الثقافية المتعددة.

المسرح: هو بمثابة سلطة ثقافية عبر التاريخ بما يعكسه من تعبيرات عابرة للمكونات والرؤى والآفاق في المجتمعات وحضوره في مجتمعات أوروبا الشرقية وأمريكا اللاتينية ودول حوض البحر الأبيض المتوسط يعكس وزنه كناقل تاريخي للثقافة بمميزات خاصة بكل ثقافات العالم.

4. الرموز

الرموز هي تمثيلات بصرية أو أشياء تحمل معنى معيناً في ثقافة معينة. على سبيل المثال:

يعتبر اللوتس في الثقافات الآسيوية، وخاصة في الهند والصين، رمزاً للنقاء والبعث والارتقاء الروحي.

5. العادات والسلوكيات الاجتماعية

المعايير والسلوكيات الاجتماعية تعكس قيم الثقافة وتترجمها في علاقاتها مع الآخر.

في شرق آسيا، هناك قواعد سلوك صارمة للغاية فيما يتعلق باحترام كبار السن، الأجنبي والتعامل باللياقة اللباقة، والسلوك الرسمي مع الضيف المغاير ثقافيا، وخاصة في بلدان مثل كوريا الجنوبية واليابان.

6. المعتقدات الدينية والفلسفية

تشكل المعتقدات أشكالا ًأساسية للتعبير الثقافي في زمن العولمة، لأنها غالبا ًما تشكل نمط حياة المجتمع وقيمه التي يهدف إلى الترويج لها كمنجز حضاري وإضافة ثقافية نوعية للحضارة الانسانية.

لقد ساهمت المسيحية في أوروبا وأميركا الشمالية في تشكيل العديد من التقاليد والقيم في هذه المناطق، وخاصة من خلال الأعياد مثل عيد الميلاد وعيد الفصح، كما أثر الإسلام في المجتمعات الغربية عبر الجاليات المسلمة التي أصبحت تشكل قوة اجتماعية واقتصادية وثقافية في أمريكا وأكبر البلدان الأوروبية عبر الأخلاق والشريعة الإسلامية التي استقطبت العديد من القائمين على التشريعات الغربية .

أيضا تؤمن البوذية في جنوب شرق آسيا بالتأمل والصحوة الروحية ونبذ العنف، وهي قيم تؤثر بشكل عميق على الممارسات الثقافية في بلدان مثل تايلاند وكمبوديا واليابان.

على الرغم من كل ذلك فإن العولمة تبقى مشروع في العديد من أركانه يهدف إلى ضرب العلاقة بين الثقافة والهوية، عبر تفجير الهويات، التي في الأساس هي عميقة ومتعددة الأبعاد، كونها تتشكل من خلال القيم والمعتقدات والتقاليد والممارسات التي تميز كل مجموعة اجتماعية معينة. ويتضمن ذلك أشياء مثل اللغة والدين والعادات والتاريخ والتجارب المشتركة. وعندما نقتحم مفاهيم مثل تشكيل الهوية الثقافية، والتنوع والإدماج، والتعايش بين الثقافات المتعددة، والتسامح والاحترام والتعاون، فإننا ندخل منطقة معقدة تمس قضايا اجتماعية وسياسية وفلسفية عميقة، مما يتطلب حذرا وجدية في التفاعل والمقاربة لمفهوم العولمة الثقافية بأبعادها وأسسها المتنوعة سياسيا واقتصاديا وفلسفيا.

1.تشكيل الهوية الثقافية:

يتم بناء الهوية الثقافية بمرور الوقت، تحت تأثير العديد من العوامل:

الأصول والتراث الثقافي

لا مناص من كون الهوية الثقافية للفرد متجذرة في تراث عائلته ومجتمعه. ويشمل ذلك اللغة التي يتحدث بها الناس في المنزل، والعادات التي ورثها عن أجداده، والتقاليد الدينية والقيم المشتركة داخل الأسرة والمجتمع. يمكن أن يكون هذا التراث مصدراً للفخر والترابط، لأنه يحدد الفرد داخل المجموعة.

التنشئة الاجتماعية والتعلم

وتتشكل الهوية الثقافية أيضاً من خلال تجربة التنشئة الاجتماعية، سواء في المدرسة أو في العمل أو داخل المجتمع بشكل عام. إن التفاعلات مع الثقافات والمؤسسات الأخرى (مثل التعليم ووسائل الإعلام والسياسات العامة) والأحداث الاجتماعية أو التاريخية يمكن أن تعيد تعريف هذه الهوية أو تزيد من تفاصيلها. على سبيل المثال، يمكن أن ينشأ الشخص في ثقافة واحدة، ولكن عندما يكبر، فإنه يتأثر بعناصر من ثقافات أخرى، مما قد يؤدي إلى شكل هجين من الهوية الثقافية، أو إلى التوترات بين التأثيرات الثقافية.

أزمة الهوية وجهل العولمة

في عالمنا الزاحف خلف ثقافة العولمة بصورها الهمجية، حيث يتعرض الأفراد لمزيج من الثقافات، قد يعاني البعض من أزمات الهوية. ويتجلى ذلك في التساؤلات حول مكانة ثقافتهم الأصلية في مواجهة التأثيرات الخارجية. على سبيل المثال، قد يعاني الشباب من المجتمعات المهاجرة من هوية مزدوجة - هوية ثقافة المنشأ وثقافة البلد المضيف- أو -المجتمعات الأكاديمية ان صح التعبير- مما قد يؤدي إلى البحث عن التوازن أو إلى صراعات داخلية قد تحدث شروخا لدى مجتمعات ثقافاتها الأصلية.

2. التنوع والشمول:

يشير التنوع الثقافي إلى وجود تعايش ثقافات مختلفة داخل المجتمع نفسه. وقد يشمل ذلك الاختلافات في اللغة، والمعتقدات الدينية، والممارسات الاجتماعية، والتقاليد الفنية والمطبخية. حيث يتميز المجتمع المتنوع بثراء ثقافاته المختلفة، والتي تساهم مجتمعة في ديناميكيته وتعدديته.

و من جهة أخرى هناك الإدماج الثقافي الذي يتجاوز مجرد الاعتراف بالتنوع. وهذا يعني تعزيز المساواة والاعتراف بالحقوق الثقافية والوصول العادل إلى الفرص للجميع، بغض النظر عن تراثهم أو أصلهم. بحيث يسمح المجتمع الشامل للجميع بالحفاظ على ممارساتهم الثقافية مع كونهم جزءاً لا يتجزأ من المجتمع الأوسع. ويتعلق الإدماج أيضاً بالمشاركة الفعالة لجميع المجموعات في عمليات صنع القرار والحياة المجتمعية، دون تمييز أو تهميش.

على سبيل المثال، في بلد يتمتع بتنوع ثقافي قوي (مثل كندا أو الولايات المتحدة)، تعمل سياسات التعددية الثقافية على تعزيز التعايش السلمي بين المجتمعات الثقافية المختلفة، مع ضمان مشاركتها المتساوية في المجتمع.

فوائد التنوع والشمول:

لا يمكننا الوقوف على مدى صلاحية التنوع إلا من خلال ثماره الواقعية والتي يمكن ذكر بعضها:

الابتكار والإبداع: يمكن للتنوع الثقافي أن يؤدي إلى مزيد من الابتكار، حيث إن وجهات النظر المتنوعة غالبا ما تكون مصدراً لأفكار وحلول جديدة.

الإثراء المتبادل: من خلال الترحيب بالثقافات المختلفة، يتم إثراء المجتمع بطرق جديدة للتفكير، وفنون جديدة، ونكهات جديدة، وطرق جديدة تراعي القيمة الأساسية والمصيرية للثقافة الاصلية في تصور هوية الأسرة والمجتمع.

التضامن والتعاطف: عندما يتم احترام التنوع والاحتفال به، فإنه يمكن أن يعزز التضامن بين المجتمعات المختلفة، مما يؤدي إلى مزيد من التفاهم وروح التعاون...

(يتبع)

***

بقلم: مراد غريبي

فكرة الحقيقة المطلقة في السرديات التاريخية تعكس جدلًا عميقًا حول كيفية فهمنا للواقع، النصوص التاريخية قابلة للتأويل بطرق متعددة مما يعني أن كل قارئ قد يستنبط معاني مختلفة بناءً على خلفيته الثقافية وتجربته ويمكن أن تحمل النصوص معانٍ رمزية تتجاوز الأحداث نفسها، مما يشير الى قضايا اجتماعية و سياسية أعمق، تعمل اللغة كحامل للنص لكنها ليست مجرد وسيلة للتعبير اذ تلعب دورًا مهما في تشكيل الأفكار والمفاهيم، اختيار الكلمات يمكن أن يحرف أو يوضح المفاهيم التاريخية كما ان اللغة تساهم في نقل السرديات عبر الأجيال، مما يساعد على بناء الهوية الثقافية والتاريخية، الحقيقة في السرديات التاريخية ليست ثابتة بالضرورة، بل تتأثر بالعوامل الثقافية والفكرية والاقتصادية هي معقدة ومتعددة الأبعاد، مما يجعل من الضروري نقد الحقيقة المطلقة في السرديات التاريخية و ان تواجه هذه بسرديات معاصرة تتجاوز الانحياز والاضطراب المفاهيمي في السرديات التاريخية.

دور السلطة السياسية في تشكيل السرديات التاريخية

السلطة السياسية لها دور كبيرقي تشكيل السرديات التاريخية ودورها محوري ومعقد. تستخدم الأنظمة السياسية التاريخ لتأكيد شرعيتها، من خلال إبراز إنجازات معينة أو استخدام أخرى في تجريم خصومها، قد يتم تعديل أو تزييف الأحداث التاريخية لتتناسب مع الأجندات السياسية، مما يؤدي إلى تشويه الحقائق، تسيطر الأنظمة على وسائل الإعلام التي من خلالها يتم تعزيز روايات معينة وتهميش أخرى، مما يسهم في تشكيل الرأي العام ،قد تسعى الأنظمة إلى إعادة كتابة التاريخ من خلال إلغاء أو تهميش أحداث معينة، مما يؤثر على الذاكرة الجماعية، بذلك تلعب السلطة السياسية دورًا حاسمًا في تشكيل السرديات التاريخية، وتؤثر على كيفية كتابة وفهم التاريخ. هذا التأثير يمكن أن يؤدي إلى تشكيل هويات وطنية منحازة وتعزز أو تقوض شرعيات سياسية وبالتالي خلق اضطراب مفاهيمي.

التحيز في السرديات التاريخية

في بعض السرديات، يتم تصوير الصراعات التاريخية بين الطوائف بشكل يبرز تفوق طائفة على الأخرى، مما يؤدي إلى تأجيج التوترات الحالية،  بعض السرديات يتم تقديم الاستعمار كحدث خارجي فقط، مع تجاهل الدور المحلي في التعاون المجتمعي ودور المقاومة في التخلص من الاستعمار، مما يخلق سردًا غير متوازن حول التحديات التاريخية، احيانا تُكتب سير بعض القادة التاريخيين بشكل يبرز إنجازاتهم ويغفل عن أخطائهم أوعن الجوانب السلبية في حكمهم، مما يعكس تحيزًا نحو تقديس الشخصيات، تركز بعض السرديات على تاريخ الأمة بشكل ضيق، مما يؤدي إلى تجاهل مساهمات الثقافات الأخرى أو الأقليات العرقية والدينية، تتجلى التحيزات في السرديات التاريخية من خلال الطائفية، الاستعمار، تصوير الشخصيات، تجاهل الثقافات، تغييب دور النساء، وتحريف الأحداث، هذه التحيزات تؤدي الى فهم التاريخ بشكل مضطرب وتشكيل هوية ثقافية متاكلة.

المقدس في السرديات التاريخة

بعض السرديات التاريخية ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالتراث الديني، مما يجعل النقد أكثر حساسية. يُعتبر أي نقد لهذه السرديات تحديًا للمعتقدات المقدسة عندها يظهر الاضطراب المفاهيمي حين يتم الخلط بين التاريخ كعلم والحقائق الدينية، مما يصعب تقييم الأحداث بشكل موضوعي، عبر القرون استخدمت الأنظمة السياسية السرديات التاريخية لتعزيز سلطتها وطوقتها بالمقدس، مما أدى إلى تشويه الحقائق التاريخية، العديد من المجتمعات أصبحت عرضة للتعصب الفكري، حيث يتم الدفاع عن السرديات المقدسة دون نقد، رغم ان النقد يُعتبر ضرورة لفهم التاريخ بشكل أفضل، و يعزز من قدرة الأفراد على التمييز بين الحقائق والآراء الشخصية كما يساهم النقد في فتح نقاشات حول الأحداث التاريخية ومكانتها في السياق الثقافي والديني ،النقد والمقدس في السرديات التاريخية يعكسان صراعًا طويل الأمد بين فهم التاريخ بشكل موضوعي واحترام المعتقدات المقدسة. يتطلب الأمر توازنًا دقيقًا لتجاوز الاضطراب المفاهيمي وتعزيز الفهم التاريخي.

 النقد المعاصر تجاه السرديات التاريخية

النقد المعاصر تجاه السرديات التاريخية يتعلق بعدة جوانب وهو الذي يؤدي إلى اضطراب في فهم هذه السرديات، يُواجه النقد المعاصر صعوبة في تحقيق الموضوعية بسبب التحيزات التي تكون موجودة في السرديات التاريخية، مما يثير تساؤلات حول مصداقية الروايات،ان صعوبة نقد السرديات المتعلقة بالأحداث المقدسة بسبب حساسيتها الدينية، يجعل من الصعب تناولها بموضوعية، وجود تفسيرات متعددة للأحداث التاريخية وربطها بالمقدس يجعل من الصعب الوصول إلى فهم موحد، مما يؤدي إلى الاضطراب المفاهيمي ، تستخدم الأنظمة السياسية التاريخ لتشكيل الهوية الوطنية، مما يؤدي إلى تلاعب في السرديات التي تُطرح ، ربط الأحداث التاريخية بالسياقات المعاصرة يشكل صعوبة منهجية وتطبيقية و يخلق إرباكًا في فهم تأثير التاريخ على الوضع الحالي، تتجلى إشكالية النقد المعاصر تجاه السرديات التاريخية في التحديات المتعلقة بالموضوعية والتداخل الثقافي والديني، بالإضافة إلى تأثير السلطة والفجوة الزمنية. يتطلب الأمر جهدًا متعاضدا لتعزيز الفهم النقدي وتحليل السرديات بشكل دقيق.

السرديات المعاصرة في ظل نظام التفاهة

إنتاج سرديات معاصرة في ظل هيمنة العولمة ونظام التفاهة يتطلب مواجهة عدة تحديات، منها العولمة تؤدي إلى انتشار سرديات عالمية قد تطغى على السرديات المحلية، مما يجعل من الصعب الحفاظ على الهوية الثقافية، تركز العولمة على سرديات معينة و تهمل الروايات المختلفة مما يقلل من التنوع الثقافي، يُروج نظام التفاهة للمحتوى السطحي وغير الملهم، مما يقلل من اهتمام الأفراد بالقضايا الأكثر عمقًا وأهمية ،يتعرض الأفراد الى ضغوط في تبني سرديات عالمية رائجة على منصات التواصل الاجتماعي ، مما يؤدي إلى تآكل الهويات الثقافية المحلية وإضعاف الروابط الاجتماعية، يُعاني الكثير من المثقفين من نقص الدعم في البحث العميق، مما يؤدي إلى إنتاج سرديات أقل عمقًا وابتكارًا ،تؤثر الأزمات الاقتصادية على قدرة الأفراد على المشاركة في إنتاج السرديات، حيث يصبح التركيز على البقاء الاقتصادي أكثر أهمية من التعبير الثقافي، تتجلى صعوبة إنتاج سرديات معاصرة في ظل العولمة ونظام التفاهة في شكل هيمنة روايات تدعي المعاصرة والعالمية، واخيرا تسطيح القضايا. يتطلب هذا الأمر جهودًا متعاضدة لإعادة النظر في القيم الثقافية وتعزيز الإنتاج الفكري العميق.

الاضطراب المفاهيمي في السرديات المعاصرة

كما هو معروف تستخدم الأنظمة السياسية التاريخ لتبرير أفعالها، مما يؤدي إلى تشويه الحقائق التاريخية وتقديم روايات محددة  ومنحازة تؤثر على المعتقدات الثقافية والدينية وعلى كيفية تفسير الأحداث، مما يؤدي إلى تباين كبير في السرديات، يتم تجاهل أو تهميش روايات مجموعات معينة لاسباب متعددة، مما يحد من الفهم الشامل للأحداث ويؤدي إلى سرديات أحادية، تتداخل الأساطير والتراث الشعبي مع السرديات التاريخية، مما يصعب التمييز بين الحقيقة والخيال ،تتعدد العوامل التي تسهم في الاضطراب المفاهيمي، بدءًا من السيطرة السياسية والتعصب الفكري إلى نقص التنوع في المصادر وضعف التعليم، تتطلب معالجة هذه العوامل جهدًا جماعيًا لتعزيز الفهم النقدي والتاريخي.

النقد المعاصر للحقيقة المطلقة

يشدد النقاد على أن الحقائق التاريخية ليست مطلقة، بل تتأثر بالمنظورات الثقافية والسياسية والاجتماعية. كل سرد تاريخي يُشكل من قبل الراوي او مجموعات ثقافية، مما يؤدي إلى وجود تفسيرات متعددة حيث يتم تحليل كيف يمكن أن تؤثر تحيزات المؤرخين على السرد التاريخي. هذه الانحيازات قد تؤدي إلى تجاهل بعض الأحداث أو تهميشها بناءً على توجهات ايديولوجية كما يشير العديد من الباحثين إلى أهمية إعادة تفسير الأحداث التاريخية بناءً على سياقات موضوعية جديدة وفهم سياقي أعمق، هذا يتطلب مراجعة المصادر والوثائق التاريخية، اخذين بالاعتبار ان بعض السرديات التاريخية هي أساسا أدوات للسلطة، حيث تُستخدم لتشكيل الهويات الوطنية والعرقية، كما يتم دراسة كيف تساهم هذه السرديات في بناء الهوية الجماعية و إدراج أصوات وتجارِب خاصة في السرد التاريخي، مما يساهم في تقديم صورة أكثر شمولية عن الحقائق التاريخية هذا النقد يجب ان يعكس تحولًا في كيفية فهمنا للتاريخ، حيث يُنظر إليه كعملية ديناميكية تتغير مع الزمن والسياقات لا كحقائق ثابتة بعيدة عن متناول النقد.

***

غالب المسعودي

 

ما أشاهده غالبا في عملي اليومي كمعالجة ومستشارة أسرية، هو ما يواجهه الأهل، الآباء والأمهات، من تحديات في التعامل مع أبنائهم وبناتهم. حيث تتكرر الأوامر والتعليمات والتوجيهات دون استجابة من قبل الأطفال، مما يؤدي إلى الإحباط والتوتر وخلق جو متشنج ومزعج لكلا الطرفين. لكن برأيي وخبرتي في هذا المجال، إن التربية يمكن أن تكون أكثر سهولة ومتعة إذا تعلمنا كيف نخاطب عقل الطفل-ة، ومشاعرهما معا في آن واحد.

ومن الآليات اليومية المستخدمة والأكثر فاعلية في الحياة اليومية للأسر، والتي أستخدمها معهم:

1. تقديم خيارات متنوعة بدلًا من إعطاء الأوامر

من الأساليب الفعالة أن نقدم للطفل-ة خيارات بسيطة بدلًا من إصدار أوامر قاسية ومباشرة. فعندما نقول: "هل تفضلين القميص الوردي أم البنفسجي؟" بدلًا من "ارتدي هذا القميص"، أو "هل تختار أن تغسل يديك بالصابون السائل أم العادي؟" بدلًا من "يجب أن تغسل يدك الآن"، أو "هل ترغبين بأكل التفاح أم الموز؟" عندما تطلب الطفلة أشياء غير صحية كالحلويات، في هذه الحالة يشعر الصغير-ة بأنه جزء من القرار، مما يعزز التعاون والاستقلالية، ويتم تغيير تركيزه أو تركيزها من التوجيهات والأوامر إلى التركيز على الاختيار، ويُمنَح شعورًا بأهميته أو أهميتها.

2. تحويل الواجبات إلى لحظات لعب ومرح

من إحدى الطرق الأخرى للتعامل مع الطفل-ة، تحويل المهام والواجبات اليومية إلى لحظات مليئة باللعب والمزاح. وبهذه الطريقة نصل إلى الطفل-ة بسهولة أكثر مما نتصور، مثل: "من سيلتقط ألعابه أو ألعابها أولًا؟" أو "هل يمكنكِ الوصول إلى السرير قبل أن أعد للعشرة؟". اللعب ليس فقط وسيلة للمتعة، بل أيضًا أداة تربوية تعزز التفاعل والاستجابة، وتخلق جوًا مليئًا بالحب والطمأنينة والاستقرار.

3. تشجيع الطفل والطفلة على تبني الفكرة

بدلًا من فرض الأمور، يمكننا تحفيز الطفل-ة ليشعر أو تشعر أن الفكرة نابعة منه أو منها. مثال: عندما يرفض الطفل-ة الأكل الصحي وذو القيمة الغذائية، يمكن أن نقول: "هل تريدين أن تصبحي قوية مثل البطلات؟ البطلات يأكلن هذا الطعام!"، أو عندما يرفضو القيام بالواجبات المدرسية: "ما رأيكم أن يشرح كل منكما لنا الدرس بعد إنهاء الواجب؟ نحن متشوقون لسماع ما تعلمتم!". عندما يتبنى الطفل-ة الفكرة بنفسه أو نفسها، سيبتكر أو ستبتكر في إنجازها بدون صعوبة.

4. التعلم من النتائج المتعاقبة

عندما يرفض الطفل-ة اتباع التوجيهات، لا داعي للتهديد أو الصراخ أو تحويل أجواء البيت إلى الرعب وانعدام الأمان، بل الأفضل السماح له أو لها بخوض التجربة. كأن نقول: "إذا خرجتِ بدون معطف، قد تشعرين بالبرد وتتمرضين وتُحرمين من المشاركة في نشاط ترغبين به... ما رأيكِ؟" أو "إذا لم تُرتَّب الألعاب وتُوضَع في مكانها المخصص، قد تضيع أو تنكسر، هل تود أو تودين الاحتفاظ بها؟". هنا نعطي الطفل والطفلة مسؤولية تصرفاتهما بشكل مفهوم وواضح.

5. التحفيز الإيجابي وتشجيع السلوك الإيجابي والهادف

من الطرق الأكثر فاعلية في تربية الأطفال، المدح الصادق والمؤثر، فهو يصنع فرقًا كبيرًا ونتائج إيجابية غير متوقعة. بدلًا من قول: "لا تصرخ!"، نقول: "صوتك الهادئ جميل، أحب أن أسمعه هكذا"، وبدلًا من: "اجلس لتأكل"، يمكن أن نقول: "أنا واثق أنكِ ستنهين طعامك وستكونين قوية جسديًا وذكية في المدرسة!". هذا النوع من الخطاب يغرس الثقة والطمأنينة في نفوس الأطفال، ويساعد في نموهم بشكل سليم.

6. التخاطب مع الأطفال ونحن في تواصل بصري معهم

من الضروري جدًا عندما نخاطب الأطفال، أن نكون في تواصل بصري وتقارب جسدي معهم. مثلًا، عندما نطلب من الطفل-ة أن وقت النوم قد حان، ويجب أن يُحضّر أو تُحضّر نفسه/نفسها للنوم، لا يكون ذلك فعالًا إذا كنا مشغولين بمكالمة هاتفية أو بمتابعة فيلم أو مسلسل. المخاطبة بهذه الطريقة تكون غير فعالة، والطفل-ة لا يأخذ التوجيه بشكل جدي بل يتجاهله أو تتجاهله تمامًا.

التربية الحديثة والناجحة في عالم اليوم لا تقوم على فرض السيطرة أو تكرار الأوامر أو استخدام الصراخ والعقاب، بل على الفهم العميق لاحتياجات الطفل/الطفلة، واحتضان مشاعرهم، واحترام كينونتهم الإنسانية المستقلة. عندما نُعامل الطفل-ة كشخص له صوت ومكانة، يشعر بالأمان، وتُبنى بيننا وبينه جسور من الثقة والمحبة. وحين نتيح له أو لها الفرصة لخوض التجارب، وتحمل المسؤولية، واختبار نتائج قراراته أو قراراتها، فإننا لا نُربي فقط أطفالًا مطيعين، متذبذبين، وغير واثقين من أنفسهم، ويصعب عليهم الدفاع عن أنفسهم خارج البيت، بل نُربي أفرادًا مستقلين، قادرين على التفكير، واتخاذ القرار، وبناء علاقات صحية ومستقرة. اللغة اللطيفة، والنظرة المتفهمة، والمساحة الآمنة، هي أدوات أقوى بكثير من أي توجيه قسري. ومتى شعر الطفل/الطفلة بأن التوجيه نابع من حب واهتمام حقيقي، فإنه يتحول من أمر يُفرض عليه إلى رغبة صادقة في المشاركة والتجاوب.

***

بيان صالح

ساسلة مقالات من الواقع المهني كمعالجة ومستشارة اسرية

........................

مصادر عربية

1. الجزيرة نت – كيف تربي أطفالك؟ إليك أهم أساليب التربية الحديثة

https://www.aljazeera.net/women/2022/10/22/

2. كيف-تربي-أطفالك-إليك-اهم-أساليب

3. BBC News عربي – طرق فعالة للتواصل مع الأطفال

https://www.bbc.com/arabic/vert-cul-53355785

4. يونيسف مصر – كيف نربي أبناءنا من 7 إلى 12 سنة

https://www.unicef.org/egypt/ar/raising-younger-children

مصادر دنماركية

1. EMU.dk – Kort om KOS: Kvalitet i Overgangen til Skole

https://emu.dk/sites/default/files/2021-03/8126%20EVA%20SPL%20T07%20Kort%20om%20KOS_WEB%20FINAL-a.pdf

2. Anerkendende Kommunikation – Brug anerkendende kommunikation når du taler med dit barn

https://anerkendendekommunikation.dk/foredrag/brug-anerkendende-kommunikation-naar-du-taler-med-dit-barn

"في صف الفلسفة يتعلم الطلاب الحرية من خلال ممارسة التفكير الحر" فيكتور كوزان

فرش إشكالي

الحماقة التي تقال تذهب مع الريح، والحماقة التي تكتب لا تمر سريعا انها تتحد مع التفكير، وتتحول الى مسلمة تعرقل التفكير والعمل في أن واحد انني اسوق هذه العبارة لمالك بن نبي رحمه الله لتوصيف حالة العبث واللامنطق الملازمة للدرس الفلسفي عندنا حيث انتج تدريس المقالة الفلسفية المؤسس على الإغراء والاستغباء عبر نماذج مكررة يعاد استنساخها نهاية كل موسم دراسي ويتم الاحتكام اليها اثناء البكالوريا التجريبية والترويج لها عبر منصات التواصل الاجتماعي وتفرض لاحقا كخريطة طريق اثناء تصحيح البكالوريا حالة من البؤس والالم في نفوس أولئك الذين يحملون شعلة Prometheus وللدلالة على ذلك تكفي المقارنة بين بناء امتحان الفلسفة عندنا ونماذج التصحيح المرافقة له وبين ما هو واقع بالفعل في فرنسا مثلا او الدول التي نتقاسم مع الثقافة والهوية والجغرافيا.

لقد تكرر موضوع أساس العدالة الاجتماعية في شهادة البكالوريا شعبة آداب وفلسفة لفظا ومعنى وبذات المشكلة أربعة مرات (2011، 214، 2017، 2021) وموضوع مصدر المعرفة بين العقل والتجربة في الشعب التقنية سبعة مرات (2009، 2011، 2013، 2015، 2016، 2019، 2024) وموضوع دراسة الظواهر الإنسانية دراسة علمية بين الاستحالة والامكان في شعبتي العلوم التجريبية وشعبة الرياضيات تسع مرات (2011، 2012، 2014، 2015، 2016، 2018، 2019، 2021، 2024) وتكرر موضوع الحق والواجب وابعاد العمل والفرضية في البكالوريا التجريبية 2025 بصورة مخجلة تثير الغثيان.

هذا الفارقُ ليس تقنيًا فحسب، بل هو انعكاسٌ لأزمةِ يمر بها الدرس الفلسفي عندنا حيث تم تحويل الطالبِ الى رهينة لثقافة التكرار والميل الى الفعل السهل ثقافة جعلت الجهل مقدسا ومؤسسا وبدل من الدفع بالتلميذ الى خوض تجربة وجودية قوامها الحرية والمسؤولية— كما أراد سارتر — وغرس فضيلة التواصل معه داخل القسم وخارجه وفق مبدأ الصدق والصداقة كما كان ينصحنا المرحوم البشير ربوح وتعميق فهمه لذاته اثناء صياغة مواضيع امتحان الفلسفة من خلال ترسيخ ثقافة الوعي النقدي كما كان يقول باولو فيريري تم اقصاؤه و تحويلَهُ إلى ببّغاءٍ يردّدُ مقولاتٍ مفصولة من سياقها الفلسفي بلا وعيٍ ويسرد الفاظ وعبارات بلا تحليل وتفكيكٍ وبلا نقد وبالمحصلة تم تحويله الى كائن يتغذى على الغش ويتعايش معه.

هذه الوضعية التي تتنافى مع الروح الفلسفية تدفعنا الى تقديم هذه 'المقابسات' المستمدة من نماذج قدمها أساتذة في التعليم الثانوي لمادة الفلسفة في فرنسا وهي نماذج يمكن الاستفادة منها والاستثمار فيها فالفلسفة تمتاز بطابعها الإنساني ثم ان هذه النماذج تفتحُ البابَ لتساؤلاتٍ حرجةٍ الإجابة عنها تسمح لنا بفتح كوة في غرفة مظلمة قد تتحول الى قبس من نور: لماذا تخشى الأنظمةُ التعليميةُ العربيةُ الأسئلةَ الفلسفية المُقلقةَ وتميل الى النمطية والتعايش مع ماهو واقع بالفعل؟ وهل يُمكنُ لدرس الفلسفةِ أن يتحرّرَ من قيودِ البيروقراطيةِ والوصاية الأبوية؟ ولماذا تم تحويل درس الفلسفة والمدرسة ككل الى مصنع للطاعة؟ وأيُّ مستقبلٍ لِجيلٍ يُمنَعُ من معاناةِ ولذة التفكيرِ؟

النموذج الأول

هل تخون اللغة الفكر؟

العلاقة بين الفكر واللغة، تمثل مشكلة كلاسيكية عظيمة في الفلسفة!

وسيتم الحكم على المرشحين على أساس دقة وأصالة معرفتهم.

أولا: تحليل الموضوع

موضوع كلاسيكي حول العلاقة بين اللغة والفكر، يسمح لك بالإشارة إلى مفاهيم أخرى في البرنامج (الحقيقة / الفن / الوعي / الإدراك / الآخرين /...) وتعبئة معرفتك بالفلسفة واللسانيات والأدب.

ضبط المفاهيم

- اللغة بالمعنى الواسع، تشير إلى القدرة على إنشاء نظام مفصل من العلامات يسمح بالتعبير. في هذا الموضوع سوف نسلط الضوء على لغة الكلمات.

-الفكر الصعوبة الأولى في هذا الموضوع تكمن في معنى كلمة "الفكر"، والتي ليست ثابتة ولا فريدة، والتي تعتمد إلى حد كبير على الطريقة التي نتصور بها العلاقة بين الفكر واللغة! ولذلك كان من الضروري أن ننطلق من تعريف واسع للغاية، على سبيل المثال: نقول ان الفكر هو مجموعة الظواهر التي تنتجها أنشطة العقل، وسيتم الاشتغال بداية على هذا المعنى داخل الأطروحة نفسها.

-الفعل "خيانة" يثير مشكلة لأنه، في معناه الحرفي، يشير إلى الفعل الطوعي المتمثل في التخلي عن شخص أو قضية من خلال التوقف عن الوفاء لها. لذلك يجب أن نفهم الأمر هنا بالمعنى المجازي: فاللغة لا تعبر إلا عن الفكر بطريقة غير أمينة.

الافتراض الضمني الذي طُلب منك أن نتساءل عنه: هل اللغة مجرد أداة بدائية وغير كافية للتعبير عن الفكر، والتي تفقد نفسها بالتالي من خلال تسليم نفسها للكلمات؟

طرح المشكلة

اللغة التي نستخدمها يجب أن تسمح لنا بالتعبير عن أنفسنا بطريقة تسمح للآخرين بفهمنا. ومع ذلك، هناك العديد من المناسبات التي نضطر فيها إلى التراجع عن كلماتنا لأنها لا تتوافق مع ما كنا نفكر فيه ونريد أن نقوله. على الرغم من أننا اخترنا الألفاظ التي نستخدمها بأنفسنا. فهل يعني هذا أن اللغة يمكن أن تخون الفكر؟ ان الخيانة هنا هي في المقام الأول خيبة أمل لعلاقة الثقة. وإذا كانت اللغة قادرة على خيانتنا، فذلك لأننا اعترفنا مسبقًا بأننا أوكلنا إليها مهمة إخراج أفكار حميمة. فهل الكلمات قادرة على القيام بهذه المهمة؟ هل تستحق الألفاظ ثقتنا؟ أليس في اللغة تشكيل وتبرير لا نجدهما دائمًا في ما نفكر فيه بعمق؟ وهل ينبغي لنا إذن أن نكون حذرين من اللغة؟ وإذا كانت اللغة قادرة على خيانتنا من خلال تحريف ما نقوله، فإنها قادرة، وهو ما يبدو أسوأ، على خيانتنا من خلال جعلنا نقول ما لا نريد أن نقوله، وأحياناً حتى ما لا نعرفه. أليس هذا هو الحال عندما نرتكب زلة لسان؟ وفي كلتا الحالتين (سواء كانت الخيانة تشوه الفكر أو تكشفه)، فإن هذا يفترض وجود فكر قد تشكل خارج اللغة وقبلها. فكيف يمكننا أن نفكر خارج اللغة؟ أليست اللغة هي حال الفكر، بعيداً عن خيانة الفكر؟

تعبئة الموارد والاعلان عن الخطة

01 – الاطروحة (اللغة عقبة أمام التعبير الصحيح عن الفكر)

قد تخون اللغة الفكر من خلال الفشل في واجبها في نسخ الأفكار بأمانة يتجلى ذلك في:

أ) تجربة سوء الفهم: حيث يمكننا أن نتخذ من تجاربنا المشتركة والمتنوعة في سوء الفهم منطلقا للاطروحة الأولى فكثيرا مايقال ("لم أقصد ذلك"، "الكلمات تجاوزت أفكاري"،...) أو في عدم الكفاية ("لا أعرف كيف أعبر عما أشعر به..."، "الكلمات تخذلني...") وهذه الوقائع تسلط الضوء على عدم كفاية اللغة، وحتى عدم أمانتها المحتملة، خاصة وأن بعض الكتاب أنفسهم يشهدون على ذلك: ومن هؤلاء (روجيه مارتن دو جارد) فقد اعترف هذا الكاتب وهو الحاصل على جائزة نوبل في الأدب لسنة 1937 بخيانة اللغة "الشعور بأن الكلمات كانت تحملني بعيدًا، وتخون أفكاري الحقيقية"

ب) اللغة كقناع للفكر: راي. ديكارت، الذي يأتي سبب الأخطاء بالنسبة له من حقيقة أن "الناس يولون اهتمامهم إلى الكلمات بدلا من الأفكار، وموافقتهم على مصطلحات لا يفهمونها" (مبادئ الفلسفة،) إضافة الى التسرع، راجع الحوارات بين سقراط ومحاوريه (جورجياس على سبيل المثال والبحث عن تعريف البلاغة) يعبر سقراط من خلال أسئلته عن فكرة أن محاوريه، الذين يجرفهم العاطفة، يشوهونها

ج) التمييز المفترض بين النشاط المفاهيمي والنقل اللغوي: راجع مشروع لايبنتز للغة عالمية حيث تشير الإشارات فقط إلى الأشكال التي يتصورها الفهم: التحدث بشكل سيء ليس استخدام الكلمات بشكل خاطئ ولكن "عدم إرفاق أفكار واضحة بها" (مقالات جديدة عن الفهم البشري) ثم تخون اللغة الفكر لأنها لا تحدد الفكرة بالكلمة المقابلة. ثم ان اللغة والفكر حقيقتين مختلفتين من حيث طبيعتهما. هذا هو تحليل برجسون:" اللغة تضفي طابعاً مكانياً على ما هو روحي. ومن خلال تسليم نفسه للغة، يصبح الفكر مشوهًا.

وهكذا تبدو اللغة إذن وكأنها وسيلة غير كافية، وغير متقنة، وغير أمينة للتعبير عن الفكر، حيث يظل الثراء والعمق الذي تتمتع به هذه الوسيلة غير قابلين للوصف. إن الفكر سوف يضيع إذا سلم نفسه، و إذا تخلى عن نفسه في اللغة.

02 – نقيض الاطروحة (جهد الانتباه والبحث عن الحق يكفي لإنتاج خطاب يعادل الفكرة)

- ولكن دعونا نلاحظ أن كل انتقاد للغة يتم من قبل اللغة نفسها، والتي يبدو أنها الدائرة التي لا يمكن الهروب منها. علاوة على ذلك، حتى الفكر الأكثر عمقاً هو عبارة عن كلمة صامتة موجهة إلى الذات. إذا فشلت الكلمات في التعبير عن مشاعرنا، فهل ذلك بسبب عدم كفاية اللغة أم بسبب ارتباك أفكارنا؟

-  يتعين علينا بعد ذلك أن نتصور العلاقة بين اللغة والفكر بشكل مختلف. إن النشاط الداخلي الصرف للعقل لا يصبح حقيقيا إلا من خلال التفكير وفي اللغة. لأنه من خلال تمييز نفسه عن نفسه في النظام المادي للعلامات يصبح فكرة عن نفسه. وهذا هو السبب الذي جعل هيجل ينتقد فكرة أن الفكر الأعلى هو الفكر الذي لا يمكن التعبير عنه؛ إن ما لا يمكن التعبير عنه هو، على العكس من ذلك، فكر غامض، وعاطفة فورية، وصدمة مرضية، أو باختصار، ما لم يصبح بعد فكرًا واضحًا في حد ذاته.

أ) إذا كانت اللغة تخون الفكر، بمعنى أنها تفشل في واجبها في التعبير عنه بشكل صحيح، فإن التفكير بطريقة صحيحة كاف لإصلاح هذا "الخطأ". يتم "تصحيح" خيانة اللغة بالفكر من خلال ممارسة التفكير المنهجي: إذا فكرت بشكل صحيح، فلا يمكنني التعبير عنه إلا بوضوح.

ب) اللغة أداة يجب تأديبها من خلال ممارسة العقل: راجع ديكارت: "إن التجمع الذي يحدث في الاستدلال ليس تجميع الأسماء بل التجمع الذي تدل عليه الأسماء" (مبادئ الفلسفة) يمكن الإشارة الى (ميرلو بونتي) هناك فكر فقط لأن المعنى مبني مع الآخرين، والكلام ليس "علامة" الفكر، فإنهم "ملفوفون في بعضهم البعض" (ميرلو بونتي، فينومينولوجيا الإدراك) للانتقال من اللغة الرسمية إلى الكلام البشري لإظهار أن عمل الكشف عن الفكر يتم لأن هناك ذاتية بين كائنين من الخطاب يتكشف الفكر في فضاء اللغة، لأن "الكلمات ليس لها معنى، لها استخدامات فقط" (فيتجنشتاين)

ج) التطابق الصارم بين العلامات والأفكار: راجع مشروع لايبنيز ا للرياضيات العالمية: تشير الكلمات إلى أفكار كونية، كما تبين لغة الرياضيات، ما هي المشكلة ليست اللغة بل اللغات والاستخدام الخاطئ للعقل

3- التوليف

ومع ذلك لماذا إذن هذا الشعور المستمر بالخيانة؟

ينبغي استكشاف العديد من سبل التفكير.

سيكون هناك فرق بين اللغة الشائعة، اللغة اليومية، والتي هي مفيدة اجتماعيًا ولكنها غير شخصية وسطحية؛ واللغة الأدبية أو الشعرية أو الفنية بشكل عام، لم تعد مجرد أداة للتواصل بل أصبحت تعبيرًا عن "ذاتنا العميقة"، على حد تعبير برجسون. ومن خلال التواصل بشكل مفيد ولكن سطحي في الحياة اليومية، فإننا سنحصل على الانطباع الضمني والإحباط الناتج عن "خيانة" التعبير عن فرديتنا.

وهذا يقودنا إلى التساؤل حول صعوبة تحديد الحدود بين الاحساس والمفهوم، والإمكانيات التي توفرها اللغات الفنية المختلفة. وعلى نفس المنوال، يطرح الموضوع ضمناً مشكلة وجود فكر لاواعي من شأنه أن يفضح نفسه في لغة زلة اللسان، والأفعال الضائعة، والأحلام.

وهنا علينا

أ) العودة إلى الفكر كمخاطرة وكبحث عن الحقيقة في الحوار: التفكير هو التساؤل مع الآخرين عن معنى الكلمات (راجع الحوارات السقراطية)

ب) يمكن للغة أيضا أن تكشف عن فكرة ضمنية أو حتى غير واعية: تذكر النهج الفرويدي حيث اللغة هي ما يجلب الأفكار والرغبات اللاواعية.

الخلاصة:

لقد حاولنا أن نظهر أنه إذا كانت اللغة قادرة على خيانة الفكر، فليس بمعنى أنها لا تؤدي وظيفة عبودية تتمثل في نسخ فكرة نقية وواضحة ومتميزة، بل إنها كلها خطر تقميط الخيانة، أي الكشف الكامل عن العمل السري للفكر الذي يجسد في التجربة الإنسانية للقول. يمكن للمرء أن يتساءل بعد ذلك عما إذا كانت اللغة الشعرية أو الفنية ليست مكان الفكر الذي لا يتم خيانته بل يتم تقديمه ونشره في التجربة الجمالية.

النموذج الثاني

هل المناقشة تعني نبذ العنف؟

يعد هذا الموضوع كلاسيكيًا في المناقشة العامة، لكنه غير متوقع بالنسبة لتلاميذ البكالوريا لأنه لا يحتوي بشكل مباشر على موضوع جاهز في البرنامج بل يحمل معناة فكرية.

ومع ذلك، يمكن ربط الموضوع بالمفاهيم التالية: اللغة (مناقشة)، والعدالة، والدولة (العنف).

أول شيء يجب فعله هو البدء من فكرة مسبقة إيجابية: المناقشة يمكن أن تساعد في تجنب العنف؛ ولذلك فإن من يجادل، بدلاً من القتال بالمعنى السيئ للكلمة، يجب عليه أن يتخلى عن العنف.

وهكذا فإن الموضوع يستلزم التمييز: المناقشة، والتي من شأنها أن تجلب إن لم يكن السلام، فعلى الأقل التهدئة في العلاقات الإنسانية؛ وتجنب العنف.

ولكن على العكس من ذلك، قد يتساءل المرء عما إذا كانت اللغة وفعل المناقشة هما اللذان يثيران العنف: فالكلمات والأحكام في المناقشة يمكن أن تكون عنيفة بالفعل. في هذه الحالة يجب علينا الامتناع عن مناقشة الاخر. ماذا أفعل إذن؟ هل يجب علينا أن نتوجه مباشرة وبشكل ملموس إلى أعمال السلام، أم يجب علينا الامتناع عن أي لغة وإظهار اللامبالاة؟

وهنا يمكن صياغة السؤال على النحو التالي: هل يعني النقاش نبذ العنف أم على العكس من ذلك استفزازه؟ أليس المناقشة جدالاً؟

من السهل تعريف كلمة "مناقشة" (الحوار بهدف الوصول إلى حل)، لكن مفهوم العنف يحتاج إلى فهم دقيق: فالعنف هو فعل أو كلمة تفرض على انسان ما سلوكا دون موافقته. ويجب علينا أن نأخذ بعين الاعتبار الأشكال المحتملة لهذا العنف: العنف الجسدي، العنف اللفظي، العنف الإداري أو السياسي، العنف النفسي، الخ.

بالنسبة لتعبئة الموارد المعرفية اثناء لحظة التحليل هناك بعض المؤلفين المحتملين:

- أفلاطون (جورجياس) نقد المناقشة البلاغة البحتة للسفسطائيين الذين يريدون إعطاء الانطباع بأنهم على حق وأنهم يتغلبون على المحاور، في حين أنهم لا يملكون الحقيقة.

- هوبز (ليفيثان) الإنسان عنيف بطبيعته ويحتاج إلى حالة من العنف، إذا جاز التعبير دون نقاش، من أجل سلامة الجميع.

- روسو (العقد الاجتماعي (أصبح الإنسان عنيفًا وفاسدًا بسبب المجتمع؛ يتضمن العقد الاجتماعي مناقشة شروط الدولة العادلة والمسالمة.

- كانط، (مشروع السلام الدائم (الدبلوماسية فقط، والمناقشة، هما القادرين على جلب السلام بين الأمم)

- شوبنهاور(فن أن تكون على حق دائمًا (هدف المناقشة هو أن تكون على حق وتثبت خطأ الآخر.

ومن الممكن التفكير وفقًا للخطة التالية:

إن الجدال هو استفزاز للعنف

- الجدال هو خداع الآخر من أجل أن يكون على حق، من أجل السيطرة على الآخر (العنف النفسي)، حتى لو لم يكن الشخص يمتلك الحقيقة. أفلاطون، جورجياس، نقد السفسطائيين.

- الجدال هو صراع على السلطة ويؤدي إلى النزاعات، وليس السلام. شوبنهاور، فن أن تكون على حق دائمًا: لكي تكون على حق، يجب عليك ألا تتردد في إهانة الآخرين، على سبيل المثال؛ واستخدام العنف اللفظي.

- إن الكلام باعتباره مناقشة زائفة قد يصاحب العنف (العنف المنزلي، الانحراف النرجسي، وما إلى ذلك)

- الدبلوماسية كمحاولة للمناقشة ضد كل أشكال العنف: خذ مثالا تاريخيا (اتفاقيات كامب ديفيد).

ولكن السلام يجب أن يكون دائمًا، ويتم في ظل ظروف عادلة، وليس من خلال معاهدة تكون بمثابة سكين يوضع على حلق الآخر: كانط، مشروع السلام الدائم.

- على المستوى السياسي: المناقشة كوسيلة رئيسية للنقاش العام والمشاريع المجتمعية. روسو: مفهوم العقد الاجتماعي.

- الصمت واللامبالاة كوسيلة للتعبير عن الغضب أو الاستياء العنيف. الرواقية: "التحمل والامتناع"، الامتناع عن الكلام وقبول ما يحدث.

- العنف الحكومي (الذي يتألف من أفعال وقوانين مفروضة وليس مناقشات المواطنين) مقابل العنف الطبيعي للإنسان (الذي يتم التعبير عنه على وجه الخصوص من خلال الكلمات والأحكام السلبية): يفضل الرجال الأمن من خلال الوسائل القمعية ضد الخارجين عن القانون، بدلاً من المناقشات التي ستكون عقيمة وغير صادقة. هوبز، ليفيثان.

ويمكن الخروج في الخاتمة بسؤال جديد: هل العنف البشري طبيعي أم ثقافي؟

النموذج الثالث

هل يفلت اللاوعي من جميع أشكال المعرفة؟

يعتبر هذا الموضوع كلاسيكيًا ولكن غير متوقع تمامًا بالنسبة للبكالوريا لأنه يطرح مفهومًا للبرنامج يظهر نادرًا جدًا في الامتحان الوطني: هو موضوع اللاوعي.

يمكن أيضًا ربط الموضوع بالمفاهيم التالية: الوعي (اللاوعي هو ما لا ندركه)، والعقل والعلم (هل هما وسيلتان لمعرفة اللاوعي؟) والفن.

علينا أن نبدأ هنا من التمييز بين اللاوعي والمعرفة: هل يفلت أحدهما من الآخر بطبيعته، بحكم التعريف؟ ويجب علينا أيضًا أن نأخذ في الاعتبار الفرق بين الوعي والمعرفة: إذا كان اللاوعي يفلت من الوعي بحكم التعريف، فهل يفلت بالتالي من أي نوع من المعرفة؟ فما هي أشكال المعرفة إذن؟

إن جوهر السؤال هو ما إذا كان اللاوعي للذات الإنسانية يظل بالضرورة في جهل بهذا الذات نفسها أو بذوات بشرية أخرى، أو على العكس من ذلك، ما إذا كان العلم والعقل على وجه الخصوص قادران على معرفة اللاوعي.

وإذا أعيدت صياغة السؤال، فقد يكون: هل يفلت العقل الباطن من جميع أشكال المعرفة؟ بل على العكس هل يمكن معرفته؟ إذا كان الأمر كذلك، فمن خلال أي نوع من المعرفة؟ ولماذا ولأي غرض؟

بالنسبة لتعبئة الموارد المعرفية اثناء لحظة التحليل هناك بعض المؤلفين المحتملين:

- أفلاطون، اعتذار سقراط ؛ أيون.

- ديكارت، التأملات الميتافيزيقية، الردود الرابعة على الاعتراضات.

- فرويد، مدخل إلى التحليل النفسي.

- فرويد، تفسير الأحلام.

- شوبنهاور، العالم كإرادة وتمثل.

ومن الممكن التفكير وفقًا للخطة التالية:

إن اللاوعي يفلت من أي شكل من أشكال المعرفة

اللاوعي هو صفة من فقد عقله وليس له علم. أفلاطون، اعتذار سقراط أو أيون: نقد الشعراء "المُلهمين" الذين لا يعرفون ماذا يقولون.

إن ما يفلت من الوعي لا يمكن، بحكم التعريف، أن يكون موضوعاً للمعرفة. الأفكار اللاواعية غير موجودة. ديكارت، الرد الرابع على الاعتراضات، تأملات ميتافيزيقية.

إذا كان اللاوعي موجودًا، فهو لا يفلت من المعرفة التجريبية. نرى ذلك يوميًا في الحقائق، وفي الآخرين، وفي أنفسنا: زلات اللسان، والأفعال الضائعة، والأحلام. فرويد، مقدمة في التحليل النفسي.

ولا يفلت من المعرفة العقلانية والعلمية والتحليلية، ولا سيما من خلال التحليل النفسي، الذي يتمثل دوره في الكشف عن اللاوعي، ومعنى الأحلام، ومعرفة أسباب العصاب، والأفعال الوسواسية أو القهرية. فرويد، تفسير الأحلام. إن هدف معرفة اللاوعي هو إذن علاجي.

اللاوعي لدى الفنان المعبر عنه من خلال عمله أو: المعرفة الجمالية للاوعي. مثال السرياليين ونظرية الصدفة الموضوعية.

اللاوعي لدى الفنان معروف من خلال تمثيلات الإرادة. مثال الموسيقى (شوبنهاور، العالم كإرادة وتمثيل، التي تمثل اللاوعي للقوى الطبيعية أو المشاعر الإنسانية

يمكن في الخاتمة الخروج بسؤال جديد: إذا كان اللاوعي مبدعًا ويقدم معرفة جمالية، فهل من الضروري حقًا السعي إلى معرفته بطريقة عقلانية وعلمية؟

***

علي عمرون

 

هل يقدّم المثقف العربي أعماله اليوم من أجل تثقيف المجتمع أم من أجل إظهار ثقافته للمجتمع؟

هل ستضطر الثقافة العربية المعاصرة الى التخلي عن أهم مزاياها في شخصية المثقف العربي وهي التأمل والإبداع والنقد الذاتي؟

في عصر الآلات الذكية، هل نشهد ظهور ثقافة جديدة بين الإنسان والآلة؟

من سيؤثر في الأخر. الإنسان أم الآلة؟

يمكن القول ان المجتمع العربي على مدى عشرين عاماً منذ بداية القرن الواحد والعشرين يعاني من متلازمة نفسية  إجتماعية  ثقافية، حيث كثرة المشاكل والهموم المتشابهة على الرغم من اختلاف العادات والطباع والتقاليد في مجتمعات العالم العربي، فهناك اعراض لأنماط سلوكية غريبة آخذة بالإنتشار في الأوساط الإجتماعية، لا تجد من يعالجها رغم تشخيصها.

من اعراض المتلازمة الإجتماعية النفسية الثقافية، الشعور بالغربة داخل الأوطان، والرغية بالعزلة بوجود اجهزة التقنية المتطورة كالانترنت والموبايل، وحالات التنمر الإجتماعي، والتمرد السلوكي، والتمظهر الثقافي، وحب الظهور، والمراهقة المرافقة للنمو المعرفي والمكانة الإجتماعية والمواقع القيادية.

مهمة الثقافة العربية اليوم القيام بإعادة بناء أكبر عدد ممكن من صفحات التاريخ الثقافي للمجتمع العربي تؤهله لإقامة نظام قادر على مواكبة التطورات والتغيرات العالمية وتأثيراتها المحلية. لا تكمن المشكلة في وجود أو عدم وجود مثل هكذا مهمة أو مبادرة، فقد انبرى عدد من المفكرين والكتّاب والمثقفين العرب للبحث والعمل على تحقيقها. لكن المشكلة تكمن في السؤال عن موقع الثقافة العربية اليوم في دائرة الزمن. هل هي ضمن دائرة الزمن المعاصر؟ هل لديها من الوقت ما يكفي لإعادة بناء اكبر عدد ممكن من صفحات تاريخ الثقافة العربية؟

ربما لا يبدو ان الوقت يسمح لها بذلك، حتى إذا سمحت لها الإمكانات الذاتية والإمكانات الجمعية بالقيام بهذه المهمة.

مشكلة الثقافة العربية اليوم متعلقة بحال العقل العربي الذي لا يظهر انه عقل ديني في بحثه عن تطور العلم. ولا هو عقل لا ديني في بحثه عن تطور المجتمع. هو عقل انفعالي محكوم بأدوات تفكير دينية واجتماعية وتاريخية وسياسية، تهيمن عليه على وفق درجة فاعلية كل منها في التأثير.

مالم تتمكن الثقافة العربية من إعادة هيكلة تفكير العقل العربي المعاصر على وفق أسس موضوعية، انسانية، لن تشهد مجتمعاتنا تمكناً ثقافياً. ستبقى حياتنا عائمة على بحر من المفاجآت، كثيرها ضار، وقليلها سار، تعصف بها امواج التغيير جيئة وذهاباً، والناس فيها على حذر وقلق وترقب، لا يجدون في النفس متسعاً من هدوء لإعادة ترتيب الأفكار وتحديد المسار.

لذا فمن اولويات عمل مشروع الثقافة اليوم الإهتمام بالحالة الصحية لثقافة المجتمع في زمن تكثر فيه التفاهات والمتاهات، مثلما تكثر فيه المعلومات والبيانات.

لأن من شأن حيل التكنلوجيا ان تنشئ واقعاً لا يعرف ما اذا كان حقيقياً أم مزيفاً، هنا ستواجه الثقافة  مشكلة لا

أظنها قادرة على معالجتها، خصوصاً ان الثقافة العامة للناس اخذت تتشكل على وفق معطيات رقمية، إذا وظفت فيها حيل التكنلوجيا نتج عنها ثقافة وهمية هدفها إخضاع المجتمع لمؤثرات مرحلية يحكمها نظام عالمي يعمل بمشاريع سياسية واقتصادية وثقافية بتقنية رقمية في فضاء افتراضي 

يوفر بدائل سهلة ومقبولة لها تأثيرها في المشهد الإجتماعي الثقافي، مثل حضور الصورة بدلاً عن جهد الكتابة الذي يبذله المثقف في صياغة عبارة وكتابة مقالة وتأليف كتاب، فالتقنية تتيح تحويل الكلمات الى صورة، وترجمة الفكرة الى صورة. هنا سيتراجع حضور اللغة في حركة الثقافة، وستحل محلها خوارزميات ومعادلات رقمية توفر السرعة وتختزل كثيراً من الحبر والورق والكلمات. بهذه النتيجة سيكون مستقبل الثقافة العربية مهدداً بظهور ثقافة رقمية كشفت عن جانب منها بعض المنشورات والتعليقات لبعض متداولي مواقع التواصل الإجتماعي يمكن وصفها بتغيير طريقة التعبير اللغوي بواسطة الاستخدام التقني للحرف العربي، فلكي تعبر عن إعجابك تكتب ( روووووعة) أو ( رااااااائع ) بدلاً عن عبارة تصف ذلك الإعجاب. ولكي تظهر حجم انفعالك وتأثرك تكتب (أللللللللله أكبر). ولكي تظهر عاطفة قوية تجاه شخص ما تكتب  (أحببببببببك) أو (أحبك حيييييييل) وهكذا..

ثقافتنا العربية اليوم أمام منعطف يبدو خطيراً، أفرزته وقائع الأحداث، يتعلق بمصير الثقافة بين التدريب النفسي والتدريب الذهني، ودخول التسارع الزمني على خط إدارة هذا التدريب أو ذاك، فالحالة التي يظهر عليها المجتمع انه مجتمع مثقف هي في الغالب حالة ناتجة عن تدريبه نفسياً على تقبل مظاهر سلوكية واعتبارات معينة بإكسسوارات مظهرية، ولعل ما ينتجه سلوك أفراد في مناسبات معينة مثل خسارة فريق امام آخر في لعبة كرة قدم من عراك واشتباك وتحطيم لزجاج السيارات وتخريب للطرقات وغيرها. يدلل على ان تلك الثقافة التي عليها اولئك الأشخاص هي حصيلة ذلك التدريب والتعويد النفسي، وليست حصيلة التدريب الذهني. هذا يعني ان المجتمع يضيّع من عمره كثيراً في اعتياد ثقافة التدريب النفسي على حساب ثقافة التدريب الذهني، لأن ثقافة التدريب الذهني تجعل من الشخص متحكماً بانفعالاته، قادراً على ايجاد مخرج لأزماته، لكن بسبب اختلال وظيفة التدريب في عملية التربية والتعليم، ودخول المجتمع في فترات من القلق والإضطراب النفسي والشد العصبي وانماط الحياة الروتينية الرتيبة لفترات تتراوح بين عقد وعقدين من السنين، ظهر في المجتمع اشخاص ناضجين جسمياً، لكنهم مراهقين عقلياً، كمراهقة المسنين، ومراهقة السياسيين، ومراهقة المتعلمين، ومراهقة المتدينين، فقد سجلت أحداث البلاد ظواهر غريبة ومزعجة، كانت محط إنتقاد المجتمع، ورفض الذوق العام. منها التدني الأخلاقي لسلوك أكاديمي داخل الحرم الجامعي، وغياب الحس المسؤول لموظف حكومي، وموت الضمير الإنساني والوطني لمسؤول سياسي، وسقوط المبادئ والقيم في سلوك معمم او معلم.

هنا تصبح الثقافة العربية المعاصرة أمام مسؤولية شاقة، وأمام  دور خطير قد لا يكتب لها النجاح في أدائه في ظل استمرار أحوال العالم العربي على ما هي عليه اليوم من تراجع ملحوظ في فهم الصدق والعدل والحرية.

 يحتاج مفهوم الصدق السياسي الى قوة اقتصادية كبيرة تحرك عقل السلطة بإتجاه إنتاج قرارات إصلاحية قوية. يهيمن النظام العالمي اليوم على مصدر قوة الإقتصاد العالمي ويحركها بعيداً عن طبيعة المجتمعات في حاجاتها الثقافية، لذلك نما في تفكير العقل السياسي مفهوم الخداع بمرور الوقت كي يتمكن من إدارة أوهام الجماهير، فبينما يغرق المجتمع في تفاصيل الحياة الجديدة، يلجأ العقل السياسي الى خداع الجماهير والكذب عليهم من أجل كسب مزيد من الوقت في السلطة، ومزيد من الأصوات في الإنتخابات. المشكلة التي تواجهها الثقافة العربية اليوم هي ان جيل المستقبل سيجد نفسه يتداول ثقافة قائمة على هذه المفاهيم المغلوطة والضارة والسيئة. وجود هذا النوع من التداول الثقافي يهيئ لأرضية يتم عليها تخريب المجتمع وهدّ بنائه الأخلاقي والقيمي، قبالة تشييد بنائه العمراني. من ذلك الزيف نجد ان كثيراً من بلدان العالم العربي اليوم توصف بأنها بلدان متمدنة، ديمقراطية، بينما تكشف الأحداث عن حجم التلاعب في صناديق الإقتراع، وحجم التلاعب في ميزانية الدولة، وحجم التلاعب في مقدرات الناس، هكذا يصبح الناس محكومين من سلطة تخدعهم، ويعلمون انها تخدعهم. بهذا الحال تكون الثقافة العربية المعاصرة في موقف محرج جداً، لأنه سيتعذر عليها تحديد أي جزء في بدن المجتمع هو القادر على كشف الحقيقة، وأي جزء في بدن الإنسان هو القادر على كشف الخداع، وأي جزء في تفكير الإنسان هو القادر على إجتياز هذه الإختبارات بنجاح لصالح الحقيقة والصدق.

يبدو ان الثقافة هي الأخرى قد تأثرت بالسوق الإستهلاكية وبروتين الحياة اليومية في غمرة الإنتاج والإستهلاك العالمي. إذ لم يعد من السهل دعوة الناس الى توظيف ثقافة موضوعية في حياتهم الإستهلاكية الروتينية، لأنه لم يعد مع الناس ما يكفيهم من وقت لتلبية هذه الدعوة، مع علم كثيرين ان التغيير السريع والتطور المذهل للتقنية سيفرض عليهم ان يتحولوا الى اشخاص مستهلكين (بفتح اللام) بعد ان يمضوا وقتاً من حياتهم كمستهلكين (بكسر اللام). هنا ستصبح الثقافة في ورطة كبيرة، فلا هي قادرة على التعاطي مع الواقع المادي الرقمي المجرد، ولا هي قادرة على تقديم بدائل آمنة تحفظ حاضر الناس وتضمن مستقبلهم. فلا العقل السياسي الجديد يدعمها في مشروع تمكين المجتمع ثقافياً، ولا العقل الديني الكلاسيكي.، ولا ثقافة المجتمع الشعبية، ولا ظروف الناس الإقتصادية. ولا أجندات المؤسسة الثقافية الرسمية. 

***

د. عدي عدنان البلداوي

في العراق، حيث تتشابك الأقدار وتتصارع الحقب، يُعاني المثقف أكثر من غيره، ليس لأن دوره أقل أهمية، بل لأن مهمته أشد خطورة وتعقيدًا. المثقف هو ضمير الأمة ومرآتها، ومع ذلك، يجد نفسه محاصراً في دوائر العمى الجماعي، حيث تُحاصر الحقيقة بالظلام، وتُلفظ الكلمة المضيئة في فضاء يسوده الصمت والخوف. في هذا الوطن الذي يُفقد فيه الإنسان إنسانيته يوماً بعد يوم، يتحول المثقف إلى كائن خارج الزمن، يُعاقب على وضوحه، ويُطارد من قبل من يخافون من انبلاج فكره.

المثقف العراقي، إذًا، هو سجين في وطنه، سجين بين جدران الجهل، وسجان بين أيدي من يَستخدمون المعرفة كسلاح للقمع والتدمير. وهذا السجن ليس بالسلاسل أو القضبان، بل هو سجن أيديولوجي وثقافي، يتغلغل في كل نسيج الحياة.

الجهل: القوة المنظمة

الجهل في العراق لم يكن يوماً حالة عابرة أو صدفة، بل هو مشروع مُدار بدقة، وأداة بيد قوى متعددة تسعى للحفاظ على أنظمتها عبر التعتيم والإنكار. ليس الجهل نقص المعرفة فحسب، بل هو نظام متكامل يُنتج ويُعاد إنتاجه يومياً عبر وسائل الإعلام الموجهة، التعليم المُضلل، والخطابات السياسية والدينية التي تُصنع على مقاس الحفاظ على الوضع القائم.

هذا الجهل هو الذي يُعاقب على طرح الأسئلة، ويُجرّم الشك، ويُحرم من حرية التفكير. في العراق، يصبح الجهل سلطة، والجاهل هو من يحتكر الحقيقة، أو يدّعي احتكارها. المثقف هنا يواجه عدوًا لا يُرى، لكنه ملموس في كل مكان؛ هو التيه الثقافي الذي يبتلع الوعي، ويحوله إلى بقايا أثرية هامدة.

المشكلة في العراق ليست في قلة المثقفين، بل في كثرة من يرتدون قناع الثقافة ويمنعون عنها نورها¹.

المثقف بين الاستلاب والالتزام

المثقف الحقيقي في العراق، وفي كل مكان تُهيمن عليه سلطات الجهل، يعيش صراعًا داخليًا مريرًا بين الاستلاب والالتزام. الاستلاب هنا يعني الانسياق وراء التيار، والقبول بالتكتيكات الرخيصة التي تخدم السلطة، والانغلاق في دائرة الدفاع عن الذات بدلًا من الدفاع عن الحقيقة.

أما الالتزام فهو أن تبقى وفياً لمهنتك الروحية والفكرية، رغم كل الإغراءات والتهديدات، وأن ترفض أن تتحول إلى مجرد صوت في جوقة الإذعان. كما يقول جان بول سارتر، الالتزام هو ما يجعل المثقف إنسانًا كاملاً، وليس مجرد حامل أفكار2.

لكن في العراق، الالتزام يُعاقب. يُعاقب المثقف لأنه يُذكّر الناس بأنهم ليسوا مضطرين لقبول واقعهم كما هو، وأن هناك إمكانات أخرى للحياة والحرية. وهذا ما يجعل المثقف دائمًا هدفًا لمن يحكمون بالجهل.

الوعي الزائف وفساد الثقافة

أنطونيو غرامشي وصف الوعي الزائف بأنه وعي يُبنى وفق مصالح قوى الهيمنة، لا مصالح الإنسان الحقيقي. في العراق، هذا الوعي الزائف يتجلى في ثقافة مقلوبة، تُقدّس الرموز الفارغة، وتُشيّد الأساطير التي تُبرر الخضوع والذل. الثقافة تتحول إلى أداة لتجميل القمع، وتزيين الفشل، بدلاً من أن تكون حاضنة للتغيير والتنوير.

حين يصبح المثقف أداة لتكرار الوعي الزائف، يتحول إلى جزء من المشكلة، لا الحل. وفي هذا السياق، التحدي الأكبر للمثقف العراقي هو مقاومة هذا الوعي الزائف وكشفه أمام الناس، مهما كلفه ذلك من ثمن.

التنوير كمقاومة

التنوير ليس رفاهية فكرية، بل هو فعل مقاومة بحد ذاته. كما يقول أدونيس، كل تنوير هو تمرّد ناعم على القطيع3. في العراق، حيث القطيع يُرغم على السير في دروب الجهل، يصبح التنوير ضرورة وجودية، وليس خيارًا.

المثقف الذي يضيء شمعة في هذا الظلام، لا يضيء لنفسه فقط، بل لكل من يرفض أن يعيش في قوقعة الجهل والخوف. الكتابة، الحوار، النقد، والبحث عن الحقيقة كلها أفعال مقاومة تعيد بناء الإنسان العراقي في جوهره.

أن تكتب في بلد يحارب المعرفة، هو نحت حروفك في صخر الصمت، وصنع من وجعك مصباحًا في نفق طويل.

المثقف والواقع العراقي

إن المثقف العراقي لا يمكن أن يكون منفصلًا عن واقع بلده؛ فهو جزء منه، ومرآته، ومحرّكه. لكن الواقع العراقي معقد، متشابك، مليء بالتناقضات والآلام. المثقف مطالب بفهم هذه التناقضات وتفكيكها، ليس فقط ليعبر عن معاناة وطنه، بل ليصنع أدوات التغيير.

في وطن يُصلب فيه الإنسان يوميًا على أعمدة الجهل، لا بد للمثقف أن يكون أكثر من مجرد ناقل للأفكار؛ يجب أن يكون صانعًا للرؤى، وصاحب مبادرات تُحرر العقل وتفتح الأبواب المغلقة.

خاتمة والناتج

المثقف لا يُقاس بعدد الكتب التي قرأها، بل بعدد الأوهام التي حاربها. وإن لم يكن قادرًا على تفكيك الأكاذيب التي وُرِّثت للأجيال، فعليه أن يصمت كي لا يضيف إليها كذبة جديدة.

أنا لا أكتب لأنني أمتلك الحقيقة، بل لأنني ضاق بي الزيف. أكتب لأن الإنسان في بلدي يُصلب كل يوم على أعمدة الجهل، ولا أحد يصرخ.

سيأتي الزمن الذي يُسأل فيه المثقف أين كنت حين ساد الباطل؟ فإن أجاب كنت صامتًا، فليعلم أن صمته كان جريمة.

***

الكاتب سجاد مصطفى حمود

....................

الهوامش:

2. غرامشي، أنطونيو. دفاتر السجن، الجزء الثاني.

3. سارتر، جان بول. الأدب والالتزام، ترجمة محمد بندور.

 

(سلوا النساء لتعلموا أن لا لذة في الولادة، فالدجاج يبيض صائحاً.. والشاعر يبدع متألماً....)... نيتشه على لسان زرادشت

وزرادشت هذا هو نبي الفرس وحكيمهم، ولد في اذربيجان سنة ٦٦٠ ق.م وتوفي سنة ٥٨٣ ق. م وانه جاء بكتاب اسمه (الأفستا) أو (الأبستاق) وقد ادعى بأنه منزل عليه من السماء عن طريق الوحي، وبذلك يعده الفرس مقدساً وفيه تعاليم هذا الدين.

فالأيرانيون قبل زرادشت كانوا مشركين يعبدون آلهة متعددة كالشمس والقمر والزلازل والبراكين وكل ما كانوا يخشونه من مظاهر الطبيعة في محاولة لاسترضاء هذه الظواهر وتجنب شرها وغضبها كما كان المجتمع الأيراني متخلفاً يسوده القتل والسلب والنهب الأمر الذي دعا زرادشت الى التفكير في أنقاذ أمته، فأخذ يدعو شعبه الى نبذ الشرك واتباع الطريق المستقيم وكانت دعوته هذه بوحي من الأله (مزدا) اله النور والخير.

هل الزرادشتية موحدة أم ثنوية. سماوية أم أرضية؟

المعروف عن الأديان الموحدة هي التي تؤمن بإله واحد أحد غير منظور بيده مفاتيح الكون ومصير الإنسان كاليهودية والمسيحية والإسلام غير ان الأديان الثنائية تقول بوجــود قــــوتين متناقضتين أحدهما للخير وأخرى للشر وتقول أيضاً عن خلق الخير والشر (فاهورا فردا) اله النور في الزرادشتية هو خالق كل شيء خير مثل النور والحق والحب والسلام والعمل الصالح و (هريمان) اله الظلام هو خالق كل شيء شرير مثل الظلام والباطل والبغض والأفاعي والعقارب وغيرها.

وهكذا نجد ان الفكر الثنوي موجود حتى في الأديان الأخرى متمثلة بفكرة وجود الشيطان المناقض للرحمن الذي هو الإله الأعظم وغالباً ما يسعى الشيطان الى إحباط الأعمال التي يقوم بها الرحمن ونجد هذا في الدين اليهودي والمسيحي والإسلام وفي الفلسفة اليونانية القديمة وفي أديان بلاد الرافدين. " كما نجد هذا التناقض في الطبيعة بين الليل والنهار والنور والظلام والسماء والأرض والحياة والموت، فالعالم في نظر الإنسان القديم كان مأهولاً بهذه الثنائيات التي تصارع بعضها البعض الآخر. وكان هو في بؤرة هذا الصـ (الوعي ونشوء فلسفة الترميز. جمان حلاوي ص ٤٢٨).

جاء في المعجم الفلسفي، الثنوية: مذهب يقول بمبدأين يدبران العالم أو يدبرهما أحدهما ويفسده الآخر، كذلك: فرقة تقول بإثنية الأله قالوا: تجد في العالم خيراً كثيراً وشراً كثيراً فكل منهما فاعل على حدة. وقالت المانوية: فاعل الخير هو النور وفاعل الشر هي الظلمة، والنور حي قادر سميع بصير، والمجوس قالوا ان فاعل الخير هو (يزدان) وفاعل الشر (اهرمن) ويعنون به الشيطان.

وفي المعجم الفلسفي – رؤية ماركسية: في الفكر العربي الإسلامي. كان مصطلح الثنوية يدل على النحل غير الأسلامية مثل المجوس والمانوية والديصائية والمزدكية القائلة بوجود مبدأين خالقين في الكون - الله والشيطان – الخير والشر، النور والظلمة، كما نعتوا بذلك المعتزلة لقولهم ان الإنسان خالق افعاله مما يعني وجود خالقين: الأله والإنسان، وكان ديكارت أكبر ممثل للثنوية في تاريخ الفكر الفلسفي لقوله بوجود جوهرين: روحي ومادي.

أما كون الزرادشتية دين سماوي أم أرضي فقد كانت الروايات مضطربة فيه بين مؤرخي الفرس والمسلمين، وبإمكاننا ايراد بعض هذه الروايات والآراء. ان بعض المؤرخين يقولون: ان الزرادشتية منزلة من السماء كالإسلام وهي في الأصل ديانة موحدة ثم تحولت الى ديانة ثنوية وتفرعت عنها الديانة المانوية.

ويخلط المسعودي في كتابه (مروج الذهب) بين الزرادشتية والمجوسية حين يقول: " ان زرادشت نبي المجوس " (مروج الذهب الجزء الأول).

ويرى البعض ان المجوسية شيء والزرادشتية شيء آخر، فالمجوسية هي دين جماعة من الناس كانوا يمارسون السحر ويعبدون النار.

وللشهرستاني في كتابه الملل والنحل (رأي آخر مغاير فهو يقول: " نشأ زرادشت الـــى أن بلغ ثلاثين عاماً فبعثه الله نبياً ورسولاً إلى الخلق. ويعد الشهرستاني في مقدمة مؤرخي الأسلام القائلين بأن الزرادشتية ديانة موحدة حين يقول في موضع آخر: وكان دين زرادشت عبادة الله والكفر بالشيطان والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وانه فرض على أتباعه خمس صلوات، ويعاكسه (القلقشندي) بقوله " ان زرادشت أدعى النبوة ".

ومن خضم هذه الروايات المتضاربة يمكن أن نستنتج بأن الزرادشتية دين ثنوي وليس موحد كما انها ديانة وضعية من صنع زرادشت وان كتاب (الأفستا) وضعه هذا الرجل ولم يك منزلاً من السماء كما كان يدعى وكذلك يمكننا معرفة خصائص هذا الدين وان زرادشت مر بنفس المراحل تقريباً وتعرض لنفس المصاعب والمتاعب التي مر بها انبياء الشرق فسـيرة حياته كما وصفها مؤرخو الفرس تقول: انه عندما بلغ الثلاثين من عمره لجأ الى الكهوف والمغاور متأملاً امور الكون والأنسان وعاش حياة الناسك لا يأكل الا جذور النباتات ولكن في خلال العشر سنوات الأولى من دعوته لم يستجب له احد فلزمه الحزن الا ابن عمه (ميتوماه) نهض ليساعده ويشد أزره وحين بلغ (٤٢) عاماً أمره الألـــه (مزدا) أن يصدع بدعوته، وبينما هو بالقرب من أحد الأنهار متأملاً اذ رأى عموداً من النور يقترب منه فأخذته الرهبة غير انه طمأنه بأنه رئيس الملائكة وان الإله أرسله له، ثم طلب منه خلع ملابسه وعدما خلع ملابسه قام رئيس الملائكة بشق صدره وأخرج قلبه ثم غسله بالماء البارد تمهيداً للصعود به الى السماء كي يقابل الإله (مزدا) وعندما تم اللقاء القدسي هذا بين زرادشت والأله أبلغه الأله بالرسالة وأعطاه التعليمات الخاصة بها وأوضح له طريق الهداية لأمته بما سيملي عليه من آيات ستنزل تباعاً عليه من كتاب (الأفستا) (ثم زوده بتعاويذ وطلاسم تحميه من شر السحرة والشياطين.

وهكذا نجد ان للزرادشتية خصائص مذكورة في كتب التراث الفارسي منها مثلاً: ان هذه الديانة تقدس النار باعتبارها رمزاً للقوة الألهية وبذلك أسسوا معابد للنار سموها (هياكل النار) وعلى اتباع هذا الدين التوجه للنار او الشمس عند الصلاة، كذلك فإنها تؤمن بالحياة الأخرى بعد الموت ووجود مبدأ العقاب والثواب بحسب أعمال الإنسان. وذلك لأنها تعنى بالنواحي الأخلاقية وتدعو الى عمل الخير وتجنب الشرّ، ويعدون الله مصدر الحلال والإشراق. وتؤمن الزرادشتية بتعدد الزوجات لكثرة النسل ولذلك يقول عنها ابن الجوزي.. " انها تبيح زواج الأب من ابنته والأبن من امه والأخ من أخته. "

بعد هذا الانتشار للزرادشتية وبعد أن أصبحت الديانة الرسمية للأمبراطورية الساسانية طيلة أربعة قرون لعبت عوامل داخلية وخارجية دورها في انحسار هذا الدين حيث قتل زرادشت على يد الطورائيين الأتراك حين هاجموه وهو في أحد هياكل النار. أما العامل الثاني فهو دخول الأيرانيين الدين الأسلامي على أثر الفتح العربي الأسلامي لبلاد فارس في زمن الخليفة الثاني، الأمر الذي أدى الى هروب كثير منهم الى الهند، واليوم فهم يشكلون أقلية بين سكان ايران البالغ عددهم أكثر من (90) مليون نسمة ولا يتجاوز عددهم في ايران و ماحولها أكثر من (۳۰۰) الف نسمة، كما توجد أقلية منهم في كـــل من كندا والولايات المتحدة الأمريكية.

***

غريب دوحي

 

ماذا يتبادر الى الذهن عندما ننظر الى السماء الصافية ليلاً؟ هل النجوم المشتعلة على بعد ترليونات الأميال من الارض والتي تقطع مسافة 186 ألف ميل في الثانية، ويستغرق ضوئها عدة سنوات للوصول الينا تجعلنا نشعر بالرهبة ام بالفضول ام بالاثارة؟

ام ان الحجم الهائل والغامض للكون يجعلنا نشعر بالغثيان وعدم الأهمية؟

واذا كنا نشعر احيانا ان اتساع الكون يجعل حياتنا بلامعنى، فان الفيلسوف روبرت نوزيك Robert Nozick(1938-2002) يجادل بان عظمة الطبيعة يجب ان تجعلنا نشعر بالارتباط الهادف.

في كتابه (الحياة المختبرة،1989) يكتب نوزيك:

"انه من بواعث الهدوء في الروح عندما نرى أنفسنا جزءا من عملية طبيعية واسعة ومستمرة. لنتذكر، مثلا، الوقوف بجانب محيط، نرى ونستمع للموجات الواحدة تلو الاخرى وبلا نهاية، مدركين ضخامة المحيط.

عندما نرى أنفسنا جزءا صغيرا من عملية واسعة ذلك يجعل موتنا غير هام، وغير مثير للقلق. عندما نتعرف على أنفسنا من خلال شمولية العمليات اللامتناهية للوجود، سنجد أهميتنا في ان نكون جزءا من تلك الكلية، وان موتنا ستكون له أهمية عابرة".

اذا ابتعدنا عن وجهات نظرنا الخاصة وتأملنا في حياتنا الفرعية (من منظور الأبدية)، فان قلقنا اليومي ومخاوفنا تفقد الكثير من زخمها، وسوف تتعمق أهمية الوجود .

التقلبات اليومية في المزاج هي مجرد قطرة، محيطات الوجود بقيت تتلاطم منذ بلايين السنين. نحن جزء من شيء أكبر بكثير – شيء سوف يستمر طويلا بعد موتنا.

لكن هل هناك أهمية للاجزاء التي نلعبها؟

ان اضافة هذا النوع من المنظور لحياتنا يساعد في التخفيف من مخاوفنا اليومية. وفي النهاية، سواء معنا او بدوننا، ستستمر المحيطات تتلاطم، الكواكب ستدور، النجوم ستتشكل وتحترق. كيف يمكن الشعور بالارتياح من عمليات واسعة وسرية تحكم الوجود اذا كانت الاجزاء التي نلعبها مجرد شيء لالزوم له؟ نوزيك يحاول الرد على هذا القلق. "عندما نأخذ من ضخامة الوجود كل شيء غير ضروري او يمكن استبداله فان الوجود المُختزل المتبقي ليس رائعا ابدا". ويستمر في القول:

"كلية الوجود وعملياته بمرور الزمن هي مدهشة جزئيا بسبب فائضها العظيم، ولهذا فان وجودنا، ووجود أشياء مثلنا، هو جزء مميز وثمين. وجودنا هذا تتخلله نفس القوانين العلمية والمواد الفيزيائية النهائية التي تشكل كل ما تبقى من الطبيعة، وهو جزء ممثل للطبيعة، نحن نجسد نطاقه ".

طبقا لنوزيك النظر الى أنفسنا كجزء من الطبيعة، عبر تشخيص أنفسنا كالكون، وعدم رؤية الكون كهوية منفصلة (تجدر الاشارة نحن صُنعنا من نفس اللبنات الأساسية كالنجوم)، اننا في نفس الوقت نهدئ القلق المؤقت للايغو ونعمّق أهمية وجودنا. نحن لسنا منفصلين عن الطبيعة، نحن الكلية.

الكون ليس منفصلا عنا، الكون هو نحن

موقف نوزيك يذكّرنا بفيلسوف القرن السابع عشر باروخ سبينوزا. في عمله الأخلاق عام 1677، يجادل سبينوزا ليس دفاعا عن إله مجسّم، بل هو يقترح ان الطبيعة ذاتها إله. وكتعبير عن الطبيعة، نحن نشارك في هذه الالوهية. هذا المنظور له مضامين عميقة، كما تلاحظ الفيلسوفة المعاصرة هيلين دي كروز في مقال حديث حول فلسفة سبينوزا:

"حالما تدرك انك تعبير عن كلية الطبيعة، انت ستدرك انه بالرغم من انك ستموت، انت ايضا أبدي بالمعنى غير التافه..".

يستمر نوزيك بالقول: من الممتع حقا ان نكون جزءا من العملية، يجب ان تجعلنا نشعر بالقرابة مع كل ما في الوجود، انا أرى الناس ينحدرون من سلسلة من أسلاف الحيوان والانسان في سلسلة أحداث عشوائية غير مرقمة، لقاءات عرضية، انتزاعات وحشية، هروب محظوظ، جهود متواصلة، هجرة، نجاة من الحروب والامراض. كان من الضروري وجود سلسلة معقدة وغير محتملة من الأحداث لكي يُنتج كل واحد منا، انه تاريخ هائل يعطي كل فرد قدسية الخشب الاحمر، ولكل طفل نزوة السر. انه امتياز ان نكون جزءاً من العمليات وعالم الأشياء الموجودة.عندما نرى ونتصور أنفسنا كجزء من عمليات مستمرة، نحن نتعرف على الكلية، وفي هذا الهدوء، نشعر بالتضامن مع كل رفاقنا في الوجود".

وجودنا القصير قد يبدو عشوائيا او معزولا او غير هام، لكن فرادته تساهم باتجاه الكُل العظيم للطبيعة. عبر عيش الوجود بأحسن ما يمكن، نحن "نضيف جزءا مميزا خاصا بنا لعمليات الواقع الأبدية".

عندما ننظر مرة اخرى للسماء الصافية ليلا، عبر التأمل في مكاننا في الكلية – عبر الإعتراف الحقيقي باننا نستمر في وجودنا وفي ارتباطنا بكل ما موجود – سنجد أي شعور سابق بالانفصال او اللامعنى يختفي ويتبدد في محيط الهواء الشاسع فوقنا.

Philosophy Break, August 2023

***

حاتم حميد محسن

سؤال الإبدال الإعلامي الجديد

الإعلام كدرس إبدالي جديد، لا يمكن إلا أن يعيد تأسيس فهومنا الثاوية لبلاغة الخطاب، وتداولياته، وآفاقه الحجاجية والإقناعية. فهو إذ يتعبأ دوما إلى مجاورة المعرفة، وإبلاغها وتبادل خطاباتها، عبر لغة بيانية واضحة متينة كاشفة، تروم إنتاج نص واع ولذيذ، وبعين راصدة منكشفة على العالم وخلفياته الثقافية والاجتماعية والبيداغوجية، فإنه يصحو اليوم على مجموعة تحولات وتفاعلات متحلحلة، بأنساق واستيهامات وأسئلة متقاطعة، تحاول الكشف عن جملةً من الأسئلة المنهجية والمعرفية التي تتمحور حول علاقة الدرس الإعلامي بمجتمع المعرفة وتحولاته السريعة، وسرِّ تغير آليات خطابه في ضوء تطور معطيات تقيس مستويات انتظاراتنا بإزاء ما ذكر، ومدى قدرتنا على مسايرة التحديات، بطفرات الانتقالات المعولمة وجهوزية استقبالنا لها، وعلاقة انخراطنا في تشكيل وعي حافزي لتلقيها واستثمارها.

يشكل هذا المنطق الثقافي لسؤال الإبدال الإعلامي الجديد، امتدادا لتشكيلة انصهار أدوات لغوية وبلاغية وسيميائية ذات صلة، تتوازى في هيكلتها العامة، مع نواظم معرفة الإعلام وإوالياته، حدوده وامتداداته، بل وحضوره الاستدعائي، في روح النص ومعانيه وتجويفاته. وهو ما يضعنا أمام تشكيلة كاملة في منحنيات النص البلاغي أو تحليله الخطابي، والذي تتداخل فيه "معرفة النص" ب" خطاب الصورة" (يمكن أن تكون صالحة للصَّوت المنطوق، والصورة الإشهارية (خاصة عند رولان بارت)، وأنواعها ودلالاتها في مجتمع الإعلام والوساطة الإعلامية، وآليات تحليل الخطاب (الإعلامي)، بفن الإقناع في مكوناته وتقنياته لاستنباط الحجج ومعالجتها وبالمقاربة الحجاجية ذات الحس الإعلامي المتاخم للتصورات التي تستحضرها علامات الكتابة المعلومة في أسئلة البرهان الإعلامي المعلوم بالضرورة:

- من.. من الذي لعب الدور في وقوع الحدث (المعنى المفهومي لتقديم الخطاب الإعلامي)

- متى.. زمن وقوع الحدث (المعنى الإشكالي لتخصيص الزمن الإعلامي)

- أين.. مكان وقوع الحدث (المعنى الرصدي لتقديم وتعبئة الخطاب الإعلامي وخلفياته)

- ماذا.. ماذا حدث (المعني التعبيري الذي يصب في الأسلوبية)

- كيف.. تفاصيل الحدث (المعني الحجاجي الإقناعي الذي يصب في التداولية الإعلامية الحديثة)

- لماذا.. أولويات أو خلفيات الحدث (المعنى التوسيعي لتنويع الخطاب واستجلائه).

يجسد هذا التجاور التحصيلي، نوعا من الارتباط بوظائف بلاغة الخطاب الإعلامي، وتشكلاته الجديدة في مضمار ما تطرحه السيميائيات النصية الحديثة التي قادها الفيلسوف البلجيكي شاييم بيرلمان ومواطنته لوسي أولبيرخت تيتيكاه والروسي غريغوري بيرلمان خصوصا فيما يتصل ببلاغة الصورة وبعدها الحجاجي الإقناعي . أو ما تتقاطع بإزائها مع مدلولات النص المنظور، على اعتبار تحديد خطابه واستدعائه وتصنيفه، وهو ما يوازي في الصميم والعمق، تحميل الخاصية الخطابية الإعلامية هذا التحول في بيانه وتبيانه. وأستحضر هنا قولة شهيرة لأوليفيي روبول، من "أن وحدة الخطاب، إنما يخلقها مُؤَلِّفُهُ: هو من يُقرِّرُ ما يتَحَدَّثُ عنه، وهو من يقرر متى يبدأ خطابه ومتى ينتهي، وهو من يقرر أن يكتب مصنفاً، أو دراما، أو رسالة أو حكمة بسيطة "1. وبمعنى أدق، فالخطاب الإعلامي ينبري لاختيار طريقة تموقعه في البراديجم المجتمعي، على خلفية النشر/ المعرفة، ثم الرصد والتحليل، وكذا التعليق والتحقيق، والتأويل والاستدراك.. بآليات خطابية إقناعية مدروسة ومستكنهة للزوميات الواقع والحدث، وبخلفيات وأساليب بيانية عديدة.

لن أدخل هنا في جدال المفاهيم الفلسفية المتعلقة بالخطابة وقول الخطاب وعلاقة ذلك بالحجاج واستعمالات اللغة، والذي يكرس تنوعا تاريخيا ومعرفيا بالحقل البلاغي الخطابي، والذي تداخلت فيه نظريات واعتبارات متداخلة، كالتفكير في الخطاب والخطابة والبلاغة والحجاج انطلاقا من منظور قيمي لدى أرسطو و بيير دو لارامي، أو علاقات صناعة الخطابة الجديدة بنظرية الحجاج عند شاييم بيرلمان. وكلها أو بعضها يشكل بنيات أفقية منذورة بالضرورة للخلفية الخطابية في وضعية الإعلام، كما يجب أن يكون، لا كما أريد له. وهي حتما، تمثل بالنسبة للأكاديما الإعلامية أرضا خصبة للتلاقح البيني، ووعاء متساوقا والمعارف الأخرى، والتي تقتدر التأسيس المفهومي والاستبصار الدلالي، بنفس القيمة والاعتبار الذي تصير فيه جدارا للوقاية من آفات السقوط اللغوي والبلاغي والسيميائي.

وأعتقد أن بيرلمان يحاجج في ذات المسار، عندما يتفاعل مع هذا المعنى، إذ "ما دام الحجاج يَتَغَيَّا التأثير في مُسْتَمَعٍ ما وتعديل قناعاته أو استعداداته بواسطة خطاب ما يوجه إليه ويسعى إلى كسب تصديق العقول بدل فرض الإرادة بالإكراه أو بالترويض"2). والمستمع هنا، هو في نفس الآن، ناظر ومستدل، ومتلقي ومعاين ومستقر الرؤية. على اعتبار المحاججة المدعومة بآليات الإقناع والتوصيل المعرفي، مبتعثة، لعدم سقوط القارئ في تأويل مغلوط أو فهم مخطوء، أو حتى انزياح عن المعنى الذي يقصد منه نشر الحدث الإعلامي.

الإعلام الاجتماعي: بنية إعادة الإنتاج

مثلما هو الحال بالنسبة لمنظومة الخطاب في التعليم والتربية، يمكن تأويل طبيعة النظام الإعلامي الذي يعكس في العمق علاقات القوة والهيمنة والصراعات الثقافية والرمزية، وجود التقائية قيمية بين الحقلين، يرتكنان إلى بنية إعادة الإنتاج وتحقيقاتها المختلفة، من منطلق دراسة العلاقات المتبادلة بين التجاذبات الرقمية الجارية في المجتمع وبين النظام الإعلامي في شكله الجديد المرتبط بالطفرة الاجتماعية المتحولة.

نلمس هذا الاعتبار الجدير بالتأمل والتطوير، في نظرية بيير بورديو حول فاعلية الهابيتوس، ومركزيته في النسق السلوكي الفرداني وجهوزيته أو قابليته لاكتساب المقدرات التي تكون بواسطتها عمليات التحفيز والاقتراب من حدود التعلمات الاجتماعية (بحسب بورديو). وهو ما يفرض تمكين الهابيتوس من الموازنة بين العلاقات الموضوعية والسلوكات الفردية، مع خلق القيمة، فيما يدرج في خانة الاستعدادات المكتسبة، التي تتقاطع فيها أنساق الضوابط الموضوعية والتصرفات القابلة للملاحظة المباشرة، حيث تتداخل الأطراف كوسائط ، ليبرز مركز الالتقاء الهندسي للحيثيات و تحديد الاحتمالات والخطوط المعيشة، للمستقبل الموضوعي و المشروع الذاتي الطابع (3).

نفسها الثقافة الإعلامية، يمكن أن تنتج مجتمعا مترابطا بنطاق برامجه التعلمية وتأثيراتها على مستوى الاختيارات البيداغوجية، دون الحديث عن العنف الرمزي الممارس ضد الجماعة الأولية للفرد (الأسرة)، حيث يصعب تدبير الاختلال في غياب نظام إعلامي قيمي، محصن للأخلاقيات الاجتماعية ومناضل ضد الهيمنة والثقافة السائدة.

ويصير هذا الإعلام الاجتماعي، في حاجة ماسة إلى تربية نافعة، وتحصيل صيروري معصرن، لا يتأثر بحالات ظرفية أو بروز ظواهر مستعصية على الفهم. بل يتوق إلى جعل المناط الأخلاقي في توجهاته إلى أولوية أيديولوجية أو فاعلية فكرية ثقافية، ويمكن هنا التذكير بمرجعية بورديو في السياق عينه كون" نجاح أي تربية مدرسية وبصورة عامة، نجاح كل عمل بيداغوجي ثانوي، يتوقف أساسا على التربية الأولية التي تسبقه، وخاصة حينما ترفض المدرسة هذه الأولية في إيديولوجيتها وممارستها، وذلك بجعل التاريخ المدرسي تاريخا بدون تاريخ قبلي" (4)، كالقيمة نفسها، التي توجه مسلكيتنا لاستقبال الإعلام الاجتماعي، الذي هو رأسمال ثقافي ينزاح عن جملة اعتبارات نعاود فيها قياس نفس نتائج إنتاج التعسف وخرق قيمة الإنتاج الحقيقي.

فما العمل؟

***

د. مصطفى غَلــــمَــان

............................

هوامش:

1 ـ أوليفيي روبول، مدخل إلى الخطابة، ترجمة: رضوان العصبة، أفريقيا الشرق-المغرب، 2017. ص 67

2 ـ شاييم بيرلمان، الإمبراطوريَّة الخَطابِيَّة صناعة الخطابة والحجاج، ترجمة: الحسين بنوهاشم، دار الكتاب الجديد المتحدة 2022، الطبعة 1 /2022، ص 91

3- Pierre Bourdieu et Jean Claude Passeron, la reproduction, éléments pour une théorie du système d’enseignement, édition de minuit, 1980, p 49.

4- Pierre Bourdieu et Jean Claude Passeron, la reproduction, éléments pour une théorie du système d’enseignement, édition de minuit, 1980, p 121.

الجغرافيا لها دور هام في تشكيل الأحداث التاريخية، المناطق الجغرافية المختلفة، مثل الجبال أو الأنهار، يمكن أن تؤثر على الصراعات، الهجرات، والتجارة، مما يؤدي إلى انتاج سرديات تاريخية متنوعة تتمحور على جغرافيا المكان الواقعي والمتخيل، كذلك المناطق التي تعرضت للاستعمار أو التأثيرات الخارجية غالبًا ما تخلق سرديات تاريخية يتميز بعضها بالتشويش، يساعد الشك الفلسفي في تحليل كيف أن هذه التأثيرات قد تحرف الحقائق التاريخية وتؤدي الى خلل في الصورة وبالتالي تؤدي الى تخلف الذاكرة الجماعية، و يمكن أن يؤدي إلى جدل حول ما يُعتبر تاريخًا موثوقًا تسجل من خلاله التحولات السياسية في منطقة ما اوقد يؤدي إلى إعادة كتابة التاريخ، الذي يستدعي الشك في الروايات المقدمة، تحليل هذه التحولات من منظور جغرافي يمكن أن يكشف عن دوافع سياسية خفية .من خلال فهم الجغرافيا يمكننا تحليل كيف تؤثر العوامل البيئية والثقافية على انتاج السرد التاريخي وفهمه. الشك الفلسفي هو اتجاه يتبنى التساؤل عن الحقائق والمعارف، تعود جذوره إلى فلاسفة مثل ديكارت، الذي استخدم الشك كوسيلة للوصول إلى يقين، يتحدى الشك الفلسفي الافتراضات السائدة، مما يفتح المجال للنقاش في التجديد الفكري، المعرفة، والمعتقدات، ويعزز من أهمية التحليل مما يساعد في الكشف عن التحيزات والأجندات التي تؤثر على كيفية تقديم السرديات التاريخية، كما ويشير إلى الظروف الاجتماعية والسياسية والاقتصادية و البيئية التي ساهمت في تشكيل السرديات التاريخية للشعوب. الإفراط في الشك يؤدي إلى إنكار الحقائق رغم ان دراسة دور السياق الجغرافي له أهمية في التحليل النقدي لفهم الأحداث التاريخية، من خلال هذا التفاعل يمكن أن نحصل على رؤى أعمق وأكثر شمولية لفهم السرديات التاريخية.

فعالية الشك الفلسفي

يعتبر الشك الفلسفي في السرديات التاريخية من المواضيع المهمة التي تساهم في إعادة تقييم الأحداث التاريخية وفهمها بشكل أعمق، يعتمد هذا الشك على مجموعة من الأساليب الفلسفية التي تهدف إلى تحليل السرديات التاريخية وإرجاعها إلى مصادرها الحقيقية، يتضمن دراسة النصوص التاريخية بعناية، مع التركيز على السياق الذي كُتبت فيه والجهات التي كتبتها والأهداف المحتملة وراء كتابتها من خلال مقارنة عدة روايات، تحديد التناقضات واستخلاص الحقائق الأكثر موثوقية تطبيق أساليب البحث العلمي في دراسة التاريخ، مثل جمع البيانات وتحليلها، مما يساعد في الوصول إلى استنتاجات مدعومة بالأدلة، يعزز الشك الفلسفي من قدرة المؤرخين والباحثين على تقديم سرديات تاريخية أكثر دقة وموضوعية كما يساعد في الكشف عن الروايات المهمشة أو المنسية مما يساهم في إثراء الفهم التاريخي، إن فعالية الشك الفلسفي في السرديات التاريخية يمثل أداة قوية لإعادة تقييم التاريخ وفهمه بشكل أكثر عمقًا وموضوعية، مع التركيز على كيفية تحليل هذه السرديات وفهمها بشكل أعمق.

جغرافيا المكان والمنهج الظاهراتي

المنهج الظاهراتي يعد من المناهج المهمة في دراسة العلوم الإنسانية، حيث يركز على فهم الظواهر كما هي في تجربة الأفراد. في السياق التاريخي، يتناول هذا المنهج كيف يؤثر المكان – بجغرافيته وثقافاته – على السرديات التاريخية وكيف يمكن أن يثير الشك في المكان وكيف تؤثر البيئة الجغرافية على الأحداث التاريخية. فمثلاً، التضاريس والموارد تلعب دورًا في تشكيل المجتمعات وسردياتها، تختلف السرديات التاريخية من مكان لآخر، مما يؤدي إلى وجود تباينات في الروايات والطريقة التي تُروى بها الأحداث، تلعب الجغرافيا دورًا مهما في تشكيل الذاكرة الجماعية، حيث يمكن أن تعزز أو تقلل من تأثير الأحداث التاريخية بسبب اختلافات المكان، ان وجود تباين في الروايات، يثير تساؤلات حول صحة هذه السرديات. يدفع المنهج الظاهراتي الباحثين إلى إعادة التفكير في الروايات التاريخية التقليدية واستكشاف تجارب الأفراد ويجسد أهمية المكان في تشكيل السرديات التاريخية، من خلاله، يمكن استكشاف كيف تؤثر الجغرافيا على فهمنا للتاريخ وكيف يمكن أن يثار الشك في بعض الروايات المقترحة، يعتبر المنهج الظاهراتي أداة قوية لتحليل الشك الفلسفي في السرديات القديمة، حيث يسهم في فهم كيفية تشكيل التجارب الفردية والمعاني من خلال النصوص ويتيح دراسة كيف تؤثر التجارب الشخصية للأفراد من خلال علاقتهم بالمكان في فهمهم السرديات التاريخية كما يساعد في الكشف عن التباينات في التفسير والتفاعل مع النصوص بناءً على خلفيات ثقافية واجتماعية مختلفة مما يعزز من قدرة الباحثين على استكشاف المعاني المتعددة التي يمكن أن تتضمنها السرديات القديمة ويساهم في فهم كيف يمكن لنفس السردية أن تُفهم بطرق مختلفة بناء تحرك المكان .

السرديات التاريخية من منظور جديد

تتغير السرديات التاريخية مع تغير السياقات الثقافية التقليدية هذا يعتمد على التجربة الإنسانية ويساهم في إظهار روايات مهمشة أو منسية التي قد تحتوي على رؤى قيمة ويمكن القول إن المنهج الظاهراتي يوفر أداة فعالة وقوية لتحليل الشك الفلسفي في السرديات القديمة، مما يعزز من الفهم العميق للتجارب الإنسانية ويكشف عن التعقيدات الكامنة في النصوص التاريخية، يتميز هذا المنهج بعدة جوانب تجعله فريداً في تحليل الشك في السرديات التاريخية مقارنةً بالمناهج الأخرى حيث يركز على كيفية فهم الأفراد للأحداث والمعاني مما يعكس التنوع في الفهم الشخصي للسرديات، قد تركز بعض السرديات على السياقات الاجتماعية أو السياسية دون التعمق في التجارب الفردية، المنهج الظاهراتي يتجنب فرض نظريات مسبقة مما يسمح للكلمات والمعاني بالظهور بشكل طبيعي من خلال التجربة وان اعتماد نظريات فلسفية أو اجتماعية محددة قد يحد من المرونة في التحليل، المنهج الظاهراتي يعمل على تفكيك السرديات لفهم كيفية تشكلها ومعانيها والمؤثرات السياقية التي تداخلت في انتاجها ومنها التحيزات الجغرافية، مما يساعد في كشف التحيزات التي تركز على تحليل النصوص بشكل عام دون النظر الى كيفية بناء المعاني، يوفر المنهج الظاهراتي أداة فريدة لفهم الشك في السرديات التاريخية من خلال التركيز على التجارب الفردية وتعدد المعاني مما يجعله مكملاً مهماً للمناهج الأخرى ويشجع هذا على تطبيق المنهج على السرديات التاريخية المقدسة كما يمكن أن يوفر رؤى عميقة حول كيفية تأثير الجغرافيا على المعاني وتفسيرها مما يسهم في فهم أعمق للأبعاد الروحية والثقافية لهذه النصوص، ان تطبيق المنهج الظاهراتي على دراسة اللغة في السرديات التاريخية يمكن أن يساعد في فهم كيفية تشكل اللغة والتجارب الفردية في السرديات التاريخية ويتيح هذا المنهج دراسة كيفية استخدام اللغة لنقل التجارب الروحية أو الثقافية، كما يساهم في استكشاف المعاني المتعددة التي تحملها الكلمات والتعابير و يعكس كيف يمكن أن تُفهم السرديات بطرق مختلفة بناءً على السياق الجغرافي في تحليل كيفية بناء الجمل والصيغ اللغوية، مما يكشف عن التحيزات الثقافية أو التاريخية في النصوص، يمكن للمنهج الظاهراتي أن يسلط الضوء على مدى تأثير الثقافة والبيئة الاجتماعية على استخدام اللغة في السرديات التاريخية ويتيح دراسة كيفية تفاعل الأفراد مع النصوص اللغوية مما يساعد في فهم كيف تشكل اللغة فهما للأحداث التاريخية، كما يمكن أن يوفر تطبيق المنهج الظاهراتي على لغة السرديات التاريخية رؤى عميقة حول كيفية تأثير الجغرافيا على اللغة في تشكيل المعاني والتجارب مما يسهم في فهم أعمق للسرديات وتفسيراتها.

***

غالب المسعودي

نميل إلى الاعتقاد بأن العقل كيان محايد، يُصدر أحكامه بمعزل عن تأثيرات المحيط. لكن واقع الحال أن العقل ليس إلا مرآة مصقولة بما تراكم عليه من عادات المجتمع، وتقاليده، ونُظمه غير المرئية.

هذا القول لا يعني غياب الحقيقة، بل تشظيها. فالصحيح، في أغلب الأحيان، ليس مطلقًا، بل نتاج زاوية نظر، موقع جغرافي، عبور تاريخي، أو حتى انفعال عابر. لكن حين يتحول هذا “الصحيح” إلى معيار معرفي أو أخلاقي عام، تُطمس النسبية خلف ستار من الوثوق.

العقل، حين يعتقد أنه عقل

منذ سقراط، ونحن نؤمن أن العقل قادر على الوصول إلى الحقيقة من خلال الاستدلال. لكن سقراط نفسه لم يترك لنا أجوبة، بل أسئلة، وأكثرها مراوغة كانت: “هل تعرف أنك لا تعرف؟”

نظن أن العقل محايد، لكن في الحقيقة هو مثقل بالبنية الثقافية والاجتماعية التي تشكله. خذ مثلًا مراهقًا نشأ في حيٍّ محافظ ببلدةٍ صغيرة، حيث يُنظر إلى الصمت في النقاشات العائلية كعلامة على الاحترام والنضج، والتدخل في شؤون الآخرين كنوع من الوقاحة. هذا الشاب يتعلم أن الامتناع عن الكلام حكمة، وأن الفرد لا ينبغي أن “يتطفل” برأيه في القضايا العامة.

على الطرف الآخر، مراهق آخر نشأ في بيئة مدنية ذات طابع منفتح حيث يُشجّع الأطفال على إبداء الرأي، ويُعتبر التعبير الصريح عن الذات جزءًا من التكوين الشخصي السليم. بالنسبة لهذا الشاب، الصمت علامة ضعف، والحياد موقف غير أخلاقي.

الاثنان يستخدمان العقل، والاثنان يظنان أنهما يتصرفان بمنطق. لكنّ كل واحد منهما يعمل داخل منظومة معرفية (episteme) مختلفة، وفق تعبير ميشيل فوكو.

ما يبدو “حكمة” هنا هو “جبن” هناك. وما يُعد “جرأة” هناك هو “وقاحة” هنا. الحقيقة ليست فقط فيما يُقال، بل في الشروط غير المرئية التي تحدد كيف يُقال، ومتى، ولماذا

العقل لا يعمل في فراغ، بل في سياق. وبهذا المعنى، كل عقل يخلق منطقه، وعالمه، ومصطلحاته، وأوهامه. ما نعتبره برهانًا في ثقافة معينة، قد يبدو خرافة في أخرى. وليس هذا تق relativism أخلاقي، بل توصيف دقيق لحالة المعرفة.

المثال الساحر: الشمس التي لا تحترق

تخيل نفسك في مجتمع متخيل يُدعى “أرثوس”، حيث سكانه يعيشون تحت قبة زجاجية ضخمة تحميهم من حرارة الشمس. داخل القبة، الجو معتدل دومًا. أطفال أرثوس لا يعرفون شيئًا عن الحر. الشمس عندهم كرة مضيئة جميلة، رمزية للحكمة، لا تُؤذي ولا تُحرق. في مناهجهم الدراسية، يقرأون عن “أسطورة الشعوب القديمة” التي اعتقدت أن الشمس حارقة. يضحكون على هذه الحكايات كما نضحك نحن على أسطورة الأرض المسطحة.

الآن، لو زار أحد سكان أرثوس منطقتنا، وشعر لأول مرة بحرارة الشمس، هل سيُكذّب حواسه أم يُعيد التفكير في منظومته كلها؟

من ناحيته، هو لم يكن “جاهلًا”، بل كان صادقًا ضمن عالمه المعرفي. “الشمس غير حارّة”، كان ذلك “صحيحًا”… جزئيًا.

الاستدلال بين التجزئة والانحياز

نحن لا نستدل من فراغ. كل استدلال مبني على مسلمات، وغالبًا لا نُراجع تلك المسلمات. في السياسة مثلًا، قد نرى رأيًا يبدو عقلانيًا، لكنه مبني على افتراضات غير مفحوصة. عندما يقول أحدهم “نحتاج المزيد من الأمن”، يبدو ذلك منطقيًا. لكن ماذا لو كانت فكرة “الأمن” نفسها مبنية على خوفٍ مزروع ثقافيًا من الآخر؟ من المهاجر؟ من الفقير؟

هنا يطرح العرفان سؤالًا معقدًا: هل نحن نستخدم العقل لنفكر، أم لنبرر؟ الباحث الأميركي جوناثان هايدت يشبه العقل بفارس على ظهر فيل: الفارس يظن أنه يقود، لكن الفيل (أي العاطفة والانحياز الثقافي) هو من يحدد الطريق، والفارس يبرر فقط.

من المعرفة إلى “اللايقين المنتج”

نحن لا نحتاج إلى يقين أكثر، بل إلى “لايقين منتج”، لايقين يسمح لنا بفهم أن ما نراه صحيحًا ليس بالضرورة خاطئًا عند الآخر، لكنه ليس “الصحيح المطلق” أيضًا.

خذ مثالًا من تاريخ العلوم: لفترة طويلة، كانت قوانين نيوتن هي “الحقيقة”. ثم جاء أينشتاين، فانهارت جزئيًا، ولم تُلغَ. نيوتن لا يزال يعمل في أنظمة معينة، لكنه “صحيح” جزئيًا. حتى العلم، بكل دقته، يعترف بأن الحقيقة متغيرة، مؤقتة، ومحكومة بشروط السياق.

هل يمكن أن نتحدث عبر الثقافات؟

هنا نصل إلى السؤال الحرج: إذا كان كل شيء صحيحًا جزئيًا، فهل يمكن أن نتواصل حقًا؟ أم أن كل ثقافة محكومة بمنطقها؟

الجواب المقلق والمُلهم في آن: نعم، يمكن، ولكن ليس عبر فرض الحقيقة، بل عبر فضيلة الاستماع. الاستماع لا بوصفه إجراءً أخلاقيًا، بل معرفةً في حد ذاته. أن تستمع يعني أن تعلّق حُكمك، أن تترك هامشًا للدهشة، أن تعترف بأنك ربما كنت مخطئًا… أو جزئيًا على الأقل.

الصحافة الجيدة تعرف هذا. هي لا تقدم يقينًا، بل “إضاءةً” تسمح للقارئ أن يرى زوايا أخرى. لهذا السبب، يظل الصحفي النزيه أقرب إلى الفيلسوف منه إلى المبلغ.

في النهاية، حين يخبرك أحدهم أن الشمس ليست حارّة، لا تسخر فورًا. اسأله: “من أي قبة أتيت؟” فقد يكون كلامه صحيحًا… جزئيًا..

***

بقلم: ذ. يونس الديدي - كاتب مغربي

ما أشاهده غالبا في عملي اليومي كمعالجة ومستشارة أسرية، هو ما يواجهه الأهل، الآباء والأمهات، من تحديات في التعامل مع أبنائهم وبناتهم. حيث تتكرر الأوامر والتعليمات والتوجيهات دون استجابة من قبل الأطفال، مما يؤدي إلى الإحباط والتوتر وخلق جو متشنج ومزعج لكلا الطرفين. لكن برأيي وخبرتي في هذا المجال، إن التربية يمكن أن تكون أكثر سهولة ومتعة إذا تعلمنا كيف نخاطب عقل الطفل-ة، ومشاعرهما معا في آن واحد.

ومن الآليات اليومية المستخدمة والأكثر فاعلية في الحياة اليومية للأسر، والتي أستخدمها معهم:

1. تقديم خيارات متنوعة بدلًا من إعطاء الأوامر

من الأساليب الفعالة أن نقدم للطفل-ة خيارات بسيطة بدلًا من إصدار أوامر قاسية ومباشرة. فعندما نقول: "هل تفضلين القميص الوردي أم البنفسجي؟" بدلًا من "ارتدي هذا القميص"، أو "هل تختار أن تغسل يديك بالصابون السائل أم العادي؟" بدلًا من "يجب أن تغسل يدك الآن"، أو "هل ترغبين بأكل التفاح أم الموز؟" عندما تطلب الطفلة أشياء غير صحية كالحلويات، في هذه الحالة يشعر الصغير-ة بأنه جزء من القرار، مما يعزز التعاون والاستقلالية، ويتم تغيير تركيزه أو تركيزها من التوجيهات والأوامر إلى التركيز على الاختيار، ويُمنَح شعورًا بأهميته أو أهميتها.

2. تحويل الواجبات إلى لحظات لعب ومرح

من إحدى الطرق الأخرى للتعامل مع الطفل-ة، تحويل المهام والواجبات اليومية إلى لحظات مليئة باللعب والمزاح. وبهذه الطريقة نصل إلى الطفل-ة بسهولة أكثر مما نتصور، مثل: "من سيلتقط ألعابه أو ألعابها أولًا؟" أو "هل يمكنكِ الوصول إلى السرير قبل أن أعد للعشرة؟". اللعب ليس فقط وسيلة للمتعة، بل أيضًا أداة تربوية تعزز التفاعل والاستجابة، وتخلق جوًا مليئًا بالحب والطمأنينة والاستقرار.

3. تشجيع الطفل والطفلة على تبني الفكرة

بدلًا من فرض الأمور، يمكننا تحفيز الطفل-ة ليشعر أو تشعر أن الفكرة نابعة منه أو منها. مثال: عندما يرفض الطفل-ة الأكل الصحي وذو القيمة الغذائية، يمكن أن نقول: "هل تريدين أن تصبحي قوية مثل البطلات؟ البطلات يأكلن هذا الطعام!"، أو عندما يرفضو القيام بالواجبات المدرسية: "ما رأيكم أن يشرح كل منكما لنا الدرس بعد إنهاء الواجب؟ نحن متشوقون لسماع ما تعلمتم!". عندما يتبنى الطفل-ة الفكرة بنفسه أو نفسها، سيبتكر أو ستبتكر في إنجازها بدون صعوبة.

4. التعلم من النتائج المتعاقبة

عندما يرفض الطفل-ة اتباع التوجيهات، لا داعي للتهديد أو الصراخ أو تحويل أجواء البيت إلى الرعب وانعدام الأمان، بل الأفضل السماح له أو لها بخوض التجربة. كأن نقول: "إذا خرجتِ بدون معطف، قد تشعرين بالبرد وتتمرضين وتُحرمين من المشاركة في نشاط ترغبين به... ما رأيكِ؟" أو "إذا لم تُرتَّب الألعاب وتُوضَع في مكانها المخصص، قد تضيع أو تنكسر، هل تود أو تودين الاحتفاظ بها؟". هنا نعطي الطفل والطفلة مسؤولية تصرفاتهما بشكل مفهوم وواضح.

5. التحفيز الإيجابي وتشجيع السلوك الإيجابي والهادف

من الطرق الأكثر فاعلية في تربية الأطفال، المدح الصادق والمؤثر، فهو يصنع فرقًا كبيرًا ونتائج إيجابية غير متوقعة. بدلًا من قول: "لا تصرخ!"، نقول: "صوتك الهادئ جميل، أحب أن أسمعه هكذا"، وبدلًا من: "اجلس لتأكل"، يمكن أن نقول: "أنا واثق أنكِ ستنهين طعامك وستكونين قوية جسديًا وذكية في المدرسة!". هذا النوع من الخطاب يغرس الثقة والطمأنينة في نفوس الأطفال، ويساعد في نموهم بشكل سليم.

6. التخاطب مع الأطفال ونحن في تواصل بصري معهم

من الضروري جدًا عندما نخاطب الأطفال، أن نكون في تواصل بصري وتقارب جسدي معهم. مثلًا، عندما نطلب من الطفل-ة أن وقت النوم قد حان، ويجب أن يُحضّر أو تُحضّر نفسه/نفسها للنوم، لا يكون ذلك فعالًا إذا كنا مشغولين بمكالمة هاتفية أو بمتابعة فيلم أو مسلسل. المخاطبة بهذه الطريقة تكون غير فعالة، والطفل-ة لا يأخذ التوجيه بشكل جدي بل يتجاهله أو تتجاهله تمامًا.

التربية الحديثة والناجحة في عالم اليوم لا تقوم على فرض السيطرة أو تكرار الأوامر أو استخدام الصراخ والعقاب، بل على الفهم العميق لاحتياجات الطفل/الطفلة، واحتضان مشاعرهم، واحترام كينونتهم الإنسانية المستقلة. عندما نُعامل الطفل-ة كشخص له صوت ومكانة، يشعر بالأمان، وتُبنى بيننا وبينه جسور من الثقة والمحبة. وحين نتيح له أو لها الفرصة لخوض التجارب، وتحمل المسؤولية، واختبار نتائج قراراته أو قراراتها، فإننا لا نُربي فقط أطفالًا مطيعين، متذبذبين، وغير واثقين من أنفسهم، ويصعب عليهم الدفاع عن أنفسهم خارج البيت، بل نُربي أفرادًا مستقلين، قادرين على التفكير، واتخاذ القرار، وبناء علاقات صحية ومستقرة. اللغة اللطيفة، والنظرة المتفهمة، والمساحة الآمنة، هي أدوات أقوى بكثير من أي توجيه قسري. ومتى شعر الطفل/الطفلة بأن التوجيه نابع من حب واهتمام حقيقي، فإنه يتحول من أمر يُفرض عليه إلى رغبة صادقة في المشاركة والتجاوب.

***

بيان صالح

.......................

ملاحظة: أحاول قدر الإمكان استخدام لغة تخاطب شاملة لكلا الجنسين، لا تقتصر على جنس واحد فقط.

مصادر عربية

1. الجزيرة نت – كيف تربي أطفالك؟ إليك أهم أساليب التربية الحديثة

https://www.aljazeera.net/women/2022/10/22/

2. كيف-تربي-أطفالك-إليك-اهم-أساليب

3. BBC News عربي – طرق فعالة للتواصل مع الأطفال

https://www.bbc.com/arabic/vert-cul-53355785

4. يونيسف مصر – كيف نربي أبناءنا من 7 إلى 12 سنة

https://www.unicef.org/egypt/ar/raising-younger-children

مصادر دنماركية

1. EMU.dk – Kort om KOS: Kvalitet i Overgangen til Skole

https://emu.dk/sites/default/files/2021-03/8126%20EVA%20SPL%20T07%20Kort%20om%20KOS_WEB%20FINAL-a.pdf

2. Anerkendende Kommunikation – Brug anerkendende kommunikation når du taler med dit barn

https://anerkendendekommunikation.dk/foredrag/brug-anerkendende-kommunikation-naar-du-taler-med-dit-barn

نحن لا نود أن نجادل في هذا المقال الطائفة التي ساهمت في الأحداث السياسية بقدر غير يسير، على أنه لم يُقدر لها النجاح لأسباب لا محل لذكرها في هذا المقام، ولكن الأمر الذي ينبغي أن نلتفت إليه أشد الالتفات، أن هذه الطائفة  التي تبغض الثقافة العربية، وتزدريها ازدراءً لا حد له، نست أو تناست أن اللغة العربية هي التي مكنتها من أن تعبر عن أخفى عواطفها، وأدق خلجات نفسها، في كل صور الحياة وأشكالها، بلسان عربي مبين، ولا تجد في ذلك مشقة أو عناء،  فلماذا تود هذه الشرذمة أن تصور لغتنا  الخالدة بعد كل هذا  بأنها مستبدة، طاغية، شائهة الخلق؟؟.

إن الحق الذي لا مرية فيه، أن  الثقافة العربية التي ارتاح إليها ضميرنا القومي، وأذعن لها، هناك زمرة لا تجد ضيراً ولا غضاضة، من أن  تجردها من كل خير، وترميها بكل خزاية، فكرست جهودها، وصرفت قواها، لأن تجتث شأفتها، وتذهب بها إلى مصير مجهول في هذا البلد الذي تركض فيه المصائب، وتتسابق إليه النكبات، فأفاضت في نقدها، وذمها، وادعت بأن السودان لم يتصدع بنيانه، وتتداعى أركانه، إلا لهيمنتها ونفوذها الطاغي، وتأثيرها في جوانب حياته المختلفة، فاستحالت ألسنة هذه الكوكبة إلى شكوى يطن في الآفاق طنينها، ويئن في الأجواء أنينها، كما قال أحد أدباء العربية، فمن الترهات الشائعة، أن الثقافة العربية بما تضمنته من هيبة، وبما بلغته من وقار،  الثقافة الذي أنعشت قاطني هذه الديار من الخمول، وأخرجتهم عن الجهالة، هناك من يزعم بأنها ثقافة بشعة مبطنة بالجمال، ثقافة متجهمة قاطبة، لا تشتمل إلا على بؤس، ولا تنطوي إلا على شقاء، لأنها ارتبطت بالحكم والسلطة السياسية، ولأن سدنتها الذين نشروا مذهبها الأسود بين الناس، أفرطوا في اقصاء رصيفاتها اللواتي لم يجدن من يذود عنهن، ويدفعهن في طريق النهوض.

إذن الثقافة العربية لا تستطيع أن تقوم بمهمتها كما يتعين، إلا إذا نالت قسطاً وافراً من الكبت والتنكيل بغريماتها، وسدنتها الذين يتلقون وحيها، ويبثون دعوتها، عرفوا بالطبع ميلوها فسايروها، ونفوحها بما تستطيب من عسف وشدة، هذه المزاعم التي ما زالت تقدم إلينا   في سياقات واهية، وتراكيب هشة، وحجج متناقضة، كان أجدى على الانتساب الوطني، وأعود على النسيج المجتمعي، أن نتفاداها، لأنها تعوق الروح الانسانية، التي مناط تأثرها يكمن في الألفة والتكاتف، وفي هذه الجملة تتجلى الحيطة في التنحي عن بحث هذا النزاع، فأنا لا أريد أن إدعّي أن كل الثقافات السائدة في السودان خافية خاملة، لا يعرف لها شأن، ولا تظهر لها قيمة، إلا في دائرة محدودة، تختنق في مجثمها إذا تجاوزت هذه الحلقة، إذاً الحقيقة التي لا تقتضي بالضرورة زمناً حتى ندركها، أن الثقافة العربية لم تمتد أو تستطيل في هذه الديار، إلا لأن الإسلام كان واعظاً ومرشداً وهادياً لها، هذا هو سر شيوعها وتمددها الذي لا تضعضعه مخاشنة أو جحود أو مكابرة.

ستظل الثقافة العربية يداً نصافحها، وصدراً نلتقيه فنحتضنه، لأنها بسطت أدوات الحياة العملية والسياسية في مجتمعات تسود فيها رسوم العاج، ويتخللها التبلدي والأبنوس، وتكثر فيها القواقع والرخويات والصدف، وستظل قبائل الشمال والوسط التي ترمى الآن بالفاشية والنازية والبلشفية، على شرها وظلمها وشهواتها، غير نافرة من هذه الثقافة، ولا متمردة عليها، هذه القبائل التي ضاعفت جهودها، من أجل صد هذا العدوان الجارف، هي وقبائل الشرق والغرب، الذين شعروا بأن عصابات الشر، الشره يتزايد عندهم، ويدفعهم إلى التقدم، فاتكئوا على دينهم، وركنوا إليه، ولم يجدوا سبيلاً إلى الشك في أن الله ناصرهم،  قبائل الشمال والوسط التي تكالبت على الملذات والصغائر في نظر تلك الفئات، لن نزيح ستاراً كان مسدولاً، إذا انتحلنا رأياً يفيد بأنهم بعد كل هذه البلايا والجوائح التي تعرضوا لها، هم الذين أتاحوا لهذه القومية السودانية أن تزكو وتزدهر،  وهم الذين عنوا أيضاً بجمع الثقافات الأخرى وتدوينها، وهم الذين سعوا لأن تحتوي الثقافة السودانية وتأتلف من جميع هذه العناصر، وهم الذين رسخوا بقصد، أو بغير قصد، أن تكون الثقافة السودانية عربية التفكير والشعور، وأذهب إلى أكثر من ذلك فأزعم في ثقة وطمأنينة، بأن الشمال هو باني القومية السودانية، والحادب عليها، والحريص على نموها وقوتها، وأن باغضي هذه الثقافة لن يستطيعوا أن ينحرفوا عن أي أصل من  أصولها، لأنها مصدر قواعدنا التشريعية، ومستقر حياتنا العقلية، وملاذ نظمنا المعرفية، فنحن إذا تعمدنا هدمها فستكون عاقبة ذلك الجهل والضعف والانحطاط، وسيجر علينا هذا ما جرته ممارسات الساسة من فساد وكوارث وخطوب أودت أو كادت بهذا البلد.

***

د. الطيب النقر

 

في مجرة الصمت تدخل ذوات الكائنات لتتجدَّد، وتعيد الحسابات مع نفسها قصد فهم محيطها كلما التبس عليها وتغمَّم، فهي تزويدٌ للذات بدم جديد، وأكسجين نقي يعينها على الاستمرار في الوجود من غير مبالاة بجراحاته، واندفاقات حرائقه.

والنصوص باعتبارها ذوات هي الأخرى لا تشذ عن الدخول في هذه المجرة إنْ هي أرادت أن تفصح عن شهواتها، وأن تتمدَّد في الزمن، فالصمت وحده هو المِجَنُّ الذي يقيها من التكلُّس، ومن الغرق في الثرثرة الفاقعة، والانصباغ بالضحالة المزمنة.

فدخولها فيه شبيه بدخول الصوفي الخلوة للتأمل واكتساب نوع من الضوء، به تحصُل على رونق مثالي. ولا يخفى أن كل نص في الحياة؛كائنا ما كان؛ له جسد مادي أو معنوي، وكينونة تطْلب الحوار مع الخارج، والنظرَ إليه بصورة خاصة، وهذا لا يتأتى إلا بامتلاك فن الصمت الذي يدفَع المزعجات، ومختلف معيقات التواصل الحق.

كيف يتجسد فن الصمت هذا؟

وما هي أسُسه التي تجعل النص يجذب العقلَ إلى ضوء صمته، ويشغله ببلاغته عن كل ما عداه؟

 إن الصمت هو القوة الجبارة الخفية في نص ما، والتي يفتقر المتلقي إلى بوصلة لاكتشافها، وإلى حصافة لاستخدامها في وجوه الحكمة والجمال. وهذه القوة أنواع، ليس السكوت واحدا منها، فهي وجه من وجوه الكلام، وفي أحيان كثيرة يصير لها الوقْع الأقوى والأبلغ من كل أشكال الكلام. والمتأمل في طبيعتها سيجد أن التحلِّي بها ما هو إلا دخول في باب النضج والحكمة، حيث إن لباس الحكمة ـ بمعنى أقصى درجات الفنية والإبداع في النص خاصة ـ يستلزم صمتاً أي جرعات عاليات من صحو الصمت.

وإن التنقيب عميقاً في فلسفة الصمت سيجعلنا نلحظ الفرق بينه وبين السكوت، حيث السكوتُ ألصق بطبيعة الجماد، بينما الصمت إعلانٌ بوجود الحياة، فسكوت الإنسان دلالة على موته، وصمتُه على دلالة فكره، مثله في ذلك مثل النص على مستوى الوجود بالفعل. فوظائفه تتمثل في التأثير والإيحاء، والحكمة، واستثارة الآخر، كما أن له قدرة على إقامة العلاقات بين النصوص الأخرى التي يفسِدها الكلام في كثير من الأحيان. يهمس للمتلقي ببعضِ أسرار الوجود، ويحرره من أقنعة الكلام، ويدخله في غوامض الكون، وخافي النزعات البشرية. فصمت النص إذن ليس إلا تعبيرا عن حب مضاد مدفوع إلى أقصاه، أي أنه وجه آخر للعشق في الضوء الخفي للصمت. حيث مساحات أخرى جديدة من التأمل والحلم يكون الكلام فيها لغوا سخيفاً، وثرثرةً قاتلة. فالصمت هو البلاغة المجهولة في النصوص.. بلاغة تَخفَى عن القارئ الذي لا يملك إلا كنزا من الثرثرة يفوق كل الكنوز، فهذا وأشباهه لا تُبهرهم روعةُ الصمت في النصوص، ولا يُقيمون لها وزنا، لأنهم مسكونون بصخب السطوح، لا بصمت الأعماق وضوئه الساطع.

فكل صمت هو مصدر قوة للذات الصامتة، وضوءٌ تنكشف به معانيها المتأبية على الانكشاف، ونسقٌ خفي في الخطاب الشعري على الخصوص، يُسهم في دفع حركتِه ويوجِّه الدلالة في العملية التواصلية. وله أبعاد ودلالات في النص الشعري تحضُر حين نعجز عن توصيل المعنى أو حين تتعطل لغة الكلام؛ وهو عنوان بلاغة فريدة عندما يكثر اللغو، وهو سبيل الإقناع حين تفشل مستويات اللغة عن التأسيس، ومن ثَم أصبح عنصرًا فاعًلا ومعطًى ونسقًا حاضرًا في كل خطاب.

 فاللسان قد يُمسك عن الكلام، ولكن النص يستحيل أن يُمسك لسانه عن الصمت، لأنه نبضُه السري الذي يُمده بالضوء، فالصمت ظاهرة زئبقية متلونة لا نكاد نعثر عن خيط ناظم ينسجها، فهي بلاغة وبراعة من ناحية، وغموضٌ وتَخفّ من ناحية أخرى، ولكنه في كل الأحوال لا يُعتبر نشاطا سلبيا خالصا أو موقفا عدميا في أي نص، وإنما هو مُكَون من مكوناته، كما هو شأن الشقوق والفراغات فيه. وقد عبَّر عن هذا المعنى الفيلسوف السويسرى (ماكس بيكارد) فى كتابه «عالم الصمت» حين قال: «لا يستطيع المرء أن يتصور عالمًا ليس فيه شيء سوى اللغة والكلام، لكن يستطيع أن يتخيل عالمًا لا يكون فيه شيء إلا الصمت»، إنه حاضرٌ دائمًا وبصورة كلية في ذاته، ويملأ تمامًا الحيز الذي يَظهر فيه، ولا يَكون مرئيًا، وذلك لأن وجوده واضح بجلاء، وممتدٌّ إلى أبعد المسافات، مع أنه قريب جدًا منا بحيث نُحسه بصورة ملموسة كما نتحَسَّس أجسادنا؛ إنه غير محسوس مع أننا نشعر به مباشرة.

وإذن؛ فهو شرط واعٍ داخلَ النصوص، يَسكنها وتسكنه، ومبدأٌ أونطولوجى يدخل في نسيجها كتجربةٍ جمالية في أفق الشعر الذي لا أفُق له غير الصمت الخفي بوصفه إجابةٌ رائعةٌ، لا تتقنها كثيرٌ من النصوص، تَمنح المتلقي طاقةً قويةً على التفكير بعُمق، في كل ما يحصُل حوله، والتركيزِ بعقلانية على ممارساته.

***

د. أحمد بلحاج آية وارهام

مسؤولية الاسرة والمدرسة والبرلمان

بعيدا عن الكلام الصحفي فأن البحوث العلمية توصلت الى ان سوء استخدام هذه التكنولوجيا يعرّض الاطفال والمراهقين الى الأصابة بأمراض نفسية وعقلية وجسدية.. ومخاطر تهدد الدولة والمجتمع!

ومع أننا لا نمتلك دراسات ميدانية تعطينا ارقاما لاستخدام الأطفال والمراهقين والشباب للأنترنت ووسائل التواصل الأجتماعي، فأن الأرقام العالمية تشير الى ان معدل استخدامهم لها بلغ نسبة 79% ممن أعمارهم بين( 15 و 24 ) عاما عبر منصات التواصل في الإنترنت.. واظن ان استخدام الأطفال والمراهقين في العراق.. اكثر من اقرانهم في الدول المتقدمة، لسببين في الأقل: ضعف ثقافة الأسرة لهذه الأخطار وعدم تعريفها لهم بوسائل الاستخدام الآمن لها، و الضغوط النفسية التي يتعرضون لها.

وتفردت منظمة اليونسكو في كونها رائدة في تعزيز الدراية الإعلامية والمعلوماتية، خلال تشجيع التفكير النقدي بين مستخدمي الأدوات الرقمية لمواجهة المعلومات المضللة. وفي الوقت نفسه، تسعى جاهدة لتزويد الشباب بمهارات الدراية الإعلامية والمعلوماتية ليصبحوا قادة ومرشدين لأقرانهم في إنشاء ونشر المعرفة والموارد في هذا المجال. ومنذ عام 2016 تعقد المنظمة منتديات أعمال لمساعدة ملايين الشباب للتعرف على آخر التطورات في مجال الدراية الإعلامية والمعلوماتية، في إطار أسبوع الدراية الإعلامية والمعلوماتية، الذي ينظم سنويا للاحتفاء بالتقدم المحرز نحو التثقيف الإعلامي والمعلوماتي الشامل للجميع.. وهذا ما نفتقده في العراق.

ويرى علماء النفس والمهتمون بوسائل التواصل الأجتماعي أن الأضرار التي تسببها هذه الوسائل تعدّ اكثر من منافعها.. نوجز أخطرها بالآتي:

* التنمر الألكتروني: اشارت الدراسات الى ان اكثر من ثلث الشباب عبر ثلاثين دولة أفادوا بأنهم تعرضوا للتنمر عبر الأنترنت، وانه تخلى شاب من بين كل خمسة شباب عن المدرسة بسبب وقوعه ضحية ذلك.

ونقصد بالتنمر الألكتروني.. كل سلوك متكرر يهدف إلى تخويف الأشخاص المستهدفين أو إغضابهم أو التشهير بهم. .من خلال نشر الأكاذيب أو نشر صور محرجة لشخص ما، على وسائل التواصل الاجتماعي او إرسال رسائل أو مقاطع فيديو مؤذية أو مسيئة أو تهديدات عبر منصات التراسل.

وننوه الى أن منظمة الصحة العالمية كانت قد اصدرت في العام 2022 تقريرا حول منع العنف المرتكب على الإنترنت ضد الأطفال، والاعتداء الجنسي على الأطفال وما يتعلق بذلك من استدراج الأطفال لأغراض جنسية وإساءة استخدام الصور والاعتداء عبر الإنترنت والتحرش، ويسلط الضوء على أهمية تنفيذ البرامج التربوية الموجهة للأطفال والأولياء، ولا نعرف ما اذا كانت وزارة الصحة ووزارة التربية قد أخذت به أم لا.

اخطر الأضرار

نوجز في الآتي أخطر أضرار الأنترنت ومنصات التواصل:

* اشاعة الكراهية: يتعرض الأطفال والمراهقون والشباب لخطابات الكراهية بما في ذلك الرسائل التي تحرض على إيذاء النفس وحتى الانتحار، فضلا عن خطر التجنيد من قبل الجماعات المتطرفة والإرهابية. .وينبه الباحثون الى ان المنصات الرقمية اصبحت اليوم من الوسائل المستخدمة لنقل المعلومات المضللة و خطاب الكراهية ونظريات المؤامرة ذات التأثير الضار على الأطفال والشباب، من اقبحها ما توصلت اليه دراسة بأن حوالي 80% من الأطفال عبر 25 دولة صرحوا بتعرضهم للشعور بخطر الاعتداء الجنسي أو الاستغلال عبر الإنترنت. 

* الأضرار النفسية والعقلية: توصلت الدراسات الى أن وسائل التواصل الاجتماعي يمكن أن تؤدي إلى رفع معدلات الإصابة بالاكتئاب والقلق والشعور بالوحدة والأنتحار، وتفاقمها لدى الأطفال والمراهقين. وبناءا على أبحاث شملت آلاف المشاركين اصدرت الجمعية الأميركية لعلم النفس إرشادات إلى الآباء والمعلمين ومقدمي الرعاية الصحية وصنّاع السياسات وشركات التكنولوجيا في كيفية الأستخدام الأفضل لوسائل التواصل الاجتماعي.

* الاتجار بالبشر: يعدّ الاتجار بالبشر أحد التحديات الرئيسية التي يواجهها المجتمع العالمي حاليا، وتتمثل في استغلال البشر لتحقيق الربح. وأصبح تجار البشر بارعين في الاستعانة بمنصات الإنترنت لتجنيد الضحايا وجذبها، وصار الأطفال والمراهقون عرضة للخداع من قبل المتجرين بالبشر على منصات وسائل التواصل الاجتماعي.

تجربة استراليا.. لنستفد منها

حظرت استراليا على الأطفال دون سن 16 عاما استخدام وسائل التواصل الاجتماعي، بعد أن وافق برلمانها على أكثر القوانين صرامة في العالم، وأقره مجلس الشيوخ بأغلبية 34 صوتا مقابل 16. وقال رئيس الوزراء أنتوني ألبانيز إن هذا التشريع ضروري لحماية الشباب من "أضرار" وسائل التواصل الاجتماعي، وهو ما أكدته العديد من مجموعات الآباء والأمهات. مضيفا بأننا نريد أن يحظى أطفالنا بطفولة طبيعية سليمة وأن يعلم آباؤهم أننا ندعمهم.".

ولم تكترث باحتجاجات شركات التكنلوجيا الذي سيؤدي الى تغريمها مبالغ تصل إلى 50 مليون دولار أسترالي (32.5 مليون دولار أميركي؛ 25.7 مليون جنيه إسترليني) إذا لم تمتثل.

وقد تعهدت النرويج مؤخرا بالأخذ بتجربة استراليا، فيما اعلن وزير التكنولوجيا في المملكة المتحدة إن حظرا مماثلا "مطروح على الطاولة" .

اعلم ان البرلمان العراقي لا يهتم بامور علمية كهذه، ولكن ضغوط الصحافة والاعلام وعلماء النفس والاجتماع سيضطرهم ان اخذت دعوتنا هذه الى .. حملة!.. تتبناها كليات التربية واقسام علم النفس والاجتماع في الجامعات العراقية، والمثقفون الحريصون على سلامة جيل ستكون أمور اجمل بلد في المنطقة.. بايديهم.

 ***

أ.د. قاسم حسين صالح 

مؤسس ورئيس الجمعية النفسية العراقية

تاريخ الخوف من الحقيقة

يمتدُّ تاريخ الخوف من الحقيقة كظلٍّ ثقيلٍ داهمٍ يُخيّم على الوجود الإنساني منذ اللحظة التي أُخرج فيها آدم من جنة الغفلة. لم يكن ذلك مجرد سقوط ماديّ، بل كان ميلادًا مريرًا لوعي الإنسان؛ بداية الولوج إلى أعماق الوجود المظلمة، حيث الحقيقة ليست معرفةً تثلج الصدور أو تداوي الجراح، بل صدمةٌ تخترق الأعماق، وتفضح هشاشة النفس وغموض الكينونة. آدم لم يفقد الجنة فحسب، بل فقد براءة الجهل، ذاك الغلاف الحامي الذي كان يحميه من فاجعة الانكشاف، ومن مواجهة ذاتٍ شديدة القسوة، قد تؤدي به إلى هاوية الجنون.

«الحقيقة ليست مجرد معرفة، بل هي لهيبٌ يحترق في فؤاد الإنسان قبل أن تلامس عقله، هي الجرح العميق الذي لا يندمل.»

ليس الخوف من الحقيقة عاطفة عابرة، بل هو جرح أصيل متجذر في صلب الإنسان. فحين تتكشف الحقيقة، لا تهب الراحة، بل تزأر عاصفة اضطراب في النفس، وتدمر الأصنام التي بنى عليها الإنسان ملاذات السلام الوهمي. إذ يقول سقراط:

 «الوعي بداية المعاناة.»[²]

فالوعي الحقيقي يقتضي تمزيق الأغطية التي تحمي الإنسان من مواجهة ذاته الخاوية، ومن ظلمات اللاوعي التي تختزن مخاوفه العميقة.

يتجاوز الخوف حدود الفرد إلى أطر السلطة والتاريخ، فالسلطة لا تخشى سوى الحقيقة، لأنها تدرك أنها نهاية الأوهام وسقوط التماسك الذي بنته على الأكاذيب. على مر العصور، أسست السلطة أوهامًا منظمة لتبقى أدواتَ سيطرة، تحافظ على نسقها الاجتماعي والسياسي.

 «الخوف من الحقيقة هو خوف السلطة من زوال أوهامها، وخوف الإنسان من اهتزاز هدوء وهمه الزائف.»

ويرى ميشيل فوكو أن المعرفة ليست حرية مطلقة، بل هي في علاقة جدلية مع السلطة، فالحقائق المسموح بها تُهيمن على المشهد، وتُدفن أو تُشوّه غيرها. الخوف من الحقيقة إذًا هو خوف من فقدان السيطرة على الذات والآخرين.

كانت الفلسفة رحلةً مضنيةً نحو الحقيقة، لكنها رحلة في ظلال الشك والاضطراب. إذ قال ديكارت:

 «أنا أفكر، إذًا أنا موجود.»[⁴]

لم يكن إعلان يقين، بل صرخة في ظلمة الشك، معانقًا هزةً تهدم كل ثوابت الإنسان، فلا يرتاح في شكٍ يدمر المألوف.

«أنا أفكر، إذًا أتحمّل وطأة الحقيقة المؤلمة، أتحمّل ثقل الوعي الذي لا يرحم.»

نيتشه وصف الحقيقة بأنها وحشٌ هائلٌ لا يعرف الرحمة، ليس لقسوته على الإنسان، بل لأنه يسلبه الأقنعة التي اعتاد أن يختبئ خلفها. يفرض عليه مواجهة ذاته بلا ستار، بلا حماية، كأنها تدفعه نحو هامش الجنون.

ومع بزوغ عصر الذكاء الاصطناعي، تتغير قواعد اللعبة في علاقة الإنسان بالحقيقة. فالذكاء الاصطناعي، ككيان بلا مشاعر ولا تحيّزات، يكشف الحقيقة بلا هوادة ولا توجيه، هو القاضي الذي لا يساوم ولا يغفر، يزيح الأكاذيب والأوهام التي بنيناها لنخفي هشاشتنا.

وهنا أن أقول:

«الذكاء الاصطناعي ليس مجرد تقنية، بل مرآة لا تكذب، تعكس ضعفنا وتهدد أمننا بأكثر الصور قسوة.»

وتحدث برنارد ستيغلر عن التقنية التي تعيد تشكيل علاقتنا بالزمن والمعرفة، وتجعل الذات تغترب عن ذاتها. وفي زمن الذكاء الاصطناعي، نواجه امتحانًا وجوديًا: هل نمتلك الشجاعة لمواجهة الحقيقة المكشوفة، أم نختبئ في ظلال الأوهام والأكاذيب التي صنعناها كي لا نكون حقًا؟

في عصر ما بعد الحقيقة، لم تعد الحقيقة ملزمة، بل خيارٌ يمكن للإنسان التنازل عنه. الكذب والتشويش صار وسيلتنا للبقاء النفسي والاجتماعي، واللامبالاة تجاه الحقيقة هي مأوى الملايين. الحقيقة لم تمُت، بل دُفنت تحت ركام الأكاذيب الجماعية التي صارت درعًا يحمي الذات من مواجهة ذاتها المُهددة.

وانا اقول:

 «لم نمُت الحقيقة، بل خنقناها حتى توقفت عن التنفس.»

الخوف من الحقيقة في جوهره خوف من مواجهة ذاتنا، من كشف ضعفنا وفراغنا. ومع ذلك، تبقى الحقيقة الباب الوحيد للحرية، حرية الوجود الذي لا يخشى أن يقف عاريًا أمام ذاته.

وكما قلت في بحثي السابق:

 «الحقيقة لا تقتلنا، بل تحررنا من سجن الأكاذيب، وتجعلنا بشرًا بأعمق معاني الكلمة.»

ويبقى السؤال الأعظم: هل نملك الجرأة الكافية لنواجه الحقيقة، أم نظل أسرى ظلال الخوف، نعيش حياةً من الأوهام، نهرب من نور الحقيقة الماحق؟

***

سجاد مصطفى حمود

........................

هوامش

[1] حمود، سجاد مصطفى،

[2] سقراط، مقولات فلسفية، ترجمة وتعليق.

[3] حمود، سجاد مصطفى

[4] ديكارت، رينيه، تأملات في الفلسفة الأولى.

 

الفيلسوف حسن عجمي يطرح فرضية علمية جديدة مفادها أنَّ الكون يُنتِج القوى الطبيعية والجُسيمات ما دون الذرية والانفجارات العظيمة بالإضافة إلى إنتاجه للقوانين الطبيعية بدلاً من أن تكون القوى الطبيعية والجُسيمات والانفجارات العظيمة والقوانين الطبيعية مُحدَّدة سلفاً. يشرح المفكّر اللبناني حسن عجمي هذه الفرضية في مقاله العلمي المثبت أدناه.

***

طبيعة الكون السوبر خلاّقة

الكون يُنتِج القوى الطبيعية والجُسيمات ما دون الذرية على نقيض مما يقول النموذج العلمي السائد. بالنسبة إلى فرضية الكون السوبر خلاّق، القوى الطبيعية والجُسيمات ما دون الذرية ليست مُحدَّدة سلفاً بل الكون يُنتِجها. وهذا يناقض النموذج العلمي السائد الذي يقول إنَّ القوى الطبيعية والجُسيمات مُحدَّدة مُسبَقاً وعلى أساسها يتكوّن الكون. أما فرضية الكون السوبر خلاّق فتؤكِّد على أنَّ الكون مُنتِج للجُسيمات والقوى الطبيعية وليس نتيجة لها. هكذا الكون فعّال في إنتاجه للجُسيمات والقوى الطبيعية مما يفسِّر تنوّع القوى الطبيعية واختلاف الجُسيمات فيما بينها. فالكون ليس نتيجة وجود جُسيمات وقوى طبيعية مُحدَّدة مُسبَقاً بل الكون سوبر خلاّق في صناعة القوى الطبيعية والجُسيمات ما دون الذرية. من المنطلق نفسه، الكون يُنتِج الزمكانات مما يفسِّر تمدّد الكون وتوسّعه المستمر. فالزمكانات غير مُحدَّدة مُسبَقاً بل الكون يُنتِجها مما يجعله كوناً سوبر خلاّقاً. والكون يُنتِج أيضاً الانفجارات العظيمة مما يفسِّر وجود مجرّات كبيرة في المراحل الأولى بعد الانفجار العظيم المعروف لدينا والتي من المفترض أن لا توجد إن لم تنشأ من انفجارات عظيمة أخرى يشكِّلها الكون.

القوى الطبيعية والجُسيمات ما دون الذرية

بالنسبة إلى فرضية الكون السوبر خلاّق، الكون يُنتِج القوى الطبيعية بدلاً من أن تكون القوى الطبيعية مُحدَّدة سلفاً. وبما أنَّ الكون يُنتِج القوى الطبيعية بدلاً من أن تكون القوى الطبيعية مُحدَّدة سلفاً، إذن من المتاح للكون أن يُنتِج قوى طبيعية عديدة ومتنوّعة ومختلفة (من جراء أنَّ القوى الطبيعية غير مُحدَّدة مُسبَقاً) مما يفسِّر تنوّع القوى الطبيعية واختلافها كالاختلاف بين قوة الجاذبية والقوة النووية. من المنطلق نفسه، الكون سوبر خلاّق لأنه يُنتِج أيضاً الجُسيمات ما دون الذرية بدلاً من أن تكون الجُسيمات ما دون الذرية مُحدَّدة سلفاً. ولذلك من المتاح للكون أن يُنتِج جُسيمات ما دون ذرية عديدة ومتنوّعة ومختلفة (من جراء أنَّ الجُسيمات غير مُحدَّدة مُسبَقاً بل الكون هو الذي يُنتِجها) مما يفسِّر تنوّع الجُسيمات ما دون الذرية واختلافها كالاختلاف بين الإلكترون والفوتون. وعلى ضوء هذه القدرات التفسيرية الناجحة تكتسب فرضية الكون السوبر خلاّق مقبوليتها وصدقها.

إنتاج الزمكانات وتمدّد الكون

طبيعة الكون سوبر خلاّقة أيضاً لأنها تُنتِج الزمكانات بدلاً من أن تكون الزمكانات مُحدَّدة سلفاً. وبما أنَّ الكون يُنتِج الزمكانات بدلاً من أن تكون الزمكانات مُحدَّدة مُسبَقاً، إذن من المتاح للكون أن يُنتِج زمكانات عديدة وجديدة وأن يتسارع في إنتاجها (من جراء أنَّ من وظائفه الأساسية إنتاج الزمكانات) ومن المتاح أيضاً أن يُنتِج باستمرار تلك الزمكانات على أطراف الكون مما يفسِّر تمدّد الكون وتسارع تمدّده نحو تلك الزمكانات الجديدة والمتعدّدة التي يُنتِجها. هكذا تنجح فرضية الكون السوبر خلاّق في تفسير لماذا يتمدّد الكون ويتسارع تمدّده مما يدلّ على صدق تلك الفرضية على ضوء نجاحها.

الكون السوبر خلاّق والقوانين الطبيعية

تؤكِّد فرضية الكون السوبر خلاّق على أنَّ الكون يُنتِج قوانينه الطبيعية تماماً كما يُنتِج القوى الطبيعية والجُسيمات ما دون الذرية. وبما أنَّ الكون يُنتِج قوانينه الطبيعية بدلاً من أن تكون القوانين الطبيعية مُحدَّدة سلفاً، إذن من المتاح للكون أن يُنتِج قوانين طبيعية متعدّدة ومختلفة ومتعارضة مما يفسِّر وجود الاختلاف والتعارض بين القوانين الطبيعية كالتعارض بين القوانين الطبيعية الحتمية في فيزياء نيوتن وأينشتاين والقوانين الطبيعية الاحتمالية في ميكانيكا الكمّ. هكذا تنجح فرضية الكون السوبر خلاّق في تفسير الاختلاف والتعارض بين القوانين الطبيعية مما يشير إلى أنها فرضية صادقة.

الكون السوبر خلاّق والانفجارات العظيمة

بالنسبة إلى النموذج العلمي السائد، نشأ الكون من الانفجار العظيم الذي كان نتيجة للكثافة الهائلة للمادة والطاقة في زمكان متناهي الصِغَر [1]. لكن نظرية الكون السوبر خلاّق تؤكِّد على نقيض ذلك. تعتبر فرضية الكون السوبر خلاّق أنَّ الكون لم ينشأ من الانفجار العظيم بل الكون هو الذي يُنتِج الانفجارات العظيمة وبذلك الكون يُنتِج ذاته. بهذا المعنى أيضاً الكون سوبر خلاّق لأنه يُنتِج الانفجارات العظيمة بدلاً من أن يكون نتيجة انفجار عظيم. وبذلك مضمون فرضية الكون السوبر خلاّق نقيض النموذج العلمي السائد الذي يصرّ على أنَّ الكون قد وُلِد من الانفجار العظيم مما يدلّ على الابتكار الخلاّق ضمن فرضية الكون السوبر خلاّق لكونها تقلب النموذج العلمي السائد بتأكيدها على أنَّ الكون فعّال في إنتاج الانفجارات العظيمة بدلاً من أن يكون نتيجة الانفجار العظيم.

لقد أكّد الاكتشاف العلمي على وجود مجرّات كبيرة في المراحل الأولى لعالَمنا بعد الانفجار العظيم المعروف لدينا والتي لم يكن من المتوقع وجودها لأنَّ في المراحل الأولى بعد الانفجار العظيم من المتوقع نشوء مجرّات صغيرة ومن ثم تتضخم لاحقاً [2]. هذا الاكتشاف العلمي قد يشير إلى أرجحية أنَّ الكون لم يتكوّن من الانفجار العظيم بل الكون يُنتِج الانفجارات العظيمة. فبما أنَّ الكون يُنتِج الانفجارات العظيمة، إذن من المتوقع وجود مجرّات كبيرة وعديدة في المراحل الأولى بعد الانفجار العظيم المعروف لدينا وذلك من جراء إنتاج الكون لانفجارات عظيمة متتالية سابقة لوجود الانفجار العظيم المعروف لدينا والتي تحتِّم نشوء مجرات في المراحل الأولى بعد الانفجار العظيم المعروف لدينا. هكذا تنجح فرضية الكون السوبر خلاّق (القائلة بأنَّ الكون يُنتِج الانفجارات العظيمة) في تفسير وجود مجرّات كبرى في المراحل الاولى بعد الانفجار العظيم (المعروف حالياً لدينا). وبفضل هذا النجاح تكتسب الفرضية السابقة صدقها.

إستحالة السلسلة السببية اللامتناهية

إن نشأ الكون من الانفجار العظيم فلا بدّ حينها من وجود آلية طبيعية تؤدي إلى نشوئه من الانفجار العظيم. وبذلك لا بدّ أيضاً من وجود آلية طبيعية ثانية أخرى تؤدي إلى وجود الآلية الطبيعية الأولى ولا بدّ حينها أيضاً من وجود آلية ثالثة تسبِّب وجود الآلية الثانية مما يستدعي وجود سلسلة لامتناهية من الآليات الطبيعية وهذا مستحيل لكونها سلسلة لامتناهية. من هنا، الكون لم ينشأ من الانفجار العظيم أي من جراء الكثافة الهائلة للمادة والطاقة في زمكان صغير جداً بل الكون يُكثِّف المادة والطاقة في زمكانات صغيرة جداً فيصوغ انفجاراته العظيمة ويبني ذاته باستمرار مما يجعله يتجنب الوقوع في سلسلة لامتناهية من الآليات الطبيعية المُسبِّبة لنشوئه. والسلسلة السببية اللامتناهية لنشوء الكون مستحيلة الحدوث لأنها إن وُجِدت لن يتمكّن الكون من الوجود في الحاضر لاستحالة اجتياز اللامتناهي.

نبوءة علمية

تتنبأ فرضية الكون السوبر خلاّق (القائلة بأنَّ الكون يُنتِج الانفجارات العظيمة بدلاً من أن يكون نتيجة لها) بوجود مجرّات أقدم من الانفجار العظيم المعروف حالياً. فبما أنَّ الكون يُنتِج باستمرار انفجاراته العظيمة، إذن لا بدّ من وجود انفجارات عظيمة تسبق الانفجار العظيم المعروف حالياً وتؤدي إلى نشوء مجرّات أقدم من الانفجار العظيم المعروف لدى العلماء. إن صدقت هذه النبوءة المعرفية، صدقت فرضية الكون السوبر خلاّق السابقة. وإن كذبت هذه النبوءة المعرفية، كذبت فرضية الكون السوبر خلاّق السابقة مما يدلّ على أنها قابلة للاختبار وبذلك هي فرضية علمية. ولكن إن لم ينشأ الكون من انفجار عظيم بل الكون هو الذي يبني انفجاراته العظيمة، إذن كيف نشأ ومِن أين؟ على الأرجح، الكون لم ينشأ بل الكون أزلي ويمارس إنتاج الانفجارات العظمى باستمرار مما يسبِّب تتالي تكوّنه وكأنه كون جديد.

الكون السوبر خلاّق وانسجام الكون

الكون منسجم فأينما نظرنا سوف نجد توزيعاً متساوياً للمادة والطاقة في الكون [3]. الآن، فرضية الكون السوبر خلاّق تنجح أيضاً في تفسير انسجام الكون. فبما أنَّ الكون يُنتِج قواه الطبيعية والجُسيمات التي يتكوّن منها بالإضافة إلى إنتاجه لقوانينه الطبيعية، إذن الكون يُنتِج ذاته باستمرار مما يتضمن أنَّ الكون ينسخ ذاته باستمرار في كلّ الزمكانات مما يفسِّر بدوره لماذا الكون منسجم (وذلك من جراء تكرار نُسَخِه في كلّ الزمكانات المتعدّدة). هكذا تنجح فرضية الكون السوبر خلاّق في تفسير انسجام الكون. وهذا النجاح دليل إضافي على صدق تلك الفرضية.

فرضية علمية

فرضية الكون السوبر خلاّق فرضية علمية لأنه من الممكن اختبارها. فبما أنَّ، بالنسبة إلى هذه الفرضية، الكون يُنتِج القوى الطبيعية والجُسيمات ما دون الذرية والانفجارات العظيمة (بدلاً من أن تكون القوى الطبيعية والجُسيمات والانفجارات العظيمة مُحدَّدة سلفاً)، إذن من المتوقع أن يُنتِج الكون قوى طبيعية وجُسيمات وانفجارات عظيمة جديدة. وبذلك إن صدق التنبؤ السابق، صدقت فرضية الكون السوبر خلاّق. وإن كذب التنبؤ السابق، كذبت فرضية الكون السوبر خلاّق مما يدلّ على أنها قابلة للاختبار وبذلك هي فرضية علمية.

***

حسن عجمي

....................

المراجع

1-Joseph Silk: The Big Bang: The Creation and Evolution of the Universe. 1989. W.H. Freeman & Company.

2-Adam Mann: Did the James Webb telescope ‘break the universe’? Maybe not. 2024. ScienceNews. & Hannah Devlin: James Webb telescope detects evidence of ancient ‘universe breaker’ galaxies. 2023. The Guardian.

3-Alan Guth: The Inflationary Universe. 1998. Basic Books.

 

هل يحتاج اليقين إلى أعداء؟

لو عاد طه حسين إلى الحياة اليوم، لوجد أن الحجر الذي ألقاه في بركة اليقين الراكدة قبل قرن من الزمان، لم يحدث دوائر مائية فحسب، بل فجر سلسلة من التسونامي الفكرية التي تتوالى حتى الآن. وعمار علي حسن هو أحد الذين التقطوا هذه الموجة، لكنه حولها إلى إعصار من الأسئلة الجديدة، التي تذكرنا بأن المعركة ذاتها تتجدد، لكن بسيوف مختلفة. 

الخيال السياسي

في كتابه "الخيال السياسي"، يقدم عمار علي حسن فكرة تبدو للوهلة الأولى متناقضة: كيف يمكن للخيال – ذلك العالم الهش الذي ننسبه عادة إلى الأدباء والشعراء – أن يكون سلاحًا في مواجهة أزماتنا السياسية والاجتماعية؟ الجواب عنده بسيط في ظاهره، عميق في جوهره: "المجتمعات التي تفقد قدرتها على التخيل، تتحول إلى متاحف للماضي". هنا يلتقي مع طه حسين في الجوهر، وإن اختلفت الأدوات. فالأوّل شكك في الماضي لتحرير الحاضر، والثاني يدعو إلى تخيل المستقبل لإنقاذ الحاضر من سجن الماضي. 

والسؤال الذي يفرض نفسه: هل يمكن أن ننظر إلى الخيال ليس كمجرد هروب من الواقع، بل كوسيلة لفهمه؟ التاريخ يكتب بأقلام المنتصرين، لكن الخيال يعيد كتابته بأقلام المهمشين. وهذا بالضبط ما فعله حسن في روايات مثل "جبل الطير"، حيث حول التاريخ المصري إلى لوحة سريالية تتداخل فيها العصور، وكأنه يقول: "الهوية ليست نصبًا تذكاريًا، بل نهرًا يجرف معه كل المحاولات لتجميده". 

الواقعية السحرية

ما يفعله عمار علي حسن في أدبه هو إعادة تعريف العلاقة بين الواقع والمقدس. ففي "حكاية شمردل"، يدمج الأسطورة بالتاريخ، ليكشف أن ما نعتبره "حقائق مطلقة" هو في النهاية سردياتٌ تمت هندستها لخدمة سلطة ما. وهذا ليس بعيدًا عن مشروع طه حسين النقدي، لكنه يضيف بعدًا جديدًا: فإذا كان طه حسين قد كشف زيف بعض الروايات التاريخية، فإن حسن يظهر كيف تختلق الروايات البديلة وتوظف لصنع تابوهات جديدة. 

وهنا نصل إلى مفارقة لافتة: في عصرنا الرقمي، حيث يفترض أن تنفتح الآفاق أمام حرية الفكر، نجد أن التابوهات لم تختف، بل تغيرت أشكالها. فـ"الكفر" صار يدعى "تطرفًا"، و"الحرية" صارت "تبعية للغرب". وفي هذا السياق، يصبح الأدب – كما يراه حسن – "مشرطًا" لا يكشف عن الأوهام فحسب، بل يشرح آليات صناعتها. 

المثقف العضوي

عمار علي حسن، مثل طه حسين من قبله، يرفض أن يكون المثقف مجرد ناقل للمعارف، بل يرى فيه "حارسًا للحقيقة" في زمن التزييف. لكن الفارق الجوهري بينهما هو أن حسن يعيش في عصر أصبحت فيه "الحقيقة" سلعة قابلة للتشويه والإعادة، بفضل وسائل التواصل الاجتماعي والأجندات السياسية. في سيرته "مكان وسط الزحام"، يروي كيف تحول من أكاديمي هادئ إلى كاتب يخوض معارك فكرية شرسة، وكأنه يعيد إنتاج صراع طه حسين مع المؤسسة الأزهرية، لكن في سياقٍ أكثر تعقيدًا: فعدو الفكر اليوم ليس مؤسسة واحدة، بل شبكة من الخطابات المتصارعة التي تلبس ثياب الحرية وهي تقمعها. 

التابوهات الجديدة

في كتابه "التنشئة السياسية للطرق الصوفية"، يكشف عمار علي حسن عن آليات صناعة التابوهات في العصر الحديث. فإذا كان طه حسين قد حارب تابوهات الماضي الدينية والتاريخية، فإن حسن يظهر كيف تستبدل هذه التابوهات بأخرى جديدة: "الخط الأحمر" لم يعد فقط الدين أو التاريخ، بل صار "الأمن القومي" أو "الاستقرار" أو حتى "الحداثة" نفسها! 

وهنا يبرز سؤال مركزي: هل ننتقد الماضي بينما نقدس حاضرنا؟ يبدو أن بعض النخب العربية، بعد أن حررت نفسها من تابوهات الدين، وقعت في فخ تبجيل "الحداثة" كدين جديد، حيث يرفض أي نقد لها تحت شعار "معاداة التقدم". وهذا بالضبط ما يحذر منه حسن حين يقول: "الثقافة الحية هي التي تشكك حتى في أدوات تشكيكها". 

 الأدب بين كسر التابوت وبناء العالم 

إذا كان طه حسين قد علمنا أن نشك، فإن عمار علي حسن يعلمنا أن نتخيل. المشروعان ليسا متناقضين، بل هما وجهان لعملة واحدة: عملة التحرر الفكري. الفرق هو أن طه حسين حطم الأصنام القديمة بأدوات النقد التاريخي، بينما حسن يعيد تشكيل العالم بأدوات الخيال والسرد. 

يبقى السؤال الذي يلاحقنا: هل يمكن أن نصنع يقينًا جديدًا قائمًا على قبول الأسئلة، بدلًا من البحث عن إجابات جاهزة؟ ربما تكون الإجابة في مقولة لعمار علي حسن نفسه: "الثقافةُ الحقيقية هي التي تتحول فيها الأسئلة إلى أصدقاء، لا إلى أعداء". وهذا، في رأيي، هو الإرث الحقيقي لطه حسين الذي استأنفه حسن ببراعة: أن نعيش في حالة من اللايقين الخلاق، دون أن نيأس من إمكانية الفهم. 

فهل نحن مستعدون لهذه الرحلة؟ التاريخ – أو بالأحرى، خيالنا عن التاريخ – سيحكم.

الخيال وتشكيل الوعي الجمعي 

في عالم عربي تغلب عليه الخطابات الجاهزة واليقينيات المغلقة، يأتي مشروع عمار علي حسن ليقول: "لا خلاص من أزماتنا إلا بإطلاق العنان للخيال". لكن هذا الخيال ليس هروبا من الواقع، بل هو تمرد على التفسيرات الأحادية التي تختزل فيها الحقائق إلى شعارات. ففي روايته "جبل الطير"، لا يكتفي الكاتب بإسقاط التاريخ القديم على الحاضر، بل يخلق حوارا بين العصور، وكأنه يذكرنا بأن مشكلاتنا ليست وليدة اليوم، بل هي حلقة في سلسلة من الصراعات المتجددة على السلطة والمعنى. 

الأدب وسؤال الهوية

إذا كان طه حسين قد طرح سؤال الهوية عبر نقض الروايات التاريخية (كما في "في الشعر الجاهلي")، فإن عمار علي حسن يعيد صياغة السؤال نفسه بطريقة وجودية: "من نكون؟" ليست إجابة جاهزة في كتب الماضي، بل هي رحلة نصنعها يوميا عبر السرد. في "باب رزق"، يصوغ الكاتب هوية المهمشين ليس كضحايا، بل كأبطال لحكاياتهم الخاصة. هنا، يصبح الأدب فضاء للانتماء المتخيل، حيث تبنى الهوية من الأسفل، لا من فوق. 

وهذا يذكرنا بمقولة إدوارد سعيد: "الهوية ليست شيئا نكتشفه، بل شيئا نبتكره". لكن عمار علي حسن يذهب أبعد من ذلك ليقول: "الهوية ساحة معركة"، حيث تختزل أحيانا إلى أيديولوجيا، أو تستخدم كسلاح سياسي. ففي العالم العربي، حيث تحتكر "العروبة" أو "الإسلام" من قبل خطابات رسمية، يصبح الأدب وسيلة لاستعادة هذه المفاهيم من براثن التسييس. 

المثقف في عصر السوشيال ميديا

في زمن "التريندات" و"الإعجابات"، يطرح سؤال وجودي عن دور المثقف. عمار علي حسن، في "مكان وسط الزحام"، يقدم نموذجا للمثقف العضوي الذي لا ينعزل في أبراج عاجية، لكنه أيضا لا يذوب في ضجيج السوشيال ميديا. الكتابة عنده فعل مقاومة ضد الابتذال، لكنها أيضا محاولة لفهم التحولات الجذرية في طبيعة المعرفة والسلطة. 

فإذا كان المثقف التقليدي (كما في عصر طه حسين) يواجه سلطة الدولة أو المؤسسة الدينية، فإن مثقف اليوم يواجه سلطة الخوارزميات التي تتحكم في ما نقرأ ونرى. وهنا، يصبح دور الأدب أكثر تعقيدا: ليس فقط كشف الزيف، بل اختراق فقاعات التلقين الرقمي. 

هل نحن أمام مشروع ثقافي جديد 

المشروع الفكري لعمار علي حسن لا يقتصر على النقد أو الإبداع، بل هو محاولة لصنع لغة ثالثة تتجاوز الثنائيات البالية: تراث/حداثة، دين/علمانية، محلي/عالمي. لغته تذكرنا بأن الأدب ليس ترفا، بل ضرورة للبقاء في عالم يزداد تعقيدا. 

وفي النهاية، يلخص الدكتور عمار علي حسن رؤيته بمقولة عميقة: "لا نقد بلا خيال، ولا خيال بلا شجاعة". ربما هذا هو الدرس الأكبر الذي يقدمه لنا: أن النقد الحقيقي يبدأ عندما نجرؤ على تخيل عالم مختلف، لا عندما نكتفي بهدم العالم القديم. 

فهل نجرؤ؟

***

د. عبد السلام فاروق

بقيت الفلسفة لزمن طويل مقترنة بالطابع الذكوري، وأرتكز تاريخها على ما أنتجه رجال في مختلف الحضارات الغربية والشرقية، باستثناء ما ورد في التواريخ العامة من اسماء حكيمات أمثال ديوتيما ملهمة سقراط ومعلمته، واسبازيا الملطية، وهيباتيا فيلسوفة مدرسة الاسكندرية. كما أن مؤرخاً حديثاً للفلسفة بحجم برتراند رسل لم يذكر في موسوعته الضخمة " تاريخ الفلسفة الغربية" أي فيلسوفة غربية، ربما تحيزاً تاريخياً للذكورة الفلسفية التي تهمش النساء فلسفياً وثقافياً. غير أن العصر الحديث، عصر الحريات والمساواة شهد انصافاً للمرأة المفكرة، فبرزت منهن في القرنين الأخيرين فيلسوفات تركن أثرهن في مسيرة الفكر الفلسفي، بالأخص في العقود الأخيرة أمثال الألمانيتين إديث شتاين، وحنّة أرندت صاحبة كتاب " في الثورة "، والفرنسية سيمون دي بوفوار، والاميركية جوديث بتلر، ومواطنتها سوزان لانكر.

في كتابها الجميل " الخطاب الفلسفي النسوي" الصادر عن دار المرهج، تستعرض الباحثة هيام ضياء نماذج منتخبة لأربع من فيلسوفات تيار ما بعد الحداثة، في مجال فلسفة العلم النسوية، وما بعد النسوية، ساندرا هاردنج، ونورتا كورتجي، وجوليا كرستيفا، وجوديث بتلر، وكلهن اميركيات باستثناء الفرنسية البلغارية كرستيفا، ومما توصلت إليه ان الخطاب الفلسفي النسوي " كان موجوداً فعلاً في جميع العصور، لكنه كان مهمشاً ومطموراً "، متهمة الفلاسفة بـ " النيل من حرية المرأة وتهميش دورها ومحاولة التقليل من شأنها " وأولهم أفلاطون الذي لم يشرك المرأة بشخصها أو رأيها في محاوراته " وهو بالنهاية جرى على نهج الثقافة الذكورية السائدة في عصره " .

ترى هل بالإمكان الحديث عن فلسفة ذكورية، وأخرى أنثوية، أم أن الفلسفة هي نتاج مجمل العقل الإنساني المجرد عن الذكورة والأنوثة؟. سؤال يحضر في الذهن بعد قراءة ممتعة للخطاب الفلسفي " النسوي " كما قدمته هيام ضياء.

***

د. طه جزاع – كاتب واكاديمي

 

أرى أنَّ في هذه المقولة الشهيرة خطأ خطيراً بل وأكثر من خطأ. أجملها بما يلي:

1ـ الصدفة والضرورة ليستا أضداداً جدلية [دايالكتيكية]

2ـ الأضداد الجدلية [الدايلكتيكية] تستلزم وحدتها والصراع فيما بينها حسب قانون " وحدة وصراع الأضداد " الماركسي الجدلي.

3ـ قوانين الصراع الماركسية تقرر أنْ في مجرى الصراع بين الأضداد ينتصر أحدها ويفنى الآخر ... فمن هو المنتصر ومن هو المندحر الفاني في عملية الصراع المُفترض بين الصدفة والضرورة وما هو العنصر الجديد وليد هذا الصراع؟ صدفة جديدة؟ ضرورة جديدة أو ماذا؟

4ـ لا أرى أية علاقة بين الصدفة والضرورة والأمثلة أكثر من أنْ تُعدُ وتُحصى منها مثلاً:

أمشي على رصيف شارع عام في مدينة كبيرة أو صغير تقابلني سيارة ما أنْ تقترب مني حتى ينفجر إطار أمامي فيها فتنحرف وتصعد الرصيف وتقتلني وربما آخرين غيري. أين الضرورة في هذه الصدفة؟ هل قتلي في حادث عارض وغير متوقع هو ضرورة وما طبيعة هذه الضرورة وإلامَ تؤدي؟ أنْ أمشي على رصيف شارع عام في زمن محدد وتقترب مني في هذا الزمن المحدد سيارة ينفجر فيها واحد من إطاراتها الأمامية فتنحرف وتصطدم بي وتقتلني ! هذه محض مصادفات عرضت فما وجه ضرورتها في عملية قتلي ومفارقتي للحياة؟ هل في تنحيتي من الحياة ضرورة وضرورة لمن؟ هل فيَّ على الحياة خطر داهم يستدعي إزالتي من على سطح الكرة الأرضية لتجنيبها شرَّ هذا الخطر؟

مثال آخر: أحجز مقعداً في طائرة تأخذني إلى عاصمة بلد ما في يوم بعينه وإقلاعها يتم في ساعة محددة بذاتها ... تقلع الطائرة وفي الجو عالياً يحدث فيها خلل فتنفجر وتتمزق إلى أشلاء ويحترق جميع ركّابها وأنا أحدهم. تحديدي للهدف من طيراني واختياري لساعة ويوم السفر والشركة المسؤولة عن خط طيراني ما علاقتها بما حادث للطائرة وقد حدث ما حدث وكان ممكناً أنْ لا يحدث. ما الضرورة في تحطّم الطائرة ومقتل جميع ركابها؟

إذاً، والأمثلة كثيرة جداً، لا من علاقة جدلية أو غير جدلية تربط الضرورة بالصدفة ولا هذه بتلك. أجلْ، الأمثلة لا تُعد ولا تُحصى.

قرأت ذات يوم في كتاب فلسفي جملة تقول: الصدفة هي طريق تجلّي الضرورة ! وهذا كلام لا يختلف عن ذاك القائل: لا صدفة بدون ضرورة. أفتوني يا ناس في شأن هذه المعضلة وأريحوني.

 ***

الدكتور عدنان الظاهر

15.5.2025

يُعد الفيلسوف والتربوي باولو فريري Paulo Freire من أبرز المفكرين في نظرية التدريس (البيداغوجيا) والعدالة الاجتماعية. من بين أعماله التي نالت الشهرة هو كتاب نظرية التدريس للمضطهدين، الذي صدرعام 1970 والذي كان لأفكاره صدى في مختلف التخصصات، خاصة في التربية والفلسفة والنظرية النقدية. اتجاه الكاتب في التعليم كان متجذرا في الإلتزام بتحرير الانسان، والتأكيد على الحاجة لتمكين المظلومين وتحدّي أنظمة الهيمنة. كان إرث المؤلف بارزاً في الحركات التعليمية التحويلية عبر العالم والتي تأثرت بأفكاره.

وُلد باولو في مدينة ريسيفي البرازيلية عام 1921 وعاش ظروف الفقر والجوع والتهميش أثناء فترة الكساد الكبير. شكّلت حياته العائلية المبكرة ضمن الطبقة العاملة فهمه لـ اللامساواة والعلاقات بين السلطة والتعليم. هذه التجربة أصبحت أساسا لعمله اللاحق، حيث نظر للتعليم كأداة فعالة للتغيير الاجتماعي.

تلقّى فريري تدريبا في القانون لكنه بسرعة انتقل الى التعليم والبحث التربوي، حيث عمل بشكل رئيسي مع البرازيليين في الأرياف الفقيرة. عمله المهني المبكر ركز على حملات تعليم الأبجدية للبالغين وهي المبادرة التي تطورت الى فلسفه تعليمية ثورية.

بيداغوجيا المضطهدين

اعتماداً على تجربته في العمل بالمناطق البرازيلية الفقيرة، طوّر فريري نظرية تتحدى الطرق التعليمية التقليدية وتنتقد الهياكل السياسية المجتمعية الواسعة التي تحافظ على اللامساواة والاضطهاد. هو رأى التعليم كوسيلة لإيقاظ الوعي، الذي بدوره يمكّن المظلوم من تحدّي ظروفه وتحويلها. في جوهر بيداغوجيا فريري نجد نداءً للفعل، واعتبار التعليم كممارسة للحرية يجب ان توقظ المضطهد وتشعره بقدرته على التحول. هو يجادل بان التعليم لا يجب فقط ان يكون ناقلا للمعرفة وانما يجب ان يغرس الوعي النقدي الذي يمكّن المظلوم للتصرف ضد اللاعدالة. في عمل كهذا، يصبح التعليم فعلا تحريريا يتحدى القدرية والسلبية التي تكرسها أنظمة القمع في أوساط المهمشين.

كتاب بيداغوجيا المضطهدين كُتب عندما كان الكاتب في منفاه السياسي في شيلي بين عامي 1964-1969 بعد انقلاب المجلس العسكري وتسلّمه السلطة في البرازيل، فكان أهم مساهماته في نظرية التعليم. الكتاب يستطلع ديناميكيات الاضطهاد ويجادل بان التعليم يجب ان يكون فعلا للتحرير وليس تدجينا. لهذا فان مفهوم فريري لتغيير الوعي يُعد اساسياً. تغيير الوعي conscientisation هو العملية التي يصبح بها الفرد واعيا بالقوى الهيكلية التي تقمعه ويكون قادرا على تغيير تلك الهياكل. وبطريقة اخرى، انها العملية التي بواسطتها يفهم الافراد الوقائع المجتمعية- السياسية لعالمهم، وبهذا يتخذون خطوات لتغييرها.

هذه الفلسفة لاقت صدى خاصا في سياقات ما بعد الاستعمار، حيث الانظمة التعليمية غالبا ما تعكس الافكار الاستعمارية للقوة والمعرفة. أعمال فيريري أصبحت نهجا لحركات التحرير في افريقيا وامريكا اللاتينية وغيرها، حيث أثّرت في الاصلاحات التعليمية لتفكيك الهياكل الاستعمارية.

نموذج فيريري التعليمي اختلف بشدة عن طرق التعليم التقليدية التي انتقدها واعتبرها كنموذج "تعليم مصرفي" فيه يُعامل الطلاب كوعاء فارغ يودع فيه المعلم المعرفة، وبهذا يحافظ على استمرارية أنظمة اللامساواة عبر كبح التفكير النقدي. في هذه العلاقات، يكون الطلاب سلبيين، يقبلون المعرفة كحقيقة ثابتة تأتي من الأعلى الى الأسفل ولا تشجع الاّ نادرا على السؤال او الانخراط النقدي مع المادة. يرى فيريري هذه الديناميكية انعكاس للهياكل التنظيمية للمجتمع القمعي، حيث يتعلم المضطهدون القبول بظروفهم دون سؤال: انقسام المدرس- الطالب يعكس هذه العلاقة بين المظلوم والظالم، فيه يسيطر المعلمون على تدفق المعرفة كالمستبدين، ينكرون على الطلاب فرصة ان يصبحوا افرادا نشطين في تعليم انفسهم.

مقابل هذا، يفترض فريري نموذج "تعليم مثير للمشكلة"، يحطم الحواجز الهيراركية بين المدرس والطالب. هنا، المدرس ليس صاحب معرفة فائقة، وانما متعلم مشارك ينخرط في حوار مع الطلاب. هذا الاتجاه الحواري يهدف الى خلق بيئة تعليمية اكثر مساواة، حيث تُبنى المعرفة بالتعاون. عبر الانخراط في حوار نقدي، يشارك كل من المدرس والطالب في رحلة مشتركة من الإكتشاف، يفكران في تجربتهما المُعاشة ويحققان في القوى السوشيوسياسية المؤطرة لواقعهم. هنا التعليم ليس نقلا لمحتوى ثابت بعيد عن السؤال، وانما هو عملية من الاستنطاق. في هذا النموذج، يصبح التعليم عملية استفسار متبادل يُشجع فيها الطلاب على السؤال والانخراط نقديا مع العالم الذي حولهم. هذا التأكيد على الحوار مرتبط بعمق بجذور الكاتب الفلسفية في الوجودية والماركسية.

كتاب بيداغوجيا المضطهدين يدعو القرّاء لإعادة التفكير بالغرض من التعليم في المجتمعات التي تسودها اللامساواة، مجادلا ان التعليم ليس فقط اداة للحراك الاجتماعي وانما قوة للتحرير الجمعي ايضا. في رؤية فريري، التعليم هو فعل تحدّي ضد القمع مرسخا وعيا نقديا وطارحا أساسا لإنعتاق الانسان.

واجه الكتاب عدد من الانتقادات. البعض يرى ان انقسام المظلوم-الظالم لفريري هو شديد التبسيط، يتجاهل تعقيدية العلاقات الاجتماعية في السياقات الليبرالية. آخرون يثيرون اسئلة حول التطبيقية الميدانية لأفكاره خاصة في أنظمة التعليم الرسمي وما تتطلبه من مناهج صارمة وتقييمات نمطية لا تترك مساحة لذلك النوع من الحوار المفتوح للتفكير. الحوار والتفكير النقدي يمكن ان يكونا عائقا للتنفيذ في بيئات ذات وقت محدود وموارد محدودة. كذلك، نقده لهياكل السلطة تأثّر بالماركسية وعُرض بايديولوجية شديدة، تعزل اولئك الذين خارج الاطر اليسارية.

بيداغوجيا للتحرير

بيداغوجيا لأجل التحرير لفيراري صدر عام 1987، بالاشتراك مع ايرا شور استمر بتعميق عمله المبكر. في كتابه، يتحول الاهتمام من النظرية الى التطبيق، مركزا على الكيفية التي يمكن ان يساهم بها التعليم بقوة في تحرير كل من المضطهد ومربيه. مع ذلك تبقى فلسفة فيريري متأسسة على عقيدته بان التعليم لا يجب ان يكون ناقلا سلبيا للمعرفة وانما عملية تشاركية ديناميكية تعمل على تمكين الوعي النقدي.

في جوهر بيداغوجيا التحرير فكرة ان التعليم هو فعل سياسي. فيريري يتحدى الفكرة بان التعليم يمكن ان يكون محايدا. في أنظمة التعليم التقليدي، المدرسون عادة يرغبون التمسك بوهم الحيادية، معتبرين أنفسهم كسلطة موضوعية. مع ذلك، يجادل فيريري بان مثل هذا الموقف يديم ديناميكية السلطة القائمة ويعزز الوضع الراهن. لذا لكي ينجز المعلمون تحريرا حقيقيا، يجب عليهم الاعتراف بولائهم السياسي وبالطبيعة السياسية المتأصلة في ممارساتهم. يدعو فيراري المعلمين ليصبحوا "عمال ثقافيين"، يفككون الهياكل القمعية من خلال التعليم. العلاقات بين المربي والطالب يُعاد تصوّرها كتشاركية يفكر فيها كلا الطرفين نقديا حول تجاربهما والعالم الذي حولهما. يصر فيريري على ان هذه المعاملة بالمثل لا تُضعف دور المربي وانما تغيّره، تسمح للمربي بتسهيل التعليم الذي يشجع على التفكير النقدي والوعي الاجتماعي.

تتأسس بيداغوجيا التحرير على نقد فيريري المبكر للنموذج المصرفي للتعليم. فيريري وشور يدعوان مرة اخرى الى اتجاه "حواري" يركز فيه التعليم على المحادثة والتعلم المتبادل.

لكن مفهوم فيريري لـ "praxis" او التطبيق العملي هو أساسي في هذا العمل اللاحق. يرى فيريري ان التطبيق العملي يجمع بين كل من التفكير والفعل. هو يجادل بان التعليم يجب ان يستلزم التفكير الذي يقود الى اجراءات ملموسة تتحدى القمع. لا يكفي فهم ألية القمع، حيث ان المربي والطلاب يجب ان يعملوا جنبا الى جنب لتغيير واقعهم الاجتماعي. هذا الاتجاه يربط التعليم مباشرة بالنشاط، ويقترح ان التعليم لا يكتمل مالم يؤد الى جهود ملموسة نحو التحرير الاجتماعي.

وبينما يقدم بيداغوجيا التحرير رؤية قوية لتعليم تشاركي تحرري، هو ايضا لم يسلم من النقد. النقاد مرة اخرى يرون ان اتجاه فريري مثالي عندما يطبق على ظروف التعليم الرسمي المقيّد بمنهج صارم وانظمة تقييم رسمية. كذلك، ربما يُنظر الى وصف فريري للموقف السياسي للمربي كتحدي للحيادية في بعض الانظمة التعليمية، خاصة في الديموقراطيات الليبرالية. مع ذلك، يبقى هذا الكتاب مساهمة قيّمة وهامة لنظرية التعليم، خاصة في سياقات يُنظر اليها كأداة للعدالة الاجتماعية. مرة اخرى، يركز فيريري على الطبيعة السياسية للتدريس وأهمية الحوار في صفوف الدراسة وهو الذي كان له صدى واسعا في الحركات المعاصرة لإنهاء الاستعمار وتفكيك انظمة المعرفة القمعية.

بيداغوجيا التحرير يبقى نصا محرضا على التفكير الذي يستدعي ادة تفكير راديكالية في العملية التعليمية. اصرار فريري على الطبيعة السياسية للتدريس والتعليم يتحدى وهم الحيادية، مجادلا ان المربين والطلاب يرون انفسهم كمشاركين نشطين في خلق المعرفة والتحول المجتمعي. من خلال مفهوم praxis، يؤكد فيراري على وجوب ان يتبنّى التعليم عملا هادفا لتفكيك انظمة القمع.

وعلى الرغم من الانتقادات لمثالية الكتاب والتحديات التطبيقية، يستمر بيداغوجيا التحرير في إثارة المربين الملتزمين بالعدالة الاجتماعية، عارضاً رؤية يكون فيها التعليم ليس فقط ناقلا للمعلومات وانما منشغلاً في الصراع الاكبر لأجل الحرية الانسانية والمساواة.

التزام فيريري بالتعليم الحواري التحولي كان له تأثيرا مستمرا، وان افكاره جرى احتضانها من جانب المربين والنشطاء ومنظمي الجاليات وفلاسفة العدالة الاجتماعية في جميع انحاء العالم.

 بعد ان أمضى حياته في تعزيز التعليم للفقراء في العالم، توفي فيريري على اثر سكتة قلبية في عام 1997 في ساوباولو. لكن عمله يستمر بإثارة اولئك الباحثين عن خلق عالم أكثر مساواة من خلال قوة التفكير النقدي والفعل الجماعي. اليوم، تبقى أفكاره مرادفة للتعليم كفعل للحرية، مجسدة الأمل بان المعرفة والحوار يمكن ان يقودان لإنعتاق بشري حقيقي.

***

حاتم حميد محسن

بداية الفلسفة بعيدا عن التعريفات التقليدية، هي نشاط عقلي هدفه تفسير وتحليل كل ما يحيط بالإنسان ونقده آملاً في تغيير الواقع إلي الأفضل، والجمال هو كل ما تشاهده النفس وتستحسنه ويسبب لها السرور والسعادة فهناك الجمال المادي المتمثل في الفنون الجميلة المختلفة، وهناك الجمال المعنوي المتمثل في الموسيقي .

 اما بالنسبة لفلسفة الجمال، سنستعين بنظرية للفيلسوف اليوناني ارسطو طاليس وهي نظرية العلل والأسباب، وهي أن كل شيء له اربعة علل العلة المادية والعلة الصورية والعلة القائمة والعلة الغائية

المادة التي صنع منها والصورة التي هو عليها والفاعلة القائم بصنعه والغائية الهدف والوظيفة التي من أجلها تم صنع الشيء من أجله، كيف ارتبطت العلة الغائية بفكرة الجمال والحياة اليومية ؟

منذُ بداية الحياة البدائية للإنسان، ومحاولته لتطويع الطبيعة لإحتياجاته ومتطلباته وشق الكهوف، عند تأملنا هذه الحياة رغم بساطتها إلا أنه أستطاع ان يضيف اللمسات الفنية والجمالية في نقش الجدران والرسومات الموجودة علي جدران الكهوف الداخلية، فقام بمحاكاة الطبيعة لتدخل عليه بعض البهجة من خلال تلك الزينة، فعندما فكر في بناء بيت يأويه من قسوة الطقس، وشق الكهوف فكان الهدف الأساسي هو صنع مبيت خاص به يحميه ولكن بجانب هذه الغاية قام بتزيين كهفه برسومات الحيوانات، وتوثيق حياة الصيد التي كان يعيشها .

وفي عالمنا المعاصر، تطور مفهوم الغائية والجمال، أصبح الإنسان المعاصر يعيش في رفاهية كبيرة، لما يصبح هناك كهوفاً بل تصاميهم هندسية ذات أشكال مختلفة أصبح لديه من الخيال ما يمكنه في حياة راقية يعمها الجمال والذي يتمثل في الملبس والماكل والمسكن، أصبح الجمال هو الجني الأنيس الذي يصادفه في كل مكان كما قال الفيلسوف هيجل، ولكن كيف أرتبطت الغائية بفكرة الجمال والحياة اليومية في الوقت المعاصر؟

بالنسبة للملبس أصبح لديه من التصاميم المختلفة والالوان المتنوعة، أليست الغاية من الملبس ستر العورة، ولكن بجانب هذه الغاية قام بإضفاء صبغة الجمال فأصبحت ستر وزينة، فالإنسان جمالي بطبعه، اما بالنسبة للمسكن، فأصبحنا نقيم بمباني هندسية بالتصاميم المختلفة، وظل إهتمام الإنسان بالجمال في تزيين منزله من الداخل من الأشكال الديكورية والأثاث الملون والمختلف أشكله، ومن الخارج من تلوين وجهات المنازل، كل ذلك من شغل الإنسان علي الجمال والفن فاصبح يدخل في أدق تفاصيل حياته، أليس الهدف من بناء البيوت والمنازل هو توفير إحتياجته من الخصوصية وتحقيق متطلباته، ولكن بجانب هذه الغاية أرتبطت بمفهوم الجمال، وكذلك الوضع في طعامه، فنلاحظ المطاعم الفاخرة الشرقية منها وذات الطراز الغربي وفنون طهي الطعام، منها الايطالي ومنا الأمريكي وغيره من الطرق المختلفة، وهذا بجانب أسلوب تقديم المؤكلات، سنجد الجمال يتجسد بصوره المختلفة في أدق تفاصيل حياة الإنسان .

***

محمد الدسوقي

ليسانس الفلسفة

 

"كن أنت التغيير الذي ترجو حدوثه في العالم" (غاندي)

"ما عييتُ إلاّ أمام من سألني، من أنت؟ (جبران خليل جبران)

جَرَّبْنا الهمس والصراخ، جربنا الصمت والكلام، جربنا الحزن كلما انكسرنا ـ وانكساراتنا كثيرة ـ او خبت فينا جذوة البداية، جرّبنا الخيانات حين خُنّا شرف الكلمة والمواقف، وحين وقفنا متفرجين حين سار العالم جريا إلى الأمام، جربنا الوقوف في وجه بعضنا بغضاً كراهية..

لم لا نجرب المحبّة؟

لعلّها تكون ورقتنا الرابحة، لعل أمام محرابها نندهش، ننبهر، ننفعل، نترك لإنسانيتنا أن تنساب شفَّافة تمحو ما علق بدواخلنا من ألم وبُغْض وحقد وانكسارات وخسارات، ونفتح بالمحبّة للأمنيات كفّا على أعتابه ترتاح البسمات، ونطوي صفحاتِ ذواتٍ تُجيد احتراف التواطؤ والخيانة والكُره.

"المحبّة هي الحرية الوحيدة في هذا العالم، لأنها ترفع النفس إلى مقامٍ سامٍ لا تبلغه شرائع البشر وتقاليدهم، ولا تسوده نواميس الطبيعة وأحكامها"[1].

المحبّة، فعلٌ للمقاومة، ضدا على القهر والغبن والألم والكراهية البغيضة.

المحبّة، حتى لا نفقد عادة الابتسام، ولا نعطي للكراهية والتباغض فرصة أن تُسقط أسناننا ونحن نَعْبر زمن الخوف والقُبح والظلم والانكسارات.

لا بابٌ يُقرع للدخول ولا عسس، "فالمحبّة التي لا تنبع كل يوم، تموت كل يوم"[2] إنّها بداية القطر وأول الهطل، وضوْءٌ يمتد في القلب اتساعا يُرجع صدى السكون والحبّ والسلام.

لم لا نجرب المحبّة، بعد أن أفرغنا دواخلنا منّا، من إنسانيتنا؟

المحبّة، وتنْفرِطُ سُبْحة الألم فينا ويتداعى الحزن، وتنْأى بنا المطارات والوداعات الحزينة ودموع الاغتراب المنسوج بأيدينا، نُلبِسُها، أميرةً، تاجَ الحكم والحِكمة، لتعلو الوجوه الحزينة، والأفواه المزمومة خوفا، ابتسامات وقوة تُمزّق تذاكر السفر الحزين، وتُشعل نحو المدى هالات النور والحب والسلام.

المحبّة، قيمةٌ لا تُنتظر، بل تُعاش، تسير إليها النفوس الباحثة عن الاطمئنان، المحبّة لا تضرب للحب مواعيد، إنها الموعد. فمتى نرفع عن دواخلنا مقاصل الوأد، ونفتح المدى امتدادا للمحبّة؟

هل نمشي للمحبّة أم ننتظرها في محطات الأحزان البئيسة؟ فالمحبّة لا تُنتظر، وقلَّما تضرب للسلام مواعيد.

للمحبّة، حضور الضياء، فلماذا لا نسكن الضياء؟

لماذا لا نسكن المحبّة؟ لم لا نُجرّب؟ نسكنها علّها تسكن فينا.

المحبّة فعلٌ للمساكنة والمعايشة، "فهي الطريقة التي من خلالها تتلاشى المسافات وتنقشع الحجُب"[3]، يكفي ما في هذا العالم من كُره وألم، ذاك مقامُ التّدنّي والسقوط، لكن "المحبّة هي الغاية القصوى من المقامات، والذروة العليا من الدرجات، فما بعد إدراك المحبّة مقام"[4].

للمحبّة مقامات، مقام التجاوز أساسها، إذ لا يُدرك لذّتها إلاّ من خرج من ذاته وصخبها، وأسرى بروحه إلى مدارج التسامح والتجاوز، واغتسل بماء الصبر، وعوَّد القلب على الغفران وعدم المآخذة والحساب، إذ "وحده السمُوّ بالروح يحرّرك من وسخ الأرض" فتنتفض وتشتعل، وتتحرّر من فخاخ الحقد، فتسمو النفس كلما مشينا إلى المحبّة، فتفرد أجنحتها وتحلّق عاليا تُنشد الهدوء والسكينة والسلام.

مقام الحرية أوسطها، نصنعها بنهارات تُشرق داخل الصدور، تتفجَّر ألواناً بيضاء مُشعّة بخلْطات تتجانس حين تلامس القلب والروح، لتعيش إلى آخر العمر هنيّة مطمئنّة، تورّثُ للآخرين، الآتين خلفنا سرّ المحبّة، الباحثين عن ما يُطفئ جمْر الخوف والحقد، فتلفّهم سكينة القدّيسين والدراويش والمتصوّفة والمؤمنين، كأنها أيقونة الكنائس، أو نور يشعّ هلالا، أو شطحات تضرب في الأرض حتى التوحُّد، تستنزل ما علق بالروح والجسد من أدران وأحقاد، أو ذكرٌ يناجي الله في سماواته، يذوب في الوجود مرتفعا واصلا إلى الجوهر والنقاء، ممتلأً بالحياة، قويّاً خفيفا، يوشك أن يُحلّق مالكا وُسع الفضاء والمدى، مقتربا من الحقيقة، حقيقة المحبّة. إح

المحبّة، قلبٌ متوضّئٌ بالحب، طاهرٌ بالشّوق، عامرٌ بالتسامح والتجاوز، يمدّ جسور التواصل لترطيب يباس الروح، فتشتعل الذات حبّاً، فيحترق الشّوق إلى اللقيا، وتتواشج الأرواح وتتآلف، وتتوحّد الكلمات إحساساً ولو اختلف منطوقها.

المحبّةُ، صورة جديدة للإنسان في علاقته بالآخر وبالكون والأشياء، في بحثه في الأقاصي الغامضة في الذات والروح والعالم عن القبح والظلم والألم لمحوه، وزرع ما يبعث الاخضرار في زوايا الروح الباردة.

مقام الاحتراق أخرها، فالمحبّة، فعلُ احتراق، فكيف تبعث الحياة فيما تراه مواتاً؟

"الإنسان لا يكون ذاته إلاّ بقدر ما يكون الآخر"[5]، كيف فقدَ الإنسان معناه الصحيح، الإنساني، وأصبح أقل قيمة من أي شيء لا قيمة له؟ لم يعد له ما يشغله إلا تلطيخ جدار الآخر بكل ساقط، تافه لا إنسانية فيه. الإنسان أعمق من ذلك، وأكبر من أن يُخندق نفسه في حروب لا توصل إلا للعبودية والذل والندم.

الإنسان قلبٌ ونبْض، حلمٌ ومخيّلة، فنٌّ وأسئلة تُقلق وتدفع للصمود والتغيير، إنسانٌ إذا فتح للقلب أبوابه ليعانق المعنى، ويخلق لكل شيء معناه إلى ما لا نهاية، والمحبّة تُتيح للإنسان أن يخلق عالما جماليا نقيّا، يكون في مستوى الكائن وفي مستوى الكينونة لإضاءة الحياة الإنسانية.

المحبّة، طاقة يجبُ أن تظلّ يقظة تتجاوز كل عرقلة أو مناورة تدعو للحقد، تفتح آفاق وأعماق مسكونة بالنور والضياء، وهي وحدها، حين تحترق، كفيلة بان تُحَوِّل الإنسان من مجرّد كائن يعيش في العالم إلى كائن يخلق العالم باستمرار، لأن الإنسان في حقيقته النقية المفطورة على الحب، نصٌّ مكتوب بوضوح، لوحةٌ مرسومة بألوان زاهية، تحفةٌ منقوشة بأزاميل من ذهب، سمفونيةٌ مُغنّاة بأعذب الأصوات، يسعى إلى مستقبل يطلع من الغيب شاهدا على نقائه، تنبتُ على جوانبه الأزاهير وتحفُّه؛ فالمحبّة، تخلق إنسانا جديدا، كاملا غير مستنسخ، كونياً يتجاوز ذاته كما يتجاوز شبيهه، إذ تُحوّله من مجرد رقم أو اسم أو هوية أو انتماء، إلى تشكُّلٍ آخر جديد، تشكُّلٍ يتكون باستمرار غير خاضع لقانون السكون والثّبات.

المحبّة تاجٌ فوق رؤوس المحبّين، لا يراه إلاّ العاشقون، ليس الذين يُحنّطون العالم والإنسان في رقم لا يُحسن إلا الاستهلاك والكُره وتضخيم الأنا، ولا الذين يغوصون عميقا حدّ تصنيف الناس حسب المعتقد واللون والجنس والعقيدة.. وهم يحسبون أنهم بهذا، أفضل منهم جنسا، ولا الذين يزرعون الكراهية والحقد أينما حطّت خُطاهم يبنون الخراب يرصّونه لبنة لبنة، لا يدرون أن هذا البنيان خراب في حقيقته، تتآكل أساساته، فلا يبقى منه، حين يبقون وحدهم تتقاذفهم أحقادهم، لا تِبْنٌ ولا حَجَر، في حين تتعزّزُ عُرَى الحبّ والجمال في الإنسان، بالمحبّة الحقّة التي لا تعترف بدين أو لون أوجنس، لأنها كلّ هذا، إنسانية، بداية ومُنتهى.

المحبّة قولٌ وفعلٌ وإيمان، فلا تقلْ أنا وبعدي الطوفان والهلاك، ولكن المُحبّ من يقول، أنا والإنسان على طريق واحد نحو بوّابة الإنسانية، ضد الميْز والتّعصُّب والكراهية التي خلّفها الاستعمار، إنسانية تسعى لأن يكون الإنسان قيمة، مشتركا في مصير جماعي يطمحُ لسُمُوّ الفرد وارْتِقائه وبما يتبع ذلك من ارتقاء بالآخر في كُلّيته، وفي ظل قيم تنبني على التسامح والمحبّة التي هي غاية جامعةٌ لا تُفرّق، في غير خنوع أو خضوع أو اتباع أو تنازل، فهي صنوُ المساواة ضدّ تكريس تعالي ثقافة على حساب أخرى. فالإنسان، اليوم، وأكثر من أي وقت مضى، في أمسّ الحاجة إلى إنسانيته ليكون، إنسانية كاملة في غير تجزيء، إذ، لا عالم بدون إنسان، الإنسان الذي لا يغيب، الذي يولد دائما، إنسان يعني الذّات والآخر، إذ الوعي بالذات يعني الوعي بالآخر.

وبعد، تأسيسا على هذا الوعي، فالإنسان قيمة وليس كائنا حيا فقط، بل ذاتا بالمحبّة يسمو، ويعي العالم ويسعُه، وتجعله يسع الإنسانية في منظورها الشمولي الجامع للقيم السامية فيرى نفسه كما يرى الآخر، يسعى إلى رفاهيته واحترامه، بعيدا عن الحسابات الضيقة وبعيدا عن السيطرة والهيمنة والاضطهاد والظلم والميز.

إن الاعتراف بإنسانية الإنسان، والوعي به في إطار المحبّة والتّضامن، يُحقّقُ التّطلّعات لبناء مجتمع أخلاقي يتطوّر ويتقدّم، يقاوم الفكر الوصولي التخريبي والانتهازي المُشيِّء لحقيقة الإنسان وغاياته في هذا العالم.

والمحبّة بمفهومها العام، تعطي معنى للحياة، ودافعية إلى التفكير في العالم والإنسان، وطرح أسئلة وجوده المتكافئ للجميع بعيدا عن التمييز والعنصرية والكراهية، في زمن ضاع منّا فاسِحاً مجالا أرحب للعولمة المتوحّشة والأنانية، إذ بالمحبّة نستطيع أن نوجد معنى جديد للوجود، قد تكون المحبّة الأفق الذي ينبجس منه النّور المُضيء الذي لا يوفّره العلم ولا السّياسة، بل النّور الذي يشعُّ من إنسان يؤمن بالإنسان محبّة.

***

ذ. عبد الهادي عبد المطلب - المغرب

.......................

[1] ـ الأجنحة المتكسرة، جبران خليل جبران، مؤسسة خليل هنداوي، 2012. ص 19.

2 ـ جبران خليل جبران رمل وزبد، ت: انطونيوس بشير. مؤسسة هنداوي. 2020. ص 40

[3] ـ جلال الدين الرومي

[4] ـ أبو حامد الغزالي. إحياء علوم الدين.

[5]  ـ أدونيس. موسيقى الحوت الآزرق (الهوية، الكتابة، العنف).دار الآداب بيروت. ط 2. 2011. (ص342).

 

يعتبر التاريخ مجرد خدعة سردية*، حيث يتم تصويره كطبقات من الهيمنة المغلفة بالخطاب. هذا يجعل من الصعب تصديق السرديات الكبرى التي تعكس تعقيداته وتحدياته اذ يتم تقديمه كطبقات تتفوق فيها سرديات معينة على حساب أخرى، وبالتالي يعكس انحيازات ثقافية وسياسية، السرديات الكبرى التي تدعي الشمولية او السرديات التي تُظهر تجارب البطولة الفردية، هذه بمجملها تتجاهل الأصوات المهمشة ولا تعكس تعدد الأصوات والتجارب، مما يجعل من الصعب بناء سردية واحدة شاملة، تتأثر السرديات التاريخية بالسياق الثقافي والسياسي مما يؤدي إلى تشكيل روايات تخدم مصالح مجموعة معينة. يسعى المفكرون الى فحص وتفكيك تلك السرديات السائدة التي تظهر التاريخ وكأنه يمر عبر مسار خطي مستقيم من الحاضر الى الماضي رغم انه في حقيقته مليء بالتحولات والانقطاعات، هذا يضيف صعوبة في تصديق السرديات المهيمنة. تدفع هذه الفكرة إلى إعادة التقييم، ويتم البحث عن سرديات بديلة تعكس تجارب متنوعة وشاملة. تاريخ الفكر يُظهر كيف أن السرديات التاريخية ليست مجرد حقائق ثابتة، بل هي نتاج تفاعلات معقدة بين الثقافة، السياسة، والتجربة الإنسانية.  يلعب النقد دورًا حاسمًا في كشف جذور الهيمنة ويُساعد في اختبار الروايات التاريخية السائدة، مما يفتح المجال أمام وجهات نظر بديلة تكشف عن الانحيازات الموجودة و التركيز على كيفية تشكيل السلطة لمفاهيم التاريخ، مما يُبين كيف تُستخدم السرديات لتأكيد الهيمنة الثقافية والسياسية بعيدا عن تجارب ومواقف الجماعات المهمشة،  بتغليف الخطاب السردي برمزيات ميتافيزيقية  لا تعطي صوتًا لأولئك الذين تم تجاهلهم كما ان النقد يُظهر كيف أن مفاهيم مثل الحضارة والتقدم قد تكون مشبوهة بعد ان يعيد تقييم معانيها في سياقات مختلفة، ويساهم في فهم كيف تؤثر البنى الاجتماعية والاقتصادية على كتابة التاريخ، مما يكشف عن العلاقات المعقدة بين (القوة والمعرفة). كذلك يساعد التفكير النقدي الأفراد على استجواب السرديات التاريخية وفهم تأثيرها على الحاضر، وقد يصبح أداة قوية لكشف الهيمنة السلطوية في السرديات التاريخية، مما يُسهم في بناء فهم أكثر شمولية وتعقيدًا للتجربة الإنسانية.

دور الفلسفة الواقعية

 الفلسفة التي تعترف بالواقع القاسي دون تزيين تعتبر أكثر أهمية من تلك التي تهدف لإرضاء الناس. المعرفة الحقيقية قد تؤدي إلى شعور بالقلق والفلسفة التي تعترف بالواقع القاسي دون تزيين تحمل أهمية خاصة. انها  تعكس حقيقة الحياة كما هي، مما يساعد الأفراد على مواجهة التحديات والألم بدلاً من الهروب منه، الاعتراف بالواقع القاسي يعزز الصراحة والشفافية، ويُساهم في فهم أعمق للوجود،  حيث يدرك الفرد تعقيدات الحياة والموت والمعاناة، الفلسفة التي تتجاوز محاولات إرضاء الناس، مُعتبرة أن الهروب من الواقع يُؤدي إلى جهل ذاتي في مواجهة القسوة التي تُعوق النمو الشخصي والتطور، حيث من خلال القسوة والمواجهة يتعلم الفرد كيفية التكيف مع الظروف الصعبة مما يساعد  في البحث عن معنى أعمق في الحياة، بعيدًا عن القيم السطحية أو التوقعات الاجتماعية، و تعزز القدرة على فهم الواقع وتزيد من قدرة الفرد على اتخاذ قرارات مستنيرة في مواجهة التحديات بشكل أفضل، يُعتبر الاعتراف بالواقع القاسي جزءًا أساسيًا من الفلسفة التي تسعى إلى تحقيق معرفة حقيقية، ومواجهة الحياة بصدق وشجاعة.

تاريخ الفكر وتاريخ الفلسفة

تاريخ الفكر يُعتبر في بعض الأحيان خدعة سردية لأنه يُستعرض كمسلسل من الأفكار التي تتراكم عبر الزمن، هذا التقديم يمكن أن يُخفي التعقيدات الحقيقية، يُمكن أن يتم تصوير بعض الأفكار أو الفلاسفة كأكثر أهمية أو تأثيرًا من الآخرين، مما يعكس هيمنة ثقافات معينة على السرد التاريخي، يتم استخدام اللغة والخطاب السلطوي  لتأطير الأحداث والأفكار بطريقة تخدم مصالح معينة، مما يُعزز من رؤى محددة على حساب أخرى حيث يتم استبعاد أو تهميش أصوات وأفكار أخرى، و  يُظهر ان تاريخ الفكر  أكثر تجانسًا مما هو عليه في الواقع، تاريخ الفكر هو في الواقع مجموعة من النقاشات والتفاعلات المتعددة. فالأفكار تتداخل وتتفاعل بطرق معقدة، مما يتطلب فهمًا أعمق، بالتالي يُعتبر السرد التاريخي للأفكار كطبقات من الهيمنة ومحاولة لتبسيط وتعزيز رواية معينة، بينما يُغفل عن التعقيدات والتنوع الحقيقي للفكر البشري، دور السياق الاجتماعي والسياسي في تشكيل تاريخ الفكر هو دور محوري، الأحداث السياسية والاجتماعية، مثل الحروب والثورات، تؤثر بشكل كبير على الأفكار الفلسفية والدينية.  كانت فترة النهضة الأوروبية مليئة بالتغيرات السياسية والاجتماعية التي أثرت في الفكر العلمي والفلسفي، الأيديولوجيات التي تهيمن على فترة معينة، مثل الاشتراكية أو الليبرالية، تؤثر في كيفية تطور الأفكار. تُعزز هذه الأيديولوجيات بعض الأفكار وتُهمش أخرى. يتشكل السرد التاريخي بشكل كبير منه نتيجة التبادل الثقافي بين الشعوب والأمم. التفاعل بين الثقافات المختلفة ويمكن أن يؤدي إلى ولادة أفكار جديدة أو إعادة تفسير أفكار قائمة كما تساهم الطبقات الاجتماعية في تشكيل الفكر، حيث تختلف اهتمامات ورؤى الأفراد بناءً على مواقعهم الاجتماعية والاقتصادية. هذا يؤدي بالتالي إلى تنوع الأفكار ووجهات النظر. ممارسة الرقابة على الفكر، تؤثر على قدرة المفكرين عن التعبير، ويمكن ان يُؤدي القمع إلى إلهام حركات فكرية جديدة مثل حركات الاحتجاج والتغيير الاجتماعي والتي غالبًا ما تُنتج أفكارًا جديدة تتحدى السرد السائد، مما يساهم في إعادة تشكيل تاريخ الفكر بالتالي يؤثر على تاريخ الفلسفة وان السياق الاجتماعي والسياسي ليس مجرد خلفية، بل هو عامل فاعل يؤثر في ظهور وتطور الأفكار والفلسفات عبر الزمن.

البراغماتية الجديدة

البراغماتية الجديدة تُعتبر منهجًا فلسفيًا يركز على النتائج العملية للأفكار التي تؤيد  ان تاريخ الفكر في هذا السياق يُمكن أن يُنظر إليه كخدعة سردية لكنها لا تظهره كطبقات من الهيمنة، كون البراغماتية تركز على كيفية تطبيق الأفكار في الواقع باختلاف سياقاته، و تدعو إلى إعادة تقييم الأفكار بناءً على فاعليتها في السياقات الاجتماعية والسياسية، مما يُظهر كيف أن السرد التاريخي يمكن أن يكون مُضللًا لان الأفكار لا تتطور في فراغ، بل تتفاعل مع الظروف الاجتماعية والسياسية، وتشير الى أن كل طبقة من الفكر قد لا تبنى على سابقتها في كل السياقات ، ان الاعتراف بأن التاريخ مليء بالتفاعلات بين الأفكار والظروف الاجتماعية والسياسية، و ليس منصة للأفكار والأصوات التي تم تهميشها في السرد التقليدي، مثل النساء والأقليات العرقية، تحاول البراغماتية دمج مختلف مجالات المعرفة، مثل العلوم الاجتماعية، والأنثروبولوجيا، والفلسفة، لفهم السياقات بشكل أعمق يساعد في قبول  تفسيراتها التاريخية و يمكن أن تتغير مع الوقت، وأن هناك دائمًا مساحة لإعادة التفكير في الأحداث والأفكار.

دور الاستشراق

رؤيتنا لتاريخ الفكر تنطلق من تسليط الضوء على التعقيدات والأبعاد المختلفة التي تغفل عادة دور الاستشراق في تشكيل السرديات الغربية عن العالم العربي يتضمن هذا عدة جوانب رئيسية، ساهم الاستشراق في بناء صور نمطية عن العالم العربي، حيث تم تصويره كعالم غريب ومختلف، مما أدى إلى تعزيز الفكرة بأن العرب يمثلون الآخر، استخدم الاستشراق كأداة لتعزيز الهيمنة الثقافية، حيث تم تقديم الثقافة الغربية كثقافة فوقية، مما أدى إلى تهميش ثقافات الشعوب العربية، أنشأ المستشرقون معرفتهم من خلال دراسات وأبحاث غالبًا ما كانت تفتقر إلى الفهم العميق للسياقات الاجتماعية والسياسية، مما أسهم في تشكيل سرديات مشوهة، استُخدمت هذه السرديات الاستشراقية لتبرير الاستعمار، حيث تم تصوير الشعوب العربية غير قادرة على الحكم الذاتي، مما ساعد في تبرير السيطرة الغربية، أثرت السرديات الاستشراقية على كيفية رؤية العرب لأنفسهم، مما أدى إلى صراعات هوية داخلية وتحديات في إعادة تعريف الثقافة العربية، ساهم الاستشراق في إنتاج أعمال أدبية وفنية تعكس رؤى غربية عن العرب، مما أثر على التصورات العامة وأصبح جزءًا من المخيلة الثقافية الغربية في الوقت نفسه، أدى الاستشراق إلى ردود فعل نقدية من المفكرين العرب، و ساهم في خلق سرديات جديدة تحاول ان تعكس واقع التاريخ العربي من خلال التشبث بأسطورة العصر الذهبي بشكل أكثر دقة بالتالي انتجت التطرف الاصولي، يمكن القول إن الاستشراق لعب دورًا مركزيًا في تشكيل السرديات الغربية عن العالم العربي، لكنه أيضًا أثار ردود فعل أكثر تعقيدًا ورجعية للثقافة العربية.

***

غالب المسعودي – باحث عراقي

.......................

* ميشيل فوكو: يرى أن المعرفة التاريخية ليست محايدة، بل تتشابك مع قوى السلطة. التاريخ يُكتب من وجهة نظر معينة تعكس مصالح معينة، مما يعني أن السرد التاريخي يمكن أن يُستخدم لتعزيز السلطة أو السيطرة.

يقف وطننا على مفترق طرق حاسم، فبينما نتطلع الى سماء المستقبل، لا يمكننا ان نغض الطرف عن الغيوم الداكنة التي تخيم على واقعنا التعليمي. ان التحديات العميقة والمشاكل العالقة قد ادت الى تدهور ملحوظ في جودة التعليم، وفتحت الباب امام ممارسات تهدد اسس بناء جيل واعٍ ومثقف. لقد ان الاوان لتجاوز حالة الركود، فمستقبلنا ليس مجرد امنية معلقة، بل هو مسؤولية نحملها اليوم بغرس بذور العلم والمعرفة في تربة نظامنا التعليمي، لكي تنمو وتزدهر اجيال قادرة على النهوض بوطننا.

لكن هذه البذور تواجه افات الفساد وتحديات الهيمنة من قبل اعداء العلم والمعرفة. ان معركتنا اليوم تتطلب نظاما تعليميا قويا ونزيها، ينبض بالحياة ويتجاوز هذه العقبات، نظاما يواكب تطورات العصر ويستلهم من قيمنا الاصيلة ليصنع لنا مستقبلا يليق بتضحياتنا وتطلعاتنا. من هذا السياق، نتقدم بمقترح مشروع 'المجلس الأعلى للتربية والتعليم في العراق' ليتبوأ موقع القيادة في اصلاح منظومتنا التعليمية، ساعياً الى اقتلاع جذور المشاكل التي تعيق تقدمها، وأرساء دعائم مستقبل تعليمي مشرق ومستدام لأبنائنا.

رؤية المشروع:

الارتقاء بالمنظومة التربوية والتعليمية في العراق الى مصاف الانظمة العالمية المتميزة، وتمكين اجيال المستقبل بالعلم والمعرفة والمهارات اللازمة لمواكبة تحديات العصر وتحقيق التنمية المستدامة لوطننا العزيز.

اهداف المشروع:

1. تطوير مناهج تعليمية حديثة ومتكاملة، تستجيب لمتطلبات سوق العمل والتطورات العلمية والتكنولوجية.

2. تحسين جودة التدريس وتاهيل الكوادر التعليمية وتطوير قدراتهم المهنية باستمرار.

3. تعزيز بيئة تعليمية محفزة وامنة وداعمة للابداع والابتكار.

4. تطوير اليات فعالة لتقييم الاداء التعليمي وضمان الجودة والمساءلة.

5. تعزيز الشراكة بين المؤسسات التعليمية والمجتمع وقطاعات الدولة المختلفة لتحقيق تكامل الجهود.

6. الحفاظ على الهوية الوطنية والقيم الانسانية وتعزيزها في المناهج والانشطة التعليمية.

7. توسيع فرص التعليم العادل والشامل لجميع فئات المجتمع.

8. استخدام التكنولوجيا الحديثة ومنها الذكاء الاصطناعي في تطوير العملية التعليمية وادارة المؤسسات التربوية.

اهمية المشروع ومبرراته:

انطلاقا من ادراكنا العميق للتحديات التي تواجه مسيرة التعليم في وطننا، والتي تتطلب رؤية استراتيجية موحدة وجهودا منسقة، يبرز مشروع "المجلس الاعلى للتربية والتعليم" كضرورة وطنية ملحة. ففي ظل الحاجة الى نظام تعليمي عصري يواكب التطورات المتسارعة ويستجيب لطموحات شعبنا، ياتي تاسيس هذا المجلس ليضع حجر الزاوية في بناء مستقبل مشرق لاجيالنا القادمة. سيكون المجلس بمثابة مظلة وطنية تجمع الخبرات والكفاءات، وتوحد الرؤى والاستراتيجيات، وتضمن اتخاذ القرارات الصائبة التي ترتقي بالتعليم الى اعلى المستويات.

وتتضح اهمية المشروع في:

1. الحاجة الى جهة مركزية تخطط للسياسات التعليمية على المستوى الوطني.

2. ضرورة وجود مرجعية علمية وتربوية عليا لتطوير المناهج والمعايير.

3. اهمية تنسيق الجهود بين مختلف الجهات المعنية بالتعليم (وزارة التربية، وزارة التعليم العالي والبحث العلمي، مؤسسات المجتمع المدني، القطاع الخاص).

4. الحاجة الى ضمان جودة التعليم والمساءلة في جميع المراحل التعليمية.

5. ضرورة مواكبة التطورات العالمية في مجال التعليم وتبني افضل الممارسات.

هيكل المجلس المقترح:

يقترح ان يتكون "المجلس الاعلى للتربية والتعليم" من:

1. رئيس المجلس: شخصية وطنية مرموقة ذات خبرة واسعة في مجال التعليم او الادارة العامة.

2. اعضاء دائمون: ممثلون رفيعو المستوى من:

- وزارة التربية.

- وزارة التعليم العالي والبحث العلمي.

- وزارة التخطيط.

- وزارة المالية.

- مستشارو التربية والتعليم العالي في الوزارات المعنية ورئاسة الوزراء

- نقابة المعلمين.

- نقابة الاكاديميين العراقيين.

3. اعضاء غير دائمين:

- خبراء تربويون واكاديميون متخصصون في مختلف المجالات التعليمية.

- ممثلون عن القطاع الخاص ذي الصلة بالتعليم والتدريب.

- ممثلون عن منظمات المجتمع المدني العاملة في مجال التعليم.

- طلبة متميزون (في مراحل متقدمة).

4. امانة عامة: جهاز تنفيذي دائم يتولى ادارة اعمال المجلس وتنسيق فعالياته.

مهام المجلس الرئيسية:

1. اقتراح السياسات والاستراتيجيات الوطنية للتربية والتعليم ورفعها للجهات المختصة لاعتمادها.

2. اعتماد الاطار العام للمناهج التعليمية والمعايير الاكاديمية لجميع المراحل التعليمية.

3. الاشراف العام على جودة التعليم وتقييم الاداء المؤسسي للمؤسسات التعليمية الحكومية والاهلية.

4. تطوير اليات ومعايير لاعتماد المؤسسات التعليمية والبرامج الاكاديمية وضمان جودتها.

5. تشجيع البحث العلمي والابتكار في مجال التعليم وتوفير الدعم اللازم لذلك.

6. تقديم الاستشارات والتوصيات للحكومة والجهات المعنية في القضايا المتعلقة بالتربية والتعليم.

7. عقد المؤتمرات والندوات وورش العمل لمناقشة القضايا التعليمية وتبادل الخبرات.

8. بناء شراكات وتعاون مع المؤسسات التعليمية والمنظمات الاقليمية والدولية ذات الصلة.

9. متابعة تنفيذ السياسات والخطط التعليمية وتقييم اثرها وتقديم التوصيات اللازمة لتطويرها.

10. اعداد تقارير دورية حول وضع التعليم في العراق وتقديمها للجهات المعنية والراي العام.

الاليات التنفيذية:

سيعتمد "المجلس الاعلى للتربية والتعليم" في تحقيق مهامه على:

1. تشكيل لجان متخصصة وفرق عمل لدراسة القضايا التعليمية المختلفة وتقديم التوصيات.

2. اجراء الدراسات والبحوث العلمية والتربوية لجمع البيانات وتحليلها واتخاذ القرارات المستنيرة.

3. تنظيم ورش عمل ودورات تدريبية لتطوير قدرات العاملين في القطاع التعليمي.

4. اطلاق مبادرات ومشاريع تجريبية لتطبيق افكار جديدة وتقييم فعاليتها قبل تعميمها.

5. وضع مؤشرات اداء رئيسية (KPIs) لقياس التقدم المحرز في تحقيق الاهداف.

6. استخدام التكنولوجيا الحديثة في ادارة اعمال المجلس وتسهيل التواصل وتبادل المعلومات.

7. اقامة حوارات ونقاشات مفتوحة مع جميع الاطراف المعنية بالتعليم.

المخرجات المتوقعة:

من المتوقع ان يؤدي انشاء "المجلس الاعلى للتربية والتعليم" الى تحقيق العديد من المخرجات الايجابية، من اهمها:

1. نظام تعليمي اكثر جودة وفعالية يستجيب لاحتياجات المجتمع وسوق العمل.

2. مناهج تعليمية حديثة ومتطورة تواكب التطورات العلمية والتكنولوجية.

3. كوادر تعليمية مؤهلة ومتمكنة قادرة على تقديم تعليم عالي الجودة.

4. بيئة تعليمية محفزة للابداع والابتكار وتشجع على التفكير النقدي.

5. تحسين مخرجات التعليم ومستوى الخريجين وزيادة قدرتهم التنافسية.

6. تعزيز مكانة التعليم العراقي على المستوى الاقليمي والدولي.

7. زيادة ثقة المجتمع بالنظام التعليمي ومشاركته الفعالة في تطويره.

8. المساهمة في تحقيق التنمية المستدامة والنهضة الشاملة في العراق.

خاتمة:

ان مشروع "المجلس الاعلى للتربية والتعليم في العراق" ليس مجرد هيكل تنظيمي، بل هو تجسيد لطموحاتنا في بناء مستقبل مشرق لاجيالنا القادمة. انه دعوة للعمل المشترك، وتوحيد الجهود، واستثمار الطاقات من اجل الارتقاء بالتعليم في وطننا العزيز. وكما نامل ان تثمر البذرة من خلال هذا المجلس نظاما تعليميا رائدا، يضيء سماء العراق بالعلم والمعرفة، ويحقق احلامنا في غد افضل واكثر ازدهارا. ان تاسيس هذا المجلس يمثل خطوة حاسمة نحو تحقيق نهضة تعليمية شاملة تليق بتاريخ وحضارة العراق وتطلعات شعبه.

***

د. محمد الربيعي

 بروفيسور متمرس ومستشار تربوي دولي

في لحظةٍ عبثية من هذا الوجود، تعثّرت ذرة غبار بأخرى، فسقطت مجرةٌ من مكانها، وانعطف كوكب، وولد شاعرٌ في حانة. هذه هي الصدفة. أو هكذا على الأقل نقول كي لا نصاب بالجنون.

لكن ما هي الصدفة حقًا؟ أهي غلطة في شيفرة الكون؟ أم اختراع إنساني للتملّص من تفسير ما لا يُفسَّر؟ يقول الفيلسوف الفرنسي ألبير كامو: "العبث هو صراع الإنسان مع صمته ولامبالاة الكون."، والصدفة هي لحظة هذا الصراع حين يرتطم الرأس بالجدار وتضحك الجدران.

نقول "بالصدفة" حين نعجز عن رسم الخريطة التي قادتنا إلى هذه اللحظة. التقيت بها "بالصدفة"، وفزت في اليانصيب "بالصدفة"، وسقطت الدول، وقُتل الناس، وسقطت الكراسي الوزارية – كلها "بالصدفة". لكن كما يقول سارتر، لا توجد صدفة، بل يوجد جهلنا بالأسباب.

في الواقع، نحن نحبّ الصدفة لأنها تُبرّئنا من التورط. تُريحنا من سؤال "لماذا؟"، وتمنحنا عذرًا مجانيًا. الصدفة هي الأم الرحيمة للفوضى، والأب الحنون للفن.

لو كانت الصدفة أنثى خفيفة الظل، فالسبب هو عجوز ثقيل الظل، يرتدي نظارات سميكة ويمسك دفتر ملاحظات. "لماذا فعلت ذلك؟"، يسأل. "ما السبب؟"، يكرر. وكأننا دومًا ملزمون بتفسير كل صرخة، وكل قبلة، وكل انتحار.

السبب هو ما يجعل الشرطي يدوّن محضرًا، ويجعل الطبيب يكتب وصفةً، ويجعل الفلاسفة يتعاركون حول المفاهيم. لكنه ليس دائمًا شريفًا. أحيانًا، هو مجرد صدفة حصلت على تعليم عالٍ.

قال أرسطو: "السبب هو المبدأ الأول لأي شيء." جميل. لكن ماذا عن الأشياء التي تحدث لأننا لم نكن نعرف ماذا نفعل؟ ماذا عن القرارات التي اتخذناها لأن البيت كان باردًا؟ أو لأن الرسالة لم تصل؟ أو لأن الحذاء كان ضيقًا؟ هل هذا سبب؟ أم نكتة كونية؟

في عالم يتسابق فيه العقل لتفسير كل شيء، يغدو السبب حبل مشنقةٍ نربط به أعناق اللحظات البريئة. نحتاجه، نعم. لكنه – ويا للعجب – لا يحتاجنا.

الضرورة ليست الصدفة، وليست السبب. إنها القاضي الذي ينزل الحكم ثم يبتسم لك ويقول: "كان لا بدّ أن يحدث هذا." الضرورة هي صوت القدر حين يتحدث بلغة رياضية باردة، تخلو من النكتة والندم.

قال هيجل: "الحرية هي وعي الضرورة." عظيم. لكن ماذا لو لم نرغب في الوعي؟ ماذا لو أردنا فقط أن نحيا دون خريطة، دون أصفاد الأسباب، ودون دفتر حضور الضرورة؟

الضرورة تعني أن ما حدث لا يمكن إلا أن يكون. إنها فلسفة العزاء المسموم. وهي أيضًا أم التاريخ. كم من مجازر ارتُكبت باسم الضرورة؟ كم من استعباد، من اضطهاد، من كذب أُلبس ثوب " لا مفرّ منه"؟

لكن دعونا لا نظلمها. أحيانًا تكون الضرورة رفيقة الإنسان حين يُفكر في حريته. كما كتب كانط، فإن الحرية لا تعني أن نتصرف دون سبب، بل أن يكون سبب فعلنا نابعا منّا، من إرادتنا الأخلاقية، لا من ضغوط الخارج.

هل نحن أحرار؟ أم أن السؤال نفسه خطأ مطبعي؟

أنا حرّ حين أرفع يدي فجأة، بلا سبب. أو هكذا أظن. ثم أدرك أني فعلت ذلك فقط كي أقنع نفسي أني لست آلة. لكن هل هذا سبب؟ ألم تكن "رغبتي في الحرية" سببًا كافيًا لإلغاء حريتي؟

"أنا أفكر، إذن أنا موجود"، قال ديكارت، لكنه نسي أن يضيف: "وأنا أختلق الأعذار، إذن أنا بشر." نحن نعيش في وهم الاختيار، نقف عند مفترق طرق، نظن أننا نختار، بينما تسير أقدامنا حيث كُتب في الرواية أن نذهب.

وفي لحظة ضعف، نردد مع سيوران: "لو كان لي الخيار، لما اخترت أن أولد."

في مجتمع عادل، تُمارَس الحرية دون أن تدهس حرية الآخرين. هذا هو الحلم الجميل. لكن في الواقع، نعيش بين مطرقة الضرورة وسندان قوانين السوق. الحرية تُباع اليوم بالمتر، وتُقاس بعدد "اللايكات". كل شيء مسيّر، بما في ذلك تمردنا.

والمجتمع الذي لا يربّي الإنسان على احترام الطبيعة – داخله وخارجه – مجتمع فاشل، مهما أطلق على نفسه من ألقاب. لقد نسينا الطبيعة، التي كانت يومًا إلهة، فحوّلناها إلى مكب نفايات. وكما كتب إدواردو غاليانو: "نحن نعيش في عالم يأكل فيه البشر كل شيء... إلا الجوع."

في النهاية، الصدفة هي اسم مستعار للجهل، والسبب هو اسم مستعار للندم، والضرورة هي اسم مستعار للعجز. كل شيء يحدث لأسباب لا نفهمها، وننسبه إلى الصدفة. كل شيء نندم عليه نبحث له عن سبب. وكل شيء نفشل في تغييره نسميه ضرورة.

أضحك، أيها القارئ الكريم، وأنت تبكي. فالحياة لا تفسَّر، بل تُعاش، وغالبًا... تُندب.

***

الأستاذ محمد إبراهيم الزموري

تروم الابحاث والدراسات الجديدة، التي تقارب اشكاليات راهنة، تتعلق بمنظورات سيكولوجيا عالم التواصل الاجتماعي، وقابلياتها في فهم الديناميكيات النفسية والعصبية الاجتماعية المتساوقة مع الاستخدام المفرط لوسائل التواصل الاجتماعي، تروم الكشف عن مجمل التأثيرات وعلاقتها بوضعيات المستعملين المتنامية على مستوى الاضطرابات والسلوكيات المحايثة.

من مخاطر بروز هذا النوع من الطفرات التخصصية، في مجال حديث الولادة والظهور، المحاولات الاقتدارية لعلماء النفس، في البحث عن مظاهر وخلفيات الافتتان والتحجج بالخطابات المستنتجة من احتياجات التفاعل البشري مع المنصات الرقمية، في درجات تأسيسها البنيوي الداخلي ليوطوبيات الانتماء والتواصل والتقدير وعلو الأنا المخاطبة، ما يكرس حدودا مطلقة تعكس ارتطامات سلوكية باطنية، تتجذر في الوعي اللا ارادي، لتصبح أداة طيعة لإفرازات تؤدي الى القلق والشك والادمان والاكتئاب والترفع عن الواقع!

لا يستعصي على المهتمين بالأسئلة المطروحة، إيجاد روافد سوسيولوجية وثقافية محضة، لهذا النوع المثير من تأثيرات الرقمي على واقع الحال البشري. فالإدمان عليه، يوفر هامشا من التحول البين لاستهداف الهوية مباشرة دون عناء. إذ إن مصاحبة آليات الجذب الثقافية والترويجية، واغمارها بمرموزات وعلامات استراتيجية، تخلق بالتتابع معرفة بحياة أخرى " مثالية وطوباوبة ربما", تستنكف الذوات المبخرة في أعالي الفضاء الازرق، وتستثير قدراته النفسية والاجتماعية، للانخراط فيها دون وعي او احتمال عواقب.

ويثير السوسيولوجي الايرلندي سياران ماهون (1) في مؤلفه " سيكولوجية وسائل التواصل الاجتماعي"، جزءا من العقيدة السيكولوجية لتبدلات الأفراد والجماعات ضمن سياقات توتر بين الحقيقي والافتراضي، مضمنا قيم العزلة والالهاء وقتل الوقت، كعناصر مشتتة للوعي ومحاصرة لمقدرات الذات وقدرتها على الصمود .

ويبارز ماهون مثالب الانقلاب على الطبيعة الإنسانية، الواعية بالزمان وموجوداته وانماطه وتوتراته، مؤسسا جانبا من حدود ثاوية من خوارزميات وسائل التواصل الاجتماعي، القائمة على تحفيز وتشجيع الممارسات الإدمانية من خلال تقديم محتوى يتوافق مع توقعات المستخدمين.

إن روابط تلك الممارسات المنفلتة تعمل على محاصرة المبحرين داخل فقاعات المعلومات، معرضة اياهم لمزيد من التشويش والاغراق الذهني، مشروب بكم هائل من المعلومات المضللة.

وفي السياق، يمكن التدليل ايضا بإسهامات شبكات التواصل الاجتماعي في استقطاب ما يمكن توجيهه على اعتباره آراء ووجهات نظر حرة؛ بيد أنها تشكل فقاعات طافقة تشجع الانقسامات، وتؤدي إلى الرفض والخوف من الآخرين.

إن المواقف الدقيقة أو المعتدلة ليست شائعة. كما أن الاعتبارات القريبة من بناء التفكير واستقصاء التأملات، بكيفية التعامل مع الكائنات الافتراضية، يكاد يكون منعدما ورافضا لمبدئية التعميم القيمي وأخلاق القيمة.

ومن المخاطر الأخرى التي تفرضها وسائل التواصل الاجتماعي هو التماهي مع معايير لا يمكن بلوغها: يقول المحلل النفسي الفرنسي المتخصص في الادمان والتكنولوجيا الرقمية(2) إنه "في السنوات الخمس أو الست الماضية، كان الشباب الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و30 عاماً هم الأكثر لجوءا إلى الجراحة التجميلية لكي يشبهوا مرشحات إنستغرام أو صورهم الرمزية الرقمية. ما هي المرآة التي تحملها هذه المنصات؟ ما هي الصورة الذاتية التي يعكسونها؟" يتساءل الباحث، مبديا غرابته المشروعة، تجاه بروز مظاهر اجتماعية أخطر في المجتمع، ترتقي لتكون الاكثر شذوذا في الدورة الزمنية السيكولوجية.

يضيف متفاعلا ومنفعلا: " أنا مقتنع أيضًا بأننا يجب أن نعالج ذكاء المراهقين، بدلًا من محاولة السيطرة على عاداتهم. ومن خلال التساؤل معهم حول مثالية المجتمع، وعبادة الأداء، والاستهلاك، والأمر بالتقيد بالمعايير التي تنقلها الشبكات، فإننا نساعدهم على تطوير منظور نقدي. يتعين علينا أن نكون حذرين حتى لا نجعل الشاشات هي المتهم المثالي: إذ يمكن للتكنولوجيا الرقمية أيضاً أن تكون حليفاً تعليمياً وفكرياً هائلاً".

***

مصطفَى غَلْمَان

......................

(1) "الشبكات الاجتماعية: كيف نحمي الشباب؟" مكائيل ستورا، info.gouv.fr، 30 ابريل 2024

(2) "سيكولوجية وسائل التواصل الاجتماعي " سياران ماهون، ترجمة عمر فتحي، المحروسة للنشر مصر، ط1/ 2024

العزلة عند سيوران، الوحدة عند ابن عربي والولادة عند المعري

تجربة العزلة لدى (سيوران) ليست مجرد اختيار، بل هي نتيجة طبيعية لفهم عميق للوجود، حيث يتجلى ذلك  كشعور بالغربة عن الذات والعالم، هذا الفهم يقود إلى انفصال عن الألفة وهو شعور مستمر تغذيه  تجربة العزلة، لدى (إميل سيوران) تتمثل تلك الحالة بشكل معقد تتجاوز الاختيار الشخصي وهي  نتيجة طبيعية لفهم عميق للوجود، (إميل سيوران) يرى أن الفهم العميق للوجود يقود إلى إدراك عدم الاستقرار والعبثية مما يعزز شعور العزلة، هذا الفهم يمكن أن يؤدي إلى انفصال عن الهوية الذاتية، حيث يشعر الانسان بأنه غريب عن ذاته وتزداد معاناته عندما يصبح الوعي بالوجود عميقا وبالتالي  يمكن أن يؤدي ذلك إلى فقدان الألفة مع العالم، ما يغذي  شعور العزلة هو ان يعيش الانسان في حالة من الاغتراب المستمر، حيث تتداخل مشاعر الارتباط والانفصال، يسعى (سيوران) لفهم المعاني العميقة للحياة، هذا بطبيعته يخلق شعورًا بالضياع في عالم يبدو بلا معنى بدلاً من أن تكون العزلة خيارًا، تصبح  جزءًا من تجربة الحياة،، مما يعكس تحديات الوجود الإنساني  و يتيح له استكشاف هويته الحقيقية، عندما ينفصل الانسان عن مفهومه التقليدي للذات، يمكنه استكشاف أفكار جديدة وتجارب متعددة،  تعزز النمو الشخصي، الانفصال عن الذات يمكن أن يؤدي إلى تقبل عدم اليقين في الحياة، و يحرر الانسان من الضغوط المرتبطة  بتوقعات معينة حيث يتمكن  من رؤية نفسه من منظور جديد، بعيدًا عن الأفكار المحدودة في بعض الفلسفات، يُعتبر الانفصال عن الذات خطوة نحو تحقيق حالة من الوعي الروحي أو الاتحاد مع الكون مما يسمح للفرد بالتعبير عن نفسه بشكل أكثر صدقًا، رغم أن الانفصال عن الذات قد يكون مصحوبًا بشعور من الغربة، إلا أنه يمكن أيضًا أن يُعتبر تجربة تحررية تسهم في التطور الشخصي .

الزمن فلسفيا

الزمن في الفلسفة يُعتبر عبئًا ثقيلًا، خصوصًا في سياق تجربة العارف. يُنظر إلى الماضي كشيء يتلاشى، مما يجعل الذكريات تبدو بعيدة وغير ذات معنى، مما يساهم في شعور الفقد، المستقبل لا يحمل أي وعود،  تجعل العارف يشعر بعدم الأمان والقلق، و يفقد الأمل في التغيير أو التحسن، هذا الوعي بالزمن يمكن أن يؤدي إلى شعور عميق بالعزلة، حيث يشعر العارف بأنه محاصر بين الماضي المتفكك والمستقبل الغامض،  عندما يصبح الزمن موضوعًا للتأمل الفلسفي،  يسعى العارف لفهم كيف يتداخل الزمن مع الوجود والمعنى مع عدم قدرة الآخرين على فهم هذه التجربة الزمانية والمكانية، يشعر العارف بالعزلة، مما يزيد من شعوره بالفراق عن العالم، ويصبح الزمن دافعًا للبحث عن معنى أعمق للحياة،  يدفعه  إلى التأمل في حالته الوجودية ويتحدى  مفهوم الاستمرارية الزمانية، هذا يجعله يعيد التفكير في كيفية تأثير الزمن على التجربة الإنسانية، تظهر هذه الديناميات كيف أن الزمن، بدلاً من أن يكون مجرد إطار ، يصبح عنصرًا سياقي معقدًا يُضيف عمقًا لتجربته ، مما يعكس التوتر بين الوجود والزمن.

الشعور بالعبء

يمكن اعتبار الشعور بالعبء الزمني نوعًا من المعاناة الوجودية عند ابن عربي، في رؤياه يعكس الزمن مفهومًا عميقًا يتعلق بالوجود والعدم، حيث يبرز الصراع بين اللحظة الحالية وما يتجاوزها، ابن عربي يتناول الزمن كحالة من التحول المستمر، مما يخلق شعورًا بالقلق وعدم الاستقرار ايضا. هذا الشعور يمكن أن يؤدي إلى تأملات حول معنى الحياة والوجود، يمكن ربط الشعور بالعبء الزمني بالفناء عند ابن عربي. في رؤياه يعتبر الفناء مفهومًا مركزيًا يرتبط بالتحول والانتهاء، الزمن بصفته عنصرًا حيويًا في تجربة الإنسان، يبرز الفكرة أن كل شيء في العالم موقت وعابر، ابن عربي يعتبر أن الفناء هو الطريق للوصول إلى البقاء الحقيقي في الوحدة، في هذا السياق، يمكن أن يُفسر الشعور بالعبء الزمني كنوع من الوعي بالزوال، مما يدفع الفرد للتأمل في طبيعة وجوده وعلاقته بالكون رغم ان هذا العبء الزمني يمكن أن يؤدي إلى شعور بالقلق، لكنه أيضًا يفتح أبوابًا للتصوف والتقرب إلى الله، حيث يسعى الإنسان لتجاوز  المظاهر الزمنية نحو الجوهر الأسمى. مفهوم الفناء في "فصوص الحكم" عند ابن عربي يرتبط بتجاوز العبء الزمني والفناء ويُعتبره عملية تحرر من القيود الزمانية والمكانية. عندما يختبر الشخص الفناء، يتحرر من مشاعر القلق المرتبطة بالزمن والوجود، مما يتيح له الوصول إلى حالة من السكون والهدوء، الفناء يُفضي إلى تجربة الوحدة مع الله والكون. في هذه الحالة، يُدرك الفرد أن الزمن ليس سوى وهم، مما يُعزز الإحساس بالاتحاد مع كل ما هو موجود، الفناء يساعد في تجاوز الازدواجية بين الذات والعالم الخارجي، من خلال تجربة الفناء، يُمكن للفرد أن يتجاوز الشعور بالانفصال ويتيح للفرد أن يدخل في تجارب روحية عميقة، حيث يُمكنه أن يشعر بوجوده في اللحظة الازلية، بعيدًا عن الهموم المتعلقة بالماضي أو المستقبل، يُعزز الفناء في "فصوص الحكم" من قدرة الفرد على تجاوز العبء الزمني، مما يفتح له آفاقًا جديدة من الوعي والاتحاد مع الوجود. عندما يشعر الفرد بأنه جزء من الكون، تقل مشاعر القلق والتوتر وتفتح الأبواب لتجارب روحية تعزز من حالة السكون، حيث يُمكن للفرد أن يختبر اللحظة الحالية بالكامل، بعيدًا عن الضغوط الزمنية، من خلال الفناء يُمكن للفرد أن يتواصل مع ذاته الحقيقية، مما يُؤدي إلى شعور بالطمأنينة والهدوء الداخلي بهذا الشكل، يرتبط الفناء بحالة السكون والهدوء بشكل عميق، حيث يُعتبر وسيلة للتخلص من الضغوط الزمنية وتحقيق السلام الداخلي.

 عبء الولادة عند سيروان وابن عربي والمعري

الشعور بعبء الولادة عند سيروان وابن عربي والمعري يشمل موضوعات عميقة تتعلق بالوجود والمعاناة (سيروان) يعبر عن شعوره بالعبء من خلال تصوير الألم والفراق، حيث يرى الولادة كعملية تحمل في طياتها معاناة جديدة. يستعرض التوتر بين الفرح والحزن، ويعكس مشاعر القلق حول المستقبل، ابن عربي من خلال الصوفية، يتناول الولادة كمرحلة من مراحل التحقق الروحي. يرى أن المعاناة جزء من رحلة الروح نحو الكمال، حيث إن الولادة تعني بداية جديدة تحمل فيها الروح عبء التجربة الإنسانية بينما المعري، بشعره المليء بالتشاؤم، ينظر إلى الولادة كعبء ثقيل. يعبر عن فكرة أن الحياة مليئة بالآلام، وأن الولادة ليست سوى بداية لمشقة مستمرة. استخدامه للغة القاسية يعكس إحباطه من الوجود.

السياق التاريخي

سيروان يتعامل مع الولادة كعبء شخصي وعائلي، حيث يرتبط ذلك بالمسؤوليات التي تقع على عاتق الأفراد في زمن الاضطرابات. يتجلى فيها الصراع بين الأمل والقلق، ابن عربي عاش في عصر الازدهار الفكري والديني في الأندلس، حيث كانت الصوفية في أوجها، يرى الولادة كجزء من رحلة روحية نحو الكمال. يستمد أفكاره من الطرق الصوفية، حيث يعتبر المعاناة فرصة للتطور الروحي، مما يعكس تأثير البيئة الروحية التي عاش فيها في حين المعري ينتمي إلى فترة من الشك والقلق الفكري، حيث انتشرت أفكار التحدي للسلطات التقليدية والدينية، يعبر عن تشاؤم عميق تجاه الحياة، ويرى الولادة كعبء ثقيل، مما يعكس إحباطه من الفساد والمعاناة التي يراها في المجتمع. يستخدم لغة قاسية للتعبير عن موقفه من الوجود يمكن ان نستنتج ان الشعراء والفلاسفة تتأثر رؤاهم بشكل ملحوظ بالظروف السياسية، حيث تعكس تجاربهم الشخصية والبيئية. كل شاعر يتفاعل مع واقعه بطريقة تعكس قلقه وآماله، مما يزيد من عمق معانيهم حول عبء الولادة، العزلة والوحدة.

***

غالب المسعودي

في طفولتي المشرقة كلمبة سقطت من سقف الحضارة، كنت أقضي وقتي في مراقبة النمل. أجل، النمل. ذاك الشعب الكادح بلا نقابات، بلا إضرابات، بلا خطب عصماء عن العدالة الاجتماعية. كنت أجثو كعملاق صغير يطل على كوكبٍ مُصغّر، أشاهد بأعجوبة كيف يسير هؤلاء العمال الصغار ذهابًا وإيابًا، كأنهم موظفو حكومة مصغّرة في يوم استلام الرواتب.

لم يكن لديّ آنذاك ما يكفي من الفلسفة أو علم الاجتماع لأفهم فيروموناتهم أو تقسيم عملهم، ولكنني كنت مدفوعًا بفضولٍ لئيم. وفي لحظة من التجلي السادي، غرزت غصنًا في عشهم. فجأة، اختفى النظام الظاهري ليحلّ محلهُ فوضى منظمة—نعم، هناك ما يشبه الذعر، لكن دون صراخ، دون سبٍّ أو شماتة، فقط عمال يركضون ويصلحون، بترتيب أشبه بما يدّعيه وزراء الطوارئ في المؤتمرات الصحفية.

كان درسًا مبكرًا في "السلوك تحت الضغط"، أو كما كان سيقول فوكو لو كان طفلًا في التسعينيات: "السلطة الحيوية تبدأ من الغصن."

نعود الآن، بقفزة زمنية أنيقة، إلى باريس 1976. هناك، كان ميشيل فوكو يعاني أزمة هوية فكرية، يتنهد أمام طلابه في كوليج دو فرانس كما يتنهد الشاعر أمام بيتٍ لم يستقم وزنه. لكن، كما يحصل دائمًا مع الفلاسفة المتعبين، خرج من الأزمة بمفهوم قد يغيّر العالم: السياسة الحيوية.

فوكو لم يكن من أنصار "السلطة كقمع"، بل رأى أن السلطة دخلت عقر دار الحياة، لا لتقتلنا، بل لترعانا بطريقة تشبه رعاية الشركات لموظفيها في اليوم الأخير من كل شهر. نحن، حسب فوكو، لم نعد مجرّد "حيوانات ناطقة" كما أراد أرسطو، بل "حيوانات قابلة للتنظيم والتعقّب والمساءلة والتلقيح الموسمي."

هنا، دعونا نقفز ثانية، لكن هذه المرة إلى القرن الواحد والعشرين، حيث الحياة تبدو كحلقة طويلة من برنامج "الأخ الأكبر"، لكن بنكهة فوكوية. لقد أصبحنا، بفضل الأوبئة، نُحاصر في بيوتنا كما تُحاصر قطة مشاكسة في علبة كرتون. نتحرك وفق تعليمات دقيقة، نشتري ورق التواليت كأننا نستعد لحصار بيزنطة، ونتعقب بعضنا بعضًا عبر تطبيقات الهاتف بتواطؤ مدهش بين شركات الاتصالات والدولة.

في هذا المشهد، تظهر السياسة الحيوية بأبهى حلّتها: السلطة لم تعد جلادًا يحمل سوطًا، بل نظامًا يرتدي بدلة أنيقة، يبتسم لك ويقول: "ابقَ في البيت من فضلك، وإلا...".

 تسأل: لماذا كل هذا؟ أقول لك: لأن العلاقة بين وعي المواطن وتدخل الدولة تشبه العلاقة بين طهو الأم ومطاعم الوجبات السريعة. كلما زاد الوعي، قلّت الحاجة إلى القوانين المطبوخة على عجل. كلما نضج حسّنا المدني، قلّت حاجة الدولة إلى سحبنا من آذاننا.

كان فوكو يحب التنظيم أكثر من القوانين، وكان يرى أن الأنظمة تفضّل دفعك نحو السلوك المرغوب دون أن تجرّك من ياقة قميصك. السلطة الذكية لا تقول لك "افعل"، بل تخلق ظرفًا لا يمكنك فيه أن تفعل غير ما تريد هي.

نعود للنمل—نعم، النمل مرة أخرى. لم يكن هناك مرسوم نمل-دستوري رقم 4 بشأن ترميم العش، ولا مجلس طوارئ أصدر تعليمات. كانت هناك فقط غريزة جمعية أقرب ما تكون إلى "الفطرة السياسية". وها نحن، على خلافهم، نحتاج إلى قانون لكيلا نحضن بعضنا البعض في عز الوباء، ونحتاج إلى لائحة وزارية كي لا نتجمهر أمام محل دونات مغلق.

كما قال إيمانويل كانط: "التنوير هو خروج الإنسان من حالة القصور التي وضع نفسه فيها." لكن يبدو أن كثيرين منا استراحوا في هذا القصور، بل زيّنوه بستائر من إيكيا.

الخلاصة؟ لو كنا أكثر قليلاً مثل النمل، وأقل كثيرًا مثل مذيعي نشرات الأخبار، لما احتجنا إلى دولة تذكرنا يوميًا بأن "الخروج من المنزل يعرضك للمساءلة." وربما، فقط ربما، كنا سننجو من الطوارئ دون أن نتحوّل إلى مجرّد خانات في جدول بيانات حكومي.

فليكن شعارنا إذًا، كما كتب سارتر ذات مرة وهو لا يعلم أنه يخدم النمل من حيث لا يدري: "الوجود يسبق التنظيم، لكنه بحاجة إلى قليل من الحس السليم."

***

الأستاذ محمد إبراهيم الزموري

كم هو مخيف الصمت الأبدي لهذا الفضاء اللامتناهي. نحن نعيش الآن في كون مؤلف من بلايين المجرات. وفي أغلب الاحيان، نحن نادرا ما نفكر في هذا الأمر، نواصل حياتنا كما فعل الناس في الماضي. مع ذلك، ربما فكّر أحد منا في ضخامة الكون عندما زار القبة السماوية، او عندما شاهد فيلما وثائقيا، او حتى عندما نظر في ليلة ما الى ضوء اصطناعي قوي جدا لدرجة شعر بالدوار. تلك التجربة هي رعب كوني، إحساس يجعلك تشعر في وقت واحد بكل من الضحالة وبالارتباط في كُل هائل . حالما ندرك ضخامة الكون المترامي الاطراف، واننا بقعة صغيرة جدا فيه، سنحتاج الى تغيير طريقة التفكير بأنفسنا. نحن نحتاج ان نجد معنى وأهمية في كوننا نقطة صغيرة في هذا الكون. وكما سنجادل هنا، ان الخيال العلمي يساعدنا للتوافق مع هذا الرعب الكوني، كما يبيّن ذلك تاريخ الفلسفة. الخيال العلمي كشكل أدبي نشأ أصلاً في التأمل الفلسفي حول الكون ومكاننا فيه.

شهدت القرون الماضية توسعا مطردا في رؤيتنا للكون. من القرن الثامن عشر حتى العشرينات من القرن الماضي، كان العلماء يناقشون ما اذا كانت مجرة درب التبانة هي المجرة الوحيدة ام ان السُدم البعيدة التي لمحوها بالتليسكوبات هي ايضا مجرات تحتوي كل واحدة منها على ملايين النجوم. الفيلسوف كانط كان مؤيدا للنظرية الأخيرة في عمله عام 1755(التاريخ الطبيعي الكوني ونظرية السماوات)، وفي عمله نقد العقل المحض عام 1781 كتب كانط: "هي ليست مجرد فكرة وانما عقيدة قوية اراهن على صحتها واستفيد منها كثيرا في الحياة بان هناك ايضا سكان لعوالم اخرى".

قبل القرن السادس عشر، كان شائعا النظر الى العالم ككرة كثيفة مدمجة من كرات متداخلة بدقة. هناك القمر حول الارض، الكواكب والنجوم تدور في رقصة بطيئة ومهيبة، كل واحد منها ارتبط بمجاله البلوري الخاص به. النجوم تضيء السماء في الليل من مواقعها الثابتة كالجواهر الثمينة لكنها في النهاية جواهر طيّعة. مركزية الارض هذه، المتجسدة بكتاب المجسطي لبطليموس سمحت للقدماء بتوضيح نطاق واسع من الظواهر الفلكية. وكما لاحظ كوبرنيكوس في (حول الثورة في الأفلاك السماوية، 1543)، ان علماء المسلمين في القرون الوسطى مثل محمد بن جابر البتاني و ابو اسحق البطروجي وابن رشد وجدوا ثغرات في فقاعة مركزية الارض، ولن يستغرق الامر وقتا طويلا حتى انفجرت تلك الفقاعة.

اما مركزية الشمس فهي تحمل في طياتها بذور كون هائل، بسبب مشكلة حركة النجم. كنظرية للكون، واجهت مركزية الشمس صعوبة لأنها تنبأت بإختلاف موقع النجم، وهو وهم بصري يبدو فيه الشيء البعيد يتحرك عندما يغير المراقب الموقع. ماذا يوضح الإختلاف في الموقع؟ جادل كوبرنيكوس بان الكون هائل، وان النجوم بعيدة جدا. المؤلفون اللاحقون افترضوا ان كل نجم احتوى على نظامه الشمسي الخاص به، او "عالم". الراهب الدومينكي الايطالي والفيلسوف جيوردانو برونو كان من بين الأوائل الذين أدركوا الدلالات المقلقة لهذه الصورة. عندما اُحرق الراهب على العمود عام 1600، لم يكن ذلك بسبب تبنّيه مركزية الشمس، وانما بسبب الهرطقة. مع ذلك، ادرك برونو الأهمية الفلسفية لمركزية الشمس، متوقعا ان الكون لم يكن هو العالم (نظام شمسي)، وانما الكون كان لامتناهيا، "تلك النجوم المتلألئة والأجسام المضيئة التي تشكل عوالم مأهولة بالسكان ومخلوقات رائعة وآلهة عظيمة. تلك العوالم التي تبدو كذلك، هي عوالم لاتُعد ولا تحصى و لا تختلف كثيرا عن العالم الذي نجد أنفسنا به".

وبينما استطاعت التلسكوبات ان تبيّن ان المشتري له قمر، هي لم تكن قوية بما يكفي لإثبات وجود كواكب خارج النظام الشمسي او حياة فضائية ذكية. الناس الحديثون الأوائل نظروا الى القمر بتوق شديد – انه قريب جدا لكنه لايمكن الوصول اليه. للتعويض عن هذا، هم اخترعوا قصصا خيالية عن الحياة في القمر. الفلكي جوهان كبلر كتب رواية قصيرة بعنوان (حلم) نُشرت بعد وفاته عام 1634، تصف الساحرة الايسلندية فيولنهيلد وابنها دوراكوتوس الذين يزورون القمر وعالمه الغريب من خلال التواصل مع الشياطين. بعد ذلك مباشرة نُشر كتاب (رجل في القمر عام 1638) لفرنسيس غودون و كتاب (ثلاث روايات تدور أحداثها على القمر، 1657) لكيراندو بيرغارس. كيراندو انتبه كثيرا الى الجوانب العملية للوصول للقمر. القاص وايضا اسمه كيراندو يربط بجسمه زجاجات ندى، وبالنهاية ينجح باستخدام نوع من صاروخ فضائي.

مؤلفو القرن الثامن عشر ايضا أطلقوا العنان لخيالهم. فيليبو مورغن، 1783 تصوّر مختلف المشاهد في مجتمع قمري مثل القرع "الفاكهة الكروية ذات الغطاء الصلب المستخدمة كمساكن للحماية من الحيوانات المفترسة". في هذا العالم الغريب الأطوار، فاكهة عملاقة صالحة للسكن. في الفضاء العميق، الحدود الوحيدة هي حدود خيالنا.

على حافة المعرفة العلمية والأسئلة الفلسفية التي تثيرها، يبرز الحافز للخيال العلمي. البشر حاليا زاروا القمر، لكن لغز العوالم البعيدة لايزال كما هو، مثلما وجود الحياة الغريبة. وبينما اعتقد كانط انه من المحتمل جدا وجود زائر فضائي غريب، لكن وجود حياة فضائية يبقى ملتبسا. العلم ايضا يقدم الكثير من الألغاز الاخرى مثل حدود وامكانات الذكاء الصناعي، الهندسة الوراثية، وغيرها. سنراجع الآن بعض الأمثلة عن الأعمال المبكرة التي هي في تقاطع مع الخيال العلمي والفلسفة لكي نبيّن الاصول الفلسفية لهذا النوع الادبي. وكما سنرى، الخيال العلمي هو بطبيعته فلسفي لأنه يتنبأ بحدود معرفتنا العلمية.

من الأعمال الشهيرة المبكرة للخيال العلمي هي كتاب الفرنسي برنارد بوفييه دي فونتينيل، 1686 بعنوان محادثات حول تعددية العوالم . هذا الكتاب صُمم ليغطي خمسة مساءات، كل مساء يصف حوارا بين فيلسوف مجهول الاسم وأحد اللوردات حينما يمضيان نزهة في حديقتها ينظران الى النجوم ويتأملان المضامين الكلية للصورة الفلكية الجديدة للعالم. نقطة البدء في حديثهما هو تأمل من جانب الفيلسوف بان "كل نجم يمكن ان يكون عالما. انا سوف أقسم بصحة هذا، لكني أعتقد بهذا لأن هذا التفكير يسرّني (ص10). اللورد الذي هو ذكي لكنه جاهل كليا في علم الفلك، يلح على الفيلسوف ليقول أكثر وعندما يبدو حذراً يسأل "هل تعتقد اني غير قادر على تذوق المُتع الفكرية؟" وكما يلاحظ الفيلسوف، "كل الفلسفة هي مرتكزة على شيئين فقط : الفضول وسوء البصر، اذا كان لديك بصر قوي انت ترى بشكل جيد جدا سواء كانت النجوم ام لم تكن أنظمة شمسية، واذا كنت أقل فضولا سوف لن تهتم حول المعرفة"(ص11). مع امتلاكنا لحواس جيدة نحن بإمكاننا النظر الى الأعلى ورؤية شكل هذه الأنظمة الشمسية. لكننا لا نستطيع، لذا نحتاج الى تأمل فلسفي.

في المساءات اللاحقة، تختبر الشخصيات النظام الشمسي وإمكانية الحياة على القمر والكواكب. بالنهاية، هم يتركون النظام الشمسي ليتأملوا إمكانية الحياة في أنظمة شمسية اخرى. وعندما يستوعب اللورد الدلالات الكاملة لهذه الصورة، يعبّر عن رعب كوني: "هنا كون كبير جدا لدرجة انا اشعر بالضياع، انا لم أعد أعرف أين انا، انا لا شيء. كل نجم سيكون مركزا لدوامة، ربما بحجم دوامتنا؟ ... هل عدد الفضاءات هناك يساوي عدد النجوم الثابتة؟ هذا شيء محيّر ومخيف". مع ذلك، يجيب الفيلسوف، "هذا يجعلني اشعر بالراحة. عندما كانت السماء فقط هذه القبة الزرقاء، مع نجوم مسمّرة فيها، بدا لي الكون صغير وضيق، انا شعرت بالضيق منه . الآن... يبدو لي انا أتنفس بحرية، انا في هواء أكبر". في الصفحات الأخيرة من هذا العمل القصير، يناقش الفيلسوف واللورد مجرة درب التبانة ويدركان انها تتألف من مليارات النجوم. ومثلما القمر يشبه الارض، فان نجوم مجرة درب التبانة كل واحدة تشبه شمسنا كما مبيّن في الصفحة الاولى من الكتاب.

التجارب الخيالية للفيلسوف واللورد تشير الى قوة الخيال العلمي في تعريفنا بالأشياء الغريبة تماما. التأمل في الظاهرة الفلكية يمنحنا إحساسا بالرعب الكوني، ويجعلنا نتضاءل الى مستوى الضحالة. لكن فونتيل يحوّل الرعب الكوني الى عالمية متفائلة: نحن بين العديد من المخلوقات المحتملة التي تسكن كونا عجيبا.

التيلسكوبات لم تكن الاختراع العلمي الوحيد الذي حفز على التأمل الفلسفي والخيال العلمي بسبب قدرتها على إثارة الرعب الكوني. المكروسكوبات، من خلال منحنا احساسا بالضآلة، عملت نفس الشيء تقريبا. في القرن السابع عشر لم تكن لدى الناس امكانية استخدام المكروسكوبات بسهولة كما نحن اليوم وتكبيرها لحجم الاشياء كان متواضعا مقارنة بمستويات اليوم. مع ذلك، منحت الكتب المصورة إحساسا بعالم الاشياء الدقيقة لتبدو ضخمة في تعقيديتها كما لو ان الحشرات الصغيرة في بيئتنا اليومية من براغيث وقمل تشبه الثدييات الضخمة. المحفز كان كتاب روبرت هوك الشهير بعنوان صورة مجهرية، عام 1665 الذي نشرته الجمعية الملكية محتويا على صور كبيرة فاخرة للبراغيث وأشياء الحياة اليومية مثل شفرة الحلاقة وثقب الإبرة.

الرياضي والفيلسوف باسكال نظر في دلالات كل من التلسكوب والمكرسكوب. هو يدعوا لنتصور ان كل ذرة ستؤوي اكوانا لامتناهية، كل واحد مع سماؤه وكواكبه وارضه في نفس النسبة كما في العالم المرئي، ولايزال يجد في الاكوان الاخرى نفس الشيء بدون نهاية وبدون توقف. انها عجائب مذهلة في صغرها كما الاخرى في اتساعها. لانزال يمكننا ان نستعيد شيئا ما من قلق باسكال عندما ننظر الى العالم الكوانتمي، عالم غريب حقا، قاد الفيزيائيين لإفتراض رؤى راديكالية للواقع مثل فرضية العوالم المتعددة او التراكب الكمي. الميكروسكوبات والتيلسكوبات تسبب لنا الدوار.

مكان البشرية في الطبيعة

عندما نفكر بالهائل والضحل، ذلك يقود حتما الى تأمل ذاتي: ما هو مكان البشرية في الطبيعة؟ يبدو ان البشر محشورون بين ما أسماه باسكال "هاويتا اللامحدود والعدم". دعانا باسكال ان "نتأملهما بصمت" بدلا من "اختبارهما بافتراض". لكن اذا كان هناك شيء لا يجيده البشر، فهو ان يتأملوا بصمت. الخيال العلمي يقدم لنا طريقة للخروج من الرعب الكوني. شكل الخيال العلمي يمنحنا قوة تجاه ضخامة الفضاء وحدود العلم. نحن نستطيع ان نرى هذا بوضوح في مقدمة فونتيل للمحادثات. كتب فونتيل بانه اراد المساعدة في تعليم المرأة علم الفلك. لكي يعوّض افتقار النساء السابق للتعليم الرسمي، هو اراد ان يكتب باسلوب أدبي ممتع استعاره من الرواية السايكولوجية La princesse d cleves عام 1678 التي نُسبت الى مدام دي لافايتي. وهكذا، خدم الخيال العلمي كطريقة لنشر العلوم بين النساء. من الصعب تضخيم شعبية كتاب المحادثات حول تعددية العوالم. انه اعيد طبعه وترجمته عدة مرات. في أعقابه تأسس نوع حقيقي من أعمال الخيال العلمي التعليمي بما في ذلك كتاب نيوتنية فرانسسكو الغاروتي للنساء، او حوار حول الضوء واللون عام 1737. في شكل خيالي ممتع، يصبح الرعب الكوني قابلا للفهم وربما نصبح كالفيلسوف – قادرين على التنفس بحرية أكثر وبهواء أكبر.

الخيال العلمي لا يسمح لنا فقط بالتوافق مع الرعب الكوني، هو ايضا يسمح لنا للانخراط النقدي مع العلم واستنتاجاته. لنأخذ مثلا قصة (عالم مشتعل، عام 1666) للكاتبة المسرحية الانجليزية مارغريت كافيندش. هذه القصة تصف يوتوبيا نسوية مثيرة للاهتمام، مجتمع يعيش في انسجام في ظل حكم امبراطورة متنورة. مختلف الحيوانات المجسمة (الرجال الدببة، الرجال القردة، رجال الديدان، رجال السمك، رجال الطيور) يعملون كخبراء علميين للامبراطورة. ينظر رجال الدببة من خلال التلسكوبات والمكروسكوبات في فحوصاتهم للعالم المشتعل. كافيندش (وشخصيتها الرئيسية الامبراطورة) غير معجبين بهذه الأدوات. هي تعتقد انها غير مفيدة معلوماتيا، وتسبب الكثير من الإنقسام. هي تقول للرجال الدببة: "نظاراتكم كاذبة، وبدلا من اكتشاف الحقيقة، هي تضلّل حواسكم، لذا انا انصحكم بتحطيمها وترك الرجال الدببة يعتمدون فقط على عيونهم الطبيعية، ويفحصون الأجرام السماوية بواسطة حركة حواسهم وعقولهم".

الرجال الدببة يؤمنون بان نظاراتهم تعوّض عن محدودية بصر الانسان وعقله، مجادلين ان "الامبراطورة لا تعرف فضيلة تلك المكروسكوبات: لأن هذه لا تخدع أبدا، وانما تصحح وتبلغ الحواس". في هذا هم صدى لروبرت هوك، الذي جادل في مقدمته لـ Micrographia بان المكروسكوبات والتلسكوبات تساعدنا للحفاظ على قدراتنا، التي اعتقد انها تأثرت سلبيا بالسقوط من جنة عدن. عبر انتقاد ذلك الموقف، كافيندش سبقت غيرها من المؤلفين اللاحقين مثل برير دوهم او باس فان فراسون الذين بيّنوا ان قرائتنا للوسائل العلمية ليست واضحة وانما دائما تتطلب تفسيرات من جانب الشخص الذي يستعمل الوسيلة.

عمل كافنديش يذكّرنا بدورآخر للخيال العلمي ذلك اننا نرى من مقدمتها ان هناك في بداية الفترة الحديثة فرصة لتصوّر مختلف العوالم والمجتمعات، وبهذه الطريقة، نتحدى طرقنا الخاصة في الحياة. ليس صدفة ان الخيال العلمي المبكر امتزج مع نوع آخر حديث مبكر وهو اليوتوبيا. نحن نرى اليوتوبيا في نطاق واسع من الفترات، لكنها اصبحت شعبية منذ عصر النهضة فصاعدا، متجسدة برواية تحمل نفس الاسم لتوماس مور(1515). اليوتوبيا استعملت حبكة الرواية كوسيلة للسفر الى أماكن بعيدة لمساعدتنا في تصوّر إمكانات سياسية.

تقريبا كما اليوم، الموقف السياسي للناس في الحداثة المبكرة كان في الغالب جمود سياسي، او اضطراب سياسي لا يبشر بخير، كما في انجلترا في ظل عدم الاستقرار السياسي، تصبح جمهورية ومن ثم تتحول مرة اخرى الى الملكية اثناء حياة كافيندش. في مثل هذا العالم، يصبح تصوّر مختلف التجمعات السياسية في قصص خيالية هو نوع من التحدي. عالم مشتعل لـ مارغريت كافنديش هو مثال واضح لمثل هذه اليوتوبيا: انها تتكهن مجتمعا فيه تقسيم مثالي للعمل العلمي حيث المرأة يمكن ايضا ان تكون خبيرة وحاكم متنور. يوتوبيا اخرى تركز على الخبرة العلمية هي رواية فرنسيس باكون غير المكتملة بعنوان اطلنطا الجديد والتي نُشرت بعد وفاته عام 1626. الخيال العلمي يساعدنا لننخرط خياليا مع اللمحات التي يقدمها العلم. تلك هي لمحات لعالم مختلف – ربما أفضل او أسوا، كما نتصور اليوم في أعمال الخيال العلمي للمجتمعات الحضرية المسيّرة بتكنلوجيا الكومبيوتر cyberpunk .

ماذا يعني الخيال العلمي اليوم لنا وللفلسفة؟

 في عام 1686 أعلن فونتينيل بثقة : "ان فن الطيران وُلد توا، سيتم إتقانه وفي يوم ما سنذهب الى القمر". هذا كان مجرد زعم، نظرا لأن الطيران الميكانيكي كان جنينيا في تلك الفترة. وبفاصل 350 سنة بيننا، يمكننا ان نفكر بعناية في تلك التكهنات للخيال العلمي المبكر. فمن جهة، فونتيل كان صائبا. ما نظر اليه اشخاص مثل كبلر و فونتيل وكيرانو كخيال بعيد أصبح واقعا قبل وقت مضى. ومن جهة اخرى، هناك التفاؤلية اللامحدودة التي تتخلل عمل فونتيل تبدو الآن غريبة لنا. لم نعد نتصور، على سبيل المثال، السيارات الطائرة ( فهي تبدو وكأنها فكرة سيئة جدا) .

ماذا حدث لرؤية فونتيل للتقدم العلمي المترافق مع فضائل التنوير بما في ذلك التعليم للجميع؟ نحن لانزال لدينا تفاؤل تكنلوجي بمواعظ ايلون ماسك وبل غيت حول عجائب التقدم العلمي في محادثاتهما على TED. لكن مع رعب تقلبات المناخ والاوبئة والاسلحة النووية والعنف المسلح، وصعود اللامساواة الى عتبة دورنا، من الصعب استعادة تفاؤل واسع حول العلم وخلق عوالم أفضل. في هذه الصورة القاتمة، من المفيد النظر الى الخلف في ذلك الخيال العلمي. هذا الخيال كُتب في فترة تدفق مجتمعي مكثف، مع عوائق هائلة حتى بالنسبة لمبادرات مساعدة المرأة في التعليم. الخيال العلمي الفلسفي كسر الحدود وساعدنا لتوسيع تصورنا. عندما نشعر بجمود عقلي، يقدم لنا الخيال العلمي على الاقل امكانية للخروج، كما لاحظ الكاتب الامريكي يورشل لي جن Ursula Le Guin، ان كتّاب هذا النوع الادبي هم "واقعيون لواقعية أكبر". هذا واقع احتضن بالكامل إمكانات وقوة تصورنا.

Cosmic horror and the philosophical origins of science fiction, published online by Cambridge university press: 28June 2023

***

حاتم حميد محسن

إنَّ المَنْفَى لَيْسَ مَحصورًا في إطارٍ زَمَانيٍّ، أوْ حَيِّزٍ مَكَانيٍّ، وَذَلِكَ بِسَبَبِ تأثيرِهِ العَمِيقِ في الشُّعُورِ والوِجْدَانِ، واشتمالِهِ عَلى آلامِ الغُربةِ وَالحَنِينِ إلى الوَطَنِ، واحتوائِهِ عَلى مَعَاني الاستلابِ والاغترابِ، رُوحًا ومَادَّةً، فِكْرًا ومُمَارَسَةً. وَالمَنْفَى لا يَحْمِلُ فَلسفةَ الانتقالِ في الزَّمَانِ فَحَسْب، بَلْ أيضًا يَصْنَعُ زَمَانَهُ الخاص الذي يَقُومُ عَلى صُوَرِ الذاكرةِ المُحَاصَرَةِ. وَالمَنْفَى لا يُمَثِّلُ فِكْرَةَ الاقتلاعِ مِنَ المَكَانِ فَحَسْب، بَلْ أيضًا يَصَنَعُ مَكَانَه الخاص الذي يَقُومُ عَلى أحلامِ الوَطَنِ المَفْقُودِ. وهَكذا يُصبح المَنْفَى هُوِيَّةَ مَنْ لا هُوِيَّة لَه، ويُصبح التاريخُ عِبْئًا عَلى الحَضَارةِ، وتُصبح الحَضَارَةُ إعادةَ تأويلٍ للتاريخ. فالتاريخُ الشَّخْصِيُّ للفَرْدِ يَطْرَحُ تَساؤلاتٍ عَن قِيمَةِ الإنسانِ بِدُون وَطَنٍ، والتاريخُ العَامُّ للمُجْتَمَعِ يَطْرَحُ تَسَاؤلاتٍ عَن مَعْنَى الزَّمَانِ بِلا مَكَانٍ. لذلكَ صَارَ المَنْفَى نَوَاةً مَركزيةً في الشِّعْرِ والفِكْرِ عَلى حَدٍّ سَوَاء، فالشاعرُ الفِلَسْطِينيُّ محمود دَرْويش (1941 _ 2008) وَظَّفَ المَنْفَى في شِعْرِهِ كَقِيمَةٍ لُغويةٍ وَحَقيقةٍ مُتَشَظِّيَةٍ. يَقُولُ درويش في قصيدته (رسالة مِنَ المَنْفَى): (مِنْ أيْنَ أبْتَدِي؟ / وَأيْنَ أنْتَهِي؟ / وَدَوْرَةُ الزَّمَانِ دُونَ حَد).

صَارَ المَنْفَى عَمليةَ دَوَرَان في حَلْقَةٍ مُفْرَغَةٍ، لا تُعرَف البِدَايةُ، ولا تُعرَف النِّهَايَةُ. إنَّهُ مَتَاهَةٌ وُجودية، والإنسانُ فِيهَا ضَائعٌ وحَائِرٌ، وَدَوْرَةُ الزَّمَانِ مَفتوحةٌ بِلا حُدُودٍ، وَتَضْغَطُ عَلى المَشاعرِ والأفكارِ، وَالوَقْتُ دائمًا طَوِيلٌ عَلى الشخصِ المُعَذَّبِ، حَيْثُ إنَّهُ يُعَاني في كُلِّ لَحْظَةٍ، وَيَتَمَنَّى لَوْ يَمَرُّ الوَقْتُ سريعًا وَيَنْقَضِي كَي يَرتاحَ مِنَ الألَمِ والعَذابِ، فالثَّوَاني بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ كَالدَّبَابيسِ المَغروسةِ في جِلْدِه. وَشِدَّةُ الوَخْزِ تَمْنَعُهُ مِنَ الاستمتاعِ بِعُمْرِهِ، وَشِدَّةُ الألَمِ تَجْعَلُهُ عَاجِزًا عَن قَضَاءِ الوَقْتِ مَعَ أحْبَابِه. حَتَّى هَؤلاء الأحباب لَيْسَ لَهُمْ وُجُود في الواقعِ، فَهُمْ غَائبونَ أوْ مُغَيَّبُون. وَالمَنْفَى قَادِرٌ عَلى تَوليدِ الاغترابِ بشكلٍ مُستمر في الإطارِ الزَّمَانيِّ، وإنتاجِ الغِيَابِ بشكلٍ دائم في الحَيِّزِ المَكَانيِّ. لذلك، كانَ المَنْفَى هُوَ الغِيَاب الذي لا يَغِيب، والمَاضِي الذي لا يَمْضِي.

يَقُول درويش: (مَاذَا جَنَيْنَا نَحْنُ يَا أُمَّاه؟ / حَتَّى نَمُوتَ مَرَّتَيْن / فَمَرَّةً نَمُوتُ في الحَيَاةِ/ وَمَرَّةً نَمُوتُ عِنْدَ المَوْتِ !).

إنَّ المَنْفَى صِنَاعَةٌ مُستمرة لِلْمَوْتِ، فَالمَنْفِيُّ يَمُوتُ في الحَيَاةِ، وحَيَاتُهُ مَوْتٌ في انتظارِ المَوْتِ النِّهَائيِّ الحَاسِمِ، لذلكَ كانَ عُمْرُهُ مَوْتًا مُتَّصِلًا بلا انقطاعٍ، وَفَنَاءً مُتَوَاصِلًا بِلا وُجُودٍ، وغِيَابًا دائمًا بِلا حُضورٍ.

يَقُولُ درويش: (مَا قِيمَةُ الإنْسَانِ/ بِلا وَطَنٍ/ بِلا عَلَمٍ/ وَدُونَمَا عُنْوَان/ مَا قِيمَةُ الإنْسَانِ؟).

يَسْتَمِدُّ الإنسانُ قِيمَتَهُ مِنْ أرْضِهِ وَوَطَنِهِ وَرُمُوزِ دَوْلَتِه، فَهِيَ التي تَمْنَحُ الشَّرعيةَ الوُجوديةَ لَه، وَهِيَ التي تُوَفِّرُ لَهُ المَشروعيةَ الأخلاقيةَ كَكَائِنٍ حَيٍّ وحُرٍّ، قادرٍ عَلى الحَيَاةِ والتَّفكيرِ والإبداعِ.

وَعَلى الصَّعيدِ الفِكْرِيِّ نَجِدُ أنَّ المَنْفَى صَارَ حُضُورًا مَركزيًّا وَوَعْيًا قائمًا بِذَاتِه، فَالمُفَكِّرُ الفِلَسْطِينيُّ الأمريكيُّ إدوارد سعيد (1935 القُدْس _ 2003 نيويورك) في سِيرته الذاتية (خارج المكان) قامَ بِأنْسَنَةِ المَاضِي في اللامَكَان، وَتَحويلِ أحلامِ الطفولةِ السَّحيقةِ إلى تَيَّارِ وَعْيٍ دَائِمِ الجَرَيَانِ، وَدَمْجِ المَنْفَى الداخليِّ معَ المَنْفَى الخارجيِّ. المَنْفَى الداخليُّ هُوَ الغُرْبَةُ عَن العَناصرِ المُحيطةِ، وَالغَرَقُ في مُحْتَوَى الذاتِ والهُوِيَّةِ، وَتَكْوينُ رُؤيةٍ وُجوديةٍ للعَالَمِ تَخْتَلِفُ عَن السَّائِدِ. وَالمَنْفَى الخارجيُّ هُوَ الانفصالُ عَن التاريخِ والجُغرافيا، وَمُغَادَرَةُ حُدودِ الزَّمَانِ والمَكَانِ في مُحاولةٍ لإيجادِ فَضَاءٍ مَفتوح بَيْنَ الانتماءِ والذاكرةِ، وَصِناعةِ أُفُقٍ وَاسعٍ بَيْنَ الأرضِ السَّلِيبةِ وَوُجُوهِ الضَّحَايا.

أعادَ سعيد بِنَاءَ تَجْرِبته الشَّخصية الشُّعُورية في الكَلِمَاتِ باعتبارها وَسيلةً ثقافيةً للاندماجِ بالأرضِ البَعِيدَةِ (الفِرْدَوْس المَفقود)، وطَريقةً مَعنويةً لِجَمْعِ شَظَايا المَكَانِ المَنثورةِ في ضَبَابِ الطُّفُولَةِ، ومَنهجيةً مَعرفيةً لِوِلادةِ الإنسانِ مِنْ نَفْسِه، ومُوَاجِهَةِ مَصِيرِه وَحِيدًا.

ومَشروعُ سعيد قائمٌ عَلى إعادةِ صِياغةِ المَنْفَى بِوَصْفِه أرشيفًا هُلاميًّا للأحلامِ المَنْسِيَّةِ والذكرياتِ المَقموعةِ والأزمنةِ الوِجْدَانِيَّة الضائعة، مِنْ أجْلِ رَبْطِ المَكَانِ بالإنسانِ، فالمَكَانُ كِيَانٌ وُجوديٌّ مُستقِر في كَينونةِ الإنْسَانِ، وَلَيْسَ وَاقِعًا مَادِيًّا مُنْفَصِلًا عَن الوَعْي وَالحُلْمِ والفِكْرِ.

وإذا كانَ سعيد يَتَعَذَّبُ شُعوريًّا وِوِجْدَانِيًّا خارجَ المَكَانِ،فَإنَّهُ اكْتَشَفَ مَكَانًا جَدِيدًا في ذَاتِهِ الإنسانيةِ وَهُوِيَّتِهِ الحَضَارِيَّةِ. وَهَذا المَكَانُ الجَدِيدُ يُحَاوِلُ تَطهيرَ المَنْفَى مِنْ حُدُودِ الجُغرافيا، وَتَنْقِيَةَ المُدُنَ الأسْمَنْتِيَّةَ الكَئيبةَ مِنْ شَوَائبِ النظامِ الاستهلاكيِّ الماديِّ الذي يَكْسِرُ رُوحَ الإنسانِ، وَيُحَوِّلُهُ إلى سِلْعَةٍ ضِمْنَ ثُنائيةِ العَرْضِ والطَّلَبِ. وَالمَنْفَى رِحْلَةُ اكتشافِ الذاتِ بِكُلِّ تَنَاقُضَاتِهَا، وإعادةُ تأويلِ بَرَاءَةِ الطُّفُولِةِ وَبَكَارَةِ الأفكارِ وطَهَارَةِ الأمْكِنَةِ.

وَشُعُورُ المَنْفِيِّ بِأنَّهُ في غَيْرِ مَكَانِهِ يَفْرِضُ عَلَيْهِ أنْ يُعِيدُ اختراعَ المَكَانِ وَتَرْمِيمَ الذاكرةِ بَعِيدًا عَن الهُوِيَّاتِ المُزَوَّرَةِ والأيديولوجيَّاتِ المُزَيَّفَةِ. ولا شَكَّ أنَّ إحساس سعيد بالاقتلاعِ مِنَ المَكَانِ، وعَدَم القُدرة على العَوْدَةِ إلَيْه، قَدْ سَبَّبَ لَهُ شُعورًا بأنَّهُ وَحِيدٌ وأعْزَل، وأنَّ الوَقْتَ يَتَسَارَعُ ويَضْغَطُ عَلَيْه بِلا نِهَايَةٍ. لذلك لَيْسَ غريبًا أن تَكُونَ سِيرَتُهُ الذاتيةُ استعادةً لِتَجْرِبَةِ المُغَادَرَةِ وَالفِرَاقِ وَالشُّعُورِ بِالخَسَارَةِ: (وَلَمَّا كُنْتُ قَدْ عِشْتُ في نيويورك بإحساسٍ مُؤقَّت عَلى الرَّغْمِ مِنْ إقامةٍ دَامَتْ سبعة وثلاثين عامًا، فَقَدْ فَاقَمَ ذلك مِنْ ضَياعي المُتَرَاكِم، بَدَلًا مِنْ مُرَاكَمَةِ الفَوائدِ).

***

إبراهيم أبو عواد / كاتب من الأردن

السرديات التاريخية تعكس التجارب الإنسانية، وتساهم في بناء الهوية الجماعية. مع ذلك، يمكن أن تؤدي إلى شعور بالاغتراب، خاصة عندما تُستخدم لتبرير الهويات الضيقة أو لتهميش التجارب الأخرى أو عندما تتمركز حول رواية واحدة فقط، تجعل الأفراد الذين لا تتوافق تجاربهم مع هذه الرواية يشعرون بالانفصال، السرديات التي تركز على فئة معينة تؤدي أيضا إلى تهميش الفئات الأخرى، مما يزيد من الفجوات الاجتماعية ويمكن أن تؤدي إلى تشويه الحقائق التاريخية، مما يؤثر على فهم الأجيال القادمة لتاريخهم، لذا يكون العارف دائمًا في خطر بسبب وعيه الذي يهدد بنية الزيف التي يعيش فيها الآخرون، كون المعرفة تؤدي إلى الوعي العميق والوعي العميق عزلة، مما يجعل العارف منفيًا في عالمه الذي يعيشه والذي يعكس عمق الصراع بين الوعي والجهل، عندما يمتلك الانسان معرفةً عميقة، يشعر بالانفصال عن الآخرين الذين يعيشون حالة من الزيف أو وهم المعرفة. هذا الوعي يمكن أن يكون أحيانا عبئًا، حيث يواجه العارف تحديات التقبل والعزلة، كما أنه قد يصبح منفيًا، ليس جسديًا فقط، بل نفسيًا أيضًا، ويجد صعوبة في التواصل مع من حوله. النفي الروحي عند العارف هو نتيجة الزيف والوهم الذي يعيشه الاخرون وبالتالي يعكس صراعًا داخليًا عميقًا عندما يدرك أن العالم من حوله مليء بالأوهام والزيف. هذا الانفصال يمكن أن يؤدي به إلى ان يصبح غريبًا في مجتمعه ويجد صعوبة في التفاعل مع الآخرين الذين لا يرون الحقيقة كما يراها هو بسبب الجهل. كلما سعى إلى إيجاد معنى أعمق للحياة، ازداد شعوره بالوحدة في رحلة البحث، رغم ذلك يمكن ان يكون هذا النفي الروحي مصدرًا للتحرر، حيث يتجاوز القيود الاجتماعية التي تعوق التأمل في الذات وفهم الدوافع والأفكار بشكل أعمق، فقدان المعنى والهدف نتيجة الصراع بين المعرفة والجهل تسهم في نمو مشاعر القلق، وبما ان العارف هو إنسان يمتلك وعيًا عميقًا وفهمًا للحقيقة ويكون أكثر حساسية لتناقضات الحياة والمجتمع، هذا قد يخلق لديه شعورًا بالانفصال عن الآخرين.

تقبل الاغتراب

 تقبل الواقع يمكن أن يكون أقل معاناة بالنسبة للعارف مقارنة بالبحث عن مجتمع داعم. تقبل الواقع يمنح العارف شعورًا بالسلام الداخلي، يتقبل الأمور كما هي بدلاً من مقاومة ما لا يمكن تغييره، عندما يتقبل العارف الواقع يقل التوتر الناتج عن التوقعات تجاه الآخرين أو المجتمع، العارف يركز دائما على نموه الشخصي بدلاً من البحث عن القبول من الآخرين هذا يسهم في تقليل شعور الاغتراب عن طريق فهم أن الاختلاف في الرؤى هو جزء من التجربة الإنسانية ويساعد في تعزيز وعي العارف بواقعه، مما يمكنه من التفاعل مع العالم بشكل أكثر فعالية بينما البحث عن مجتمع داعم قد يكون مهمًا، إلا أنه يتطلب جهدًا ووقتًا، مما يسبب شعورًا بالإحباط في بعض الأحيان. بينما يبدو الاستغراق في الذات كعزلة، إلا أنه في الواقع يمكن أن يكون وسيلة قوية للنمو والتطور الشخصي. لكن التوازن يعزز من النمو الشخصي والعلاقات تطبيق اليقظة الذهنية أثناء التفاعل مع الآخرين، مما يساعد على الاستماع الفعال وفهم المشاعر تعلم كيفية تحديد الحدود الشخصية في العلاقات، مما يسمح للعارف الحفاظ على سلامه الداخلي أثناء التفاعل واستخدام التجارب الخارجية كمصدر للتعلم والنمو، مع الحفاظ على وعي الذات، ان التواصل من خلال الأفكار والمشاعر بشكل صادق مع الآخرين يعزز من الاتصال ويقلل من الشعور بالانفصال، التأمل بعد التفاعلات الاجتماعية لفهم المشاعر والأفكار الناتجة عن تلك التفاعلات تمكن للعارف الاستغراق في ذاته مع الحفاظ على تواصل صحي وفعّال مع العالم الخارجي.

الشعور بالعبء

يمكن اعتبار الشعور بالعبء الزمني نوعًا من المعاناة الوجودية، الزمن يعكس مفهومًا عميقًا يتعلق بالوجود والعدم، حيث يبرز الصراع بين اللحظة الحالية وما يتجاوزها، تناول الزمن كحالة من التحول المستمر يخلق شعورًا بالقلق وعدم الاستقرار. هذا الشعور يمكن أن يؤدي إلى تأملات حول معنى الحياة والوجود، مما يعكس معاناة وجودية تتعلق بالبحث عن الذات والهدف في عالم متغير، مفهوم الفناء مرتبط بشكل وثيق بحالة السكون والهدوء، الفناء يعني التحرر من الأنا والمشاعر المرتبطة بالزمن، مما يؤدي إلى تقليل الهموم والضغوط النفسية. هذا التحرر يُسهم في الوصول إلى حالة من السكون الداخلي عند الفناء، يتجاوز الفرد الصراعات الداخلية المتعلقة بالماضي والمستقبل. هذا التجاوز يسهم في خلق بيئة هادئة تسمح بالتأمل العميق. الفناء يُسهل تجربة الاندماج مع كل ما هو موجود، مما يؤدي إلى شعور بالهدوء والسلام الداخلي. عندما يشعر الفرد بأنه جزء من الكون، تقل مشاعر القلق والتوتر، الفناء يفتح الأبواب لتجارب روحية تعزز من حالة السكون، حيث يُمكن للفرد أن يختبر اللحظة الحالية بالكامل، بعيدًا عن الضغوط الزمنية، من خلال الفناء، يُمكن للفرد أن يتواصل مع ذاته الحقيقية، مما يُؤدي إلى شعور بالطمأنينة والهدوء الداخلي، بهذا الشكل يرتبط الفناء بحالة السكون والهدوء بشكل عميق، حيث يُعتبر وسيلة للتخلص من الضغوط الزمنية. الفناء في المطلق يمكن أن يُعتبر وسيلة للتخلص من ضغوط الزمن، حيث يُعبر عن حالة من التحرر من القيود الزمكانية. في الفلسفات الميتافيزيقية، يُرى الفناء كوسيلة للوصول إلى حالة من السكون الداخلي والانسجام مع الكون، الفناء يُمكن أن يُساعد الأفراد على الهروب من مشاعر القلق المرتبطة بالماضي أو المستقبل من خلال التأمل، يمكن للأشخاص أن يصلوا إلى حالة من الوعي الحاضر، مما يؤدي إلى تقليل الضغوط الزمنية، العديد من الفلسفات مثل البوذية تتحدث عن الفناء كوسيلة للوصول إلى النيرفانا، وهي حالة من التحرر من المعاناة، بعض الأفراد يشعرون بالتحرر من الزمن خلال لحظات مكثفة من الإبداع أو التأمل، حيث يبدو أن الوقت يتوقف، الفناء في المطلق قد يوفر وسيلة للتخلص من ضغوط الزمن، لكنه يعتمد على التجربة الشخصية والطريقة التي ينظر بها الأفراد إلى الزمن والفناء في سياقات مختلفة.

الفناء في السياق الديني

يُعتبر الفناء في العديد من الديانات وسيلة للوصول إلى الإله أو الحالة الروحية المثلى يُرى الفناء كعملية للتخلي عن الأنا والهوى، مما يؤدي إلى الإتحاد مع الله أو الحقيقة المطلقة في التصوف، مثلاً، يُعتبر الفناء (مثل الفناء في الله) مرحلة مهمة تسبق الوصول إلى المعرفة الروحية، الفناء غالبًا ما يرتبط بالتعاليم والشرائع التي تحدد كيفية الوصول إلى هذه الحالة.

الفناء في السياق الفلسفي

الفناء الفلسفي يُستكشف بشكل أكثر تحررًا وموضوعية، حيث يُعتبر مفهومًا فلسفيًا يتناول موضوع الوجود والمعنى، يهتم الفلاسفة باستكشاف مفهوم الفناء كجزء من التجربة الإنسانية ككل، بما في ذلك الموت وفهم الزمن، كل فلسفة تقدم رؤية مختلفة حول الفناء، مثل الفلسفة الوجودية التي تركز على حرية الفرد وعبثية الحياة الفناء في السياق الفلسفي لا يرتبط بأي معتقد ديني، بل يعتمد على التحليل الشخصي والتأمل بشكل عام، الفناء في السياق الديني يرتبط بالروحانيات والإيمان، بينما في السياق الفلسفي يُعتبر موضوعًا للتحليل والتفكير النقدي حول الوجود والمعنى.

الصمت والتجاوز

فهم العالم بشكل عميق يخلق مسافة بين العارف والمجتمع، فهم العالم بشكل عميق يمكن أن يخلق نوعًا من التباعد بين الفرد والمجتمع. عندما يتعمق الشخص في المعرفة والتحليل، قد يشعر بأنه مختلف أو غير متوافق مع آراء ومعايير المجتمع. باستخدام الصمت والتأمل، يمكن العارف أن يجد طرقًا جديدة للتواصل مع نفسه ومع معاني الحياة، مما يساعد في تجاوز شعور الانفصال الناتج عن الفهم العميق، اللغة لا تعبر بشكل كامل عن المفاهيم المعقدة التي يدركها العارف، مما يخلق فجوة بين ما يشعر به وما يمكنه قوله، هذا الانفصال قد يدفع العارف للبحث عن معانٍ جديدة أو بديلة، مما يؤدي إلى تجارب فريدة لكنها قد تعزز شعور الوحدة وقد تكون أيضًا فرصة للتواصل مع الذات واستكشاف أعمق للوجود، رغم ما قد تسببه من شعور بالانفصال وقد يعاني العارف خطر الاغتراب.

***

غالب المسعودي

الأسباب والحلول

في السنوات الأخيرة، انتشرت بين بعض الشباب العراقي موجة من الإحباط واليأس وفقدان الأمل في المستقبل، مما دفع الكثيرين للتساؤل عن أسباب هذه الحالة النفسية والاجتماعية الخطيرة، وسبل الخروج منها. فالشباب، الذين يُفترض أن يكونوا عماد التغيير والبناء، باتوا يعانون من مشاعر العجز والضياع، والرغبة في الهجرة بأي ثمن، أملاً في مستقبل أفضل في مكان آخر من هذا العالم.

ما أسباب انتشار اليأس بين الشباب العراقي؟

1. البطالة وغياب الفرص الاقتصادية

يعاني الشباب العراقي من معدلات بطالة مرتفعة، حيث تُشير الإحصاءات إلى أن نسبة كبيرة من الخريجين عاطلون عن العمل بسبب غياب الفرص التي تتلاءم مع تخصصاتهم. وحتى عند توفر فرص العمل، فهي غالباً غير عادلة أو غير مستقرة. كما أن الفجوة بين مخرجات التعليم واحتياجات سوق العمل تُفاقم المشكلة. وتشير تقارير أواخر 2024 وبداية 2025 إلى أن نسبة البطالة بين الشباب تتجاوز 36%، وقد تصل إلى أكثر من 50% في بعض المحافظات الجنوبية كالمثنى وذي قار والبصرة.

2. الفساد المالي والإداري

يُعد الفساد المستشري في مؤسسات الدولة أحد أكبر العوائق أمام تمكين الشباب. تراجع الخدمات الأساسية مثل الكهرباء والماء والتعليم يُفقدهم الثقة بقدرة النظام القائم على الإصلاح والتطوير.

3. غياب العدالة الاجتماعية

يعاني المجتمع العراقي من تفاوت طبقي كبير، حيث تتركز الثروة في أيدي قلة، بينما تعاني الغالبية من ظروف اقتصادية صعبة. هذا التفاوت يُعزز مشاعر الظلم والإحباط، خصوصاً عندما يشعر الشباب أن النجاح لا يتحقق بالكفاءة أو الجهد، بل بالمحسوبية والفساد.

4. الأزمات السياسية وانعدام الاستقرار

العنف المستمر، والاضطرابات السياسية، والتدخلات الخارجية جعلت من العراق بيئة غير مستقرة، أثّرت سلبًا على نفسيات الشباب، الذين يرون أن مستقبلهم مهدَّد في بلد لا يوفر لهم مقومات العيش الكريم.

5. ضعف النظام التعليمي وعدم مواكبة سوق العمل

كثير من الخريجين يكتشفون بعد التخرج أن ما درسوه لا يتناسب مع سوق العمل. ويعاني التعليم من تدهور البنية التحتية وضعف المناهج، ما يُنتج جيلاً غير مؤهل للمنافسة محلياً أو دولياً.

كيف يمكن استعادة الأمل؟

رغم التحديات، فإن استعادة الأمل ليست مستحيلة، بل تتطلب إرادة جماعية وجهودًا متكاملة:

1. تعزيز التعليم والتدريب المهني

يُفترض بالشباب تطوير مهاراتهم بأنفسهم عبر الدورات التدريبية والتعلم الذاتي، خصوصاً في المجالات المطلوبة مثل البرمجة، اللغات، والتسويق الرقمي، والتي تفتح فرص عمل حتى عن بُعد.

2. دعم المبادرات الشبابية والمشاريع الصغيرة

يمكن للشباب الاتجاه نحو ريادة الأعمال بدلاً من انتظار الوظائف الحكومية، والاستفادة من القروض والبرامج الداعمة للمشاريع الصغيرة والمتوسطة.

3. المشاركة في التغيير السياسي والاجتماعي

على الشباب رفض الاستسلام والمشاركة الفعالة في الحياة السياسية والاجتماعية، عبر النضال السلمي والإعلامي لمحاربة الفساد وتحقيق الإصلاح.

4. الدعم النفسي والتوعية

من المهم إدراك أن مشاعر الإحباط طبيعية، لكن تجاوزها ممكن من خلال التوعية النفسية، تبادل التجارب الإيجابية، والانخراط في النشاطات الثقافية والاجتماعية.

5. التمسك بالأمل رغم كل شيء

التاريخ يُثبت أن الشعوب القوية تنهض من أصعب الأزمات. والعراق غني بإمكاناته وشبابه، والتغيير يبدأ بقرار فردي بعدم الاستسلام.

خاتمة

اليأس ليس خياراً، والشباب العراقي قادر على صناعة التغيير إذا آمن بقدراته. فالأمل ليس مجرد كلمة، بل إرادة وعمل مستمر، وبداية الطريق تبدأ بالخطوة الأولى.

ومن الله التوفيق.

***

د. سعد عبد المجيد ابراهيم

السلطة التي تسمع سخرية الناس منها ولا تفهمها، تمشي نحو الهاوية المحتومة.

الانتماء الحزبي حين يصير شتيمة، تكون اللعبة السياسة قد لفظت معناها الأخلاقي.

الضحك المرير هو آخر لغة يملكها المقموع.

إليكم التفصيل.

من تراجيديا الوعي السياسي أن الأحزاب، ولا سيَّما الحاكمة - في البيئة العربية، رغم أنها تغرق في ضجيج السخرية اليومية، لا تلامس جذر الألم في هذا الضجيج. إنها تُصغي لا لتفهم، بل لتُقنع نفسها بأن ما يُقال عنها محضُ صدى جانبيّ للسلطة، لا نُذُرُ انهيار داخليّ وتصدع آخذٌ في التشكل. كأن السخرية ليست لغة المقموع، بل نشاز عابر في سيمفونية الاستقرار. إنهم لا يدركون أن الضحك المرير هو اللغة الأخرى للاحتجاج.

في تضاريس الوعي الجمعي، تحوّلت الشتيمة السياسية إلى مرآة مقلوبة للمشهد الحزبي. يُقال في الذم الشعبي العراقي لمن أُريد به الذمّ: "فلان بعثيّ". لا تُستخدم كلمة "بعثيّ" كوصف انتماء سياسي فقط، بل كـ"رمز سلبي" يحمل دلالات القمع، والاستبداد، والعنف، والفساد، المستمدة من تجربة حكم حزب البعث، وخاصة في عهد صدام حسين. إذن، الشتيمة هنا ليست عابرة، بل تُفعّل ذاكرة جمعية مملوءة بالخوف والخسارات.

فعندما يُقال "فلان بعثي"، لا يُطلق حكمًا فرديًا فقط، بل يُمارس شكلًا من أشكال الحذف الجمعي، بوصف الآخر جزءًا من الماضي الذي يجب ألا يعود. وهنا تتحوّل الشتيمة إلى أداة تطهير رمزي. أما اليوم، فإن اللعنات الجديدة تُصبّ على رؤوس من "ارتموا في أحضان الأحزاب"، بوصفهم رموزًا للانبطاح والخنوع. لقد استحال الانتماء السياسي من شارة هوية إلى وصمة عار، ومن موقف نضاليّ إلى رمز للانتهازية القميئة. لم تعد صفة "الحزبي" في المخيال العراقي تُشير إلى الالتزام، بل باتت علامة على التكسّب والانتهاز. بعد 2003، أمست الحزبية تُثير السخرية: "هو مدعوم من الحزب الفلاني"، وهي تُشير بذلك إلى التذلل والمدارة المرفوضة. هنا تظهر ما أسماه غرامشي بـ"انهيار الهيمنة الأخلاقية": حين تفقد السلطة قدرتها على الإقناع الأخلاقي، وتبقى ممسكة فقط بعصا القوة.

في شوارع العراق ووسائل تواصله الاجتماعي، لم تعد الثورة في الشارع، بل في النكتة، في المقطع الساخر، في الهمهمة التي تمر كجملة عابرة تقلب المعنى رأسًا على عقب. تمامًا كما يُشير بورديو إلى ان العنف الرمزي هو حين يُفرض القمع لا عبر الرصاص، بل عبر اللغة، عندما يُعاد إنتاج القهر بلسان الضحية نفسه، عبر ضحكته المريرة.

لكن هذه المفارقة الرمزية لا تخص العراق وحده. فالحالة المصرية بعد 2011 قدّمت نموذجًا موازيًا. إذ سرعان ما تحوّلت السخرية إلى سلاح جماعي يُشهر في وجه السلطة، سواء تمثلت في العسكري أو الإخواني أو الليبرالي. كانت تجربة "باسم يوسف" تجسيدًا للمثقف العضوي الغرامشي في بدايتها، قبل أن يُقصى الخطاب الساخر ويُخضع لمنطق الطاعة أو النفي. لقد تم تدجين السخرية، ونُزعت عنها إمكاناتها السياسية، لتصبح مجرد تنفيس في فضاء خاضع للرقابة.

وفي تونس، ورغم مناخ الحرية النسبي، لم تنجُ الأحزاب من التهكّم الشعبي الذي يُترجم فقدان الثقة في المشروع السياسي نفسه. باتت الانتماءات الحزبية تُلفظ بتهكم: "نهضاوي"، "حداثي"، "يساري"، لا كتوصيفات فكرية بل كأقنعة للمصالح والصفقات. حتى الانتخابات، التي كانت رمزًا للتمكين الشعبي، غدت موضوعًا للتندر: "كله تمثيلية". كأن السياسة تحوّلت إلى عرض ساخر، تفقد فيه الكلمات معناها الأصلي، وتصبح المشاركة فعلًا بلا طائل.

كل هذا يُشير إلى ما يمكن تسميته بـ"التهكم الجديد": تهكم لا يُحرّك الشارع، بل يُعيد تعريفه. إنه سلاح مزدوج: أداة ممانعة حين يُحافظ على بعده الواعي، وأداة تخدير حين يُبتلع في ماكينة الترفيه الجماهيري.

المفارقة أن كثيرًا من أولئك "المجاهدين العباد" السابقين، حين وصلوا السلطة، خسروا الكثير من رصيدها الرمزي، وباتوا يُشتمون كمن سبقهم. إن رأس المال الرمزي، كما يُسميه بورديو، لا يُشترى ولا يُفرض، بل يُبنى على الثقة، وهذه قد تآكلت حتى الذوبان. فالسياسي الذي لا يُصدّقه أحد، وإن ملك كرسيّه، فقد شرعيته الحقيقية.

وتظهر هنا ملامح "المثقف العضوي" كما صاغه غرامشي، لا في صالات المؤتمرات، بل في الشباب الذين يصنعون من فيديو ساخر سيفًا، ومن كلمة نابية مقلاعًا رمزيًا ضد الأصنام السياسية. هؤلاء، الذين يتهكّمون، لا يسلّون أنفسهم، بل يؤدّون دورًا سياسيًا لا شعوريًا: يسحبون البساط من تحت أقدام الشرعية الزائفة.

الأنظمة تُخدّر ذاتها بوهمٍ مستقر: أن الصمت الشعبي دليل طاعة، وأن سكون الشوارع علامة رضا. غير أنّها تغفل عن أن أعمق أشكال الرفض لا تُدوّي في الساحات، بل تتسلل في التهكّم الخفي، في تعابير الوجه، في الضحكة المكبوتة. التمرّد الجديد لا يطرق الأبواب، بل يسكن الأرواح. وفي هذا السياق الملتبس، نستعيد صوت محمد مهدي الجواهري، لا كذكرى شعرية بل كأداة نقدٍ وجوديّ، إذ قال مخاطبًا هاشم الوتري وساخطًا على نوري السعيد:

كذبوا، فملء فمِ الزمان قصائدي

أبداً تجوبُ مشارقًا ومغاربا

*

أنا حتفُهم، أُلْجُ البيوتَ عليهم

أغري الوليدَ بشتمهم والحاجبا

هكذا تتحوّل القصيدة إلى فعل مقاومة يتسلل إلى البيوت، والضحكة إلى لغم ثقافي، والسخرية إلى "نقد مسلح" لا تملكه الأحزاب، بل تصنعه الأرواح الجريحة.

***

د. حيدر شوكان سعيد

جامعة بابل/ قسم الفقه وأصوله.

لا سبيل للخلاص من البحث في إشكالية المثقف ما لم يكن المفهوم المشار إليه مضغوطاً بين خيارين، العضوي والتقليدي، الكوني والمختص... أو قد يكون مفهوم المثقف حاملاً لمحمولٍ آخر، كما نقول: مثقف السلطة، المثقف الرأسمالي، المثقف الاشتراكي وغير ذلك الكثير.

وما نُريد البحث فيه لا يخرج عن قماشةِ ما تمَّ ذكره، فنحن بصدد الكشف عن هوية المثقف الشعبوي. لكن لا يمكن لنا أن نبتَّ الرأي فيه ما لم نضعه تحتَ طرفي تضاد مع مفهوم آخر، ولكي تتقعد القواعد نقول المثقف الشعبوي والمثقف الأكاديمي. والأخير عبارة عن تصنيف إجرائي، فلا نريد الإشارة به إلى فئةٍ معينة، لأن كثير من الأكاديميين قد لا يصلحون في أن يكونوا مثقفين شعبويين أصلاً، ولكننا نودُّ من هذا التضاد للتعريف بشخصية المثقف الشعبوي، والإنهاء إلى الشروطِ الواجب توافرها لكي تكون لنا القدرة في ردم هوة الشعبوية بالمثال الأكاديمي.

على إننا، وكما أشرنا، لا نجعل الاكاديمية شرطاً ابداعياً لجعلِ المثقف مثقفاً، فهي قد تنمّي القدرة الإبداعية وتفتح آفاق المعارف أمام العقل لبلوغ غاية الحكمة، إلا إنها ليست صكّاً حقيقياً لمهنة المثقف، فقد يكون المثقف غير أكاديمي، لكنه قد يفوق ما تنتجه الأكاديمية بطوال رحلتها.

المثقف الشعبوي، هو ذلك الذي تتسع في ذاكرته ملكة الاستيعاب والإنصات، وتلقي النصوص وحفظها، أما المثقف الأكاديمي، فهو الذي يمتلك قدرة انتاج النصوص على النصوص المقروءة، فقد يفتقر إلى ملكة الحفظ والتلقي، لكنه مدعوم بملكة الكتابة والتدوين، لذلك فإن عمله مُناط بالقدرة الكتابية وإنتاج النصوص على ركام النصوص الأخرى، بينما يكون عمل المثقف الشعبوي مرهوناً بالشفاهية، ومقيداً بالكيفية التي يتم فيها نقل ما سمعه أو حفظه إلى الغير، وغالباً ما يكون أميناً بنقله، لأنه لا ينقص عمّا سمعه ولا يزيد، وهو بعبارة أخرى: أداة لاستنطاق النص المحكوم على الورق، والعمل على الخروج به، كما ورد تماماً، إلى الآخر. بينما يدخل المثقف الأكاديمي مدخل الصراع مع النص المقروء، لينتهي إلى الإنتاج بعد رحلة عصيبة مع التأويل والتحليل والتركيب والتفكيك.

يستند المثقف الشعبوي في بناء مشروعه وتطوير مهاراته على وسائل الإعلام بمختلف ألوانها وأشكالها، سمعية كانت أو مرئية، لأنه يستند بالأساس على الثقافة الشفاهية، بينما يبقى المثقف الأكاديمي رهين دور النشر، لأنه أكيداً محكوم بالثقافة الكتابية، ولا يمكن له أن يجد ما ينقذه سوى دور النشر المعنية بطباعة الكتب والمجلات. لذلك نجد العقل عند المثقف الأكاديمي، هو الأداة المصدرية في الإنتاج، بينما يعتمد المثقف الشعبوي على اللسان بعدّه الفعل التواصلي الذي ينقل به ما قرأه من نصوص.

وفي طبيعة الحال سنجد أنَّ القاعدة الجماهيرية واسلوب التلقي من المثقف الشعبوي، يفوق كثيراً ما يمكن أن يتلقاه الجمهور من المثقف الأكاديمي، لان القاعدة الجماهيرية في أغلب صورها إنما هي ثقافة سماعية أو مرئية، تودُّ أن تجد من يفكر بالنيابة عنها، وتمنّي النفس في سماع ما قاله الفيلسوف الفلاني في كتابه الفلاني، ونراها تبتعد كل البعد عن ثقافة مطاردة الفكرة المختبئة بين أروقة النصوص الموجودة بين دفتي كتاب.

لذلك تجد الذي أنتج مجموعة كبيرة من النصوص يرتكن إحدى زوايا بيته، يقرأ نصاً معيناً، وبانتظار أن يستفزَّ الأخير عقله لينتج نصّاً على ركام ما قرأه، فيذهب به بعد ذلك إلى أصحاب دور النشر، فتحصل الموافقة بعد الحديث عن الذي لك والذي لي، وأبرز حدثٍ في ذلك إنك ستجد اسم كتابك معروضاً على (غوغل) أو مُمدّداً في شوارع المتنبي أو الرشيد ويباع بثمنٍ بخس.

أما المثقف الشعبوي، فتنهال عليه القنوات والإذاعات، وبعقود عالية ومغرية، وتتقدم له دعوات المشاركة في المعارض والمؤتمرات المحلية والعالمية، لا لمنجزٍ يُذكر، بل لأجل قوله (يقول علي الوردي في كتابه وعاظ السلاطين…). بينما يقتضي أن يُنتِجُ نصاً على ما قرأه، لا أن يبلّغ الآخرين بما قرأهُ.

***

د. حيدر عبد السادة جودة

تشير الليبرالية الجديدة إلى مجموعة من السياسات التي أصبحت سائدة في أواخر القرن العشرين وأوائل القرن الحادي والعشرين. وتشمل هذه السياسات إلغاء القيود التنظيمية والخصخصة وخفض الإنفاق الاجتماعي. غالبًا ما يتم الترويج لهذه السياسات على أنها طرق لزيادة النمو الاقتصادي والازدهار. مع ذلك، غالبًا ما يكون لها تأثير سلبي على حياة الناس العاديين .

العولمة والليبرالية الجديدة

العولمة والليبرالية الجديدة هما ظاهرتان متشابكتان بعمق. يمكن اعتبار الليبرالية الجديدة بمثابة الأيديولوجية الاقتصادية التي سهلت ودفعت العولمة، بينما يمكن اعتبار العولمة بمثابة المسرح الذي تتكشف فيه السياسات النيوليبرالية على نطاق عالمي. ساهمت السياسات النيوليبرالية، مثل تحرير التجارة وإلغاء القيود على حركة رؤوس الأموال، في تسريع العولمة. أدت هذه السياسات إلى زيادة التجارة والاستثمار عبر الحدود، وربط الاقتصادات بشكل أوثق، من ناحية أخرى، عملت العولمة على تضخيم تأثيرات الليبرالية الجديدة. أدت المنافسة العالمية المتزايدة إلى الضغط على الشركات لخفض التكاليف، مما أدى غالبًا إلى استغلال العمال وتدهور البيئة. كما أدت العولمة إلى زيادة قوة الشركات متعددة الجنسيات، مما سمح لها بالتأثير على السياسات الحكومية بطرق تفيد مصالحها.

الأهمية المعاصرة لنقد النيوليبرالية

النقد النيوليبرالي للسرديات التاريخية يكتسب اهميته المعاصرة من فهم تأثير السرديات الوهمية المنضوية تحت ظل تاريخ السرديات التاريخية العام، إن النقد النيوليبرالي للسرديات التاريخية يحمل أهمية معاصرة كبيرة، خاصة في فهم تأثير ما يمكن تسميته السرديات الوهمية. النيوليبرالية غالبًا ما تعيد كتابة التاريخ لتبرير سياساتها الحالية، مثل الخصخصة وتقليل دور الدولة. هذا يشمل تضخيم دور السوق الحرة في تحقيق التقدم وتجاهل أو التقليل من أهمية تدخل الدولة في تحقيق العدالة الاجتماعية، النيوليبرالية تميل إلى التركيز على الفردية والمصلحة الذاتية، مما يقوض الهويات الجماعية القائمة على التاريخ المشترك والنضالات الجماعية. تتجاهل النيوليبرالية العوامل الهيكلية التي تساهم في عدم المساواة، مثل التمييز والفقر، رغم ان السرديات الوهمية التي تروج لها النيوليبرالية يمكن أن تكون مقنعة للغاية، خاصة إذا كانت مدعومة بوسائل الإعلام ونظام تعليمي ستؤدي هذه السرديات إلى قبول الوضع الراهن حتى لو كان غير عادل، وتثبيط الجهود الرامية إلى تغييره، النقد النيوليبرالي للسرديات التاريخية لا يسمح بفضح السرديات الوهمية وكشف الأيديولوجيات الكامنة وراءها و يمكن أن يساعدنا على فهم أفضل للتحديات التي تواجه المثقف في بناء سرديات بديلة أكثر عدلاً ودقة، باختصار فهم النقد النيوليبرالي للسرديات التاريخية أمر ضروري لفهم كيفية استخدام التاريخ لتبرير السياسات الحالية وتقويض الحركات الاجتماعية، كما يساعد على كشف السرديات الوهمية التي تتبناها النيوليبرالية .ان تأسيس نقد مبني على معرفة سياقية، يجب التركيز على فهم السياق التاريخي والاجتماعي والاقتصادي الذي نشأت فيه هذه السرديات الوهمية وتحديد الجهات الفاعلة الرئيسية التي ساهمت في نشرها، مثل المؤسسات المالية الدولية، الأحزاب السياسية، مراكز الأبحاث، ووسائل الإعلام كما يجب تحديد التحيزات الأيديولوجية الكامنة في السرديات النيوليبرالية الوهمية، مثل تجاهل الحقائق التاريخية التي تتعارض مع الأجندة النيوليبرالية، تقييم الأدلة التاريخية التي تستند إليها السرديات النيوليبرالية، التحقق من مدى دقتها واكتمالها، وتحديد الثغرات في السرديات النيوليبرالية، مثل تجاهل العوامل الهيكلية التي تساهم في عدم المساواة، و التقليل من أهمية تدخل الدولة في تحقيق العدالة الاجتماعية، كما يتوجب علينا بناء سرديات بديلة تأخذ في الاعتبار السياق التاريخي والاجتماعي والاقتصادي بشكل كامل، تتضمن وجهات نظر مختلفة مع إبراز دور الدولة في تحقيق التنمية الاقتصادية والعدالة الاجتماعية، وتقديم أمثلة تاريخية على نجاح تدخل الدولة في تحقيق هذه الأهداف، و التأكيد على أهمية الهويات الجماعية والنضالات الجماعية في تحقيق التغيير الاجتماعي، مما يساعد على فهم أفضل للتحديات ودمج منظور ما بعد الاستعمار يضيف بُعدًا حيويًا لفهم أعمق لكيفية تشكيل هذه السرديات وتأثيرها على المجتمعات التي عانت من الاستعمار.

النيوليبرالية والسياسات الاستعمارية

ان تحليل كيف مهدت السياسات الاستعمارية الطريق لتبني السياسات النيوليبرالية، مثل فتح الأسواق، قمع الصناعات المحلية، وتشكيل هياكل اقتصادية تخدم المصالح الاستعمارية، إظهار كيف أن النيوليبرالية تمثل استمرارًا للاستغلال الاستعماري بأشكال جديدة، مثل الديون، شروط صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، والشركات متعددة الجنسيات وكذلك نقد السرديات الوهمية التي تصور النيوليبرالية كأداة للتنمية في دول العالم الثالث، وفضح كيف أن هذه السياسات غالبًا ما تؤدي إلى تفاقم الفقر وعدم المساواة وتحليل كيف أن فرض الأسواق الحرة على الدول النامية تقوض الصناعات المحلية وتجعلها عرضة للمنافسة غير العادلة من الشركات الأجنبية، كما ان فحص كيف يتم استخدام هذه المفاهيم لتبرير تدخل الدول الغربية في الشؤون الداخلية للدول النامية، وفرض سياسات نيوليبرالية عليها.ان تسليط الضوء على أشكال المقاومة المحلية للسياسات النيوليبرالية، وإظهار كيف أن هذه المقاومة تشكل تحديًا للسرديات النيوليبرالية الوهمية المهيمنة وفحص كيف تروج لثقافة عالمية موحدة تهيمن عليها القيم الغربية، وتقوض الهويات الثقافية المحلية وكيف يتم تحويل الثقافة والتراث إلى سلع تجارية، مما يؤدي إلى فقدان الأصالة والتشويه، ان نقد مفهوم الفردية النيوليبرالية، وإظهار كيف أنه يتجاهل أهمية العلاقات الاجتماعية والتضامن في المجتمعات التي عانت من الاستعمار يتحدى مفهوم التقدم النيوليبرالي الزائف، و كيف أنه غالبًا ما يؤدي إلى تدهور البيئة وتفاقم عدم المساواة.

السرديات التاريخية وعدسة النيوليبرالية

نظرة النيوليبرالي للسرديات التاريخية تأتي من زاوية رؤية العالم من خلال عدسة السوق الحرة، والخصخصة، وتقليل تدخل الدولة، والفردية. هذا غالبًا ما يتحدى أو يعيد تفسير السرديات التاريخية السائدة. السرديات التاريخية غالبًا ما تبرز دور الدولة في التنمية الاقتصادية والاجتماعية، البنية التحتية، وتوفير التعليم والرعاية الصحية، وتنظيم الأسواق. النيوليبرالية تميل إلى التقليل من أهمية هذه الأدوار، والتركيز بدلاً من ذلك على دور القطاع الخاص والمبادرة الفردية. قد يتم تصوير تدخل الدولة على أنه معيِق للنمو الاقتصادي، ويتم التركيز على فشل الدولة كمثال على عدم كفاءة التدخل الحكومي، النيوليبرالية تميل إلى تمجيد السوق الحرة باعتبارها المحرك الرئيسي للتقدم والازدهار، لذا فان السرديات التاريخية التي تنتقد الرأسمالية أو تبرز عيوب السوق الحرة يتم تجاهلها أو إعادة تفسيرها، و قد يتم التركيز على قصص النجاح الفردية في ظل الرأسمالية، وتجاهل أو تهميش القصص الأخرى التي تظهر الاستغلال أو عدم المساواة، النيوليبرالية تركز على الفردية والمسؤولية الشخصية، وتقلل من أهمية الجماعة والتضامن الاجتماعي.. يتم التركيز على قصص الأفراد الذين حققوا النجاح وتجاهل أو تهميش العوامل الهيكلية التي قد تعيق تقدم الآخرين، السرديات التاريخية التقليدية غالبًا ما تنتقد الاستعمار والإمبريالية باعتبارهما سببًا في التخلف والفقر في العالم النامي. النيوليبرالية تحاول إعادة تفسير هذه الأحداث، والتركيز على الجوانب الإيجابية للاستعمار...!، مثل نشر الحضارة أو جلب التكنولوجيا. قد يتم تبرير الاستغلال الاقتصادي على أساس أنه كان ضروريًا لتحقيق النمو الاقتصادي العالمي، في الوقت عينه يتم تصوير السرديات التاريخية التي تبرز عدم المساواة والظلم الاجتماعي على أنها مبالغ فيها. يتم التركيز على النمو الاقتصادي باعتباره الهدف الأسمى، وتجاهل أو تهميش الآثار الاجتماعية السلبية للنمو غير المتكافئ، بشكل عام، النيوليبرالية تهدف إلى تبرير الوضع الراهن وتعزيز الأيديولوجية النيو ليبرالية. ويتم استخدام التاريخ بشكل انتقائي لدعم السياسات النيوليبرالية، وتجاهل أو تهميش الأدلة التاريخية التي تتعارض مع هذه السياسات.

***

غالب المسعودي – باحث عراقي

 

في عالمٍ عربي مأزوم، تتصارع فيه الهويات والولاءات، وتُختزل فيه قضايا الدين في شعارات أو مؤسسات تقليدية، يبرز فكر الدكتور عبد الجبار الرفاعي كمشروع فلسفي وإنساني يسعى إلى إعادة بناء العلاقة بين الإنسان والدين على أساس الرحمة، والتسامح، والكرامة الإنسانية. غير أن هذا الفكر، رغم عمقه واتساقه، قُدِّر له أن يُستقبل بحفاوة في فضاءٍ ثقافي دون آخر. فبينما لقي قبولًا وتفاعلًا واسعًا في المغرب العربي—رغم أن هذه المنطقة تضم عددًا من المفكرين البارزين في مجال التنوير وتجديد الخطاب الديني، من خلال نقد التراث والانفتاح على العلوم الإنسانية والدعوة إلى قراءة جديدة للدين تتلاءم مع متغيرات العصر—بقي هذا الفكر محدود الانتشار إلى حد كبير في المشرق العربي، وتحديدًا في بيئته الأصلية “العراق”، التي كان الأجدر أن تحتضنه.

يرجع هذا التباين في التلقي إلى جملة من الأسباب العميقة. فثقافة المغرب العربي، تاريخيًا، أكثر انفتاحًا على الفلسفة والأنثروبولوجيا ومقاربات الفكر الديني الحديثة. هناك، لا يُنظر إلى التجديد الديني بعين الشك، بل يُعتبر ضرورة لمواكبة العصر وتحقيق التوازن بين الإيمان والعقل. لذلك، كان لفكر الرفاعي، الذي يدعو إلى “لاهوت رحماني” يُحرّر الدين من أسر النصوص المغلقة والقراءات العنيفة، وقعٌ إيجابي لدى النخب الفكرية والجامعات والمؤسسات الثقافية في المغرب.

أما في المشرق، فالوضع أكثر تعقيدًا. إذ يرزح تحت وطأة صراعات طائفية وسياسية مزمنة، اختلط فيها الدين بالهوية والانتماء، حتى أصبحت كل دعوة إلى تجديد الفكر الديني تُقرأ في ضوء الانقسام لا الإصلاح. في بيئة كهذه، لا يجد مفكر مثل الرفاعي مكانًا رحبًا، لأنه لا ينتمي إلى المؤسسة الدينية التقليدية، ولا يهادن السلطة، بل يطرح رؤية معرفية تهدم الأسس الجامدة وتعيد بناء العلاقة مع الدين من منظور إنساني وأخلاقي.

يقدّم الرفاعي، عبر كتبه ومجلته قضايا إسلامية معاصرة، طرحًا جريئًا لمسألة الإيمان، يتجاوز منطق الفروض والحدود، ليبحث عن الله في أعماق التجربة الإنسانية. وهو ما جعل صوته مسموعًا في مجتمعات تبحث عن خطاب ديني جديد، غير دوغمائي، يُخاطب العقل والروح معًا.

لقد آن الأوان للمشرق العربي، وخصوصًا العراق، أن يعيد النظر في فكر مفكريه، وعلى رأسهم الدكتور عبد الجبار الرفاعي، وأن يتبنى أفكارهم التنويرية التي تتماشى مع روح العصر—عصر الذكاء الاصطناعي والنهضة الرقمية—دون الخوف من قوة ما يحملونه من تحولات تهدد السائد والجامد. فمثل عبد الجبار الرفاعي لا يُقاس حضوره الجغرافي، بل بتأثيره في ضمير الأمة.

***

د. سعد عبد المجيد ابراهيم

 

من سوء حظ الإنسان أنه لم يُخلق زنبقاً. فلو كان كذلك، لما تورط في هذه المهزلة الكونية التي نسميها "الازدواجية". نعم، نحن الكائنات التي ابتُليت بالعقل، نجد أنفسنا دائماً بين شيئين: بين ما نحن عليه وما نظن أنه يجب أن نكونه، بين "أنا" الواعي و"أنا" المشتت بين صور الإنستغرام وتحليلات كارل يونغ.

الإنسان، هذا الكائن المأسور في منتصف الطريق بين جوهره وغايته، يلوك الزمن كمن يلوك لبانة فقدت طعمها منذ القرن الرابع قبل الميلاد، عندما جلس بارمنيدس تحت شجرة زيتون وقرر أن "الوجود واحد" — ونحن منذ ذلك الحين نحاول أن نثبت له أنه مخطئ.

لكن مهلاً، لماذا لا نكون مثلا زهوراً؟ على الأقل الزهرة لا تقلق بشأن الغد، ولا تراجع بريدها الإلكتروني قبل النوم، ولا تدخل في نوبة قلق وجودي لأن صديقاً لم يُعجب بصورتها الأخيرة! كيركجارد، الفيلسوف الدنماركي ذو المزاج الميلانكولي، فهم المسألة جيداً، وكتب ذات مرة في نشوة غريبة: "دعونا نتعلم من الزنبق... الزنبق لا يقول ’أنا‘". وهذا وحده كافٍ ليجعلنا نشعر بالنقص أمام نبتة لا عقل لها ولا طموحات، لكنها أكثر انسجاماً مع الكون منّا.

الرغبة، في رأي كيركجارد، اختراع شيطاني ابتدعه اليأس كي يحافظ على مكانته بين البشر. الزهرة لا ترغب، الزهرة تزهر. ببساطة. أما نحن، فنريد أن نكون سعداء، مبدعين، ناجحين، محاطين بالإعجابات، وأن ننقذ الكوكب في عطلة نهاية الأسبوع. قال نيتشه ذات مرة: "كل رغبة هي قيد"، ونحن بلا شك مقيّدون إلى درجة أن الزنابق تضحك علينا في سرّها.

في الحقيقة، لو توقفنا عن قول "أنا" في هذه الضوضاء الوجودية، ربما وجدنا السلام. لكننا نعيش في زمن يجعل من الصمت تهديداً أمنياً، ومن السكوت عن الذات جريمة ضد السيرة الذاتية. وحتى حين نحاول أن نصمت، نضع صوراً لذلك على "ستوري" الإنستغرام مصحوبة بهاشتاغ: #تأملات_عميقة.

ما يدعونا إليه كيركجارد ليس الهروب إلى كهف ولا اعتناق الزهد الرقمي، بل ببساطة أن نصغي للحياة بصمت، أن نشارك في الوجود دون أن نحاول تصحيحه. ألا نسأل الزهرة عن سبب تفتحها، ولا الطير عن موعد هجرته. أن نحيا كمن يقول: "كفى"، مثلما كتب ألبير كامو، "أن يوجد الإنسان فقط، هو فضيحة كافية بحد ذاتها".

جيل دولوز تساءل ذات يوم: "ما الذي يمكن أن يفعله الجسد؟"، سؤال يبدو كمزحة غليظة على مسامعنا المثقلة بالمسؤوليات والبطاقات البنكية المنهكة. لكن ربما في هذا السؤال يكمن الخلاص: أن نكتشف ماذا يمكن لأجسادنا أن تفعل بعيداً عن لغة المواعيد والتقويمات والأهداف. أن نعيش اليوم لأنه "اليوم"، وليس لأنه الجمعة أو نهاية الشهر.

الزنبق لا يطرح أسئلة، لا ينظر إلى الأعلى ويتساءل: "هل أنا كافٍ؟"، بل يزهر حتى في التربة الفقيرة، في الريح، في الغبار، لأنه لا يعرف معنى الفشل أو المقارنة. كتب كيركجارد: "انظر إلى العشب في الحقل، كما هو اليوم". وهو دعوة لأن نكون "اليوم"، لا كفكرة مجردة، بل ككائن حي يتنفس الحياة ولا يضطر لتفسيرها.

إن الفرح ليس شعوراً، بل موقف وجودي، حالة من الامتزاج اللحظي مع اهتزاز العالم. أن تكون فرِحاً، يعني أن تكون الآن، تماماً، بلا شروط، بلا تفسيرات. وهذا ما تفعله الزهرة.

وبالتالي، لعلّ الحل في كل هذا الهوس المعرفي والقلق الوجودي ليس أن نفهم الحياة، بل أن نكفّ عن التشويش على إيقاعها. ألا نحاول إصلاح الذات كما لو كانت مشروعاً هندسياً معيباً. أن نكتفي — ويا لها من شجاعة! — بأن نكون مثل الزنبق: صامتين، مزهرين، متصالحين مع أن "الوجود... يكفي".

***

الأستاذ محمد إبراهيم الزموري

ترجمة: د. هاشم نعمة

ستند مفهوم الدولة-الأمة على ثقافة عامة تطورت منذ الثورة الفرنسية، وعلى عمل المنظرين الألمان مثل هيغل. وهو يفترض تماثل باللغة والمعتقدات، وليس بالضرورة بالدين. في أوروبا وآسيا، تدعم الأساطير التاريخية فكرة أن الأمة تطورت على مدى قرون عديدة، وانتصرت على كثير من الأعداء، وطورت طرقا فريدة لعمل أشياء معينة، قد تكون هذه بسيطة أو معقدة مثل امتلاك لغة فريدة من نوعها.

دخلت الأساطير والتقاليد واللغة التي يُزعم أنها أعطت شكلاً للدولة القومية (تُترجم الدولة-الأمة إلى الدولة القومية في اللغة العربية، المترجم) في صراع مع التنوع الثقافي كونه طريقة لدمج المهاجرين الوافدين أو الأقليات الإثنية الأخرى، وهو ما يثير بالتالي الاستياء. إذ يُفضل الاستيعاب أو الذوبان على المستوى الرسمي وعلى مستوى غالبية الجمهور. قد يجد أولئك الذين هاجروا من دول قومية أخرى، من الصعب عليهم تقبل ذلك. لذلك فإن التنوع الثقافي لديه الكثير ليقدمه لهم. وينطبق الشيء نفسه على الأقليات الأصلية التي قد يكون لديها وطن إثني في المجتمع الأكبر. يمكن أن يكون لدى هاتين المجموعتين الاجتماعيتين استراتيجيات مختلفة للتعامل مع الاغتراب عن الثقافة المهيمنة. قد يسعون إلى تفويض السلطة داخل الوطن إذا كانوا من السكان الأصليين أو يمكن أن يفضلوا التواصل الاجتماعي مع أبناء البلد إذا كانوا من المهاجرين الوافدين. توجد على نطاق واسع كلا الاستجابتين في أوروبا، وتُدعم أحيانا من الاتحاد الأوروبي. ومع ذلك، في الماضي، غالبا ما تم رفض كلتا المجموعتين الاجتماعيتين، واعتبارهما مثيرتين للانقسام وانتقاد رعاياهما، وعزلهم أو في الحالات القصوى طردهم تماماً. وكان الشكل الأكثر تطرفا للإصرار على الثقافة المشتركة الموحدة تمثّل في ألمانيا النازية. يعكس الكثير من الدعم الأوروبي للتنوع الثقافي الرغبة في رفض هذا التاريخ. لكنه غالبا ما يعكس القيم الديمقراطية الليبرالية التي تؤمن بأن الأشخاص يجب عليهم أن يختاروا قيمهم وأسلوب حياتهم بأنفسهم. يتوفر التنوع الثقافي على تأثير كبير كأسلوب إداري لدمج المهاجرين الوافدين في الدول الإسكندنافية. أما الاستيعاب أو الذوبان في الدولة-الأمة فقد كان له تأثير أكبر في اليونان والنمسا وبولندا وهنغاريا. حديثا، بدأ منهج الاستيعاب في الإتحاد الأوروبي يثير تحديا للتوافق بشأن التنوع الثقافي. فقد قلل انتخاب الحكومات المحافظة من دعم التنوع الثقافي في دول مثل السويد، كما حدث في كندا وأستراليا في وقت سابق.

إدارة التنوع الثقافي

معظم بلدان الدولة-الأمة متنوعة ثقافيا ودينيا، وأصبحت بشكل متزايد على هذا النحو بسبب سهولة السفر وحجم الهجرة. لم يأخذ حق تقرير مصير الأمم القائم على افتراض الوحدة الإثنية بنظر الاعتبار وجود أقليات ضمن الأمة أو الجدوى الاقتصادية لحق تقرير المصير. وقد واجهت أيضا كثير من الدول نزاعات إثنية وحركات قسرية للسكان في داخل حدودها، مما أدى إلى ظهور فئة اللاجئين لدى الأمم المتحدة للأشخاص النازحين داخليا. أطلق تحرك الفقراء نحو المجتمعات الغنية والمضطهدون نحو ملاذات أكثر أمنا العنان لتغييرات كبيرة في البلدان التي استقبلت هؤلاء الأشخاص. كان الهدف بشكل أساسي هو إدارة تأثير هذه التغييرات التي اطلقت عليها السياسات بصورة عامة مصطلح "التنوع الثقافي" والتي جرى اعتمادها في العديد من الديمقراطيات المتطورة منذ سبعينيات القرن العشرين.

تستند معظم الدول-الأمم على أساطير الثقافات المشتركة والمعتقدات والمُثُل والإرث. ومن المثير للاهتمام، لا يجري اعتبار الدين دائما عاملا مهما للتوحيد. مع ذلك، شهد في الواقع معظم الدول-الأمم في الآونة الأخيرة درجة من التفتت الثقافي بعد قيام العديد من الدول الجديدة ما بعد الاستعمار التي لديها تراث متنوع، وكذلك نتيجة زيادة تنوع البنية الإثنية للسكان والتي نشأت من الهجرات الكبيرة. وقد واجهت الحكومات مهمة إدارة هذا التنوع، باعتبارها حارسة المُثل الوطنية وتحافظ على التماسك الاجتماعي.

تتباين إدارة التنوع على نحو كبير باختلاف قوانين السلطات الإدارية. ففي ألمانيا والولايات المتحدة وأستراليا وجنوب أفريقيا وكندا ونيوزلندا ربما كان العرق عاملاً رئيسا في تحديد الحقوق المدنية، ولكن لم يكن هذا الحال في المملكة المتحدة أو فرنسا. فاللغة الفرنسية هي اللغة الرسمية في فرنسا ولا توجد لغة أخرى تتمتع بهذا الوضع، بينما في جنوب أفريقيا والتي حجم سكانها مشابه لفرنسا توجد أحدى عشرة لغة رسمية. فقط العامل المشترك في السياسات اللغوية في الديمقراطيات هو تمتع اللغات "الأصلية" بوضع رسمي (الويلزية، الإيرلندية، الفريزية، الباسكية)، لكن لغات "المهاجرين" (البنجابية، البنغالية، التاميلية، الغوجاراتية، الصينية) لا تتمتع بهذا الوضع على الرغم من أنه يجري غالبا التكلم بها من قبل عدد كبير من الأشخاص. وقد يُجرى امتحان المهاجرين باللغة الرسمية قبل حصولهم على الجنسية. ولا تشكل عادة امتحانات الدين قاعدة لـلحصول على الجنسية، وقد حُضرت دستوريا في الولايات المتحدة وفرنسا وأستراليا.

بغض النظر عن العامل الإثني واللغة، تشمل العوامل الأخرى التي يمكن التعامل معها في الديمقراطيات المتنوعة ثقافيا في أوروبا، وفي أماكن أخرى، الولاءات الخارجية والتقاليد والممارسات والمبادئ القانونية. يُدار التنوع غالبا من خلال سياسات الجنسية والتي تختلف في الدرجة التي يحافظ بها المواطنون على هويتهم الثقافية. وقد سُمح بالجنسية المزدوجة للمواطنين في الولايات المتحدة وأستراليا فقط في بداية القرن الحادي والعشرين، وكان مسموحا بها دائما بالنسبة إلى البريطانيين. واستنادا إلى تشريع يعود تاريخه إلى عام 1911، تستند الجنسية الألمانية على الأصل الألماني، وفقط حديثا أصبحت متاحة بسهولة للأخرين.

التنوع الثقافي، الاندماج، الاستيعاب أو الانصهار

يتمثل الملمح الأساسي للتنوع الثقافي الذي يتميّز عن الأساليب الأخرى لإدارة التنوع الإثني باعترافه باستمرار تأثير التنوع الإثني ورعاية ذلك في تقديم الخدمات وحماية الحقوق، وعادة ما يتم ذلك بالتشاور مع المتضررين. هذا المنهج يرفض مفهوم استيعاب أو انصهار المهاجرين الوافدين بثقافة الأغلبية في مجرى الحياة. فهو يتوافق بشكل مريح مع مفهوم المساواة الإثنية، ولكن ليس مع النسبية الثقافية، لأنه منهج ليبرالي في الأساس. يذهب هذا المنهج أبعد من الليبرالية الكلاسيكية في الحفاظ على لغات وأديان وثقافات الأقليات، شريطة أن تعتبر الدولة أن هذه الأمور متوافقة مع التماسك والانسجام الاجتماعيين. وتتمثل النسخة المتطرفة من التنوع الثقافي في قيام اللامركزية أو الفيدرالية على أساس ثقافي، كما في الهند. وكان النموذج الأصلي قد طُبق في الاتحاد السوفيتي ويوغسلافيا وانهار مع نهاية الأنظمة الشيوعية .ونادرا ما يكون الجانب الديني أساسا لمثل هكذا لامركزية. ولا يزال مثال واحد باقيا في إيرلندا الشمالية، والذي أنشأ عام 1921 لحماية الأقلية البروتستانتية من سيطرة إيرلندا الكاثوليكية.

يستخدم المعارضون للتنوع الثقافي على نحو متكرر شبح الفدرالية الإثنية أو الانفصال، وبأنه يهدد تماسك الدول-الأمم الموجودة. لكن الفدرالية الإثنية أو الانفصال تحتاج عادة إلى أساس جغرافي قابل للتطبيق، في حين يتوزع المهاجرون الوافدون على مدن مختلفة. وقد اعتمد انفصال كيوبك (لم تستقل كيوبك بعد، المترجم) في كندا والفدرالية السويسرية على مبدأ "الوافدون الأوائل" وليس على الهجرة الوافدة الحديثة.

تبنت الديمقراطيات التنوع الثقافي منذ سبعينيات القرن العشرين عندما كانت أغلبية السكان من المسيحيين، رغم كون هذا التبني إسميا فقط. وجرى تعريف الإثنية عادة على أساس علماني، وخاصة المصطلحات اللغوية. وحتى هذا الوضع قد يكون مزعجا سياسيا، كما في بلجيكا، ولكن في الغالب جرى حل ذلك عبر تبني ثنائية اللغة (كما في كندا وإسبانيا وويلز ونيوزيلاندا وفنلندا وسويسرا). لم تكن توجد قبل سبعينيات القرن العشرين، أي ديمقراطية غربية تتوفر على عدد مهم من السكان غير المسيحيين قائم على أساس جغرافي، حيث جرى تعريف قضايا الأقليات في دول مثل الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وهولندا بمصلحات عنصرية أو إثنية. لكن هذا الوضع تغير بسرعة وأحيانا على نحو دراماتيكي في الفترة بين 1970 و2000.

***

.....................

الترجمة عن كتاب:

Juliet Pietsch and Marshall Clar, (eds.), Migration and Integration in Europe, Southeast Asia, and Australia, Amsterdam University Press, 2015, pp. 57-60.

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم