قضايا

قضايا

هذه الحياة ما هي إلا استراحة من العدم، استراحة مؤقتة ربما تكون مدتها 56 عاما كما عاش نيتشه، أو 98 عاما كما عاش راسل، أو حتى سويعات قليلة مثل الأطفال الذين يولدون بأمراض قاتلة ويموتون في يومهم، وبالتالي كل ومدة استراحته هنا. لكن لنتأمل في مفهوم الاستراحة هذا، استراحة من ماذا؟ من العدم؟ كيف يمكن أن يكون العدم مرهقا؟ لم نكن نفعل أي شيء سوى أننا لم نكن موجودين، هل أرهقنا عدم الوجود؟ لا أصدق ذلك، لم نكن نحس ولا نعي أي شيء لكي يرهقنا وضعنا الأول، فلماذا قررنا ترك العدم لكي نرهق أنفسنا في هذا الوجود؟ ربما يكون مصطلح العدم الذي نصف به حالتنا الأولى قبل أن يقدف بنا في هذا العالم مجرد سوء استخدام للغة ولا معنى له  كما يقول فتغنشتاين، لكن أين كنا وكيف يمكن أن نصف عدم وجودنا الأول؟ صراحة لا أتذكر نفسي هناك... لكن إذا حاولنا تذكر ما حصل، سندرك أننا كنا حيث لم نكن، فجأة وجدنا أنفسنا هنا، أنا وأنتم في سباق مع ملايير المعدومين الآخرين الذي أرهقهم عدم وجودهم لسبب مجهول طبعا، في سباق مسافته 12 سم، وهذا طول ما يسمى قناة فالوب، وهي التي كانت مسؤولة عن نقلي ونقلكم من العدم إلى الوجود، أقصد إلى البويضة لنوجد بعد العملية البيولوجية بين الأب والام  والتي لم يعطى لنا الاختيار فيها إذا كنا نريد هذه الاستراحة أم لا. هل طلبتها أنا؟ لا صراحة لا أذكر ذلك ولا انتم طبعا، فكيف ستطلبون استراحة من عدم فعل أي شيء، تلك النرفانا والأتراكسيا التي كنا منطفئين فيها والتي تفقدها الآن..

 نحن الآن نفرق بين حالة العدم الأولى وحالة الوجود الحالي، لكن هل يمكن أن يوجد العدم بدون وجود، يقول سارتر أن العدم ليس هو الافتقار إلى الوجود، بل العدم مرتبط ارتباطا وثيقا بالوجود ولا وجود لعدم بدون وجود، أو بدون موجود في الوجود ليفكر في عدمه الأول لذلك لم نكن ندرك عدمنا الأول، فتحتم ربما وجودنا لكي ندرك عدمنا الأول.. لكن ما قيمة إداركنا وتفكيرنا في حالتنا الأولى؟ ما فائدة ذلك؟ ما همنا بذلك؟ هل مل منا العدم لدرجة أنه قدف بنا إلى الوجود لندركه؟ هل احتاج لنا؟

وهذا سؤال مشابه للسؤال الشهير حول لماذا خلقنا الله؟ هل احتاج لنا لكي يصبح إله؟ وإذا لم يكن احتاج لنا ويعتبر إله بدوننا فآنذاك إله من؟

يا لها من استراحة عدمية مليئة بالأسئلة التي لا جواب قطعي عليها...

***

الكاتب: أمين ديونيسيوس

 

الداعي لتدوين هذه السطور، نقاش جرى مع زميل من أهل العلم، حول ما ظننته فهماً متناقضاً للمال والملكية الفردية، كامناً في تكويننا الثقافي، على نحو يجعلنا نستقتل في طلب المال، لكننا – في الوقت ذاته – نتهم من يفعل هذا، غيرنا طبعاً، بعبادة المال والطمع في الدنيا وزخرفها.

وتحفل الأدبيات التراثية بذم الدنيا، التي يجري تجسيدها دائماً أو غالباً في تملك المال. والحق أن أدبيات السلف لا تخلو من تقبيح الفقر وتبجيل الغني، إلا أن هذا من قبيل الاستثناء. أما القاعدة العامة فهي تميل للنظر السلبي إلى المال والدنيا في الجملة.

حين توفر الذاكرة التاريخية/ الثقافية قيمتين متعارضتين، يمكن لهما أن تعملا في الواقعة والزمان نفسهما، فإن عقل الإنسان سيختار القيمة التي تلائم التوقعات السائدة في المحيط في تلك اللحظة. وهذا يظهر واضحاً في تقييم صاحب المال والساعي إليه. فواحد يمدحه لأن المحيط راغب فيه، وآخر يشكك في نزاهته، لأن المستمعين كارهون له. وقد يكون الظرف العام في زمن أو مكان بعينه، محفزاً على القدح أو العكس. لكن نستطيع القول بصورة عامة، إن عامة الناس لا يخفون رغبتهم في الاقتراب من أصحاب الأموال وكسب رضاهم، وفي الوقت ذاته كراهيتهم والارتياب في مصادر أموالهم، بل النزوع إلى عدّهم سارقين، ما لم يتأكد العكس. وتشيع روايات تدعم هذا الاتجاه مثل القول المنسوب للإمام علي بن أبي طالب: «ما جاع فقير إلا بما متع به غني».

ويبدو لي أن الجذر العميق لهذي الازدواجية، متصل بالمبدأ الذي يدعي أن الفساد هو الطبع الأوليّ للإنسان، بمعنى أنه لو ترك من غير قياد ولا رقابة، فسيعمد للإفساد وارتكاب المنكرات. ولهذا فإن مناهج التربية والتعليم، فضلاً عن ثقافة الوعظ الديني والإرشاد الأخلاقي، ركزت جميعاً على تقبيح الأدوات التي ربما تعزز قدرة الإفساد في الانسان، وأبرزها المال. ونعرف أن الصورة الذهنية الموروثة، تنظر للمال بصفته «وسخ دنيا»، بدل اعتباره ضرورة للعمران والارتقاء المادي والمعنوي. وثمة عشرات من النصوص التي تؤكد ذلك المعنى بصور مختلفة، مثل وصفه بعرض دنيوي، هو النقيض الطبيعي للآخرة، ومثل الربط بين امتلاك الثروة، والاستئثار والتكبر، والتمرد على أمر الخالق.

ومما يثير العجب أن كثيراً مما ورد في القرآن في ذم المال، مربوط بالدنيا عموماً وبالبنين خصوصاً، نظير قوله «إنما أموالكم وأولادكم فتنةٌ». (التغابن: 15).

لكن لسبب ما، ركزت الثقافة الموروثة على سلب قيمة المال، بينما اتخذت اتجاهاً معاكساً حين يتعلق الأمر بالأبناء، الذين أصبحوا مصدر اعتزاز وتفاخر. وتبعاً لهذا جرى إبراز الروايات التي تدعو لإكثار النسل.

يحتمل أن هذا التوجيه، مع ما ينطوي عليه من ظلال دينية تمنع تقييده بظرف زماني أو مكاني أو عرف محلي، قد ساهما في تشكيل موقف مرتاب من المال، في الذهنية العميقة للجمهور العربي والمسلم، تنعكس بشكل فوري تقريباً على من يتمثل فيه، أي الأثرياء والساعين للثروة، وكذلك المؤسسات العاملة في حقل المال، مثل البنوك، بل أي رمز للمال. ولعلي لا أبالغ لو قلت إن حوادث مصادرة الأموال التي تكررت في تاريخ العرب الحديث، لا سيما في القرن المنصرم، ربما تشير إلى التأثير القوي لتلك الذهنية، وإن تلبّست بمبررات وصور مختلفة.

كان عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر قد عرض صورة شبيهة لهذا، شائعة في الأدبيات الكاثوليكية خصوصاً. فهو يقول إن النص الديني هناك يركز كثيراً على تذكير الإنسان بخطاياه، وشحنه بالقلق على مصيره الأخروي. وحين يسائل نفسه أو يسأل مفسري التراث عن السبب الذي ربما يودي به إلى الهلاك، يخبره التراث بأنه الاغترار بالمال وزينة الدنيا.

***

د. توفيق السيف – كاتب وباحث سعودي

 

توطئة: حين يتحوّل الإرث إلى مقام للتأمل

ثمة سِيَر لا تُقرأ كما تُقرأ التواريخ، بل تُلامَس كما تُلامِس آثار الأقدام القديمة ضفاف نهر الجور، حين يُبللها صباحٌ جنوبي جديد: رطبة بالحكاية، متجذّرة في الطين، وتحمل في رائحتها سلالة الذكرى.

فرانسيس دينق ليس فقط صوتًا فكريًا نادرًا خرج من هشيم السودان، بل هو سردية مكتوبة بجمر الذاكرة وسؤال المعنى.

ابن الزعيم دينق مجوك، أحد أعمدة قبيلة الدينكا، تلك القبيلة التي لا تُقاس بحجمها ولا بثقلها الرمزي فحسب، بل بقدرتها العجيبة على حمل الوطن في تفاصيل الحياة اليومية، في الحكاية، في الغناء، في علاقة الإنسان بالنهر والسماء، وفي مقاومة محو الجوهر الوجودي للذات.

فرانسيس، في كتابه عن والده

The Man Called Deng Majok،

لا يكتب فقط عن الأب، بل عن البذرة التي خرج منها سؤال الهوية، سؤال العدالة، وسؤال الدولة.

كان يعرف منذ البدايات أن الشجرة التي لا تتأمل جذورها، تُقلعها أول ريح.

ولأن التكوين لا يتم في أرض واحدة، كان لا بد لفرانسيس أن يعبر نهر المعنى: من أبيي إلى الخرطوم، ومن جامعة الخرطوم إلى كولومبيا في نيويورك، حيث التقى بالعالم لا بوصفه عالِمًا فقط، بل بوصفه شاهِدًا.

في جامعة كولومبيا، كما في الأمم المتحدة، حمل معه ليس فقط أوراق القانون، بل الندبة السودانية التي لا تكف عن النزيف: الهوية كعبء، التنوع كمصدر قلق لا كقيمة، والانتماء كعملية قيد التشكل، كما لو أن كل محاولة للفهم ليست إلا أطروحة لم تكتمل بعد.

في نيويورك، حيث التقى بالعالم، لم يكن دينق مجرد مهاجر يحمل أوراق اعتماد أممية، بل رجلٌ يضع على طاولة الأمم معضلة اسمها السودان.

لم تُغرِه العواصم بالانفصال عن جذوره، بل عمّقت فيه شعور الغريب الذي يتعلم كيف يُعبّر عن محليته بلغة كونية.

في كولومبيا، حيث تتداخل الأنثروبولوجيا مع القانون والفكر السياسي، تبلورت عند البروفيسور فرانسيس دينق تلك الصيغة النادرة: أن تكون مفكرًا أفريقيًا دون أن تُصبح ضحية للابتزاز الثقافي، وأن تصوغ خطابًا أمميًا دون أن تذوب في الرواية البيضاء.

ذلك الإرث القبائلي، المتشعب والعميق، ظلّ حاضرًا في وجدان فرانسيس لا كماضٍ يُروى، بل كصيغة دائمة لتأويل الحاضر.

فيها يتعلم الطفل أن يُصغي لحزن البقرة كما يُصغي لحكمة العجوز، ويعرف الرجل موقع الشمس من ظلّ الأغصان كما يعرف حدود سلطته من صمت السماء.

كان يمكن لفرانسيس دينق أن يكون مجرد رجل قانون آخر، يقف على أعتاب المؤسسات الدولية بوصفه ممثلًا لملف، لا حاملًا لذاكرة.

لكنه، ومنذ البدايات، اختار أن يقف في مواجهة هشاشة التاريخ، لا أن يكتفي بتفسيره.

في سيرته، كما في مرافعاته الأممية، نلمس ذلك التوتر النبيل بين أن تكون منتميًا لجذرٍ قديم، وأن تُعيد صوغه بلغة لم تُصنع لأجله. بين أن تحمل قبيلتك في دمك كإيقاع داخلي، وأن تشرحها للعالم كأنك تترجم حلمًا شفهيًا بلغة لا تعرف الطمي.

الدينكا بالنسبة له لم تكن تصنيفًا إثنيًا ولا إشارة في بطاقات التعريف، بل سردية حيّة، مصنوعة من الطين والدم والماء.

في "رجل يدعى دينق مجوك" لا نعثر على سيرة زعيم فحسب، بل على ما يشبه مخطوطة مغموسة في الحليب المُقدّس ورماد المواقد القديمة؛ عن رجلٍ لم يكن يرى الزعامة سلطة، بل طقسًا من طقوس الحماية، وشكلًا نادرًا من أشكال الأخلاق.

كتب فرانسيس عن والده كما يُكتب عن بلدٍ صغيرٍ يسكنه بكامله، لا كمرافعة في تمجيد خاص، بل كشهادة على إمكان الحكم دون نفي، وعلى معنى أن تُقاس الزعامة لا بمساحة السيطرة، بل بقدرة الصبر على الاستمرار.

لقد فهم فرانسيس، منذ نعومة التجربة، أن الهوية ليست بطاقة تُبرزها عند الحدود، بل مرآة تُكسر عند كل سؤال صعب.

كان يكتب عن النزوح الداخلي لا بوصفه ملفًا إغاثيًا، بل كجرح حضاري: ماذا يعني أن يُقتلع الإنسان من أرضه لا بسبب كوارث الطبيعة بل بسبب عجز الدولة عن أن تكون حضنًا لا سيفًا؟ وماذا يعني أن نطلب من الناس “أن يعودوا إلى ديارهم” حين تكون الديار أول من خانهم؟

لكن الحكاية لم تكن فقط عن الزعامة والهوية، بل عن التمزق الداخلي، عن الغريب الذي كتب عن وطنٍ ظل يخذله دون أن يسقط من قلبه.

لم يكن الشتات عند فرانسيس دينق حادثة عبورٍ خارج الوطن، بل تشكّلًا داخليًا في وجه وطنٍ ظلّ ينفي نفسه. فالسودان الذي عرفه لم يكن خريطة جغرافية بل خريطة قلق، خريطة تتغيّر ملامحها كلما حاول أحدهم أن يعترف بالجميع دون أن يُقصي أحدًا. ومن هذا القلق وُلد صوته: صوتٌ يُسائل لا ليُدين، ويُفكّك لا ليُخرّب، وينتمي دون أن يتورّط في التقديس.

كان يعلم أن في داخل كل “متحدث أممي” ظلّ إنسان يبحث عن وطن، لذلك لم تكن مهمته الأممية تقنية، بل وجودية. كان يُدرك أن النزوح ليس فقط حركة قسرية من مكان إلى آخر، بل أيضًا انزلاقٌ من تعريفٍ إلى آخر، من نظرة ذاتية إلى نظرة فوقية، من لغة البيت إلى خطاب الأمم. وهنا، بالضبط، انحنى ليكتب، لا بالحنين فقط، بل بالمسؤولية: أن تُعيد تشكيل الذات في مواجهة خطاب لا يعترف بذاتك إلا بوصفك قضية إنسانية مؤقتة.

في نيويورك، لم يكن يعيش اغترابًا، بل يكتبه. لم يكن جزءًا من النخبة الدولية التي تتحدث باسم الضحايا، بل كان – ولا يزال – من القلائل الذين يجرؤون على القول: أنا أحد هؤلاء، لا من باب التمثيل، بل من باب الجرح. كانت كلماته، حتى في أكثر لحظات البروتوكول برودة، تحمل أثر تراب أبيي، وصوت دينق مجوك، وشجن الأغنية التي لم تكتمل في صدر الراعي حين جاءت الحرب.

ولعلّ أعظم ما فعله فرانسيس أنه لم يدّع النقاء، بل قبل بالتعقيد. لم يُقدّم قبيلته كـ”نموذج للسلام” ولا نفسه كـ”جسر بين الهويات”، بل قدّم الكلّ كما هو: هشّ، قابل للانقسام، ومع ذلك جدير بالمحاولة.

تلك هي الكرامة كما عرفها: أن تسكن المعنى دون أن تفرضه، وأن تمشي في العالم وأنت تحمل وطنك في صوتك لا في أوراقك.

تلك العلاقة المرهفة بين الوطن والصوت، كانت عند فرانسيس دينق نثرًا آخر للمقاومة.

لم يكن على فرانسيس أن يخترع قضية، بل أن يستمع لصوتها وهي تنشج في داخل اللغة.

منذ البداية، لم يُغره المجد الأكاديمي ولا بهرجة المؤتمرات، بل كان مأخوذًا بذلك السؤال القديم: من نكون حين نُجبر على أن نكون شيئًا واحدًا؟ كان يدرك أن خطورة الهوية لا تكمن في غموضها، بل في اختزالها. فالهويات، كما كتب لاحقًا، لا تتشكل عبر الانتماء فحسب، بل عبر الألم، وعبر مقاومة تلك اليد التي تريد أن تُلصق بك اسمًا واحدًا إلى الأبد.

ولهذا، كان يكتب كمن يُعيد تشكيل شتاته في جملة. كل كتاب له كان محاولة لفك طلاسم الانقسام السوداني، لا بوصفه سياسيًا أو دينيًا فقط، بل بوصفه انقسامًا بين صورتين للذات: الذات كما تريد أن تُرى، والذات كما تُكره أن تكون. وبين هاتين الصورتين، تتشكّل المنطقة الرمادية التي يسكنها المنفيون في الداخل والخارج، أولئك الذين لا يتكلّمون لغتهم الأم إلا بخجل، ولا يثقون بلغة الآخر إلا بحذر.

ولم تكن كتاباته عن الدينكا نوعًا من الفلكلور، بل تمسكًا عنيدًا بذلك الجزء من الذات الذي لم تمسّه بعد آلة الصهر الثقافي. كان يرى أن في رواية القبيلة مقاومة صامتة للزمن الذي يريدنا بلا ذاكرة. ولعل ذلك ما جعل من كتاباته عن مجتمعه ليست مجرد شهادات إثنوغرافية، بل مرايا ملغزة، تعكس فيها الدينكا ككينونة، لا كهوية عرقية فقط، بل كبنية معرفية: في طريقة السرد، في إيقاع الاسم، في قيمة الحليب والرمز والمجتمع.

في كل سطر، كان يُشبه من يبحث عن اسم قديم في حُطام رسالة، عن نغمة لم تُسجّل لكنها ما زالت تعيش في ذاكرة الجدّات. وربما لهذا لم يكن يكتب ليُقنع، بل ليُذكّر. فالكتابة عنده ليست إثباتًا، بل استدعاء. ليست صراعًا على التعريف، بل دعوة للتأمل في هشاشة هذا التعريف

ولأن الذات لا تُبنى في الفراغ، كان لا بد من العودة إلى البيت الأول، حيث لا تبدأ الحكاية من فكرة، بل من كثافة النسل، وتفرّع الاسم.

في البدء، لم يكن البيت بيتًا واحدًا، بل أرخبيل من البيوت. كان فرانسيس واحدًا من مئات الأبناء الذين حملوا اسم دينق مجوك، ذلك الزعيم الذي لم يكن يكتفي بأن يُدير القبيلة، بل أراد أن يُقيمها في الجسد والذكرى. تزوّج دينق مجوك من أكثر من مئتي امرأة، وأنجب ما يزيد على أربعمائة طفل وطفلة، لا كرمًا نرجسيًا، بل كأنّما يريد للقبيلة أن تتضاعف لتواجه وحدتها بالعُرف، وهشاشتها بالعدد، وشتاتها بالاسم.

في هذا الفضاء العائلي الذي لا تحدّه جدران، تعلّم فرانسيس منذ طفولته أن لا أحد يُقيم لنفسه سردية خاصة، بل كل قصة جزء من نسيج أكبر. كان صوته يتكوّن داخل جوقة واسعة، فيها الكبير والصغير، وفيها النائم بجانب البقرة كما النائم بجانب القصيدة. لم يكن يشعر بالوحدة، لأن المفرد في عرف الدينكا لا يُعوّل عليه. فالفرد ابن الجماعة، والجماعة ذاكرة تمشي على قدمين.

قبيلة الدينكا لم تكن بالنسبة له مجرد انتماء وراثي، بل طريقة في النظر، في الإحساس بالزمن، في تقدير الأشياء، في الصمت كما في الطقوس. فيها، الكلمة لا تُقال عبثًا، والاسم لا يُطلق إلا ليكون توقيعًا على علاقة. وحين غادر الوطن، لم يكن يفرّ من شيء، بل كان يحمل كل هذا الإرث في حقيبة صغيرة، يعرف أن العالم الذي سيواجهه لا يعترف بالقبائل إلا بوصفها عائقًا، وأن عليه أن يعلّم العالم كيف تُصبح القبيلة رؤية لا وصمة.

من هناك، من تلك الحقول التي تُربّي الأغاني كما تُربّي الماعز، عبر فرانسيس إلى الخرطوم، ومنها إلى نيويورك، وهناك كانت كولومبيا. لم تكن الجامعة مجرّد محطة نُحصل فيها على المعرفة، بل كانت بالنسبة له موقعًا لإعادة صياغة الذات: كيف تظلّ وفيًّا لذلك الطفل الذي يتبع ظلّ والده الزعيم، وأنت في قاعة يُناقش فيها العالم معنى “الهوية التفاوضية”، و”تفكيك الخطاب”، و”التاريخ الشفاهي”؟

في كولومبيا، لم تُفكك القبيلة فيه، بل تعمّقت، اكتسبت لغة جديدة. هناك، أدرك أن النَسَب يمكن أن يتحوّل إلى أداة نظر، وأن الزعامة التي نشأ في ظلّها ليست نهاية، بل بداية لسؤال أطول: ماذا يعني أن تكون ابنًا لزعيم، في بلدٍ يكفر بزعمائه كل صباح.

لم يكن فرانسيس دينق مشروع دولة، بل مشروع ذاكرة. لا يبحث عن دورٍ يلعبه، بل عن أثرٍ يُترك بهدوء، كما تُترك خطوات الأب في تراب القرية حين يعود ليلًا من مجلس الحكم. لم يسعَ إلى الشهرة، بل إلى أن يُحافظ على حكاية كانت مهددة بالذوبان. ولأنه لم يكن مشغولًا بصناعة صورة، ظلّ وجهه يشبه صوته: ناعمًا، حازمًا، لا يُحب الضجيج، ولا يخشى العُمق.

وحين نقرأه اليوم، لا نقرأ مفكرًا من جنوب السودان فقط، بل مرآة قلقة لسودانٍ بكامله، لم يتعلّم بعد كيف يحضن تنوّعه دون خوف، ولا كيف يُصغي إلى صوته الداخلي دون أن يرتبك. فرانسيس لم يُطالب بشيء، بل طرح أسئلته في صمتٍ عالٍ، كما يفعل الحكماء حين لا يملكون سوى لغتهم.

لقد كتب كي يُبقي الباب مفتوحًا بين القبيلة والعالم، بين الأب والهوية، بين الذاكرة والتأمل، وكي يُخبرنا، نحن الذين نُكابر كل يوم بأننا وحدويون أو علمانيون أو ثوريون، أن كل تلك التسميات لا تصمد أمام مشهدٍ واحد: طفلٌ يستمع لصوت والده الزعيم، لا ليتعلم السياسة، بل ليتعلم الصبر.

ربما، في النهاية، لم يكن يريد أن يكون شيئًا آخر سوى هذا: ابن رجلٍ يُدعى دينق مجوك، وساردٌ بارع، لم يتخلّ عن قبيلته وهو يدخل الأمم المتحدة، ولم يتخلّ عن أمته وهو يكتب بالإنجليزية عن الألم.

فرانسيس دينق، بما حمل وما ترك، لم يكن ظاهرة فكرية، بل حارسًا صامتًا لذاكرة ظلّ الناس يفرّون منها، فيما هو ظلّ يعود إليها كلما كتب.

لأن الذاكرة، حين تخذلنا الخرائط، لا تحتاج إلى مؤسسات، بل إلى رجلٍ يعرف أن يكتبها كما تُحكى: ببطء، وبصوتٍ لا يُجيد الاستعراض، لكنه لا يُخطئ الطريق.

***

إبراهيم برسي – باحث سوداني

 

تعد نظرية ميشيل فوكو من أبرز النظريات التي تناولت العلاقة المعقدة بين السلطة والمعرفة في العصر الحديث. فالسلطة في فكر فوكو ليست مجرد مؤسسة أو هيكل سياسي فوقي، بل هي مجموعة من العمليات والعلاقات التي تخترق جميع جوانب الحياة الاجتماعية. هذه العلاقة بين السلطة والمعرفة تكشف عن الطبيعة الشمولية التي يمكن أن تتخذها السلطة في العصر الحديث، حيث تنتقل من البنى السياسية التقليدية إلى التأثير على الأفراد في أبسط أفعالهم اليومية. وعلى الرغم من أن فوكو قدم تحليلًا عميقًا وواسعًا لهذه الديناميكية، فإنه من المهم أن نتساءل عن حدود هذا التحليل وتداعياته على الأفراد في المجتمعات المعاصرة.

في المراقبة والمعاقبة (1975)، يقدم فوكو تصورًا جديدًا للسلطة يتجاوز الفهم التقليدي لها. في هذه الدراسة الشهيرة، يرى فوكو أن السلطة ليست مجرد قمع أو هيمنة فاعلة من قبل الأفراد أو المؤسسات العليا، بل هي نظام معقد من العلاقات يتخلل كل جزء من أجزاء المجتمع. في هذا السياق، يشير فوكو إلى:

السلطة ليست شيئًا يُؤخذ أو يُحتفظ به، بل هي شيء يُمارس ضمن شبكة من العلاقات [1، ص: 92].

هذه المقولة تكشف عن عمق فكر فوكو، الذي يعتقد أن السلطة ليست مرتبطة بأفراد أو هيئات معينة، بل هي متغلغلة في العلاقات الاجتماعية اليومية، تبدأ من المدرسة والمستشفى، وتصل إلى البيت والمجتمع بشكل عام. والسلطة، بحسب فوكو، ليست مقتصرة على الرقابة المباشرة، بل تسيطر على الأفراد من خلال أنظمة المعرفة التي تُنتجها المؤسسات الاجتماعية المختلفة.

إحدى الإسهامات الكبرى لفوكو في هذا السياق هي فكرته عن المراقبة الذاتية أو التأديب الذاتي. ففي المجتمعات الحديثة، لم تعد السلطة بحاجة إلى أدوات القمع المباشر كما في الأنظمة الاستبدادية القديمة، بل أصبح الأفراد يراقبون أنفسهم ويتبعون القواعد التي تفرضها الأنظمة الاجتماعية من خلال التنشئة الاجتماعية والتعليم. هذا الشكل الجديد من السلطة لا يتطلب تدخلًا مباشرًا من الأفراد المسيطرين، بل يتم تنفيذه عن طريق تطبيع الأفراد لأنفسهم، مما يجعلهم جزءًا من النظام الاجتماعي بشكل طوعي، وإن كان ذلك دون وعي.

وفي هذا الصدد، يشير فوكو إلى أن السلطة لا تقتصر على الهيمنة الجسدية المباشرة، بل تمتد إلى تنظيم الحياة اليومية والتفاصيل الصغيرة فيها. في المراقبة والمعاقبة، يتحدث فوكو عن كيفية استخدام المؤسسات الحديثة مثل المدارس والمستشفيات والسجون لتنظيم الأفراد وتوجيههم نحو سلوكيات متوافقة مع الأنظمة الاجتماعية. يقول فوكو:

السجن يسكن في المدرسة، في المستشفى، في البيت [2، ص: 101].

السلطة هنا ليست قوة قمعية تفرض نفسها على الأفراد من الخارج، بل هي قوة تأديبية تُملى على الأفراد من الداخل، بحيث يصبح كل فرد جزءًا من شبكة من الرقابة التي تضمن تماشيه مع الأيديولوجيات السائدة. ولكن هنا تبرز نقطة مهمة، وهي هل يمكن للإنسان في هذا السياق أن يحقق تحررًا حقيقيًا من السلطة؟ وهل النقد الفوكوي للسلطة سيؤدي إلى إيجاد نقطة انطلاق للتحرر، أم أنه يعيد إنتاج السلطة بشكل جديد؟

إحدى النقاط التي يجب أن نأخذها في الاعتبار في هذا السياق هي فكرة فوكو عن المعارضة. بينما كان فوكو يطرح تحليلات نقدية عميقة حول السلطة، فإنه في الواقع لا يقدم أي بدائل ملموسة للتحرر من هذه السلطة. بل على العكس، نجد أن فكرته حول السلطة كما هي في الكلمات والأشياء (1966) تشير إلى أن الإنسان نفسه ليس سوى تمثيل للخطابات الثقافية والتاريخية التي تتشكل داخل المجتمع. في هذا الكتاب، يُصرح فوكو:

الإنسان اختراع حديث، وربما على وشك الزوال [3، ص: 387].

هذه الفكرة تؤكد على أن الإنسان، في نظر فوكو، ليس كائنًا ثابتًا أو ثابت الوجود، بل هو نتاج لخطابات وأيديولوجيات معينة. يزعم فوكو أن الإنسان ما هو إلا ثمرة هذه الخطابات التي تُنتجها الأنظمة الاجتماعية المختلفة، مما يجعل كل فرد مجرد انعكاس للسلطة. وبالتالي، من المستحيل على الأفراد الهروب من هذه السلطة لأنها متغلغلة في تفكيرهم وسلوكهم، بل وفي هويتهم.

إذن، إذا كانت السلطة تتحكم في الإنسان إلى هذا الحد، فإن السؤال الذي يطرحه العديد من المفكرين هو: كيف يمكن للإنسان أن يناضل ضد هذه الشبكة المعقدة من السلطة والمعرفة؟ هل يمكن أن توجد مقاومة حقيقية ضد سلطة أصبحت متأصلة في الحياة اليومية؟ ما يقدمه فوكو هنا هو مفارقة: فهو يدعي أن السلطة مستمرة في إعادة إنتاج نفسها بطريقة أكثر تعقيدًا، مما يجعل أي نوع من المقاومة يُخضع في النهاية للسلطة نفسها. وإذا كانت المعرفة التي ننتجها في المجتمعات الحديثة مشروطة بالسلطة، كيف يمكننا التوصل إلى معرفة حقيقية أو تحرير فكر الإنسان؟

وفي هذا الإطار، أقول: في عالم ملأته الشبكات والأيديولوجيات، يبقى السؤال مفتوحًا: هل يمكن للإنسان أن يتحرر فعلاً، أم أننا نعيش في دوامة من الحرية الوهمية التي نصنعها لأنفسنا؟ إن فوكو، رغم تحليلاته العميقة والمركّبة للسلطة، لا يقدّم بديلاً جذريًا للتحرر. بل يمكن القول إن نقده للسلطة يعيد تشكيل هذه السلطة في أشكال أكثر دقة، لتصبح أكثر صعوبة في المقاومة أو الفهم.

***

الكاتب: سجاد مصطفى حمود

.....................

الهوامش والمراجع:

[1] ميشيل فوكو، المراقبة والمعاقبة، ترجمة: فوزي كمال، دار الجمل، ط1، 2004، ص: 92

[2] ميشيل فوكو، المراقبة والمعاقبة، ترجمة: فوزي كمال، دار الجمل، ط1، 2004، ص: 101

[3] ميشيل فوكو، الكلمات والأشياء، ترجمة: سالم يفوت، المركز الثقافي العربي، ط2، 2010، ص: 387

التأويل الشعائري للعنف يُمكن ان يفهم على انه جزء من شعائر اجتماعية أو دينية تعبر عن قوى أكبر،  قوى ميتافيزيقية أو الآلهة تعتمد على سياق ثقافي او تاريخي معين ويمكن أن يُنظر إليها على أنها افعال مقدسة .يُلعب التأويل الشعائري للعنف دورا مهما في تعزيز مشاعر الانتماء و الوحدة الجمعية ويمكن ان  يؤدي أيضًا إلى تفكك اجتماعي أو صراعات، تتداخل السرديات التاريخية مع التأويل الشعائري وتستخدم الأحداث التاريخية لتبرير أشكال متعددة من العنف، دراسة هذه الظواهر تتطلب نقدًا مستمرًا للسرديات السائدة، حيث يمكن أن تكشف عن تحيزات أو روايات متناقضة في الفهم وبناء تأويل شعائري للعنف بناء على ذلك، كما يساعد  النقد المنهجي في تحليل كيفية تشكيل المجتمعات لقصصها الخاصة، وكيف يمكن أن يؤثر ذلك على السلوك الجماعي وطبيعة العلاقات الاجتماعية.

إعادة صياغة الهوية الجماعية

تستند السرديات التاريخية أحيانا إلى أحداث تاريخية مؤلمة، يعزز شعور الافراد بأنهم ضحية يؤدي الى ردود فعل عنيفة، كما تستخدم لتأكيد هوية جماعية تستند إلى مظالم تاريخية، مما يُحفز الأفراد على استخدام العنف دفاعًا عن هذه الهوية. قصص الأبطال الذين قاموا بأعمال عنف ضد الظلم تعطي مبررًا لارتكاب أعمال مشابهة تستخدمها السرديات الدينية لتبرير العنف، حيث يُعتبر العمل العنيف جزءًا من الجهاد أو الدفاع عن العقيدة، كما تُستخدم السرديات لتصوير الخصوم المحليين كخطر وجودي، مما يُبرر استخدام العنف كوسيلة للدفاع عن النفس، ويتم استخدام أحداث تاريخية منتقاة لتأكيد فكرة أن العنف هو الوسيلة الوحيدة لضمان البقاء.

الاستغلال السياسي

تستغل  هذه السرديات لتحفيز الجماهير على دعم السياسات أو الأفعال العنيفة، اذ يُعاد تأطير الصراعات المعاصرة في سياق تاريخي لإضفاء الشرعية على العنف، مما يجعل الأفراد يشعرون بأنهم جزء من تاريخ طويل ،تُسهم السرديات التاريخية السائدة في إقصاء الروايات البديلة التي  تدعو إلى السلام أو التفاهم، مما يُعزز من دوامة العنف من خلال الاستخدام الشعائري المستمر لسرديات تاريخية تبرر العنف، و يتم تشكيل وعي جماعي يمكن أن يؤدي إلى تكرار دورات العنف في المجتمعات، مما يجعل من الضروري استجواب هذه السرديات وتعزيز الحوار حول روايات أكثر سلامًا .

العنف واشتراطات الحضارة

التأويل الشعائري للعنف واشتراطات الحضارة يرتبطان بشكل معقد، حيث يلعب كل منهما دورًا في تشكيل فهم المجتمعات للعنف والحضارة،  يتضمن التفسير  جزء من الشعائر أو الطقوس التي تعكس قيمًا ثقافية أو دينية في بعض الثقافات، مثال ذلك يُعتبر العنف جزءًا من طقوس تعبر عن القوة أو التضحيات، مما يُضفي عليه طابعًا مقدسًا، يمكن أن يُعزز التأويل الشعائري من قبول العنف كوسيلة لتحقيق أهداف معينة، مثل الدفاع عن الهوية أو العقيدة، لكن اشتراطات الحضارة تشمل مجموعة من القيم الأخرى التي تتضمن المؤسسات القانونية ،الإدارية ،الاقتصادية، والممارسات التي تُحدد هوية مجتمع وتُعزز حضارة متقدمة  بالتالي تتعارض مع التأويلات العنيفة ،حيث تعتمد الحضارات على نظم قانونية تحد من استخدام العنف،  في كثير من الأحيان يحدث صراع بين التأويلات التقليدية للعنف وبين القيم الحديثة التي تدعو للسلام والتفاهم لذا يجب أن تُعاد صياغة التأويلات الشعائرية للعنف في سياقات حضارية جديدة، مما يُقلل من تأثير التأويلات الشعائرية للعنف في فهم العلاقة بين التأويل الشعائري واشتراطات الحضارة ويساعد في تحليل كيفية تأثير القيم الثقافية على السلوك العنيف، والدعوة إلى التفكير في طرق بديلة تساعد على تعزيز قيم التسامح في المجتمعات المعاصرة.

دور الدين في التأويل

يُستخدم الدين لتفسير العنف كجزء من إرادة إلهية أو وسيلة لتحقيق العدالة، بعض النصوص الدينية تُشرع العنف في سياقات معينة، مثل الدفاع عن العقيدة أو الحرب المقدسة ،يُعزز هذا من شعور الانتماء إلى جماعة معينة، و يُمكن أن يُحفز الأفراد على استخدام العنف دفاعًا عن هذه الهوية الشعائرية  المرتبطة بالعنف كما يؤدي الى  بناء رابطة قوية بين الأفراد، لذا يُمكن استغلال الدين لتأطير الصراعات على أنها صراعات مقدسة، مما يُضفي شرعية على العنف، و يساهم التأويل الشعائري في جعل العنف ممارسة مقبولة أو حتى مطلوبة، مما يُعزز من انتشاره في المجتمعات التي تعيش في مستوى متدني في  السلم الحضاري الإنساني،  واعتبار العنف  وسيلة عادية لحل النزاعات، التأويلات العنيفة تُسهم في تقسيم المجتمعات إلى معسكرات متصارعة، مما يزيد من حدة التوترات والصراعات ويمكن أن تؤدي إلى تأجيج الكراهية بين الجماعات المختلفة، يؤدي التأويل الشعائري للعنف إلى آثار نفسية سلبية على الأفراد، مثل الشعور بالذنب أو الخوف ويُعزز من العزلة الاجتماعية ويُقلل من فرص الحوار والتفاهم بين الجماعات المختلفة،  دور الدين في التأويل الشعائري للعنف يظهر كيف يمكن أن يُستخدم كأداة لتبرير العنف وتشكيل الهويات الجماعية، مما يؤثر بشكل عميق على السلوك الاجتماعي والنفسي، يتطلب التعامل مع هذه الظواهر فهمًا عميقًا للتاريخ والثقافة والدين، وضرورة تعزيز قيم التسامح والحوار.

التحديات

التبرير الشعائري للعنف يواجه تحديات متعددة تتعلق بالثقافة، الدين، التعليم، وسائل الإعلام، الانقسامات الاجتماعية، والعوامل الاقتصادية، يتطلب التصدي لهذه التحديات استراتيجيات شاملة تتضمن التعاون بين المجتمع المدني، المؤسسات التعليمية، ووسائل الإعلام ،من خلال التعاون بين مختلف القطاعات، يمكن بناء مجتمعات أكثر سلامًا وتسامحًا ، عندما تكون هناك حالة من الجمود أو عدم الحركة، قد تواجه الاستراتيجيات المقترحة تحديات إضافية، منها التحديات التي  تواجهها هذه الاستراتيجيات في أوقات الصمت، رغم ذلك يمكن تحقيق النجاح من خلال التحفيز، فتح قنوات الحوار، استخدام وسائل الإعلام بشكل فعال، الأنظمة المدنية المستقرة التي تدعم التسامح وحقوق الإنسان يمكن أن تسهم في نجاح هذه الاستراتيجيات من خلال وجود إطار قانوني يدعم السلام ويعاقب على العنف ويُعزز من فعالية الحركة، الظروف الاقتصادية الجيدة تُساعد أيضا على تقليل الإحباط، مما يجعل الأفراد أقل عرضة للتمسك بالعنف. توفر فرص العمل يمكن أن يقلل من مشاعر الإقصاء ويعزز من الاستقرار الاجتماعي، تتأثر نجاح الاستراتيجيات بعدة عوامل تشمل البيئة السياسية، الظروف الاقتصادية، التكنولوجيا، التنوع الثقافي، المشاركة المجتمعية، التأثيرات الخارجية، فهم هذه العوامل وتوجيه الجهود بشكل مناسب يمكن أن يُعزز من فعالية الاستراتيجيات الرامية إلى تقليل آثار التبرير الشعائري للعنف.

العمى الثعلبي في إدارة ازمات العنف المعاصرة

العمى الثعلبي، في سياق ثقافي، يشير إلى حالة من الغفلة أو عدم الوعي تجاه الحقائق أو القضايا المهمة في المجتمع ويشير إلى الانغلاق الفكري أو عدم القدرة على رؤية الصورة الكاملة بسبب التمسك بالسرديات التاريخية الضيقة. هذا يؤثر على فئات مجتمعية مختلفة. ان تطوير مناهج تعليمية التي تركز على التفكير النقدي وتحليل السرديات التاريخية ودعم الدراسات التي تبحث في السرديات التاريخية وتأثيرها على الفهم المعاصر، كما ان نشر الأبحاث والمقالات التي تقدم رؤى جديدة حول السرديات التاريخية، تنظيم حملات توعية تهدف إلى نشر الوعي حول تأثير السرديات على الأزمات المعاصرة كذلك استغلال وسائل الإعلام لنشر محتوى يعزز من الفهم الشامل للأزمات في مواجهة "العمى الثعلبي" يتطلب جهدًا مشتركًا من جميع الأطراف. من خلال تعزيز الوعي النقدي، فتح قنوات الحوار، وإعادة تقييم السرديات، يمكن بناء مجتمعات أكثر وعيًا وقدرة على التعامل مع ازمات العنف المعاصرة بشكل فعّال الناتجة عن السرديات التاريخية غير الموثقة اركيولوجيا.

***

غالب المسعودي – باحث عراقي

 

هناك مفاهيم فلسفية تتداولها الكتب التي تعني بالفلسفة لكنها مجرد مفاهيم لا تنتمي الى الفلسفة الحقة ولا الى العلم، لقد انكرها العلم الحديث لكونها قد وضعت نفسها في خدمة الأنظمة الدكتاتورية واصطفت مع رجال الدين المتعصبين في فترة العصور الوسطى في واربا التي تميزت بسيطرة الكنيسة والاقطاع، كذلك شهدت قارة آسيا نفس هذه المظاهر اثناء حقبة السيطرة الاستعمارية، ومن هذه المفاهيم مفهوم (الغائية).

تعاريف الغائية

عرفت الغائية عدة تعاريف منها انها (نظرية مثالية تعتقد ان كل ما في الكون موضوع لغاية مقررة سلفاً وان العمليات الجارية في الطبيعة هي عمليات واعية مقصودة ان ما يراه الغائيون شيء يجانب الحقيقة تماماً، ان الأهداف والغايات ملازمة لنشاط الانسان فقط علماً بأن هذا النشاط نفسه تحدده ظروف موضوعية خارج إرادة الانسان)1.

وعرفها ارسطو (بانها القاعدة الطبيعية فكل شيء يتحرك نحو غاية). وعند كانت... (ان يكون الشيء غاية امر داخلي راجع الى طبيعة الشيء نفسه..) المعجم الفلسفي مراد وهبة 482.

ويربط البعض السببية بالغائية كقولهم: ان هناك سبب او علة وراء كل حدث في الوجود، غير ان السببية هي من المفاهيم الرئيسية التي قام عليها العلم التجريبي منذ ارسطو والمادية الديالكتيكية ترى انه لاتوجد في الطبيعة دون ان يكون لها أسباب، فالسببية مفهوم فيزيائي مادي يختلف عن الغائية. فالغزالي مثلاً في كتابه: تهافت الفلاسفة يقول (ان السبب في النار تحرق ليس هو النار ولكن إرادة الخالق الذي جعلها تحرق، ويمكن اذا أراد الخالق ان يجعل النار برداً وسلاماً كما هي الحال في معجزة إبراهيم الخليل.

وقد اكد القرآن في بعض آياته على مبدأ الغائية كما جاء في الآية (ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلاً سبحانك – آل عمران 191.

وكذلك (وما خلقت الجن والأنس إلا ليعبدون) الذاريات 56.

و (والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة) النحل (8)

وجاء في سورة (المؤمنون) 115 (أفحسبتم انا خلقناكم عبثاً وانكم الينا لا ترجعون)

نقد الفكر الغائي

وجهت انتقادات كثيرة الى الغائية منها: لنأخذ المطر مثلاً فلو سألنا أي انسان ماهي الغاية من سقوط الامطار؟ لأجابنا على الفور: لسقي المزروعات، ولكن المطر ينزل على الشوارع المعبدة وعلى العمارات والبيوت والسيارات وعلى البحار والمحيطات وهذه لا تحتاج الى مطر وليت فيها مزروعات وتنزل هذه الامطار على الصحراء الافريقية الكبرى وهي في امس الحاجة الى المياه، يسقط المطر على كوخ من الطين ويتسبب في موت ساكنيه، فهل ان غايه الاله هي قتل سكان هذا الكوخ المساكين الذين لا ذنب لهم سوى انهم فقراء؟

لقد انتقد الفكر العلمي التنويري الغائية انتقاداً لاذعاً لأنهم ذهبوا الى القول (ان الاله خلق الشجرة خضراء لأن اللون الأخضر نافع للعين والانف مخلوق للنظارات) كما دحض العلم الحديث النظرة الغائية فقد أطاحت نظرية دارون بنظرة الغائية في علم البيولوجيا اذ بينت ان تكيف الاحياء مع حياتها ينبع من عوامل مادية. وقد علق المفكر (انجلز) ساخراً على الفكر الغائي بالقول (لقد خلقت القططة كي تأكل الفئران وخلقت الفئران كي تأكلها القططة..). 

***

غريب دوحي

.........................

* مذاهب ومفاهيم في الفلسفة: الدكتور عبد الرزاق مسلم، ص 79.

الجِدال جِدالان: جِدالٌ بالتي هي أحسن، وجِدالٌ بالتي هي أخشن.  جِدالٌ حِواري، باحث عن الحقيقة، وجِدال مكابرة، ومغالبة، هادفٌ إلى الانتصار للذات والجماعة، بحقٍّ أو بباطل.  ومعظم خطابنا الثقافي العَرَبي اليوم وبالأمس من هذا النوع الأخير.  وأكبر كَسْب الإعلام العَرَبي- المادِّي والمعنوي- من هذه العقليَّة العُربانيَّة، ذات الحميَّة الجاهليَّة.  يُسوَّق ذلك تحت شعارات مُدَّعاة، مثل «الرأي والرأي الآخَر»، و«الحِوار»، و«حقِّ الاختلاف». ولا ريب أن الحِوار سبيل إلى كشف الحقائق، عبر المنهاج التداولي الديالكتيكي، الذي يحفِّز الأذهان في تلاقحها على الوعي المعرفي، وإدراك الأبعاد الفكريَّة وزوايا النظر المختلفة. وهو أمرٌ أعلى شأنه الفلاسفة الإغريق في حِواراتهم المشهورة؛ لما أيقنوا به من جدواه.  لكنك إذا تأمَّلت المسرحيَّة العَرَبيَّة، أدركتَ أن لا «رأي ولا رأي آخَر»، بل هو رأيٌ واحدٌ مبيَّت، يعلو ولا يُعلَى عليه، ولا «حِوار» هنالك، بل خُوار، وهِراش، ونِفار، ولا إيمان بـ«حقِّ الاختلاف»، بل إيمان بحقِّ الاختطاف، لادِّعاء الحقيقة المطلقة، التي يعتقد كلُّ طرفٍ أنها تسري منه مسرى الدم!  أمَّا آداب الحِوار، فحدِّث ولا حرج!  وخير نموذج عليه مراقبة أداء المذيعين العَرَب، ما شاء الله تبارك الله! 

هكذا هجم (ذو القُروح) ذات مساءٍ على ضيوفه! قلت له:

ـ أما وقد فتحتَ علينا باب النار هكذا، فدعنا نحاورك أنت!

ـ تفضَّل!

ـ أما لِلإشكال الذي تشير إليه جذورٌ ثقافيَّة؟

ـ ذكر (المسعودي)(1)، أنه كان من الأُمم المخلوقة قبل (آدم)، «أُمَّةٌ طوال، خفاف، زُرق، ذات أجنحة، كلامها فرقعة.»  فلعلَّ هؤلاء من نسل أولئك! 

ـ وإنْ كان للفرقعة عند أولئك معنى، ما دامت لُغة، وليست فرقعة فارغة، كبعض ما تسمع من أصحابنا! 

ـ المذيع العَرَبي يُلَقْلِق غالبًا أكثر من الضيف، بل لا يترك للضيف أن يُكمل جملةً مفيدة؛ لأنه لا يفرِّق بين الحِوار على قناة تلفازيَّة والحِوار في الشارع، أو الردح في المقهَى؛ لينتهي الأمر إلى ضوضاء فظيعة، ترفع ضغط المتابع دون أن يخرج بفائدة. إنَّ المذيع في عالمنا العَرَبي لا يسمع ما يقال أصلًا، ولا يفهم ما يقوله الطَّرَف الآخَر، ولا يعنيه في شيء، وإنما جاء ليثرثر بما أعدَّه سَلَفًا أو أُعِدَّ له، حتى إذا أفرغ ما في جعبته، قال: «شكرًا»، فجأة، «داهمنا الوقت»! 

ـ كأنك تقول: المذيع العَرَبي، غالبًا، لسانه متبرئٌ منه، وتلك اليوم مهارته الوحيدة للعمل في الإعلام!

ـ لا تدري كم نسبة المؤهَّلين منهم ليعملوا في الإعلام من الأساس؟  ومن جهة أخرى، فإنَّ ضيف الحِوار العَرَبي، إذا سُئل سؤالًا، يُفترض أن يجيب عنه في دقيقة، فَغَرَ فاه إلى أجلٍ غير مسمَّى، ولن يقفله، حتى يَشْرَق، أو ينقطع صوته، أو تصيبه أزمة قلبيَّة، أو ينقطع خطُّ الاتصال إذا كان عن بُعد، أو يفقد المذيع عقله، أو تنتهي الحلقة- لأنَّ الوقت دائمًا يداهم المذيع- وبالجملة حتى تحدث كارثة كونيَّة تُلجِمه نهائيًّا! 

ـ يعجبني الإنصاف!

ـ يحدث هذا في إعلامنا، ومن ظنَّ أنَّني أبالغ، فما عليه سِوَى أن يقارن الحِوارات في وسائل الإعلام العَرَبيَّة وغيرها من الوسائل في العالم.  وتلك ثقافةٌ قديمة؛ فلسان العَرَب المحيط ولا كُلُّ الألسنة!  حتى في ساحات الجدال المذهبي الدِّيني بين المسلمين. مع أنَّ الجِدال منهيٌّ عنه، حتى مع غير المسلمين، إلَّا بالتي هي أحسن. لكنك راءٍ أقبح أساليب الجدال في هذا الميدان بخاصَّة. حتى لينتهي كثيرًا إلى التكفير، والتفسيق، والتبديع، والتشريك، والاستعداء، والاستقواء، ومن ثَمَّ هدر الدِّماء، تصريحًا أو تضمينًا. 

ـ إِلامَ الخُـلْـفُ بَـيـنَـهُـمُ إِلامـا؟   :::   وهَذِي الضجَّةُ الكُبرَى عَلاما؟

ـ لأنَّ لوثة العصبيَّة لا شِفاء لها، عادةً، إلَّا بالكَيِّ من خلال القوانين التربويَّة والمدنيَّة. وغياب ثقافة الحِوار هو من عوامل غياب فنِّ المسرح في تراثنا العَرَبي.(2)

ـ «فَعَدِّ عَمَّا تَرَى إِذْ لا ارْتِجاعَ لَهُ»، وأفتني في أمري حول بعض ما يَشيع على شبكة «الإنترنت» من شِعر الشعراء المحدثين، ممَّا قد يكون أعجب ممَّا تجده من شِعر القدماء. 

ـ ما الأمر؟

ـ أمور، منها قصيدة منسوبة إلى (الجواهري)، تبدو على ركاكة نظمها- قياسًا إلى شِعر الجواهري على الأقل- مضطربة الوزن.  ولقد كنتُ أشكُّ أنها له، حتى وجدتُها في ديوانه «المحقَّق».  وعنوانها «حَبَبْتُ الناس»، مؤرَّخة في 12/ 11/ 1965، (بُراغ). 

ـ أوَّلًا، استعمال عبارة «حَبَبْتُ» كَرِهَ بعضُ اللُّغويِّين القدماء التعبير بها، وأنكروا أنْ يكونَ استعمالها لفَصيح، مثل قول (غَيلان بن شُجاع النَّهْشلي):

أُحِبُّ أَبَا مَرْوَانَ مِنْ أَجْلِ تَمْرِهِ  :::  وأَعْـلَمُ أَنَّ الجَـارَ بالجَـارِ أَرْفَـقُ

فَأُقْسـمُ لَوْلاَ تَمْـرُهُ مَا حَبَـبْـتُـهُ  :::  ولاَ كَانَ أَدْنَى مِنْ عُبَيْدٍ ومُشْرِقِ

ـ « أَرْفَقُ» و«مُشرقِ»؟ كيف يستقيم؟

ـ وكان (المبرِّدُ) يَرْوِي الشطر الأخير:

وكَانَ عِيَاضٌ منهُ أَدْنَى ومُشرِقُ

وعَلَى هذه الرِّوَاية لا يكون فيه إقْوَاءٌ. وحكى (سيبويه): حَبَبْتُهُ وأَحْبَبْتُه بِمَعْنًى.(3) وقد قال (المتنبِّي)، وإنْ لم يكن حُجَّةً في العَرَبيَّة:

حَبَبتُكَ قَلبي قَبلَ حُبِّكَ مَن نَأَى  :::  وقَد كانَ غَدَّارًا فَكُن أَنتَ وافِيا

ـ ليس هذا موضع الشاهد في نصِّ (الجواهري)، غير أنه يمضي فيه هكذا:

حَبَبْتُ الناسَ والأجناسَ:

والدنيا التي يسمو على لذَّاتها الحبُّ للناسْ

حَبَبْتُ الناسَ والأجناسَ:

في الطِّفل الذي لا ينسُبُ الناسَ لأعراقٍ وأجناسْ

إلى أن يقول:

حَبَبْتُ الناسَ والأجناسَ:

في «الزنجيةِ» الحُلوةِ مَنْ لُفَّتْ وأهلوها بأكياسْ

حَبَبْتُ الناسَ والأجناسَ:

مَنْ شَبَّ، ومَنْ شابَ، ومَنْ أظلمَ كالفحمِ، ومَنْ أشرقَ كالماسْ

والنصُّ في ديوان الشاعر(4)، بلا تعليق من جامعي ديوانه ومحقِّقيه والمشرفين على طبعه، وهم فريقٌ من أربعة أساتذة، سبق أن توقَّفنا عند تقصيرهم في تدقيق نشرهم لديوان (الجواهري) في وقفةٍ سالفة!  لم يكلِّفوا أنفسهم بسِوى تصدير النصِّ بالقول إنها «القصيدة التي تصدَّرت «ديوان الغُربة»، وبها إهداء إلى: مَن أحبَّ من الناس. نُشِرت في «بريد الغُربة»، وط67 ج1و2.» 

ـ يا سلام! ما قصَّروا! ماذا تريد أكثر من هذا البيان؟!

ـ ولقد نشروا النصَّ بتنسيقٍ يوحي بأنه موشَّحة أو شِبه موشَّحة. 

ـ هو في الحقيقة ليس بقصيدةٍ تناظريَّة، ولا بموشحة، ولا حتى بقصيدة تفعيلة، ما لم يجر عليه بعض التعديل. وإنَّما أُعجِبَ الناس بمعناه، وببعض أنفاسه الشيوعيَّة، فنشروه على عُجره وبُجره وأذاعوه، دون التفاتٍ إلى مبناه.  ذلك أنَّنا إذا عددناه أهزوجة من (بحر الهزج)، لم يستقم؛ لأنَّ الهزج لا يأتي إلَّا مجزوءًا. وقد جاءت بعض أبياته على سبع تفعيلات، وبعضها على ثماني تفعيلات!  وإذا عُدَّ من (البحر الوافر) المعصوب الحشو، لم يستقم كذلك، لا من حيث عدد التفعيلات، ولا من حيث دخول زحاف (الكَفِّ) في الحشو، وهذا لا يدخل إلَّا في حشو الهزج. ولو عُدَّ من قصيدة التفعيلة، لوجب أن تقام فيها التفعيلة الأخيرة في بعض نهايات أسطره، لتكون على هذا المنوال:

...التي يسمو على لذَّاتها الحبُّ لكلِّ الناسْ

...الذي لا يَنسُبُ الناسَ لأعراقٍ ولا أجناسْ

...ومَن أظلمَ كالفحمِ ومَن أشرقَ مثلَ الماسْ  

ويبدو أنَّ تقييد جامعي ديوانه للقوافي هو عِلَّة هذا الخلل في الإيقاع. ذلك أنَّهم- كما يبدو- لاحظوا أنَّ القوافي لا تستقيم نحويًّا؛ فالشاعر واقع في الإقواء، بحيث يكسر قافيةً ويرفع أخرى، فقيَّدوا القوافي، تلافيًا لذلك العيب، واستراحوا. لكنهم بذلك أوقعوا النصَّ في عيوبٍ إيقاعيَّةٍ أشد.  ولو أنهم أَمَرُّوا النصَّ بكسر الرَّوِيِّ لاستقامت تفعيلاته.  غير أنهم سيواجهون (الإقواء).

ـ ماذا تعني؟

ـ سآتيك بالمعنى في المساق المقبل، بعون الله!

***

أ. د. عبد الله بن أحمد الفَيفي

...........................

(1)  (د.ت)، أخبار الزَّمان، تحقيق: عبدالله الصاوي، (بيروت: دار الأندلس)، 32.

(2)  وفي المقابل، فإنك تلحظ الثقافة المسرحيَّة طاغية على الثقافة الغربيَّة الجماهيريَّة.  حتى إن الجماهير ليصفِّق، ويصفِّر، ويتصايح، في التعبير عن الإعجاب، وإنْ كان في محاضرةٍ أكاديميَّةٍ جادَّةٍ يفترض فيها الوقار والهدوء!  يفعلون هذا وكأنهم يشاهدون عرضًا مسرحيًّا أو غنائيًّا، لاعتيادهم على هذه الأجواء.  وهو ما نستغربه نحن العَرَب في مقام كهذا ونستسخفه جِدًّا!  ولذا فنحن لا ندري كيف كان العَرَب يتفاعلون مع قصيدةٍ تلقى في سوق عكاظٍ، مثلًا، أو في المربد، أو غيرهما؟  أكانوا يصفِّقون؟!  نستبعد ذلك، ولم تَرِد به إشارة، على حدِّ علمنا.  ذلك لأنَّ التصفيق، أو التصفيح- كما كان يُسمِّيه العَرَب- أو التَّصْدِيَة، إنما ارتبط ببعض الطقوس الدِّينيَّة، كما كان العَرَب يفعلون في طوافهم بالبيت، وارتبط في غير ذلك بالنساء، كما في التنبيه على السهو في الصلاة. ولم يَرِد في روايةٍ أنَّ العَرَب- لا قبل الإسلام ولا بعده- كانوا يحيُّون الشعراء والخطباء بالتصفيق. وأغلب الظنِّ أنها بدعة غربيَّة جاءت إلى العَرَب حديثًا. غير أنه يُستنتج من بعض الإشارات، أنهم كانوا يعبِّرون عن الإعجاب ببعض العبارات، مثل: إيه، أحسنت، لا فُضَّ فوك، ونحوها. وذاك مبحثٌ آخر، ساقنا إليه التأمُّل في ثقافتين، ثقافة مسرحيَّة وأخرى غير مسرحيَّة، تتبدَّى آثارها في أساليب الحِوار والتفاعل الجماهيري.

(3)  يُنظَر: ابن سيده، المُحكَم والمحيط الأعظم، (حب)؛ ابن منظور، لسان العَرَب، (حبب).

(4)  (1975)، جمعَه وحققَه وأشرفَ على طبعه: إبراهيم السامرائي ومهدي المخزومي وعلي جواد الطاهر ورشيد بكتاش، (العراق: وزارة الإعلام)، 5: 243- 244.

قبل أيام، شاهدت مشهدًا عبثيًا يتكرر بلا مسؤولية: إحدى المؤسسات تستضيف "أستاذة لغة عربية" لتتحدث عن "حكم العنف في الشريعة الإسلاميَّة". فأين العلاقة؟ ما الذي يربط بين اختصاصها اللساني وبين علم دقيق كعلم الفقه؟

وأكاد أجزم، أنه لو طُلب منها أن تعرّف ما الفقه؟ أو ما الحكم الشرعيّ؟ أو ما الأصول العمليّة ؟ أو ما الواجب العيني والتعيني لتعطلت اللغة على لسانها.

هذا المشهد ليس معزولًا. قبله بأسبوع، ظهر طبيب عيون يتحدث في ندوة ثقافية عن "تفكيك البنية السياسية للدولة الحديثة"، مستعينًا بمفاهيم مثل "السلطة الحيوية" و"السيادة المجزّأة"، بينما بدا واضحًا أنه اقتبسها من مقالة في الإنترنت دون أدنى وعي بموقعها الفلسفي أو سياقها النظري.

وفي مناسبة أخرى، ظهرت مؤثرة في مواقع التواصل، تقدم نفسها بوصفها "مدرّبة وعي كوني"، لتتحدث بثقة عن "نظرية التطور" و"الفيزياء الكوانتية"، لتؤسس رؤيتها حول "الطاقة الإيجابية"، وسط تصفيق الحضور الذين لا يميزون بين ستيفن هوكينغ وكتاب تحفيزي من فئة "الأكثر مبيعًا".

إنه مشهد من مسرح اللامعقول، إذ تتقاطع السلطات المعرفية وتشتبك دون حراسة منهجية. وفي ظل هذا الانهيار المنهجي، تُغتال الفروق الدقيقة، وتُزحزح المفاهيم، وتُمارس السلطة الخطابية بلا أي مساءلة معرفية.

أليس من حقنا أن نسأل: كيف تحوّل المجال العام إلى ساحة فوضى معرفية؟ ومن منح هذا "الحق الخطابي" لمن لم يُؤهَّل له؟ وهل نحن أمام نهاية جدّية للتخصص؟ أم أمام ولادة نمط جديد من "الوعي المقلوب"؟

قرأت للمفكر العراقي ماجد الغرباوي حديثًا حول ما يمكن وصفه بـ(العقل الأداتي) حين يتحول الخطاب الدينيَّ إلى وظيفة، وها نحن اليوم أمام العقل الاستعراضي، إذ يتحول كل خطاب إلى عرض مسرحي، وكل فكرة إلى فتنة مسرحية مبتذلة.

ومن تجليات الواقع المأزوم في تعاطيه مع المشاريع العلمية، أن تُسند مهامه إلى غير أهله من الخبراء، وهذا المعنى عانى منه العلامة طه جابر العلواني وذاق مرارته، في مشروعه في المعهد العالمي للفكر الإسلامي، إذ ينقل الدكتور عبد الجبار الرفاعي، بعض تجليات الاستحواذ الذي هُمَّشَ بموجبه العلواني، قائلًا:" كانت إدارةُ المعهد العالمي للفكر الإسلامي وقتئذٍ تتألف من رئيس المعهد د. عبد الحميد أبو سليمان المتخصص في العلوم السياسية، مع مجموعة أعضاء لم يكن أحدٌ منهم متخصصًا في معارف الدين، إلا الشيخ طه جابر العلواني. وعلى الرغم من أنه أبرز مؤسسي المعهد، ومع مكانته الفكرية والفقهية، إلا أنه تعرّض للإزاحة بالتدريج عن قيادة المعهد، حتى أمسى منفيًا في أواخر من حياته. كنت كلما التقيت المرحوم العلواني يحدثني بمرارة ممزوجة بالأسى والسخرية عن استحواذ فريقٍ غير المتخصصين بالإسلاميات من زملائه على هذه المؤسسة المتخصصة بالمعرفة. وكان يشير بألمٍ إلى أن هذه الظاهرة أفسدت الفكر في بلادنا، بعد أن تسيد غير المتخصصين بالمعارف الإسلاميَّة وعلوم الإنسان والمجتمع، في مؤسسات ومراكز أبحاثٍ يُفترض بها أن تغني بالإسلاميات والمعارف الدينية، فأضحت هذه المؤسسات والمراكز يُخطط لها وتُرسم معرفتها من لا صلة معرفية له بذلك(1)."

اللافت هنا ليس فقط تهميش الكفاءة، بل استبدالها بمنطق "السلطة المؤسسية"، وهو منطق يُفرّغ المشروع من مضمونه، ويحوّل المعارف الإسلاميَّة إلى "سلعة رمزية" تُدار بلا وعي بجوهرها، مما يُفرز خطابًا مختل التوازن، لا هو أكاديمي دقيق، ولا هو شرعي رصين.

إن من أخطر ما نواجهه ليس فقط تهافت التخصص، بل ذوبانه في رغبة جماعية لإنتاج رأي متسرع وسهل وهشّ، لا يستند إلى تراكم، ولا يحترم حدود العلوم.

وهكذا، نصحو كل يوم على المزيد من المتطفلين على الفقه، والقرآن وعلومه، والفلسفة، والتاريخ، والفيزياء، والاقتصاد، لأن الساحة باتت بلا بوابات.

حضرتُ مؤتمرًا أكاديميًا عالميًا في إحدى الجامعات الأهلية، إذ اعتلى المنصّة رجلُ دين، لا بوصفه ضيفًا عابرًا، بل كصوتٍ واثق، يستعرض تاريخ العراق القديم، حضاراته، وآثاره، وكأنّ المعرفة قد اتخذت له سكنًا، وكأنّ التخصص الأكاديمي قد أُعيد تعريفه ليشمل من امتلك الحماسة ولباقة الخطاب. كان صوته ينساب فوق رؤوس الحاضرين كتيّار هادئ، ولكنّه – في عمقه – كان يغرق في بحر من التعميمات والاختزالات.

صادف أن جلس إلى جانبي أحد الخبراء الأركيولوجيين، من أولئك الذين تمرّسوا في الحفر، لا فقط في طبقات الأرض، بل في طبقات المعنى والدقّة. التفت إليّ، وعيناه تمتلئان بسخرية هادئة، وقال: "ما هذه المهزلة؟ أي علم هذا الذي يُدار هكذا؟".

كان الموقف برمّته تجسيدًا لما بعد الحداثة في أقسى صورها: انهيار الحدود بين التخصصات، وانفجار المعنى. في تلك الساعة، أدركت أنّ أزمة المعرفة- أمست ظاهرة عامة- ليست في نقص المصادر، بل في وفرة المتحدّثين .

ومن اللافت تأمليًا، ذلك التجلّي الصارم لاحترام المنهج عند علماء الإمامية في تعاملهم مع ظاهرة التعارض في توثيقات الرجال وتضعيفاتهم الروائية. فحين يقع التباين بين الشيخ الطوسي (شيخ الطائفة) والشيخ النجاشي، لا تُسلَّم الكفّة للأشهر أو الأوسع اشتغالًا، بل تُرجَّح كفّة النجاشي(2)، لا لاعتبارات رمزية أو سطوة تراثية، بل لأن الرجل اختصّ في علم الرجال وانغمس في فنونه، مكرّسًا له اشتغاله المعرفي. بينما الطوسي، وإن بلغ ما بلغ، فقد تفرّقت همّته على علوم شتى من الفقه والأصول والكلام والتفسير.

إنها ليست مفاضلة بين أسماء، بل بين منطقين: منطق التخصّص ومنطق التوزّع. يُقدَّم المُركِّز، لا لأن الانحصار يُفضي إلى ضيق، بل لأن التركيز يُنتج كثافة، وعمقًا، واستيعابًا بنيويًا للظاهرة.

***

أ. م. د حيدر شوكان السلطانيَّ

قسم الفقه وأصوله- جامعة بابل

................

1-  د. عبد الجبار الرفاعي، الدين والاغتراب الميتافيزيقي، الناشر: مركز دراسات فلسفة الدين – بغداد، الطبعة الثانية- 2019م، هامش 133.

2- ينظر: الشيخ جعفر سبحاني، دروس موجزة في علمي الرجال والدراية، الناشر: مركز المصطفى العالمي – إيران ،186.

يقول تحوت (إله الحكمة)" هذا الإختراع "الكتابة"، سوف يجعل المصريين أكثر حكمة وسوف يحسّن ذاكرتهم لأنه إكسير للذاكرة وللحكمة التي إكتشفتها". ويجيب تاموس، "هناك من هو اكثر ذكاءً ولديه القدرة على خلق الفنون لكن القدرة في الحكم على فائدتها او ضررها على منْ يستخدمها يعود الى شخص آخر، والان، انت أب الحروف منقاد بعاطفتك لتنسب لتلك الحروف قوة مضادة لتلك التي تحوزها حقا. لأن هذا الاختراع سوف ينتج نسيانا في أذهان اولئك الذين يتعلمون استعمال ذلك الاختراع، لأنهم سوف لا يمارسون ذاكرتهم". افلاطون، حوار فيدون

انه لأمر مدهش، كيف لنص كُتب منذ أكثر من ألفي سنة يمكن ان يكون ملائما للمشاكل التي نواجهها في المجتمع الحديث؟ في الاقتباس أعلاه من حوار فيدون لإفلاطون، يستعمل سقراط حوارا افتراضيا بين الإله المصري تحوت، مخترع الكتابة، وتاموس ملك مصر، ليوضح لفيدون أخطار الكتابة وتأثيراتها الضارة على ذاكرة المصريين، وهكذا هو يعتقد ان هذا سيزود الشعب المصري بالحكمة التي تمتد الى ما وراء قدراتهم الطبيعية.

مع ذلك، يجادل تاموس ان إختراع تحوت الجديد – تكنلوجيته الثورية الجديدة – سوف لن تساعد المصريين ليصبحوا حكماء. هم بدلا من منحهم قوة جديدة للتذكر، سوف يفوضون ذاكرتهم الى نظام خارجي، وبهذا سوف يفقدون قدرتهم الطبيعية للتذكر الداخلي التي هي حجر الاساس للمعرفة. ذاكرتهم ومن ثم حكمتهم سوف تتآكل لأن المعرفة تصبح وبشكل متزايد مخزونة في رموز خارجية.

لنتقدم الآن من 2400 سنة الى الحاضر. دعونا نتصور ان اختراع تحوت ليس الحروف وانما الانترنيت. انه أمر مذهل للغاية كيف ان الاقتباس أعلاه لايزال قابل للتطبيق. طبقا لحجة سقراط، الانترنيت سيكون أكبر وسيلة لفقدان الذاكرة الجماعية في التاريخ الانساني. ان قدرة الانترنيت على خزن الذاكرات لا محدودة، ورغم ان الكتب بدت تحسّن قدرة الذاكرة، لكن نزعتنا في الاعتماد على التكنلوجيا الحديثة، وخاصة الانترنيت، كبنك ذاكرة خارجي كبير، يقودنا وبشكل متسارع نحو فقدان الذاكرة.

في السنوات الأخيرة كان الفلاسفة المعاصرون في كل من الفلسفة التحليلية والقارية، مثل اندي كلارك، ديفد شالمر، برنارد ستجلر، وكاترين مالابو مطلعين على هذا، وكانوا حريصين للنظر الى تأثيرات إضفاء الطابع الخارجي للذاكرة على أذهاننا والثقافة. شالمر مثلا، يلاحظ في رد له على عمل كلارك (تضخّم العقل، 2008) بان إضفاء الطابع الخارجي للذاكرة من خلال استعمال أشياء يمكن ان يكون له تأثير مباشر على الكيفية التي تتأثر بها الذاكرة ومن ثم الذهن بواسطة التفاعلات مع الوسائل الخارجية المساعدة : يقول شالمر"لو انت تشتري آي فون. الاي فون يستحوذ سلفا على بعض الوظائف المركزية لدماغك. انه يستبدل جزءاً من ذاكرتك، يخزن أرقام التلفونات والعنواين التي ذات يوم أرهقت عقلك بها".

ونفس الشيء بالنسبة لـ ستجلر حيث يكتب في عمله (نقد جديد للاقتصاد السياسي، 2009) بان التكنلوجيا تؤدي الى انتقال ذاكرتنا الى الآلات، بطريقة، مثلا، لم نعد نعرف رقم تلفون أقرب الناس لنا". الهاتف الذكي هو توضيح جيد للكيفية التي تصبح بها الأشياء الخارجية جزءاً من عمليات ذاكرتنا.

الإنتباه والذاكرة

ما الذي يقرر ما نتذكر وما ننسى؟ للاجابة على هذا السؤال، أفضل بداية هي عبر النظر في عمل المفكر الذي سخر حياته لدراسة الذاكرة، والحائز على جائزة نوبل وهو الطبيب النفساني ايريك كاندل.

طبقا لكاندل، الأساس في تكوين الذاكرة هو الانتباه. عملية خزن وحفظ ذكريات واضحة عبر بناء ارتباطات بين افكار تتطلب مستويات عالية من الارتباط الذهني، والتي يمكن تحقيقها عبر انخراط عاطفي وفكري قوي، وبكلمة اخرى، من خلال الانتباه.

في كتابه (بحثا عن الذاكرة، 2006) يكتب كاندل انه لكي تستمر الذاكرة، "يجب ان تتم معالجة المعلومات القادمة بعمق وبدقة. هذا يتم بواسطة الاهتمام بالمعلومات وربطها منهجيا وبشكل هادف بالمعرفة التي تأسست سلفا في الذاكرة".

بدون توجيه انتباه لفكرة او تجربة، فان الخلايا العصبية المشاركة ستفقد حالتها المحفزة للنشاط الكهربائي في غضون ثواني، وستذهب الذاكرة تاركة فقط أثر صغير في الذهن.

الانتباه اصبح من أهم القضايا الملحّة المؤثرة في المجتمع الغربي في السنوات الاخيرة، لأن قدرتنا على انتباه دائم تضاءلت منذ تطوير الانترنيت في بداية التسعينات. في كل مرة نذهب الى الاون لاين نواجه الحجم الهائل للرسائل التي ليست فقط تثقل كاهل عمل ذاكرتنا وانما تجعل من الصعب استمرارية عمل الأجزاء الأمامية لدماغنا في توجيه انتباهنا نحو مهمة معينة. يقول كاندل، انه حتى عملية بناء جيد للذاكرة لايمكن ان تبدأ. كل واحد منا وجد من الصعب جدا التركيز لفترات ممتدة في مهمات تتطلب انتباه مستمر، على سبيل المثال قراءة كتاب او حتى مشاهدة فيلم طويل؟ كلما استعملنا الويب لفترة أطول، كلما اعتادت أدمغتنا على التشتت – لأنها تعالج المعلومات بسرعة كبيرة بدون انتباه مستمر. من خلال تفويض الذاكرة وتدهور الانتباه، تصبح أدمغتنا متكيفة للنسيان وبالتالي تصبح عاجزة عن التذكر. وهنا نجد أنفسنا في حلقة مفرغة: استعمالنا للويب يجعل من الصعب علينا خزن المعلومات في ذاكرة بايولوجية، وسنكون مجبرين باستمرار في الإعتماد على بنوك الذاكرة الشبكية الخارجية ...

علاج سام

لذا، هل كان سقراط على صواب؟ مع مرور الزمن، ومع تزايد إعتمادنا على العوامل الخارجية التقنية، هل يعني هذا اننا محكوم علينا بمستقبل من الاضطراب وقلة الانتباه والخرف الاجتماعي؟ ربما يبدو الامر كذلك. مع ذلك هناك طريقة اخرى.

في حوار فيدون، يصف تحوت اختراعه للكتابه كـ "فارماكون" pharmakon، من الواضح ان أصل الكلمة "صيدلية". لكن فارماكون مهمة في هذا السياق لأنها يمكن ترجمتها بكلتا الحالتين "سم" و "علاج" (جاك دريدا يناقش هذا في رسالته بعنوان "صيدلية افلاطون"، عام 1981). وهكذا مند فيدون فصاعدا، فان تكنيك – ما تصنعه وتستعمله الانسانية – جرى التفكير فيه بهذه الطريقة المزدوجة، كدواء.

التكنلوجيا الحديثة ايضا يمكن ويجب ان تُفهم باعتبارها لها صفات سامة وعلاجية. لكن لإستغلال المظهر الايجابي لهذه الطبيعة المزدوجة لتكنلوجيا المعلومات الحديثة نحن يجب ان نستغل قدرتها على تحسين انتباهنا.

لكن ما هي الطريقة الأكثر فاعلية لتحسين انتباهنا في عالم المعرفة العابرة والمعلومات المشتتة؟ لإستعادة الانتباه، يجب ان نركز على كيفية التفكير بعمق. نحن يجب ان نقلب رأسا على عقب سطحية الفهم التي جلبها الانترنيت لنا. وكما يقول كاندل، يجب ان نوجّه انتباه.

الانتباه كعناية

ان كلمة انتباه "attention" مشتقة من الكلمة اللاتينية attendere، التي تعني كل من "تطبيق ذهن احد ما على شيء ما" و "يعتني بـ ". يمكننا ان نرى كيف احتفظت هذه الكلمة بهذه السمة المزدوجة عندما نقول، مثلا، الدكتور "يعتني بالمريض". ما نعني هو ان الدكتور يهتم بمريضه. وهكذا اذا كان الاساس في تكوين الذاكرة هو الاهتمام ، نحن يجب ان ننتبه الى ما نقوم به في أذهاننا. كذلك، وكما يوضح برنارد ستجلر، في فرنسا حين نصف الفرد بـ atentionne هو ان نقول انه منتبه بمعنى "يراعي الاخرين" او يأخذ بالاعتبار: ان تكون رقيقا يعني انك مدني او حضري(في المعنى الاصلي للكلمة). ورغم اننا عادة نعني بالانتباه القدرة الذهنية على التركيز، لكن مع ذلك هو في نفس الوقت عمل سايكولوجي واجتماعي، لا يعمل احدهما دون الآخر. (علم البيئة العلائقية والصيدلة الرقمية، 2012). وبعبارة أبسط، لتكون منتبها هو ان تكون عطوفا. لكن ليس هذا فقط، بدون الانتباه لوجهات نظر الاخرين، يخسر المرء القدرة على التعاطف وبهذا يخسر القدرة على "العناية" بالآخر وبالمجتمع الذي يعيش فيه.

لذا نحن يجب ان لا نفهم قضية الانتباه كقضية مركزية عصبية. بدلا من ذلك، اذا نظرنا للدراسات ليس فقط في العلوم وانما في الانسانيات ايضا، نجد ان نظرية المنظّرة الادبية رينيه لاشمان في "التناص" توفر اطارا ثاقبا لفهم الكتب والادب كـ "ذاكرة ثقافية". هي تقترح ان الادب هو "فن التذكر المتميز". الادب يزود الذاكرة بالثقافة ويسجل هذه الذاكرة. انه ذاته فعل الذاكرة.

الادب ينقش ذاته في مساحة الذاكرة المكونة من نصوص ، و يرسم مساحة ذاكرة تُستوعب فيها وتُنقل تدريجيا النصوص المبكرة " (الذاكرة والادب: التناص في الحداثة الروسية، 1997). لذا، فان ذاكرتنا تمتد الى ما وراء حدود البايولوجي الى الثقافي. وكما يصف ذلك دونالد هب: "عندما انت تكرر التجربة مرات ومرات فان الدماغ يتعلم اثارة نفس الخلايا العصبية في كل مرة". لذا فان نقاط الاشتباك العصبي يمكن ان تتكون او لا تتكون نتيجة لتأثير الموقف الثقافي للفرد. هكذا المرونة العصبية تكون هي نعمة في الكفاح لاستعادة انتباهنا وذاكرتنا. ان نفس خاصية التعلم التي سمحت لنا بالوقوع في ثقافة التفكير السطحي وقللت فترة الانتباه يمكن ان تعيد ذاكرتنا مما يسمح لنا بالتذكر. عندما نطور ثقافة نوازن فيها بين عاداتنا بتصفح الانترنيت مع تقنيات تسمح بالتركيز العميق المطلوب عند القراءة او الكتابة، عندئذ نحن نستطيع إعادة برمجة أدمغتنا لنستغل الفوائد الكبيرة لكل من هذه الاشكال الخارجية للذاكرة.

ميراث الافكار

طوال حوارات افلاطون، نحن نرى إشارات الى رفض سقراط للكتابة بسبب الاخطار المتعددة للطابع الخارجي لهذه الافكار. سقراط كان خطيبا، لكن افلاطون كان كاتبا. ميراثه استمر من خلال الكتب التي تركها خلفه. في الحقيقة، لا سقراط ولا افلاطون يمكنهما بشكل مبرر انتقاد الكتابة. افلاطون يمكن القول هو اكبر مؤثر فردي خارجي على الذاكرة الداخلية للتاريخ، وحتى سقراط مع انه لم يكتب، لكن واضح جدا انه قُرئ جيدا. طبيعة الحجج التي ينخرط بها سقراط في حوارات افلاطون ترتكز على تراث ثقافي يوناني هو ذاته تأسس على الكتابة. وفي حوار الابولوجي، كان سقراط "يتناول الطعام مع هوميروس وهسيود و اورفيوس" بعد وفاته.

الانتباه العميق والمستمر الضروري عند قراءة قطعة طويلة من الكتابة، يمكن النظر اليها كطريقة للاعتناء بأدمغتنا وأذهاننا، لكن للقيام بهذا بشكل جيد، من الضروري اولاً فهم كيف نعتني بالمجتمع ككل. يجب ان نولي اهتمام بالطريقة التي بها تتطور ثقافتنا. الانترنيت لازال شابا، ونحن لانزال نتعلم كيف نتكيف معه، لكن طبيعته الدوائية المزدوجة يجب ان تُفهم لكي يمكننا عمل قرارات عقلانية واعية سواء انفراديا او جماعيا، حول كيفية التفاعل معه في المستقبل.

***

حاتم حميد محسن

- تنبعُ حاجة الإنسان لمجتمعٍ يضمّه من ضعفِه الفردي، فمنذ بدايات تكوينه الإجتماعي تشكّل في جماعات وتكتّلات بشرية، أُطلق عليها المستعمرات البدائية، ثم تطوّرت لتُصبحَ القرى البدائية على ضفاف الأنهار، ثم بعد ذلك لأرياف وحضارات نمت على تلك الضفاف، ومع حركة مياه الأنهار تحرّك الإنسان منصهراً في جماعات تشترك معه أوّلا في اللغة والتاريخ والسُلالة.

إن هذا التشكيل البدائي هو لحمايته في المقام الأوّل من فردانيته الضعيفة منطلقا لجماعة تحميه من المفترسات، حتى أصبحت المجتمعات البشريّة كبقية المجتمعات الحيوانيّة من جنس وفصل قريب على حدّ قول المناطقة، مجتمعات تتكتّل للدفاع عن نفسها في معادلة الصراع من أجل البقاء.

و مع تطوّر الإنسان وتشكيلاته التنظيمية أصبح لتلك المجتمعات رئيس قبيلة كما في المجتمعات القبلية البدائية يومنا هذا في دول شتّى وغالبا ما يستحوذ رئيس القبيلة هذا على موارد القبيلة مقابل حمايتهم وعلى أجمل نساء القبيلة لإنتاج ذريّة تمتاز بالجمال والذكاء لخلافته، يقوم رئيس القبيلة بحل النزاعات وتوفير الحماية عبر نفاذ كلمته وتأثيره وقدرته في التنظيم في مواجهة الأخطار.

تطوّرت الجماعات البشريّة حتى أصبحت دولاً لها حدود سياسية وتكفّلت جماعات غير منتخبة بدايةً بتوفير ذلك التنظيم وبقي الفرد عبدا لتلك الجماعات النبيلة غير المنتخبة المتعالية، ومع تطوّر النظم السياسية أصبحت الدول أكثر تقدما وحريةً في اختيار من يمثلها.

و مع كل ذلك التقدّم بقيت الجماعات سواء كانت سياسية أم دينية أم اجتماعية أم ثقافية محافظة على تنظيمها في جسد الدولة، ومع غياب الفردانية وتكفّل الدولة بالحماية بقي الفردُ منضويا في جماعة تحميه أو على الأقل تكفل له نفوذه في الآخرين، فعندما ينخرطُ الفردُ في الجماعة يُصبح ماثلا فيهم مائلا إليهم، قوله قولُهم وقولُهم قولُه، تذوب ذاته وتنصهرُ في الجماعة، يفكّرُ بالوكالة وينقلُ ما يقولونه بحذافيرِه إذ لا رأي له فوق رأي الجماعة وهذا اللاوعي الجمعي يقوده للتحرّك كما الروبوت الذي يُعطى الأوامر لتنفيذها، فهو مغيّبٌ تماماً كما لو انه قد أُعطي مخدّرا ما لتوجيهه ، بل تغيبُ الأنا عنده حتى لا يكاد يذكر رأيه فيقول هذا ما أعتقد به، فيقول بدلا من ذلك:"هذا ما قاله فلان وما أدركه فلان ولا أدرك ما هو فوق ذلك!".

إن نظرية الجماعة الصالحة وإن كانت نافعة تنظيميا ولكنّها تُضمرُ وجود " جماعة طالحة"في الضد!، وهي ضاربة في تخوم التاريخ بعنوانات شتى لكنّها لم تظهر بشكلها الإصطلاحي إلا بعد نداءات الأفغاني جمال الدين، لتكوين (هويّة سياسية إسلامية) لمواجهة الغزو الإستعماري.

لقيت نداءات الأفغاني صداها فتأسست بعده اتجاهات فكرية بعضُها تطرّف أكثر وبعضها لان، لكن الفكرة الأساس هو نظم الفرد وسنخه في الجماعة حتى تستطيع الجماعة قوده أخيرا، هذا القَود الذي للآن نعيشه في جماعات مختلفة لا تعترف بهذه العُلقة الإنصهارية ولكنها تمارس ذات الطرق التنظيمية في دفع أتباعها لمواجهة الخصوم في ميكيافيلية واضحة متّبعين سياستي (الحمائم والصقور).

***

عبد الهادي المظفر

للذكاء الاصطناعي

منذ ان ظهرت ثورة جي بي تي في نهاية 2023 وبدايات 2024 وأنا، شأني شأن الكثيرين، اشعر بدوار الحركة نتيجة السرعة الجنونية للاحداث والاخبار الى حد كاد يفقدني الشغف في امور كثيرة اخرى. أصبحنا أكثر اعتيادا على التحدث مع نماذج الذكاء الاصطناعي المختلفة تارة لنسألها عن معلومة ما وتارة لنستشيرها عما نريد ان نلبس أو نأكل. تغير كل شيء فجأة واصبحت الألواح الصغيرة التي نحملها في أيدينا تحيلنا الى عباقرة من نوع جديد، عباقرة بشرط وجود هواتفنا وحزمة انترنت بسيطة واحدى تطبيقات الذكاء الاصطناعي. وقد التفت الكثيرون الى (المخاطر) او (الجديد) الذي يقدمه الذكاء الاصطناعي للبشرية من حيث تحطيم البحث العلمي والوظائف والفن والأدب أو تطوير البشرية وتيسير عملنا ونقله الى مراحل جديدة.

التفتنا الى الكثير من هذه الفرص والمخاطر التي تحيط بنا ولكننا لم نلتفت الى الاثار التي يمكن ان تحدثها هذه الثورة على دواخلنا، فهي تتفاعل معنا عبر أخطر قناة اسستها البشرية والتي يرى أغلب الباحثين في تاريخ البشرية أنها نقطة التحول الكبرى ألا وهي اللغة. هذه الوسيلة التي اختلف المختصون في كونها هي الفكر أو أنها مرآة له وفي كلتا الحالتين هي المهيمن الأساس على مصير البشرية في الماضي ولا يستبعد أن يستمر تأثيرها إلى المستقبل. أصبحت هذه الأداة البشرية الحصرية الآن ولأول مرة في تاريخنا مشتركة بيننا وبين كيان صنعناه قبل عقود قليلة وطورناه حتى أصبحت لديه هوية لغوية خاصة يمكننا ان نتعرف عليها عبر برامج (كشف الذكاء الاصطناعي) كزيرو جي بي تي وغيرها.

ولم يقف الأمر الى هذا الحد، فقبل ساعة من وقت كتابتي لهذه السطور أرسل إلي صديقي الذي يقطن في الولايات المتحدة ويشاطرني حب التكنولوجيا وأمورا كثيرة اخرى تقصر المسافات بيننا، أرسل إلي رسالة مرفقة برابط. لا أدري ما الذي جعلني اتفاجأ مما جاء فيها رغم أنها الإمتداد المنطقي لما يحدث الآن من تلاقح فكري بين الذكاء الاصطناعي والبشر. كانت المقالة المرفقة من موقع بي بي سي بالعربية تتحدث عن العالم السوري إياد رهوان الذي أجرى بمعية العديد من العلماء في برلين دراسة عن تأثير الذكاء الاصطناعي على لغة البشر (وليس العكس). ولمن لا يعلم فهنالك “كلمات معينة يستخدمها تشات جي بي تي بمعدلات أكثر من “ المعدلات التي نستخدمها فيها وقد “رصد المختبر طفرة في استخدامها بين البشر” وانا هنا اقتبس من رسالة صديقي. وبحسب رهوان فإن السبب المؤدي لهذه الطفرة هو تفاعل البشر مع لغة الذكاء الاصطناعي.

وهنا اريد ان ارجع ثلاث خطوات الى الوراء لأستوعب ما يجري... لقد صنعنا نماذج لغوية استمدت قوتها من خوارزميات صنعناها بأنفسنا وغذيناها بنصوص بأعداد هائلة من لغاتنا (الحي منها والميت)، لنقوم بعد ذلك بالتأثر بشكل انعكاسي باللغة التي انتجتها هذه النماذج إلى حد أصبحنا نستخدم فيه كلمات لم نكن نستخدمها قبلا بهذه الوتيرة. وهنا لا بد أن أشير إلى ما يأتي:

دماغ الانسان هو عضو مجبول على استخدام اللغة. فاللغة كما قال نعوم تشومسكي (is hard wired to human brain) وهي تنتج كخليط معقد من افكاره واحاسيسه لتصبح فيما بعد اصواتا متناغمة منتظمة (حتى لو كانت نصاً مكتوباً فهي تبقى أصواتاً بالنسبة لنا) يفهمها الانسان المتلقي ليس كشيفرة لغوية مثلما تفهمها الآلة وانما كأفكار متعددة الطبقات تبدأ من النص الظاهري مروراً بالنص العميق (كما وصفه تشومسكي) ثم إلى تعابير الوجه وحركات الجسد المرتبطة بالنص (كالذي تتعامل معه البراغماتيكس Pragmatics) وانتهاءاً بكل ما يمكن أن يرافق النص من وسائط كالصورة المرافقة والموسيقى وغيرها (كما ترى جماعة النص متعدد الوسائط Multimodalism). فاللغة بالنهاية نصوص متعددة الطبقات عالية التشفير تنقل الفكر البشري والاحاسيس في آن واحد.

أما ما يحصل في الذكاء الاصطناعي أو النماذج اللغوية الكبيرة LLM فهو مغاير تماما لما يحصل في أدمغتنا، إذ يقوم المختصون  بتحميل كمبيوترات عملاقة خوارزميات تكون الدليل الأكثر نجاعة لتمكين النماذج اللغوية الكبيرة من تحليل النصوص التي تغذى بها (والتي تكون بالعادة كبيرة بشكل لا يصدق) ليتدرب النموذج اللغوي شيئا فشيئا على تحليل ومحاولة تقليد اللغة أو اللغات بل والأساليب التي تدرب عليها بشكل لافت للنظر يخيل لغير المطلع أن ما يقابله خلف شاشته الصغيرة هو كيان بشري طبيعي.

وبالنتيجة فإن النموذجين اللغويين (الطبيعي المتمثل بالبشر والمقلّد المتمثل بالنماذج اللغوية) سيتلاقحان بالضرورة مما يفضي إلى تغييرات (متعمدة) في لغة الذكاء الاصطناعي تقابلها تغييرات (عرضية) في اللغة الطبيعية للانسان وهذا ما توقف عنده العلماء آنفي الذكر في برلين.

أنا الآن اكتب هذه السطور بينما تتم مراجعة ما كتبوه من قبل المراجعين في المجلات العلمية الرصينة ومع الأسف لم أقرأ ما كتبوا أو ما مقدار ما توصل اليه هؤلاء الباحثون ولكنني متأكد من أن هذه الدراسة (أو الدراسات) افضت الى نتائج صادمة لأنني ومنذ بداية تعاملي مع النماذج اللغوية (بدءاً من تطبيق دكتور ليسا في نهاية التسعينيات وبداية الالفينات) مروراً بأول ظهور لتشات جي بي تي شعرت بأنني أغير الكثير من مفرداتي تارة لكي أتواصل بشكل أكثر فاعلية مع النماذج اللغوية وتارة أخرى نتيجة للاحتكاك المباشر مع النصوص المنتجة من قبل الذكاء الاصطناعي.

وقد يتبادر إلى ذهن القارئ سؤال فيما إذا كانت هذه الظاهرة تحدث لأول مرة في البشرية، وهنا تجدر الاشارة الى ان هذه الظاهرة في اصلها طبيعية، وهي السبب وراء ولادة وموت العديد من اللغات واللهجات. فلغاتنا تؤثر وتتأثر بعضها بالبعض الآخر. وهذا التغيير هو ما جعل العرب يضعون علم النحو خوفاً على لغتهم بعد دخول العديد من الأمم الى الإسلام. كما أننا نشهد تغييرات لغوية كبيرة مع ازدياد استخدامنا للتكنولوجيا. فها هي لغة وسائل التواصل الاجتماعي (المختزلة في أحيان كثيرة والركيكة بشكل موجع في اغلب الاحيان) تغزو مدارسنا. وقد كانت لي تجربة مزعجة مع ابنتي الصغيرة التي تعلمت اللغة الانكليزية بطلاقة من أجهزة التابلت، والتي تفاجأت بأنها لا تجيد استخدام الألف واللام (ال التعريف) بشكل محزن، اذ يمكن ان تقول مثلا “جاء المدير المدرسة “ و”قالت معلمة رياضة” مما حدى بي وزوجتي الى تتبع أسباب تدهور لغتها العربية على عكس المتوقع منها، وكانت النتيجة صادمة أكثر مما تخيلنا، ففي مجموعة التليجرام التي تضم المعلمين واولياء الأمور في المدرسة لاحظت زوجتي أن المعلمات يكتبن بنفس الطريقة الخاطئة، ولا يميزن بين المعرف ب(ال) من غيره. وهذه الظاهرة بالتأكيد لم تكن حكرا على معلمات هذه المدرسة ولا حتى قطاع التعليم وانما تمتد الى مختلف أطياف المجتمع (ولربما المجتمعات الاخرى ولكن بظواهر قريبة من هذه.

وهنا تجدر الإشارة أن ما توصلت إليه لم يكن مصدري الوحيد ولم أطرحه دليلا علميا على الظاهرة حيث أنني على علم بما تحتاجه هذه الظواهر لتكون إثباتاً علميا مقبولا وهو ما لم يحصل هنا، كما أنني لا أدعي أن العينة التي لاحظتها، تمثل بشكل أو بآخر المجتمع ككل، وإنما أركز على ما نلاحظه من انتقالات وتغييرات لغوية مهمة تحصل نتيجة للاستخدام الغير مسبوق للكتابة في وسائل التواصل الاجتماعي حيث لم يشهد العالم فترة استخدم فيها هذا العدد الهائل من البشر الكتابة. وهو بالطبع أمر يدعو الى الانتباه الى أن هنالك عدد لا بأس به ممن لا يجيدون الكتابة او التعبير الصحيح بدأوا يؤثرون ويتأثرون بالآخرين. ولكن ورغم فوائد ومآسي هذه الظاهرة الا أنها تنحصر بين البشر. نعم هي تختزل ما يحدث عادة في قرون الى ظوهر تحدث في عدة سنوات (ولربما في عدة شهور... من يدري؟! فهذه الظواهر على حد علمي لم تأخذ نصيبها الكافي من البحث العلمي الدقيق). بل أنني أكاد اجزم أنني تحسست تغييرات لغوية سواء بالعربية (لغتي الأم) ام الانكليزية (لغتي الثانية) في سنوات عمري المنصرمة أكثر مما شهدته أجيال من البشرية في عصور غابرة.

ولكن، سواءاً كان التغيير الذي أحدثته وسائل التواصل الاجتماعي كبيراً جداً (كما أزعم) او طبيعياً (كما يمكن أن يثبته باحث ما) فإنه مقبول كونه متأت من تلاقح لغوي تواصلي بشري، وهو ما حدث ويحدث على مر العصور. أما الجانب الآخر من التغيير، والذي أشار اليه الباحث المذكور في بداية المقال فهو تغيير لا ينبغي السكوت عنه. وفيما يأتي من السطور سأحاول تخيل السيناريو المنطقي لما سيحدث في العقود الخمسة القادمة لأسمح لنفسي وللباحثين الآخرين ان نضع فرضية شبه منطقية تقود بحوثنا القادمة.

سيستمر الذكاء الاصطناعي في محاولاته لتحليل وتقليد لغاتنا الطبيعية وسيخطئ في كل مرة (لأن خوارزمياته لن تتصرف كما يتصرف دماغنا وأحاسيسنا) بينما يستمر تاثيره بالتنامي في نصوصنا شيئا فشيئا ليضفي أثرا يبدو الآن صغيرا وغير مؤثر لينتقل الى ظاهرة مؤثرة ثم الى ظاهرة مهيمنة مدعوما بكم النصوص الهائل الذي إما يعدل أو ينشأ عن طريق الذكاء الاصطناعي. وهنا علينا أن لا ننسى أن الذكاء الاصطناعي سيتفوق علينا شيئا فشيئا من الناحية الكمية (فالباحث أو الكاتب مثلا يحتاج الى ساعة أو عدة ساعات ولربما أيام من أجل أن يولد نتاجا لغويا لا يتجاوز البضعة صفحات، بينما لا يحتاج الذكاء الاصطناعي الى اكثر من عدة ثواني لينتج نفس المقدار من النص. كما أن سعي الانسان الى الكمال (والذي بدأ يمثله الذكاء الاصطناعي) جعل عشرات الملايين (ولربما مئات الملايين او المليارات لاحقا) يعتمدون على الذكاء الاصطناعي في تعديل أو حتى انشاء نصوصهم.

نحن هنا على شفا معركة بين كتلة ضخمة (Corpus) من النصوص الطبيعية (النصوص البشرية) في مقابل كتلة أخرى لا تقل ضخامة عن الاولى من النصوص المولدة بالذكاء الاصطناعي وهو ما يؤدي الى احتكاك وتلاقح منقطع النظير ستنتج عنه لغات هجينة ولربما مريضة بسبب طبيعتها المزدوجة (البشرية – الاصطناعية) ولا استبعد أننا وبعد خمسين سنة من الآن سنحتفل باليوبيل الذهبي لثورة جي بي تي ولكن بلغة (او لغات) اخرى تحتاج حينها الى قواميس لكي تفسر نتاجنا الانساني الحالي أو الماضي، ولا أضمن أن تكون الترجمة دقيقة ان تدخلت فيها الخوارزميات.

قد تبدو هذه الصورة قاتمة او حالمة نوعا ما للبعض، وقد يتبادر الى ذهن البعض الآخر أن ما أقوله محض ترف علمي ولكنه في الحقيقة جزء يسير من الخطورة التي نواجهها. وإن كنت قرأت المقال بتمعن لأدركت أن الخطورة لن تتوقف عند اللغة. فمن حيث أن اللغة مرآه للفكر تتأثر به وتؤثر فيه، وأي تغيير في النمط اللغوي سيؤدي لا محالة الى التغيير في الفكر، وهنا لا أتحدث عن تأثير تعلم اللغة الثانية (الكبير) الذي يطرأ على تفكيرنا بعد اكتساب اللغة الثانية (أو الثالثة أو أي عدد كان) رغم أنه دليل جيد على احتمالية حدوث التغيير، وإنما أتحدث عن نمط لغوي فريد أنتجته خوارزميات رياضية بمعزل عن الفكر والمشاعر البشرية، لغة هجينة مقلدة للمشاعر، لغة نشأت بعيدا عن ناظرنا. فما الضامن أن تفكير البشر لن يتغير الى ما يشبه الآلة؟ ومن الذي يضمن أن المشاعر الانسانية لن تصبح (كوبي بيست) وتضمحل تدريجيا؟ ما الضامن بأن المحتفلين باليوبيل الذهبي (مرور خمسين سنة) لجي بي تي لن يكونوا بوجوه بشرية وتفكير واحساس (انساني-خوارزمي)؟ وما هي السبل التي يجب اتباعها لجعل المستقبل أكثر اشراقا؟ قد يصل بعضنا الى ذلك اليوم وبالتأكيد سيجد في كلامي الكثير من (اللغط العلمي) هذا ان تمكن من ترجمته الى لغته آنذاك ولكن الاخطر هو ما سيجد أن الأوان قد فاتنا لنتجنبه.

***

محمد رضا عباس يوسف - تدريسي في كلية الامام الكاظم

نيسان 2025

منذ أزل التاريخ، حين بدأ الإنسان يتجمع في مجتمعات أكبر من وحدته الفردية، نشأت الحاجة إلى قيادة توجه الجماهير، تضع لها نظامًا، وتخلق لها انتماءً يُشبع توقها إلى الأمن والهوية.

وقد مثّل التاريخ الإسلامي، منذ لحظاته التأسيسية، نموذجًا بالغ التعبير عن هذا التشابك بين الحاجة إلى الانتماء، وآليات الهيمنة التي تغلّفت بالدين.

فمع وفاة النبي محمد، بدأت الخلافات السياسية تطفو إلى السطح. النزاع بين علي ومعاوية لم يكن مجرد خلاف حول شرعية الحكم، بل كشف هشاشة البنية السياسية التي سعى الإسلام إلى ترسيخها. ومن هنا، بدأ الدين ينزاح تدريجيًا من فضائه الروحي إلى دائرة التوظيف السياسي.

بني أمية، على سبيل المثال، لم يترددوا في استخدام الخطاب الديني لتبرير مشاريعهم السلطوية. خطبة معاوية الشهيرة: “إني لا أقاتلكم لتصلوا أو تزكوا، إنما أقاتلكم لأتأمّر عليكم”، تُجسّد بوضوح أن الغاية كانت السلطة لا العقيدة.

ولم تقتصر الهيمنة على المجال السياسي، بل تمددت إلى التعليم، الذي طالما كان الأداة الأنجع لصياغة العقول وتوجيهها نحو الطاعة.

التاريخ الإسلامي زاخر بالأمثلة التي تُظهر كيف تم توظيف التعليم لترسيخ خطاب السلطة. ففي العصر العباسي، كانت المدارس تُموّل من خزينة الدولة، والمناهج تُصمّم بعناية لترسيخ الولاء للخليفة وإنتاج وعي خاضع.

هذه الظاهرة لم تتوقف بسقوط العباسيين، بل أعادت إنتاج نفسها بأشكال مختلفة عبر العصور.

في القرن العشرين، يشير سيد قطب في كتابه معالم في الطريق إلى نظام تعليمي يقتل روح الإبداع في الفرد، ويجعله آلة طيعة في يد السلطة. ويمكن قراءة هذا الاتجاه، من منظور علم النفس، من خلال مفهوم “التكيف القهري” عند إريك فروم، الذي طرحه في كتابه الهروب من الحرية، حيث يُجبر الفرد على الانصياع للنظام القائم بدافع الخوف من تبعات الحرية ذاتها.

وعلى مرّ الأزمنة، ظل الدين يُستخدم كأداة مركزية لإعادة إنتاج الهيمنة. في السودان، كانت تجربة الجبهة الإسلامية تجسيدًا حديثًا لهذه الممارسة. عقب انقلاب 1989 بقيادة حسن الترابي، بدأ النظام بإعادة هندسة البنية التعليمية والإعلامية بما يخدم مشروعه الإسلاموي.

في هذا السياق، تبرز حادثة إعدام المفكر محمود محمد طه كمثال فجّ على استخدام الدولة للدين كوسيلة قمعية. لم يكن النميري إلا واجهة سلطوية استُغلت لتصفية خصم فكري كان يشكل تهديدًا للمشروع الإسلاموي في عمقه. الترابي، الذي كان يدرك خطورة طه لا بوصفه معارضًا سياسيًا بل كصوت يتحدى الشرعية التأويلية نفسها، لم يتوانَ عن توظيف الدولة لإنهاء حضوره المعرفي.

وفي بلدان أخرى، مثل السعودية وتركيا وأفغانستان، يمكن تتبع نسق مماثل في توظيف الدين لترسيخ بنى الاستبداد.

في السعودية، شكّل التحالف بين آل سعود والمؤسسة الوهابية حجر الزاوية لنظام يشرعن السلطة المطلقة باسم التوحيد. أما في تركيا، فقد نجح أردوغان في المزج بين النزعة القومية والخطاب الإسلامي، مما أتاح له إحكام قبضته على الدولة وقمع خصومه تحت لافتة الانتماء. وفي أفغانستان، تُجسد حركة طالبان النموذج الأكثر فجاجة لاستخدام الدين لتبرير حكم شمولي يستمد شرعيته من نصوص مؤدلجة وأهواء مشيّدة على الخوف لا على العدالة.

المفارقة أن هذه الأنظمة، رغم ادعائها حماية الدين، لا تتورع عن التحالف مع قوى دولية لتحقيق مصالحها، ما يفضح زيف الشعارات التي ترفعها، ويؤكد أن الدين بالنسبة لها ليس أكثر من غطاء ثقيل للسلطة، يُستدعى حين يهدد الوعي مصالحها.

لكن هذه الحاجة لم تكن بريئة في معظم الأحيان؛ إذ سرعان ما تحولت إلى آلية للاستغلال والهيمنة.

الفيلسوف ميشيل فوكو، في حديثه عن السلطة، يشير إلى أن السلطة ليست مجرد قمع مباشر، بل شبكة من العلاقات المتغلغلة في كل تفاصيل المجتمع، تهيمن على العقول قبل أن تُحكم قبضتها على الأجساد.

وهذا ما بدا جليًا في التاريخ الإسلامي، حيث تحوّل الدين إلى أداة مثالية لبرمجة القطيع.

مع ظهور الإسلام، حدث تحول جذري في البنية الاجتماعية. فالنظام القبلي، الذي كان يُشكّل مركز الهوية السياسية والاجتماعية، بدأ يتفكك تدريجيًا. الدين الجديد لم يكن محض دعوة روحية، بل مشروعًا سياسيًا واجتماعيًا يهدف إلى توحيد القبائل تحت راية واحدة، وهو ما تجلّى في معركة بدر، حين وقف المسلمون صفًا واحدًا ضد قبائل قريش، التي كانت تمثل بنية النظام القبلي التقليدي.

هذه الوحدة، رغم بريقها الظاهري، أنشأت نوعًا جديدًا من التبعية، حيث استُبدل الولاء القبلي بولاء أوسع، للأمة الإسلامية.

وكما يشير المفكر الفرنسي روجيه غارودي، فإن هذا التحول كان يحمل في طياته بذور الهيمنة، إذ تم استبدال رب القبيلة بسلطة مركزية تبرّر أفعالها بالدين.

ورغم ما يحمله مصطلح “الجاهلية” من دلالات سلبية في الخطاب الإسلامي التقليدي، إلا أن تلك الحقبة تستحق إعادة قراءة. فقد كانت، رغم مظاهرها البدائية، تحمل نظمًا اجتماعية وقيمًا ساهمت لاحقًا في تشكيل الثقافة الإسلامية: نظام الدية، قوانين حماية الضيف، والشعر الذي كان يُعدّ ديوان العرب؛ كلها عناصر لا يمكن إنكار أثرها.

الإسلام، في سعيه لبناء مجتمع جديد، لم يُلغِ هذه العناصر، بل أعاد تشكيلها لتخدم مشروعه الأوسع.

ومع ذلك، لم يكن هذا المشروع خاليًا من التصدعات.

وعلى مستوى الأفراد، فإن برمجة القطيع ليست ظاهرة سياسية فحسب، بل لها جذور نفسية وفلسفية ضاربة في العمق. يشير غوستاف لوبون في كتابه سيكولوجية الجماهير إلى أن الجماهير، بطبيعتها، ميّالة للتصرف العاطفي، وتبحث دائمًا عن زعيم يمنحها وهم الأمان والبقاء. وفي سياق الإسلام السياسي، غالبًا ما يُقدَّم هذا الزعيم في صورة “ولي الأمر” الذي تُعلّق عليه طاعة مطلقة، محصّنة بالدين وملفوفة بغطاء القداسة.

وهنا يبرز مفهوم “العبودية الطوعية” الذي صاغه إتيان دو لا بويسي ببصيرة نافذة؛ حيث يُظهر كيف يمكن للإنسان أن يختار الخضوع طوعًا، لا من منطلق الضعف، بل من رغبة دفينة في الاتكاء على سلطة أعلى تُعفيه من عناء الحرية. في هذا الإطار، يغدو الدين هو الأداة المثالية لمنح هذه العبودية طابعًا شرعيًا، بل وضروريًا، في نظر المبرمَج.

ومع ذلك، فإن التاريخ لا يُساق كله في اتجاه واحد. الشعوب، وإن خُدّرت طويلًا، قادرة على كسر القيد والتمرّد على الأُطر.

الثورة السودانية في ديسمبر 2019، التي أطاحت بنظام البشير، شكّلت لحظة نادرة تُثبت أن برمجة القطيع ليست قدرًا محتومًا. لكنها، في المقابل، نبهتنا إلى أن إسقاط الرمز لا يعني بالضرورة تحرر البنية، وأن الصراع الحقيقي يبدأ حين تشرع في تفكيك ما استقر في العقول أكثر مما تجذّر في مؤسسات الدولة.

فالتحرر لا يكون بالشعارات، بل بإعادة النظر الجذرية في البنى الفكرية والثقافية التي مكّنت لسلطة الاستبداد، وشرعنت وجودها عقائديًا وتربويًا. وكما أشار محمد عابد الجابري، فإن تحرير العقل العربي يبدأ من قراءة نقدية للتراث، لا بهدف تمجيده أو شطبه، بل لفهم آليات توظيفه في خدمة السلطة وتكريس الخضوع.

وفي نهاية المطاف، تبقى “برمجة القطيع” ظاهرة إنسانية عامة، لكنّ العالم الإسلامي، بأثر تاريخه الطويل من التبعية والتأويل السلطوي، يوفّر لها تربة خصبة. والحل، كما تلمّحت، يبدأ بتحرير الفكر، وبناء تعليمٍ يُعيد للإنسان فردانيته وقدرته على اتخاذ القرار خارج مظلة الأوصياء.

عندها فقط، يمكن للإنسان أن يتحوّل من تابع في قطيع، إلى فرد حر، يرى، ويسائل، ويصوغ مصيره بوعيه لا بهلع الخوف.

***

إبراهيم برسي – باحث سوداني

الحضور الذي يهدد العالم هو حضور قاحل وهو قلق الأزمنة ولعبة في الوقت الضائع تحضر فيه كل امراض الثقافة لتتقمص اشكالا بورنوكرافية ساخرة من الحياة تحاول ان تضمن الفرجة، هي عيوب التفاهة مختبئة مثل الاسرار وراء الكواليس داخل الوعي والمعرفة، ضمن هذه الفوضى تتأكد تراجيديا العقل ووعي التاريخ، بالتالي يمكن القول ان فهم السرديات التاريخية على أنها نتاج لأزمة في كل من الإيمان والمعرفة هو انفعال حاد نتيجة الاسراف في الرضا دون نظام، لان تغير المعتقدات والقيم تنتج سرديات جديدة تعكس تلك التغيرات عندما يشعر الناس بفقدان الثقة في المؤسسات التقليدية، ما يجعلهم يبحثون عن تفسير جديد لتاريخهم وهويتهم، التأكيد على الدراسات النقدية والتاريخية سيعيد صياغة الفهم الجماعي للتاريخ، مما يؤدي إلى سرديات جديدة هي ليست مجرد ردة فعل على أزمة واحدة، بل هي نتيجة تفاعل معقد بين الأبعاد الروحية والمعرفية، تعكس سعي المجتمعات لفهم هويتها وماضيها في سياقات جديدة.

السلطة السياسية وتشكل السرديات

تلعب السلطة السياسية دورًا كبيرًا في تشكيل السرديات التاريخية سياقيا، حيث تسعى السلطة إلى تعديل أو تحريف الوقائع التاريخية لتتناسب مع روايتها السياسية أو لتعزيز شرعيتها لذا يتم تجاهل أحداث معينة أو شخصيات تاريخية لا تتماشى مع السرد الرسمي، تستخدم السلطة الرموز التاريخية لتعزيز الشعور بالوطنية والانتماء وقد تُستخدم لإلهام الجماهير أو لتبرير السياسات الراهنة، حيث تبرز القيم والمبادئ التي ترغب السلطة في ترسيخها كعلامات نمطية لوجوب الطاعة كما تسعى السلطة إلى إيجاد سرد تاريخي موحد يسهم في تعزيز الوحدة المجتمعية و يلعب دورًا محوريًا في تشكيل سردياتها التاريخية، حيث تؤثر على التعليم، والإعلام، والرموز الثقافية، مما يساهم في بناء الفهم الجماعي للماضي وصياغة الهوية الوطنية في الحاضر.

تحديات الحداثة وسرديات ما بعد للايمان

في مواجهة قضايا الحداثة العلمية في ظل فقدان الثقة في الإيمان التقليدي، يبحث الأفراد عن معنى في هويتهم الثقافية، مما يؤدي إلى سرديات تاريخية جديدة تعكس تلك الرحلة، تبرز سرديات جديدة تؤكد على القيم الإنسانية المشتركة، مثل حقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية، كبديل للإيمان، تلعب السرديات التاريخية الناتجة عن الأزمة دورا في تنوع وطبيعة الإيمان، بدءًا من الإيمان الديني إلى الإيمان بالعلم والهوية والقيم الإنسانية، مما يعكس التأثير في المجتمعات يعتبر العلم عنصرًا أساسيًا في تشكيل سرديات ما بعد الإيمان التقليدية، حيث يحاول اعادة صياغة معنى جديد للمعرفة، وتحدى السرديات القديمة وذلك بتعزز التفكير النقدي. كما يساعد في بناء هويات جديدة قائمة على قيم إنسانية وعلمية، مما يساهم في تشكيل فهم أعمق للماضي والحاضر والمستقبل. من منجزات الحداثة العلمية أثرت نظرية داروين بشكل كبير على سرديات ما بعد الإيمان التقليدية، اذ قدمت نظرية التطور، التي طرحها داروين، بديلًا علميًا لروايات الخلق التقليدية الموجودة في العديد من الديانات، مما أدى إلى إعادة تقييم الكثير من المعتقدات، أدت هذه النظرية إلى تساؤلات حول معنى الحياة والإنسانية، مما دفع البعض للتفكير في وجودهم بعيدًا عن التفسيرات الميتافيزيقية، ساهمت نظرية داروين في تعزيز أهمية المنهج العلمي والتفكير النقدي، مما شجع الأفراد على البحث عن أدلة علمية وراء الظواهر بدلاً من الاعتماد على السرديات المقدسة فقط، أدى هذا إلى تطوير منهجيات تاريخية جديدة تعتمد على الأدلة والبحث بدلًا من التقليد، كما قدمت النظرية فهمًا جديدًا للإنسان كجزء من تطورات طبيعية ساهمت في تعزيز فكرة أن الإنسان ليس كائنًا مميزًا بل جزء من سلسلة تطورية، مما أثر على كيفية رؤيتنا لأنفسنا ودورنا في الطبيعة.أثرت نظرية داروين بشكل عميق على السرديات التاريخية، مما أعاد صياغة الهوية الإنسانية وأسهم في تحولات ثقافية واجتماعية واسعة.

السرديات التاريخية والسلطة

تعتبر السرديات التاريخية أداة قوية في تشكيل فهم المجتمعات للسلطة، وقد لعبت دورًا كبيرًا في ترسيخ مفهوم سلطة الاستبداد، حيث تسعى الأنظمة الاستبدادية إلى فرض سرديات تاريخية تعزز من شرعيتها، مما يؤدي إلى تهميش أو إقصاء روايات أخرى ويتم تعديل سرديات أو إغفالها لتناسب مصالح السلطة، مما يعزز من صورة القائد أو النظام، قد تعمل السلطات على إعادة كتابة الأحداث التاريخية لتناسب أجندتها، مما يؤدي إلى خلق سرديات جديدة تعكس هيمنتها على السلطة ويتم تجاهل و تحريف الأحداث التي تضعف صورة النظام أو تبرز أي معارضة تاريخية، تلعب السرديات التاريخية دورًا حاسمًا في ترسيخ مفهوم سلطة الاستبداد من خلال فرض الروايات الرسمية، وإعادة كتابة التاريخ، هذه العمليات تساهم في تعزيز شرعية الأنظمة الاستبدادية وتشكيل وعي المجتمعات بما يتماشى مع مصالح السلطة، مقاومة السرديات التاريخية المفروضة تتطلب جهودًا متعددة الأبعاد تشمل التعليم النقدي، تنويع المصادر، تعزيز الحوار العام، استخدام التكنولوجيا. هذه الاستراتيجيات يمكن أن تساهم في بناء وعي تاريخي أكثر شمولًا وموضوعية.

الجغرافيا وسرديات الاستبداد

تلعب الجغرافيا دورًا في تشكيل الهوية الوطنية، حيث تُستخدم لتأكيد الانتماء إلى منطقة معينة وتبرز أهمية التاريخ المحلي في تعزيز الولاء للسلطة الحاكمة تُستخدم المواقع الجغرافية، مثل المعارك التاريخية أو المدن القديمة، لتعزيز السرديات الرسمية، مما يساهم في تصوير السلطة كاستمرارية تاريخية تركز سرديات الاستبداد على أحداث جغرافية معينة لتدعيم شرعية السلطة، مما يسهم في تعزيز السرديات التي تدعم السلطة من خلال التركيز على التنمية أو الاستقرار في مناطق معينة، تؤثر الجغرافيا السياسية على كيفية تشكيل السرديات حول الهويات القومية، مما يساهم في تعزيز الاستبداد في سياقات معينة، حيث تُستخدم الجغرافيا لتقسيم المجتمعات أو تعزيز الانقسامات، مما يتيح للسلطة الاستبدادية تعزيز سيطرتها، يمكن للسلطة أن تستغل الجغرافيا لخلق أعداء خارجيين، مما يعزز من شرعيتها من خلال تنمية الشعور بالتهديد، تُستخدم الجغرافيا في السرديات لتعزيز فكرة أن السلطة هي الحامية للموارد، مما يعزز من صورتها كجهة شرعية، أحيانا تُستغل الكوارث الطبيعية لتبرير الإجراءات الاستبدادية من خلال تصوير السلطة كمنقذ، تلعب الجغرافيا دورًا مهمًا في ترسيخ مفهوم السرديات لسلطة الاستبداد من خلال تشكيل الهوية المدجنة، وإعادة تشكيل الذاكرة التاريخية، والتحكم في الموارد، والاستغلال السياسي للجغرافيا. هذه العوامل تساهم في تعزيز شرعية الأنظمة الاستبدادية وتحديد كيفية فهم المجتمعات لتاريخها وهويتها.

التنوع الثقافي وجغرافيا السرديات

في الأنظمة التي تضم تنوعًا ثقافيًا، قد تُستغل الجغرافيا لتعزيز الانقسام بين الجماعات المختلفة، مما يساهم في تعزيز الاستبداد، وتصويرها كحامية للأمة، كما في بعض الأنظمة الشمولية، يمكن أن تؤثر العلاقات الجغرافية مع جيران معينين على كيفية تشكيل السلطة لسردياتها، مما يعكس استراتيجيات مختلفة في التعامل مع التهديدات، يمكن أن تُستخدم الجغرافيا لتبرير استجابات استبدادية بينما يمكن في أنظمة أخرى أن تُستغل لتأكيد فشل السلطة، تؤدي الصراعات في مناطق معينة إلى تعزيز الاستبداد من خلال استخدام الجغرافيا كأداة للتعبئة الوطنية أو توجيه الانتباه بعيدًا عن القضايا الداخلية. تختلف الأدوار الجغرافية في الأنظمة الاستبدادية بناءً على السياقات التاريخية والثقافية، والتوزيع السكاني، والموارد الاقتصادية، والجغرافيا السياسية، واستجابة الأنظمة للأزمات. هذه الفروقات تؤثر على كيفية استخدام الجغرافيا لتعزيز الاستبداد وترسيخ السرديات التاريخية. تسهم السرديات التاريخية كثيرا في معاضدة سلطة الاستبداد في التأثير على التنمية المستدامة في المجتمعات الشرق أوسطية من خلال تقييد التفكير النقدي، وتعزيز والانقسامات وهذا يوضح ان السرديات التاريخية في ازمة مركبة من الايمان والمعرفة لأنها تعزز من سلطة الاستبداد وتمكنها من استغلال الموارد الغنية بتأثير ميتافيزيقيا الايمان لخلق مجتمعات تفتقر الى موقع حضاري متقدم وتنمية مستدامة.

***

غالب المسعودي – باحث عراقي

  سؤال يصعب علينا تجاوزه واجتيازه

بمنأى عن المشاعر المضطربة والمواقف المتباينة حيال عنوان هذا المقال أو عتبة ذلك الخطاب (من أين نبدأ؟)، فلهذا الخطاب قصة وحكاية؛ فمنذ قرابة ثلاثة أشهر دعاني د. خالد كموني، وصحبة من أعضاء وحدة الدراسات الفلسفية والتأويلية، لنتشاور سويًّا حول الندوات المزمع عقدها خلال العام الحالي 2025م، ومناقشة موضوعاتها المقترحة، وعناوينها، ومدى أصالتها، وانتمائها لرسالة المعهد العالمي لتجديد الفكر العربي، ووجهة منبره الجامع بين التجديد والتنوير والتأويل، وإحياء الفلسفة التطبيقية المعنية بتثقيف الرأي العام، وتوعية شبابه، وتأهيلهم لحمل رأيه الإصلاحي.

ومن ثم قام الحضور بتقديم مقترحاتهم، وقمت بدوري بطرح هذا العنوان للندوة التي سوف أتحدث فيها مخاطبًا قادة الرأي من المعنيين بالمعارف الفلسفية، والمحبين للمحاورات العقلية.

وكشفت عن علّة اختياري لهذا العنوان؛ فهو إحياء لسنة رواد الفكر العربي الحديث الذين انتهجوا (فلسفة السؤال) كلما أرادوا اتخاذ قرار في مسألة، أو انتخاب حل لقضية، أو ابتداع أحد الأساليب أو العادات من ثقافة الأغيار وتطويعها وإدراجها في مشروع نهضتهم، التي عكفوا على وضع برامجها وآلياتها منذ أُخريات القرن الثامن عشر.

أجل، كان رواد النهضة يتحاورون ويتثقفون ويتواصلون على صفحات الدوريات، وفي المنتديات، وعلى المقاهي، شأن فلاسفة التنوير في أوروبا.

وكان السؤال الفلسفي هو ملهِمهم، والمحرض الفعّال لتفلسفهم وتلاقح أفكارهم، حيث توليد الأفكار، وانتخاب النافع من الرؤى، والطريف من التصورات.

نعم، أتساءل، فالخطب جلل، والخطاب مرّ، والجواب يحتاج إلى حكمة العقل الجمعي، الذي يُجيّش الجهود، ويوحد المواقف، ويحسم الأمر.

ولمّا كان التأويل هو مطلب محب الفلسفة، فأستميحك، عزيزي القارئ، في ممارسة رياضية تفكيكية لهذا العنوان (من أين نبدأ؟) لتفسير وتفكيك وقراءة ونقد دلالته، ومفهومه، ومعناه، ومقصده، وغايته، والمستور في جوفه، والمُلغز في مرماه.

علّنا ننتقل من التفكيك إلى البناء، لنزود عن مشخصاتنا وثوابتنا وهويتنا التي انتهكها الأغراب وأذيالهم من المضللين والمنتفعين.

والآن، أدعوكم إلى قراءة القراءة، ونقد النقد.. من أين نبدأ؟!

هل السؤال عن بداية المسير؟ أم القصد هو الرهبة والخوف من المبادرة، والتردد، والعجز، واستمراء الركود؟ أم تراه وصفًا للشتات، وتعبيرًا عن استمراء القعود، والركود، واختلاف الرؤى، وتوقّع سوء المصير؟

تُرانا نتساءل لنفصح عن قلة حيلتنا؟ أم نأسف على عِظَم مصيبتنا؟ فاستحال السؤال إلى صرخة من فرط الألم، وحسرة النفس، ووجع البدن؟ أم تحسبه دعاءً باكيًا للتعجيل بحضور المهدِي المنتظر؟ أم توسلاً للإله المعبود المقتدر؟ أم هو استسلام لما كُتب علينا من قدر؟ مردّدين مع المعري: (مشيناها خُطًى كُتبت علينا؛ ومن كُتبت عليه خُطًى مشاها).

وإذا سلَّمنا بأننا نطلب الدليل والمرشد النبيل، فمن عساه يكون؟ أصادق أمين؟ أم كذوب لعين؟ أم خائن مكين؟

نعم، فالخطب جسيم، والخطر سقيم، فليس من السؤال فكاك.

وإذا ما انتقلنا من تلك الرياضة الذهنية إلى الحديث عن الموضوع الرئيس الذي يشكّل جوهر المحاضرة، ويشغل موضع المركز من هذه المأدبة الفلسفية، سوف نجده ينقسم إلى خمسة محاور رئيسة، هي:

1- من السؤال الفلسفي إلى فلسفة السؤال:

تباينت كتابات المعنيين بتاريخ الفلسفة حول أصالة السؤال الفلسفي، والمكانة التي يشغلها في مركزيّة (ما نطلق عليه بنية التفلسف)، فذهب بعضهم إلى أن السؤال الفلسفي هو وليد التأمل، الذي حرّض الفلاسفة على التفكير في الإجابة المقترحة التي يثيرها العقل خلال رحلة تأمله، وعليه فالسؤال الفلسفي هو الذي أنتج الفلسفة وصنع الحكمة أو استلهمها من قوة مجهولة.

في حين نزع الفريق الثاني إلى أن (حوار الأنا مع الذات) هو الذي ولّد السؤال الفلسفي، ومن ثم تتقدّم المسحة الفلسفية على السؤال الفلسفي؛ فليس كل سؤال يقود العقل إلى التفلسف، والعكس غير صحيح، فالتفلسف هو الذي يشكّل بنية الدهشة في صورة السؤال (ماذا، ما، لماذا، كيف، أين؟) بصيغ متعددة، تراه في صورة استفهامية أو ساخرة أو استنكارية، محرضة على التفكير، أو معبرة عن إشكالية لم يُفلح العقل في الإجابة عنها، أو متهكمة ساخرة من الواقع المعيش، أم تحسبها صيغة رمزية معطاة، تحوي في جوفها عشرات الإحالات الإشارية والدلالية المسكوت عنها.

2- من الحكمة الفلسفية إلى فلسفة الحوار وتأسيس المنهج وابتداع النظريات:

لما كان السؤال لا يستقيم إلا بردّ منطقي يحمل بين طياته الحجة والبرهان، بات الحوار الفلسفي بدرجاته المختلفة (التحاور، الجدل، الت….

3- مكانة السؤال الفلسفي في الفلسفة التطبيقية الإسلامية:

إذا ما سلَّمنا بموضوعية الفكر الفلسفي العربي الإسلامي وميله للنزعة العملية التطبيقية، فسوف نجد لفلسفة السؤال من جهة، والسؤال الفلسفي من جهة أخرى، مكانة لا يمكن إنكارها في جُلّ المباحث العقلية الإسلامية، بداية من التساؤلات: (ما المعنى؟ وماذا عن الدلالة؟ ناهيك عن صيغ السؤال، وأساليب الإجابات التي تحوي بدورها إحالات إشارية للتهكم والنقد والتحريض على التفكير والتأمل). ويبدو ذلك في كتابات الشعراء، وأقاويل سجع الكُهّان، ثم فلاسفة اللغة الذين حاكوا المناطقة في كتاباتهم، مثل: المتنبي، وأبي تمام الطائي، وكتّاب المعاجم العربية، ومُصنِّفي المؤلفات البيانية (المعنية بالمعنى والدلالة والمفهوم والمصداق والغرض)، ومنهم "أبو هلال العسكري".

(وللحديث بقيّة)

***

بقلم: د. عصمت نصار

لا شكّ أنّ كلّ شخص يرى المقاييس التي تقود لاستقراره بناء على معطياته التي لا إرادة له بها؛ كونها مصدر البيئة التي تولّد بها وهو ما لا إرادة له في اختياره. فالّذي يعيش الفقر اللاذع يرى الحياة في المال والذي يعيش مُهانًا يرى الحياة في كرامته، والذي يعيش مع الآخرين مرغما عليهم يرى الحياة في راحة البال.

لكن هناك حقيقة واحدة، أثبتتها حياة البائسين من الناس، حقيقة صامتة يخمدها الأفلاطونيون، حقيقة لا تُغنَّى في الأغاني، ولا تُكتب في الروايات، نعيشها بلا وعي، وهي أنَّ كلّ الفقراء يمكنهم الاِستغناء عن الضمير أو المبدأ أو الكرامة أو الحبّ -أو على أقل تقدير فكرة معينة تمسّكوا بها- مقابل المال، لكن ليس كلّ الذين يملكون المال يمكنهم الاستغناء عن أموالهم مقابل الضمير أو المبدأ أو الكرامة أو الحب.

و قد رأينا عبر التاريخ أن أغلب الذين باعوا قضيتهم ومبادئهم وحبّهم هم الفقراء، الذين أرادوا أن يريحوا أجسادهم على حساب ضميرهم، فأيّ ضمير هذا الذي يحرمني من ملذات الحياة والعيش الكريم.

حينما تُحاصر نوائب الحياة الفقراءَ وتنكثهم وتجشّمهم بين لوعات القدر تبدو الحياة لهم كأنّها كذبة لا تصلح للعيش، ونلاحظ هذه الفكرة المرسومة في أذهانهم عندما نقترب منهم أكثر، فترى التنافر بين شخصيتين الأولى -و هي الاجتماعية- تتماثل مع معتقدات المجتمع، والثانية -الخاصة- تتذمّر بروح التساؤل والغيظ من القدر المكتوب، والنفور من كل نصّ دستوري وديني ومن ينقل ذلك النص للعامّة ويدعوهم للقناعة والزهد من قصره السامق.

وقد شهدنا ذلك عبر التاريخ مثل حركة التنوير وحركة الإصلاح الإسلامي والإصلاح الديني للكنيسة الكاثوليكية وحركة حقوق المدنيّين في الولايات المتّحدة، وغيرها الكثير من الحركات التي نبعت -باختلاف نتائجها وغاياتها- من احتدام الروح المعارضة وإشعال نار الإباة والرفض على حساب الكرامة، وهو ما نتج من إيقاض هذه الشخصية المتمرّدة على تناقض المجتمع فخلقت المعارضة الجماعية التي بدورها العدوّ الأكبر للمستبدّين.

ولم نشهد عبر التاريخ ثورة للأغنياء والنبلاء على الفقراء وأصحاب الطبقة العاملة؛ لأن هدف الثورات أساسًا هو المساواة وعدم حصر المال والسلطة عند فئة دون أخرى.

و ها هي الثورات العلمية التي كان وقودها عبر التاريخ هو العقل الواعي والحذاقة والإحساس بأهمية العلم.

و مثل تلك الثورات لم ولن يدخل السلاح بين يدي معارضيها، لأنّ غايتها عامّة حتى بعد تحققها، فلا يتقاسم أصحاب الثورة كعكة المنصب بعد نيله. فلا وجود لأي منصب في هذا النوع من الثورات، ولذلك عرفت الثورة العلمية بإخلاص ثوّارها، لأن ما عداها من الثورات تكشف نوايا الثوّار بعد تحقق الثورة.

ولو اطلعنا بحدق ساخر على ما يسعى إليه الإنسان عبر العصور لاستنتجنا أنه يسعى للمال، ولو قلنا السلطة فإن السلطة بلا مال مثلها مثل مركبة بلا وقود وما هو غير معقول.

و يشذّ عن ذلك المسعى أصحاب الضمير الإنساني الذين خلقوا كي يشعلوا منارة العلم والإرادة والوعي الإنساني.

و هذا لا يعني أنّ السمو للمال ليست غاية من غاياتهم، إنما شيء مكمّل أو ممهد وليس الهدف الأساسي.

يقول لي أستاذ الحقوق الدكتور محمد راضي -ويلحّ بقوله- أن السلاح الأول والأهم وهو بمثابة مفتاح لنهوض هذا الجيل بالتالي البلد هو "الوعي".

وأنا أتفق معه نسبيًا، لأنّ العقل المعاصر نتاج ايدولوجيا تراكمية عبر التاريخ، تسببت بإنهاك العقل بالتالي خموله.

إذا كان الوعي في العهود الماضية تمثيلا لتهديد السلطة المستبدة والفكر التعسفي فاليوم لم يعد الوعي بهذه القوة؛ بسبب النخب المؤدلجة والحداثة التي عجز العقل الشرقي عن التعامل معها ولا شكّ بعد حين سيكون الوعي سيفًا في زمن الأسلحة النارية.

الفائز الوحيد في النهاية هو صاحب المال، أما صاحب الوعي والفكر "ريشةً في مهبّ الريح".

و قد دعتني عبارة أحد الأصدقاء للتفكّر بها حينما قال لي "المال أقوى كائن على وجه الأرض، لأنه يستطيع أن يغيّر القدر ".

شئنا أم أبينا فإن الواقع المعيشي ينحدر بهذا الاتجاه.

المال دون علم حياة، والعلم دون مال ضربة حظ متعجرفة.

كان لي صديق في أيام الثانوية يقول: عندما توفي عمّه - الولد الثاني لجدّه- قال جده بعد حين: "لا يهم، الإنسان يعوَّض، أما المال فلا".

ذلك قول يخلو من أي تمثيل إنساني، دنيء يدل على موت ضمير صاحبه، إلا أنّه نطق بحقيقة مخبَّأة في العقل الباطن للعامة، لا قيمة للناس أمام المال.

حتّى ولو جمعنا حبّ الكون كلّه بين أيّ حبيبين، سيقتل الواقع حبَّهما؛ لأنّ الحب بمفرده لا يساوي شيئا، قد يكون تعبيرا عن راحة داخلية لكنّ استمراره يعتمد على الظروف الخارجية.

وهناك مقولة أوغندية أعتقد أنها اختصرت كلّ شيء:

الرجل الوحيد الذي يحبّ المرأة الفقيرة هو .. والدها.

المرأة الوحيدة التى تحب الرجل الفقير هي .. والدته.

لله من عبارة بليغة، فحبّ الأم وحبّ الأب حبّ فطري بحت، حبّ دون مقابل، لا يشوبه أيّ شيء (يعززه أو يقلله)، قد يظهر أنه متخلخل بين الابن ووالديه، ذلك بسبب التفاوت العقلي واختلاف الظروف، وإلا هو جوهريا كما هو.

عداه فإنّ كلّ حبّ في الكون بُنِيَ على الفطرة بمفردها آل للفشل الذريع؛ لأنّه حبّ يحتاج لمكمّل له، فهو ليس فطريّ بحت كما يتصور صاحبه، إذ أنّه إسقاط لتولّد غاية غريزيّة تبحث عن الاستقرار والسكون لسدّ النقص في النفس.

وكما يقال لو تزوّج قيس ليلى لطلّقها بعد ثلاثة أيام!

وكلّ ما ذكرت من تحديد دقيق لغايات النفس البشرية ليس شيئا مستحدثا، أو نتاج ايدولوجيا أو اتجاهات فكرية معينة، إنما فطرة مفطورة من الله تعالى.

لكنّ الكيفية التي تقود للتوازن العقلي والتمسّك بخيط الحقيقة تباينت بشدّة بين العقل القديم والعقل المعاصر.

فبدأ الإنسان المعاصر بالتأثّر الشاسع بمجرد أنّه لمح أُدُمَ وعنوانات المفاهيم دون التعمّق بموضوعاتها، كونها متعبة ومنهكة لعقله الذي تعوّد على السرعة، وهو ما قاده لإيقاض غرائزه وغاياته الزائلة؛ كونه لم يدرك الالتزام والمسئولية والإخلاص. باتت تلك المفاهيم يوما بعد يوم شيئا عابرا وثانويّا وليست مقاييسًا لعيش حياة كريمة، بل هناك اشياء أهم بكثير، فعلى الإنسان أن يسير للأمام ويترك القواعد والقوانين التشريعية والدينية المستهلكة -حسب وصفه-.

و كما عجبت من أحد الأصدقاء عندما ترك معلقة زهير بن أبي سلمى في منهجه الدراسيّ ولم يحفظها معللًا أننا في زمن الحداثة والتقدم، ما فائدة هذه الخزعبلات، وما لي سوى أن ضحكت بتحسّر وتعجّب ... فنحن في زمن السرعة والتقدّم، وقد فشل الإنسان المعاصر في التعامل مع الحداثة.

صار آلةً مبرمجة تخلو من العواطف والمشاعر، يسير ولا يعي وجهته، يتخبّط بالعابرين وينسى أنّ نصيحة المتأنّي -الذي يستخفّ به- خير من الركض بلا دراية.

***

عباس القسام

 

تُعدّ البروباغندا إحدى أبرز أدوات التأثير في الرأي العام، حيث تعتمد على توجيه المعلومات بأساليب مدروسة لتحقيق أهداف محددة.

وعلى الرغم من ارتباطها بحرية التعبير، إلا أنها تثير جدلاً واسعًا حول حدود استخدامها، خاصة عندما تتحول إلى وسيلة للتضليل أو التحكم في العقول.

في هذا المقال، سنتناول مفهوم البروباغندا، ونتتبع تأثيرها على المجتمعات، مع محاولة الإجابة على سؤال جوهري: هل البروباغندا شكل من أشكال الحرية، أم أنها نقيض لها؟

 في عالم اليوم لا تكتفي البروباغندا بتقديم الأفكار، بل تتلبس عباءة الحرية لتروّج لما يخدم مصالحها. مستخدمة الراي العام كوسيلة وهكذا أصبحت الحرية واجهة لتمرير رسائل موجهة يصعب أحيانا تمييزها عن الحقيقة.

ولا يمكن ايقاف هذا البعبع - اي البروباغندا - الا بوضع القيود على مفهوم الحرية بحد ذاتها؛ فالقيد يضمن ازاحة الستار على الحرية وكشف ما يقبع ورائها، وتضييق الخناق على مستخدمي هذا المفهوم.

ففي خضم الثورة المعلوماتية والشبكة العنكبوتية؛ كُل المعلومات مباحة وسهلة الحصول عليها؛ لكن ليس كل المعلومات صحيحة ودقيقة؛ والإنسان ما أن يقرأ المعلومة اليوم نادرا ما ان يشكك بها ويذهب لتدقيقها، مما يتيح لها فرصة ذهبية لصنع ما تشاء من مفاهيم في عقول الناس.

انها الشيطان - اي البروباغندا

وويرى الدكتور حيدر عبد السادة جودة في مقال له على (جريدة الصباح العراقية) بعنوان (الحرية المفهوم العائم - العدد 6135 لسنة 2025) ان من الضرورة وضع القيود على مفهوم الحرية العائم فيجب أن تخضع لقيد؛ ويجب أن يكون القيد كما في مفهوم الفضيلة لدى ارسطو - الوسطية - وكما في الوسط الذهبي لكونفوشيوس فلا افراط ولا تفريط؛ فيجب سلب الحرية عن الحرية ذاتها لتلقين هذا المفهوم.

ويؤكد فيليب زيمباردو عالم النفس الشهير في كتابه ( تأثير الشيطان) على فاعلية ودور البروباغندا في أداء عملها حيث يقول : لا يقوم أصحاب النفوذ والسلطة عادة بتنفيذ الأعمال القذرة بأنفسهم، لكن - كسادة المافيا - يتركون الأعمال الكبيرة لمرؤوسيهم.

تخلق الانظمة هرميات للسيطرة بخط نفوذ واتصال نازل، ونادرا بالعكس.

عندما يرغب أحدا أفراد نخبة السلطة في تدمير دولة عدوً ما؛ فإنه يلجأ إلى خبراء - الدعاية - ليصنعوا خطة كراهية، ما المطلوب لجعل مواطني مجتمع ما يكرهون مواطني مجتمع آخر إلى الحد الذي يجعلهم راغبين في الانفصال عنهم أو في تعذيبهم بل وفي قتلهم؟ يتطلب الأمر مخيلة عدائية وبناء نفسيا مدمجا بعمق في عقولهم عن طريق الدعاية التي تحوّل هذا الآخر إلى العدو». هذه الصورة هي أكبر دافع للجندي الذي يذخر سلاحه الناري أول ما يذخره بالكراهية والخوف صورة العدو المخيف الذي يهدد سعادة الفرد ويهدد الأمن القومي للمجتمع، تدفع الآباء والأمهات إلى الزج بأبنائهم في أتون الحرب ودعم الحكومات في إعادة ترتيب الأولويات وتحويل أبسط الأدوات إلى آلات للقتل. كل هذا يتم إنجازه بالكلمات والصور، وبتصرف في أحد الأقوال المأثورة نقول:

قد تكسر العصي والحجارة عظامك، لكن التسميات يمكن أن تقتلك في بعض الأحيان.. تبدأ العملية بتنميط الآخر، تجريده من إنسانيته (حيونته)؛ فالآخر لا.

قيمة له، الآخر بالغ القوة الآخر شيطاني الآخر مطلق التوحش الآخر خطر رئيس يهدد قيمنا ومعتقداتنا الغالية، ومع تصاعد الرهاب العام واقتراب خطر العدو يتصرف

العقلانيون بلا عقل ويذعن أصحاب التفكير المستقل ويتصرف المسالمون كما لو كانوا محاربين، نجد صورا درامية للعدو على  الملصقات وفي التلفاز وعلى أغلفة المجلات وفي الأفلام والإنترنت، حيث تغرس عميقاً مشاعر الخوف والكراهية في أعماق الدماغ.

و يشير الى عدة قرائن وابادات جماعية قد ارتكبت؛ فيقول اننا في- عصر القتل الجماعي -

فكما عمل هتلر على إبادة اليهود.

وكما قتل العثمانيون ١.٥ مليون من الارمن ويمر بالاتحاد السوفيتي وماو زيدونج لينتهي القول بصدام حسين.

أنها قوة طليقة قادرة على قلب الصالح طالح والعكس تماماً؛ انها قوة طليقة إن اساءنا استخدامها انقضّت علينا.

 فالفعل الاجدر لا يقوم بنفيها بل تحييدها وتحييد دورها وفاعليتها قدر الإمكان، كما عبر عنها عبد السادة فلا افراط ولا تفريط.

***

حيدر كريم

لطالما كانت الحرية، بمختلف تجلياتها، مطلبًا أساسيًا للشعوب، لكنّها في الوقت ذاته تظل مفهومًا إشكاليًا يحمل في طياته تحديات كبرى. ففي العصر الحديث، مع تطور وسائل الاتصال وانتشار الفضاء الرقمي، اكتسبت حرية التعبير زخمًا غير مسبوق، مما أعاد طرح التساؤلات حول مدى حدود هذه الحرية وضرورة تنظيمها لضمان عدم تحولها إلى فوضى. وفي العالم العربي، حيث تتفاوت درجات الحرية من دولة إلى أخرى، تتجلى أزمة حرية التعبير بوضوح، حيث تصطدم بين واقع سياسي واجتماعي يسعى إلى ضبطها، وبين فضاء إلكتروني يكاد يكون بلا قيود

الحرية كقيمة إنسانية بين المطلق والمقيّد

الحرية مفهوم معقد، إذ إنها لا تعني الفوضى ولا الإطلاق المطلق دون مسؤولية. فالحرية، خاصة حرية التعبير، ينبغي أن تكون مرتبطة بمعايير تحمي الحقوق الفردية والجماعية. فحينما تصبح الحرية أداة للتعدي على الآخرين أو تهديد استقرار المجتمعات، فإنها تفقد قيمتها الجوهرية كعنصر بناء في النظام الاجتماعي. ولذلك، فإن الدول الحديثة تسعى إلى إيجاد توازن بين ضمان حق الأفراد في التعبير عن آرائهم وبين حماية السلم المجتمعي من التجاوزات التي قد تنشأ عن هذا الحق.

في المجتمعات الديمقراطية، يتم تنظيم حرية التعبير وفقًا لضوابط قانونية تهدف إلى منع التحريض على الكراهية أو العنف، وحماية الخصوصية، وعدم نشر الأخبار الكاذبة التي قد تضر بالمصلحة العامة. أما في بعض المجتمعات الأخرى، وخصوصًا في العالم العربي، فإن القيود المفروضة على حرية التعبير تتجاوز مجرد التنظيم إلى محاولات للسيطرة على المجال العام ومنع أي خطاب ناقد للسلطة، مما يعزز الإحباط الشعبي ويحدّ من تطور الفكر النقدي والإبداعي.

حرية التعبير في العالم العربي: بين القمع والانفلات الرقمي

تعاني حرية التعبير في العالم العربي من مفارقة كبرى، فمن جهة تفرض الأنظمة السياسية قيودًا مشددة على الإعلام التقليدي وعلى الفضاء العام، ومن جهة أخرى يجد الأفراد في وسائل التواصل الاجتماعي متنفسًا للتعبير بحرية لم تكن متاحة لهم من قبل، وقد أدى هذا التناقض إلى ظهور أشكال جديدة من الحراك الاجتماعي، حيث بات الأفراد قادرين على تجاوز الرقابة الرسمية عبر المنصات الرقمية

ومع ذلك، فإن هذا الفضاء المطلق الذي توفره وسائل التواصل الاجتماعي يحمل في طياته تحديات كبرى، فمع غياب الرقابة المؤسساتية، تتحول بعض منصات التواصل إلى ساحة للفوضى، حيث تنتشر الأخبار الكاذبة، وخطابات الكراهية، والتحريض الطائفي والسياسي. كما أن هذه المساحة المفتوحة قد تُستخدم كأداة لقمع الحريات نفسها، من خلال حملات التشويه والاغتيال المعنوي للمعارضين، مما يخلق بيئة غير صحية للنقاش العام.

التحديات المرتبطة بغياب الضوابط في الفضاء الرقمي

في العالم العربي، يمثل الفضاء الرقمي تحديًا مزدوجًا لحرية التعبير، فمن ناحية يتيح للأفراد حرية واسعة قد لا يجدونها في الإعلام التقليدي، ومن ناحية أخرى، فإن غياب التشريعات العادلة والمنصفة يجعل هذا الفضاء سلاحًا ذا حدين، يمكن تلخيص أبرز هذه التحديات في النقاط التالية:

1- انتشار الأخبار الكاذبة والتضليل الإعلامي: مع غياب الرقابة الفعالة، أصبح من السهل التلاعب بالمعلومات، مما يؤدي إلى تضليل الرأي العام وإثارة الفتن.

2- خطابات الكراهية والتطرف: تستخدم بعض الجهات الفضاء الرقمي لنشر محتوى يحرض على العنف أو يرسّخ الانقسامات المجتمعية، مما يهدد الاستقرار الاجتماعي.

3- التوظيف السياسي للفضاء الرقمي: تلجأ بعض الأنظمة إلى استخدام وسائل التواصل الاجتماعي كأداة لمراقبة المعارضين أو توجيه الرأي العام من خلال الجيوش الإلكتروني.

4- التهديدات للخصوصية والأمن الرقمي: مع غياب قوانين تحمي خصوصية المستخدمين، بات الأفراد معرضين للاختراق الرقمي أو الملاحقة بسبب آرائهم.

نحو نموذج متوازن لحرية التعبير في العالم العربي

إن الحلّ لأزمة حرية التعبير في العالم العربي لا يكمن في فرض رقابة مشددة أو إطلاق الحرية بلا قيود، بل في تحقيق توازن يضمن حرية التعبير المسؤولة في إطار يحترم حقوق الأفراد والمجتمع. ولتحقيق ذلك، يجب العمل على:

1- إصلاح القوانين المتعلقة بحرية التعبير: ينبغي وضع تشريعات تحمي حق الأفراد في التعبير عن آرائهم دون خوف من العقاب، مع منع التحريض على العنف أو الكراهية.

2- تعزيز الإعلام المستقل: تحتاج الدول العربية إلى مؤسسات إعلامية حرة تضمن تدفق المعلومات بشفافية دون خضوعها لسلطة سياسية أو اقتصادية.

3- تعزيز الوعي الرقمي: من الضروري نشر ثقافة الاستخدام المسؤول لوسائل التواصل الاجتماعي، بحيث يتمكن الأفراد من التمييز بين الأخبار الصحيحة والمضللة.

4- تطوير آليات رقابة مجتمعية مستقلة: بدلًا من الاعتماد على رقابة الدولة، يمكن إنشاء هيئات مستقلة لمراقبة المحتوى الإعلامي وفق معايير مهنية وأخلاقية.

والخلاصة إن أزمة الحرية وحرية التعبير في العالم العربي تعكس تعقيدات العلاقة بين السلطة والمجتمع، وبين القيم التقليدية ومتطلبات العصر الرقمي، وبينما يتيح الفضاء الإلكتروني متنفسًا جديدًا للتعبير، فإنه في الوقت نفسه يطرح تحديات تتطلب حلولًا حكيمة توازن بين حرية الرأي والمسؤولية الاجتماعية.

إن إيجاد نموذج متوازن لحرية التعبير في العالم العربي لا يمكن أن يتم دون إصلاحات جوهرية تعزز الإعلام الحر، وتنشر الوعي الرقمي، وتضع تشريعات تحمي الحقوق دون أن تتحول إلى أداة قمعية، فبدون حرية مسؤولة، لا يمكن للمجتمعات أن تتقدم أو تحقق الاستقرار الحقيقي.

***

كفاح محمود

شكّل الأمر الإلهي بالقراءة فاتحة عهد جديد، يُصبح فيه الكتاب منطلق تغيير، ويكتسب فعل القراءة بموجبه سمة التعدد، لتصبح قراءات تثري المنظومة الاجتماعية والسياسية والحضارية بصفة عامة. وحين ألغى الإسلام وساطة الكهنة والمصالح بين الرب وعباده، فإنه أزاح ستارا كثيفا من الغموض والسرية التي أرهقت الإنسانية، وأطلق عنان المسلم ليجوب بعقله التواق أرجاء الكتاب المسطور والكون المنظور.

لفعل القراءة إذن سمة الثورية التي تهز العقل الراكد، وترفع عن البصر غشاوة السجود لحجارة منحوتة. لذا نصت جملة من الأحاديث النبوية على فضائل "القراءة" وآدابها، سواء ما تعلق بالكتاب الأول، أو بما سينتج عنه لاحقا من كتب ومكتبات غيّرت مسار أمة بأكملها. وحول هذه القيمة المعنوية تفاوتت الهمم في الولاء للكتب والتعلق بها، وشهد التاريخ نماذج حية أفردت للقراءة حيزا واسعا من وجودها، وعبّرت عن ذاك الشغف بكل ما وسعها من قول وفعل، وموقف جدير بالتبني أو الرفض!

لعلاقة المسلم بالكتاب صور ومداخل شتى، جرى تناولها بشكل متفرق في كتب ودراسات عديدة؛ رغم وجود خيط ناظم يكشف عن شغف المسلمين بالكلمة المكتوبة، منذ أن أثمرت الفتوحات عن اتصال إيجابي بالثقافات القديمة. وتولد عن تلك العلاقة سلوكيات وممارسات، تراوحت بين الولع بالكتب، وإرساء ميثاق أخلاقي لتداولها بين الأفراد ضمن ما اصطلح عليه ب"آداب الإعارة"، ثم إدماج هذا الشغف في بنية الوقف الإسلامي خدمة للمعرفة، وإسهاما في المسيرة الحضارية للأمة.

لا تتسع هذه الأسطر لكل حكايات الولع بالكتب، فقلما خلت ترجمة فقيه أو أديب أو عالِم مسلم من تجليات السعي خلف مخطوطة أو مصنف، وألوان المشاق التي هانت في سبيل ذلك. غير أن ما يستوقفنا هنا هي أشكال التعبير عن ذاك الولع، والحرص على الكتب إلى حد البخل بها أو إتلافها.

ذاع اسم الجاحظ كأيقونة عربية في عالم الكتب لأن ولعه لم يكن ترفا معرفيا أو اجتماعيا. فعلاقته بالكتاب حالت حتى دون مواجهته لأعباء الحياة رغم فقره. وأكسبته ميلا للتحرر من تقاليد المجتمع، ليشق سبيله للمعرفة بعيدا عن الأطر الجاهزة. حكى عنه أبو هفان الشاعر قائلا: لم أر قط ولا سمعت من أحب الكتب والعلوم أكثر من الجاحظ، فإنه لم يقع بيده كتاب قط إلا استوفى قراءته كائنا ما كان، حتى إنه كان يكتري دكاكين الوراقين ويبيت فيها للنظر.

ولما صار اقتناء الكتب الفاخرة عنوانا للرفاهية، حرص الجاحظ على أن توجهه بصيرة القارئ الفذ ليسعى خلف النفيس من العلوم والآداب والحكمة. فإذا عُرضت عليه حتى الأوراق المقطعة التي لا يرى غيره فيها فائدة، فإنه كان يطيل فيها النظر، ويؤدي لها مقابلا. ولما سخر منه أصحابه يوما، قال: أنتم حمقى والله، إن فيها مالا يوجد إلا فيها، ولكنكم جهال لا تعرفون النفيس من الخسيس!

حتى موته كان تعبيرا عن الولع بالكتب، فمن عادته أنه يضع المجلدات كالحائط من حوله ثم يجلس ليقرأ. ولما أصيب بالفالج وعجز عن الحركة وقع عليه مجلد فمات.

ولطالما كانت علاقة السلطة بالكتاب مقتصرة في الغالب على إنشاء المكتبات، ورعاية العلماء وتشجيع الحركة الثقافية، إلا أن سيرة الخليفة الحَكَم المستنصر بالأندلس تضعنا أمام حالة فريدة من عشق الكتب، والانصراف إلى العلم رغم ما تقتضيه الخلافة من أعباء.

شارك الحكم في علوم عصره قارئا وعالما ومثقفا. فأتقن العلوم الإسلامية حتى أن بعض الشيوخ سمعوا منه الحديث النبوي. وأنشأ بناء خاصا للكتب يعده المؤرخون أعظم مكتبة إسلامية في العصور الوسطى، إذ جمع فيها ما يقرب من نصف مليون مجلد. وكان له مراسلون يطلعونه على جديد الكتب فيبعث بالمال الوفير لشراء النسخة الأولى ليكون أول من قرأها. ومن أمثلة ذلك أنه أرسل ألف دينار لأبي الفرج الأصفهاني كي يرسل له النسخة الأولى من كتابه "الأغاني " ففعل.

إلى هنا يشترك الحَكم مع خلفاء آخرين في لقب الحاكم المتنور، الذي يعلي من شأن الثقافة كدعامة للنهضة في بلده، ويكتفي بالتشجيع وتوفير البنى والاعتمادات اللازمة. إلا أن الرجل كان بالفعل مولعا، بحيث صرف وقته لقراءة الكتب والتعليق على حواشيها، والاستدراك على مؤلفيها. يقول الدكتور حسين مؤنس في كتابه ﴿معالم تاريخ المغرب والأندلس﴾:" وقد عثرنا بالفعل على كتب عليها خط الحَكم وملاحظاته، وكان العلماء بعده يعتبرون هذه الملاحظات أصولا تعتمد. ولم يقتصر على علوم العرب بل عنى بكل العلوم، وتحت إشرافه ترجم قاسم بن أصبغ البياني وحفص بن ألبر كتاب التاريخ لهيروشيوش من اللاتينية، وترجموا له كتاب ديسقورديوس في الطب من اليونانية. وكان يرسل الناس إلى شتى البلاد ويطلب إليهم أن يكتبوا دراسات عما زاروه من الأقطار ويحتفظ بهذه الدراسات في مكتبه." وبسبب هذا الولع تعرض للنقد لأنه أتاح لضعاف النفوس أن يعبثوا بأمور الحكم، وللأعداء أن يدشنوا سلسلة من الغارات على أطراف الدولة.

أصبحت سوق الكتاب رائجة في المجتمع الإسلامي، وأدى التسابق لاقتناء النادر منها إلى بروز صيادي المخطوطات والمسودات النفيسة. وطُرحت إشكالية التوفيق بين كراهية كتمان العلم وحبس الكتب من جهة، والحذر الواجب من ضياعها أو تسلط غير السفهاء عليها من جهة أخرى. وهنا تجدر الإشارة إلى أن بعض النماذج التي ترد ضمن الولع بالكتب لا تنتمي بالضرورة إلى مصاف القراء، إذ كان شراء الكتب والسعي للحصول عليها في بعض الأحيان تقوية للمركز الاجتماعي، وتأكيد الانتساب إلى النخبة المثقفة لا غير!

كان بذل الكتب وإعارتها سُنة محمودة بين طلبة العلم، وسَرت بين الناس مواعظ ونصائح تحذر من حبس الكتب. ومما يروى عن الزهري أنه قال: إياكم وغلول الحديث، قيل: وما غلول الحديث؟ قال: حبس الكتب.

وكتب الإمام الشافعي رحمه الله لمحمد بن الحسن رضي الله عنهما يقول: العلم ينهى أهلَه أن يمنعوه أهلَه. وينبغي للمستعير أن يشكر للمعير ذلك ويجزيه خيرا ولو بالدعاء.

إلا أن القيمة المعنوية، والمادية أحيانا، لبعض الكتب والمسودات التي دُونت بخط المؤلف، جعلتها عرضة للضياع وعدم الالتزام بردها لأصحابها. فأفرز النقاش الدائر بين طلبة العلم ومحبي الكتب وأرباب المكتبات الخاصة ثلاث وجهات نظر، كان لها الفضل في نشأة وإغناء ما اصطلح عليه ب"آداب الإعارة":

فريق أول آثر إعارة الكتب وعدم رد أي طالب يطلبها حتى وإن كانت نفيسة، قربة لله تعالى، وحرصا على نشر العلم. ويؤيد هؤلاء توجيه لسفيان الثوري رحمه الله مفاده: من بخل بعلمه ابتلي بثلاث: إما أن ينساه ولا يحفظه، وإما أن يموت ولا ينتفع به، وإما أن تذهب كتبه.

وفريق ثان قَيّد الإعارة بشروط، حرصا على استرجاع الكتب؛ كإعطاء ضمان أو رهن، أو التعهد برد الكتاب، أو الحصول فقط على نسخة عوض المخطوطة الأصلية.

أما الفريق الثالث ففضل عدم الإعارة مطلقا، إما بخلا بالكتب ومحبة لها، أو لأن الراغبين فيها ليسوا من طلبة العلم ولا يُؤمن جانبهم. واشتهر من هذا الصنف رجل يقال له: إبراهيم بن الفرس، وكان بحوزته مصنفات وكتب نادرة لابن حجر العسقلاني، ولم يكن يسمح بإعارتها حتى ورد عنه قوله: إذا عاينتُ الموت ألقيتها في البحر.

بالمقابل لجأ بعضهم إلى الحيلة لاقتناء الكتب بثمن بخس وعدم رد المستعار منها. فكان الإمام النحوي ابن الخشاب إذا استعار كتابا ثم طولب به يقول: دخل بين الكتب فلا أقدر عليه. وإذا حضر سوق الكتب وصادف كتابا ثمينا، غافَلَ صاحبه وقطع منه ورقة ليأخذه بثمن بخس. فجمع بذلك عددا لا يوصف من الكتب أوقفها على أهل العلم قبيل وفاته.

على هامش الجدل حول الإعارة نَمت ألوان من التعبير الأدبي التي يحث قسط منها على إعارة الكتب محبة للعلم، ويُحذر القسط الآخر من ذلك محبة أيضا للعلم. وبين هذه وتلك يستشف المرء تعلقا فريدا بالكلمة المكتوبة، وسعيا للارتواء بكل ألوان المعرفة الإنسانية. وهو الأمر الذي لفت انتباه ويل ديورانت في مؤلفه الشهير (قصة الحضارة) حين قال: " ولم يبلغ الشغف باقتناء الكتب في بلد آخر من بلاد العالم، اللهم إلا في بلاد الصين في عهد منج هوانج، ما بلغه في بلاد الإسلام في القرون الثامن والتاسع والعاشر والحادي عشر."      

وحرصا على فريضة نشر العلم وتقاسم المعرفة ولو بعد مفارقة الحياة، تفتقت الأذهان عن فكرة الوقف التي تعد بحق معلما حضاريا، وثمرة للرقي الفكري والحس الإنساني الذي تمتعت به أمة الكتب والمكتبات.

يُحصي المؤرخون والمهتمون بالوقف الإسلامي عشرات المكتبات ودور العلم، وآلاف المجلدات والمخطوطات التي أسهمت في توفير المعرفة للطلاب. فكان المرء يجمع ويبحث ويكون مكتبة، ويدفع أموالا طائلة لقاء كتب نفيسة، ثم يوقف حصيلة شغفه برمتها لتكون نافذة ثقافية للجميع. فأنشئت مكتبات في الجوامع والمستشفيات والزوايا، وتنافس ذوو السلطة والجاه في تخليد ذكراهم بإحداث المكتبات الوقفية في كل أرجاء البلاد، ووقف الكتب على مدارس ومساجد مع توفير دخل مادي ثابت للتكفل بمصاريفها. وبلغت من الضخامة والانتشار حد انصراف الناس عن شراء الكتب، حتى أنا أبا حيان النحوي كان إذا رأى من يشتري كتابا يقول له: " الله يرزقك عقلا تعيش به! أنا أي كتاب أردته استعرته من خزانة الأوقاف."

ولعل أسوأ ما لقيته مبادرة الوقف هو تعرض نفائسها للبيع والسرقة والإهمال، خاصة في أزمنة الركود الثقافي، مما جعل مكتبات ومتاحف الغرب شاهدا على المجد الذي أضعناه!

 إن وسائل الجذب التي تعرضها المؤسسات الثقافية في أرجاء العالم الإسلامي لتشجيع القراءة واقتناء الكتب، إضافة إلى المسابقات والمبادرات الرسمية والتطوعية، هي في النهاية جهد محمود لاستعادة الإنسان الفاعل والمنفعل مع قضايا أمته والعالم بأسره. إلا أن رفع الكتب إلى مقام الأولوية والشرط الحيوي هو الحجر الأنسب الذي سُيحدث دوائر في البركة الراكدة، ولن يتحقق الأمر إلا إذا كان لمحبي القراءة وعشاق الكتب حضور فاعل يستضيء بمشكاة الآباء، فما نبتَ مما لا أصل له لن يُعمّر! 

***

حميد بن خيبش

كتاب الجمهورية للفيلسوف اليوناني افلاطون والذي كُتب عام 375ق.م حدد معالم الفكر السياسي الغربي. اليونان عُرفت بـ "مهد الديمقراطية". ليس فقط لأنها شهدت اولى ديمقراطية في العالم، وانما لأن الكلمة ذاتها تأتي من كلمة ديموس اليونانية (الناس) وكراتوس (حكم). غير ان افلاطون يجادل بلاهوادة ضد فكرة الديمقراطية. يقول سقراط "الديمقراطية شكل ساحر للحكومة، مليء بالتنوع والاضطراب، ويوفر نوعا من المساواة بين اللامتساوين." اعتقد سقراط ان ليس كل شخص له الحق في التصويت. هو اعتبر التصويت مهارة تُكتسب بالحكمة. هذا ربما يثير الدهشة نظرا لأن الغربيين يعتقدون عادة انه من المهم جدا ان يعيشوا في ظل حكومة ديمقراطية. تقريبا جميع الدول الغربية هي ديمقراطية. وفي آخر انتخابات في الولايات المتحدة، كل من ناخبي ترمب وهاريز ادّعوا انهم "مدافعون عن الديمقراطية". وفي المملكة المتحدة، تعهدت حكومة العمال الحالية بتوسيع حق التصويت ليشمل منْ هم بعمر 16 سنة.

اذاً ما هي حجة افلاطون؟ وهل يمكن ان تكون سببا لفهم تراجع الثقة في الديمقراطية الحالية في الغرب؟

يشبّه افلاطون الديمقراطية بسفينة تضم عدد من المسافرين، كل واحد منهم  يرى له الحق في قيادة السفينة ورغم ان الملاح ماهر في مهنته لكنه لا يستطيع إقناع الركاب الآخرين ولهذا تسود الفوضى والشغب وتنتهي الرحلة بحالة من الاضطراب والإستياء. وحتى لو حصلت انتخابات صغيرة لاختيار الملاح، فان المسافرين الاخرين سيجادلون بان ذلك الشخص (الملاح) لا يستطيع تعلّم الملاحة، وان أي شخص آخر يمكنه القيام بذلك؟ او الادّعاء كذبا بان الملاحين هم دائما ينظرون الى اللوحات ويقومون بإجراء عمليات حسابية ولا يهتمون حقا بمخاوف المسافرين يوميا. او ان النسبة الاكبر من أصوات المسافرين اُعلنت بسرعة من خلال الرشاوي والصفقات والأكاذيب.

الحجج التي يعرضها افلاطون ضد الديمقراطية في كتاب الجمهورية جرى الحديث عنها من جانب الفيلسوف سقراط معلم افلاطون ومرشده. لكن النظام الذي يرفضه سقراط – في ديمقراطية أثينا في القرنين الخامس والرابع ق.م يختلف كثيرا عن الديمقراطية النيابية المعاصرة.

في ديمقراطية أثينا، المواطنون فقط يستطيعون التصويت على القوانين وانتخاب المسؤولين. الرجال يتناوبون على بعض المناصب في الدولة التي يتم اختيارها اعتباطيا بطريقة اليانصيب. لا كلمة للنساء والعبيد والناس الأجانب حتى لو كانوا يشكلون النسبة الاكبر من السكان. ديمقراطية اثينا ربما تكون وحشية. في كل سنة، يستطيع المواطنون التصويت على نفي شخص ما من المدينة لمدة عشر سنوات، والنظام الديمقراطي اتخذ قرارات فظيعة، مثل إعدام سقراط ذاته وارتكاب مجازر خطيرة.

لكن سقراط لايركز على لاعدالة ديمقراطية اثينا. جداله مبسط وأكثر عمومية. الحكم هو تجارة ماهرة. وكأي تجارة اخرى، كما يقول، ليس كل شخص لديه الموهبة او التدريب ليكون جيدا فيها.

في الوهلة الاولى، هذه المقارنة التي جرى تبنّيها من الجمهورية، تؤكد ان الديمقراطية لاتضمن وصول قادة ماهرين للحكم. لكن ذلك ينطبق ايضا على الانظمة الاخرى. الدولة ربما محظوظة في امتلاكها ملك لديه مواهب للحكم، ولكن يُحتمل ايضا ان تكون الدولة سيئة الحظ ويحكمها دكتاتور وحشي وغير كفؤ.

لذا، يحتاج سقراط الى حجة أفضل ضد الديمقراطية. االكتاب الثاني – الى الرابع من الجمهورية يعرض جدالا اكثر تركيزا. هنا يقول سقراط ان الحكم هو تجارة ماهرة تفتقر اليها غالبية الناس. فقط اولئك المهرة في التجارة ينبغي لهم الحكم. لكن بما ان الغالبية هي التي تحكم في الديمقراطية، لذا لا يجب ان تكون لدينا ديمقراطية.

هذا الشكل من الجدال يبدو يعمل ضد الديمقراطيات عموما، وليس فقط ديمقراطية اثينا ولا النسخ الحديثة للديمقراطية. وكما في رحلة السفينة، كذلك في حكم البلد. مثلما نحتاج الى كابتن ماهر للطيران وليس الاغلبية، نحن ايضا نريد حكام مهرة وليس الاغلبية لحكم الدولة.

المعارضون لحجة سقراط

هناك ثلاث مشاكل في هذا الجدال.

1- هل الحكم حقا مهارة مثل قيادة السفينة الطائرة؟ يجيب افلاطون بان مهارة الحكم تتطلب بالضرورة معرفة ما اشار اليه بـ "معرفة جيدة حقا". الجواب لايبدو مقنعا جدا.

2- حتى لو كان الحكم مهارة، فلا يعني ان اكثر الناس يفتقرون لهذه المهارة. هناك العديد من الحكام المهرة يتخذون قرارات في جميع مناحي الحياة، ليس فقط في السياسة. في الحقيقة، نحن ربما نعتقد ان القرارات الجمعية هي اكثر مهارة لأنها من غير المحتمل ان تعكس المعرفة والتجربة او التحيز لجماعة صغيرة.

3- اذا كان الحكم تجارة ماهرة، وان معظم الناس يفتقرون حقا لهذه المهارة، هناك اسباب لضم اولئك الذين يفتقرون للمهارة في عمل القرارات السياسية. بضمهم ربما نستطيع تدريبهم على المهارة. من الانصاف ادخال كل او معظم الناس في عمل القرارات، والانصاف ربما اكثر اهمية من الحصول على "أحسن" قرار. وحتى عندما يكون سقراط صائبا بان الديموقراطيات احيانا تفرز حكاما غير ماهرين يتخذون قرارات سيئة وربما شريرة، ذلك لا يعني وجوب رفض الديمقراطية.

ولكن حتى لو صرفنا النظر عن فرضية الحكم كتجارة مهارة،هناك عدة انتقادات هامة للديمقراطية تتمثل بالتالي:

 1- أغلبية تتعارض مع الحرية

الديمقراطية يراها البعض هي النقيض للحرية. ان أساس وحجر الزاوية في الحرية هو الملكية الخاصة، اما حكم الأغلبية فهو لا ينسجم مع هذا المبدأ. الذين يديرون الدولة في النظام الديمقراطي يصلون الى الحكم عن طريق الانتخابات التي يفرض بها صوت الاغلبية الهيمنة على الاقلية. 51% من السكان يمكنهم السيطرة على 49% الاخرين. اذا كان سكان الولايات المتحدة 322 مليون شخص اي بمعنى 164 مليونا يستطيعون اجبار الـ 158 مليون الاخرين للامتثال لاوامرهم. كذلك عند النظر للاحزاب المتنافسة. لو كان هناك ثلاثة احزاب متنافسة في الانتخابات وفاز احد الاحزاب بـ 50% من الاصوات بينما فاز الثاني بـ 35% من الاصوات، والحزب الثالث فاز بـ 12% من الاصوات. هنا سيكون الحزب الاول هو الفائز لأن لديه أعلى الاصوات 50% بينما تُعتبر الـ 47% من من مجموع الاصوات (35 +12) اصواتا خاسرة رغم ثقلها داخل جمهور المصوتين.

2- عدم وجود منافسة: اذا كانت المنافسة في السوق تحسّن نوعية الخدمات، فان المنافسة ضمن النظام السياسي للدولة تقوم بالعكس. التحسينات تحدث فقط في الافعال غير الاخلاقية كالخداع والغش والكذب والسرقة. وبالتالي فان اولئك الذين هم الافضل في هذه الصفات يتفوقون في مثل هذا النظام السياسي. انه لا يعتمد على الحكماء بطبيعتهم او ذوي الانجاز.

3- الناخبون والمستهلكون: هناك مشكلة اخرى في الديمقراطية، حيث ان سلوك الافراد كمستهلكين ومستثمرين يختلف كليا عن سلوكهم كمصوتين لأن هيكل الحوافز مختلف كليا. في السوق الحر، قرار المستهلك في الشراء او عدم الشراء لسلعة معينة بسعر معين هو عرضة لموافقة المنتج والبائع، وهذا لا يتطلب موافقة أغلبية الناس او ممثليهم. تأثير قرار الشراء هذا على حياة المستهلك اكثر بكثير من تأثير قراره بالتصويت على قضية معينة في الانتخابات.

***

حاتم حميد محسن

عندما قرأت كتاب المفكر الراحل ياسين الحافظ: (الهزيمة  والأيديولوجيا المهزومة) منذ عشرين عاماً ونيف، أدهشني عمقه الفكري، واستشرافه للمستقبل، وأسلوب طرحه ورقي مفردات الكتاب وتراكيبه التي تناولها، بيد أن ما لفت انتباهي في هذا الكتاب من الناحية الفكريّة، هو بحثة في ما سماه بـ (الوعي المطابق)، وهو الوعي الذي يرفض الأيديولوجيا الجموديّة التي تعمل على ليّ عنق الواقع للتوافق معها حتى ولو استخدم حاملها الاجتماعي العنف من أجل ذلك. الأمر الذي حرضني حقيقة أن أشتغل على موضوع "الوعي المطابق"، ليصدر لي كتاب عام (2006)، بعنوان" (الأيديولوجيا والوعي المطابق). (1). توسعت فيه كثيرا في هذا الاتجاه مبيناً معنى الأيديولوجيا وسياقها التاريخي وأهدافها وحواملها الاجتماعيين، والفرق ما بينها وبين الوعي المطابق.

ونظراً لأهمية الوعي المطابق من الناحية المنهجيّة والفكريّة من جهة، على اعتباره وعيّاً جدليّاً يربط ما بين الواقع والفكر، هذا الرابط الذي يقر بأن هناك تأثيراً متبادلا بينهما، فكل منهما يؤثر بالآخر ويتأثر به ويغنيه، وبأن الواقع في كل مستوياته الاقتصاديّة والاجتماعيّة والسياسيّة والثقافيّة هو من يحدّد بداية طبيعة الفكر وأنساقه، بيد أن هذا التحديد ليس ميكانيكيّاً، أي إن الواقع لا يعكس الفكر كما تعكس المرآة الأشياء، وإنما يقوم بتحديد ملامحه العامة ليترك الفكر عبر (حوامله الاجتماعيّة) التي أنتجته أن ينمو نمواً مستقلاً نسبياً، ليتشكل منه بعد وصوله إلى مرحلة النضج والتبلور أنساقاً معرفيّةً عديدة سياسيّة وفنيّة وأدبيّة وغير ذلك من أنساق تطغى عليها الصفة العلمية، يتعامل معها الإنسان ويوظفها أثناء إنتاجه لخيراته الماديّة والروحيّة. ومن جهة ثانية تأتي أهميّة الوعي المطابق وضرورة تمسكنا به اليوم لما يعانيه الواقع من تخلف في كل مستوياته الماديّة،حيث غلبت عليه صفة التشرذم والتخبط والتناقضات والصراع، حيث انعكس كل ذلك التخلف على المستوى الفكري أيضاً الذي لم يعد قادراً اليوم عبر حوامله الاجتماعيّة على تحليل الواقع المعيوش وكيفيّة التعامل معه والنهوض به. وبناءً على هذه المعطيات، سأعرض في هذه العجالة بعض سمات وخائص الوعي المطابق  كما رأها "ياسين الحافظ" وكما أراها أنا في كتابي (الأيديولوجيا والوعي المطابق) وهي:

1- التمسك بمنهج فكري واضح الأهداف أو مطابق للأهداف المراد تحقيقها في تنمية المجتمع وتقدمه. فاليوم نحن أمام مناهج فكريّة عديدة تنوس ما بين الماديّة والمثاليّة، بل رحنا نلمس أو نعيش في الحقيقة فكراً مثاليّاً مفارقاً للواقع، وإن حاولنا مقاربته فهو يتعامل كثيراً مع الشكل دون المضمون، الأمر الذي ترك المواطن يعيش حالة من الانفصام والغربة في الفكر والممارسة معاً، ففي الوقت الذي يطلب منه التمسك بالفضيلة في صيغتها المثاليّة على سبيل المثال، نجد أن دعاتها يغفلون في تفكيرهم التفكير والممارسة فضيلة " القانون" الوضعي، ومتمسكين بفضيلة  ماضويّة، خيم عليها الالتزام بممارسة طقوس شكليّة في اللباس والمظهر الشخصي على حساب الجوهر وخاصة عند أصحاب التيارات السلفيّة، في الوقت الذي نجد فيه قسوة تخلف الواقع على هذا الإنسان في لقمة عيشه وحرية تفكيره وشعوره بإنسانيته.

2- التمسك بمنهج فكري يتعارض مع النظرة الأيديولوجيّة الدوغمائيّة التي تنظر إلى الواقع على أنه من لونين أسود وأبيض. بينما الوعي المطابق يرى الواقع من الوان متعددة. فالحياة لا تسير على لون رمادي فحسب، فمن اللون الرمادي نستطيع أن نشتق ألوان كثيرة.

3- الوعي الأيديولوجي يرى الحقيقة (الأشياء) مطلقة وثابتة وعلى الواقع أن يرتقي إليها، أما الوعي المطابق فيراها نسبية ومتغيرة وهي في حالة حركة وتبدل وتطور مستمر.

4- الوعي الأيديولوجي يوجد حالة من الانفصال بين شكل الظواهر ومضمونها. أما الوعي المطابق فيرى هناك علاقة جدليّة تأثيريّة بينهما، فالشكل يدل على المضمون كما يقال في المثل الشعبي، ويحدد طبيعة هذا المضمون ومساراته. كما أن الأيديولوجيا تفصل الجزء عن الكل، والداخل عن الخارج، بينما الوعي المطابق يربط بين الأجزاء وبين الدخل والخارج ربطاً جدليا، فعلى مستوى ربط الجزء (فالمؤمن للمؤمن كالبنيان المرصوص...). وعلى مستوى علاقة الداخل بالخراج، فالأفراد والمجتمعات لا تعيش وجوداً " روبنسيا"، بل هي تتفاعل مع بعضها سلباً او إيجاباً بالضرورة.

5- الوعي الأيديولوجي يعتمد على الحدْس والتقريب والعموميات والشعارات والأفكار المسبقة والذاتيّة والغيبيات. أما الوعي المطابق فيعتمد على الاستقراء والاستنتاج والتحليل والتركيب وعلى التفاعل، وبالتالي يقدم البرهان.

6- الوعي الأيديولوجي ينطلق من الرغبة والشعور المتعمد لدى حوامله الاجتماعيّة. أما الوعي المطابق فيعتمد على الواقع والمعطيات القائمة.

7- الوعي الأيديولوجي تقريري، والواقع عنده معطى مطلق نهائي ثابت. أما الوعي المطابق فالواقع عنده يقوم على منهج تحليلي، وهو نسبي في معطياته، والواقع يكتشف تدريجيّاً مع تقدم المعرفة البشرية والعلم.

وأخيراً الوعي المطابق: هو سيرورة معقدة وشاقة وجهد مستمر ومتواصل من الاستقراء التحليل والتركيب والاستنتاج والنقد والشك وصولاً إلى المطابقة، مطابقة الوعي مع الواقع المتغير باستمرار. أي هو عملية اقتراب دائم من الواقع والتفاعل معه. ونفي أي صفة للقداسة عن الأشخاص والأفكار، وضرورة الارتباط بالقوى الاجتماعيّة الفعالة المؤمنة بقضية الوطن والمواطن، هذه القوى التي غيبت تاريخيّاً عن دورها الفاعل ومكانتها في هذه الحياة، على اعتبارها هي من يصنع التاريخ البشري، وبالتالي لن يتحقق تحريك هذه القوى وإعطائها دورها التاريخي إلا عن طريق تطبيق الديمقراطيّة والعلمانيّة ودولة القانون والمؤسسات والمواطنة والتشاركيّة، واحترام الرأي والرأي الآخر، والنهوض بالمرأة، وتعميق لدور الفكر المطابق للواقع الرافض لأي فكر جمودي متحجر لا يقر بدور الإنسان ومكانته في صنع تاريخه.

***

د. عدنان عويّد

كاتب وباحث من سورية.

.......................

1- الكتاب: الأيديولوجيا والوعي المطابق - إصدار دار التكوين دمسق. 2006- ط1.

 

سؤال مشروع يطرح بنفسه في ضوء التطبيق الديمقراطي المعاصر! هل  ممكن إقامة نظام  ديمقراطي فعلي وعامل في الدول النامية ذات الأنظمة الاجتماعية التقليدية والضعيفة  اقتصاديا،  فالديمقراطيات غير الناضجة في الدول النامية والفقير التي تعد الديمقراطية العربية واحدة منها، تلك البلدان ذات الإرث ‏الديكتاتوري والشمولي وانعدام مؤسسات المجتمع المدني الفاعلة، وعدم نزاهة مؤسسات القضاء، تشق طريقها بصعوبة وبطء، وسط أنقاض الماضي وغياب المؤسسات ‏والتقاليد والثقافات الديمقراطية الراسخة، ويعترضها الفساد الحكومي والنخب التي تتعارض ‏ومصالحها، فضلا عن التقاليد والعادات البائدة، وانتهاك القانون بصورة منهجية، ولكن لا ينبغي أن يكون هذا سببا في ‏الإحباط، والتخلي عن المنجزات التي تم إحرازها بالتضحيات الكبيرة على طريق الديمقراطية، بل ‏المضي قدما بإصرار، وخلق الأجواء لازدهارها ورسوخ جذورها في الوعي الاجتماعي. ويستدعي ذلك ‏تآلف القوى الديمقراطية فعليا، وتأسيس هيئات المجتمع المدني وتفعيل القائم منها، وتكثيف وسائل ‏الإعلام وفعاليات الاحتجاج السلمية، وفضح ممارسات انتهاك القانون وحقوق المواطن والأقليات، ممارسة المجتمع حقوقه المنصوص عليها في القوانين بشتى الأشكال. وما لم تضمن الدولة سيادة القانون والمؤسسات السياسية المستقلة، فلن تكون قادرة على ضمان نمو اقتصادي مستقر. وهذه هي المشكلة الرئيسية لمعظم الديمقراطيات غير الناضجة.

مع نهاية الحرب الباردة، جاء عصر جديد، نشأت ظاهرة جديدة في تاريخ العالم تمثلت بظهور عدد ‏كبير من الديمقراطيات الفقيرة وغير الناضجة. وحتى الآن ثمة أكثر من 70 دولة لا يتجاوز ناتجها القومي الإجمالي ‏‏10000 دولار أمريكي للفرد، ولكنها تتبنى القواعد الرئيسية للحكم الديمقراطي. وموقف الغرب تجاه ‏هذه البلدان هو في الأساس رافض ومتغطرس. وعند القراءة عنها، نتعرف على صعوباتها الاقتصادية ‏وفساد الحكومات وانعدام الثقة في الآفاق. ومع ذلك يمكن أن يبعث وجودها الأمل، حتى كأمثلة جيدة ‏للانتصارات على أنظمة الحكم الديكتاتورية والشمولية، أو تكريما للمثل العالمية للحرية والحكم الذاتي. ‏

‏ إن من المشاكل التي تعطل الممارسة الديمقراطية في هذه الدول إنها فقيرة حقا. إنها تواجه مشاكل اقتصادية خطيرة، ومجتمعاتها المدنية ‏متخلفة وفق المعايير الغربية. ولكن ورغم من أوجه القصور الواضحة، تتميز هذه البلدان بوجود ‏الحقوق الفردية الأساسية والحريات السياسية. ويتمتع سكانها بحرية التعبير، والحق في الاستئناف ‏أمام السلطات، وحرية التجمع والسفر إلى الخارج. وبميسور قوى المعارضة تشكيل جمعياتها الخاصة ‏والمشاركة في السياسة وانتقاد السلطات وتوزيع مواد حملتها والمشاركة في انتخابات حرة ونزيهة إلى ‏حد ما للسلطات المحلية والوطنية، في حين أن نتائج هذه الانتخابات ستعكس (ولو أحيانا بصورة ‏شكلية) في النهاية إرادة الأغلبية. وأخيرا، توجد في البلدان الديمقراطية غير الناضجة صحافة خالية من ‏رقابة الدولة. وهذه الخصائص تميز الديمقراطيات الفقيرة من الدول غير الديمقراطية ومن الأنظمة ‏الديمقراطية الزائفة المختبئة وراء السمات الديمقراطية الخارجية، ولكنها لا تمتلك أيا من هذه الميزات ‏أو عدة في وقت واحد. لقد تشكلت العملية التاريخية خلال معظم القرن الماضي، من خلال المواجهة ‏العالمية بين الديمقراطية والشمولية، والتي مثلتها القوى الصناعية والعسكرية الرائدة: الولايات ‏المتحدة وألمانيا واليابان وروسيا والصين. وهناك قناعات بأن تطوير الديمقراطيات الفقيرة سيحدد إلى ‏حد كبير مسيرة تاريخ القرن 21. ‏

وصلت الدول الديمقراطية الفقيرة والغنية إلى تطوير المؤسسات الديمقراطية بطرق مختلفة تماما. ‏ومر الغرب بعدة قرون شهدت الانعطافات والثورات والاضطرابات ليتشكل النظام الرأسمالي الذي كان له ‏وجها بشعا، قبل أن تتوصل للديمقراطية الراهنة. ‏

إن تجربة البلدان الديمقراطية غير الناضجة هي عكس تجربة الديمقراطيات الغربية من نواح ‏كثيرة. فلم يتم تشكيل المؤسسات الحديثة والمعايير والممارسات الأخلاقية والقانونية في هذه البلدان ‏بسبب هيمنة نظام شبح (الأنظمة السابقة). وكانت معظم الديمقراطيات غير الناضجة تفتقر إلى ثقافة ‏مدنية وثقافة القانون ومنح الحريات العامة. ‏

إن بوسع للثقافة أن ضع العراقيل والحواز العالية في طريق انعدام القانون والفساد الحكومي ‏والرشوة من خلال تراكم الخبرة لسنوات عديدة للتسيير الذاتي على مستوى المدينة، في الأماكن ‏الدينية، والنقابات المهنية، والمنظمات الخيرية المحلية، والفصل في وقت واحد بين المجالات ‏الاقتصادية والسياسية. فأي شخص يصوت بحرية لإنشاء صندوق محلي للمساعدة المتبادلة، وشارك ‏فيه سيفكر مئة مرة قبل أن يسرق منه أو ينتهك القاعدة التي قرر، مع الجميع، دعمه. إن الفساد، الذي ‏يستشري بوتيرة عالية بعد الانتقال السريع للديمقراطيات غير الناضجة والارتقاء نحو أنظم الحكم ‏الحديثة ما زال بدرجات متفاوتة، ولكن دائما إلى حد كبير جدا، يمنعها من التطور. ‏‏ بالطبع، حتى تجربة ‏الغرب التي استمرت قرونا لم تكن تخلو من الاحتيال والرشوة في المراحل لأولى لتشكيل الرأسمالية. ‏‏ ‏ومع ذلك، في البلدان الديمقراطية غير الناضجة، ينتشر الفساد بشكل منهجي. وهذه هي واحدة من ‏القضايا الرئيسية للسياسة الوطنية للعديد من الدول. ‏

في البلدان التي ظهرت فيها الديمقراطية بشكل غير متوقع أو نتيجة تدخل خارجي، تنتزع عادة من ‏الدكتاتور السابق أو حزبه ممتلكات الدولة التي تكون تحت حراسة أسلحة الجيش والشرطة السرية، ‏ويُعهد برعايتها لمجموعة من السياسيين الديمقراطيين من الجيل الأول الأقل تراصا، ولكن التعجيل بإلغاء ملكية ‏الدولة أو سيطرتها على الاقتصاد يؤدي إلى تحويل ممتلكات الدولة إلى اللصوص ‏والسراق والمحتالين الذين يستولون عليها بمختلف الأساليب حتى الشبه قانونية‏.

السمة المميزة الأخرى للديمقراطيات الفقيرة هي جمع ليس له نظير في التاريخ بين الانتخابات ‏القائمة على الاقتراع العام، مع رأسمالية وليدة لم تتشكل بعد ذات طبيعة قاسية، التي أطلق عليها ‏ماركس رأسمالية "مرحلة التراكم الأولية". وبينما ظهر الاقتراع بعد الرأسمالية بقرن في الغرب، وضعت غالبية مجتمعات الديمقراطيات غير الناضجة، ولا سيما دول ما بعد النظام ‏الشيوعي، الديمقراطية كهدف اجتماعي أكثر أهمية، وجاء بناء الرأسمالية في المرتبة الثانية فقط، ‏وليست البند الرئيسي في أولويات الأجندة الوطنية. ‏‏ ‏

ورغم كل المصاعب والعقبات والفساد الحكومي فإن الديمقراطية غير الناضجة تبدي القوة ‏والشجاعة في التغلب على الأزمات الداخلية والدولية، ويكمن أمل كبير في تنمية الديمقراطيات غير ‏الناضجة في السنوات القادمة للحد من الفقر والحد من العنف في العالم. ‏

***

د. فالح الحمراني

 

الشاعر والمفكر معروف الرصافي (1875-1945) شخصية مثيرة للجدل، هناك آراء مختلفة حول مدى طائفيته، يرى البعض أنه كان يحمل توجهات طائفية في بعض كتاباته. وردت بعض العبارات في كتابه "الرسالة العراقية في السياسة والدين والاجتماع" يراها البعض بأنها ذات فحوى طائفي، وإنه لم يستطع التخلص من طائفيته، وأعتقد بأن هذه المواقف فيها تجني على الرصافي، لأن جلّ كتاباته تميل إلى العقلانية والواقعية، أي لم يكن طائفياً بالمعنى المتداول اليوم، بل كان ناقداً وذو توجهات إصلاحية ووطنية، كتاباته وأشعاره تعكس رؤية نقدية للمجتمع يعبر من خلالها عن هموم وقضايا الناس بأساليب بعيدة عن المبالغة.

عاش الرصافي حياة مضطربة، ذكر الباحث سلام عبود بأن حياة الرصافي تخلو من الهدوء النفسي والاجتماعي، كان يجد انسجامه النفسي في موقعين إشكاليين: الأول، عند مواجهة السياسة البريطانية فكريا وعمليا، والثاني في مواجهة الوجود الشيعي فكريا. وقد اتخذ من الموقعين ميدانا ثابتا لقتال متصل لا مساومة فيه ولا مراجعة. فبقدر ما كان انسجامه في مناوءة السياسة البريطانية معمقاً لمكانته الفكرية والسياسية، وجالبا للفخر الشخصي والتطمين الذاتي، كان رضاه النفسي في نقد الشيعة فكريا مصدر ضعف واضطراب فكري واجتماعي عميقين، حطّا بشكل كبير من مقدراته النقدية المتميزة، ومن ملكة ورصانة البحث لديه.1364 rasafi

ربما لا يشي شعره بالشيء الكثير من هذا الميل للطائفية، لكن بعض كتاباته النثرية تلقي ضوءاً ساطعاً عليه.

وهناك من يرى بأنه يمتلك رؤية فكرية خاصة به أسوة بكثير من الباحثين، سعى الى دراسة جذور التشيع، لكنه بالغ في التحري مما أوقعه في شِباك الطائفية. ولذلك هو لم يُعرف بطائفيته، فهو الناقد للسنة والشيعة على السواء، كان من الأصوات التي تدعو إلى الوحدة الوطنية ونبذ الطائفية. كان علمانياً في توجهاته، ركز في شعره وكتاباته على قضايا العدالة الإجتماعية والحرية ومحاربة الفساد السياسي والتخلف والاستعمار، ولم يهتم كثيراً بالانتماءات الطائفية والدينية. كان ناقداً لاذعاً للسلطة وللطائفية وللتعصب الديني، كتب شعراً ضد استغلال الدين في السياسة، وهاجم بعض رجال الدين الشيعة والسنة على حد سواء، ولكن ليس من منطلق طائفي، بل من منطلق نقده لاستغلال الدين في تجهيل الناس وتثبيت الاستبداد. لم يُعرف بإثارة النعرات الطائفية بل هناك الكثير من تصريحاته ضد التفرقة الدينية والمذهبية، كان يتبنى مشروعاً إصلاحياً شاملاً يهدف إلى بناء دولة مدنية قائمة على قيم العدالة والتعليم.

ومن أقواله المعروفة: "علم ودين، كلاهما في خدمة الوطن"، كتب كثيراً في تمجيد العقل والعلم، انتقد الخرافات والجمود الديني. وصور التناقض بين العقل والجهل، فلو كان طائفياً، لما تبنّى هذه المواقف النقدية الجريئة التي جعلته منبوذاً في فترات كثيرة من حياته من قبل السلطات الدينية والسياسية معاً. فهو ينتقد استغلال الدين لتمرير الجهل، ويشير إلى أن بعض "دعاة الدين" يرون الجهل وسيلة لخدمة الدين، وهو بذلك يهاجم التوظيف الديني للجهل وليس الدين ذاته. ومن بعض أشعاره المناهضة للطائفية والداعية إلى العقل والعلم ونقد الجهل والانغلاق والخرافات باسم الدين:

أراني كلما اجتزتُ العراقــــا

رأيتُ من الجهالة فيهِ نـاقـــــا

يُـدارُ على الدجى في ليلِ عقلٍ

يُـقَـدُّ بهِ إلى الجهلِ السِباقــــــا

وعجبي من دُعاةِ الدينِ لمــــا

رأوا في الجهلِ للدينِ اتساقــا

فهو يمجد العقل والعلم:

ليسَ الجمالُ بأثوابٍ تزيّنُنـــــــا

إن الجمالَ جمالُ العقلِ والأدبِ

فهذه دعوة واضحة للتركيز على القيم العقلية والروحية لا المظاهر، دعوة للوحدة ونبذ الفُرقة، وهو موقف مضاد للتزمت الديني والانغلاق والسطحية التي تروَّج أحياناً باسم الدين أو التقاليد الطائفية. فهو ينقد الطائفية والتفرقة من منطلقات علمية، نقده موجه للطائفية والانقسامات التي رآها مضرة للوطن:

فقلْ للذي يبغي خلافَ بنيــــــهِمُ

أتطلبُ بالجهلِ المعيبِ مفاخرَه؟

كفانا فُرقةً يا قـــــــــومُ، هـذي

تذرّينا كما ذرّت رياحٌ عاثره

أبرز أفكار معروف الرصافي تكمن في رؤيته للسيرة النبوية، حيث يرى بأن السيرة النبوية يجب أن تُدرس كأي سيرة بشرية، باستخدام العقل والمنطق والتحليل التاريخي. ويرى بأن  النبي محمد عظيم العظماء وقائداً عربياً عبقرياً ظهر في بيئة قبلية متفككة، فأعاد تنظيمها وأعطاها مشروعاً، ولا يُنكر فضله في توحيد العرب ونشره للقيم والأعراف الجديدة. انتقد كتب الحديث والسيرة لكثرة التناقضات، ويؤمن بأن السياسة لعبت دوراً كبيراً في صياغة الكثير من السردية الإسلامية. ولهذا فهو يتعامل مع الأحداث التاريخية والسيرة بأنها أمور قابلة للتحليل والنقد، ويقدم لها قراءة علمانية بعيداً عن التقديس والسرد الإيماني.1365 rasafi

والرصافي لم يكن بلشفياً بالمعنى الحزبي أو الأيديولوجي المتشدد، لكنه تأثر بالحركات الثورية التي شهدها العالم في تلك الحقبة، ومنها الثورة البلشفية في روسيا (1917). لم ينضم لحزب بلشفي أو يتبنى الماركسية فكرياً بشكل كامل، لكنه عبّر بإعجاب عن الثورة البلشفية لما حملته من تحرر للطبقات الكادحة، ورفض للظلم، كان ثائراً ومتمرداً على الاستبداد، فوجد في البلشفية نموذجاً يلهمه. لقد وجد بأن تلك الأفكار تنسجم مع تطلعاته وهدفه الإصلاحي والاحتجاجي ضد الأنظمة الاستبدادية والاستغلال الديني فتأثر بها.

كان الرصافي معجباً بموقف البلشفيين من الإقطاع والكنيسة، وكان يرى فيهم الهمة الثورية في سعيهم للعدالة الاجتماعية، لذلك استعار تعبير "البلشفية" كعنوان لقصيدته للإشارة إلى الثورة ضد الظلم والاستبداد، لا كأيديولوجيا منظمة، قائلاً:

وما البلشفيةُ غيرُ انتفــــــــاضٍ

على الظلمِ في صورةٍ مشهوده

أرى الشرقَ محتاجاً لبلشفةٍ بها

يقومُ على ساقيهِ بعد الرقـــوده

هنا يصرّح بإعجابه بالحركة البلشفية بوصفها "انتفاضاً على الظلم"، ويرى أن "الشرق" بحالة ركود، بحاجة إلى مثل هذه اليقظة، بحاجة إلى تطبيق الفكر البلشفي، ويستشهد في بيت آخر بالبلشفية كنموذج للصحوة الثورية والاستيقاظ من الغفلة:

أفيقوا، فقد نامَ السُراةُ وأيقظتْ

بلادُ البلشفيةِ راقديــــــــــــــنا

ومن قصيدة "أنا بالحكومة والسياسة أعرف"، التي ينتقد فيها الحكومة العراقية ويشير إلى البلشفية كحل للتخلص من الاستعمار البريطاني:

للإنكَليزِ مطامـعٌ ببلادكــمْ

لا تنتهي، إلا بأن تتبَلشَـفُوا  

قام اتحاد الأدباء والكُتاب في العراق بعدة فعاليات لتكريم واستذكار الشاعر معروف الرصافي في مناسبات مختلفة. كان "مهرجان عام 1959" أبرز تكريم جرى له بمناسبة مرور (14) عاماً بعد وفاته، وقد تم نشر كتيب توثيقي لهذا المهرجان في عام 1960، (أرسله لي مشكوراً المؤرخ العراقي الأُستاذ هادي الطائي مع مجموعة صور لمهرجان الرصافي)، التي تدل على الاهتمام المبكر بإرث الرصافي. كان مهرجان الرصافي عام  1959حدثاً مهماً في تاريخ العراق، شهد حضور شخصيات بارزة في الحياة السياسية والثقافية، من بينها الزعيم عبد الكريم قاسم المعروف بتقديره للشعراء والمثقفين، وقد ألقى كلمة في المهرجان وكذلك بحضور الشاعر الكبير محمد مهدي الجواهري الذي ألقى كلمة بالمناسبة.

***

د. عبد الحسين الطائي

أكاديمي عراقي مقيم في بريطانيا  

 

إنّ الثقافة النقدية الجادة في ساحة الفكر الاسلامي المعاصر توثر ايجابيا على تطور الوعي، ومن النشاطات المهمة في استرجاع التراث وثقافته واعادة قراءته بحضور واعي جاد تؤدي الى عدم الانغلاق والتمرد على الاصل، ولأجل تجديد المنظومة المعرفية عند المتلقي المعاصر لابد من حضور حقل فلسفة العلم الذي هو من ضمن رهانات التحول ورصد التطورات بحسب الزمان والمكان.

ونجد ما يُقدم من الدرس التاريخي للباحثين والمشتغلين في مساحات واسعة من الاطلاع على طبيعة المشهد للفهم الذي يمر عبر الزمكانية، وان رصد ذلك الفهم مع تغيرات والاسباب العوامل التي دخلت عليه من البيئة والزمان قد ادت الى فهم مغاير للتراث او معارض له او صرف النظر عن الاس المعرفي كونه غير مواكب لهذه الصيرورة المتحولة، كما ان الدراسة التاريخية التفسيرية التي تختص دراسة فهم النص وقراءته اثرت المصاديق وتطابقها مع المدلول مخالفة للنص او للفهم القديم ، وسببت تغير لهذه المصاديق البعد عن النص وادخال العقليات بين مساحة الفهم والنص ،ومع رصد الواقعية التاريخية لهذه النصوص تغير حكمها، أو حصره في الزمان والمكان الذي صدرت فيه، فضلا عن مدخلية الفهم الطارئة على النص واثرها، قالوا بتصحيح مسار التاريخية في تناول الحديث الشريف.

فالقصد بالتاريخية هنا دراسة ليست الازاحة، أو عدم الافادة الكلية من المصدر الحديثي وفهمه ككل ولا نقصد به ايضاً عدم امكانية استيعاب هذه النصوص للواقع؛ لانها صدرت بواقع محدد والمصداق والمفهوم معين، بل هي قابلة للفهم والمرونة لهذه كان الباعث الاساس في رصد هذه المرونة المتتبعة عند فهم العلماء والمحدثين والفقهاء في جعل تلك المفهومات آليات لبناء احكام تشريعية أو نظام عقائدي يبني على اساس ابتكار العلماء من اجل استيعاب التغير الحاصل من الفهم والواقع عن طريق نظرية الزمان والمكان .

وممكن القول ان تداعيات (فقه الانموذج) في حقل الحديث الشريفة ودراسته ضمن المتغيرات التاريخية والمعرفية التي جالت في مدونات وذاكرة المشتغلين حول البحث الحديثي اصبح ضرورة ملحة اليوم بسبب المشكلات الحاصلة في فهم الرواية وتسويقها كأسس بديل للقران الكريم وجعلها قطعية العمل على ظاهرها من دون الرجوع الى تاريخية زمنها وعملها الحاضر والمستقبل .

تصنف هذه الدراسات حول فضاء لغة الحديث من الراوي والرواية، والتقسيمات التي تكونت منها منظومات الحديثية، ومنهجيات قبول هذه الرواية والعمل بها ، ثم مكونات ذلك العنصر الحديثي (المتن والسند) ثم ثقافة النقد والتهذيب التي عملها بها بعض اصحاب الرجال في الجرح والتعديل، ويمكن اضافة اعادة القراءة والتبويب المنظومة الحديثية في اطارات موضوعية جديدة بحسب المجالات المعرفة الانسانية والعلمية.

ينبغي قراءة التراث بعد التوفر على ادوات فهمه وعناصرها من اجل تبديد سلطته على العقل ويمكن فتح نافذة للاستشراف واستنطاق هذه النصوص بمتغيرات عدة ومن خلال الفهم الحاصل واستثمار تلك العناصر الثّاوية في طيات الرواية والاحتفاظ بالمنجز البشري وتجربته على ان نقدم قراءة لا تنفك عن ظروف الزمانية والمكانية لفهم النص.

***

أ. م. د. صباح خيري العرداي/ جامعة الكوفة – كلية التربية الاساسية

 

تفكيك هذه الآفة الخطيرة، وإنهاء موجباتها وأسبابها المباشرة وغير المباشرة، يقتضي العمل على تنقية الراهن وبناء العلاقة بين أهل الوطن الواحد ومنظومة الحقوق والواجبات على قاعدة المواطنة الجامعة بحيث لا يكون كرهي لأحد (لا سمح الله) سببا لحرمانه من حقوقه الطبيعية والأساسية، كما لا يكون حبي لأحد هو الدافع لمنحه امتيازات تتجاوز حقوقه الطبيعية ..

ثمة موجات عنفية خطيرة، تجتاح بعض الدول العربية حيث القتل العشوائي اليومي، والذي يذهب ضحيته العشرات من الأبرياء، وتزيد هذه الموجات العنفية من أزمات وصعوبات الحياة؛ حيث لاتكتفي هذه الموجات بقتل البشر وإنما أيضا تقوم بتدمير البنى التحتية للمدن، وتنهي كل أسباب الحياة الطبيعية في المناطق التي تقتل وتفجر فيها.

والذي يزيد من خطر هذه الموجات العنفية هو أنها تتغذى من مقولات دينية تبرر عمليات القتل والتفجير، وتساهم في خلق موجة من الكراهية بين الناس والمواطنين لأسباب دينية ومذهبية وقومية، ما يزيد من مخاطر عمليات القتل والتفجير، ويدخل هذه البلدان في أتون العنف والعنف المضاد والكراهية المتبادلة. لذلك فإن العمل على تفكيك خطاب الكراهية ومقولاته المتعددة يعد اليوم من الضرورات القصوى لأمن واستقرار المنطقة. وفي سياق العمل على تفكيك هذا الخطاب من الضروري القول بأن ثمة أفكارا وقناعات عديدة حين التفكير في الإجابة عن السؤال المتعلق بطبيعة ظاهرة الكراهية في المجتمعات الإنسانية.. لأن الإجابة السريعة تقول : إن الكراهية بين الناس تتم لأسباب دينية أو مذهبية أو قومية، لذلك فهي ظاهرة دينية – ثقافية، ولا دخل للسياسي في إنتاج ظاهرة الكراهية..

ولكن حين التأمل في هذه الظاهرة المعقدة والمركبة، نجد أن جوهرها العميق جوه سياسي.. بمعنى أن ممارسة الكراهية تتم لأغراض سياسية دنيوية، بحيث يسعى الطرف الممارس إلى إزاحة الطرف الآخر أو الأطراف الأخرى عن طريقه من اجل غايات سياسية بحتة.. ولأن النخب السياسية السائدة تعتمد باستمرار في إدارة شعبها على قوتين أساسيتين وهما : القوة الخشنة – الصلبة عبر وسائلها المباشرة وقدراتها الصلبة.. والقوة الناعمة التي تستدعي خطابات دينية وثقافية وإعلامية، تغطي ممارسة صانع الكراهية، وتبرر له نهجه الفئوي والعصبوي .. ومن المؤكد في هذا السياق أن الدين كمؤسسة ومقولات أيدلوجية، يستخدم في تبرير عملية النبذ والطرد، الذي من متوالياته ومقتضياته بث الكراهية بين المواطنين لأسباب دينية أو قومية..

ولكن لو غاب الانحياز الديني أو القومي الذي يمارس لأغراض سياسية دنيوية، لما برزت حالة الكراهية بين المواطنين لعناوين دينية أو قومية..

ولكن الإرادة السياسية والخيار السياسي، هما اللذان يوقظان الخصوصيات على نحو سلبي، فينتج من جراء ذلك التباغض والكراهية بين المواطنين.. لأن جميع المواطنين بدأوا يتلمسون حقيقة أن انتماءهم الديني أو المذهبي أو القومي له مدخلية أساسية في نيل حقوق المواطنة الكاملة أو منعها عنهم .. فلذلك تنمو الحساسيات بين المواطنين، والتي تنتهي بحالة من الجفاء المستحكم.. لأن الطرف الممارس للكراهية، حصل على الخيرات لاعتبارات غير كسبية لا دخل له فيها، لذلك سيستميت هذا الإنسان إلا ما ندر لإبقاء هذه الامتيازات القائمة في جوهرها لأسباب سياسية ودنيوية لادخل للمقولات الدينية الجوهرية فيها..

وفي المقابل فإن الطرف أو المكون المطرود من نيل حقوقه لاعتبارات لا دخل له فيها في الغالب سيندفع من الناحية السكيولوجية للتشبث بخصوصياته وسيرفع مظلوميته وسيطالب بإنصافه وجماعته الدينية أو المذهبية أو القومية..

من هنا فإن تفكيك هذه الآفة الخطيرة، وإنهاء موجباتها وأسبابها المباشرة وغير المباشرة، يقتضي العمل على تنقية الراهن وبناء العلاقة بين أهل الوطن الواحد ومنظومة الحقوق والواجبات على قاعدة المواطنة الجامعة بحيث لا يكون كرهي لأحد (لا سمح الله) سببا لحرمانه من حقوقه الطبيعية والأساسية، كما لا يكون حبي لأحد هو الدافع لمنحه امتيازات تتجاوز حقوقه الطبيعية. وهذا يتطلب من جميع الدول العربية والإسلامية العمل من اجل التالي:

1-  سيادة القانون ورفض اختراقه أو تجاوزه، بحيث يكون التعامل مع جميع المواطنين بصرف النظر عن انتماءاتهم ومنابتهم وأصولهم على حد سواء فللجميع كامل الحقوق وعليه كامل الواجبات .

فكل المجتمعات الإنسانية تعيش حقيقة التعددية والتنوع بكل إبعاده وآفاقه، وبعضها دخلت هذه التنوعات في حقبة من حقب الزمن في صراعات وصدامات دموية، ولكن الجميع لم يتمكن من تفكيك ظاهرة الصدام الدموي بين حقائق التنوع، إلا ببناء منظومة قانونية متكاملة، تكون هي مرجعية الجميع، وتضمن حق الجميع بدون افتئات على احد لأي سبب من الأسباب، ولا تكفي هذه المجتمعات ببناء مرجعية قانونية وإنما تعمل بكل إخلاص لكي يكون لهذه المرجعية سيادة وحاكمية على الجميع. لذلك فإن سيادة القانون، هي احد المداخل الأساسية لبناء علاقات سوية وايجابية بين جميع تعبيرات الوطن والأمة.

-2إعادة بناء رؤية وموقف حضاريين من أحداث التاريخ و رجاله. لان الكثير من الموضوعات التي تثير الكراهية بين المسلمين تعود إلى التاريخ. ونحن جميعا لا نتحمل مسؤولية ما جرى في التاريخ فرجال تلك الحقبة هم وحدهم من يتحمل مسؤولية ما جرى في راهنهم. لذلك آن الأوان بالنسبة لنا جميعا ومن مختلف مواقعنا أن نتحرر من عبء التاريخ، ونبني علاقاتنا وفق معطيات راهننا ومستلزمات استقرارنا الاجتماعي والسياسي.

3-تطوير نظام الشراكة العامة على قاعدة المواطنة الجامعية واحترام الخصوصيات الثقافية والمجتمعية، دون تحويلها إلى مبرر للانكفاء والانعزال.

ومن الضروري في هذا السياق أن نفرق بين مرحلتين في التجربة العربية.. المرحلة الأولى هي ما قبل الموجة الأصولية التي اجتاحت المنطقة العربية بعد انتصار الثورة في إيران وحقبة الجهاد في أفغانستان، وهي موجة ساهمت بطريقة أو بأخرى في إشعار الجميع وعلى نحو عدائي في حدوده الدنيا بين الذات والآخر قاعدة الهوية الضيقة التي يحملها الإنسان ووجوده الاجتماعي، وفي هذه المرحلة ازداد منسوب الخصومة والكراهية بين المختلفين والمغايرين من جراء الخوف المتبادل والتباين في المواقف والنظرات تجاه أحداث وتطورات المنطقة.

فالموجة الأصولية ساهمت في بناء الحدود بين الناس على قاعدة الهوية الدينية أو المذهبية، لذلك تراجعت حقائق التسامح وازدادت صور الإحن بين الناس على قاعدة دينية أو مذهبية.

أما مرحلة ما قبل الموجة الأصولية فكانت العلاقة قائمة في اغلبها على الود والتسامح والتدين الشعبي الذي يسمح بالاختلاف ويتعامل مع تجلياته بروح المحبة والمودة، وإن كانت هناك نوازع كراهية كامنة في النفوس والعقول .

لذلك ثمة قناعة عميقة على هذا الصعيد، وهي أن إنهاء موجة الكراهية الدينية والمذهبية والقومية التي تجتاح المنطقة اليوم ولأسباب سياسية تتغذى من خطاب ديني متشدد أو مقولات مذهبية متعصبة، لا يتم إلا بالعودة إلى التدين الشعبي الذي لا يحمل خوفا من وعلى المرأة، ولا يدعو إلى المفاصلة الشعورية والعملية بين المختلفين وتبرز في ثناياه مضامين إنسانية رائعة تتجاوز التباينات التاريخية والفروقات المذهبية لصالح متحد اجتماعي قائم على المعايشة والتواصل والصحبة الإنسانية..

***

محمد محفوظ – باحث سعودي

 

ومن "القضاء سلطة" إلى "القضاء وظيفة"

 في التدمير الممنهج للدولة

***

تتعدد قراءات الدستور بآعتباره نصا قد قد من مبادىء تتأسس عليها نصوص قانونية تنزل تلك المبادىء في الواقع. الدستور التونسي للجمهورية الثانية نص ساهمت في تشكله قوى سياسية وفكرية عديدة وكان للمجتمع المدني مساهمته الهامة في ذالك، كما كانت للتجارب المقارنة حضور لافت بغرض الإستئناس بها. هو نص متجذر في بيئته ومنفتح على الكوني والإنساني. وهو مفرد بصيغة الجمع، فقد حازت الموافقة عليه بأكثرية تقارب الإجماع.

1 – في مقاربة الرئيس لفصول الدستور:

يعتمد الرئيس مقاربة خاصة في قراءة فصول الدستور ولاسيما تلك الفصول المتعلقة بالسلطات المختلفة، واضحة المعالم والقائمة على أن إستقلالية كل سلطة عن الأخرى وعدم تبعيتها لأية سلطة. فحتى تلك التي أسست برأسين- السلطة التنفيذية – ممثلة في رئاسة الجمهورية ورئاسة الحكومة، فقد ضبط الدستور طبيعة العلاقة بينهما القائمة على التكامل والتنسيق بغرض بلوغ أقصى درجات النجاعة والمردودية، ولئن أثبتت الممارسة السياسية على إمتداد العشرية الماضية وجود إخلالات من خلال الحكومات المتعاقبة ترجمتها أزمات سياسية أضرت كثيرا بالعمل الحكومي ووترت العلاقة بين رأسي السلطة التنفيذية، توجب تبعا لذلك مراجعة بعض الفصول الدستورية المتصلة بالسلطتين التشريعية والتنفيذية عبر الآليات التي يتيحها الدستور. تبدو مقاربة الرئيس معتمدة على نفي إستقلالية كل سلطة عن الأخرى وهو مبدأ الفصل بين السلط الذي يضيق الرئيس به ذرعا وهو مبدأ أصبح من بديهيات الأنظمة الجمهورية و الأنظمة الملكية الدستورية، فحتى الأنظمة الشمولية تحافظ على الفصل بين السلط تمويها وإيهاما بطبيعتها الجمهورية، مقاربة الرئيس محكومة بخلفية فكرية قائمة على تجميع السلط في شخص واحد يختزلها حد التقمص فهو الوحيد المجسد لها، إنه " الإمام " الذي جاءت به الأقدار ليملأ الأرض عدلا بعد أن ملئت جورا وفسادا، ذاك ما يتردد على ألسنة مريديه – المفسرين لرؤيته – تلك الرؤية الكونية التي تقدم " مشروعا " إصلاحيا عابرا للدول والقارات. إن تنزيل هذا المشروع في الواقع يقتضي من صاحبه تجميع السلط جميعها في شخص واحد وذلك بآعتماد سياسة المراحل وإطلاق الصواريخ من على منصاتها نحو الأهداف المراد ضربها لخدمة المشروع.. تأتي قرارات 25 جويلية لتستولي على لحظة تاريخية فيها إمتعاض شعبي من وضع سياسي مترد يبعث على الإشمئزاز ومثير للقرف.

2 – من مفهوم "دولة القانون" إلى مفهوم "مجتمع القانون"

يقوم التفسير الباطني للنصوص على إصطناع نوع من المماثلة بين معنيين لا تربط بينهما أية علاقة حقيقية، لا علاقة لغوية ولا علاقة عقلية في إيجاد العلة الأصولية المشتركة المنضبطة أو الإستدلال والشاهد على الغائب أو بالحد الأوسط الذي يجمع بين مقدمتي القضية المنطقية . (آنظر، السيد محمد علي إبازي، المفسرون حياتهم ومنهجهم، الجزء الأول، ص 86) تمضي القراءة الباطنية للنصوص، مهما كانت نوعيتها، في تجاهل لغة النص والعلاقة المنطقية بين النص والمعنى المستنبط منه وإعتمدت قراءة قيس سعيد للدستور على المخاتلة وعلى التوسع فيما يمنحه له الدستور من صلاحيات، فالفصل الثمانون الذي إستند إليه ليدخلنا في الحالة الإستثنائية وقع التعسف في فهمه إلى درجة أن ما ترتب عليه لا علاقة له بمنطوق الفصل. فحالة الخطر الداهم التي إتخذت ذريعة لحل الحكومة وتجميد عمل البرلمان، إنما تخالف ما ذهب إليه واضعوا الدستور من مقاصد تهدف إلى إستنفار كل مؤسسات الدولة للتصدي للخطر الداهم لذلك دعا الفصل إلى ضرورة إستمرار الحكومة في عملها دون أن تكون عرضة للائحة لوم تسقطها وكذلك الشأن بالنسبة للبرلمان الذي يظل في حالة إنعقاد دائم إلى غاية زوال الخطر الداهم. إن القراءة الممططة للفصل الثمانين من الدستور كانت محكومة بخلفية جعلت منها تعلة للمضي قدما في ترسيخ مشروع الرئيس الذي يظل تحقيقه رهين الإستحواذ على السلطتين التشريعية والتنفيذية في مرحلة أولى والتي تلتها مرحلة تدجين القضاء بالعمل على ترذيل القضاة ثم حل المجلس الأعلى للقضاء وهو مؤسسة دستورية لا تشكل خطرا داهما وتعويضه بمجلس معين خاضع للسلطة التنفيذية يأتمر بأوامرها. إن تواتر إستعمال رئيس الجمهورية لمفهوم " مجتمع القانون " بدل " دولة القانون " وفي الغالب كان يجمع بينهما ليفضل الأول على الثاني في مسعى لنسف النظام السياسي القائم فمفهوم " دولة القانون " يحيل إلى السلطة المنبثقة عن دستور الثورة، دستور 2014 . لذلك يعمد الرئيس إلى تغييبه بآعتبار إحالته على منظومات الحكم التي أفرزتها الإنتخابات الرئاسية التشريعية المتعاقبة منذ الثورة. واضح أن كل عملية تأسيس جديدة تعمل على تغيير المفاهيم – المفاتيح التي إنبنت عليها الدولة ومؤسساتها. وهو ما يفسر حرص الرئيس على إستبدال مفهوم " دولة القانون " بمفهوم " مجتمع القانون "، هذا المفهوم الهلامي الذي لا نجد له أثرا في الأدبيات المتصلة بالدولة وبتاريخها السياسي، كثيرا ما يتم الحديث عن العلاقة بين القانون والمجتمع ضمن سياق تأثر الأول بالثاني، فالقوانين تعتبر من أهم الوسائل التي يمكن من خلالها مكافحة الفوضى والحد منها في أي مجتمع كان، والقوانين أساسا لا تأتي من فراغ وإنما من خلال ما يحكم المجتمع من عادات وتقاليد وثقافة وتعاليم دينية وما بلغته المنظومة الكونية لحقوق الإنسان من تشريعات ونصوص قانونية . فكل هذه الأمور تسهم في إثراء القوانين وفي جعلها أقرب إلى الأفراد الذين تتشكل منهم المجتمعات فهم بذلك يصيرون أكثر تقبلا وإستجابة لها . (موقع mawdoo3.com، محمد مروان، القانون والمجتمع، نشر بتاريخ 10 أوت 2016 ) إن مفهوم " مجتمع القانون " الذي يتردد بآستمرار على لسان السيد رئيس الجمهورية يندرج في سياق العمل على تغيير ترسانة من القوانين بقوانين تستجيب لحالة " الشعب يريد " جوهر الشعبوية وتتناغم مع مشروع النظام السياسي المنشود والمزمع بعثه. يذكرني المصطلح بكتاب بيار كلاستار Pierre Clasters، " المجتمع ضد الدولة " "La société contre l' État وهو بحث يقع في مجال الأنتروبولوجيا السياسية، قائم على رصد قدرة مجتمعات القبائل الهندية – الأمريكية في منع السياسة من تشكيل نفسها كسلطة قوية. لكأن الرئيس يبحث عن المسوغات التي تعطل منظومة الحكم المنبثقة عن دستور الثورة وعن الإنتخابات الرئاسية والتشريعية الأخيرة. ليدخلنا في حالة الإعتباط التي تسبق ولادة نظام سياسي جديد،فمفهوم " مجتمع القانون " هو أحد المداخل لنسف المنجز الثوري تمهيدا لإحلال البديل المجالسي والنظام القاعدي . تتقمص السلطة القائمة بعد الخامس والعشرين من جويلية مطالب " الشعب يريد " وتعمل على تجسيدها عبر المراسيم المتوقع إصدارها بغرض تغيير الواقع وخلق واقع جديد وذاك وهم كبير تقع فيه سلطة الإنقلاب .

3 – من" القضاء سلطة "إلى "القضاء وظيفة".. الإنتكاسة

كثيرا ما يتردد على لسان السيد رئيس الجمهورية أن القضاء وظيفة وليس سلطة، فالسلطة ينبغي أن تكون مجسدة في شخص واحد يختزلها حد التقمص. هذه الآراء تعد أفكارا رجعية ضحت الإنسانية بأثمان باهظة لتتجاوزها في سبيل جعل القضاء سلطة مستقلة، ضمن تصور حداثي للأنظمة السياسية يقوم على الفصل بين السلط ويعد توزيع السلط الشكل الأرقى الذي بلغته الإنسانية في مجال ممارسة الحكم . ثم إن السيد رئيس الجمهورية إستشهد بكتاب أبي علي إبن مسكويه (ت 421 ه / 1030 م ) " ماهية العدل " في محاولة منه لتأصيل ما يدعيه من أن القضاء وظيفة وليس سلطة. يؤكد الكتاب على أن العدالة لها حضور قوي في فلسفة إبن مسكويه الأخلاقية وهي ثمرة العمل الفاضل وعلته بل هي أم الفضائل، إنها بمثابة العصب الذي تخترقه فلسفته الأخلاقية ويوحد كل مباحثها. لقد أثبتت نظريته أن تفكيرنا اليوم كعرب وكمسلمين في العدل كأحد حقوق الإنسان لم يكن شيئا طارئا علينا أو مجرد موضة فكرية معاصرة أملاها الغرب علينا بل إنه تفكير له إمتداداته في التراث الفلسفي العربي والإسلامي. ( آنظر محمد بنحماني، " نظرية العدالة عند إبن مسكويه " موقع مؤمنون بلا حدود، بتاريخ 12 أفريل 2017 ) إن إستشهاد رئيس الجمهورية بإبن مسكويه وبكتابه " ماهية العدل " لا يعني أبدا أن القضاء وظيفة، بل إن تراثنا العربى الإسلامي حافل بالمرويات والآثار التي تثبت أن القضاة المعينين من قبل الخلفاء والأمراء كانوا يتهيبون هذا المنصب وإن قبلوا به فعلى مضض، لا خشية ممن أسند إليهم تلك المناصب/ الوظائف وإنما خوفا من الله ومن أن يظلموا أو يبخسوا الناس حقوقهم فهم يخضعون لأحكام الله ولضمائرهم فقط . كان القضاة بسلوكهم ذاك وبآلتزامهم مبادىء العدالة، في تلك الفترة يضعون اللبنات الأولى لآستقلال القضاء عن الولاة والخلفاء- أي عن السلطة التنفيذية-،و في سعيهم لتكريس تلك الإستقلالية والحفاظ عليها،  كانوا يتوجسون من كل تدخل أثناء أدائهم لمهامهم مهما كان مأتاه، فكم من قاض إستقال حين مورست عليه صنوف من الضغوط أو حين أدرك وجود إخلالات في إجراءات التقاضي. لقد كان مبدأ التساوي بين المتقاضين من أهم دعائم القضاء العادل والناجز فكم من قاض إستدعى إلى مجلسه خليفة أو أميرا أو وزيرا أو واليا في قضية من القضايا كان أحد ذوي الهيئات طرفا فيها. لنتذكر قصة الإمام علي إبن أبي طالب كرم الله وجهه مع اليهودي وقضية الدرع وكيف نظر القاضي شريح بن الحارث بن قيس بن الجهم الكندي،(ت 78 ه / 697 م ) في المسألة التي إدعى فيها الإمام علي أن الدرع التي عند اليهودي هي درعه دون أن يقدم بينة على ما إدعاه فما كان من القاضي إلا أن يأمر اليهودي بأن يقسم أن الدرع درعه . ف"البينة على من إدعى واليمين على من أنكر" . وبذلك حكم القاضي شريح أن الدرع تعود ملكيتها لليهودي، فقال اليهودي: أمير المؤمنين قدمني إلى قاضيه وقاضيه قضى عليه أشهد أن هذا لحق. وأعلن إسلامه. )آنظر د. نصر فريد محمد واصل، السلطة القضائية ونظام القضاء في الإسلام، المكتبة التوفيقية، مصر 2008، 308 ص .) إن إعتبار القضاء وظيفة، حسب تصور الرئيس، يعني أن القاضي مرؤوس خاضع في أحكامه التي يصدرها لأوامر من هو أعلى منه في المناصب الوظيفية وخاصة أوامر وزير العدل وأوامر رئيس الوزراء وأوامر رئيس الجمهورية ( آنظر المرسوم عدد 11 لسنة 2022 المؤرخ في 12 فيفري 2022 والمتعلق بإحداث المجلس الأعلى المؤقت للقضاء ولاسيما الفصول 15 و16 و19 و20 والتي تكرس تدخل السلطة التنفيذية ممثلة في رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة ووزير العدل في شؤون القضاء والقضاة ) و تلك هي عين الدكتاتورية والطغيان وأكبر باب للفساد، فإذا صار القضاء بمثل هذه الحالة فإن دخول أمثال هؤلاء القضاة إلى المحاكم، يجعل العدالة فعلا تخرج من النوافذ.

إن الفعل التراكمي للمنجز المعرفي في مجال العلوم السياسية يفضي بنا إلى إستقرار المفاهيم التي حددت ملامح الدولة الديمقراطية الحديثة القائمة أساسا على دولة القانون وعلى الفصل بين السلط وكل محاولة للتلاعب بهما هو من قبيل العبث المفضي إلى تدمير الدولة. إن المفاهيم ذات الصلة بالدولة الحديثة تحمل في بصماتها تاريخا للشعوب التي خاضت نضالات حقوقية في سبيل البحث عن أداء ناجع لدولة القانون والمؤسسات التي تحترم حقوق الإنسان وتضمن الحريات المختلفة والمساواة التامة بين أفراد المجتمع. إن ما يروج من مفاهيم، من قبيل " مجتمع القانون " و" القضاء وظيفة " إنما هو نكوص وردة خطير عن مكتسبات دفعت الإنسانية في سبيلها أثمانا باهظة، هو نوع من المغالطة التاريخية un anachronisme التي ترمي بالمجتمع في أتون مشاريع سياسية هلامية عفا عنها الزمن تكرس الإستبداد والرأي الواحد وتحتكر السلطة.

***

بقلم: رمضان بن رمضان

 

إنها لحظة فارقة في تاريخ الإنسانية، إذ يبدو أن العالم يقف على حافة الهاوية، حيث تتداخل الصور والأصوات في فوضى لا تنتهي، والحدود بين الحقيقة والوهم تذوب أمام أعيننا. في هذا العصر الذي يشهد تضخمًا غير مسبوق في المعلومات، يبقى السؤال الأهم: هل حقًا نحن نتقدم؟ أم أننا مجرد عابرين في هذا الزمن، نتعلق بالأوهام التي تروجها لنا التكنولوجيا والمعلوماتية؟

لقد كان التقدم في البداية، بالنسبة للبشرية، آمالًا عظيمة لخلق حياة أفضل، لكن مع مرور الوقت بدأنا نكتشف أنه ليس كل ما يتلألأ ذهبًا. فبينما تزايدت إمكانياتنا التكنولوجية، انخفضت قدرتنا على التعامل مع التحديات الوجودية الكبرى. أصبحنا أكثر عزلة، أكثر خوفًا، وأكثر فقدانًا للمعنى في حياتنا اليومية.

الخوف من المستقبل: هل نحن رهائن لتقدمنا؟

كما قال الفيلسوف الفرنسي بول ريكور: الإنسان لا يستطيع أن يعيش بلا أمل، ولا يستطيع أن يعيش في المستقبل إذا لم يكن يدرك ماضيه (ريكور، 1990: 187). هذه المقولة تحمل في طياتها مفتاحًا لفهم الأزمة التي يعيشها الإنسان المعاصر. ففي خضم هذا التقدم المادي الهائل، نحن بحاجة إلى العودة إلى أنفسنا، للبحث في تاريخنا الفردي والجماعي لنعرف كيف وصلنا إلى هنا. ولكن هل فعلًا نحن قادرون على هذا؟ هل نستطيع أن نحرر أنفسنا من الآلة التي حكمتنا وأصبحنا جزءًا منها؟

إن الخوف من المستقبل الذي يسيطر علينا ليس مجرد شعور عابر، بل هو انعكاس لحالة من التوتر الوجودي العميق. في هذا السياق، يرى الفيلسوف الألماني نيتشه أن الإنسان في العصر الحديث قد فقد بوصلة الإرشاد الروحي والفكري، حيث تحولت القيم التقليدية إلى ماضٍ بعيد غير قابل للتطبيق (نيتشه، 1883: 22). وتزايدت هذه الفوضى بفعل ما أسماه موت الإله، حيث بات الإنسان معتمدًا على نفسه في خلق المعنى وتحديد القيم.

الفوضى المعلوماتية: تحطم الحقيقة في عصر الازدواجية

لقد دخلنا عصر الفوضى المعلوماتية، حيث لم يعد بإمكاننا التمييز بين الحقيقة والخيال. كما قال الفيلسوف الفرنسي جان بودريار في كتابه نهاية الواقع: لقد استبدلت الحقيقة بعلامات فارغة، وأصبح الواقع نفسه مجرد محاكاة (بودريار، 1981: 89). نحن نعيش في عالم تضخمت فيه المعلومات حتى أصبح من المستحيل فهم المعنى الحقيقي لما يحدث من حولنا.

إن من أكبر التحديات التي نواجهها اليوم هو التفريق بين الحقيقة والوهم في هذا الزخم الهائل من المعلومات. فالعالم الرقمي الذي يحيط بنا لا يقدم لنا أكثر من صور وأفكار سطحية، جعلتنا نشعر بالعجز عن معرفة ما هو حقيقي وما هو زائف.

إن الإنسان في هذا العصر لا يعاني فقط من الانفصال عن الواقع المادي، بل يعاني أيضًا من انفصال داخلي، وهو الانفصال عن الذات الذي وصفه الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر في قوله: الإنسان يقف على حافة هوته الخاصة، ولا يمكنه أن يعود إلى ذاته إلا عندما يتصالح مع هذا الهوة (سارتر، 1943: 115).

التكنولوجيا: نعمة أم نقمة؟

منذ العصور القديمة، كانت التكنولوجيا موضوعًا مثيرًا للجدل بين الفلاسفة. في العصر الحديث، تحول هذا الموضوع إلى معضلة حقيقية. بينما كانت التكنولوجيا في البداية تُعتبر وسيلة لتحسين حياة الإنسان، فإنها أصبحت اليوم مصدرًا للعزلة والفراغ الوجودي.

كما يرى الفيلسوف هربرت ماركوز في كتابه الإنسان الواحد، أن التكنولوجيا في العصر الحديث لم تعد مجرد أداة، بل أصبحت جزءًا من بنية حياتنا اليومية، فصار الإنسان اليوم يعيش في عصر التوحيد التكنولوجي، حيث يتم تعريف الإنسان بما يمتلكه من أدوات ومقدرة على استخدام التقنية (ماركوز، 1964: 47).

كيف نواجه المستقبل؟

إن السؤال المحوري اليوم هو: كيف نواجه المستقبل في ظل هذه التحديات؟ هل نحن أمام لحظة نضج، أم أن الفوضى ستستمر لتطغى على كل شيء؟ يبدو أن الفيلسوف مارتن هايدغر يقدم لنا مفاتيح فهم هذا التحدي، حيث يشير إلى أن الإنسان لا يمكنه أن يعيش دون أن يواجه تحديات وجوده بشكل مباشر، وأن النضج الحقيقي يتطلب منا مواجهة ما نسميه الوجود التكنولوجي والتفاعل معه بوعي (هايدغر، 1927: 78).

الوعي كوسيلة للخلاص

وفي حديث سجاد مصطفى حمود: الوعي ليس مجرد حالة عقلية، بل هو وقوف مستمر على حافة الذات، بحث دائم عن المعنى وسط الفوضى. هذه الكلمات تؤكد أننا بحاجة إلى إعادة النظر في مفهوم الوعي الذي نعيشه. فالوعي في العصر الحديث ليس فقط نتيجة للمعرفة، بل هو تلك اللحظة التي نستطيع فيها التفاعل مع واقعنا بعمق أكبر ونعيد اكتشاف معاني حياتنا.

في هذا السياق، يبرز دور الفلسفة في التأمل النقدي، حيث تتيح لنا الفلسفة أن نتخطى حدود الأيديولوجيات السائدة، ونستعيد معاني الإنسانية الحقيقية. فإذا لم نتمكن من تجديد الوعي الذاتي في ظل هذا الفوضى المعرفية، فإننا سنظل عالقين في دائرة لا نهاية لها من البحث عن معاني خاطئة.

***

سجاد مصطفى حمود

......................

المراجع:

- ريكور، بول. الذاكرة والنسيان: من العقل إلى الفكر. ترجمة: مروان ناصر، دار المعرفة، 1990.

- نيتشه، فريدريك. هكذا تكلم زرادشت. ترجمة: يوسف الهادي، دار الطليعة، 1883.

- بودريار، جان. نهاية الواقع. ترجمة: حسين العساف، دار الطليعة، 1981.

- ماركوز، هربرت. الإنسان الواحد. ترجمة: أحمد رشدي، دار الفكر، 1964.

- هايدغر، مارتن. الوجود والزمان. ترجمة: أحمد عكاشة، دار المدى، 1927.

- سارتر، جان بول. الوجود والعدم. ترجمة: عبد الرحمن بدوي، دار مصر للطباعة، 1943.

 

في غمرة التحولات الاجتماعية والسياسية التي تشهدها المنطقة، يطفو على السطح سؤال جوهري: كيف يمكن للقوة الناعمة أن تعيد تشكيل الهوية، وتصنع وعيًا جمعيًا قادرًا على تجاوز التحديات؟ هذا السؤال كان حاضرًا بقوة في أولى جلسات اللجنة المشكلة لبحث مستقبل الإعلام والدراما المصرية، برئاسة وزير الثقافة الدكتور أحمد فؤاد هنو، والتي التقى أعضاءها مؤخرا السيد رئيس الوزراء الدكتور مصطفى مدبولي، في خطوة تقرأ كمحاولة لاستعادة بريق "الرسالة الثقافية" التي طالما تميزت بها مصر.

الدراما.. ماء الوجه وسر الهوية

لا يمكن فصل الحديث عن الدراما المصرية عن تاريخها العريق الذي شكل وعي أجيال، من "رصيف نمرة 5" إلى "ليالي الحلمية"، حيث كانت الشاشة الصغيرة مساحةً لطرح الأسئلة الساخنة، وتشريح الواقع بجرأة، دون أن تفقد روحها الفنية. اليوم، حاول هذا اللقاء الرسمي أن يستعيد تلك الروح، لكن في سياق مختلف؛ فالعالم لم يعد يحتمل الخطابات المباشرة، والجمهور صار أكثر اغترابا وانقساما بفعل ثورة المنصات الرقمية. ما الذي يمكن أن تعنيه "إعادة صياغة الشخصية المصرية" في ظل هذا المشهد المعقد؟

اللجنة، كما أشار رئيس الوزراء، تسعى إلى وضع خطة عشرية تستند إلى دراسة تأثيرات الدراما خلال العقدين الماضيين. ربما يكون هذا التوقيت مناسبًا لمراجعة حقيقية؛ فالفجوة بين إرث الدراما الذهبي وبين ما يعرض ليست سرًا. فبينما قدمت السنوات الأخيرة أعمالًا جريئة مثل "أوان الورد" التي ناقشت قضايا الريف بعمق، أو "الاختيار" الذي مزج بين التشويق والخطاب الوطني، لا تزال هناك شكوى متكررة من سيطرة "الكوميديا السريعة" والمسلسلات التي تلهث وراء الإثارة على حساب المضمون.

إحدى الإشكاليات التي تثيرها مثل هذه المبادرات هي العلاقة بين التوجه الاستراتيجي للدولة وبين حرية الإبداع. فحين يعلن رئيس الوزراء أن الحكومة مستعدة لدعم الأعمال "الهادفة"، يبرز سؤال عن معنى "الهدف" هنا: هل هو تعزيز القيم الاجتماعية، أم ترسيخ رواية سياسية محددة؟ التاريخ يخبرنا أن أفضل الأعمال الفنية هي تلك التي ولدت من رحم المبدع الحر، لا من توجيه بيروقراطي. فلو كان "المصير" ليوسف شاهين – الذي ناقش سيرة ابن رشد في مواجهة التطرف – قد خضع لـ "خطة عشرية"، هل كان سيصل إلى نفس العمق؟

الاجتماع أشار إلى ضرورة "خلق نماذج درامية تصبح قدوة للأجيال"، وهنا تكمن مفارقة؛ فالنماذج الأكثر تأثيرًا في الدراما المصرية كانت شخصيات معقدة، تحمل تناقضاتها الإنسانية، مثل "حمادة" في "ضمير أبلة حكمت"، أو "علي عبدالعال" في "الراية البيضا". القدوة لا تُصنع بالخطابات المثالية، بل بالحكايات التي تلامس الواقع بصدق.

اللافت أن اللجنة طرحت فكرة استخدام الدراما للترويج السياحي، مستندة إلى تجارب دول أخرى. الفكرة ليست جديدة؛ فمسلسل "صاحب السعادة" القديم كان بوابةً للتعريف بمعالم الإسكندرية، لكن الخطر يكمن في تحويل الدراما إلى "دليل سياحي" يُفقدها روحها كفن. السياحة الحقيقية التي يمكن أن تصنعها الدراما ليست تلك التي تظهر المعابد والفنادق فحسب، بل تلك التي تبيع "الروح المصرية" بمزاجها المتفرد، وحكاياتها الشعبية، وتناقضاتها الإنسانية.

في خضم الحديث عن الدراما التلفزيونية، طُرح ضرورة الاهتمام بالمسرح والثقافة عمومًا. هذه النقطة بالذات تستحق التوقف؛ فالمسرح كان دائمًا المختبر الحقيقي للأفكار الجريئة، ومنه انطلقت نجومية كثير من المبدعين. إهماله يعني حرمان الدراما من مصدر حيوي لتجديد الدماء. كما أن الثقافة لا تقتصر على "الدراما الهادفة"، بل تشمل الأدب، والموسيقى، وحتى الفنون الشعبية التي تذوب فيها الهوية المصرية.

النهاية.. أو البداية

الحديث عن خطة عشرية يبعث على التفاؤل، لكن التجارب تحذرنا من أن الخطط الثقافية الطموحة كثيرًا ما تتحول إلى أوراق تناقش في المؤتمرات، ثم تتراجع أمام أول اختبار. التحدي الحقيقي ليس في وضع التصورات، بل في آليات التنفيذ: كيف سيتم دعم المبدعين الشباب دون شروط تخنق إبداعهم؟ كيف تقاس "الهوية المصرية" في الأعمال الفنية؟ وهل ستتحمل الدولة نقدًا قد يوجهه عمل درامي لسياساتها، حتى لو كان "هادفًا"؟

اللجنة أمام مهمة شائكة: أن تلتقط الخيط بين ماضي الدراما العريق ومستقبلها المجهول، دون أن تقع في فخ الحنين إلى الماضي، أو الانبهار بالتكنولوجيا على حساب المضمون. النجاح لن يأتي إلا بشرطين: الأول، أن تتحول التوصيات إلى سياسات ملموسة، كتخفيض الضرائب على الأعمال الجادة، أو دعم دور العرض المستقلة. والثاني، أن تظل الدولة "حاضنة" للإبداع، لا "وصية" عليه.

في النهاية، تبقى مصر كـ"الجوهرة" التي تتحدى الصدأ ببريقها.. بريق صنعته دراما أذهلت العالم، وسرد أسس لوعي أمة.. فكيف نعيد لهذه الجوهرة رونقها الجذاب، وهي تتأرجح بين ثقل التراث وصخب الحاضر؟

لن تنتصر القوة الناعمة إلا إذا أدركنا أن الدراما الناجحة ليست تلك التي تجمل الواقع، بل التي تغوص في أعماقه.. تترك الجراح مكشوفة، لتنبت منها زهرة الأمل.. مصر التي نشتاق إليها ليست تلك التي تركب "الزمان" بحلي الماضي، بل تلك التي تحمل في يدها مفتاح الغد.. مفتاح من نحاس صنعته أساطير الأمس، وينتظر أصابع الأطفال ليفتحوا به أبوابًا لم نعرفها بعد..

هكذا تصنع الأمم  أحلامها .. بالقلب أولًا، ثم بالعقل..!

***

د. عبد السلام فاروق

المغالطات المنطقية في تأويل السرديات التاريخية هي من اهم التي يقع فيها الباحث في الدراسات التاريخية، يمكن أن تؤثر على فهمنا للأحداث والشخصيتان دراسة السياق التاريخي تلعب دورًا حاسمًا في تجنب المغالطات المنطقية في التأويل والتحليل التاريخي و تعزز القدرة على تفسير النصوص التاريخية بشكل دقيق، مما يقلل من المخاطر المرتبطة بسوء الفهم او التفسير، من خلال فحص السياق يمكن للباحث تجنب الاستنتاجات العامة المبنية على أحداث أو حالات فردية غير ممثلة للسياق العام الذي يساعد في فهم كيفية تفاعل الأحداث المختلفة وتأثيرها المتبادل، مما يمنع اختزال السرديات التاريخية الى قص شعبي بسيط، السياق التاريخي يمكن أن يوضح كيف تغيرت المعتقدات والقيم عبر الزمن، مما يساعد في تجنب المغالطات  المنطقية في التأويل ويعزز الفهم الشامل من خلال تجاوز سرديات تاريخية غير دقيقة البناء، لان كل ما حدث لم يأتي من فراغ، بالتالي يقلل من احتمال الوقوع في المغالطات المنطقية ويعزز المصداقية .المغالطات المنطقية تؤثر بشكل كبير على تأويل السرديات التاريخية، يظهر هذا في عدة جوانب من التأويل وتؤدي إلى تقديم معلومات غير دقيقة أو مضللة، مما يشوه الفهم العام للأحداث، استخدام المغالطات يمكن أن يؤدي إلى تبسيط معتقدات تاريخية، مما يفقد السرد عمقه ويجعله غير مطابق للواقع والاسباب، مغالطات يمكن أن تؤدي إلى استخدام أدلة غير صحيحة لدعم استنتاجات مسبقة، مما يحرف المعاني الحقيقية للنصوص التاريخية يعزز انحيازيات معينة، مما يؤدي إلى تفسير الأحداث وفقًا لوجهة نظر محددة دون الاهتمام بجميع الجوانب، المغالطات قد تؤدي إلى إنشاء سرديات تركز على جوانب معينة من التاريخ بينما تتجاهل أخرى، مما يخلق صورة غير كاملة ويمكن أن تقوض مصداقية البحث التاريخي، مما يجعل من الصعب بناء فهم موثوق للتاريخ وبالتالي تؤدي الى تشويه الحقائق بشكل مفرط.

التحليل النقدي والمغالطات التاريخية

التحليل النقدي يلعب دورًا أساسيًا في كشف المغالطات التاريخية يساعد في تقييم مدى موثوقية المصادر التاريخية، من خلال فحص خلفيات مؤلفيها وسياقاتهم، من خلال التحليل النقدي يمكن كشف الحجج المقدمة في السرديات التاريخية، المغالطات مثل التعميم المتسرع أو الاستدلال الدائر تساعد في فهم الظروف الاجتماعية والسياسية التي أحاطت بالأحداث، مما يمكننا من التعرف على المغالطات الناتجة عن اغفال السياق ومقارنة وجهات نظر متعددة، يمكن للباحث كشف التحيزات والمغالطات المحتملة التي قد تظهر في سرد معين، التحليل النقدي يعزز المهارات والوسائل للتفكير النقدي لدى الباحثين، مما يمكنهم من التعامل بفاعلية مع المعلومات التاريخية وتحليلها بعمق، ويساعد في كشف الانحيازيات المسبقة التي قد تؤثر على تأويل الأحداث، مما يؤدي إلى سرديات أكثر توازنا يمكن الباحثين من تكوين فهم شامل ومتعدد الابعاد للتاريخ الانساني، هذا يقلل من فرص الوقوع في مغالطات منطقية ويساعد التحليل النقدي في كشف المغالطات من خلال تقييم المصادر، فحص الحجج، وتحليل السياق، هذه الأدوات تعزز من دقة الفهم التاريخي وتساهم في بناء سرديات موثوقة وموضوعية.

التأويل وحجة الاثبات

التأويل يمكن أن يلعب دورًا مهمًا في فهم السرديات التاريخية، ولكنه ليس حجة قاطعة لإثبات صحتها، التأويل يساعد في تفسير المعاني العميقة للنصوص والأحداث، مما يعزز الفهم العام للسرديات التاريخية السرديات التاريخية قد تكون مفتوحة لتأويلات متعددة، مما يعني أن التأويل يمكن أن يعكس وجهات نظر مختلفة، لكنه لا يضمن صحة الرواية التأويل يعتمد على فهم السياق التاريخي ودلالات اللغة في محاولة لتعزيز دقة التفسير ولكنه لا يُعتبر دليلاً قاطعًا على المعنى الدقيق، التأويل يتأثر بالتحيزات الشخصية أو السياسية، مما يؤدي إلى استنتاجات غير دقيقة أو مغلوطة رغم أن التأويل ليس حجة قاطعة، إلا أنه يؤكد على أهمية السياق والتفسير في الفهم التاريخي ويمكن أن يُستخدم لدعم الأدلة التاريخية، لكنه يجب أن يكون مدعومًا بمصادر موثوقة،لذا يجب أن يُدمج مع الأدلة التاريخية والسياق لضمان دقة الفهم.

الاثار السلبية للتأويل الخاطئ

تطبيق التأويل الخاطئ على السرديات التاريخية يمكن أن يؤدي إلى عدة نتائج سلبية، يؤدي إلى تقديم معلومات غير دقيقة أو مضللة، مما يشوه الفهم العام للأحداث والشخصيات، يمكن أن يعزز التأويل الخاطئ وجهات نظر متحيزة أو غير موضوعية، مما يعيق الفهم الشامل للتاريخ، قد ينتج عن التأويل الخاطئ روايات تركز على جوانب معينة من الحدث أو الشخصيات بينما تتجاهل جوانب أخرى، مما يؤدي إلى صورة غير مكتملة إذا تم تداول روايات تاريخية مبنية على تأويل خاطئ، يؤثر ذلك سلبًا على فهم الافراد للتاريخ ويخلق جيلاً يحمل معلومات مضللة يمكن أن يؤدي التأويل الخاطئ إلى تفاقم الصراعات الثقافية، السياسية والطائفية، حيث يتم استخدام السرديات لتبرير مواقف أو أفعال معينة عندما يتبين أن التأويلات خاطئة يؤدي ذلك إلى فقدان الثقة في المصادر التاريخية بشكل عام، بالتالي يعيق البحث والدراسة الموضوعية لان التأويلات الخاطئة يمكن أن تنتقل عبر الأجيال، مما يؤدي إلى استمرار نشر المعلومات المغلوطة. من الضروري التعامل مع التأويل بحذر وفهم السياق لضمان دقة الفهم التاريخي.

السياق الثقافي والسرديات المضللة

تختلف آثار السرديات المضللة باختلاف السياق الثقافي. في الثقافات التي تقدر السرديات الشفاهية، قد تكون التأثيرات أكثر عمقًا، حيث تُعتبر الروايات جزءًا لا يتجزأ من الهوية الثقافية تختلف ردود الفعل تجاه السرديات المضللة باختلاف المجتمعات. بعض المجتمعات قد تكون أكثر حساسية تجاه المعلومات الخاطئة، بينما قد تكون أخرى أقل اهتمامًا في سياقات سياسية قمعية، يمكن أن تُستخدم السرديات المضللة لتعزيز الروايات الرسمية، مما يؤثر على كيفية تشكيل الهوية الوطنية، في المجتمعات ذات مستوى تعليم مرتفع، يكون الأفراد أكثر قدرة على تحليل السرديات وفهمها، مما يقلل من تأثير المعلومات المضللة، تتأثر المجتمعات التي تحمل ذكريات جماعية عن أحداث تاريخية معينة بشكل مختلف بالسرديات المضللة، حيث يمكن أن تُستخدم لتبرير مواقف معينة. في المجتمعات التي تتمتع بوسائل إعلام حرة ومتنوعة، تكون هناك فرص أكبر لمواجهة السرديات المضللة، مما يقلل من آثارها .في بعض الثقافات تلعب السرديات المضللة دورًا في تشكيل التصورات الروحية والدينية، مما يؤثر على الهوية بطرق معقدة، تختلف آثار السرديات المضللة باختلاف السياق الثقافي بناءً على المرجعية الثقافية، الوضع السياسي، مستوى التعليم، والتاريخ الجماعي. من المهم فهم هذه الاختلافات لتقييم تأثير السرديات المضللة بشكل دقيق.

***

غالب المسعودي – باحث عراقي

........................

* المغالطات المنطقية: هي أخطاء في التفكير تؤدي إلى استنتاجات غير صحيحة الأنواع الشائعة من المغالطات المنطقية في التأويل:

مغالطة التعميم المتسرع: تحدث عندما يتم استنتاج قاعدة عامة بناءً على أدلة غير كافية

مغالطة الاستدلال الدائري: تستخدم فيها النتيجة كأحد المقدمات

مغالطة رجل القش: تحدث عندما يتم تشويه موقف الخصم لتسهيل الهجوم عليه

مغالطة الفتوة: تحدث عندما يُستخدم التهديد أو الإكراه بدلاً من تقديم دليل منطقي

مغالطة المزلق الزلق: تفترض أن خطوة واحدة ستؤدي حتمًا إلى سلسلة من الأحداث السلبية

مغالطة الندرة: تحدث عندما يُستخدم عنصر الندرة لإقناع الآخرين بقبول شيء ما

مغالطة التبسيط المفرط: تحدث عندما يتم تقليل قضية معقدة إلى خيارين فقط

 

والتنصل من المبادئ الثقافية المحلية

لا ينكر احد ان مسألة التعليم تتربع على رأس الأولويات، بوصفها المحرك الأول للنهضة والمقياس الحقيقي لمكانة الشعوب بين الأمم. لكن التعليم في منطقتنا، لا سيما التعليم الخاص، لم يعد ذلك الكيان البريء الباحث عن التميز فحسب، بل صار ميدانًا لجدل حارق، تتقاطع فيه خيوط الهوية، والمصالح، والاستراتيجيات الثقافية العميقة، في مفارقة مزمنة بين السعي للحداثة والتشبث بالجذور.

فهل التعليم الخاص في الدول العربية هو تعبير عن تميز حقيقي ورغبة في الارتقاء؟ أم هو، في جوهره، صورة جديدة من صور التبعية للمنظومات الغربية، التي تتنصل تدريجيًا من المبادئ الثقافية المحلية؟

بريق التميز الذي لا يُنكر

لا يمكن أن ننكر بأن التعليم الخاص في الدول العربية قد قدم في بعض مراحله قيمة مضافة للنسيج التعليمي العام. فقد جاء استجابة لحاجة المجتمع إلى مؤسسات تعليمية قادرة على تجاوز البيروقراطية الرسمية، وتقديم بيئة أكثر ديناميكية، ونماذج تعليمية بديلة، تعتمد طرقًا مبتكرة وأدوات حديثة.

لقد تبنّى التعليم الخاص تقنيات التعليم الرقمي، والتعلم التفاعلي، والتفكير النقدي، بل واستقطب كوادر تعليمية ذات كفاءة عالية، سواء محلية أو أجنبية. وتفوّقت بعض هذه المدارس في الأداء الأكاديمي، وتسجيل أبنائها في أرقى الجامعات العالمية.

لكن، هل يكفي التميز الأكاديمي لتبرير غربة الروح التي أصبحت تتسلل إلى هذه المنظومات؟ هل النجاح في الامتحانات العالمية يعوّض الفقد الثقافي، والتغريب الهوياتي، الذي بات يهدد الأجيال القادمة؟

الوجه الآخر للتميز... تبعية ناعمة

وراء هذا التميز الظاهري، تكمن إشكالية معقدة: التعليم الخاص العربي، في الكثير من حالاته، ليس إنتاجًا محليًا مستقلًا، بل هو امتدادا لمنظومات تعليمية غربية، تُنقَل بنيويًا ومنهجيًا دون غربلة ثقافية.

ويظهر هذا خاصة في المدارس والجامعات التي تُدرِّس بالكامل باللغة الإنجليزية أو الفرنسية، والتي تُقصي اللغة العربية إلى هامش خجول من المنهج، ليست استثناء، بل قاعدة تتسع. كما أن القيم التي تُدرّس ضمن "المواطنة العالمية"، و"الحرية الفردية"، و"النجاح الشخصي" — رغم مشروعيتها — غالبًا ما تُقدّم بمعزل عن النسق الثقافي العربي، بل أحيانًا في تصادمٍ معه.

هل يمكن أن نُغفل أن التلميذ العربي، في كثير من هذه المؤسسات، يُلقّن تاريخ أوروبا أكثر مما يتعرّف على تاريخ وطنه؟ وأنه يُعرّف على أدب شكسبير أكثر مما يُطالع لأبي العلاء المعري أو الطنطاوي أو درويش؟

هكذا، تتحول المدرسة من فضاء للمعرفة إلى بوابة لعبور هادئ نحو التغرب، في غفلة من الأهل، وتحت مسمى "العالمية".

تنصل من المبادئ الثقافية أم تحوّل طبيعي؟

في هذا المفترق، يُطرح سؤال جوهري: هل نحن أمام تنصل مقصود من المبادئ الثقافية المحلية؟ أم أننا نعيش تحوّلًا طبيعيًا في عصر العولمة، حيث تختلط الهويات، ويُعاد تشكيل الانتماءات؟

المدافعون عن التعليم الخاص يقولون: "إن العالم قرية صغيرة، ولا بد من إعداد أبنائنا لمنافسة عالمية شرسة، تتطلب لغة عالمية ومناهج متقدمة". لكن المتشككين يردون: "ما الفائدة من الفوز بالعالم إن خسرنا أنفسنا؟"

ليس الحديث هنا عن رفض للتطوير أو الانغلاق، بل عن ضرورة الانطلاق من الذات في مواجهة الآخر. فالتعليم الذي يُقصي الموروث، ويضعه في خانة التخلف، لا يُنتج إلا إنسانًا مهزوز الهوية، يرى حضارته عبئًا، وثقافته قيدًا، فيصبح تابعًا حتى وإن تفوّق.

التعليم الخاص في مرآة السياسة والاقتصاد

ليس التعليم الخاص منفصلًا عن البنية السياسية والاقتصادية للبلدان العربية. في كثير من الأحيان،إذ تحوّل إلى مشروع تجاري استثماري بحت، تحكمه قواعد السوق لا قواعد الرسالة.

فأسعار هذه المؤسسات قد تصل أرقامًا خيالية، تُقصي الفقراء وتكرّس النخب. ناهيك عن اعتماد بعضها على مناهج أجنبية مرخّصة من دول أخرى، تتحكم في مضمونها ومحتواها، بشكل يجعل القرار التربوي خاضعًا لاعتبارات خارجية.

وهذا يعني أن التبعية ليست مجرد اختيار ثقافي، بل أحيانًا ضرورة اقتصادية، تُفرض على الدول الضعيفة، ضمن منظومة دولية لا تترك للضعفاء مساحة حقيقية للاستقلال التربوي.

في زوايا هذا الزمن المتشظي، تقف المدارس الخاصة في أوطاننا العربية وقد لفّها ضباب الشبهات، واتُّهمت بأنها ليست مجرد مؤسسات تعليمية، بل مصانع لوعيٍ مُستورد، يُطبع على جبين الأجيال القادمة بلغة الآخر، وبحروفٍ لا تنتمي لتراب الأرض ولا لرائحة الجدات. يُقال عنها إنها عيون الأجنبي، وجنده المستقبلي، تغرس في عقول أطفالنا بذورًا لا تُثمر إلّا انتماءً هشًا، لا يصمد في وجه العواصف التي تهدد هوية الأمة.

غهل تحوّلت المدارس الخاصة إلى جسورٍ ناعمة تعبر منها أجندات السيطرة الثقافية؟ هل أصبحت مسارح صامتة لتمثيليات الاستلاب، حيث يُعاد تشكيل العقول وفق قوالب "العالمية" المزعومة؟ تلك العالمية التي لا تسأل عن تاريخنا، ولا تهتم بميراثنا، بل تدسّه تحت أقدام مناهجها المصقولة، بألوانٍ زاهية تخفي بين طيّاتها شوك التغريب والانفصال.

فالطفل الذي كان يحفظ قصائد المتنبي صار يحفظ أغاني الهالوين، والذي كان يرسم الأقصى في دفاتره صار يرسم برج إيفل، لا لأن قلبه تغيّر، بل لأن ما زُرع فيه من الوعي لم يعد يحمل طين الوطن، بل غبار العواصم البعيدة. وهكذا، تُصاغ الأجيال القادمة ككتائب ناعمة، لا ترفع السلاح، بل ترفع أفكارًا تُضعف الحصون من الداخل، تشتاق لما لا يُشبهها، وتتبرأ من ملامحها الأصيلة.

لسنا ضد الانفتاح ولا ضد التعلّم، لكن حين يكون التعليم وسيلة لاختطاف الانتماء، فهنا يعلو النداء: حذارِ، فإن الاستعمار الذي خرج ببدلاته العسكرية، عاد إلينا بكتبٍ ومناهج ومدارس ذات رسوم مرتفعة وولاءاتٍ منخفضة.

فلنعد السؤال إلى مكانه الصحيح: ماذا نُعلّم أطفالنا؟ ولمن نُعِدّهم؟ لأوطانهم أم لعالمٍ يريدهم غرباء فيها؟ في هذا السؤال يكمن الجواب، وفي صحوة الوعي تكمن بداية النجاة.

نحو نموذج تعليم خاص بديل

لكن، لا يعني هذا أن التعليم الخاص مشروع مشبوه بالضرورة. يمكننا أن نحلم، بل ونعمل، على إنشاء تعليم خاص عربي الطابع، عالمي الرؤية، يجمع بين الأصالة والمعاصرة، ويُنتج نماذج تعليمية تُدرِّس الفيزياء بكفاءة، دون أن تنسى تعليم شعر المتنبي، وتُدرِّب على التفكير النقدي دون أن تنفصل عن الأخلاق الجمعية.

لماذا لا نُنتج مناهجنا الخاصة، بلغاتنا الحية، بروحنا، وبأدوات القرن الحادي والعشرين؟

لماذا لا نُدرّس "العالمية" كامتداد لهويتنا لا نقيضًا لها؟

هل يحتاج العربي دومًا إلى أن يُنزع من ذاته ليصل إلى الآخر؟ أم أن له أن يتقدم وفي يده جذوره؟

ختامًا : سؤال الحاضر... وصرخة المستقبل

بالتمعن في كل ما سبق نستخلص أن التعليم الخاص في الدول العربية يقف على مفترق طرق، إما أن يكون جسرًا نحو نهضة حقيقية، تؤسس على الهوية وتبني نحو الحداثة، أو يتحول إلى قيد ناعم، يربط التبعية بالتفوق، ويُغلف الاغتراب بواجهات لامعة.

وعليه فالمستقبل لا يُبنى باللغة وحدها، ولا بالشهادات المرموقة فقط، بل بالإنسان الذي يعرف من هو، ويعرف إلى أين يتجه.

فلنُعد التفكير في مدارسنا، لا كصروح أكاديمية فقط، بل كمصانع للوعي، ومساحات للحلم، ومعاقل للحضارة.

***

مجيدة محمدي - تونس

في أحد أحياء دمشق، جلس بدرالدين بن جماعة ليخط حصيلة سنوات من التدريس والخطابة، في مدارس الشام، ومصر، وفلسطين. ويقدم بدوره ثمرة فكره التربوي في نسق موحد وكلي، تتآلف عناصره لتحدد تصورا تربويا، يهدف إلى بناء الإنسان السليم الذي تنهض على أكتافه أمة قوية.

لكن ما لفت الانتباه في كتابه" تذكرة السامع والمتكلم في أدب العالم والمتعلم" هو تخصيص فصل لما سماه ب " آلة تحصيل العلم"، أو "ما يؤنس من الجماد" كما وصفه أحد تلامذته. يحمل الفصل عنوان" في الأدب مع الكتب"، وهي إشارة دالة إلى أن الغاية ليست فقط وضع توجيهات وإرشادات، وإنما تنمية مشاعر وميول قرائية، بأسلوب يمزج الفكرة بالعاطفة، ويرتب لعلاقة إمتاع ومؤانسة بين الطرفين.

يضم الفصل أحد عشر توجيها، ما بين تحديد لأصول شراء الكتاب واستنساخه وإعارته؛ وصولا إلى ما يقتضيه متن الكتابة، من عناية بأدواتها، وتحسين الخط ليُنتفع به عند الكبَر؛ ثم تعظيم اسم الجلالة ولفظ النبوة جريا على عادة السلف. ويظل توجيهه بشأن حضور الكتاب والمكتبة في بيت المتعلم شاهدا على البعد الوجداني الذي يعد اليوم حلقة مفقودة في جل المبادرات الرامية إلى تحسين علاقة الطفل بالكتاب. يقول ابن جماعة:

" إذا نسخ من الكتاب أو طالعه- يعني المتعلم- فلا يضعه على الأرض مفروشا منشورا، بل يجعله بين كتابين أو شيئين، أو كرسي الكتب المعروف، كي لا يسرع تقطيع حبله. فإذا وضعها في مكان مصفوفة، فليكن على كرسي أو تحت خشب أو نحوه، والأولى أن يكون بينها وبين الأرض خلو، ولا يضعها على الأرض كي لا تتندّى أو تَبلى.. ويراعي الأدب في وضع الكتب باعتبار علومها أو شرفها، ومصنِّفها وجلالتهم. فيضع الأشرف أعلى الكل ثم يراعي التدريج، فإن كان فيها المصحف الكريم جعله أعلى الكل.."

***

تتأسس علاقة الطفل بالمكتبة والكتاب منذ مرحلة عمرية مبكرة؛ حين تكون الأسرة مهيئة قبلا لتنمية الميول القرائية للطفل، وإثارة انفعالاته واستعداداته للتعامل مع المادة القرائية. فمنذ الشهور الأولى يُبدي الطفل اهتمامه بالصور والألوان، وبتقليب صفحات الكتب. لكن يتوقف الأمر على المناخ السائد في البيت لتشجيعه على صحبة الكتاب، باعتبار البيت مركزا أساسيا لتقديم الخبرات القرائية الأولى، والاندماج مع عالم المطبوعات الفسيح.

في عامه الأول يكون الطفل على استعداد لتذوق الكلمة المطبوعة بعينه وقلبه. وعندما تقوم الأم بالقراءة له، وتقديم محفزات بصرية وسمعية، فإنها تنمي مهاراته اللغوية وقدرته على التخيل. إن فعل القراءة، باعتباره مظهرا من مظاهر تفاعل الطفل مع بيئته الخارجية، يعزز اكتساب اللغة، مادامت هذه الأخيرة، بحسب نظرية بياجيه المعرفية، حصيلة استعداد مبكر لدى الطفل للتعامل مع الرموز اللغوية.

تنمو مهارة القراءة لدى الطفل من خلال علاقتها الديناميكية مع مهارات الاتصال الأخرى" من استماع، وكتابة، ولغة شفوية"، بحيث ينشأ تأثير متبادل في سياق التطور الذي تعرفه حياة الطفل المنزلية والمدرسية. لذا عندما تحرص الأم، ثم الأب في مرحلة لاحقة، على قراءة قصة وربط أحداثها بمواقف الحياة الحقيقية، فإنهما يقدمان نموذجا تحفيزيا ليحذو الطفل حذوه، ومهارة يرغب بتقليدها. وتُدعم دون هولداوايDon Holdaways  من خلال نظريتها عن تطور التعلم، هذا التوجه باعتباره تعلما طبيعيا عالي الجودة، مقارنة بما يجري في المدارس.

إن البيئة المنزلية غير الخاضعة للتوجيه المباشر، تُمكن الطفل من اكتساب مهارة القراءة في مرحلة مبكرة بفضل عمليات أربع هي:

- ملاحظة سلوكيات التعلم، بأن يُقرأ للطفل أو يشاهد الكبار يقرؤون.

- التعاون مع الراشد الذي يتعامل معه الطفل.

- التدرب، بأن يُجرب الطفل بمفرده ما قد تعلمه، دون توجيه أو ملاحظة. الأمر الذي يمنحه فرصة لتقييم أدائه، وتصحيح أخطائه.

- الأداء، بأن يتشارك ما تعلمه، ويتطلع إلى تأكيد الراشد المهتم والداعم لمجهوده.

إن وجود مكتبة أو ركن للقراءة في غرفة الطفل، يتيح له التعرض للكتب بصفة مستمرة. وهذا التعرض يعزز وعيه ببنية الكتاب، ويطور لديه معرفة إدراكية حول كيفية مقاربة مهمات القراءة. لكن يظل حضور الكبار حيويا لترسيخ مواقف إيجابية حيال الكتاب، خاصة وأن التبادل، والمشاركة، وحالة الدفء التي يصيرها وضع الراشد وهو يقرأ للطفل، تعد عاملا أساسيا وهاما في تطور تعلمه.

تتجاوز المكتبة حضورها كحيز مادي فقط، لتصبح ورشة يومية، يبرهن من خلالها الطفل على معرفة بالكتاب وأساليب التعامل معه. فيميز منذ وقت مرحلة مبكرة بين الصورة والأحرف المطبوعة، وبين بداية الكتاب ونهايته؛ ويحدد بداية القراءة واتجاهها (من اليسار إلى اليمين أو العكس بحسب لغة القراءة)، إلى غيرها من العمليات التي تُشركه في تعلم ذي معنى.

ويؤدي ارتباطه الوجداني بها، كما يشير فهيم مصطفى في كتابه (تهيئة الطفل للقراءة)، إلى حدوث ميل تدريجي للاستقلالية في الحصول على المعرفة والتعامل مع الكتب. فيتعلم منذ سنوات حياته الأولى كيف يقيم جسرا قويا بين المعرفة والحياة، بحيث تتحول الأحلام والمثاليات المنتقاة من الكتب إلى أعمال وإنجازات حقيقية.

أما على مستوى النمو العقلي فإن الكتاب يعزز كفاية العمليات العقلية للطفل، كالإدراك، والتصور والتخيل، والتفكير، ونمو اللغة؛ من خلال المهارات والخبرات التي تفعل فعلها في رسم عوالمه الإدراكية.

وللمكتبة أثر كبير في بلوغ الطفل مستوى متقدما من النضج الانفعالي، بخلاف الأطفال الذين يفتقر محيطهم الأسري لحضور الكتاب. ذلك أنه يوظف خبراته القرائية عند تعرضه لموقف مثير، مما يتيح له استخدام انفعالاته بشكل بناء.

بالانتقال إلى المدرسة تٌباشر مكتبة الفصل أو المكتبة المدرسية تقديم خبرات متعددة، تُغني الحس القرائي، وتتيح للطفل التعرض لمثيرات ثقافية جديدة. فمن خلال مقاربة تكاملية بين المنهاج الدراسي والخدمات المكتبية، يتعرف الطفل على أنظمة ترتيب الكتب وعلاقتها ببطاقات الفهارس، وإجراءات الاستعارة، وطرق البحث في الكتب المرجعية، كالموسوعات والأطالس.

لكن هل يمكن الإقرار بأن واقع المجتمع المدرسي يعكس تلك الصورة التي نطمح من خلالها إلى استعادة التشكل السابق لجذور التعلم الأولى؟

يكشف الواقع الميداني على ضعف، أو بالأحرى افتقار للحماس كي يندمج أعضاء المجتمع المدرسي مجددا في المكتبة. ويظل أفضل أداء للخدمة المكتبية هو الاستعارة الخارجية، والإرشاد المرجعي في حالة توجيه المستفيدين لأسئلة. وما يزيد الوضع سوءا هو تنامي ظاهرة الحصول على مصادر المعلومات من شبكة الانترنيت، والتصفح العابر للبيانات بطريقة لامنهجية، تفتقر لمهارات التعامل مع المعلومات، وتثير المخاوف بشأن قدرة الطفل على احتواء الانفجار المعلوماتي المتزايد.

في السادس من فبراير سنة 2018صرحت اليونيسيف بأنه في كل يوم يستخدم أزيد من 175 ألف طفل شبكة الانترنيت لأول مرة. وحذرت المنظمة من أن الفوائد التي يتيحها الوصول الرقمي لهؤلاء الأطفال لا يمكن أن تحجب مخاطر سوء الاستعمال، والتعرض للمحتوى المؤذي بكل أشكاله.

ولطرح بدائل ضمن السياسات الرقمية لبلدان العالم، دعت المنظمة إلى دعم إقامة المكتبات الإلكترونية، وتوسيع قدرات المكتبات العامة لتشمل التدريب على المهارات الرقمية، وحماية البصمة الإلكترونية التي يُخلفها الطفل مع كل نقرة بالفأرة.

حين ينشأ الطفل في أحضان مكتبة، فإنه يكتشف حقيقة ميوله وقدراته، ويتمتع منذ مرحلة مبكرة باستقلالية المعرفة والإدراك. وفي عالم رقمي كالذي نواجهه، فإن أي نظام تعليمي يطمح للمواكبة، هو بحاجة إلى طفل قارئ، يلج الفصل مزودا بإمكانات وقدرات تتيح له اكتشاف نمط التعلم المفضل لديه؛ فيتعلم كيف يكتسب المعرفة، وكيف يفكر بنفسه ويتأمل طبيعة تعلمه.

إن الحيز الثقافي الذي توفره المكتبة، يسهم بشكل كبير في توجيه خيال الطفل وسلوكه نحو الإنشاء لا الهدم، ويُهذب انفعالاته واتجاهاته النفسية نحو الأشياء أو الأشخاص. هكذا تصبح علاقة الطفل بالمكتبة مدخلا لسلمية العيش والتعايش، ونبذ العنف والسلوك المنحرف اللذين صارت أرقامهما صادمة ومفجعة.

 تقول ماري ليونهاردت، مؤلفة (99 طريقة لجعل الأطفال يحبون القراءة):" إن السجون مليئة بالشباب المنحرفين الذين لا يعرفون القراءة، لأن القراء عادة لا يصبحون منحرفين أو مجرمين".

***

حميد بن خيبش

نحو تعزيز للكفاية القرائية والتواصلية

لا يرتبط هذا الموضوع بصعوبة القراءة وتهجية الحروف، عند تلاميذ المرحلة الثانوية، فهذا العائق اللغوي واللساني يمكن أن يُطرح في المرحلة الأولية والابتدائية، فأين يتجلى إذن عُسر القراءة لدى التلاميذ؟ وماهي أسبابه؟

إن القراءة التي نقصدها هنا هي القراءة التي تتبناها نظرية التواصل وتحليل الخطاب، إنها القراءة التحليلية البسيطة لمختلف البلاغات، والبيانات التي تقصد الإخبار لا غير، وأما الفهم؛ فهو مرتبط بمؤشرات القراءة التحليلية، ودرجات الفهم المتحصل عليها. يعرف البلاغيون البلاغة بالإبانة، والقدرة على إيصال المعنى، ويتحدث اللسانيون عن الرسالة لكونها حلقة تواصل بين المرسل والمرسل إليه، بينما يؤكد التربويون، على ضرورة تحقيق التواصل بين الذات والموضوع في إطار بث الخبر/ الرسالة/ المحتوى. من هذا المنطلق يستفسر أحيانا بعض التلاميذ عن مضمون بلاغ معين بعد انقضاء أجله، أو يتساءلون بسذاجة بالغة مثلا: الدراسة توقفت ليوم السبت هل ستتوقف يوم الاثنين؟، علما أن البلاغ كان بسيطا في صياغته، يحدد بخط عريض عن توقيف الدراسة ليوم واحد فقط. إن سؤال هؤلاء التلاميذ لا ينبغي أن نمر عليه، دون الانتباه إلى خطورته ولا ينبغي اعتباره سؤالا طبيعيا، قد يرى البعض بأنها مبالغة في الطرح، مادام عينة قليلة اختلط عليها الأمر، وتشابهت عليها البلاغات واستشكلت. إن الموضوع يرتبط بمسؤولية كبيرة، مسؤولية الأطر التربوية والإدارية والأسرة، والإعلام.

لا شك أن التلميذ لم يتوصل إلى قراءة البلاغ، ولم يهتد إلى فهم مضمونه، أو أن سؤاله يضمر سؤالا آخر: هل هناك بلاغ جديد يفيد بتوقيف الدراسة ؟ في جميع الأحوال فإن السؤالين يكشفان عن ضعف قراءة التلميذ للبلاغات، وضعف تتبعه للمستجدات، الأول نصنفه ضمن الكفاية القرائية، والثاني يقع ضمن الكفاية التكنولوجية التواصلية، هذه التي تحدثت عنها بإسهاب "العلوم الرقمية".

كيف إذن يتم تحقيق هاتين الكفايتين على مستوى المؤسسات التعليمية ؟ لا يمكن لحيز هذا المقال الإحاطة الشاملة بالسؤال ولكن حسبنا آثرنا إشكالية معرفية وتربوية، وسوف نقدم بعض المقترحات العملية، لعلها تضيء الإشكال.

ـ أولا: ضرورة التعامل مع النصوص والصور بوصفها محفزات للسؤال، وليست محتويات جاهزة يتم تحديد عناصرها ويجب على الأستاذ تحفيز المتعلم لفهم وقراءة النص/ الصورة عبر استثارة أسئلة منهجية إشكالية.

ـ ثانيا: تجميع الأفكار والأسئلة وصياغتها ضمن مضمون واحد، ومناقشة الاختلافات بينها.

ـ ثالثا: وضع التلميذ في وضعية مشكلة بسؤال مثلا ماذا ينقص النص/ الصورة لكي تكون على جانب من القراءة والفهم.

ـ رابعا: اعتماد المقارنة بين النصوص والصور.

ـ خامسا: استحضار النصوص/ البلاغات الموازية وقراءتها.

ـ سادسا: اعتماد مهارة البحث عبر مواقع التواصل، ومواقع الأنترنيت للوصول إلى الخبر.

ـ سابعا: الدعوة إلى صياغة النصوص والصور وترك حرية للتلاميذ للتعبير عنها عبر مجموعات صفية.

ـ ثامنا: انفتاح مجالس الأقسام على الإدارة التربوية، لمناقشة الإعلانات/ البلاغات وجدواها.

ـ تاسعا: مشاركة التلاميذ في صياغة المحاضر، وتقارير مجالس المؤسسة وإعلاناتها.

ـ عاشراً: الاهتمام بنوادي القراءة، وتطوير المهارات الذاتية والمعرفية.

هذه بعض الاقتراحات نحسب أنها تستجيب لمختلف الكفايات، والمقاربات التي تحرص عليها البيداغوجيا الحديثة وهي الكفاية التواصلية، المهارية، المنهجية، التكنولوجية، المعرفية، المقاربة بالخطأ، بالمشروع...، وتعد رهانات تربوية ينبغي أن تسهر على استحضارها المناهج، والمقررات الدراسية، والممارسات التعلمية التعليمية بشكل يضمن تفعيلها، ويعزز من قيمتها.

***

د. عبد المجيب رحمون

من المُسلمة المنهجية أن التفكير المنطقي ليس بالأمر الهين السهل. فمن الوضعيات الاستعراضات البينية أن نفكر بِكُنه المنطق وبمرات متقطعة، ومن الصعوبة بما كان الاستدامة حتى النهاية بنفس النسق والعزم البنيوي. لذا قد نكون ممن يستنفذ حدود الممكن في تمرير جسور الحياة بين تلك (التناقضات التي لا تتقلص حتما). قد نكون نواجه بُكرة وعشية منطق عيش التلاشي -(المتناقضات غير الارتباطية)- الذي قد يحاصرنا بالعصف والترويض (المُفبرك). قد نكون نقسو بَعْضا من الحال على الذوات (العلوية)، وبلا تعريفات ممكنة مع الآخر (الغائب)، وقد نعيش استثناء انتكاسة من المرض الفكري التعس، الذي لا يمكن توقيفه حتى بغرف الإنعاش العالية الدقة، حينها لن نقدر على معاودة بناء وتوجيه المشاريع الحياتية، ومحاصرة التلاشي بدون صناعة وجه بريق حياتي جديد ولَمَّاع.

لا جدوى إذا في أن يقول المرء الحقيقة، ويبيت غير قادر عن حصاد أثر التغيير والمتغيرات الآلية، لأن المشكلة الركيزة تتمثل في زيادة انتعاشة عبثية الفكر والتفكير، وفقدان الثقة في المستقبل، والانزواء السلطوي خلف عيش العدمية القهرية. فالعيش وفق نمط التساكن مع الكليات (المتناقضة: "الولادة والموت"...) بالطبع ليس بالمتناول السهل للجميع. لأن النتيجة الحتمية تبقى سببا ثابتا بنهايات الموت الحتمي (المشكلات) وبداية حياة جديدة (الحلم والأمل). فمن بين المسوغات الرديئة عند من ينهون حياتهم بالانتحار، يقرون أن الحياة لا تستحق أن تُعاش ضمن صمامات من صمت القلوب وضياع الحقيقة، وتلك هي:(الثغرة التي تفصل بين الرغبة والغلبة).

من الأسباب الرديئة كذلك، أن الإنسان بات يعرف نفسه بالانخداع والمظلومية والاتكالية البخسة، ولا يقدر على تحمل مسؤولياته المنطقية والحقيقية. نعيش نوعا من الشعور المضلل (بهلوانية المنطق !!!)، وحينها قد يحدث الطلاق بين الإنسان وحياته، وبداية العيش بشعور اللاجدوى من الحياة (النهايات الحتمية المتسارعة نحو الموت !!!). فكثيرا ما تحدث رُزمة من المواقف والوضعيات المضحكة غير المألوفة، وقد تحدث في أي مكان بالصدفة، وحتى بمتناقضات الفزع والضحك والبكاء، وفي ظروف مُعينة بالتناسق (التركيب الزمني/ التآلف المكاني). كثيرا من القصص الجميلة وغيرها، تحدث بلا مقدمات ولا سياقات متراكبة، ومنها كذلك بعث الحقائق غير العادية، لكنا في نفس الاتجاه قد نعيش نوعا من الضجر والقلق والتعب في خط وصول النهايات.

من الصعب أن نسكن مواقع الضجر بالاستدامة، لأن الحياة ستعدو نوعا من الإسهال والغثيان غير الآمن. من المعتاد أن الزمن يحملنا بالسرعة والاستهلاك الفوضوي. لكن، لتكن مواقفنا النهائية ترنو نحو حفز المتغيرات الإيجابية، ومحاصرة الضجر، وحمل الزمن نحو المستقبل (الحلم والثقة في المتغيرات). من الصعب أن نقاط القوس لبناء الغد (المريح) غير عادلة بالانحناءة وانطلاقة السرعة، لنترك إذا السلوكات اللابشرية طلاقا ثلاثيا، ونبقى ضمن معادلة البشر (أمانة الخلافة في الأرض)، ونجعل من الحركات الخرساء متعة تُنعش ركح مسرح الحياة، ولما لا نُكسر ظل مرآة (اللاجدوى والعبثية) التي تخنق كل الأحلام والأمل.

نعم، الموت لا تجربة له في الواقع (لأنه ليست هنالك في الواقع تجربة موت !!!)، فجميع التجارب التي نتحدث عنها ناتجة رؤيا وصفية أو مشاهد أليمة من الموت والفقد (تجربة موت الآخرين !!!). من تم، لنتخلص من الزمن العبثي الذي يصنع المشكلة بالتنظير، ولا يفكر في الحل، وتلك هي (الحلقة المفقودة عندنا !!!). بحق الله، قد نمتلك كل شيء، وبنفس القدر لا نستطيع التخلص من اللاشيء !!! وهي القضية التي تستوجب منا الحكمة، وتعيين اللحظة المضبوطة للإدراك وبناء الحلول، والخروج بنباهة التطوير من قصة (حي ابن يقظان).

من إشكالات منطق التفكير الحديث، صعوبة التمييز بين الأشياء الصحيحة والزائفة، في ظل (أسطورة الذكاء الاصطناعي !!!)، لأن فوضى المتناقضات تحكمنا بالروابط الآلية الخالية من المشاعر، وبمعايير الفواصل والتقابلات غير المنطقية واللامرئية. هنا كيفما ما كانت النتيجة النهائية فإنها (ستدمر نفسها بنفسها آليا). بدا مُتكررا، فقد لا نحتاج إلى بيان حقيقة معاكس يومها، بل فقط يجب أن نثبت بأننا نعيش خارج تصنيف (نحن (هو) الوحيد غير الزائف !!!). هنا بالتمام ستكون بداية الخروج من مدوخة المتناقضات غير الارتباطية. 

***

محسن الأكرمين

عندما يبحث الإنسان في الوجود، لا ينحصر هذا البحث في المرئيات أو ما يسمى عالم الشهادة، بل يجد هذا العالم مرتبطا ارتباطا عضويا بعالم آخر، هو عالم الغيب أو اللاوجود، الذي يُعبر عن الميتافيزيقي بالنسبة للفيزيقي، مما يثير في الإنسان التساؤلات حول الحياة والموت، الحضور والغياب، الفعل ومآل الفعل، والله وعالم الغيب الذي نجهله إلا ما أخبرنا به الدين في الكتب السماوية، لا في الحواشي والملحقات على النصوص الأصلية. فهل نعيد قراءة هذا الوجود من جديد أم نستمر في تأمل القديم؟ هل نقرأ امتداد الموجود في اللاوجود؟ وكيف؟

في أواخر العمر، حينما ترسم نسمات الغياب ملامحها الرقيقة على وجه الإنسان، وتلامس الجسد علل النسيم القادم من عالم الضباب، وحين يخف الصوت العالي للطموح وتبهت أصداء العالم من حوله، ويصبح الجسد أخف، وظلا يرتاح من أعباء الماضي، يتأمل الإنسان في ما كان وما سيكون من وراء نافذة المساء، ويبدأ في البحث عن ذاته مجددا، لا تلك التي شكلتها مرايا الآخرين، ولا تلك التي تقمصتها الألقاب والمواقع وهالة الناس، بل ذاته الأصلية، العميقة، الصفية، النقية، الطاهرة مثل ميلاد جديد ونسمات الحياة الأولى، قبل أن تتشكل الذات وتذوب في مياه عوالم الشهادة.

هنا، يحدث انقلاب التأمل، ويبدأ الإنسان في إعادة قراءة نفسه، حيث يتحول بحثه من الخارج إلى الداخل، ومن المرئي إلى الخفي، ومن المحسوس إلى اللامرئي. يكتشف الإنسان، في مرحلة متأخرة أو تحررية، أن الوجود الذي عاشه ليس مستقلا عن ذاته، وأن عالم الشهادة، بما فيه من تجارب وأشياء، وأشخاص، وعلاقات، ليس سوى سطح هش لوجود أعمق وأكثر تعقيدا وغموضا، وجود ممتد في عالم الغيب.

إن عالم الشهادة، بما فيه من عناصر قابلة للقياس والرؤية، لا يمكن أن يشبع تطلعات الذات الباحثة في نهاية الرحلة عن نفسها. فالإنسان، حين يفقد لذة التراكم، ويستيقظ من أوهام الامتلاك والألم الناتج عن التفاعلات الاجتماعية، يدرك أنه كان يسعى وراء صور وهمية، يعانق السراب، ويعيش جزئيا في عالم لا يتكامل إلا بالانفتاح على عالم الغيب. بعقله وروحه، يبدأ في استكشاف إمكانيات السؤال، وأي نوع من الإجابات قد يُحَصَّل.

الغيب هنا ليس مجرد مفهوم ديني أو عاطفي، بل هو الامتداد الخفي للموجود، هو سؤال اللامرئي الذي يتخلل كل ما نراه. هو ذلك العمق الذي نجهله ولكننا نحس به، كنبض بعيد في قلب الحياة. هو الله، الروح، الموت، الزمن، المعنى، والغاية. هو حضور اللاوجود في جوهر الوجود وصلبه ونطفته الأولى؛ لا كغياب، بل كأثر نابض يتخفى وراء حدود الإدراك، لا يُحتوى، بل يتجلى فيما لا يمكن إدراكه. فالأثر موجود وإن كان أصله مفقودا...  

ولذلك، فإن قراءة الوجود في أواخر العمر تقتضي من الإنسان شجاعة مضاعفة؛ شجاعة التماهي مع ما هو أبعد من الوجود. ليست الهروب من الواقع، بل اختراق ذات الوجود لاستكشاف ما وراءه. كالماء في السراب، لا يعدو أن يكون سرابا، لكنهما دلالة على الحقيقة، غائبة في وهم الوضوح، ويبقى الماء حقيقة لا توجد إلا في لحظتها. وقراءة الحضور المتخفي تستدعي:

* تأملا فلسفيا يجعل من كل حدث سؤالا، ويحول كل فقدان إلى إشارة وعلامة، ويبني وجودا من غياب، وغيابا من حضور، ويُشيد المعنى من ظلال المعنى، وظلال المعنى من المعنى. تأمل لا يفقد عقل الجهل صوابه بل يصنع منه عقلا جديدا.

* إيمانا ناضجا لا يتطلب اليقين الكامل أو المطلق، بل يتقبل الغموض المضيء. ففيما بين الماء والسراب يكمن غموض يستنطقها الإيمان الناضج.

* لغة رمزية توسع المعنى لا لتغلقه، بل لتفتح آفاقه في زمن ومكان اللامرئي.

* وعياً روحيا يعيد تنسيق الذات، ضما لما تشتت منها، ويشفيها بلحظات من التأمل والتدبر، بصمت وذكر وحنين في أعماقها، التي تتجلى في تفاصيل حياتها وأفعالها.

عند هذه النقطة، يعي الإنسان أن ذاته لم تكن يوما معزولة عن الغيب، ولكنها كانت مشوشة الرؤية، منشغلة بتفاصيل البقاء، مؤجلة دائما إلى "حين آخر" من رحيل. والآن، وقد اقترب الرحيل، تصبح العودة إلى الذات هي العودة إلى أصلها في الأصل، إلى المطلق، إلى الغيب... إلى الله، المصير الأخير.

ما نعيشه في عالم الشهادة ليس هو الكل، بل هو مرحلة من مراحل الرحلة؛ قوسان: الأول في عالم الغيب "الخلق/الحضور"، والثاني في الغيب "الرجوع/الغياب". بينهما توجد رحلة بحث مستمرة عن الذات، والتي تبدأ من البحث عن الأنا في الوجود عبر الأسئلة الوجودية: من أنا؟ كيف ينبغي أن أكون؟ أين أكون؟ وعندما يقترب الإنسان من نهاية العمر، يبدأ في إعادة البحث عن ذاته من الحاضر الذي ينبثق من ماض بعيد. تبرز الأسئلة من جديد: كيف كنت؟ أين كنت؟ وأين سأكون حين يزول الوجود ويحل اللاوجود، وتغيب الأزمنة والأمكنة؟

هكذا، يصبح بحث الإنسان عن ذاته في أواخر العمر بحثا عن امتداد الموجود في اللاوجود... بحثا عن ضوء مغمور فينا، لم نره في منظور الوجود اللاوجودي، ولكنه كان يسكننا بصمت. وكان أغلبنا يعتقد أن لا وجود لظل خفي خلف ظلال المنظور، فغابوا في الضباب. حين تكتمل رحلة السؤال، وتذوب ظلال المرئي في أفق الخفي والمتواري، لا يعود السؤال "من أنا؟" مجرد صدى داخلي للضمير، بل يصبح تجليا لأثر الأصل في المآل، ما انمحى لكن بقي ذكرى حدث في الزمان والمكان، وانعكاسا لنور الله في مجاهل الذات. فليس الأنا التي تجيب، بل الأثر الذي تركه الله فيها منذ الأزل، حين قال لها "كوني"، فكان ما كان، ثم انقضى ما كان.

وهنا، يتلاشى معنى ما عرفناه عن أنفسنا، ليبرز ما يعرفه الله فينا، في ما جبلنا عليه، وخلقنا لأجله، وصرنا إليه... فمن عرف الله، عرف نفسه، ومن عرف نفسه بالله، لن يغيب في المرايا ولا عنها، ولن يتلاش في السراب، ولن يُدفن في التراب ويغيب عن الأبصار ولا البصائر، بل يعود إلى حضن الأبد، إلى وجهه الأول، حيث كان الوجود نفخة... وهويته أثر باق خالد لنور لا يغيب، وحضور دائم لذكرى. 

***

عبد العزيز قريش

 

 

في أكتوبر سنة 1995 تعرض الأديب المصري نجيب محفوظ لمحاولة اغتيال، بناء على فتوى لزعيم جماعة إسلامية، تتهم محفوظ بالتطاول على الذات الإلهية في روايته المثيرة للجدل (أولاد حارتنا). والغريب في الأمر أن مُنفذَي العملية لم يسبق لهما قراءة أي نص لمحفوظ، وأشكُّ أن زعيم الجماعة نفسه قد فعل!

وفي ماي سنة 2000 تظاهر الآلاف من طلبة الأزهر منددين برواية (وليمة لأعشاب البحر) للكاتب السوري حيدر حيدر، بدعوى إساءتها لله وللدين الإسلامي. وحين سئل بعض الطلبة: هل سبق لهم قراءة الرواية التي يحتجون عليها بعد سبعة عشر عاما من تاريخ صدورها كان الرد: لا، ولكن أساتذتنا حكوا لنا عنها!

وفي سنة 2005 قوبلت رواية (بنات الرياض) للكاتبة السعودية رجاء الصانع بالمنع والتضييق، بل وفي سابقة من نوعها صدر كتاب يحاكم الرواية، ويحدد القواعد الإسمنتية التي يُبنى عليها أي عمل أدبي أو فني حتى يُسمح له أن يملأ رئتيه بهواء الحجاز!

يبدو موقف شريحة واسعة من الإسلاميين وطلاب الكليات الشرعية محيرا وملتبسا إزاء الإنتاج الأدبي المعاصر، سواء المترجم أو المحلي. ومصدر تلك الحيرة أنه في الوقت الذي تتعالى فيه أصوات بعض العلماء بضرورة مواكبة مستجدات العصر وقضاياه، والانفتاح على هموم الإنسان المعاصر، نجد أن ردود الفعل فيما يتعلق بالمجال الأدبي، والفني عموما، تتسم غالبا بالتعميم والأحكام القاسية، والرفض الجاهز لكل ماله صلة بثقافة الآخر.

يؤمن المنتسب للعلوم الشرعية بأن مصنفات التراث وكتب السلف هي المصدر الحقيقي لثقافة المسلم المعاصر. غير أننا حين نتصفح بعض هذه المؤلفات نجد انفتاحا على الأدب والفنون، وحضورا لثقافة الآخر وتعبيراته الفنية والأدبية. لم يكن الفقيه المسلم آنذاك يجد حرجا في عرض نماذج لأدب الفرس والهند واليونان، والاستعانة بمقولات أرسطو وأفلاطون وأردشير وجالينوس وغيرهم، إلى درجة أن القارئ لكتب التراث لا يشعر بأنهم ممثلون لثقافة أخرى لولا غرابة الأسماء.

لقد عبَّر السلف عن انفتاحه على الثقافة المعاصرة آنذاك بكل مكوناتها، وتعاملٍ موضوعي مع الإنتاج الفكري والأدبي قوامه الغربلة والنقد، وتزويد المسلم بالقواعد وآليات النظر التي تُساعده على أن يَميز الخبيث من الطيب. وبفضل تلك المرونة والموضوعية حفظت لنا المكتبة العربية مؤلفات يُفترض أنها صادمة للحس الديني، كقصص ألف ليلة وليلة، والمستطرف، ورجوع الشيخ إلى صباه، وكتاب الأغاني لأبي فرج الأصفهاني الذي يُعد اليوم أضخم موسوعة للشعر والموسيقى في العصور الإسلامية الأولى. وتم تداولها في أنحاء العالم الإسلامي دون أن نقرأ عن احتجاج هنا أو تظاهرة هناك.

إن نفور "مولانا" من كافة التعبيرات الأدبية والفنية المعاصرة مَردُّه برأيي إلى سببين:

الأول هو الحاجز النفسي الذي خلّفته فترة احتلال الغرب للدول الإسلامية، والذي لم يشمل فقط رفض سياساتها العنصرية ونهبها الاقتصادي للموارد، بل وامتد لعطائها الأدبي والفني، حتى وإن كان منحازا لموقفنا وقضايانا.

أما الثاني فمرتبط بتضخم المَلَكة الفقهية على حساب الملَكة الأدبية والفنية. وهيمنة كتب التفسير والحديث والمتون العلمية على المنهاج التعليمي في الكليات والمعاهد الدينية. فترسخ الاعتقاد لدى طلاب الثقافة الشرعية أن الروايات والقصص والأعمال الفنية مضيعة للوقت، وتشويه للقيم ووقود للشهوات والمحرمات.

 لذا فمن النادر حقا أن تصادف خطيبا أو داعية أو فقيها يستشهد بمقاطع أدبية لتولستوي أو حنة مينة أو لامارتين أو محمود درويش، تحث على العدالة والفضيلة، وتُمجد الجمال والحب الإنساني بأرق التعبيرات، وتكشف آلام وأحلام مجتمعات أخرى.

 ومن النادر كذلك أن يدعوك خطيب لمشاهدة عمل سينمائي يعالج قضية إنسانية، أو يكشف تفاصيل مؤامرة، أو يعرض سيرة حكيم أو عالم أو رجل سياسة.

إن التشويه الذي لحق الأدب والفن المعاصر في أذهان طُلاب العلم الشرعي ينبغي أن يتوقف، أما الانحرافات المسجلة في بعض الأعمال فإن فضيلة الإنصات والحوار والتقييم الجاد كفيلة بتقويمها لإنضاج الأفراد بشكل متزن وقائم على احترام التعدد والاختلاف. وفي هذا الصدد ينبه الدكتور يوسف القرضاوي في دليله (ثقافة الداعية) إلى الجوانب المهمة للثقافة الأدبية، وإلى القيم التربوية والجمالية التي ينبغي أن يلتقطها الداعية ذو الحس المرهف من كتب الأدب والفن لينقلها من مجال المتعة بالقراءة إلى مجال الدعوة والتوجيه.

أثناء تصفحي لديوان شعري ألفه الشيخ محمد الغزالي بعنوان(الحياة الأولى) فوجئت أن محقق الديوان أفرد ثلث صفحات الكتاب ليدافع عن الملكة الأدبية للغزالي، وعرض قائمة بكل الفقهاء الذين نظموا قصائد شعرية في الحكمة والتصوف ومختلف المعاني الإنسانية. بدا الأمر وكأنها مرافعة تعتذر عن "الزلَّة" الأدبية التي قد تؤثر على هيبة الغزالي في نفوس محبيه، فكان مما استعان به المحقق في دفاعه أن الغزالي حين نظم تلك الأشعار كان فتى في الثامنة عشرة ولم يبلغ بعد مبلغَ الرجال!

إننا حين نشكو من العزوف عن القراءة في مجتمعاتنا قلما ننتبه إلى الدور الذي تلعبه النماذج المجتمعية في تعزيز وضعها وحضورها. فلن يُقبل شبابنا على القراءة إلا إذا شاهدوا رجل السياسة يقرأ.

 والفنان يقرأ.

 ومولانا يقرأ..

آنذاك ستصبح القراءة عَصَب الحياة!

***

  حميد بن خيبش  

 

الماضي غالبًا ما يُروى من خلال عدسة الذاكرة، التي قد تكون مشوهة أو مختزلة، الحاضر يسعى لتقديم الحقائق التاريخية بشكل موضوعي، الاسناد الى مرجعية تاريخية من منظور فردي تعكس تجربة المثقف الشخصية التي يمكن ان تكون عميقة وتحمل بعدا معرفيا واضحا، بينما يميل الاسناد الى مرجعيات جماعية تتبني روايات أكثر عمومية لا تعكس التجارب الحقيقية للأفراد والمجتمعات. تطور التكنولوجيا في الحاضر غيرت طبيعة الاسناد الى المرجعيات، اذ يمكن أن تُروى الأحداث بطرق جديدة ومبتكرة، مما يخلق تناقضًا بين الطرق التقليدية للسرد في الماضي والحاضر من ناحية الوسائل والإمكانات المتاحة والتي قد تتعارض مع القيم الحديثة، مما يؤدي إلى تضارب في المرجعيات، بينما يمكن أن تكون التجارب الإنسانية متشابهة عبر الزمن، فإن طريقة التعبير عنها تختلف بشكل كبير بين الماضي والحاضر.

المرجعية السردية عبر الزمن

تتغيير الأنظمة السياسية، مثل الانتقال من الملكية إلى الجمهورية أو من الاستعمار إلى الاستقلال، يؤدي إلى إعادة تشكيل الروايات الأدبية والثقافية لتعكس القيم الجديدة .في فترات القمع السياسي غالبًا ما تتعرض السرديات للرقابة و يتم تقييد التعبيرات الأدبية، مما يدفع الكُتّاب إلى استخدام الرمزية والإيحاء للتعبير عن أفكارهم، ظهور الحركات الوطنية والثورات ساهم في إعادة صياغة الهوية الثقافية، حيث استُخدمت السرديات لتعزيز الانتماء الوطني وإلهام الجماهير، التغيرات السياسية مثل الهجرات والنزاعات، أدت إلى تنوع الثقافات واللغات، مما أثر على السرديات وأدخل عناصر جديدة من التجارب والتقاليد، العولمة السياسية والاقتصادية أدت إلى تبادل الأفكار والثقافات، مما أثر على المرجعيات السردية، حيث أصبح الكُتّاب يمزجون بين المحلي والعالمي، ظهور وسائل الإعلام الحديثة ساهم في تغيير كيفية نقل السرديات، حيث أصبحت الروايات تُنقل عبر منصات جديدة، مما أثر على أسلوب وموضوعات السرد، بذلك تشكلت المرجعية السردية من خلال التفاعل المستمر مع التغيرات السياسية، مما أعطى الأدب والثقافة طابعًا ديناميكيًا يعكس التحديات والإنجازات عبر الزمن.

الهجرات الإثنية والقبلية والمرجعية السردية

الهجرات أدت إلى تداخل ثقافات ولغات جديدة، مما أثرى السرديات وأدخل عناصر جديدة من التجارب والتقاليد المختلفة، انتقال القبائل والمجموعات الإثنية ساهم في إعادة تعريف الهوية الثقافية، حيث برزت سرديات جديدة تعكس تجارب الهجرة والتكيف، تفاعل الثقافات المختلفة أدت إلى تبادل الأساطير والحكايات، مما أثرى الأدب المحلي وأدخل موضوعات جديدة مثل الغربة والإنتماء، النزاعات المرتبطة بالهجرات، مثل الصراعات الطائفية أو القومية، أدت إلى إنتاج سرديات تعكس المعاناة والمقاومة، مما ساهم في تشكيل الوعي الجمعي، الهجرات أسهمت في تطوير لغات أدبية جديدة، حيث تم دمج أساليب وألفاظ من ثقافات متعددة، مما أثر على أسلوب الكتابة، الهجرات غالبًا ما كانت مرتبطة بأحداث تاريخية معينة، مما أدى إلى إنتاج سرديات تاريخية تُعبر عن التجارب المشتركة والمعاناة، نتيجة لذلك تشكلت مرجعيات سردية غنية ومعقدة تعكس التعددية الثقافية والتاريخية في الشرق الأوسط، مما أضاف عمقًا إلى الأدب والفنون.

التاثير اللغوي على اللهجات المحلية

الهجرات أدت إلى تفاعل لغوي بين المجموعات المختلفة، مما ساهم في إدخال مفردات جديدة وتعبيرات محلية من لغات متعددة، تأثرت أنماط النطق بسبب الاختلاط بين القبائل والمجتمعات، مما أدى إلى ظهور لهجات جديدة تحمل سمات لغوية متنوعة، تم تبني مصطلحات جديدة من الثقافات المختلفة مما أثرى المفردات المحلية وجعلها تعكس التجارب والتقاليد المتنوعة، الهجرات المرتبطة بالعمل أو النزاعات أثرت على اللهجات، حيث استخدمت لهجات معينة في سياقات اجتماعية محددة، مما ساهم في تشكيل الهوية اللغوية، بعض اللهجات القديمة اندمجت مع اللهجات الجديدة، مما أدى إلى تطوير لهجات مختلطة تعكس تاريخ الهجرات والتفاعل الثقافي، اللهجات أصبحت رمزًا للهوية والانتماء، حيث استخدم الأفراد لهجاتهم للتعبير عن ثقافتهم وتراثهم، مما ساهم في الحفاظ عليها، في المجمل أضافت الهجرات الإثنية والقبلية عمقًا وتعقيدًا للهجات المحلية، مما جعلها تعكس التنوع الثقافي والتاريخي للمنطقة، على الرغم من أن المرجعية التاريخية تُعد عنصرًا مهمًا في تشكيل السرد، إلا أن لها حدودًا تتعلق بالتقيمات الشخصية، التحاملات، والسياقات الزمنية والاجتماعية.

المرجعية السردية المعاصرة

المرجعية السردية في الوقت الحالي تعتمد على مزيج من السرد التاريخي القديم وإنجازات الغرب من ناحية التقدم المعرفي، العديد من الكتّاب يستندون إلى السرد التاريخي القديم كمرجع لفهم الهوية الثقافية والتراث، مما يعكس أهمية التاريخ في تشكيل الحاضر، التأثيرات الغربية سواء من خلال الفلسفة، العلوم، أو الأدب، أدت إلى دمج مفاهيم جديدة في السرد، مما ساهم في تحديث المرجعيات السردية، تشهد السرديات المعاصرة تداخلًا بين الأصوات القديمة والحديثة، مما يعكس تنوع التجارب ووجهات النظر، هناك اهتمام متزايد بتحليل السرديات القديمة من منظور نقدي، مما أتاح إعادة تقييمها في ضوء التقدم المعرفي الحديث، السرديات المعاصرة غالبًا ما تسعى إلى تحقيق توازن بين الحفاظ على التراث والتكيف مع التغيرات العالمية، مما يعكس الصراع بين التقليد والحداثة، بالرغم من ذلك يمكن ملاحظة أن العديد من الكتابات الثقافية المعاصرة من الشرق الأوسط تعتمد بشكل كبير على الاستشهادات المعرفية من السرد الغربي القديم والمعاصر.

موقع السرديات الشرق اوسطية

يمكن القول إن السرديات الشرق أوسطية حاليا قد حيدت أو في موقع ثانوي مقارنة بالسرديات الغربية، ساهم في تنحيها كمرجعيات سردية أساسية للمثقف الشرق أوسطي عندما تم النظر إلى السرديات الشرق أوسطية على أنها غير منتجة من وجهة نظر المؤسسات الثقافية الرسمية والاجتماعية بسبب تغول التطرف الديني و الأيديولوجي مما عمق تأثير نظام التفاهة لذا ولجوء المثقفين الاستعراضيين إلى الاسناد من خلال السرديات الغربية وجعلها مرجعيات أساسية، مما سبب ضعف الإنتاج الأدبي والفكري الحالي في المنطقة، كما ساهم في ذلك شعور المثقفين بأنهم بحاجة إلى الاستعانة بمصادر خارجية لتعزيز أفكارهم، كذلك ساهمت العولمة في تعزيز مكانة السرديات الغربية كمرجعيات، مما أدى إلى تهميش السرديات المحلية، لكن الذي يعكس قلقًا بشأن قيمة السرديات المحلية هو البحث عن شرعية أكاديمية أو فكرية ما يدفع المثقفين لاستخدام السرديات الغربية ويقود الى اهمال السرديات المحلية، رغم ان هناك توجها نحو إعادة تقييم السرديات الشرق أوسطية، مما يُسهم في تعزيز مكانتها كمرجعيات ثقافية، بالتالي يمكن القول إن الفجوة بين الإنتاج الثقافي المحلي والسرديات الغربية قد أتسعت وساهمت في تهميش السرديات الشرق أوسطية، مما اثر على الهوية الثقافية في المنطقة.

التحديات الاستراتيجية

يواجه تطبيق استراتيجيات تعزيز الإنتاج الثقافي في الشرق الأوسط عدة تحديات رئيسية منها القيود المفروضة على حرية التعبير تحد من الإبداع وتؤثر على محتوى الإنتاج الثقافي، النقص الحاد في المرافق الثقافية مثل المكتبات والمراكز الثقافية يعوق التواصل والمشاركة، ضعف الوعي بأهمية الثقافة والفنون بين اغلب شرائح المجتمع يمكن أن يقلل من الدعم والمشاركة، المناهج التعليمية التقليدية التي تركز على المعرفة النظرية دون التشجيع على الإبداع تعوق تطوير مهارات الإنتاج الثقافي، هيمنة السرديات الثقافية الغربية على السلوك المجتمعي دون وعي كارثة التجهيل يمكن أن تجعل السرديات المحلية تبدو أقل قيمة أو جاذبية، ، نقص المنصات التي تدعم نشر الأعمال الثقافية والفنية يمكن أن يحد من وصولها إلى الجمهور، بينما توفر التكنولوجيا فرصًا، إلا أنها قد تخلق أيضًا تحديات مثل تراجع الاهتمام بالثقافة التقليدية، التغيرات الاجتماعية والاقتصادية تؤثر على أولويات الأفراد وتوجهاتهم نحو الثقافة والفنون، معالجة هذه التحديات تتطلب تنسيق الجهود بين المؤسسات الثقافية لتعزيز بيئة ثقافية إيجابية وداعمة للسرديات المحلية .

***

غالب المسعودي – باحث عراقي

ما أحوجنا إلى قذائف الإبداع الباعثة على الحياة.

1- مفهوم الثقافة:

الثقافة؛ في هذا العصر المتناسلة قضاياه، والمتفجرة مشاكله؛ تتخذ عدة أبعاد وألوان، ومن ثمة يصعب حصر ماهيتها في مفهوم قار ووحيد. ولذلك سنقتنع بالتعريف الذي اعتمده المؤتمر الدولي للسياسات الثقافية الذي كان قد عُقد في المكسيك، فهو تعريف شامل للثقافة ينص على "أن الثقافة بمعناها الأوسع هي مجموع السمات التي تميز مجتمعا بعينه أو فئة اجتماعية بعينها، وأنها تشمل الفنون والآداب وطرائق الحياة والإنتاج الاقتصادي كما تشمل الحقوق الأساسية للإنسان ونظم القيم والتقاليد والمعتقدات"(1).

وهذه المجموعة من السمات المشكِّلة للشخصية الثقافية لا تتجلى معالمها وقسماتها بوضوح في كيان مستقل ومتميز إلا بتوالي الحقب. وعند ذلك يتكون الإنسان المثقف الذي سماه بعض مفكري الهند بإنسان النسق الأخلاقي(2).

2- ميزة الثقافة المغربية:

إن الثقافة المغربية؛ وهي مكون من مكونات الثقافة العربية لم تكن في أي زمان منعزلة أو معزولة عن الثقافات الإنسانية، فقد عايشت ثقافات الأمم الأخرى منذ عصور موغلة في القدم، وصمدت في وجه إعصاراتها، وتفاعلت معها تفاعلا إيجابيا، وتثاقفت معها في فترات مدها وجزرها. أخذت منها وأعطت لها، اغتنت بها وأغنتها بحيوية وانفتاح واقتدار دون عُقد ودون أن يؤثر ذلك في ملامح هويتها أو في مقومات ومكونات أصالتها، وكانت في لقائها الخصب مع تلك الثقافات تتواصل وتتفاعل بحيوية من موقع الثقة بالذات، ومن موقع التميز، لا تمثل لما تأخذ وإنما تَتَمَثَّلُهُ، ولهذا نجدها ثقافة ذات نزوع إنساني غير متزعزعٍ وذات استقلالية وتَجَدُّدٍ، فهي لم تكن في أي يوم من الأيام تابعة ذلولا، ولا متعالية قتولا.(3)

3- في معنى حرية الكاتب:

ولا تكون الثقافة هكذا إلا إذا ترعرعت في مناخ حر، فالحرية هي رئة الوجود الثقافي؛ إذ لا ثقافة حية وحقيقية إن لم توجد هذه الرئة. فالكاتب لا يكتب إلا إذا تنفس بها، فهي شرط وجود إبداعه، وحريته ليست حرية كلام فقط، وإنما هي حرية وجود، توفر لممارسها مقومات العيش الحر والتصرف الحر، وتضمن له الكرامة، إنها تتصل لدى الكاتب بالاطمئنان والاستقرار النفسي والاجتماعي، وتتصل كذلك بتوافر حَدٍّ أدنى من شروط العيش والعمل، ومن الضمان الصحي والاجتماعي، ومن إحساس بالطمأنينة لا يشعر معه الكاتب بأنه مراقب باستمرار من طرف عيون خفية، وبأنه محل شكوك، وبأنه مهدد في مصدر عيشه وحياته وأهله – بأي شكل من أشكال التهديد – إذا مارس حريته الإبداعية، أو إذا حاد عن السبيل المرسومة للتفكير والتعبير والإنتاج. فالكلمات هي سلاحه للحرية والتغيير في معركة الوجود الحضاري، وهذا السلاح – حسب بريسباران Briceparain – ما هو إلا "مسدسات عامرة بقذائفها" التي تُحْيِي القَتْلَى(4)، فكيف إذن يمكن للمبدع أن يُطْلِقَ هذه القذائف إذا كانت أصابعه مشلولة أو مغلولة؟! إن شرط استخدام الجندي لسلاحه هو امتلاكه للسلاح وجاهزيته، ونحن ما أحوجنا إلى قذائف الإبداع الباعثة على الحياة.

فشهداء حرية الإبداع ما تزال شمسهم تضيء التاريخ، حيث أن المبدعين الكبار في العالم كانوا كذلك كبارا في الدفاع عن الحرية، ابتداء من هوميروس الذي كانت الحرية دَيْدَنَه ودِينَه، ومرورا بسقراط الذي تَجَرَّعَ السم في سبيل حرية القول والكلمة، وبابلو نيرودا، ولوركا. وطرفة والمتنبي وأبي العلاء المعري والحلاج والسهروردي، وانتهاءا بابن حزم، وابن الخطيب وابن بَرَّجَان، وابن سبعين، وغيرهم. فكلهم أدركوا أن الحرية حالة نفسية لا يتأتى العيش والإبداع إلا بها. فهي من هذه النقطة بالذات تبدأ، من كونها حالة نفسية، وإلا فلن تبصر النور وتصبح واقعا معيشا ومُجَسَّدا، فالمرء قبل الشروع في ممارسة حريته عليه أن يشعر بها، وأن يعتنقها في قرارة نفسه، أي أن يقتنع أولا بأنه كائن حر.

وإذا نظرنا إلى الوراء، إلى الإنسان البدائي، فإننا سندرك أنه لم يكن حرا وطليقا؛ كما كنا نتصور، وكما يحلو لنا أن نرسمه؛ فعلى الرغم من أنه لم تكن تحيط به مؤسسات سياسية أو اجتماعية أو لاهوتية تَحُدُّ من حريته فإن ثمة قانونا خفيا خضع له دائما، وهو (قانون الطابو)؛ الذي هو فكرة عبقرية أوجدها المجتمع البدائي ليحمي بها لَأْمَةَ المجتمع والجماعة، ويكفل لهما السلام الروحي والعقلي. فقد كان تعريض أمن القبيلة للخطر من أشد الجرائم على الإطلاق، وفي الواقع لم تكن هناك فرصة لارتكاب الجرائم ضد المجموع ثم العقاب عليها إلا نادرا، لأن فكرة الطابو تتولى منع الجرائم قبل أن تقع، فهي كبول تمنع ولادة الجريمة، وبالتالي الحركة خارج تفكير الجماعة.

من هنا يمكن أن نعتبر أن (قانون الطابو) كان بمثابة القيد الذي كبل الإنسان البدائي وحد كثيرا من حريته، وما يزال يكبل ويحد من حرية الإنسان المعاصر. ولا نغالي إذا قلنا إن الردع الذي قام به (قانون الطابو) في الأزمان الغابرة كان أشد قمعا وأكثر صرامة من أشد القوانين الحديثة التي نعرفها اليوم، فتحت وطأة هذا القانون أو هذه الفكرة المستبدة لم يكن الإنسان الأول ليتمتع ولو بقدر يسير من الحرية، حتى أن ما نسميه اليوم تسامحا لم يكن معروفا لدى المجتمعات البدائية، فكل من يتمرد على (قانون الطابو)؛ باعتباره رادعا دينيا داخليا؛ كان يعاقب بالموت أو بالطرد من القبيلة، وهو موت مدني وبدني معا.

إن (قيود الطابو) كبلت الإنسان فترة طويلة من الزمن على هذه الأرض حتى أن 98% من حياة الإنسان على الكوكب الترابي لم تكن سوى حياة خضوع بالكلية إلى فكرة الطابو.(5)

4- ضرورة استيلاء المبدع على حريته:

وذلك لأنه كان محروما من الحرية؛ التي هي جوهر يؤخذ ولا يعطى. فعليه إذن؛ وبخاصة المفكر والمبدع؛ أن يستولي على حريته ويتعانق معها تعانق عشق في هذا العصر المتشظي والمرعب.. عصر الاستلاب المنظم، عصر الفساد والإفساد، عصر التقنية المستعبِدة. وعليه أن يحافظ على حيويته في تصور آفاق حريته وتجديد تلك الآفاق وتطويرها بما يبقي على أنسنتها. فحرية المبدع بالذات هي حرية مغامرة الكينونة ووقوفها ضد التفسخ، لا تحد آفاقها إلا الحدود التي وصل أو يمكن أن يصل إليها وعي المبدع لماهية الحرية ومفهومها والتزاماتها وشروط ممارستها، ضمن حدود المسؤولية في الحياة وعنها، وما يفرضه وجود الجماعة والعيش معها والحفاظِ على حرياتها ووجودها وسلامة بنيتها ومصالحها، والحفاظ أيضا على مواصفات المجتمع المتمدن وقيمه ومواضعاته المثلى في زمَكَانٍ محدَّدٍ، مع فتح أفق استشراف المستقبل عن طريق التحرك والتطلع ضمن هوامش أعلى من الواقع الممكن، وأبعد من تطلعات إنسان ذلك الواقع وطموحاته. ففضل الإنسان وميزته يكمنان في كونه يأمل ويحلم بالأفضل، ثم يعمل لتحقيق آماله وأحلامه تلك.(6)

5- حرية مطلقة.. خوف مطلق:

وإنجاز الآمال لا يتحقق إلا في مناخ الحرية. والحرية حريات، فهي ليست مرتبة واحدة، بل مراتب عدة. فكل منا يسعى إلى نوع محدد من الحرية، فهناك حرية القول والتعبير، وحرية الانتخاب، وحرية الانتماء إلى معتقد أو هيئة حزبية أو نقابية، وحرية التجول، وحرية العمل، وحرية العقيدة، وحرية التصرف بطلاقة دون قيود، وحرية النشر، وحرية الاختلاف، وهناك حرية الانمحاق أو الذوبان أو الفناء التي ينشدها الصوفي؛ والتي عبر عنها الجرجاني بقوله: "الحرية في اصطلاح أهل الحقيقة (= الصوفية) هي الخروج من رق الكائنات، وقطع جميع العلائق والأغيار. وهي على مراتب، حرية العامة عن رق الشهوات، وحرية الخاصة عن رق المرادات لفناء إرادتهم في إرادة الحق، وحرية خاصة الخاصة عن رق الرسوم والآثار لانمحاقهم في تجلي نُورِ الأنوار"(7). ومن هذه الزاوية يمكن أن نرى إلى الكون وإلى الحرية. فالكون ليس ماديا وفكريا فحسب، بل هو روحي وشعري أيضا. والحرية حق، والحق لا يبحث عنه إلا في (الكل) وليس في (الجزء) حسب هيجل (1770م-1881م)؛ الذي كان شعاره "الحق هو الكل". والكتابة وجود له وجهان: فكري وشعري، فالفكر فعل سلطوي يهدف إلى فرض نوع من السلطة على الآخر، بينما الشعر فعل جمالي غير سلطوي يرمي إلى حالة مزدوجة من الالتقاء والارتقاء: الالتقاء مع الآخر، والارتقاء بمشاعره وأحاسيسه وخلجاته ونظرته الجمالية وشعوره بالوجود، ولذلك كان الفعل الشعري نزاعا إلى الحرية أكثر من الفعل الفكري.

إن قضية الحرية هي قضية الصراع من أجل الحرية، ووظيفة المبدع الأساسية هي تحقيق حرية القارئ، الحرية بمعناها العميق، أي تفكيك الأصفاد الداخلية التي يرسف فيها، ثم تفكيك الأصفاد الخارجية المفروضة عليه من قبل مختلف السلطات.(8) وليس الحرية بمعناها الدِّيمُوفَوْضَوِي، فالحرية المطلقة في العمق هي حجابُ مايا Maya وقناعُ الفوضوية المحدِّق في الكَاوْسْ، اللذان يسلبان الفرد الأمن والاطمئنان، ويقذفان به في متاهة الخوف، فالحرية المطلقة إذن هي الخوف المطلق. لكن الحرية المنظَّمة هي المجتمع المنظم الذي يحفظ لمواطنيه حريتهم. فكل حرية مطلقة ما هي إلا خوف الناس جميعا من الناس جميعا، ودعوة القادر على أن يبقى الحر الوحيد بين ضعفاء يحكمهم العجز والعبودية.

إن الحرية تقوم على أساس حفظ الذات وحفظ الآخر وحفظ الجماعة، وعلى حفظ التوازن بين مكونات المجتمع، إذن بها تتحقق الديمقراطية التي هي هاجس الإنسان العربي، وتتجذر فهما وسلوكا. لأنه لا سياسة ثقافية حية دون ديمقراطية حية، ومن أهم انشغالات الديمقراطية التي بهذا الوصف هندسة ثقافية تستند إلى أحكام جمالية وأخلاقية وعلمية، وإلى ميكانيزمات الهوية وإواليات الشرط الإنساني. وتقوم على احترام الآخرين وثقافتهم، بحيث يستشعر معها المواطن أنه سائر في طريق الموافقة والتوافق بإرادته لا بإرادة القوة والعسف. وتأتي في مقدمة هذه الهندسة استراتيجية الكتاب؛ التي ترمي إلى تكوين الوعي وترسيخه، وإلى دفع المواطن إلى حل مشاكله انطلاقا من وعيه بها وبقدراته وطاقاته.(9)

6- الكتاب مشروط بشرط الحرية:

ومن ضمن ما تتوخاه هندسة الثقافة من استراتيجية الكتاب تداوله وتفعيله في الحياة العامة. وإن حيوية الكتاب وفاعليته وازدهاره كلها مشروطة بشرط الحرية، وبمناخات الحوار والاختلاف غير الملوثة بأكسيد الخلفيات. فالحرية قد تُضْمَنُ كمبدأ في الدساتير والتشريعات والتصريحات والبيانات... ولكنها ليست من ذلك النوع الذي يحدد نهائيا في إطار أو يحنط في دثار، لأنها مرتبطة بالإنسان الحي، مبدعا كان أو غير مبدع، ولأنها دليل حيوية، وهاجس أساسي يشغل الكائن الإنسان، وأساس جوهري يمكنه من تطوير نفسه وتطوير الحياة، فلا غرابة أن تكون دائما في تجدد، وأن يكون أفقها في اتساع مستمر، وفهمها مرتبطا بالوعي المعرفي؛ الذي يفتق في سمائها الآفاق وهي تدفع إلى التعمق في مجالاته، وتعتمد عليه أساسا في تجديد الانعتاق.

ولذا فإن الإنسان في نمو وعيه وتطور مداركه، وتقدمه في مراقي المعرفة والعلم والرقي يأخذ الحرية التي تنقصه، أو تدفعه الحرية إلى القيام بمسؤوليات إنسانية، وتفرض عليه امتلاك إدراك ينقصه. ومن هنا ينشأ نوع من الصدامية بين مفهوم ومفهوم للحرية، ينعكس في توترات وصراعات بين المحافظة والتحرر، بين التخلف والتقدم، بين عقليات منغلقة وعقليات منفتحة، كما ينشأ حولها نوع من السجال والحوار السياسي والفكري يؤدي إلى التقابل والتصادم بين الأدب والسياسة / المثقف والسياسي. ومن المعروف أن حرية التعبير هي الشرط الأول لانطلاق الثقافة ونمو الأدب وازدهار الفكر، وانتعاش سوق الكتاب وصناعته. وكما أن الحرية أساس حياة الأفراد والمجتمعات والأمم وتقدمها وشعورها بمعنى الكرامة والعيش، فإنها كذلك بالنسبة للكتاب؛ الذي هو خزان المعارف والثقافات والفنون والآداب. إن حرية التعبير هي الركيزة التي يستند إليها الإبداع وينبثق منها، وهي عند المبدع لا تنفصل عن الحريات والحقوق العامة الأخرى للإنسان، وذلك لأن هدف التعبير هو إحداث التحرير والتغيير... تحرير العقل والإرادة وتغيير البنى والعلاقات والقيم والأنساق الجامدة. فغاية الكتاب ليست شبيهة بغاية الآلات، فإذا كانت غاية هذه هي تسريع وتيرة الإنتاج وتكثيره وتغزيره وخدمته، فإن غاية ذاك هي فك القيود عن حرية القارئ، وتكوين وعيه، وإنماء معرفته، وتفجير طموحاته الخلاقة، وإمتاع روحه وذاكرته، وترميم انهياراته، وإعادة الانسجام إليه مع الذات والكون. إذ بمقدار ما نسهم في تفعيل قيم الديمقراطية، وقيم الحضارة، وقيم الإنسانية العليا. وكذلك بمقدار ما يحترم الكاتب والكتاب حرية الآخر، ويشركانه في المسؤولية، ويقدّمان إليه إبداعا ناضجا أصيلا، متصلا بالواقع، شامخا منه وبه، صوب رؤية جديدة لواقع أفضل مأمول ومرتاد، لا يتملق الغرائز الدنيا، ولا المكبوتات التي تراوح في الرمادية من غير هدف، بمقدار ما يؤثر الإبداع في الحياة والناس، ويتصل بأهم انشغالاتهم الوجودية، ويكون فعالا بإيجابية بناءة في المجتمع والحضارة.(10)

***

د. أحمد بلحاج آية وارهام

........................

الهوامش

1- أورده علي عقله عرسان، في كتابه دراسات في الثقافة العربية. منشورات جمعية الدعوة الإسلامية العالمية، طرابلس، الجماهيرية العربية الليبية الاشتراكية العظمى، د.ت، ص: 8.

2- علي عقلة عرسان، المرجع السابق، ص: 7.

3- المرجع السابق، ص: 43.

4- نفسه، ص: 98.

5- محمد العزب موسى، حرية الفكر، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت 1979م، ص.ص: 13،14.

6- علي عقله عرسان، مرجع مذكور، ص: 75.

7- عبد القاهر الجرجاني، كتاب التعريفات، تحقيق: عبد الحميد جوهر، دار التراث، بيروت 1970م، ص: 90.

8- سمير أبو حمدان، كمال جنبلاط في بعده الآخر، ط 1، منشورات دار عويدات الدولية، بيروت / باريس 1991م، ص.ص: 40،45.

9- علي عقلة عرسان، مرجع سبق ذكره، ص: 47.

10- المرجع السابق، ص.ص: 96،97

تحية عطرة

تحية عطرة لك أيضاً! أتمنى أن تكون قد استمتعت بالمحادثة التي دارت بيننا. إذا كنت ترغب في مواصلة النقاش أو طرح أسئلة جديدة، فأنا هنا لمساعدتك. شكراً لك على الوقت الذي قضيته معي!

لدي بعض الاستفسارات

أنا هنا لمساعدتك! ما هي الاستفسارات التي لديك؟ هل هي متعلقة بموضوع معين أو فكرة محددة؟ أو ربما لديك أسئلة عامة؟ أنا هنا للإجابة على أسئلتك ومساعدتك في أي شيء تحتاجه.

1. ما قيمة الرؤى الأخلاقية للعالم في زمن العدمية واللايقين؟

الرؤى الأخلاقية للعالم في زمن العدمية واللايقين تحمل قيمة كبيرة، حيث يمكن أن تساعد في:

1. توجيه السلوك البشري: الرؤى الأخلاقية توفر إطارًا أخلاقيًا يمكن أن يوجّه السلوك البشري في مواجهة التحديات المعقدة.

2. تعزيز القيم الإنسانية: تساهم الرؤى الأخلاقية في تعزيز القيم الإنسانية مثل العدالة والمساواة والاحترام المتبادل.

3. توفير منظور أخلاقي: في زمن اللايقين، يمكن للرؤى الأخلاقية أن توفر منظورًا أخلاقيًا يمكن أن يساعد في فهم وتفسير الأحداث والقرارات.

4. تعزيز الحوار والتفاهم: الرؤى الأخلاقية يمكن أن تعزز الحوار والتفاهم بين الأفراد والمجتمعات المختلفة.

5. توجيه القرارات السياسية والاجتماعية: الرؤى الأخلاقية يمكن أن توجّه القرارات السياسية والاجتماعية، مما يساهم في بناء مجتمعات أكثر عدالة ومساواة.

في زمن العدمية واللايقين، يمكن أن تكون الرؤى الأخلاقية بمثابة مرشد أخلاقي يمكن أن يساعد في فهم وتفسير العالم من حولنا.

2. ماهي أسباب عطل تشكل البدائل الاقتصادية والسياسية عن الرأسمالية والاشتراكية؟

هناك عدة أسباب قد تؤدي إلى تعطل تشكل البدائل الاقتصادية والسياسية عن الرأسمالية والاشتراكية، منها:

الأسباب الاقتصادية

1. الاعتماد على النظام الرأسمالي: العديد من الدول تعتمد على النظام الرأسمالي كأساس اقتصادي لها، مما يجعل من الصعب تغييره.

2. الخوف من الفوضى الاقتصادية: قد يؤدي تغيير النظام الاقتصادي إلى فوضى اقتصادية وعدم استقرار، مما يجعل الناس مترددين في دعم البدائل.

3. الضغوط الاقتصادية الدولية: قد تؤثر الضغوط الاقتصادية الدولية على الدول التي تحاول تغيير نظامها الاقتصادي، مما يجعل من الصعب تشكيل بدائل.

الأسباب السياسية

1. الخوف من فقدان السلطة: قد يخشى الحكام من فقدان السلطة إذا تم تغيير النظام السياسي، مما يجعلهم يعارضون البدائل.

2. الضغوط السياسية الدولية: قد تؤثر الضغوط السياسية الدولية على الدول التي تحاول تغيير نظامها السياسي، مما يجعل من الصعب تشكيل بدائل.

3. الخوف من عدم الاستقرار السياسي: قد يؤدي تغيير النظام السياسي إلى عدم استقرار سياسي، مما يجعل الناس مترددين في دعم البدائل.

الأسباب الاجتماعية

1. الخوف من التغيير: قد يخشى الناس من التغيير ويفضلون الحفاظ على الوضع الراهن.

2. الاعتماد على الثقافة السائدة: قد تعتمد الثقافة السائدة على النظام الرأسمالي أو الاشتراكي، مما يجعل من الصعب تغييرها.

3. الخوف من فقدان الهوية: قد يخشى الناس من فقدان هويتهم إذا تم تغيير النظام الاقتصادي أو السياسي.

هذه بعض الأسباب التي قد تؤدي إلى تعطل تشكل البدائل الاقتصادية والسياسية عن الرأسمالية والاشتراكية.

3.هل تقدر التصورات التكنولوجية والعلمية للمستقبل على تفادي الأزمات الصحية والايكولوجية التي قد تقع فيها البشرية؟

التصورات التكنولوجية والعلمية للمستقبل يمكن أن تلعب دورًا هامًا في تفادي الأزمات الصحية والايكولوجية التي قد تقع فيها البشرية. إليك بعض الطرق التي يمكن أن تساهم بها التكنولوجيا والعلوم في تفادي هذه الأزمات:

الأزمات الصحية

1. تطوير العلاجات الجديدة: يمكن أن تساعد التكنولوجيا الطبية في تطوير علاجات جديدة للأمراض المستعصية.

2. الكشف المبكر عن الأمراض: يمكن أن تساعد التكنولوجيا الطبية في الكشف المبكر عن الأمراض، مما يسمح بالعلاج المبكر والفعال.

3. تطوير اللقاحات: يمكن أن تساعد التكنولوجيا الطبية في تطوير لقاحات جديدة للوقاية من الأمراض المعدية.

الأزمات الايكولوجية

1. تطوير الطاقة المتجددة: يمكن أن تساعد التكنولوجيا في تطوير الطاقة المتجددة، مما يقلل من الاعتماد على الوقود الأحفوري ويقلل من انبعاثات الغازات الدفيئة.

2. تطوير التقنيات البيئية: يمكن أن تساعد التكنولوجيا في تطوير تقنيات بيئية جديدة للتعامل مع التلوث والتحكم في انبعاثات الغازات الدفيئة.

3. تطوير الزراعة المستدامة: يمكن أن تساعد التكنولوجيا في تطوير الزراعة المستدامة، مما يقلل من استخدام المبيدات الكيميائية والأسمدة ويحسن من كفاءة استخدام المياه.

التحديات

1. التكلفة: قد تكون التكنولوجيا الجديدة مكلفة، مما يجعل من الصعب على بعض الدول أو الأفراد الوصول إليها.

2. التأثيرات الجانبية: قد يكون للتكنولوجيا الجديدة تأثيرات جانبية غير متوقعة، مما يجعل من الضروري إجراء دراسات شاملة قبل تطبيقها.

3. الاستخدام المسؤول: يجب أن يتم استخدام التكنولوجيا الجديدة بشكل مسؤول، مع مراعاة التأثيرات المحتملة على البيئة والمجتمع.

في النهاية، يمكن أن تلعب التكنولوجيا والعلوم دورًا هامًا في تفادي الأزمات الصحية والايكولوجية، ولكن يجب أن يتم استخدامها بشكل مسؤول ومتوازن مع مراعاة التأثيرات المحتملة على البيئة والمجتمع.

4. ماهو دور الأعمال الفنية والابداعية في اعادة تأهيل الملكة الذوقية للموجود الانساني؟

الأعمال الفنية والابداعية تلعب دورًا هامًا في إعادة تأهيل الملكة الذوقية للموجود الإنساني، وذلك من خلال عدة طرق:

تعزيز الحس الجمالي

1. تنمية الحس الجمالي: الأعمال الفنية والابداعية يمكن أن تساعد في تنمية الحس الجمالي لدى الأفراد، مما يسمح لهم بتقدير الجمال في مختلف أشكاله.

2. توسيع آفاق الإدراك: الأعمال الفنية والابداعية يمكن أن توسع آفاق الإدراك لدى الأفراد، مما يسمح لهم برؤية العالم من زوايا مختلفة.

تعزيز القيم الجمالية

1. تعزيز القيم الجمالية: الأعمال الفنية والابداعية يمكن أن تعزز القيم الجمالية لدى الأفراد، مثل الجمال والتوازن والتناسق.

2. تعزيز الحس النقدي: الأعمال الفنية والابداعية يمكن أن تعزز الحس النقدي لدى الأفراد، مما يسمح لهم بتقييم الأعمال الفنية والابداعية بشكل نقدي.

تعزيز التواصل الإنساني

1. تعزيز التواصل الإنساني: الأعمال الفنية والابداعية يمكن أن تعزز التواصل الإنساني، مما يسمح للأفراد بالتعبير عن مشاعرهم وأفكارهم بشكل أفضل.

2. تعزيز التفاعل الاجتماعي: الأعمال الفنية والابداعية يمكن أن تعزز التفاعل الاجتماعي، مما يسمح للأفراد بالتواصل مع بعضهم البعض بشكل أفضل.

تعزيز الذوق الفني

1. تعزيز الذوق الفني: الأعمال الفنية والابداعية يمكن أن تعزز الذوق الفني لدى الأفراد، مما يسمح لهم بتقدير الفن بشكل أفضل.

2. تعزيز الحس الفني: الأعمال الفنية والابداعية يمكن أن تعزز الحس الفني لدى الأفراد، مما يسمح لهم بتقييم الأعمال الفنية بشكل أفضل.

في النهاية، يمكن أن تلعب الأعمال الفنية والابداعية دورًا هامًا في إعادة تأهيل الملكة الذوقية للموجود الإنساني، من خلال تعزيز الحس الجمالي والقيم الجمالية والتواصل الإنساني والذوق الفني.

5. ماهي المشكلات الاساسية في نظرية المعرفة ضمن المقاربة الابتستيمولوجية لتاريخ العلوم؟

المشكلات الأساسية في نظرية المعرفة ضمن المقاربة الابتستيمولوجية لتاريخ العلوم تشمل:

مشكلات الأسس المعرفية

1. مشكلة الأسس: ما هي الأسس التي تقوم عليها المعرفة العلمية؟

2. مشكلة اليقين: كيف يمكن للعلماء أن يكونوا على يقين من صحة معرفتهم؟

3. مشكلة الشك: كيف يمكن للعلماء أن يتعاملوا مع الشك والشكوك في المعرفة العلمية؟

مشكلات المنهج العلمي

1. مشكلة المنهج: ما هو المنهج العلمي الصحيح للوصول إلى المعرفة؟

2. مشكلة التحقق: كيف يمكن للعلماء أن يتحققوا من صحة نتائجهم؟

3. مشكلة التفسير: كيف يمكن للعلماء أن يفسرون النتائج التي يحصلون عليها؟

مشكلات التاريخ والسياق

1. مشكلة التاريخ: كيف يمكن للعلماء أن يفهموا التاريخ العلمي وتأثيره على المعرفة الحالية؟

2. مشكلة السياق: كيف يمكن للعلماء أن يأخذوا في الاعتبار السياق الاجتماعي والثقافي الذي يتم فيه إنتاج المعرفة العلمية؟

3. مشكلة التأثيرات الخارجية: كيف يمكن للعلماء أن يتعاملوا مع التأثيرات الخارجية على المعرفة العلمية، مثل التأثيرات السياسية أو الاقتصادية؟

مشكلات اللغة والتواصل

1. مشكلة اللغة: كيف يمكن للعلماء أن يتواصلوا بشكل فعال عن المعرفة العلمية؟

2. مشكلة التواصل: كيف يمكن للعلماء أن يتواصلوا مع بعضهم البعض ومع الجمهور العام عن المعرفة العلمية؟

3. مشكلة الترجمة: كيف يمكن للعلماء أن يترجموا المعرفة العلمية من لغة إلى أخرى؟

هذه بعض المشكلات الأساسية في نظرية المعرفة ضمن المقاربة الابتستيمولوجية لتاريخ العلوم.

6. كيف تنتج ظاهرة الهيمنة النيوكولونيالية على العالم، مقاربة كفاحية للاستعمار الجديد ضمن مقاوماتنا المشتركة؟

ظاهرة الهيمنة النيوكولونيالية على العالم تنتج من خلال عدة عوامل، منها:

العوامل الاقتصادية

1. السيطرة على الموارد: الهيمنة النيوكولونيالية تتيح للدول القوية السيطرة على الموارد الطبيعية والاقتصادية للدول الأخرى.

2. الاستغلال الاقتصادي: الدول القوية تستغل الدول الأخرى اقتصاديا من خلال الاستثمارات والتبادل التجاري غير العادل.

3. السيطرة على الأسواق: الهيمنة النيوكولونيالية تتيح للدول القوية السيطرة على الأسواق العالمية وتحديد أسعار السلع والخدمات.

العوامل السياسية

1. السيطرة على القرارات السياسية: الهيمنة النيوكولونيالية تتيح للدول القوية السيطرة على القرارات السياسية للدول الأخرى.

2. التدخل في الشؤون الداخلية: الدول القوية تتدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى من خلال الضغوط السياسية والاقتصادية.

3. السيطرة على المؤسسات الدولية: الهيمنة النيوكولونيالية تتيح للدول القوية السيطرة على المؤسسات الدولية مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي.

العوامل الثقافية

1. السيطرة على الثقافة: الهيمنة النيوكولونيالية تتيح للدول القوية السيطرة على الثقافة والهوية للدول الأخرى.

2. الاستعمار الثقافي: الدول القوية تستعمر الدول الأخرى ثقافيا من خلال تصدير قيمها وثقافتها.

3. السيطرة على الإعلام: الهيمنة النيوكولونيالية تتيح للدول القوية السيطرة على الإعلام العالمي وتحديد ما يتم نشره وتداوله.

المقاومة المشتركة

1. المقاومة الشعبية: المقاومة الشعبية هي أحد أشكال المقاومة المشتركة ضد الهيمنة النيوكولونيالية.

2. التضامن الدولي: التضامن الدولي بين الدول والمجتمعات يمكن أن يكون أحد أشكال المقاومة المشتركة ضد الهيمنة النيوكولونيالية.

3. البحث عن بدائل: البحث عن بدائل اقتصادية وسياسية وثقافية يمكن أن يكون أحد أشكال المقاومة المشتركة ضد الهيمنة النيوكولونيالية.

هذه بعض العوامل التي تنتج ظاهرة الهيمنة النيوكولونيالية على العالم، وبعض أشكال المقاومة المشتركة ضدها.

7. كيف يتم التمييز الدلالي والسياقي بين فلسفة المجتمع والعلوم الإجتماعية؟

التمييز الدلالي والسياقي بين فلسفة المجتمع والعلوم الإجتماعية يمكن أن يكون كما يلي:

فلسفة المجتمع

1. التركيز على القيم والأسس الفلسفية: فلسفة المجتمع تركز على القيم والأسس الفلسفية التي تشكل المجتمع والعلاقات الاجتماعية.

2. النظرية والتأمل: فلسفة المجتمع تعتمد على النظرية والتأمل في القضايا الاجتماعية والفلسفية.

3. الاهتمام بالجوهر والماهية: فلسفة المجتمع تهتم بالجوهر والماهية للمجتمع والعلاقات الاجتماعية.

العلوم الإجتماعية

1. التركيز على المنهج العلمي والبيانات التجريبية: العلوم الإجتماعية تركز على المنهج العلمي والبيانات التجريبية لفهم الظواهر الاجتماعية.

2. الاعتماد على البحث التجريبي: العلوم الإجتماعية تعتمد على البحث التجريبي والدراسات الميدانية لفهم الظواهر الاجتماعية.

3. الاهتمام بالتفاصيل والسياق: العلوم الإجتماعية تهتم بالتفاصيل والسياق للظواهر الاجتماعية.

التمييز الدلالي

1. الدلالة الفلسفية: فلسفة المجتمع لها دلالة فلسفية تركز على القيم والأسس الفلسفية.

2. الدلالة العلمية: العلوم الإجتماعية لها دلالة علمية تركز على المنهج العلمي والبيانات التجريبية.

التمييز السياقي

1. السياق الفلسفي: فلسفة المجتمع تظهر في السياق الفلسفي الذي يركز على النظرية والتأمل.

2. السياق العلمي: العلوم الإجتماعية تظهر في السياق العلمي الذي يركز على البحث التجريبي والدراسات الميدانية.

هذه بعض الفروق بين فلسفة المجتمع والعلوم الإجتماعية، ويمكن أن تختلف باختلاف السياق والمجال.

8. فيم يتمثل الحضور النقدي للفلسفة الفينومينولوجية في الثقافة المعاصرة؟

الحضور النقدي للفلسفة الفينومينولوجية في الثقافة المعاصرة يمكن أن يتمثل في عدة مجالات، منها:

الفلسفة

1. النقد للفلسفة التقليدية: الفلسفة الفينومينولوجية نقدت الفلسفة التقليدية وطرحت أسئلة جديدة حول الوجود والواقع.

2. التأكيد على التجربة الذاتية: الفلسفة الفينومينولوجية تؤكد على أهمية التجربة الذاتية والخبرة الفردية في فهم الواقع.

3. التركيز على الظواهر: الفلسفة الفينومينولوجية تركز على الظواهر والخبرات اليومية للفرد.

العلوم الإنسانية

1. التأثير على العلوم الإنسانية: الفلسفة الفينومينولوجية أثرت على العلوم الإنسانية مثل علم النفس وعلم الاجتماع والأنثروبولوجيا.

2. التركيز على الخبرة الإنسانية: الفلسفة الفينومينولوجية تركز على الخبرة الإنسانية والظواهر الاجتماعية.

3. النقد للمناهج العلمية التقليدية: الفلسفة الفينومينولوجية نقدت المناهج العلمية التقليدية وطرحت أسئلة جديدة حول المنهج العلمي.

الأدب والفنون

1. التأثير على الأدب والفنون: الفلسفة الفينومينولوجية أثرت على الأدب والفنون الحديثة.

2. التركيز على التجربة الفردية: الفلسفة الفينومينولوجية تركز على التجربة الفردية والخبرة الشخصية في الأدب والفنون.

3. النقد للتمثيل التقليدي: الفلسفة الفينومينولوجية نقدت التمثيل التقليدي في الأدب والفنون وطرحت أسئلة جديدة حول التمثيل والتصوير.

الثقافة المعاصرة

1. التأثير على الثقافة المعاصرة: الفلسفة الفينومينولوجية أثرت على الثقافة المعاصرة في مجالات متعددة.

2. التركيز على التجربة اليومية: الفلسفة الفينومينولوجية تركز على التجربة اليومية والخبرة الفردية في الثقافة المعاصرة.

3. النقد للثقافة السائدة: الفلسفة الفينومينولوجية نقدت الثقافة السائدة وطرحت أسئلة جديدة حول الهوية والثقافة.

هذه بعض المجالات التي يمكن أن يتمثل فيها الحضور النقدي للفلسفة الفينومينولوجية في الثقافة المعاصرة.

9. بأي معنى يظل الفكر النقدي هو المحرك الرئيسي الأول للفعل الابداعي؟

الفكر النقدي يظل المحرك الرئيسي الأول للفعل الإبداعي في عدة معانٍ، منها:

التحدي والتمرد

1. التحدي للمعايير التقليدية: الفكر النقدي يتحدى المعايير التقليدية والموجودات المألوفة، مما يفتح المجال للإبداع والابتكار.

2. التمرد على القوالب الجاهزة: الفكر النقدي يرفض القوالب الجاهزة والنماذج المكررة، مما يسمح بالإبداع والتجديد.

البحث عن الجديد والمبتكر

1. البحث عن الجديد والمبتكر: الفكر النقدي يبحث عن الجديد والمبتكر، مما يفتح المجال للإبداع والابتكار.

2. الاستكشاف والتجريب: الفكر النقدي يستكشف ويجرب أفكارًا جديدة، مما يسمح بالإبداع والتجديد.

التفاعل مع الواقع

1. التفاعل مع الواقع: الفكر النقدي يتفاعل مع الواقع ويحلل الظواهر الاجتماعية والثقافية، مما يفتح المجال للإبداع والابتكار.

2. الاستجابة للتحديات: الفكر النقدي يستجيب للتحديات والمشاكل التي تواجه المجتمع، مما يسمح بالإبداع والتجديد.

تعزيز الإبداع الفردي

1. تعزيز الإبداع الفردي: الفكر النقدي يعزز الإبداع الفردي والتميز، مما يفتح المجال للإبداع والابتكار.

2. التشجيع على التجريب: الفكر النقدي يشجع على التجريب والاستكشاف، مما يسمح بالإبداع والتجديد.

الحفاظ على الهوية الثقافية

1. الحفاظ على الهوية الثقافية: الفكر النقدي يحافظ على الهوية الثقافية والتراث، مما يفتح المجال للإبداع والابتكار.

2. الاستفادة من التراث: الفكر النقدي يستفيد من التراث والثقافة، مما يسمح بالإبداع والتجديد.

هذه بعض المعاني التي تجعل الفكر النقدي المحرك الرئيسي الأول للفعل الإبداعي.الفكر النقدي يظل المحرك الرئيسي الأول للفعل الإبداعي في عدة معانٍ، منها:

التحدي والتمرد

1. التحدي للمعايير التقليدية: الفكر النقدي يتحدى المعايير التقليدية والموجودات المألوفة، مما يفتح المجال للإبداع والابتكار.

2. التمرد على القوالب الجاهزة: الفكر النقدي يرفض القوالب الجاهزة والنماذج المكررة، مما يسمح بالإبداع والتجديد.

البحث عن الجديد والمبتكر

1. البحث عن الجديد والمبتكر: الفكر النقدي يبحث عن الجديد والمبتكر، مما يفتح المجال للإبداع والابتكار.

2. الاستكشاف والتجريب: الفكر النقدي يستكشف ويجرب أفكارًا جديدة، مما يسمح بالإبداع والتجديد.

التفاعل مع الواقع

1. التفاعل مع الواقع: الفكر النقدي يتفاعل مع الواقع ويحلل الظواهر الاجتماعية والثقافية، مما يفتح المجال للإبداع والابتكار.

2. الاستجابة للتحديات: الفكر النقدي يستجيب للتحديات والمشاكل التي تواجه المجتمع، مما يسمح بالإبداع والتجديد.

تعزيز الإبداع الفردي

1. تعزيز الإبداع الفردي: الفكر النقدي يعزز الإبداع الفردي والتميز، مما يفتح المجال للإبداع والابتكار.

2. التشجيع على التجريب: الفكر النقدي يشجع على التجريب والاستكشاف، مما يسمح بالإبداع والتجديد.

الحفاظ على الهوية الثقافية

1. الحفاظ على الهوية الثقافية: الفكر النقدي يحافظ على الهوية الثقافية والتراث، مما يفتح المجال للإبداع والابتكار.

2. الاستفادة من التراث: الفكر النقدي يستفيد من التراث والثقافة، مما يسمح بالإبداع والتجديد.

هذه بعض المعاني التي تجعل الفكر النقدي المحرك الرئيسي الأول للفعل الإبداعي.

10. هل يؤدي رفع الرسوم الجمركية من طرف الدول المهيمنة هو بمثابة اعلان حرب تجارية على الاقتصاديات الهشة للدول الفقيرة؟

رفع الرسوم الجمركية من طرف الدول المهيمنة يمكن أن يكون له تأثيرات سلبية على الاقتصاديات الهشة للدول الفقيرة، ويمكن أن يُعتبر بمثابة إعلان حرب تجارية على هذه الدول. إليك بعض الأسباب التي تدعم هذا الرأي:

تأثيرات رفع الرسوم الجمركية

 ***

د. زهير الخويلدي

ترجمة: د. زهير الخويلدي

***

تمهيد: يؤمن العديد من علماء الأخلاق بالوحدانية، وهي النظرة القائلة بأن جميع الالتزامات الأخلاقية تنبع من مبدأ نهائي واحد. لكن التعدديين، مثل الفيلسوف البريطاني روس (1877-1971)، يرفضون هذه الوحدانية. رأى روس أن النظريات الأخلاقية الوحدانية، مثل النفعية والأخلاق الكانطية، تُبسط الأخلاق بشكل مُفرط وتتعارض مع البديهية. يقول النفعيون إنه يجب علينا دائمًا تعظيم السعادة الكلية. لكن تعظيم السعادة قد يتحقق أحيانًا بأفعال تبدو خاطئة تمامًا، مثل تعذيب أو قتل الأبرياء. يرى الكانطيون أنه يجب علينا دائمًا معاملة الناس باحترام وعدم إيذائهم أبدًا لتحقيق غايات حميدة. ولكن قد تكون هناك مواقف لا يمكننا فيها تجنب فعل شيء يبدو أنه يُسيء إلى شخص واحد على الأقل، على سبيل المثال، قد نضطر إلى الكذب أو إيذاء شخص ما لمنع حدوث شيء أكثر إهانة أو ضررًا. كمفكر تعددي، آمن روس بوجود مبادئ أخلاقية أساسية متعددة. أطلق عليها اسم "الواجبات البديهية". تُقدّم هذه المقالة نظرية روس، التي تُسمى غالبًا بالحدس.

1. الواجبات "الظاهرة"

يستخدم روس مصطلح "الواجب الظاهر" للإشارة إلى الأفعال التي لدينا مبرر أخلاقي للقيام بها (أو تجنبها). ويقتبس روس العبارة اللاتينية "prima facie" ("للوهلة الأولى") ليعكس فكرة أن هذه الواجبات تحمل دائمًا وزنًا أخلاقيًا، ولكن لا يُعطى أي واجب ظاهر أولوية على غيره.

يقترح روس القائمة التالية للواجبات الظاهرية:

الإخلاص: الوفاء بالوعود،

الجبر: التعويض عن الأفعال الخاطئة،

الامتنان: رد الجميل للآخرين الذين استفدنا منهم،

العدالة: توزيع المتعة أو السعادة على الفضل،

الإحسان: تعزيز مصلحة الآخرين،

تحسين الذات: تحسين أخلاقنا،

عدم الإضرار: عدم إيذاء الآخرين أو عدم إلحاق الأذى بهم.

يزعم روس أن هذه الواجبات البديهية بديهية: أي أن أي شخص ناضج وعاقل يتأمل هذه الأفكار يستطيع أن يدرك أن كل واجب بديهي يشير إلى سمة في الفعل تجعله صحيحًا: على سبيل المثال، إذا تضمن الفعل الوفاء بوعد، فإن ذلك يميل إلى جعله صحيحًا. يدرك معظمنا أن تقديم الوعد ينشئ مسؤولية الوفاء به. هذا هو جوهر الوعود. ولكن إذا تضمن الوفاء بالوعد ارتكاب ظلم أو إيذاء الآخرين، فإن هذه السمات تميل إلى جعل الفعل خاطئًا: ومن البديهي أيضًا أن معاملة الناس بظلم أو إيذاء الآخرين أمر لا ينبغي لنا فعله عمومًا.

2. تضارب الواجبات

أحيانًا تتعارض الواجبات الظاهرية. ما هو واجبنا الفعلي في مثل هذه الحالات؟

تخيل أنك وعدت صديقًا لتناول الغداء. وبينما أنت ذاهب إلى المطعم، اتصلت بك والدتك -التي تسكن بالقرب منك- لتخبرك أنها تعرضت لحادث وتحتاج منك أن توصلها إلى المستشفى. مع أن الوفاء بالوعود واجب ظاهري عليك، إلا أنه من المقبول تمامًا أن تنقض وعدك لصديقك بنقل والدتك إلى المستشفى: فهذه حالة طارئة! بالطبع، عند إخلالك بالوعد، سيكون عليك أيضًا واجب التعويض والاعتذار لصديقك عن تفويت الغداء. والآن تخيل مرة أخرى أنك وعدت صديقًا لتناول الغداء. اتصلت بك والدتك لأن سيارتها تعطلت وهي بحاجة إلى توصيلة إلى بنك طعام محلي، حيث تساعد في تقديم الغداء للمحتاجين. إذا أوصلت والدتك، فلن يكون لديك وقت للقاء صديقك. هنا تبدو الأمور أقل وضوحًا. قد يكون مساعدة الأم أكثر فائدة من لقاء صديقتك، لأنك ستساعدها على مساعدة الآخرين، لكنك وعدتها بلقاء صديقتك. أيهما أثقل وزنًا - واجب الإخلاص الظاهر أم واجب الإحسان الظاهر؟

في مثل هذه الحالات، يقول روس إنه يجب علينا دراسة الموقف بعناية لتكوين أفضل حكم ممكن حول واجبنا الفعلي. بمعنى آخر، يجب أن نعتمد على حدسنا، أو كما يقول روس غالبًا، "ما نعتقد حقًا" أنه الشيء الصحيح الذي يجب فعله. وهذا ما فعلناه أيضًا لحل الموقف عندما احتاجت الأم للذهاب إلى المستشفى؛ فقد جعلتنا حالة الطوارئ الطارئة نتخذ القرار الصحيح أكثر وضوحًا في تلك الحالة. ومع ذلك، يدّعي روس أنه لا يمكننا التأكد من واجباتنا الفعلية. فآراؤنا المدروسة ليست مثالية؛ فالتصرف بناءً على حدسنا يعني المخاطرة. ومع ذلك، لا يوجد ما هو أفضل من اتباع أحكامنا المدروسة بعناية.

3. نقد الحدس

من أبرز الانتقادات الموجهة لوجهة نظر روس أن استعانته بالحدس و"ما نعتقده حقًا" ليست جديرة بالثقة. قد يكون حدسنا متحيزًا أو غير أخلاقي، وغالبًا ما يتعارض مع حدس الآخرين. يعترض البعض على أن فكرة استخدام الحدس لتحديد المسؤوليات الأخلاقية الأساسية وحل النزاعات الأخلاقية تبدو غامضة وغير مبدئية. يرى روس أن الحدس ليس أكثر أو أقل من قدرتنا على التفكير العقلاني، وفهم الأفكار، وإصدار الأحكام؛ لا ينبغي أن نعتبره ملكة خاصة أو "حاسة سادسة" أخلاقية. إنه ببساطة يشير إلى آرائنا المدروسة. بعض هذه الآراء، مثل آرائنا حول الأهمية الأخلاقية للوعود والعدالة والإحسان، عميقة وراسخة؛ وقد تكون بعض الحدس الأخرى أكثر قابلية للمراجعة. كما ذُكر سابقًا، لا يعتبر روس الحدس معصومًا من الخطأ. فهو يُقر بأن البشر قد صقلوا أفكارهم حول الصواب والخطأ، ورفضوا أفكارًا وممارسات كانت تبدو مقبولة للكثيرين. ومع ذلك، فإن أفضل معلوماتنا عما هو صحيح حقًا تأتي من الحدس المدروس بعناية للأشخاص ذوي المعرفة الواسعة، والإدراك، والحساسية، والعقلانية. كما تحدد الواجبات البديهية القيم التي صمدت أمام اختبار التفكير، والخبرة، والزمن.أحيانًا يكون لدى الأشخاص المفكرين حدس متضارب بشأن القضايا المعقدة. ولهذا السبب، يقترح روس أن نتحلى ببعض التواضع تجاه آرائنا، وأن نكون على استعداد للنظر بعناية في وجهات نظر الآخرين.

الخاتمة

يجيز روس تعديل هذه القائمة بالتوسع أو التبسيط؛ وفي كتابيه "الحق والخير" و"أسس الأخلاق"، يؤكد روس على الالتزامات الظاهرية بالإخلاص والتعويض والامتنان والإحسان وعدم الإيذاء، ويعامل العدالة وتحسين الذات كجزء من واجب الإحسان الظاهري للإضافة إلى الصالح العام. يقترح روس أن بعض الواجبات البديهية عادةً ما تكون لها الأولوية على غيرها: على سبيل المثال، بينما من الجيد القيام بأشياء تُسعد الناس (الإحسان)، لا ينبغي لنا عادةً القيام بذلك عن طريق إيذاء الآخرين (عدم الإيذاء، العدالة). يجب علينا سداد الديون (الإخلاص) قبل التصدق (الإحسان). يُجادل روس مُطولًا في كتابه "الحق والخير" بأنه ليس من البديهي أن نخلف وعدًا لمجرد أننا من خلال إخلالنا به، يمكننا القيام بشيء آخر يُنتج قدرًا ضئيلًا من السعادة الإضافية: فالوعود لها وزن أخلاقي لا يقتصر على إنتاج أقصى قدر من السعادة. حدسي الشخصي تجاه قضية والدتك وصديقتك هو أن عليكِ الوفاء بوعدكِ. مع ذلك، أفترض أن بنك الطعام سيُقدّم الغداء حتى لو لم تتمكن من الحضور في هذا اليوم تحديدًا. إذا تبيّن أن بنك الطعام لا يستطيع فتح أبوابه بدون والدتك، فسيبدو لي أن الإحسان أهم من الوفاء؛ في هذه الحالة، أنصحكِ بمساعدة والدتك والاتصال بصديقتكِ للاعتذار وإعادة جدولة موعد الغداء. أشجع القراء على محاولة ملء تفاصيل القضية بطرق مختلفة للتفكير في كيفية تأثير هذه التغييرات على وجود وقوة الواجبات الظاهرة المختلفة في كل شكل.  الهدف من هذه القائمة هو إبراز وجود واجبات بديهية متعددة، وليس نوعًا واحدًا منها فقط، مثل القيام بكل ما يُحقق أقصى قدر من السعادة. يشير روس إلى أن انعدام اليقين لا يُمثل مشكلة خاصة برأيه، لأن الحسابات النفعية، على سبيل المثال، تستند أيضًا إلى تنبؤات وقياسات أقل من اليقين. لاحظ أن هذه النقاط تتيح لنا التشكيك في حدس من يفتقرون إلى هذه الخصائص، وانتقاد حدس حتى أصحاب السلطة الأخلاقية الظاهرية الذين يتحدثون خارج نطاق تخصصهم أو الذين يتبين أنهم يعتمدون على معلومات غير موثوقة أو محدودة. بالطبع، قد يجد أصحاب المذهب الواحدي هذه الاستجابات غير مُرضية. ومن الاعتراضات النظرية الإضافية على رأي روس أنه لا يقدم سوى "مجموعة غير مترابطة من الواجبات" - أي قائمة عشوائية - تفتقر إلى أساس منهجي أو موحد. مع ذلك، يرد روس بأن قدرتنا العقلانية على إدراك صحة كل واجب من الواجبات الظاهرة هي الأساس الموحد. علاوة على ذلك، يُجادل روس، بعرضه قائمة الواجبات الظاهرة، بأنها تتوافق مع أدوار محددة (مثل الواعد أو المخطئ)، والعلاقات (الوالد، الصديق، المواطن)، وسمات العالم (أن الألم مؤلم، وأننا نستطيع التأثير على العالم بطرق إيجابية أو سلبية)، وفي هذا الصدد، فهي ليست عشوائية. لا يزال منظرو الأخلاق المعاصرون يعتمدون على الواجبات "البديهية". وبالتالي، ربما يكون هناك واجب بديهي بالامتنان لروس لتطويره هذه الفكرة، حتى لو اختلفنا مع عناصر أخرى من نظريته. فكبيف يمكن الاستفادة من هذه النظرية التعددية الايتيقية في اعادة التفكير في المسالقيمية في زمن عصفت فيه رياح الكوارثية بالمقاربة الأكسيولوجية؟

***

كاتب فلسفي

......................

المصادر والمراجع

Ross, W.D. (2002). The Right and the Good. Oxford University Press. Originally published in 1931.

Ross, W.D. (1939). The Foundations of Ethics. Oxford University Press.

Audi, Robert (2005). The Good in the Right. Princeton University Press.

McNaughton, David (1996). “An Unconnected Heap of Duties?” The Philosophical Quarterly 46(185): 433-447.

Simpson, David. “William David Ross (1877-1971).” Internet Encyclopedia of Philosophy. Last Accessed 6/13/2023.

Skelton, Anthony (2022). “William David Ross.” The Stanford Encyclopedia of Philosophy (Spring 2022 Edition), Edward N. Zalta (ed.).

يقول فرويد في مقدمة الكتاب حين صدور النسخة الأولى من كتاب (الأنا والهو) الذي صدر عام 1954، أن مصطلحات التحليل النفسي لم تكن معروفة جيداً بين القراء، وأن مصطلح الأنا والهو قد يكون غامض على البعض منهم، لذلك أختار للكتاب عنواناً أخر تحت مسمى الذات والغرائز، والمقصود بالذات هو الأنا، والغرائز الهو.

كانت الحياة النفسية للأفراد قبل ظهور مدرسة التحليل النفسي تهتم بدراسة الظواهر العقلية الشعورية، ولم يكن هنالك دراية تامة للعمليات العقلية اللاشعورية، والتي تعتبر المحرك الأساسي لسلوكيات الإنسان، سواء كانت هذه السلوكيات سليمة او شاذة، ونتج عن ذلك أن ظل عصياً معرفة وتفسير السلوك الإنساني، وبفضل جهود فرويد، إستطاع الوصول إلى حقيقة أن جزء كبير من الحياة العقلية لاشعورية، وأن هذا الجزء اللاشعوري من حياتنا ذو تأثير كبير على السلوك سواء كان قويماً، أو شاذاً. وكانت هذه النتيجة هي نقطة الإنطلاقة لقيام مدرسة التحليل النفسي، الذي يعتبر فرويد مؤسساً لها، ومن الجدير بالذكر الإشارة الى أن فكرة اللاشعور كانت موجودة من قبل، ولكنها لم تكن واضحة. إلا أن فرويد نسب إليها الدور الدينامي المهم الذي وضح أساس العمليات النفسية في الإنسان. وقد أكتشف فرويد اللاشعور وأهميته حينما كان يدرس مرض الهستيريا مع جوزيف بروير، حيث إتضح لهما أن أعراض مرض الهيستريا تنشأ عن الذكريات المكبوتة في اللاشعور، وأن الأعراض تزول حينما يتذكر الذكريات ويفصح عنها أثناء العلاج.

يحدثنا فرويد أن في الجهاز النفسي ثلاث أقسام، وهي الشعور، ما قبل الشعور واللاشعور، والشعور: يتمثل في ذلك الجزء من العمليات النفسية التي ندركها ونشعر بها، وهي لا تكون متصلة، بل يوجد فيها كثير من الثغرات والفجوات، وتفسر هذه الفجوات رجوعاً للعمليات التي تظهر في ما قبل الشعور واللاشعور. أما ماقبل الشعور فهي تلك العمليات التي تحدث في النفس جميع الأثار التي تحدثها الأفكار العادية دون أن تكون شعورية، وتحتاج لجهد لكي تصبح شعورية، أما اللاشعور هو ذلك القسم الذي يحوي الدوافع الغريزية البدائية، الجنسية، والعدوانية التي تكبت في الأرجح بسبب المجتمعات المتحضرة بسبب الدين والمعايير الإجتماعية التي ينشأ فيها الأفراد. وهذه الأقسام الثلاث للحياة النفسية تأخذ وصفين، أولهما وصفي وهو المقصود به كيفية العملية النفسية من حيث شعورنا بها أو عدم شعورنا بها، أما الوصف الأخر (الطبوغرافي) يقصد به أقسام مختلفة أو أماكن محددة تكون مسرحاً للعمليات النفسية. وقد أطلق فرويد أسم الأنا على الشعور، والهو على اللاشعور، والأنا الأعلى هي ماقبل الشعور، وفي بداية الأمر كان يرى أن الأنا هو الذي يقوم بالكبت التي تمنع النزعات والغرائز من الظهور في الشعور، وهو الذي تصدر منه المقاومة أثناء التحليل، وهذه المقاومة كما ظهرت له لاشعورية في الغالب، إلا أنه عدّل عن هذه الأراء بعد وقت بوجود الشعور واللاشعور وماقبل الشعور، ومن الناحية الطبوغرافية أقر بأقسام جديدة للجهاز النفسي، وهي الأنا والهو والأنا الأعلى، موضحاً انه لايوجد تقابل مباشر بين الأقسام الثلاثة للجهاز النفسي وبين الكيفيات الثلاثة.

يتحدث فرويد عن الأنا واصفاً إياها بالرقيب، إذ هي التي تقوم بعملية الكبت ومنع غرائز الهو اللاشعوري من أن تنتقل إلى الشعور، وفي الأساس فإن الأنا هو ذلك الجزء من الهو الذي نما بسبب تأثيرات العالم الخارجي، وهو الذي يقوم بمهمة حفظ الذات، ويقاوم الرغبات التي تصدر من الهو، بما يتماشى مع الواقع الخارجي، وهو بذلك ( واقعي يمثل العالم الخارجي) أما الهو فهو جزء فطري في الإنسان وهو بذلك كل ماهو موروث وموجود منذ الولادة، وماهو ثابت في تركيب البدن، ويتبع مبدأ اللذة ويسعى دائماً للتخلص من الألم وتفريغ شحنته عن طريق الحصول على اللذة، وهو غير واقعي لايراعي المنطق أو الأخلاق، ويسود فيه اللاشعور. ويسعى لإشباع رغباته بأي شكل كان، وأخيراً الأنا الأعلى: الضمير، هو الذي يتكون في داخلنا منذ الطفولة، إبتداءً من رعاية ورقابة الوالدين الى المجتمع والمدرسة والمعلمين، والذين تتحول سلطتهم الخارجية الى سلطة داخلية تراقبه وتصدر اليه الأوامر، والأنا الأعلى لاعلاقة له بالواقع بل يسعى دائماً للكمال، ودائماً ما تكون الأنا في حالة وسيط لفض التصادم الدائم بين الأعلى وبين الهو، وهي بذلك تقوم بمهمة مراعاة العالم الخارجي والأنا الأعلى والهو، وفي حال سيطرت إحداهما على الأخر تنشأ الإضطرابات العصابية. وتنشأ العديد من الأمراض العصابية بسبب التصادم والصراع المستمر بين هذه القوى الثلاث مثل الوسواس القهري، الهستيريا، الرهاب الإجتماعي، القلق، الهلع و الإكتئاب ... الخ.

ويقرّ فرويد بأن الأنا الأعلى تكون نتيجة لعقدة أوديب (الأسطورة اليونانية لأوديب الذي قتل أباه وتزوج أمه من دون علمه بحقيقة إرتباطه بهما) فالطفل في مراحل نموه المبكر قد يشعر بالحب إتجاه أمه والتناقض الوجداني ما بين الحب والكره حيال أبيه، ويعتقد أنه العائق ما بينه وبين والدته، وفي هذه الحال يقوم الأنا بعملية الكبت، وذلك بإقامة عائق في الأنا نفسه، والإبقاء على خُلق الأب، وقد نشأت الأنا الأعلى بحسب فرويد بناء على الخبرات المستمدة من الأسطورة الطوطمية.

 ويشير الى هنالك نوعين من اللاشعور إحداهما كامن، والأخر مكبوت، والكامن يسمى (قبل الشعور) هو الذي يستطيع التحول الى الشعور بمساعدة بعض الصور اللفظية، مثلاً أن تتوجه الى تناول الطعام مباشرة بمجرد أنك شاهدت على التلفاز إعلان للوجبات السريعة، وذلك يعني ان فكرة الجوع موجودة في الجزء اللاشعوري وغائبة عن الشعور المباشر، ولكن بفضل الصور اللفظية أو الروابط (إعلان الوجبات السريعة) إستطاعت الفكرة أن تنفذ غلى الشعور، أما اللاشعور المكبوت فهو الذي لا يستطيع النفاذ إلى الشعور، والسبب في عدم ظهورها في الشعور، هو وجود قوة معينة تعمل على مقاومتها، وفي أثناء التحليل النفسي يعمل الطبيب على إزالة تلك المقاومة لتصبح الأفكار شعورية. ومن الجدير بالذكر ان كل كامن يمكن ان يصبح شعوري، ولكن لايمكن أن يصبح كل مكبوت كذلك.

في الجزء الأخير تحدث فرويد عن الغرائز قائلاً: أنه توجد نوعين من الغرائز، غرائز الحب أو الحياة (الأيروس) وغرائز الموت أو الهدم (ثاناتوس)، والأيروس تحتوي الأنا والغرائز الجنسية وكل ما يتضمن حفظ الذات، والمتعة والشعور بالرضا. أما ثاناتوس فهو يحوي الغرائز العدوانية والكره والإيذاء سواء كان نفسي أو موجه ضد الغير. وأختصر القول بأن السادية ممثلة لهذه الغريزة، وترتبط كل من هاتين الغريزتين بعملية فسيولوجية خاصة بعملية البناء وعملية الهدم، وتكون هاتين الغريزتين منفصلتان عن بعضهما البعض إما كلياً أو جزئياُ، ويحدث أن تكون الغريزتان متحدتين وممتزجتين الواحدة بالأخرى (السادية في الغريزة الجنسية مثال لإتحاد الغرائز الذي يؤدي لنتيجة مفيدة، والإنحراف الذي تصبح فيه السادية مستقلة بنفسها) وقد توصل فرويد الى أن غريزة الموت هي أهم أسباب الأمراض العصابية الشديدة.

ويوضح أيضاً أن بعض الدوافع الى الأعمال الإجرامية سببها أن الإحساس اللاشعوري بالذنب لدى البعض يكون كبيراً جداً قبل الجريمة، وهو بذلك يكون دافعاً لها.

***

مودة جمعة

لم يكن إنسان النياندرتال يعلم، حين التقط حجرًا ووجهه نحو رأس أخيه، أنه كان يبتكر أكثر الظواهر البشرية فتكًا ووحشية: إنها الحرب، لعنة الإنسان الأزلية، والظلّ الأسود الذي يلاحق البشرية ويوصم تاريخها بالدماء. إذ لم تخلُ صفحات التاريخ البشري من الصراعات والحروب، سواء في شكلها البدائي من خلال نزاعات المجموعات والقبائل، أو في شكلها المنظّم في حروبٍ ومعسكراتٍ يقودها زعماء وتخوضها جيوش منظمة. وأمام هذه الذاكرة التاريخية المشوّهة، يلحّ في أذهاننا سؤالٌ جوهري: ما السبب وراء الحرب؟ وكيف فشل الإنسان، عبر تاريخه ورغم تطوره، في أن يعيش بسلام؟

الإنسان، الكائن الوحيد الذي يشن الحروب:

تخبرنا الدراسات الأنثروبولوجية أن الحرب ظاهرة بشرية خالصة؛ فإن وُجد العنف في مملكة الحيوان، إلا أنه عنف غير منظم، لا يتجاوز كونه دفاعًا عن النفس أو رغبة في الطعام. بينما يتميز العنف لدى البشر بطابعه التنظيمي، فهو يتجاوز العنف الطبيعي الموجود لدى الحيوانات، ويحمل أبعادًا ثقافية ودينية ورمزية.

جذور الحرب والعنف في التاريخ:

ظهرت الحروب والنزعة للعنف والقتل منذ فجر التاريخ البشري، حيث لم يكف الإنسان عن اختراع وسائل جديدة لقتل أخيه الإنسان؛ بدءًا من العصي والحجارة والسكاكين البدائية، وصولًا إلى أسلحة الدمار الشامل. وتروي لنا الحفريات والمكتشفات الأثرية في مناطق مثل شمال السودان وأوروبا وجود صراعات عنيفة قامت في لحظات مبكرة من التاريخ بين قبائل وجماعات مختلفة ثقافيًا، وهو ما يعني أن هذه الصراعات كانت واسعة النطاق، ومرتبطة بظهور الزراعة وتكوّن المجتمعات الزراعية وصراعها على الأراضي الخصبة والموارد الطبيعية لكن، هل هذه الدوافع هي المحرك الوحيد لآلة الحرب؟

الدوافع النفسية: نزعة العنف كما يراها فرويد:

عندما سُئل سيغموند فرويد (بالألمانية: Sigmund Freud)‏ (6 مايو 1856 – 3 سبتمبر 1939) مؤسس التحليل النفسي، في أعقاب الحرب العالمية الأولى من قِبل ألْبِرْت أينْشتاين (بالألمانية: Albert Einstein) (14 مارس 1879 – 18 أبريل 1955)٠ عن: "ماذا يمكن فعله لحماية الجنس البشري من الحرب؟ وهل نظريته في التحليل النفسي قادرة على إيقاف التدمير والعنف في المجتمعات البشرية؟"، أجاب فرويد بكل سوداوية:

"للأسف، هذا مستحيل، لأنني رأيت جذور الحرب في طبيعة الإنسان نفسه".

تأتي هذه الإجابة كنهاية بحث علمي لتشريح ظاهرة العنف لدى الإنسان كما أجراها فرويد، حيث يقوم العنف لدى الإنسان، حسب فرويد، على ثنائية: إيروس (الرغبة في الحياة) و ثاناتوس (قوة الموت). فالأولى تقوده نحو الحياة والحب والمتعة، بينما تقوده الثانية نحو التدمير والعنف والحرب. والعنف هو السلوك الذي يُعبّر من خلاله الإنسان عن الصراع الداخلي بين هاتين الرغبتين. ووفقًا لفرويد، فإن سبب العنف ناجم عن أن الحضارات البشرية تقوم على أساس قمع رغبات الإنسان، خاصة الجنسية، ولا يعتبر الكبت قضاءً على هذه الرغبات، بل قمعًا لها، وقد تنفجر في أية لحظة في شكل ممارسات عنيفة.

وبهذا المعنى، تمثل الحروب تجسيدًا لصراع بين قوتي الخير والشر في الإنسان، وهي محاولة فاشلة في التوفيق بين حاجة الشعوب إلى السلام ورغبتها في التدمير، نتيجة لدوافع مكبوتة. فالعنف والنزوع إلى القتل، سواء بشكله الجماعي أو الفردي، جزء لا يتجزأ من التركيبة العميقة للنفس البشرية، التي تتكون من قوى لاشعورية ورغبات مكبوتة. ولعل هذا ما يفسر إقدام شخص في حالة الغضب الشديد على قتل فرد من عائلته، ثم يردد أنه فعل ذلك "دون وعي". فالغضب هو تجلّي ثاناتوس، وتحرير الوحش الذي يسكن الإنسان من سجنه. لقد قدم فرويد طرحًا نفسيًا لمشكلة العنف الإنساني، ليستقر بين ثلاثي القرن العشرين الذين بحثوا في مشكلة العنف؛ حيث كشف كارل هانريش ماركس (بالألمانية: Karl Marx) تُلفظ بالألمانية 5 مايو 1818 – 14 مارس 1883)؛ البنية الاقتصادية له، وأظهر فريدريش فيلهيلم نيتشه (بالألمانية: Friedrich Nietzsche) ‏(15 أكتوبر 1844 – 25 أغسطس 1900) البنية الأخلاقية، بينما اهتم فرويد بكشف البنية النفسية لظاهرة العنف البشري.

الدوافع الدينية للحروب، العنف المقدس:

لقد كانت الأديان جزءًا من الصراع البشري، حيث استُخدمت النصوص والرموز الدينية لتبرير العنف والقتل، وشرعنة الحرب باسم الإله.

والعنف، حسب الفيلسوف الفرنسي رينيه جيرارد (بالفرنسية: René Girard)‏ (25 ديسمبر 1923- 4 نوفمبر 2015)  في كتابه "العنف والمقدس"، لم يكن مجرد سلوك بشري عبثي، وإنما طقس مقدّس، تُقدَّم فيه القرابين ككبش فداء، بحيث يُحمَّل فرد أو جماعة معينة مسؤولية العنف الجماعي، فتُقدَّم التضحية بها لضمان الاستقرار والنظام.وبالتالي، ترتدي الجريمة والعنف رداء القداسة.وإن التاريخ شاهد على ظاهرة الحرب المقدسة؛ من الحروب الصليبية، إلى حرب الثلاثين عامًا، إلى حروب السنة والشيعة. كما تعبّر  مسلة النصر "لنارام سين" المنحوتة على حجر الديوريت الوردي، والتي يعود تاريخها إلى العهد الأكادي، عن الحرب المقدسة؛ حيث تُظهر الملك الأكادي وهو يدوس جثث الأعداء تحت حماية الآلهة. مما يدل على أن الشعوب والحضارات الغابرة فهمت أن الحرب تحتاج إلى شرعية أكبر من الأسباب الدنيوية، فلجأت إلى خلق جدلية السلطة والإله، التي استغلتها الشعوب التي جاءت من بعد.

الدوافع السياسية والاقتصادية: أطماع الهيمنة والأسواق:

مع تطور المجتمعات البشرية، ظهرت دوافع جديدة للحرب تجاوزت الدين والثقافة، وهي الدوافع السياسية والاقتصادية. فقد أصبحت الحروب وسيلة لإعادة رسم خرائط النفوذ، والسيطرة على الموارد والأسواق. فالأنظمة السياسية تستغل الحرب كأداة لترسيخ سلطتها، بينما تسعى القوى الاقتصادية إلى تأمين مصالحها من خلال التدخل العسكري المباشر أو غير المباشر.

وهكذا تحوّلت الحروب الحديثة إلى صراعات مصالح مموّهة بشعارات التحرير والديمقراطية، فيما تكمن خلفها رغبات السيطرة والهيمنة. وهو ما أشار إليه كارل ماركس الذي اعتبر الحروب امتداد لصراع الطبقي، حيث تتحكم البرجوازية العالمية بمصير الشعوب الضعيفة وتقحمها في بوتقة الحرب لضمان التحكم فيها والاستفادة من مواردها الطبيعية ومواقعها الاستراتيجية وهو ما فعتله الولايات المتحدة الأمريكية عندما تدخلت في العراق وافغنستان بدعوى نشر الديمقراطية والحرية، إلا أن غايتها الحقيقية كانت تأمين مصادر النفط وتغير خارطة الشرق الأوسط بما يخدم مصالحها.

الثورة الصناعية: عصر الآلة والموت الجماعي

 مع اختراع البارود وتدشين عصر الآلة، تغيّر وجه الحرب من صراع تقليدي بالسيوف والرماح إلى جحيم تقني يُدار من المعسكرات والمصانع، وينتج الموت على نطاق واسع. ٠وقد تُرجم هذا التحول في الحرب العالمية الأولى (1914–1919)، التي وُصفت بأنها أول حرب ميكانيكية في التاريخ؛ حيث شكلت المدافع، والدبابات، والغازات الكيميائية، وحروب الخنادق، رموزًا جديدة لقتل مبرمج جاء نتيجة تغوّل الآلة، يقول الفيلسوف الألماني فالتر بنيامين (15 يوليو 1892-26 سبتمبر 1940)،: "الحرب الحديثة هي النتيجة الحتمية لتقنية لم تعد تخدم الإنسان، بل تسيطر عليه."

لم يمضِ وقت طويل على انتهاء الحرب الأولى، حتى انفجرت شرارة الثانية ببارود ألماني نازي، وبتوقيع أدولف هتلر، الذي أعاد شبح الحرب على أساس الانتقام التاريخي لألمانيا، والقومية المتطرفة، والانتصار للعرق الآري. لتتكرر المأساة بشكل أكثر وحشية ودمارًا، كُتبت سطورها الأخيرة في عام 1945، عندما أُلقيت قنبلة نووية بحجم كرة القدم على مدينتي هيروشيما وناجازاكي، فسوتْهما بالأرض، ليصمت العالم في صدمة أمام الرعب النووي.

القرن الواحد والعشرون: الحروب اللامرئية

لقد أصبحت الحروب في القرن الواحد والعشرين لامرئية، إذ فقدنا حتى القدرة على رؤية قاتلنا في لحظاتنا الأخيرة، بسبب تقنية الطائرات بدون طيار، التي تُدار من قواعد تبعد آلاف الكيلومترات عن ساحة المعركة. كما ظهر نوع جديد من الحروب: الحروب السيبرانية، التي تستهدف البنية التحتية الرقمية، والبيانات الدولية والشخصية، وهو ما يعيد تشكيل وجه الحرب في عصر ما بعد الحداثة.

تلك الحرب التي أصبحت أكثر "نظافة" في ظاهرها، فقد تخلّص المتحكمون في تقنيات الذكاء الاصطناعي والأقمار الصناعية من الدماء التي تُسببها المواجهة المباشرة، لكنهم في المقابل أغرقوا ضحاياهم في شلالات من الدماء لا آخر لها.

مثلما يحدث الآن في مدينة غزة الفلسطينية، التي أصبحت منطقة منكوبة، ومختبرًا دمويًا مفتوحًا يُجرَّب فيه الأسلحة الحديثة وتقنيات الذكاء الاصطناعي في تحديد الأهداف البشرية، تحوّل بمقتضاه الغزاويون إلى مجرد إشارات حمراء على شاشة، وأرقام في سجلات الموتى. والأكثر بشاعة من ذلك كله أنه يُبرر هذا العنف تحت شعار "الحرب على الإرهاب"، ذلك الشعار الفضفاض الذي تستخدمه القوى العظمى والاحتلال الصهيوني لتبرير الحرب على غزة والشرق الأوسط، بينما يختبئ خلفه قتل ممنهج تُديره خوارزميات وتبرره أهداف استعمارية.

في الختام، لقد أصبح الإنسان، المحكوم بثنائية إيروس وثاناتوس حسب فرويد، يمتلك أقوى الأسلحة وأشرسها، والتقاء السلاح مع غريزة الشر والتدمير، لا يمكن أن يؤدي إلا إلى مزيد من الدمار والقتل. فالحروب عبر التاريخ، بمختلف أشكالها وأسبابها وأسلحتها، مرورًا بالعصا وصولًا إلى الطائرات المسيرة، ما هي إلا الوجه الآخر للبشرية، الوجه الأكثر وحشية وظلامًا، تتحكم فيه نوازع الشر والهيمنة والرغبة في التملك والسيطرة.

لكن، لا يزال بالإمكان التخفيف من وطأتها، عبر تأسيس أرضية للحوار، وتعزيز القيم الإنسانية، والإيمان بالمصير البشري المشترك.

***

آية مصدق- تونس

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم