قضايا

قضايا

يحتفظ القرآن الكريم باللغة العربية (الفصحى). ويراد بالفصحى الافصح او الأعلى فصاحة، وهي درجة بلغتها لغة العرب في الجاهلية، ولغة القرآن الكريم فقط. ثم انحدرت الى درجات متفاوتة في الفصاحة الى عربيتنا اليوم. فالقرآن يتطابق تماماً مع اللغة العربية الفصحى، وكل عربيات اجيال العرب لا تتطابق.

ولا أقصد بالعربية الجاهلية لغة الشعراء؛ فالشعراء الجاهليون أول من أساء الى اللغة. فمثلا يجعل امرؤ القيس (الطعام) اسما لما يُؤكل إزاء (الشراب) اسما لما يُشرب، قال امرؤ القيس:

أَرانا موضِعينَ لِأَمرِ غَيبٍ وَنُسحَرُ بِـ(الطَعامِ وَبِالشَرابِ)

وقد وقرت هذه الدلالة في اذهان الاجيال الى اليوم، وهو ان الطعام ما يُؤكل، والشراب ما يُشرب. بينما في لغة العرب الفصحى (الطعام) ما يتحسس الفم طعمه من أكل وشرب معا. وهو المستعمل في القرآن الكريم. ففي معنى الاكل جاء قوله تعالى (قُل لَّا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ (الأنعام: 145)، وفي معنى الشرب قوله تعالى (قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي (البقرة: 249)، فاستعمل (شَرِب) نظيرا لـ(طَعِم)..

ويعرف كلنا أن (البخل) ضد الكرم، و(البخيل) هو الحريص المقصّر في الصرف على نفسه وعياله والاخرين. وسمّى الجاحظ (وهو أعلم جيله بالعربية) أحد كتبه (البخلاء) متندراً على جيله الذي شاع فيه (الحرص) وكانوا يسمونه (اقتصادا) ويعدونه صفة حميدة. أما اللغة العربية الفصحى فلا تستعمل لهذه الدلالة البخل، بل (الشُّح) وتسمي فاعله (شحيحا و نحَّاما)، وتسمي عدم الانفاق على الفقراء والمساكين بخلا، وغير المعطي لهم بخيلا. قال طرفة بن العبد:

أَرى قَبرَ نَحّامٍ بَخيلٍ بِمالِهِ       كَقَبرِ غَويٍّ في البَطالَةِ مُفسِدِ

فالنحّام: الشحيح على نفسه، والبخيل: الذي لا ينفق على الفقراء والمحتاجين. وهذا هو المستعمل في القرآن الكريم. فالمبتلى بقلة الصرف الشخصي يسمى (شحيحا) وفعله (الشح) قال تعالى (وَأُحْضِرَتِ الْأَنفُسُ الشُّحَّ، وَإِن تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (النساء: 128)، أي احسنوا الانفاق على عيالكم. واستعمل القرآن الكريم (البخل)  في الزكاة والصدقة واطعام الفقراء والمساكين (الامور الدينية). كقوله تعالى (فَلَمَّا آتَاهُم مِّن فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوا وَّهُم مُّعْرِضُونَ (التوبة: 76(. أي كفروا ولم يعطوا الزكاة، وهو كقوله تعالى في السورة نفسها (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا (التوبة: 103). وفي البخل ايضا قوله تعالى (الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ (النساء: 37). علما ان الله سبحانه لا يتدخل في أمزجة الناس وخصوصية تصرفاتهم؛ فلا يعاقب الانسان الشحيح، بل انه سبحانه يمقت الصرف الأهوج، حتى الصدقة المبالغ بها يرفضها ولا يحبها، قال تعالى (كُلُوا مِن ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (الانعام: 141)، أي كلوا منه وتصدقوا بلا اسراف، لان الله سبحانه وتعالى لا يحب الاسراف (الشخصي والديني). وهكذا أشاعوا خطأ أن البخيل هو الذي يقتّر في الصرف.

وكان عضو المرأة له اسم واحد في لغة العرب الفصحى وهو (الهَن)، وذكر القرآن الكريم اسما مشتركا لعضو المرأة والرحل هو (السوأة) التي تعني ما يجب ستره، لذا سمى الجثة (سوأة) أيضا، قال تعالى (فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ (طه: 121)؛ (قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَٰذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي (المائدة: 31). وفي الاسلام أضافوا اسم (الفَرْج) أخذا من القرآن. وفي العصر العباسي عصر العجمة وضياع الفصحى، وبسبب كثرة المجون الذي صار شغلهم الشاغل ابتكروا لعضو المرأة أكثر من مائة اسم، منها ما اخذوه من اللغات المجاورة: الفارسية والكردية والتركية وغيرها، وهو الشائع اليوم.

نحن اليوم نعدّ الاسم الفصيح والصحيح لعضو المرأة هو (الفرج). وهو خطأ، بل الصحيح ان الفرج (كل فتحة في مغلق)، فاذا فتحت اصابع كفك فتلك (فروج الاصابع)، واذا اغلقت عليك شدة دعوت الله للفرج. وفي القرآن الكريم (قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ... وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَىٰ جُيُوبِهِنَّ .. وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ (النور: 30 – 31). ففرج الرجل الاجزاء المثيرة للمرأة كالصدر والبطن والافخاذ، وفرج المرأة المثير للرجل وهو جسدها كله عدا الكفين وقرص الوجه، وكذلك عدم ضرب المرأة برجلها الارض عندما تمشي لكي لا تحسّس الرجل بالمخفي من جسدها. ومن هذه الاية اخذ العرب لفظة الفرج واطلقوه على العضو؛ لانه الاخص بالستر.

وبهذا نقول باطمئنان: أن العربية ذبحت من قبل الشاعر الجاهلي ابتداءً لضرورة الوزن، والتنويع، وجرس اللفظة، وملاءمتها السياق وغير ذلك، فضحوا باللغة من اجل الفن، فحلت لغتهم محل اللغة الفصحى، ثم الشعراء والكتاب الى اليوم؛. ومن عصرنا مثال لجبران خليل جبران، فقد كان جبران ضعيفا في اللغة العربية بسبب عيشه في امريكا، فاستعمل جهلا (تحمَّم) بدل استحمَّ، في قوله (هل تحمّمتَ بعطرٍ )! وقد استغرب احد اللغويين المعاصرين من هذا الاستعمال ووضع بعده (كذا) مشيرا الى خطئه. وكذلك تورطت معجمات اللغة فخلطت حابل الفصحى بنابل المولد، ونقلت العدوى الى مفسري القرآن الكريم فاختلفوا في التأويل بسبب البعد عن الفصحى لغة القرآن، علما ان وضع المعجمات وتفاسير القرآن كان في العصر العباسي.

وما زالت الفصحى تتراجع عبر القرون حتى سادت في عصرنا لغة عربية لا فصحى ولا فصيحة، بل لغة مجرودة كما يجرد الدسم من الحليب فيصبح (خاليا من الدسم). فهي عربية عندك وصفها، لغة مثخنة بالاجنبيات، واكثر ما نقوله لا يقوله العرب، بل يقوله غير العرب، واذا بنا نتكلم بألفاظ ومعان وقواعد أكثرها انجليزي، وكأننا في كلامنا نتكلم لغة انجليزية مترجمة. وبالمحصلة صرنا بعيدين عن فهم القرآن والتراث. وقد ألفت في ذلك كتابي (اللغة العربية الخامسة – الفصحى الهجينة) فما التفت اليه أحد، وارسلته الى (مجمعات اللغة) في الوطن العربي ولاسيما في بغداد، فأهملوه تماما، وأغلقوا دوني آذان سمعهم وفهمهم، مستبقين هذه اللغة الهزيلة دون مراجعة وتصحيح، وينادون بأنها وريثة لغة العرب، وهكذا لم اجد مصغيا من الموتى:

لَقَد أَسمَعتُ لَو نادَيتُ حيًّا       وَلكِن لا حَياةَ لِمَن أنادي

***

الاستاذ الدكتور محمد تقي جون

استجابة لرغبة المعنيين والمهتمين والدارسين بالمعارف الفلسفية؛ الذين تعذر حضورهم لندوة شهر مايو التي عقدتها الجمعية الفلسفية المصريّة في مساء يوم الأحد الموافق 11\5\2025م، نقدم لكم أهم ما جاء فيها من اقتراحات نظرية، وبرامج علمية تطبيقية، قد نالت استحسان الحضور في تلك الجلسة التي استفدت من مداخلات المعلقين على ما طرحته، وموافقتهم على بذل كل ما يقدرون عليه لنقل هذه الآراء النظرية والعملية؛ من طور الخطاب المزمع إلى طور المشروع المعد للتطبيق لإنقاذ ثقافتنا من الأزمة التي حاقت بها.

 نعم تلك المحنة التي كانت وراء انزعاجنا وأسفنا على ذلك القرار الجائر الذي قوض الدراسات الفلسفية في المقررات الدراسية بالمرحلة الثانوية، وانعكس ذلك بدوره على أقسام الفلسفة في كل الجامعات المصرية، ذلك القرار الذى كان يحتاج إلى أنات العالم، وحصافة التربوي، وحنكة السياسي، وعقلية المستنير قبل أن يمسك بقلمه من وافق على ذلك القرار الغاشم، الذي حرم شبابنا في هذه المرحلة السنية من المعارف التي تعين عقولهم على التفكر والتدبر، وغربلة الآراء والمعتقدات، والشائعات قبل قبولها والتأثر بمحتواها، ولاسيما في مجتمعنا المصري بخاصة والعربي بعامة، المستهدف من شرار الأغيار الذين يستهدفون تضليل أذهان شبابنا، وإفساد ذوقه وانتزاع الحياء من أخلاقه وتربيته، والتشكيك في مشخصاته التي يستمد منها هويته وانتماءاته الدينية والوطنية.

ويبدو أن كثرة الأحداث السياسية المتلاحقة قد حالت بين القائمين على التعليم في حكومتنا وإعادة النظر، ومراجعة هذا القرار الذي لا يقل خطورة في تبيعاته من تلك المكائد والمؤامرات التي يحيكها أعدائنا في شن حروبهم المعاصرة على أمننا واستقرارنا، اجتماعيًا وسياسيًا ودينيًا. وقد بينا جانبًا من هذه المخاطر في حديثنا في صحيفة الأهرام في (15 من نوفمبر) واستفضنا في ذلك بمقالنا في صحيفة المثقف في (18 من نوفمبر في عام 2024)، ووضحنا مكانة الفلسفة في الثقافة العربية، ودورها في تشكيل العقل الجمعي، وانعكاس ذلك في عيون المثقفين وأذهانهم والاهتمام بها عند رواد الاستنارة والإصلاح، من قادة الرأي في مصر منذ مائة عام، وذلك في مجلة الفكر المعاصر في (العدد 36 من ديسمبر من نفس العام)، ثم صرحنا بما استشرفناه ممّا نأسف عليه في سلوك شبابنا الجامح اليوم، وحال برامجنا التعليمية ومقرراتنا الدراسية، وذلك في الندوة التي عقدت في معرض الكتاب (هذا العام في الثالث من فبراير) بقاعة الصالون الثقافي لمعرض الكتاب برعاية الأستاذ الدكتور مصطفى النشار، والمجلس الأعلى للثقافة.

أمّا حديثنا اليوم؛ فيشتمل على خطاب نأمل العمل على زيوعه بين العاملين في هذا الحقل المعرفي، ومشروعنا العملي.  الذي تمهلنا في دراسة آليات تفعيله ليصبح جاهزًا للتطبيق، بعد التشاور في حيثياته التنفيذية، والخطوات الإجرائية التي تتناسب مع معاهدنا وأقسامنا الأكاديمية. وما نرجوه هو أن تسهم تعليقاتكم في تقويمه، وإثراء ما فيه من إيجابيات.

ولمّا كانت الخطابات التوجيهية والمشروعات العملية هي المقاصد الثوريّة للمتفلسفين، والحكمة العقلية وغايتهم التي يبتدعون من أجلها آليات تنفيذها؛ لتفعيل رسالة الفلسفة في تفسير الغامض، وتبرير الآراء، وتأويل الملتبس، وشحذ العقول للعزوف عن التقليد، والركود نحو التغيير والتحديث والإصلاح.

فأضحى بمقتضى واجبنا المهني والتزامنا الأدبي؛ ضرورة إمعان النظر في المرآة التي تعكس واقعنا الثقافي، وبرامجنا التوجيهية ومناهجنا التعليمية، ومقرراتنا الدراسية، وغربلة جميعها وانتقاء النافع منها الذي يعيننا على التخطيط لمستقبل الفلسفة في مصر.

أولاً: اقتراحات لإصلاح البنية البشرية:

لم يستحِ المجددون وأساتذة الفلسفة في مصر - منذ عام 1907- في التشاور حول كيفية إعداد القائمين على تدريس المعارف الفلسفية في الجامعة، ثم في المدارس في المراحل التعليمية المختلفة، ثم استقروا على هذه القيم والمبادئ:

(١) أن محبة الحكمة يجب أن تتغلغل في نفوس القائمين على تدريس تلك المعارف قبل أن تستوعبها أذهانهم، لذا جعلوا التعاون والألفة والتعاطف والود والاحترام المتبادل من أوائل القيم التي يجب أن يتحلى بها المعلمون فتصبح ضرورة لا غنى عنها في أخلاقيات المهنة. سواء بين القائمين بالتدريس بمختلف درجاتهم، والطلاب بتباين طبائعهم وقدراتهم الذهنية، أو الباحثين الذين يحترفون قيادة الرأي العام في ميدان الإعلام أو المؤسسات التثقيفية. وغير خافي على أحد ما نعانيه اليوم في جل مدارسنا وأقسامنا العلمية من سلبيات مجافية لما حرص عليه وجوده أساتذتنا وروادنا الأول (والتلميح أبلغ من التصريح).

(2) وجوب الالتزام بالأمانة العلمية في إعداد الدراسات والأبحاث والمصنفات المختلفة ذات الصلة، بالقدر الذي يعصم الكٌتاب ممّا نعانيه اليوم في مصنفات البعض؛ حيث الاقتباسات غير المشروعة والأساليب غير المفهومة؛ ناهيك عن الشيفونية والراديكالية والتعالم والتعالى غير المبرر الذي يسلكه غُلة من يزعمون التفلسف، متناسين أن الحياء سنة الحكماء، وأن التواضع سمة العلماء والأتقياء والنبلاء.

(3) ضرورة الالتزام بالحيدة والموضوعية في تقويم الاختبارات والأبحاث ومناقشة الرسائل الجامعية، وانتخاب الأجدر في شغل الوظائف والدرجات والمهام الأكاديمية ذات الصلة المباشرة بالعملية التعليمية.

ثانياً: إصلاح البنية المعرفية:

ما زالت البنية المعرفية الفلسفية في مصر والعالم العربي غير متماسكة الأركان، وذلك لغيبة هيئة عليا تقوم بتنظيم وتقويم مصنفاتها  المعرفية، سواء كانت (موسوعات، أو معاجم أو مواقع) تكشف عن وجهة الدراسات الفلسفية، وأبعادها التوجيهية وخططها البحثية، الأمر الذي يحتاج لإعادة النظر في واقع بنية المصنفات الفلسفية الهاشة المتراكمة على نحو أعاقها عن التطور والتجديد والتحديث، للتعبير عن أقلام كاتبيها الذين راق لمعظمهم الرقود في تقليد ومحاكاة ما خلفه السلف من دراسات أو ادعاء الثورة على المألوف والموروث من المشروعات التليدة، واستملاح تقليد النظريات الغربية بحجة التحديث، ومسايرة العقليات الحرة المتقدمة.

والطريف أن روادنا الأوائل قد أثاروا هذه القضية؛ أعني هشاشة البنية الفلسفية التي ننتجها، واستعانوا على إصلاح ذلك الخلل بتقديم النقد والتحليل على الوصف والتأويل في كل الوافد من النظريات والآراء والأبحاث، سواء كان هذا الوافد من الموروث أو القادم من دراسات المحدثين المستغربين والغرباء، وذلك النهج منذ العقد الثاني من القرن العشرين، وتشهد بذلك كتابات المشتغلين بالفلسفة في الاستفتاءات التي طرحوها للتشاور على صفحات الدوريات (ماذا نأخذ من الغرب؟) وما هو الأصلح من الآليات للتعرف على نظريات الأغيار وآرائهم (الترجمة، أم التلخيص والتصنيف).

ومن أهم الإجراءات العملية التي اتخذها هذا الجيل لتطوير البحث الفلسفي في مصر- ونحن اليوم نستلهمه لنحييه في ثقافتنا المعاصرة:

(١) تشكيل فريق من نوابغ الباحثين لترجمة دائرة المعارف الإسلامية، وفريق آخر لتقويم ما فيها من متون معرفية بوجه عام، وفلسفية بوجه خاص، وذلك منذ العقد الثالث من القرن العشرين. وفريق رابع يقوم بتصنيف عدد من المؤلفات تجمع بين جناحي الفلسفة القديمة والحديثة، تحقيقًا وترجمة؛ وذلك تحت إشراف لجنة عليا لانتقاء الأعمال الجديرة بالتحقيق أو الترجمة أو التصنيف، وذلك أيضًا خلال أخريات النصف الأول من القرن العشرين.

ونستثني من ذلك لجنة التأليف والترجمة والنشر التي ظهرت مصنفاتها (عام 1914)، والمقالات التي كانت تشغل حيزًا كبيرًا في أعرق المجلات الثقافية؛ مثل مجلة المقتطف، والمنار، والجامعة، والجريدة، والعصور، والسياسة، والثقافة، والرسالة، وغيرها من الصحف الأدبية والسياسية والتاريخية والدينية التي أسست بنية المعارف الفلسفية العربية بأقلام أبنائها،  ثم توالت سلاسل الكتب المؤلفة بأقلام أكابر المتخصصين من خرجي الجامعة المصريّة أو الجامعات الأوربية؛ مثل سلسلة إحياء الكتب العربية (عام 1944)، وسلسلة أعلام الإسلام (عام 1945)، وسلسلة نوابغ الفكر العربي عام (1953)، وسلسلة أقرأ (عام 1955)، وسلسلة نوابغ الفكر الغربي (عام 1956)، ثم سلسلة كتب دار الهلال (عام 1957)، وسلسلة أبحاث دائرة معارف الشعب (عام 1959) ثم سلسلة أعلام العرب (عام 1962)، وسلسلة أبحاث مجلة تراث الإنسانية في نفس العام، وسلسلة مقالات مجلة الفكر المعاصر (عام 1965).

وأعتقد أن هذا الزخم الفلسفي على وجه الخصوص كان وراء نهضة الفكر العربي في المشرق والمغرب؛ حيث ارتقاء الأذواق والأخلاق والمعارف، وتهذيبها ليس في معاهدنا التعليمية والتربوية فقط؛ بل في منازلنا وشوارعنا وأحاديث عوامنا قبل مثقفينا. وأعتقد أنه لا يجانبني الصواب عندما أقرر أن هناك سببًا أخر لا يقل أهمية من جهود هذا الجيل المستنير من الباحثين، يتمثل في أن قادة الرأي من القائمين على سياسة البلاد كانوا يدركون تمامًا أهمية المعارف الإنسانية التي تبني أذهان العقل الجمعي للأمة، بجانب المعارف العلميّة ومراكز التدريب الحرفية للعمال وأصحاب الصنائع. وبرهاننا على ذلك يتمثل في سجلات أسماء الوزراء وكبار الساسة الذين يشكلون العقل القائد لهذه الأمة؛ فسوف نجد من بينهم نسبة تتجاوز الـ 25% منهم- من المعنيين والمهتمين بالمعارف الفلسفية وأهميتها، وضرورة الحفاظ على القائمين عليها ورعايتهم، وذلك باعتبارهم الجيش المنافح عن صوالح الأمة ضد أعدائها الراغبين في هدمها من الداخل بسواعد وعقول أبنائها. ولا ينسينا ذلك أن العلة الحقيقية التي لا يمكن إنكارها في هذا السياق هو سلامة البنية البشرية القائمة على رعاية وتهذيب المعاهد وروح التعاون والحب والود والتفاهم الحاكم لدستور المشتغلين بالفلسفة سواء من المتخصصين الأكاديميين أو المنتسبين إليهم من المثقفين؛ الأمر الذي يبرر تقديم إصلاح البنية البشرية على إصلاح البنية المعرفية، أي تقديم الخطاب على المشروع في هذا السياق.

(١) إعداد دليل أو موقع بحثي لسائر الإنتاج الفلسفي الذي ينتجه المتخصصون في الأقسام الأكاديمية والكليات ذات الصلة. وذلك عن طريق تشكيل لجنة في كل قسم لإنجاز هذا العمل، وإخراجه في صورة موسوعية إلكترونية؛ ليسهل التعامل معها في استبيان المعلومات وإبراز مواطن القوة والضعف والكثرة والندرة والتكرار والطريف والنادر من تلك الأبحاث التي يمكن الاستفادة منها في عدة محاور تعيننا على تجديد وإصلاح وتحديث البنية المعرفية الفلسفية، وربطها بالدوائر المعرفية العربية والعالمية.

(٢) العمل على اتخاذ الخطوات الإجرائية والقانونية والأكاديمية لعودة درجة (أستاذ كرسي التخصص للمباحث الرئيسة في الفلسفة)؛ الأمر الذي يمكننا من ضبط وتحديد المواضع المركزيّة في المقررات الدراسية؛ الذي يجب على كل أقسام الدراسات الفلسفية في هذا التخصص الأخذ بها عند تأليف المقررات أو توجيه الدارسين والباحثين للمواضع التي يجب تطويرها وتحديثها، ذلك فضلا عن تقييم اللوائح الخاصة بالدراسات العليا والمقررات في الدبلومات والفصول التمهيدية لدرجتي الماجستير والدكتوراه؛ ذلك فضلاً عن وضع خطة بحثية مستقبلية لهذا التخصص تمكن المشتغلين به لمواكبة أحدث الدراسات العالمية ذات الصلة به. علمًا بأن هذه الدرجة الأكاديمية كانت مدرجة في الأقسام العلمية للجامعات الأم في مصر؛ حتى منتصف الستينات من القرن الماضي، وذلك لكثرة الخلافات الشخصية التي يجب تلافيها والعزوف عنها في المستقبل (والإشارة أبلغ دومًا من الاسترسال في الكشف عن دلالة العبارة).

(٣) دراسة الآليات المعاصرة لرفع كفاءة أعضاء هيئة التدريس ومهاراتهم، وتشكيل لجنة عليا من قبل المجلس الأعلى للجامعات لاختبار الحاصلين على الدورات التأهيلية لتلك الغاية، بدايةً من النظر في ترشيح المعيدين وانتهاء لتجديد عقود الذين بلغوا السن القانونية دون ترقية لدرجة أستاذ، أو توقفوا عن مواصلة البحث العلمي. على أن يراعى ذلك في تحديث قانون تنظيم الجامعات (المزمع).

(٤) إنشاء مركز أكاديمي متطور لتحديث وتأصيل الخطاب الفلسفي. وذلك لمعالجة خمس سلبيات، أولها: صعوبة لغة الخطاب وتعمد تجهيل المتلقي، وذلك بكثرة إيراد العديد من المصطلحات التي يصعب على المتخصصين قبل العوام استيعاب مدلولاتها. وثانيها: عدم مراعاة البعض للثقافة السائدة في المجتمع في تصريحاتهم الإعلامية التي تخاطب الرأي العام على أنهم يمثلون منبر الفلسفة؛ الأمر الذي يحدث مردودًا سلبيًا على البنية الفلسفية بوجه عام، فتنعت الفلسفة بالكفر أو بالمروق والفوضوية.

وثالثها: الخلط بين الرؤى الأيديولوجيا والحكم على الثوابت التي تقوم عليها مشخصات المجتمع وهويته الوطنية والقومية والحضارية. ورابعها: عدم الالتزام بآداب التناظر وأخلاقيات المثاقفة والجدل والنقد فيما يصدر عن المشتغلين بالفلسفة أو المنتسبين إليها من الأدعياء الذين يتخذون من القدح والهجاء والتهكم المتدني في أحاديثهم النقاشية. وخامسها: مجافاة أصول الحوار الفلسفي الذي يجب على من ينتحله العزوف عن التعصب والراديكالية والشيفونية، وذلك في عرض الرؤى والتصورات التي تؤكد الاتهام الشائع الذي طالما أتهم به المشتغلون بالفلسفة من قبل الرأي العام التابع؛ ألا وهو التعالي ومفارقة الواقع المعيش، والعزلة في برج عالي بمنأى عن المجتمع الذي يعيشون فيه.

وللحديث بقية عن الخطوات العملية لتجديد وتحديث البنية المعرفية للفلسفة.

***

بقلم: د. عصمت نصار 

الجرح والحلم يمكن أن يكونا مفصلي تحول، الألم يحفز البحث عن معنى والجرح بجانب الحلم يعكس التناقض بين الواقع والخيال، يوضح لنا كيف يمكن أن تتعايش المشاعر السلبية مع الرغبة في تحقيق شيء، الأمل في تحقيق الحلم يمكن أن يساعد في الشفاء من الجرح وتصبح العلاقة بين الجرح والحلم تعبيرًا عن الصراع الإنساني الدائم.

السرديات التاريخية ونزعة البقاء

السرديات التاريخية ونزعة البقاء عند الانسان لهما جوانب متعددة من الوجود والتفاعل مع الزمن، البقاء فلسفياً يرتبط بفهم معنى الحياة، وغالباً ما يتناول أسئلة مثل لماذا نحن هنا؟ وما الهدف من الحياة؟ فهمنا للذات والمجتمع والبحث عن الهوية والمعنى. السرديات التاريخية تسهم في تشكيل فهمنا للوجود، بينما البحث الفلسفي عن البقاء يساعد في إيجاد معنى لهذا الفهم، نزعة البقاء عند الإنسان ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالأسس الجينية والنفسية والثقافية الجينات التي تدعم البقاء والتكيف مع البيئة وتعزز فرص النجاة، الصفات الجسدية مثل القوة والقدرة على المقاومة تكون نتيجة للاختيار الطبيعي، الصفات النفسية والاجتماعية، مثل التعاون والشعور بالانتماء، يمكن أن تكون موروثة وتساهم في تعزيز الروابط الاجتماعية. تساعد الأساطير في توجيه سلوك الأفراد من خلال توفير نماذج يُحتذى بها، مما يعزز نزعة البقاء والتكيف، العوامل النفسية تلعب دورًا في كيفية استجابة الأفراد للأزمات، المشاعر مثل الخوف والأمل، التحديات تلعب دورًا رئيسيًا في تشكيل السرديات التاريخية، وتساعد الأفراد على تجاوز المحن، كذلك تتفاعل الجينات مع البيئة لتشكيل سلوكيات الأفراد، مما يؤثر على كيفية تطوير المجتمعات لسردياتها التاريخية.

تفاعل العوامل الثقافية مع الجينات

الثقافات تطور استراتيجيات خاصة للبقاء تعتمد على المعرفة المحلية، مثل تقنيات الزراعة والصيد، هذه يمكن أن تتكامل مع الصفات الجينية لتعزيز فرص البقاء، الأفراد يتعلمون من تجارب الآخرين، تسمح لهم بنقل الصفات والسلوكيات المفيدة التي قد لا تكون موروثة جينيًا، مثل مهارات البقاء في بيئات معينة، بعض السلوكيات الثقافية تؤثر على الانتقاء الطبيعي، المجتمعات التي تفضل التعاون قد تعزز الصفات الجينية التي تدعم الروابط الاجتماعية، العوامل الثقافية تعزز من إحساس الأفراد بالانتماء، مما يمكنهم من التعاون معاً في مواجهة التحديات، وهو ما يزيد من فرص البقاء الجماعي، الثقافات التي تساعد الأفراد على التكيف مع التغيرات البيئية والاجتماعية، تؤثر على كيفية استجابتهم للمخاطر والتهديدات، التفاعل بين الجينات والعوامل الثقافية يشكل سلوك البقاء بشكل ديناميكي، بينما تساهم الجينات في تحديد بعض الصفات، تلعب الثقافة دورًا حاسمًا في توجيه السلوكيات والاستراتيجيات التي تعزز من فرص البقاء، تأثير (الانتقاء الثقافي) على الجينات هو مفهوم مثير يتضمن تفاعلات معقدة بين العوامل الثقافية والبيولوجية،  في بعض المجتمعات، تُفضل صفات معينة، مما يؤدي إلى اختيار الأفراد الذين يمتلكون هذه الصفات للزواج والتكاثر، وبالتالي زيادة تكرار هذه الجينات في الأجيال القادمة، الثقافات التي تشجع على التعاون والمشاركة، تعزز من الصفات الجينية التي تدعم الروابط الاجتماعية، مثل القدرة على التعاطف أو التواصل، وتزيد من فرص البقاء، بعض المجتمعات تعتمد على أنواع معينة من الغذاء(ثقافة التغذية)، مما يمكن أن يؤثر على الجينات المرتبطة بالاستقلاب والقدرة على معالجة العناصر الغذائية التي تعطي قيمة لصحة الأفراد و تؤثر على الانتقاء الطبيعي من خلال زيادة فرص الأفراد الأصحاء في التكاثر، مما يعزز الجينات المرتبطة بالصحة الجيدة. عند مواجهة تغيرات بيئية، يمكن أن تؤدي الثقافات إلى تطوير استراتيجيات جديدة تتطلب صفات معينة، مما يؤثر على الانتقاء الجيني، الانتقاء الثقافي يمكن أن يؤثر بشكل عميق على الجينات من خلال تشكيل البيئة الاجتماعية والثقافية التي تعزز أو تقلل من فرص بقاء الصفات الجينية، هذا التفاعل الديناميكي بين الثقافة والبيولوجيا يسهم في تطور الأنواع وتكيفها مع التحديات المختلفة.

الجنس واسترتيجيات البقاء

 يمكن أن يتعاضد الجنس والجينات لتعزيز البقاء لدى الإنسان بطرق متعددة، الأفراد الذين يختارون شركاء يعتمدون على صفات معينة، مثل الجمال أو القوة،  يعزز الصفات الجينية المفيدة عبر الأجيال، بعض الصفات مثل الكفاءة في التواصل أو التعاون، قد تكون جذابة وتؤدي إلى زيادة فرص التكاثر، بعض الأفراد يتبنون استراتيجيات تناسلية متعددة، مما يزيد من احتمالات البقاء عبر زيادة الفرص لإنتاج النسل، الأفراد الذين يمتلكون مهارات في توفير الموارد يمكن أن يكونوا أكثر جاذبية، مما يعزز فرص بقاء النسل، الجنس يعزز من الروابط الاجتماعية، مما يساعد على إنشاء شبكات دعم تعزز من فرص البقاء في مواجهة التحديات، الأفراد الذين يتعاونون في مجموعات يمكن أن يحققوا نجاحًا أكبر في الصيد أو حماية المجموعة، مما يزيد من فرص البقاء، الجنس يساعد في تقديم تنوع جيني، مما يجعل المجتمعات أكثر قدرة على التكيف مع التغيرات البيئية، مثل الأمراض أو المناخات المتغيرة، الأفراد الذين يمتلكون صفات جينية تدعم الاستجابة للتحديات البيئية يمكن أن يكونوا أكثر نجاحًا في التكاثر، مما يعزز من تكرار هذه الصفات في الأجيال القادمة، هذه الديناميكيات تساهم في تطور الأنواع واستمراريتها، الانتقاء الطبيعي يلعب دورًا حاسمًا في تعزيز البقاء وتطور الأنواع، الانتقاء الطبيعي هو الآلية الرئيسية التي من خلالها يتم تعزيز الصفات المفيدة وتطوير الأنواع، من خلال اختيار الصفات باتثير استرتيجيات الاختيار الجنسي تعزز من قدرة الأفراد على البقاء والتكاثر، كما يسهم الانتقاء الطبيعي في تشكيل التكيف والتطور عبر الأجيال.

الضغط الانتقائي والانقراض

مع التغيرات البيئية يمكن أن يتولد الضغط الانتقائي الذي يؤدي إلى ظهور أنواع جديدة أو تنوع في الصفات داخل الأنواع الحالية، الضغط الانتقائي هو آلية حيوية تؤثر على بقاء الأنواع وتطورها، من خلال تعزيز الصفات المفيدة والقضاء على الصفات الضارة، يسهم الضغط الانتقائي في تشكيل التنوع البيولوجي والقدرة على التكيف مع البيئة، رغم ذلك يمكن للضغط الانتقائي أن يؤدي إلى الانقراض من خلال عدة آليات، إذا تعرض نوع معين لضغوط بيئية كبيرة لا يستطيع التكيف بسرعة كافية، مما يؤدي إلى انقراضه، عندما تظهر أنواع جديدة تنافس الأنواع الحالية على الموارد، يؤدي الضغط الانتقائي إلى تراجع الأنواع الأقل قدرة على المنافسة، مما يؤدي إلى انقراضها، إذا تعرض نوع ما لمرض جديد لا يمتلك مقاومة له، يمكن أن يؤدي الضغط الانتقائي الناجم عن هذا المرض إلى انخفاض أعداد الأفراد، وبالتالي انقراض النوع، فقدان الموائل الطبيعية بسبب الأنشطة البشرية التوسع العمراني الوقود الاحفوري، يمكن أن يؤدي إلى زيادة الضغط الانتقائي على الأنواع، مما يسهل انقراضها، إذا كان عدد الأفراد في نوع ما قليلًا، قد يؤدي ذلك إلى تزاوج داخلي مما يقلل من التنوع الجيني ويزيد من احتمال انقراضه بسبب عدم وجود صفات مفيدة، الضغط الانتقائي يمكن أن يكون عاملًا رئيسيًا في انقراض الأنواع. من خلال التأثير على القدرة على التكيف مع التغيرات البيئية، يمكن أن يؤدي الضغط الانتقائي إلى تقليل أعداد الأنواع، وفي النهاية، إلى انقراضها.

دور السرديات التاريخية والضغط الانتقائي في الانقراض

السرديات التاريخية والضغط الانتقائي تتداخل بشكل معقد ويمكن ان تؤدي الى الانقراض الثقافي، السرديات التاريخية تساهم في تشكيل الهوية الثقافية والسياسية للشعوب ويمكن أن تعزز النزاعات بين الجماعات المختلفة وذلك باختيار بعض السرديات على حساب أخرى، مما يساهم في تعزيز روايات معينة وطمس أخرى،  قد يكون نتيجة للسيطرة السياسية أو الاقتصادية، حيث تسعى الجماعات القوية إلى فرض روايتها، و يمكن أن يحدث عندما تتلاشى تقاليد أو لغات أو ممارسات ثقافية بسبب الضغوط الاجتماعية أو الاقتصادية، وغالباً ما يرتبط بفقدان الهوية الثقافية، مما يؤثر على التنوع الثقافي، تعاني المجتمعات الشرق أوسطية من الضغط الانتقائي نتيجة تغول السرديات التاريخية، و النزاعات السياسية والدينية تؤدي إلى تعزيز سرديات معينة، مما يساهم في تهميش روايات أخرى، الحكومات والجماعات القوية تفرض سرديات تاريخية خاصة بها لتعزيز شرعيتها، مما يؤدي إلى تراجع السرديات البديلة، تتسبب السرديات السائدة في تعزيز الانقسام بين الجماعات المختلفة، مما يزيد من التوترات الاجتماعية وتعزز الضغط الانتقائي الثقافي ويؤدي إلى فقدان بعض الثقافات أو اللغات، مما يهدد التنوع الثقافي في المنطقة تتطلب معالجة هذه التحديات تعزيز الحوار والتفاهم بين الثقافات المختلفة، بالإضافة إلى دعم جهود الحفاظ على التنوع الثقافي.

***

غالب المسعودي – باحث عراقي

منذ أن تلقى العرب صدمة (الحداثة) الغربية على مشارف القرن التاسع عشر، وهم ينقسمون الى فئتين متعارضتين لا قاسم مشترك بينهما سوى (التعصب) لهذا الجانب أو ذاك، لهذا التيار أو ذاك؛ فئة تتعصب ل(التراث) بقضّه وقضيضه، وأخرى تتعصب ل(للحداثة) بحسناتها وسيئاتها، دون أن يتمكن مريدوا الاتجاهين من الاهتداء الى سبيل واقعي ومنهج عقلاني يجنبهم مساوئ (الإفراط) في كيل الايجابيات والمناقبيات بمناسبة وبدون مناسبة من جهة، وينأى بهم عن محاذير (التفريط) بما تنطوي عليه تلك المواقف من سلبيات وسيئات لا ينبغي الغافل عنها والتجاهل لها من جهة أخرى.

وعلى الرغم من وجاهة بعض أفكار وآراء كلا الفريقين من المؤيدين والمعارضين، لجهة تشخيص السلبيات وتأشير السيئات التي يجدها البعض لدى البعض الآخر، إلاّ أنهم أثبتوا عجزهم التام في تخطي نقاط الضعف في مواقفهم الحديّة وتصوراتهم النسقيّة، حيال إقرارهم بوجود بعض الإيجابيات والحسنات لدى وجهات نظر كلا الطرفين المتناقضين والمتعارضين. وهو الأمر الذي يدلل على مدى تورط الجميع في الانخراط بنوازع (التعصب) للذات و(التطرف) ضد الآخر، حتى دون مراعاة لمناقبيات العلوم والمعارف التي يمثلها أعضاء كلا الاتجاهين، للحدّ الذي يتعذر على أحدهم الاعتراف باحتواء أفكار خصومه وآرائهم بعضا"من الحقائق والوقائع، بوازع من خشية احتساب ذلك من علامات الضعف في مواقفه ومتبنياته المتصلبة والهدر في قيمة اعتقاداته وتصوراته المبتسرة. والحال تستوي في هذا الأمر خطابات كلا التيارين المعنيين؛ التيار (الحداثي) المتعلمن والتيار (التقليدي) المتأسلم.

وإذا ما أنعمنا النظر ودققنا في مضامين كلا الخطابين المعنيين، سنلاحظ إنهما يتشابهان ويتماثلان من حيث ردود فعلهما إزاء كل ما يتعلق بمواريث الماضي وسرديات التاريخ، باستثناء كونهما يتناقضان ويتعارضان حيال طبيعة تلك المواريث والسرديات وما تحمله من قيم وما تمثله من إيحاءات. وهكذا فإن خطابات (التقليديين) نحو الموروث التاريخي والفكري للمجتمعات العربية والإسلامية، وإن وأبدت تحمسها العاطفي الذي يرقى في بعض الأحيان الى مستوى اللاعقلانية، إلاّ أنها مع ذلك تبدو منسجمة مع ما تتبناه من مواقف وما تطرحه من تصورات، من خلال تماثلها النسبي بين ما تقول على صعيد الفكر وبين ما تفعل على صعيد الواقع. هذا في حين تبدو مضامين خطابات (الحداثيين) كما لو أنها تغرّد خارج السرب، ليس لأنها غير قادرة على فهم معطيات الواقع وتحليل مكوناته وإدراك سياقاته واستشراف مآلاته، وإنما لكونها لا تفتأ تكرر ذات الخطأ الذي لا تني نظيرتها (التقليدية) من التمسك به والرهان عليه , وذلك من حيث نفيه وتجاهله لأية قيمة سوسيولوجية أو ابستمولوجية يمكن استخلاصها من بقايا ورواسب ذلك الموروث الغني بالذاكرات والتمثلات.

وفي خضم تضارب هذه الرؤى وتقاطع تلك التصورات، قلما نجد بين الخطابات (الحداثية) المتكاثرة من ينصف الموروث أو يكنّ له أي اعتبار، حتى لو كان يحمل بين مطوياته بعضا "مما يمكن استثماره وتوظيفه في مساعي تحليل إشكاليات الواقع ومعالجة مشاكله، لاسيما تلك التي لا تزال تمتح من نسغ أصول الماضي الشيء الكثير، مثلما لا تني تتوالد وتتناسل في الحاضر المأزوم بمتواليات هندسية منفلتة لا ضابط لها. ولعل في مراجعة خطابات بعض (الحداثيين) العرب ما يعكس هذه الحالة السلبية ويعزز من وجودها المعيب. فلو أخذنا على سبيل المثال لا الحصر بعضا"من خطابات هؤلاء، فإننا سنقع على الكثير من المفارقات التي لا تنسجم مع ما توجهات هذه الثلة من النخب، حيث يعتبر (التراث) بالنسبة لهم بمثابة (الدريئة) التي تتلقى الطعنات العشوائية من دون تمييز، سوى أنها أطفأت لديهم جذوة الثأر والانتقام من هذا الشاخص الجامد والصامت.

والحال ان (التراث) المدان مثله في ذلك مثل (الحداثة) المحتفى بها، ليس كل ما فيها (جيد) و(صائب)، كما ليس كل ما فيها (رديء) و(عائب)، إذ أن كل معطى اجتماعي أو إنساني يشتمل على وجوه ومستويات عدة تعكس الخاصية النوعي للطبيعة البشرية التي يتجسّد فيها كل ما هو (نسبي) و(تاريخي). ولذلك فإن رصانة الباحث (الحداثي) وموضوعيته تتجلى وتتمظهر، ليس فقط في تصيّد السلبيات ورصد الانحرافات التي لا يخلو منها أي (تراث) بشري فحسب، وإنما في تشخيص الايجابيات وتعيين الفوائد التي ينطوي عليها؛ لا بقصد المقارنة بين هذا الجانب أو ذاك، وإنما لأجل نقد السلبيات وتقويم الانحرافات من جهة، ووضع الحسنات والايجابيات موضع الاستثمار في البناء الاجتماعي والإسهام في الارتقاء الحضاري.  

***

ثامر عباس – باحث عراقي

مقدمة: ليس الاحتباس الحضاري مجازًا بيئيًا يُستعار لوصف أزمة ثقافية، بل هو توصيف واقعي لحالة انسداد حاد في الديناميات العقلية والاجتماعية التي يُفترض بها أن تُنتج تحولًا تاريخيًا. نحن لا نعاني من تأخر في النمو، بل من انقطاع في الوظيفة التاريخية للعقل العربي، ذلك العقل الذي أصبح أسيرًا لثلاثية مدمّرة: الجمود المعرفي، التعطيل الأخلاقي، والانحدار السلوكي.

أولًا: الجهل المُمَأسس وانهيار البنية المفهومية

الجهل في السياق العربي لا يُفهم بوصفه غيابًا للمعرفة، بل هو منظومة معرفية قائمة بذاتها، تقوم على تكريس آليات الإدراك الجاهز، وترفض مساءلة البديهيات. إن أخطر ما نواجهه ليس الفقر في المعلومات، بل الشلل في إنتاج المفاهيم، مما يجعل العقل العربي يعيش على هوامش الحضارة دون أن يمتلك أدوات الدخول فيها.

يقول المفكر العراقي الدكتور فالح عبد الجبار: المجتمع الذي لا ينتج مفاهيمه، لا يستطيع أن يُنتج تاريخه.

في هذا الإطار أُبيّن: العقل الذي لا يسأل، لا يجهل لأنه لا يعرف، بل يجهل لأنه لا يعترف بعدم المعرفة، وهذه هي أمُّ الجهالات.

ثانيًا: تحلل منظومة القيم وتحول الأخلاق إلى آلية للضبط

لا يُقاس تراجع المجتمعات فقط بانهيار مؤسساتها السياسية أو الاقتصادية، بل بفقدانها لمعايير التمييز الأخلاقي بين الفعل الصحيح والفعل النافع للسلطة. الأخلاق هنا لم تعد نابعة من العقل الجمعي، بل من شروط الضبط الاجتماعي. ومع انتشار الرياء والقيم الانتهازية، أصبحت الأخلاق أداة تزيينية تخدم الاستقرار، لا التجاوز.

 يشير الدكتور علي الوردي إلى هذه الأزمة بقوله: العقل البشري يُصاب بالجمود حين يضع الأخلاق في قوالب لا يجوز المساس بها، ويجعلها غاية لا وسيلة.

 أقول: حين تُغلق الأخلاق باب السؤال وتفتح باب التبرير، تتحول من وازع داخلي إلى آلية تسكين لضمير جماعي ميت.

ثالثًا: البنية العقلية الطاردة للنقد

المجتمعات التي تُقصي النقد هي مجتمعات تُقصي العقل نفسه. فنحن لا نعاني من نقص في النخب، بل من بنية ذهنية شمولية تُقصي أي خطاب تفكيكي وتُعلي من التلقين والتبجيل. العقل الناقد في السياق العربي يُصنَّف ضمن خانة الوقاحة الفكرية، لا ضمن ضرورات البناء المعرفي.

يقول الفيلسوف العراقي ياسين خليل: أخطر ما نواجهه ليس الاستبداد السياسي، بل الاستبداد المعرفي الذي يُنتج عقولًا لا ترى إلا ما يُراد لها أن ترى.

 أقول: من لم يتعلّم كيف يزعج يقين جماعته، لن يُنتج فكرة تُزعزع العالم.

لقد أنتج هذا المسار ما يمكن تسميته بـ الغباء البنيوي، وهو ليس سلوكًا فرديًا، بل نظام إدراك يُعيد إنتاج الرداءة، ويرفض تعقيد المسائل، ويُبسط القضايا الفكرية إلى ثنائيات مريحة لا تستدعي التفكير.

رابعًا: لماذا لا نتغير؟ تشريح علّة الاحتباس الحضاري

إن مجتمعاتنا تفتقر إلى ما يسميه علماء الاجتماع بالبنية القادرة على التعلّم الذاتي، أي تلك التي تخلق نقدًا دوريًا لمفاهيمها، وتعيد ضبط أدواتها الفكرية وفقًا لمتغيرات العصر. هذا الغياب هو الذي يؤدي إلى ما نصطلح عليه بالاحتباس الحضاري، حيث تصبح الثقافة عبئًا على المستقبل بدل أن تكون جسرًا نحوه.

 يقول الدكتور حسن العلوي: العرب لا يكرهون الماضي، بل يسكنونه.. يعيشونه كأنه الحاضر، ويُعلّقون عليه فشلهم في المستقبل.

أقول: لسنا متأخرين زمنيًا، نحن متأخرون مفهوميًا، فزمننا يُستهلك دون أن يُهضم، والتاريخ لا ينتظر عقولًا تعيش في تكرار ذاتها.

خامسًا: تفكيك الاحتباس… ليس دعوة للإصلاح، بل للقطيعة

إن معالجة الاحتباس الحضاري لا تتم عبر دعوات إصلاح سطحي، بل تتطلّب قطيعة معرفية صارمة مع المنظومات القائمة:

قطيعة مع التعليم التلقيني الذي ينتج العجز.

قطيعة مع الخطاب الديني الشمولي الذي يحرّم التفكير.

قطيعة مع السلطة السياسية التي تُقصي العقل لحماية استبدادها.

وقطيعة مع المثقف الذي تحوّل إلى موظف في بلاط النفاق الجمعي.

 أقول: العقل الذي لا ينتج شروط نجاته، يستحق الانقراض؛ والوعي الذي لا يملك شجاعة القطيعة، لن يلد تاريخًا.

خاتمة

نحن لا نعيش في عصر الانحطاط، بل في عصر الإنكار المنهجي لهذا الانحطاط. الاحتباس الحضاري ليس مجرد خلل، بل هو إعلان عن نهاية مرحلة تاريخية فاشلة لم تتمكن من بناء ذاتها أو نقد نفسها.

وهنا يكون السؤال الأخلاقي والفلسفي معًا:

هل ما زال بالإمكان بناء تحوّل حقيقي دون أن نمارس خيانة فكرية تجاه ما نحن عليه؟

 في هذا السياق أُبيّن: لن نولد من رمادنا، إلا حين نحرق أوهامنا أولًا؛ فمن دون خيانة ذواتنا القديمة، لا معنى لأي ولادة فكرية.

الجواب ليس في الحنين، ولا في الرغبة، بل في امتلاك الجرأة على تسمية الأشياء بأسمائها، وتحطيم الأوثان الذهنية التي قيدت الوعي العربي لأكثر من قرن.

***

الكاتب سجاد مصطفى حمود

 

من السنن الجارية في الأديان وطبيعتها أنها تتضمن ثنائيات متعددة كثنائية القيم من خير وشر وحسن قبح وثنائية المصير (الجنة والنار) وثنائية اليمان والكفر التي تختزل تصنيفا للبشر على اساس مثول الإيمان في العمق الوجودي من عدمه، والايمان من ابرز تجليات الدين في الطبيعة البشرية وهو الذي تحول فيما بعد الى (قانون تصنيف) يكرس حالة الانتماء الديني، بالنحو الذي جعل من الدين جهة ذات أسيجة صارمة وحادة، أمام اشتراطات التعددية النوعية والتعايش السلمي ومرونة الاستيعاب والقبول للآخر، وفي تقديري لم يكن من هم  الدين تكريس تلك الثنائية (الايمان والكفر) ولم يقدم نفسه على أنه جهة قابلة للانتماء بقدر ما كان همه تكريس ذاته (أي ذات الدين) في الوجدان الإنساني وترسيخ هويته الإيمانية في نفوس البشر، ولم يكن ينبغي توظيف الايمان كانتماء بل كهوية كونية يشترك فيها الجميع، وفيما بعد تحول الإيمان من حالة وجودية كامنة في عمق الإنسان إلى حالة تتمظهر بالشكليات ليصبح هوية وانتماء في الوقت ذاته، وهذه المشكلة ربما تتطلب بحثا مستقلا لكنها على صلة وثيقة بما نحن بصدده من مسألة التكفير وممانعته في بناء القيم الإنسانية، والذي يمثل نتيجة حتمية لقراءة الإيمان الديني على أساس كونه انتماءً، ونحن نفرق بين كون الإيمان (هوية) وكونه (انتماءً) فالهوية ذات امتداد طولي عميق يتصل بوجود الإنسان الداخلي، في حين تبدو امتدادات الإنتماء أفقية تنحو منحى الإقصاء للآخر (المختلف)، وهو ما سيتم تفصيله لاحقا.

ومسألة التكفير من المسائل التي تبحث – دينيا- في إطار الفقه والكلام معاً، ذلك أنها ترتكز على ثنائية الإيمان والكفر في بنيتها الأساس، وفي العصر الراهن طالما اقترنت ظواهر العنف الديني بالتكفير، وكان الأخير العامل الأساس وراء نشوء تلك الظواهر، فلولا الحكم بكفر الآخر لم يكن من الجائز جهاده وقتاله بحسب معطيات الفقه والكلام.

إن مشكلة التكفير ترتبط أساسا بمشكلة الإيمان، فقراءة الإيمان بنحو يكرس جهوية الإيمان، وممانعته من تقبل الآخر (غير المؤمن)، تجعل من التكفير نتيجة طبيعية وردة فعل تلقائية تجاه ما هو مختلف..

لم يفهم الإيمان على أنه يقين واطمئنان وسكون تدريجي نحو المقدس، بل أصبح محمية بلون واحد تكسي من يدخلها طابعها الخاص دفعة واحدة وتخلع عن من يخرج منها كل ما يتصل بوجود الإنسان وكرامته، فالإيمان بمعناه التقليدي والمتشدد لم يمنح الفرد إنسانية مضافة حينما قبله ولم يزدد الفرد أي معنى في دخوله التقليدي للدين، في حين ثمة مفارقة في عملية الخروج، فالتدين التقليدي بالرغم من عدم إضافته للفرد أي معنا إنسانيا راح يتسبب بخلع كل المعاني عن الفرد عند خروجه مرتدا أو كافر.. فيأخذ من الآخر (الخارج) ما لم يعطه مسبقا، ويعطي للمؤمن مالم يفتقده مسبقا، هذه المفارقة كامنة في الفهم البشري للدين، لتنعكس على ممارسات تندرج في ضمن الدين تدريجيا.

التكفير في منطق الفقه..

التكفير في منحاه الفقهي يشغل الموقع غير المناسب، فلم يكن من شأن الفقه أن يتناول ايمان الفرد، وقياسه، والحكم عليه، وما يقتضيه الضمير الاخلاقي هو عدم اجتزاء الدين بالفقه، واقصار الايمان الديني على ما يستظهره الفقه من معايير تحدد مصير الانسان ووجوده عبر معايير شكلانية، تفتقد المحتوى الأخلاقي، يذكر الرفاعي أن : (منطقُ الفقه الذي يعرفه كلُّ خبير بمدونته لا ينظرُ للأخلاقِ، ولا يعتمدُ العقلَ الأخلاقي مرجعيةً، بل لا يتنبهُ حين يكون على الضدِّ منها أحياناً. المهمُّ عند اختبار مكانة الفقيه العلمية في الاستنباط هو براعتُه في التطبيق الميكانيكي للقواعد الأصولية وغيرها في عملية الاستنباط، وكأنه بمثابة الخبير بالرياضيات، الذي تُختبَر براعتُهُ في استيعاب المعادلات والقواعد وتطبيقها لحل مختلف المسائل الرياضية المعقدة. وقد انتهى ذلك إلى أنّ بعضَ الآراء في مدونةِ الفقه الإسلامي كانت على الضدّ من أحكامِ العقل العملي "الأخلاقي) ، فيشير الى هيمنة الشكل على القيمة، والتنظير على الواقع، وسلامة القضية منطقيا على مخرجاتها في الواقع، فالتركيز مثلا على أفعال الصلاة وكيفيتها من الناحية الشكلية ذو غلبة واضحة على أهمية المحتوى القيمي والمعنوي للصلاة، وكذلك في بقية الأفعال التي يتكفل الفقه بتنظيمها من الناحية العملية التي لا تتجاوز سقف الكيفية، فيما يبقى الجانب النوعي مهملا الى حد ما، وهو ما يفرض ضرورة اكساب الفقه (في مخرجاته السلوكية) أفقا أخلاقيا يتوخى تحقيق المعنى الذي يتصل بالجانب الروحي بنحو يتجاوز حدود كيفية التطبيق التي تحكم شكل الأفعال فقط.

إن اهتمام المعرفة الفقهية بالشكل دون المحتوى لهو علامة بارزة في نمط البحث الفقهي الذي أمسى حبيس الدلالة الحرفية للنصوص التي توجه السلوك الإنساني، من دون الاكتراث إلى ما تؤول إليه الأفعال من معنى إنساني أو أخلاقي، بل تحيل في ذلك إلى الخطاب الوعظي الذي يقف عند حدود قاصرة عن التأثير في الذات الإنسانية، وبالتالي يكون الفقه ذا مدى محدود من بلوغ مراماته التي من أجلّها القيم الأخلاقية.

ويشير يحيى محمد من أنه لا ضرورةَ في منطق هذا التفكير لأن تتطابق الفتاوى والأحكامُ الفقهية مع أحكامِ العقل الأخلاقي والمعاييرِ القيمية الإنسانية المتفق عليها بين العقلاء، مثل حقوق الإنسان بوصفه إنساناً، وإنما المهم في منطق التفكير الفقهي أن تكون النتائجُ الفقهية حاكيةً عن مقدّماتها من القواعدِ الأصولية والفقهية وغيرِها من الأدوات المستعملة في استنباطِ الأحكام بشكلٍ صحيح، وإن كانت مفارقةً في مضمونها لمقاصدِ الشريعة وأهدافِ الدين وقيمِه المعنوية ومعاييرِه الأخلاقية ، وفي ضوء تلك التصورات فالقيم لم تكن حاضرة في المنهج الفقهي، مع أن النصوص التي يعتمد عليها الفقيه هي ذاتها التي تؤسس للمنظومة القيمية، لكن يمكن الملاحظة على ما أشاروا اليه من عدم حضور القيم في المنهج الفقهي عبر ما أشرت إليه سابقا حول تخصص الفقه وأنه علم قائم بقواعد خاصة بعيدة عن التنظير للقيم، ومع وعي حقيقة المشكلة فإن مخرجات الفقه ربما تتعارض مع بعض القيم الراسخة، وهو ما يستدعي أن تكون هناك لائحة تشتغل على مساحة (فلسفة التشريع) تؤدي بدورها إلى إبراز الجانب القيمي في الشريعة الاسلامية، وهو الجهد الذي طالما يتم إهماله للأسف، فالحركة العلمية تغور بالاستدلال وتفاصيله الدقيقة من دون وضع ركائز عامة للتشريع تعالج كل ما يطرح من شبهات معاصرة حول الاحكام التي ينتجها الفقه، ولا يعني ذلك أن يتم التغافل عن حضور القيم في التفكير الفقهي، لأن نسيانُ الأخلاقِ، وعدمُ الاكتراثِ بحقوقِ الإنسان بوصفه إنساناً، من أهمّ أسباب إخفاق الإسلاميين في بناء الدولة اليوم، بعد أن اختزلوا الإسلامَ في الفقه، وأضحت الفتوى الفقهية مشجبَهم لتسويغ كلّ فعل ينتهك حقوقَ الوطنِ والمواطن، ويفرغ الدينَ من محتواه القيمي الأخلاقي؛ لأنه يسهل على بعضهم الحصولُ على فتوى تشرعن ممارساته، وإن كانت لاأخلاقية ، ان تحديد تلك الاشكالية لا يسلب الفقه الاسلامي اصالته ومشروعيته بأي حال، لكن المنهج الذي يقوم عليه اي علم يقبل النقد كأي من العلوم الاخرى، وفيما يؤكد على الروح والمضمون للحكم الفقهي يطرح اشكالية الفقه الشكلاني التي يتحمل (أصول الفقه) جزءا كبيرا في تكريسها، ذلك أن أصول الفقه يتحرك بعقلية أداتية تعمل بمنحى آلي تحت تأثير المنطق الارسطي الذي يقف عند صورة المفهوم من دون احتكامه إلى الواقع، وكمثال بسيط عن مشكلة المنطق الارسطي يمكن اعتبار كل ما يقبل الحقن بالحبر (قلما) من دون اعتبار كونه يكتب او لا يكتب، بينما يرفض الواقع أن يعتبر القلم الذي لا يكتب قلما إلا إذا كان صالحا لكتابة..

إن التوسع في أسباب الكفر والتكفير مما يعد مشكلة في تضخم العقل الفقهي على حساب الحس الأخلاقي، حتى أفضى إلى الاعتباط في التكفير وعدم الاكتراث بنتائج التكفير من حيث ترتب آثاره من نجاسة الكافر فضلا عن وجوب قتله، وإغفال واضح لحرية الانسان في الحياة الدينية، مما انعكس سلبا على الحياة الاجتماعية من نشوء الفئوية الدينية التي تستبع أقسى ممارسات الإقصاء والعنف الديني.

لذا ينبغي التعامل مع لوائح التكفير في المدونة الفقهية من منطلق معايير الاخلاق الدينية الذي يعد عنصرا حاكما على اجرائيات الفقه، ولا يمكن اجتزاء المعطى الفقهي وتعميمه على الواقع الانساني مع اغفال المحددات الاخلاقية للتفكير الفقهي، إذ لم يكن فقه التكفير ناشئا في أحضان رؤية دينية مستوعبة للإلزامات الأخلاقية، بل كان ذلك الفقه قد نشأ بمعزل عن الاحتكام الى رؤية شاملة تتضمن شروط الحرية والكرامة الانسانية مستحضرةً كل ما يتصل بضرورة الحفاظ على الضمير الأخلاقي عبر قراءة متوازنة بين متطلبات الأخلاق وما تنتجه قراءات الفقهاء للنصوص الدينية تلك القراءات التي طالما كانت بمنأى عن مآلات الحكم الفقهي في واقع الحياة الإنسانية.

على أن ذلك النقد لا يعني عزل الفقه أو تقويضه بقدر ما يعني إحلال الفقه في موقعه الطبيعي، وعلى حد ما ذكره حيدر حب الله من معارضة تنامي الفقه وتضخمه إلى حد غياب الروح الأخلاقية، ومعارضة تقديم الفقهاء على المفسرين والعرفاء والفلاسفة بوصفهم الناطقين باسم الدين دون غيرهم، نحو فهم خاص للدين يجعل الفقه مجرد ضلع من أضلاعه، ويمنحه موقعه الطبيعي في إدارة حياة الناس.. .

اتجاهان في مفهوم الكفر:

إن علماء المسلمين على اتجاهين في رؤيتهم لمفهوم الكفر:

الاتجاه الاول: يميل إلى توسعة مفهوم الكفر تجنبا للإخلال بالضبط المنطقي، كما في قولهم أنه : (إنكار لما علم مجيئه بالضرورة) وهذا التعريف وإن كان فيه تجنب واضح للخوض في تفاصيل مع يقع عليه الإنكار إلا أنه يؤدي –بحسب الواقع- إلى الاعتباطية في الانطباق على مصاديق متكثرة، تجعل من التعريف وسيلة للإدخال الكثير من المصاديق تحت ما يعلم مجيئه بالضرورة، فالمشكلة في تحديد ما هو ضروري وما هو غير ضروري.

فيما يوضح الاتجاه الثاني:

أن الإنكار يتعلق بالربوبية والوحدانية والرسالة، وهو لا يتعارض مع الاتجاه الأول بل يضيق مداه إلى دائرة أكثر انضباطا من ناحية تغلغل المصاديق الدخيلة تحت طائلة الاعتباط..

فالربوبية يشير إنكارها إلى معنى الإلحاد، والوحدانية يقابلها الشرك، والرسالة يقابلها تكذيب النبي (صلى الله عليه واله)  ، وهذه الثلاثة تعد معايير أساسية إلى حد ما، لكونها تتناسب مع مضمون الشهادة الذي يؤكد على الإذعان بالله وبرسوله.

لأن الكفر هو جحد الضرورات من الدين أو تأويلها ولم تأت في نفيها آية قرآنية ولا حديث آحاد فضلا عن متواتر وأما مخالفة غلاة المتكلمين في دقائقهم فلم يقل أحد أنها كفر وإلا لوجب تكفير أكثر أهل الاسلام بل خيرهم(1).

الخصوصية الكونية للإيمان:

الكونية مصطلح يرمز إلى مفاهيم دينيّة، فلسفيّة حول الكون يقترب مما ينطبق على كلّ شيء. إنّه مفهوم يشمل جميع الناس في كينونتهم، وفي الدين، تعد الكونيّة مبدأ يؤكّد انصياع جميع الناس تحت ارادة ورعاية الخالق، وتؤكّد على أنّ الكون تحت تصرّف الخالق(2).

ان الايمان بوصفه موقف وجودي انساني يربط الانسان بتجليات المطلق على مستوى الوجود أو القيم يمكن أن يعد من المفاهيم الكونية التي يشترك فيها جميع البشر وبمختلف اتجاهاتهم الدينية والفكرية، فالإنسان هو الكائن الوحيد الذي لديه قدرة التفكير والميل نحو المعتقد والانتماء لمختلف المنظومات الدينية مما يجعله كائنا مؤمنا، وصفة الكونية تتيح الى جعل الايمان كينونة بشرية دائمة ومشتركة تستبطن حقا عاما لكل فرد من منطلق حرية الفكر باعتناق اية مضامين قابلة للإيمان، وبالرغم من الحاكمية العقلية على نقد مختلف اشكال الأصول الايمانية فإن ذلك لا يمنع حق الاختيار الانساني للقضايا الإيمانية بالنحو الذي يجعل من الايمان عنصرا محوريا في نشاط الانسان الروحي والذي لا يمكن إلغاءه من جهة كما لا يمكن فرضه على الآخرين من جهة أخرى، وهو ما تفيد به جملة من النصوص الدينية.

وعلى هذا الاساس يمكن ان يكون التكفير بما يحمله من وسائل الاقصاء والالغاء عاملا مجانبا بل مناقضا لكونية الايمان، واذا سلمنا بوجود قيم كونية مشتركة بين البشر فإن الثابت منها لا يلغي حق الانسان في اختيار معتقده وممارسة نشاطه وحركته الايمانية.

وهنا يصبح الايمان في إطاره الوجودي هوية إنسانية لها استحقاقاتها ومكتسباتها التي تكرس اجرائيات الحماية والتنظيم للنشاط الايماني الذي اتسمت به الطبيعة البشرية ليكون عنصرا أساسا في كينونتها ووجودها.

فلا يمكن لفقه التكفير أن يقفز على تلك الحقيقة الكونية بتعميم أحكامه على خلع انسانية الانسان بمجرد تمايزه الاعتقادي، وهو ما يتنافى أساسا مع طبيعة النبوات التي جاءت لتنشر التجربة الايمانية بوسائل لا تتجاوز طابعها المعرفي عبر استثمار مسوغات الوعي والنزوع نحو التقبل الروحي لمختلف تصورات وقضايا الايمان الديني، إذ لم يكن العنف الديني حاضرا في قاموس التجارب النبوية سوى في حدود ظرفية استثنائية تم تعميمها تاريخيا مما أفضى إلى التباس واضح بين ما هو ديني وما هو تاريخي.

***

د. أسعد عبد الرزاق الأسدي

..................................

(1)¬ ظ: الحسني القاسمي، محمد بن إبراهيم بن علي بن المرتضى بن المفضل، إيثار الحق على الخلق في رد الخلافات الى المذهب الحق من أصول التوحيد: 223.

(2) - ظ: ندره اليازجي, مفهوم الكونية, موقع الكتروني

هرع اللغويون العرب صوب دراسة النص الديني المقدس والنصوص النبوية وما خلفتها من نصوص دينية متلثمين بنظريات اللسانيات المعاصرة التي طفقت تفكك النصوص الدينية المسيحية في الغرب، وهم في ملحمة ظنية بأنهم يخدمون الدراسات الدينية الإسلامية، لكن الحقيقة التي تكمن وراء هذه الاجتهادات لا يمكن توصيفها تحت باب التجديد ا، حتى الاجتهاد؛ ذلك أنهم كانوا يسعون إلى نقد النص الديني بإطلاقهم عليه لفظة خطاب، الأمر الذي دفعهم حسب مظانهم التي تبدو لنا مريضة بعض الشئ على استحياء الاتهام بالكل ـ إلى إبراز أخطاء ومثالب تكمن بتلك النصوص.

ومن باب العجب أن مجمل أعمال الحداثيين العرب رغم اختلاف توجهاتهم وتكوينهم الأيديولوجي الذارب في تشويه الماضي برمته أنهم كانوا ولا يزالون يطالبون بإعادة النظر في النص القرآني المقدس وضرورة تأويله وفق مزاعم نظريات علم اللغة واللسانيات الحديثة التي تعضد تفكيك النصوص اللغوية وإعادة بنائها وتركيبها من جديد، أو خوض مغامرة إخضاع النص الديني لقراءات متعددة؛ تاريخية وألسنية، وأنثروبولوجية، وسيميائية، وأخيرا قراءة لاهوتية، الأمر الذي يخرج النص من قداسته إلى رهانات تأويلية مبتذلة محكوم عليها بفقد رصانة التفسير والتحليل.

وينبغي على القارئ العربي أن يفطن إلى ثمة مؤامرات ثقافية استعمارية مفادها أن الغرب لم يعد يحارب بأسلحته التقليدية التي بات العرب يمتلكونها بل يستخدمونها بشراسة أيضا، لذا فكانت الحرب الراهنة هي حرب تشكيكية زاعمة بأن القوة الآن هي قوة الفكر الحداثي الذي يعطي العقل المكانة الأعلى فقط في نقد النصوص الدينية أو التاريخية أو النصوص التي تتعلق بالموضوعات الدينية الراسخة لدى عموم المسلمين.

الكارثة أن حفنة وجملة من المفكرين العرب الذين درسوا المناهج اللغوية الغربية ودرسوا على أيدي كثيرين ممن يطعنون في دياناتهم الأصلية تأثروا جد التأثر بتلك النظريات والمناهج التي يمكن استخدامها وتوظيفها في خطابات شعرية لأدونيس ومحمود درويش وأنسي الحاج وغيرهم أو كتابات روائية معاصرة فهي نماذج نقدية بشرية تصلح لمعالجة نماذج لغوية بشرية أخرى تماثلها في الكفاءة والطرح والتلقي، لكن لا يمكن استغلالها في تأويل النص الديني الراسخ والثابت والمحفوظ بعهد من الله عز وجل.

ومجمل زعم هؤلاء رفض تقليد الأوائل من جهة، وبث روح التمرد والرفض بل ومقاومة التراث العربي الإسلامي من جهة أخرى، تماما كما وجدنا ذلك في نص الدراسات اللاهوتية التي تناولت الكتاب المقدس منذ مطلع القرن الثامن عشر في أوروبا.

بل إن موجات الهوس لدى بعض الحداثيين العرب وصلت إلى شواطئ بعيدة ترى ضرورة تقييد النص الديني بزمانه وبيئته وجغرافية إنتاجه وكثيرا في حدود ثقافة وجوده أيضا.

وبعد دراسة مفهوم الحداثة المزعومة لدى الكتاب العرب الذين هرعوا إلى نقد النص الديني تارة، ونقد ودحض الخطاب الفكري العربي تارة أخرى من أمثال عابد الجابري ومحمد أركون وغالبا نصر حامد أبو زيد وحسن حنفي وعبد المجيد الشرفي وأدونيس وقاسم شعيب وغيرهم ممن أصابه قلق الحداثة وتوتر الفكر اللساني المضطرب هوية وجهة وتكوينا يمكن تحديد دلالات الفكر الحداثي العام لدى مؤسسي هذا التيار والتي يمكن استنطاقها من خلال كتاباتهم الضاربة في الانتشار مثل الإيمان المطلق بالإنسان وخبرته وتجربته الفردية الذاتية بل إبراز قدرة هذا الإنسان ـ المكلوم ـ على الخلق والإبداع وتطوير العقل، وهم بالضرورة يقصود الخلق اللغوي المتمثل في القصيدة والرواية والقصة والمسرحية والطرح النقدي للأجناس الأدبية المختلفة، لكن هوس القلق المستدام جعلهم ينادون بالإيمان المطلق لاستقلالية المرء، وسلطة العقل التي لا تفوقها أية سلطة أخرى، وأن سلطان العقل لن يعتلي سدة الحكم والقوة والسيادة إلا بالقضاء على مرجعيات الماضي والتراث بوصفهما منغصات التجديد والتنوير.

وكان أول مشروع يدشنه أي مفكر تبنى فكر الحداثة الغربية الذي فشل بالغرب قبل إعادة إنتاجه بالبيئة العربية هو الثورة المطلقة والمستدامة بغير انقطاع على المرجعية الدينية، وأن إخضاع الدين وقضاياه لمنهجيات العلم التجريبي والأهواء الفردانية وتجارب الشخص الذاتية أمر لحتمي لا يمكن الفكاك من أسره إذا أردنا ـ من وجهة نظر هؤلاء ـ التطوير والتحديث لمجتمعاتنا العربية.

هذا ما دفع الكاتب المغربي قاسم شعيب في كتابه (فتنة الحداثة) المنشور عام 2013 وهو من الكتابات المعاصرة في هذا الميدان إلى إبراز الرؤية الحداثية التي تتمثل في سيادة العقل أو ما أسماه بالعقلانية المادية، وأن الحقيقة تستمد قيمتها من كونها نتاجا للعقل الإنساني لتصبح الذات مركز العالم. وبالرجوع إلى المكونات الرئيسة للفكر الحداثي الذي ضرب المجتمعات العربية بالحيرة والجنون في انتفاء التطبيق السوي للسانيات الغربية نجد على سبيل المثال التفكيكية التي يشير إليها دين محمد مير اصاحب في كتابه (الحداثية وتحدياتها للتفسير القرآني) بأنها تمثل مظهرا صادقا لليأس والحيرة الذين أصيب بهما الإنسان في الغرب والتي نتجت عنها الاستهلاكية المتطرفة.

وهذه النظريات اللسانية النقدية وغيرها مما تم استيراده من الغرب الأوروبي نجمت عن العطب الذي أصاب الحضارة في تلك المجتمعات وأدت إلى سقوط المرجعيات التي تم توصيفها بالتقليدية البائدة بل والرجعية أيضا، وتمثلت مظاهر الحداثة الفكرية في تلك المجتمعات في نقد الدين ورموزه وموضوعاته، ونقد ودحض الفكر الموروث، ثم إعلان بيان تأسيسي جمعي للقطيعة مع الماضي برمته.

هذا الرفض المطلق للأسف أودى بأصحاب تلك النظريات اللسانية والنقدية وبتناولهم للنصوص الدينية المقدسة في الغرب الأوروبي إلى رفض الدين المعادل الموضوعي للإلحاد؛ ومن ثم إنكار التشريعات الإلهية ورفض سلطة الوحي، والكارثة هي نقل التجربة النقدية الغربية الصالحة لمجتمعات بعينها إلى بيئاتنا العربية ذات الفكر الأصيل والتكوين اللغوي والديني المتعمق في جذور الإنسان العربي.

والمستقرئ لفكر الحداثة أو التيار الحداثي يدرك على الفور للوهلة الأولى أنها مرادفة للعلمانية المتطرفة التي أسهمت عن جهل وزيف وخداع في رفع القدسية عن مدال الأخلاق والقيم. وكما يذكر دين محمد ميراصاحب (2013) في كتابه المذكور سلفا فإن العلمانية في أصلها ظاهرة غربية خالصة سبب ظهورها عوامل تاريخية عاشتها الأمم الغربية على مدى قرون متتالية في ظل ثقافات تلقي بجذورها إلى وثنيات قديمة على الرغم من المسيحية التي لعبت دورا كبيرا في تشكيل الثقافة الغربية في العصور الوسطى وبعدها.

والمشهد الذي لا يمكن تغافله هو أن العلمانية التي تأصلت في اللسانيات اللغوية المعاصرة والنظريات النقدية أجبرت المسيحية في أوروبا على التقهقر والابتعاد عن المجال العام، وصولا إلى تيار الليبرالية الذي بات أحد أصنام فكر الحداثة والذي يعني عند بعض مفكر العرب الحداثيين التحرر من كل قيد معروف أو مأثور.

وما إن نجونا مؤقتا من أصنام العلمانية والليبرالية حتى اصطدمنا من خلال ما عرفوا بالمجددين في الفكر العربي المعاصر الراهن بنظرية نقدية مماثلة للحداثة ألا وهي العقلانية المتطرفة. وهي نظرية مفادها إعلاء الفردانية والإيمان المطلق بالعقل في مواجهة نصوص التراث الدينية وأن لا سلطة فوق العقل. والمدهش في هذا الملمح من ملامح فكر الحداثة في الوطن العربي ومن خلال الدراسات النقدية للنص الديني ونصوص التراث وغيرها أيضا من كتابات الأوائل الفقهية والتاريخية أنها ـ العقلانية المتطرفة ـ لا تعترف بما لا يفهمه العقل أو لا يقع تحت سيطرة العقل، ولا تفرق بين الذي يتناقض مع العقل وبين ما يعلوه على العقل، بل إن تلك النظرية المهووسة لا تعترف أصلا بوجود ما يعلو على العقل أساسا، الأمر الذي جعلتها تنظر إلى أساسيات الدين على أنها مجرد مجموعة من الأساطير والخرافات المزعومة.

ونحن بحق بحاجة ماسة إلى توظيف العقل واستخدامه بصورة طبيعية فطرية كما أمرنا الشرع بذلك، الأمر الذي يدفعنا إلى ترتيب بيت النظريات النقدية الحداثية التي باتت تعبث بالتراث العربي الإسلامي، وأنه من البدهي الآن إدراك هوية وكنه الحداثة الوافدة إلينا من الغرب عبر سياقات لسانية ولغوية ونقدية ودراسات تاريخية نتجت عن تطورات اجتماعية وسياسية استهدفت تهميش الدين ودوره بل إقرار عجزه في مواجهة التطورات والتحديات، هذا العبث الذي دفع كثيرين من المفكرين العرب المعاصرين إلى نقد الدين بوصفه خطابا لغويا يمكن تناوله بشكل نقدي.

ولعل هذا التناول البشري القاصر والمحدود بل والجاهل أيضا في مظان كثيرين وأنا منهم هو الذي دفع بعض الكتاب العرب في النصف الثاني من القرن العشرين وصولا إلى أيامنا الراهنة بالتأكيد على مركزية الإنسان وسطوته في مواجهة مركزية الإله. انتهاء بعبث فكري تحت مظلة حداثة واهية تمثلت في الثورة على التراث الديني وإغفال المصدر الإلهي التشريعي ورفض أية مرجعية.

ولنا وقفة عاجلة تحذيرية تؤكد خطورة العبث الحداثي الذي يردده بعض الكتاب العرب والشعراء المعاصرين وبعض دارسي التاريخ الإسلامي، حيث إنهم تأثروا كثيرا بمزاعم الغرب في نظرياتهم اللسانية والنقدية التي دحضت الكتاب المقدس ونصوصه في الغرب وتعاليم الكنيسة، فلجأوا تارة إلى تحريف الفكر الديني الإسلامي والتراث العلمي العربي الرصين والمجهودات العلمية لأوائل علماء المسلمين، وتارة أخرى في تقليد الغرب من خلال توظيف واستخدام النظريات الأدبية ضيقة الرؤية والنفاذ إلى تأويل القرآن الكريم وتفسيره باستغلال تقنيات وآليات تلك النظريات المسكينة بالفعل كما أصحابها.

ويكفي أن نسرد بعض النظريات النقدية واللسانية التي نجمت عن بيئات مضطربة في فترات سياسية واجتماعية عصيبة لندرك العوس العربي في توظيفها على كتابات عربية خالصة بدلا من إنتاج نظريات عربية أصيلة كان لنا السبق في إنتاجها وخير دليل كتابات قدامة بن جعفر في نقد الشعر والنثر وغيره، فنجد رولان بارت الفرنسي الذي يرجع له فضل تأسيس البنائية السميولوجية وهي علم العلامات والذي تأثر كثيرا وطويلا بالسويسري فرديناند دي سوسير الذي يزعم أنه صاحب علم اللغة الحديث، وهذا لم يحدث ‘لا حينما تخلى العرب عن تراثهم ومنتوجهم اللغوي والنقدي رغم أن أبرز النظريات النقدية أنتجتها بيئة العرب.

ثم نجد الفرنسي كلود ليفي شتراوس مؤسس الأنثروبولوجيا الاجتماعية والذي طبق نظريته على الكتاب المقدس مثله مثل ميشيل فوكو الفرنسي صاحب أركيولوجيا المعرفة والذي يتغنى بفكره الحداثيون العرب رغم امتلاكهم لنظريات عربية رصينة وجيدة النفع.

وصولا إلى أسماء تتبع تيارات الحداثة القلقة والمضطربة أمثال جاك دريدا مؤسس التفكيكية وشلاير ماخر مؤسس الهيرمينوطيقا، وصولا إلى بول ريكور أبرز من تحدث عن التأويلية التي أفسدت كثيرا من تناول نصوص التراث العربي باستخدامها لأنها تخرج الناقد والقارئ على السواء من فائدة النص إلى دحضه ورفضه والبحث عن بديل آخر يصلح لزمان يوافق هوى المتلقي وعبث مسعاه.

الخطير في كتابات الحداثيين العرب من مثل حسن حنفي ومحمد أركون ونصر حامد أبو زيد وسيد القمني أنهم خرجوا من سياقات نقد الخطاب اللغوي إلى نقد النص الديني وتعرضه لتفصيلات تاريخانية ونظريات ألسنية باهتة ومناهج تحليلية لم تأت بفائدة في بيئات إنتاجها سوى شيوع موجات التطرف والإلحاد والرفض لكل ما هو ديني. بل إن الأخطر هو التفاوت والاختلاف المرضي ( بفتح المين والراء) في حرصهم على التشكيك بالنص وتفكيكه ومن ثم إعادة بنائه، وإخضاع القرآن الكريم للمنطق التاريخي المادي وربما لا أريد إطلاق العنان لاتهاماتي بعدم الاعتراف بأصله ومصدره.

ومصيبة التفكيكية التي أشرنا إليها سالفا أن معيارها الوحيد هو صحة النص؛ ودأب النظرية اللغوية والنقدية بعد ذلك أفضت إلى ضرورة أن يكون النص محرفا وهي نتيجة جاهزة منذ البداية كما يذكر ميراصاحب في كتابه (الحداثية).

ولنا أن نقدم فروقا جلية بين تلقي النص القرآني وتأويل النصوص البشرية التي لا تخرج عن فلك كتابة الشعر ونظمه والقصة والرواية والخاطرة الأدبية؛ وهنا تجدر الإشارة إلى التّمييز بين نوعين من أنواع قراءة النّصّ الأدبيّ؛ الأولى قراءة مطابقة وهي قراءةٌ استنساخيّةٌ غير متجاوزة تقتصر على شرح النّصّ وتفسيره بصورة مباشرة ملتزمة بحرفيّة اللّغة النّصّيّة داخل الخطاب الأدبيّ ولا تتجاوزه إلى ما وراء النّصّ أو الأبعاد المكوّنة له بغير استنباط أو استدلال أو استنطاق لمعان أخرى مستترة. والقراءة الثّانية هي قراءة الإنتاج والتي يمكن تسميتها بالقراءة الكاشفة، وفيها يبحث القارئ عن المضمر والمخبوء داخل النّصّ الأدبيّ كاشفًا مضامينه ومعانيه. وتلك أمور لا يمكن توظيفها في نص حكيم إلهي قاطع التشريع.

وقراءة النّصوص الأدبيّة مستوياتٌ ومراق؛ بدءًا من التّرديد وتحريك اللّسان، مرورًا بالفهم السطحيّ، وبحلّ شفرة النّصّ الأدبيّ ومحاولة فهمه وتحليله، ثم الوصول إلى إعادة تركيبه وسبر أغواره أو إنتاج نصّ مواز للنّص المقروء وهو ما يعرف بالقراءة التّأويليّة. وهذه القراءة تقتضي من القارئ الدّخول مع النّصّ الأدبيّ في عملية تفاعليّة تتناص مع مقروء ومخزون خارج النّصّ.ّ والمنظرين لتأويل النصوص الدينية لم يفرقوا عن انتفاء بصيرة بين تفسير وفهم النص القرآني وتأويل النصوص الأدبية البشرية، فنجدهم يتحدثون عن القراءة التأويلية بوصفها مرادفا ومعادلا موضوعيا للحرية وبالأحرى إعلاء الفردانية، فهم يرون أن  القراءة التّأويليّة طبقًا لمفهُوم الحُرّيّة اللغويّة هي نظامٌ من المُمارسات التّفسيريّة الضّمنيّة أو المُضمرة التّي تتّسمُ بالاتّساع والإنتاج القرائيّ الإبداعيّ، وهي قراءةٌ ترتبطُ باستحضار العلاقة بين النّصّ والمرجع ويعني بصفة خاصّة بالمُعطيات الخارجيّة مثل ظُرُوف إنتاج النّصّ وتلقّيها، لذا فهي قراءةٌ تُركّزُ على السّياق الاجتماعيّ التّاريخيّ. وبذلك فإنّها ـ القراءةُ التّأويليّةُ ـ لا تتوقّفُ عند حًدُود التّلقّي المُباشر، بل تًسهم في إنتاج وجهة نظر جديدة يحملها النّص الأدبي بين طيّاته.

وجهل الحداثيين المعاصرين أنهم لم يفطنوا للفرق بين قدسية النص القرآني والنصوص الأدبية الإبداعية؛ لذلك فهم عن جهل مقصود اعتبروا القراءة التّأويليّةُ ـ كمُنتج لُغويّ ـ انفااحًا إيجابيا يرتكزُ على الحوار والسّجال بين القارئ والنّصّ والكاتب، فضلا عن كونها منهجًا لإماطة اللّثام عن معنى النّصّ لا عن طريق التّحليل والفهم وإعمال العقل في صُورته الظّاهريّة فحسب؛ بل بالنّفاذ إلى عُمق النّصّ وتجاويفه المُضمرة، لذا يُمكنُ القولُ بإنّ القراءة التّأويليّة  هي نتاجُ الوعي بالنّصّ وُحُضُورُ القارئ بقُوّة في خلق وتشكيل النّصّ الأدبيّ وذلك من خلال ما يُمارسُه من مهارات تأويليّة تستهدفُ إعادة تشكيل النّصّ الأدبيّ وبناء معانيه، وخلق حالة من التّفاوُض والمُعارضة من جانب القارئ للنّصّ، وهذا يعني أنّ القراءة هُنا تُصبحُ إبداعًا آخر للنّصّ، بمعنًى أنّها ليست قراءةً سلبيّة، بل إنّ القارئ يُفسّرُ معانّي النّص ويؤوله من خلال حوار مع خلفيّته الثّقافيّة وتجارب الحياة الشّخصيّة لهُ. 

ومشكلة الحداثيين ونحن نختتم سطورنا عن مخاطر هذا التيار الجارف أنهم لا يفرقون بين النص الديني الإلهي والنصوص البشرية الأخرى، بل إن كثيرا من الأكاديميين العرب المعاصرين والذين يلهجون وراء الألسنية الغربية يصرون على التعامل مع النص القرآني كنص بشري عادي، ومن هنا وكما يشير دين محمد ميراصاحب كان تهافتهم على المناهج التأويلية الغربية واستعانتهم بأصولها وقواعدها في فهم الكلام الإلهي.

***

د. بليغ حمدي إسماعيل

 أستاذ المناهج وطرائق تدريس اللغة العربية

كلية التربية ـ جامعة المنيا

في جوهر رسالتها، تعد الجامعة منارة للمعرفة، ومصنعا للعقول، ومحركا للتنمية المجتمعية. ولكن، في ظل انظمة التقييم الجامعية الحالية، يبدو ان هذه الرؤية قد تشوهت، حيث تحول الاستاذ الجامعي الى "الة نشر" بلا روح، تهمل فيها الى حد كبير جوهر الرسالة الاكاديمية المتمثلة في التدريس والتطوير والاشراف والادارة وخدمة المجتمع. هذا التحول يطرح سؤالا ملحا: هل نحن نقيم علماء ام منتجين للاوراق؟ لقد تحولت استمارات التقييم الى اداة قمعية تكافئ من ينتج اوراقا بحثية – بغض النظر عن جودتها او مصدرها – وتهمش من يكرس وقته للتعليم والادارة والابتكار المجتمعي.

وهم الجودة واقتصاد الورق

لا تكمن المشكلة في تشجيع النشر العلمي، فهو بلا شك ركيزة اساسية للتقدم المعرفي. ولكن المازق يظهر عندما يحول النشر الى "معيار رئيسي" يقاس به اداء التدريسي، دون مراعاة عوامل حيوية تؤثر بشكل مباشر على جودة البحث وامكانية انتاجه.

اولا، يعاني التدريسيين من انعدام الميزانية البحثية. كيف يطلب منهم نشر ابحاث في مجلات مصنفة دوليا دون تمويل للمختبرات او شراء معدات ومواد حديثة او حتى دعم حضور المؤتمرات العلمية لتبادل الخبرات؟ يجبر التدريسي اما على تمويل ابحاثه من جيبه الخاص او جيوب طلابه، وهو امر غير مستدام، او اللجوء الى "مصانع الاوراق" (Paper Mills) التي تبيع ابحاثا جاهزة، او مواقع تقدم "نشرا سريعا" مقابل المال. هذا الوضع يفتح الباب امام الاختلاس الاكاديمي، حيث يتحول النشر الى مجرد وسيلة للبقاء الوظيفي، لا للاضافة العلمية الحقيقية. فهل حقا نريد بحوثا مزيفة تملا السيرة الذاتية، ام اسهامات علمية اصيلة؟

ثانيا، يجب الاخذ في الاعتبار التخصصات المختلفة. ليس كل تخصص ينتج ابحاثا بنفس الوتيرة. فبينما يمكن لناشري علوم البيولوجيا والكيمياء او الطب نشر عدة اوراق سنويا نظرا لطبيعة البحث التجريبي او التطبيقي الذي يسمح بتقسيم العمل، فان الباحث في الاقتصاد او التاريخ او الفلسفة او القانون قد يحتاج سنوات لانجاز دراسة رصينة تتطلب عمقا في التحليل وجمع البيانات والمراجعة. هذه الفروقات الجوهرية غالبا ما تهمل في انظمة التقييم الموحدة.

التدريس والادارة

الجامعة ليست معهدا بحثيا فحسب، بل هي في المقام الاول مصنع للعقول وموئل للطلاب ومصدر للالهام. ومع ذلك، تهمل جوانب اساسية في تقييم الاستاذ الجامعي. المحاضرات والاشراف على الطلبة وادارة الاقسام الاكاديمية والمشاركة في اللجان الجامعية المختلفة – كلها اعمال شاقة ومستهلكة للوقت والجهد، لكنها لا تقاس الا بـ"نقاط" شحيحة في استمارات التقييم. لماذا يعاقب الاستاذ الذي يكرس وقته لطلابه ويعمل على بناء قدراتهم ويصقل مواهبهم لانه لم ينشر العدد المطلوب من الاوراق البحثية؟

علاوة على ذلك، تعد خدمة المجتمع جزءا لا يتجزا من رسالة الجامعة. من يقيم الاستاذ الذي يقدم استشارات لمؤسسات حكومية او ينظم ورشا توعوية وتدريبية للمجتمع المحلي او يكتب مقالات توعوية تساهم في حل المشكلات المجتمعية؟ هذه مساهمات حقيقية وملموسة لا تقل اهمية عن ورقة بحثية تنشر في مجلة علمية، بل قد تفوقها تاثيرا على ارض الواقع. ومع ذلك، نادرا ما تحتسب هذه الجهود ضمن معايير الترقية او التقييم.

هل البحث ممكن بدون دعم مالي؟

يمكن القول بان البحث العلمي ممكن بدون ميزانية ضخمة، لكن بشروط وقيود كبيرة. يمكن اجراء بحوث نظرية تعتمد على المراجعات المكتبية، لكن حتى هذه تتطلب اشتراكات في قواعد بيانات دولية مرموقة (مثل Springer او JSTOR) التي غالبا ما تكون غير متاحة في معظم الجامعات، خاصة في الدول النامية. كما يمكن تحقيق تعاون دولي، لكنه يحتاج الى شبكة علاقات قوية وتمويل للسفر وحضور المؤتمرات، وهو امر مستحيل بدون دعم مؤسسي فعال. واخيرا، يمكن اجراء بحوث ميدانية بسيطة، لكنها تظل محدودة التاثير دون منصات نشر مفتوحة الوصول تضمن انتشارها ووصولها الى جمهور اوسع.

النتيجة الحتمية لهذا الوضع هي اما انتاج بحوث ضعيفة تنشر في مجلات وهمية (للوفاء بمتطلبات الترقية) في احيان كثيرة، او انسحاب الاساتذة من البحث نهائيا والتركيز على التدريس والادارة، وهو ما يعاقبهم النظام الحالي الذي يضع النشر على راس الاولويات والذي يجبرهم على سلوك طرق غير سليمة ونزيهة.

لماذا لا يطبق نموذج "الجامعات التعليمية"؟

في دول كثيرة حول العالم (مثل اليابان، وكثير من الجامعات الامريكية واللاتينية)، يطبق نموذج اكثر مرونة للتقييم، حيث يقسم الاساتذة الى فئتين:

- اساتذة بحثيون: حيث يعتمد تقييمهم بشكل اساسي على النشر العلمي والانتاج البحثي.

- اساتذة تعليميون: يعتمد تقييمهم بشكل اكبر على جودة التدريس والاشراف على الطلبة والابتكار في المناهج وخدمة المجتمع.

فلماذا نصر على نموذج واحد لا يناسب واقعنا ولا يلبي احتياجاتنا المتنوعة؟ هذا التمييز يسمح بتوجيه جهود الاساتذة نحو ما يتقنون، ويضمن التوازن بين الادوار المختلفة للجامعة.

الخلاصة

لتحقيق نظام تقييم عادل ومحفز، يجب علينا تجاوز هوس "سكوبس" وعدد الاوراق المنشورة كمقياس رئيسي للجودة. يتطلب الامر اعتماد مقاربة متوازنة وشاملة تاخذ في الاعتبار كافة جوانب الاداء الاكاديمي:

- الغاء هوس "سكوبس" كمقياس وحيد، واعتماد موازنة دقيقة بين التدريس والبحث العلمي والجهود الادارية وخدمة المجتمع. يجب ان يكون هناك وزن نسبي لكل من هذه الجوانب.

- تخصيص استمارات تقييم مختلفة للاساتذة الاداريين والتدريسيين البحت والباحثين لتعكس طبيعة عمل كل منهم بدقة.

- احتساب مراحل البحث، وليس فقط النشر النهائي. يجب ان تقدر الجهود المبذولة في مجريات البحث ومدى صعوبة اجرائه وفترة انجازه ونزاهة اجراءاته والحصول على قبول للمقالات وعمليات التحكيم والدعوات العلمية والمشاركة الفعالة في المؤتمرات العلمية.

- توفير دعم مالي حقيقي للبحث العلمي، بما في ذلك تمويل المختبرات وشراء المواد واشتراكات قواعد البيانات، ودعم حضور المؤتمرات. او، في حال عدم توفر هذا الدعم، يجب التوقف عن معاقبة من لا ينشر بسبب انعدام الموارد.

الجامعة ليست خط انتاج لاوراق بحثية، بل هي مؤسسة لصناعة الانسان وتنمية المجتمع. فلتكن معاييرنا انسانية وشاملة قبل ان تكون رقمية ومختزلة. كيف يمكننا ان نضمن ان الجامعات تنتج قادة ومفكرين ومبتكرين اذا كنا نقيم اساتذتها بناء على مقاييس ضيقة لا تعكس جوهر رسالتهم؟.

***

ا. د. محمد الربيعي

أكثرُ آيات الحج في القرآن تحثُ على ذكر الله على الدوام بغير انقطاع؛ لأن الذكر يُمثّل صحة النفس وتصفية القلب، وهما مقومان أساسيان لتوازن الإنسان من حيث الظاهر والباطن، ومن حيث الجلي والخفي، ومن حيث استواء القلب مع القالب ..

وليس من بعدٌ إلا التطهير !

والسلوك الطيّب يَتَمَثَّل في الذكر وبساطه العمل الصالح؛ إذْ العمل الصالح هو السلوك الذي لو دام بالقطع لأثمر النور؛ وهذا هو أصل طريق الله، يتأسس على الذكر ليكون هو نفسه البساط الذي يثمر النور، فضلاً عن جني الثمرة الدائمة: البقاء الموصول في رحاب المعيّة الإلهيّة.

من يلتفت إلى الأغيار، وهو في معيّة الله لم يذق من الحج إلا تعب المشقة والعناء؛ والحج كُلّه في الصورة الخارجية أغيارٌ في أغيار. وإرادة الله في ذلك لكأنها تتعمّد أن تحيطك بالأغيار من كل جانب لتقفك على اختيار واحد وهو: أن تتوجّه بقلبك إلى إزاحة السّوى، فلا يكن للغير عليك من سبيل إلا أن يكون عرضاً خارجاَ ليس إلا، وأن تقف تلك الإرادة بمطلق المعيّة فلا تتحدّد ولا تتقزم بل تنطلق إلى أجواء صافية راقية تسمو بسمو المدارك والملكات.

الحج، رمزُ عملي تطبيقي فعّال لوحدة القصد: وحدة التوجُّه ووحدة الغاية، وإشعار الناس كافة بأنهم في الله إخوان، وإن فرّقت بينهم المناسب والأمكنة وباينت بينهم المناصب والدرجات، وأنهم، وهم محرِمُون في صعيد واحد، يمثلون حالة الفطرة كونهم إخواناً متحابين أمام معبود واحد، لا ينظر إلى صورهم ولا إلى مناصبهم ولا إلى أموالهم، ولكن ينظر إلى قلوبهم وأعمالهم ونواياهم.

ولكن اللافت للنظر في مناسك الحج كلها هو الطواف، أمرٌ لا يُعلل إلّا بحكمة تدعو إلى التأمل؛ فالكعبة رمز التوحيد، وهيكله البيت العتيق، أراد الله أن يجسّد فكرة التوحيد في بيته العتيق فكانت الكعبة؛ فالطواف حولها استشعار العبد التوجّه إلى الله وحده بغير لوثة الشرك والوثنيّة، استشعاره باقياً في عالم الحقيقة والرضى، تاركاً للزيف وللوهم وللختل وللخداع، متجهاً بكليّته إلى حقيقة التوحيد مجسّدة أمامه في أول بيت مبارك وضع للناس.

ليس أسهل من أن تكون حركة الطواف حركة مستقيمة، ولكنها لحكمة إلهية بالغة كانت حركة دائرية، حكمة تجئ فيها ترقية من عَسَاهُ يطوف بالكعبة من حركة الأرض إلى حركة السماء.

فالحركة المستقيمة حركة طبيعة فيزيقية، حركة الحار والبارد والثقيل والخفيف، أو إنْ شئت قلت: حركة النار والماء والتراب والهواء. هذه حركة مستقيمة ليست كاملة بسبب أن لها أضداداً؛ فحركة الجسم الخفيف إلى أعلى كحركة النار والهواء، وحركة الجسم الثقيل إلى أسفل كحركة التراب والماء، ولكل من الحركتين أضداد.

أمّا الحركة الدائرية فلا ضدّ لها، هى أكمل الحركات الطبيعية ولذلك يختص بها العالم العلوي، عالم الأفلاك السماوية .. تذكر هنا فطرة الله التي فطر الناس عليها، وأذكر معها تلك الحركة الدائرية الكاملة، حركة الكون بكل ما فيه ومن فيه، وأذكر إنها ليست مجرّد نقلة وكفى، ولكنها رمزٌ يجسّد معنى يبقى مع الزمن بل ويعلو على الزمن حتى يُفينه، ثم يظل المعنى باقياً حاضراً بعد فناء المحدثات.

لك أن تلاحظ: الحركة الدائرية الكاملة هى حركة الفاني حول الباقي، كحركة النيترون حول النواة دائرية، وحركة الحيوان المنوي حول البويضة دائرية، وحركة الأجرام السماوية حول مركزها دائرية؛ لأن مادة الأثير المختلفة بحكم طبيعتها عن العناصر الأربعة تجعل الأفلاك السماوية تتحرك حركة دائرية وليس لها ضد، ثابتة بلا تغيير، ثم حركة المتغير حول الثابت حركة طبيعية دائرية، وهى طبيعية؛ لأنها حيّة وفطريّة من طبيعة الكون الحي المفطور على السنن والنواميس الثوابت.

حركة الطواف تحقيق التوحيد، رمزٌ للحقيقة الإلهية العليا الخالدة، وجعل التوحيد حقيقة ملموسة مشهودة باقية، من خلالها يسبّح الكون كله للّه.

وسيبقى البيت العتيق عتيقاً؛ لأنه المركز الثابت الذي سيظل ثابتاً بتجسيد التوحيد تسبيحاً للخالق رغم فناء المتغيرات من حوله، وفناء الأضداد.

أما تعليل الطواف بسبع؛ فلا يسيغهُ في العقل شئ قدر ما يسيغهُ التكفير عن الخطايا وملاقاة الله تعالى بالندم والاعتذار. وقد قيل إنّ الملائكة لمّا خلق الله آدم جعله بشراً من طين قالوا (أتجعل فيها من يُفسد فيها ويُسفك الدماء ونحن نسبّح بحمدك ونقدّس لك؟) غضب الله عليهم، وكان من علائم غضبه أن أعرض عنهم، ولمّا أعرض عنهم فزعوا، فتملكتهم الضراعة وأجهشوا بالبكاء إشفاقاً من غضب الله، فذهبوا يعتذرون إليه ويطوفون بالعرش سبعاً كما يطوف الناس بالبيت الحرام وهم يقولون:

(لبيك اللهمّ لبيك ..

ربنا معذرةً إليك ..

نستغفرك ونتوب إليك)

فنظر الله إليهم ونزلت عليهم الرحمة، ووضع الله سبحانه تحت العرش بيتاً هو البيت المعمور ثم قال الله تعالى: طوفوا بهذا البيت ودعوا العرش، فكان طوافهم به أيسر من طوافهم بالعرش.

ثم أمر الله الملائكة من سكان الأرض أن يبنوا في الأرض بيتاً على مثال البيت المعمور، وأمر من في الأرض أن يطوفوا به سبعاً كما يطوف أهل السماء بالبيت المعمور .

هذا هو الجانب المقبول في الرواية تعليلاً للطواف فيما لو صدقت؛ فالطواف، فضلاً عن كونه توجُّهاً للحق وحده، فهو تجسيد للتوحيد وتكفير للخطايا واعتذارٌ للّه ثم قُربة منه تعالى .. وهو، من بعدُ، قدوة بطواف الملأ الأعلى حول العرش، ثم تحت العرش في البيت المعمور، ثم في الأرض، في البيت العتيق.

ومن يتأمل الروايات التي وردت في الحجر الأسود على اختلافها، يدرك من فوره إساغة الطواف بحركته الدائرية على النحو الذي ذكرناه، فالحاج يطوف حول الكعبة المعظمة سبعاً، وفي كل مرة يستلم الحجر الأسود، وهذا الاستلام له مغزاه ومعناه: إقرار بالتوحيد من جهة، واعتذار عن الخطايا والأرجاس من جهة ثانية، ثم تطهير، لهذا يعود الحاج بعد أداء الفريضة كيوم ولدته أمه خالياً من الخطايا والذنوب.

لقد كان الحجر الأسود أبيض ناصع البياض، فاسودّ من خطايا الناس .. يومها (وإذْ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبّل منّا إنك أنت السميع العليم)، ارتفع بناء الكعبة، ولمّا ارتفع البناء طلب إبراهيم إلى إسماعيل أن يجئ بحجر، فذهب إسماعيل إلى الوادي يطلب حجراً يضعه أبوه في البناء، وعاد فألفى عند أبيه حجراً فسأله: من جاءك بهذا الحجر؟

قال إبراهيم: (من لم يكلني إليك ولا إلى حجرك).

وكان جبريل هو الذي جاء به من السّماء، إذ كان قد رفع إليها حين أغرق الطوفان الأرض وقيل: إن جبريل جاء بالحجر الأسود حين هبط به آدم من الجنة، وكان شديد البياض فاسودّ من خطايا الناس. وقيل: إن الله عز وجل كان قد استودعه جبل أبي قبيس زمن طوفان نوح، فجاء جبريل ووضعه في مكانه، وبنى إبراهيم عليه، وهو حينئذ يتلألأ نوراً حتى أضاء بنوره شرقاً وغرباً وشمالاً ويميناً إلى منتهى أنصاب الحرم من كل ناحية، وإنمّا سودته أنجاس الشرك والجهالة وأرجاس الوثنية وزرايا الذنوب والخطايا..

وهنا تبرز حكمة الطواف سبعاً واستلام الحجر الأسود في كل مرة، وهى حكمة إلهية بالغة ما بلغ مقصودها، مردّها إلى رحمة الله تعالى، في شهود التوحيد، وفي تكفير الخطايا والذنوب، وفي الشعور بالتقصير تجاه الحق جلّ وعلا، والاعتذار إليه ما أمكن أن يكون الاعتذار أسفاً وندماً وإشفاقاً، وفي القُربة من الله الواحد الأحد، وليس، من بعد،ُ إلا التطهير .

***

بقلم: د. مجدي إبراهيم

في الوقت الذي تتزايد فيه دهشة الانسان تجاه قدرات الذكاء الاصطناعي التوليدي، ولا سيما برنامج " شات جي بي تي" الذي اقتحم أغلب تفاصيل حياتنا، وأصبح متاحاً للجميع نظراً لسهولة استخدامه والاستفادة من امكانياته المذهلة، يظهر في المقابل وجه آخر متحفظ يرى أن أنظمة هذا الذكاء تشبه " الببغاوات العشوائية " التي تقلد اللغة البشرية دون ادراك لمعناها، وأنها ليست أكثر من أدوات متقدمة لمعالجة البيانات، تفتقر إلى الفهم أو الوعي الحقيقي. صحيح أن علماء بارزين في مجال البرمجيات الذكية وصنّاعاً كباراً مثل بيل غيتس وإيلون ماسك، توقعوا اختفاء العديد من الوظائف التي يؤديها الإنسان، إلا أن كتاباً ألّفته عالِمتان هما إيملي بيندر، المتخصصة في اللغويات الحاسوبية بجامعة واشنطن، وأليكس هانا عالمة الاجتماع في جامعة كاليفورنيا، يوجه نقداً لاذعاً وساخراً للمبالغة في قدرات هذا الذكاء.

الكتاب الذي حمل عنوان "خدعة الذكاء الاصطناعي" يهدف إلى تفكيك الأساطير المحيطة بهذه التكنولوجيا، وكشف الأجندات الخفية وراء الترويج المفرط لها من قبل الشركات الكبرى التي تعمل على تضليل الجمهور من خلال تضخيم قدرات أنظمتها، كما أن هذه الشركات، باستخدامها الواسع لبرامج الذكاء الاصطناعي تهدد مستقبل الوظائف إذ تسعى إلى تقليل التكاليف على حساب اليد العاملة البشرية، ما يؤدي إلى فقدان الوظائف، وارتفاع معدلات البطالة إلى مستويات خطيرة. من هنا، تدعو المؤلفتان إلى تشجيع التفكير النقدي، وعدم الانخداع بالدعاية التكنولوجية، والمطالبة بمساءلة تلك الشركات عن مخاطر ممارساتها الأخلاقية والإجتماعية .

من المؤكد أن " الببغاوات العشوائية " لن تقبل الهزيمة بسهولة، لأنها لا تفهم لغة " الأخلاق" البشرية، وستظل هيمنتها الخطيرة مصدر قلق للإنسان، إلى أن يظهر نوع من الذكاء الاصطناعي يمتلك ليس فقط المهارة، بل أيضاً العاطفة، والقلب، والقيم الأخلاقية التي تُميّز الإنسان عن الآلة .

***

د. طه جزّاع

 

في عصر يتسم بالتوتر المتزايد حول العدالة الاجتماعية وإعادة توزيع الثروة ودور الدولة، من الحكمة التفكير بجذور اللامساواة وتحديد ما اذا كانت بطبيعتها غير عادلة. من وجهة نظر اقتصاد السوق، يمكن النظر الى اللامساواة ليست فقط كمحصلة طبيعية للديناميكيات الاقتصادية وانما ايضا كظرف يقود الابتكار والحراك الاجتماعي والنمو الاقتصادي. مع ذلك، ربما نسأل: هل هذه النظرة مقبولة أخلاقيا؟

في الاقتصاد الحر، لايبرز التفاوت الاقتصادي من تصميم مركزي وانما من تفاعلات طوعية بين الافراد. هناك عدة عوامل تساهم في هذه الاختلافات.

1- المهارات والمواهب المتفردة

كل فرد يمتلك قدرات ومعرفة تختلف من حيث الطلب عليها وقيمتها طبقا للسوق. فمثلا، طبيب جراح أعصاب متخصص قد يستلم أجر أكثر من المزارع – ليس بسبب ان الجراح كشخص له قيمة جوهرية اكبر وانما بسبب تعقيدية وتأثير خدماته التي تكون نادرة وذات خصوصية.

2- الأفضليات الشخصية والتضحيات الفردية

اللامساواة ايضا تعكس الاختيارات الفردية. بعض الناس يختارون العمل ساعات طويلة او يتحملون مخاطر مالية كبيرة عبر بدء مشروع عمل، بينما آخرون يفضلون التوازن بين العمل والحياة. هذه القرارات الشخصية لها تأثيرات اقتصادية.

3- الابتكار وخلق القيمة:

المضاربون الذين يطوّرون منتجات رائدة، مثل ستيفن جوبس في تطويره الايفون او ايلون ماسك وتطويره تسلا، يراكمون ثروات هائلة بسبب المنافع التي تخلقها ابتكاراتهم لملايين الناس. هذا المنظور لا يعني ان كل اللامساواة هي منصفة او مرغوبة وانما يعني ان الكثير منها يبرز من عمليات شرعية وأخلاقية ضمن نظام السوق الحر.

هل اللامساواة غير عادلة؟

يمكن معالجة أخلاق اللامساواة الاقتصادية طبقا لعلاقتها بالشرعية. اللامساواة الشرعية تبرز من الجدارة والابتكار والجهد الفردي. فمثلا، عندما يراكم شخص ما ثروة عبر خلق وظائف او تطوير منتجات تحسّن حياة الآخرين، فان هذه الثروة ليست فقط أخلاقية وانما ايضا مفيدة اجتماعيا. اللامساواة غير الشرعية تحدث عندما يستغل الفاعلون السياسيون او الاقتصاديون النظام للحصول على مزايا غير متناسبة. الاحتكارات المدعومة من الدولة او السياسات التي تفضل قطاعات معينة على حساب الاخرين هي أمثلة واضحة على اللامساواة غير العادلة.

جادل روبرت نوزيك بانه اذا كانت اللامساواة تبرز من تبادلات طوعية وتحترم حقوق الملكية، فيجب ان لا تُعتبر غير أخلاقية. لذلك، التركيز يجب ان لا يكون على اللامساواة ذاتها وانما على الظروف التي خلقتها.

إعادة توزيع الثروة: حل ام مشكلة؟

تهدف سياسات إعادة توزيع الثروة الى تقليل اللامساواة لكنها عادة تأتي معها أضرار جانبية:

1- تثبيط اقتصادي

الضرائب العالية على الدخل والثروة لا تشجع على العمل الشاق او الاستثمار والابتكار.

2- التخصيص غير الفعال للموارد

سياسات إعادة التوزيع عادة تنقل الموارد نحو برامج الحكومة التي هي أقل كفاءة من المبادرات الخاصة في معالجة الفقر.

3- التبعية المؤسسية

الإعانات الدائمة يمكن ان ترسخ تبعية هيكلية بدلا من ان تشحذ طاقة الافراد للتغلب على الفقر. ملتن فريدمن جادل بان سياسة فرض إعادة التوزيع تحطم الحوافز للجهود الانتاجية، وبالنهاية تؤذي كل من الفقير والغني في المدى البعيد.

اللامساواة وتقليل الفقر المطلق

العامل الاساسي في تفضيل الاقتصاد الحر هو قدرته على تقليل الفقر المطلق(1)، حتى مع استمرار اللامساواة النسبية او زيادتها. عبر الثلاثين سنة الماضية، خرج اكثر من بليون شخص من الفقر المطلق، خاصة في اقتصاديات تبنّت سياسات السوق المفتوح. وعلى الرغم من ارتفاع اللامساواة النسبية في العديد من هذه الدول، لكن الرفاهية الكلية تحسنت بشكل كبير. في بيئة السوق الحر تتحقق الشروط التالية:

1- المنافسة تقود الابتكار وخلق الوظائف:

تاريخيا، سمح تحرير التجارة للملايين من الناس في الدول النامية بالوصول الى وظائف ذات اجور عالية في قطاعات التصدير.

2- رأس المال الخاص يغذي النمو:

المستثمرون يبحثون عن الفرص في الاسواق الناشئة، يسهّلون نقل التكنلوجيا والبنية التحتية والوصول الى بضائع وخدمات عالية الجودة.

الدور الحيوي للمساواة أمام القانون

في نظام السوق الحر، لا يجب ان يستلم أي شخص تعامل تفضيلي من الدولة، سواء كان من خلال إعانات خاصة او تعليمات حماية او عقود حصرية. العدالة يتم ضمانها عندما يتنافس كل شخص تحت نفس القواعد، والمحصلات الاقتصادية تعكس بدقة جهود الافراد وقناعاتهم المتولدة من السلعة او الخدمة.

اللامساواة الاقتصادية في نظام السوق الحر ليست بالضرورة شرا يجب ازالته. بل هو سمة جوهرية للمجتمع الذي يقيّم الحرية الفردية والابتكار والتنوع في المواهب. مع ذلك، هذا لا يعني تجاهل اللامساواة اللاشرعية التي يجب ان تُعالج بشفافية ومؤسسات قوية تحمي حقوق الملكية والمنافسة العادلة. وكما يرى الاقتصادي فردريك هايك، ان العدالة الاجتماعية في مسعاها لمساواة المخرجات تخاطر بالتضحية بالحرية والازدهار اللذين لا يوفرهما الاّ السوق فقط. بالنهاية، الهدف يجب ان لا يكون فرض مساواة مادية وانما ضمان ان جميع الافراد لديهم فرص متساوية للوصول الى قدراتهم القصوى، وان يتحرروا من الحواجز المصطنعة وإكراه الدولة.

***

حاتم حمييد محسن

.....................

The Ethics of Inequality, Library of Economics and Liberty, May24, 2025

 الهوامش

(1) الفقر المطلق هو الحالة التي يفتقر بها الفرد لتلبية حاجاته الاساسية من طعام وماء وسكن وتعليم اساسي ورعاية صحية. يتم تحديد مستوى من الدخل دونه اي مقدار من الدخل يُعتبر فيه الفرد في فقر مطلق. ينتج الفقر المطلق عادة من الديون وزيادة السكان والكوارث الطبيعية والصراعات وعمالة الاطفال.

تتطلب الصور الرقمية معدات معالجة متطورة ودقيقة، تفتح بالفعل احتمالات لا حصر لها، جيدة أو سيئة اعتمادًا على الاستخدامات، تصبح من خلالها معالجة أيقونتها الزمنية سهلة للغاية. تقوم أداة التنقيح ببساطة بوضع شخصية ما على الشاشة لتعزيز وجودها من خلال تفتيحها أو تكبيرها، أو إزالتها من الصورة، يتم بعد ذلك إعادة تشكيل الخلفية على الشاشة، دون أن يكون من الممكن، حتى بالنسبة للعين المدربة، اكتشاف التلاعب.

وتقصدت الحديث عن هذا الحقل الملغم، على الرغم من تعقيداته التقنية والحاسوبية، لأهمية الإشارة في هذا السياق، إلى خطورة نسق الصورة في الاستخدامات الكمبيوترية الدقيقة، وتركزها في الأبعاد الثاوية لما يعيشه العالم الآن من قفزات وطفرات تكنولوجية خطيرة، تستعمل فيها كل أنواع السيبرانيات في أقصى درجات حضورها الاستخباراتي والثقافي والاجتماعي والنفسي.

ويمكن هنا تأويل هذا المعطى، لنشير تذكيرا، أن الشبكات الرقمية المفتوحة تصر على كل فرضيات الإنتاج، في علاقتها بالمحتوى وروابط الاختلاف البنيوي والديمغرافي، ونمو النزعات المادية والشخصية، على تعميق الفجوات دون إرادة لتأمين الفرص أو استباق أخلاقي منظم للعلاقة، وبدون تدخل سياسي قادر على إحداث التوازنات، محدثة بذلك ترسبا ثقيلا من جانب كونها فشلت بشكل خطير في إرباك مبدئية اللامساواة الاجتماعية، الشيء الذي عجل بشرخ تمييزي في قياس مفهومي "الشبكة" و"المعلومات".

هذا التصور السوسيولوجي لنسق التقاطع بين البنيتين المذكورتين، ضمن انفضاح صورة القوة الهرمية المأفونة والمدعمة بفعل واقع الفجوة إياها، يستبق أسئلة الأزمة المحدثة، في تلك اللامساراة المغلفة التي أقبرت ما يسمى بنظامية الأخلاق على المستوى الثقافي والاجتماعي والمادي.

وهناك أبعاد انعكاسية متمنعة عن الفهم، خصوصا في ما يتصل بسرديات السوسيولوجيا الكلاسيكية، التي تذهب إلى أن مجاورة الفجوة الرقمية للتكنولوجيا، قد تجعل من سؤال الأزمة نوعا من التماهي مع تحليل الخاصية الشبكية البديلة، التي تنظر للامساواة المادية في مجتمع المعلومات، كوحدة منفصلة تماما عن المجتمع الجديد، دون تجاهل محددات هذه الوضعية، التي تطالب بدارسة نسق التحولات فيه، إن على مستوى الزمان أو الثقافة أو الفضاء أو النفسي والاجتماعي.. إلخ.

يرى سوسيولوجيون معاصرون، كآلان تورين (صاحب مجتمع ما بعد الصناعي)، الذي قال في إحدى أهم نظرياته الاجتماعية: يجب أن تكون السوسيولوجيا نضالية وثورية لتحرير الفاعلين من قيود النضال"، وأنطوني غيدنز (صاحب الطريق الثالث)، وحتى بيير بورديو ، يرى هؤلاء أن مجاورة الفجوة التكنولوجية قد تجعل من سؤال الازمة نوعا من التماهي مع تحليل الخاصية الشبكية البديلة، التي تنظر للامساواة المادية في مجتمع المعلومات، كوحدة منفصلة تماما عن المجتمع الجديد، دون تجاهل محددات هذه الوضعية التي تطالب بدراسة نسق التحولات فيه، إن على مستوى الزمان أو الثقافة أو الفضاء أو الأبعاد النفسية والاجتماعية المتغايرة.

وبعكس تنميط مادة الصورة، أو تشكيلها بحسب المعطيات والأهداف المرصودة، تبرز ظاهرة التلاعب بالصورة لأغراض التمثل الاستعراضي أو التجميل أو الانحياز لمشروع تخريبي، كثوب بال يعاد تدويره واستعراضه بالشكل المطلوب، الأمر سيكون مروعا كما هو الحال بالنسبة لمشروع المهندس المعماري، كما سيكون قاصما عندما يتم تزيين شيء ما بشكل مصطنع في كتالوج المبيعات. وينبغي الإعلان عن إزالة عيب كبير مثل نسيج مهترئ وباهت، أو إعادة إحياء اللون، أو طلاء ختم قطعة أثاث تم إحياؤها بواسطة الكمبيوتر، أو حتى تنظيمها، لأن الصورة المعدلة تشوه تقدير المشتري.

وفي سياق متصل، تشهد معالجة الصور الرقمية أيضًا تطورًا متزايدًا في مجال تخزين الصور الفوتوغرافية وأرشفتها. وسيسمح قريبًا بالحصول على صور عالية الوضوح ونقلها في بضع ثوانٍ على جانبي الكرة الأرضية. ستتمكن الطابعة في نيوزيلاندا مثلا من تلقي الصور بنفس سرعة الطابعة الفلبينية. كما سيتمكن خبير فني إيطالي مثلا من الحصول على صورة جيدة جدًا من متحف آسيوي في وقت مكالمة هاتفية.

الأخطر، أن تكون معالجة الصور الرقمية جسرا لا نهائيا بين الصورة الحقيقية والصورة المكونة بالكامل بواسطة الكمبيوتر، وهي الصورة التي تسمى ب"الافتراضية".

وإذا كان لا يزال من السهل الآن التعرف على الصورة الافتراضية من قبل أي مستخدم للأنترنيت، فلا يمكن رؤية الصورة الرقمية بالعين المجردة، وبالتالي يمكن أن تكون مضللة. اعتمادًا على استراتيجية التلاعب، كما يمكن أن يكون للتعديل الذي يتم إجراؤه آثارًا عميقة أو عواقب خطيرة للغاية.

ومن أجل تقديم نموذج علمي واع بالمفارقات التي وضعناها أمام بصائركم، سأحاول تقديم نموذج لتكريس هذا المعطى المروع، الذي نقارب فيه مخاطر التحريف والتلاعب بالصور، ويتعلق الأمر بالصور التاريخية التي يتم تحويرها وتغيير ملامحها على نطاق واسع، وبالأبيض والأسود، من خلال الصفحات الثقافية، كما هو الحال بالنسبة لمستخدمي الإنترنت وعلى حساباتهم الشخصية، مما يعرضهم لخطر تحريف رؤية التاريخ.

وميزة الصورة هي أن تكون لافتة وذكية وحارقة، ويمكن الوصول إليها بسرعة، ومفهومة من قبل الجميع وأيضا مؤثرة. فإذا كان المستهلكون كبارا، فإن الشباب هم أيضا منتجون. يتم تداول هذه الأنواع الجديدة من الصور، وغالبًا ما يتم إنشاؤها من مقتطفات من الأفلام أو المسلسلات، أو الصور أو مقاطع الفيديو الحالية، أو صور فوتوغرافية لأشخاص معروفين. هذا التذوق المجازي للصور المحرفة يجعل من الممكن إنشاء رابطة بين الأجيال حول مراجع مشتركة. كما أنه يتيح الفرصة للتعبير عن المشاعر والأفكار المتعلقة بحياتهم اليومية، أو لتشويه سمعة عالم الكبار والأحداث الجارية المثيرة للقلق، أو حتى لبناء روح الدعابة المشتركة.

إن الصور المثيرة هي تلك التي يتم تداولها أكثر من غيرها. تميل المشاعر السلبية والخبيثة إلى توليد معدل مشاركة ووجهات نظر أعلى بكثير من المشاعر الإيجابية. ومن خلال تصفية الخوارزميات التي تعرض الصور الأكثر مشاهدة، مهما كان محتواها، تغدو المنصات ك "غرف صدى" Chambres d'écho تفضل الصور الصادمة التي يتم نشرها بسرعة عالية، دون حواجز المعلومات التقليدية. وهذا يعزز البيئة التي يجتمع فيها الأفراد ذوي التفكير المماثل، مما يخلق فقاعات معلومات يتعرض فيها المستخدمون لصور تتوافق في الأغلب مع آرائهم، على عكس التنوع الموجود في وسائل الإعلام التقليدية. والنتيجة هي استقطاب في الآراء. كما تستفيد اتجاهات التطرف من هذا النظام الذي يجمع مجتمعات كبيرة لتنظيم عمليات تآمرية أو تخويف أو مضايقة أو حتى ترهيب وفراز لعنصرية أو ما شاكل.

ملاحظة أخرى هي أن الأخبار المزيفة والدعاية المرئية وكل ما يتعلق بما بعد الحقيقة مفضل على شبكات التواصل الاجتماعي، وهذا المحتوى ينتشر بسرعة مَهُولة دون احتدادات مسبقة. والنتيجة هي مجتمع يتفوق فيه مشهد ما بعد الحقيقة على صحة الحقائق، كما يتضح في العديد من الأحداث التي عايشناها كمغاربة، في جائحة كوفيد 19، وزلزال الحوز وغير ذلك.

ويطرح ما بعد الحقيقة قضايا مجتمعية مهمة تتعلق بثقة الجمهور بالمؤسسات الرسمية، بشخصية السياسي أو الإعلامي أو الثقافي، وفي واقع الأحداث التي يتم إزاحتها بشكل خطير إلى الخلفية لصالح عدم الثقة ونظريات المؤامرة والإثارة. كيف يمكن للشباب والناشئين ا أمام عزلتهم الاختيارية القاتلة أن يفرقوا بين الحق وباطل الصورة؟

إنه يجب تطوير "الإدراك اليقظ"  Conscience consciente لدى الشباب ودعمه وتوجيهه لفهم كيف يمكن للصور أن تضلل أو تسرق لحظة الجمال الكوني، وذلك بعدة طرق، من خلال اللعب على العواطف والتصورات والسياقات. يعطي مقياس Arcom مؤشرات مثيرة للقلق حول السياق الحالي. وهو يقترح أن نساعد في التمييز بين المستويات بين المعلومات الخاطئة، والمعلومات المضللة، والمؤامرة، والأخبار المزيفة، وجميع المصطلحات المستخدمة في الخطاب الاجتماعي والإعلامي.

وعلى الرغم من تشابه هذه المفاهيم، إلا أنها تشير إلى حقائق وممارسات مختلفة. يعتمد الفرق بين المعلومات الخاطئة والمعلومات الخاطئة والمعلومات المضللة بشكل أساسي على القصد. المعلومات المضللة والمعلومات الخاطئة هي دائمًا نتيجة النية. المعلومات الخاطئة هي معلومات مبنية على الواقع، وتستخدم لإلحاق الضرر بشخص أو مجموعة اجتماعية أو منظمة أو بلد. أما المعلومات الخاطئة، من ناحية أخرى، فهي أمر لا إرادي. يشمل التضليل مجال الأخبار المزيفة والمعلومات الخاطئة وتلفيق الأخبار المزيفة.

إن ما يكمن وراء التضليل هو تعمد إنتاج أخبار كاذبة على نطاق واسع لتحقيق الربح أو لأغراض سياسية من أجل التأثير أو زعزعة الاستقرار أو حتى الإضرار. وفي حالات كثيرة، يمكن للأخبار المزيفة أن تكون قاتلة ومدمرة بالفعل، خاصة عندما يتم إنشاؤها لتأجيج الكراهية بين مجتمع ضد مجتمع آخر. ويعد مجال المعلومات المضللة أكثر إشكالية لأنه يستفيد من استراتيجيات النشر المتزايدة الكفاءة والتي تعززها تقنيات الذكاء الاصطناعي.

***

د. مصـطـــفى غَـــلْمَــان

..................

* ملخص المحاضرة التي ألقيتها في الندوة العلمية الوطنية التي نظمتها كلية الآداب والعلوم الإنسانية (ماستر السرديات الثقافية والسيميولوجية) جامعة محمد الخامس بالرباط في موضوع " الصورة في الزمن الأيقوني الجديد" يوم الثلاثاء 27 ماي 2025.

كثيرًا ما نعيش كما لو أن الأبواب مغلقة، كما لو أن الواقع مكتمل ومكتوب سلفًا، وأن علينا أن نتأقلم مع قواعد لعبة لم نخترها. لكنّ الحقيقة، كما يصفها الفيزيائي والفيلسوف ديفيد بوم، أن الوعي ليس مجرد مرآة للواقع، بل هو النمط الذي يُشكّل هذا الواقع نفسه. نُبصر العالم من داخل رؤيتنا له، لا من خارجه. وهذا يطرح سؤالاً جوهريًا: هل نحن نرى الأشياء كما هي، أم كما نحن؟

تأمل هذه الصورة: رجل يجلس في غرفة مظلمة، بجوار باب مفتوح على اتساعه. لكنه لا يراه، لأنه منذ البداية قرر أن يبحث عن مخرج في الجهة الأخرى. يصنع من خياله متاهة، ويقنع نفسه أن الخروج يتطلب مفتاحًا مفقودًا، أو إنارة معينة، أو خريطة معقدة. بينما الباب، بكل بساطة، مفتوح. لكنه لا يُرى إلا من زاوية وعي مختلفة.

الوعي كعدسة: حين نصنع قضبان سجننا

في كتاباته المتأخرة، يوضح ديفيد بوم فكرة “الترتيب الضمني” (Implicate Order)، حيث لا يكون الواقع شيئًا صلبًا بل “تدفقًا” دائمًا تتداخل فيه الإمكانيات والتصورات والمشاعر. في هذا السياق، يصبح الوعي هو القالب الذي يُسقط هذا التدفق في شكل معين، فيُنتج “واقعًا” نعيشه ونعتقد أنه الحقيقة. هذا الواقع ليس كاذبًا، لكنه محدود بشكل الوعي الذي صاغه.

في لحظة إحباط مثلًا، ترى العالم رماديًا، تحكم بأن الناس قساة، وأن الفرص مغلقة. نفس الشارع، نفس المكتب، نفس الأشخاص — لكن الوعي المتألم يجعل منهم عناصر في مشهد عبثي. هنا لا يكون العالم هو الذي تغير، بل زاويتك أنت.

الأمثلة من الحياة اليومية: كيف نُعمّي على الباب المفتوح

* في العلاقات: كثيرون يعتقدون أن الطرف الآخر “لا يفهمهم” أو “يتغير”، بينما الحقيقة أن الوعي الذي بدأ به العلاقة كان وعيًا قائمًا على التوقع، لا الفهم. نعيش العلاقة كما نتمناها، لا كما هي، ثم ننهار عندما يُعيد الواقع ترتيب نفسه بعيدًا عن وهمنا.

* في العمل: الموظف الذي يشعر أنه محاصر في وظيفة لا يحبها، بينما لم يلاحظ فرصًا بسيطة من حوله لتحسين وضعه أو بدء مسار جديد، لأنه ثبت نظره على “شكل واحد للخروج”: الترقية، أو الاستقالة، أو ضربة حظ.

* في المعرفة: نبحث أحيانًا عن إجابات كبرى، عن “الحقيقة” أو “المعنى”، بينما نغفل عن أصوات صغيرة تُنبهنا أن الباب مفتوح في البديهيات: لحظة صمت، أو كلمة صادقة، أو إحساس عابر بأننا نوجِد المعنى عبر انتباهنا، لا عبر نظريات جاهزة.

ديفيد بوم: من فيزياء الكم إلى فيزياء الوعي

ما يجعل فكر بوم مدهشًا أنه لم يفصل بين العلم والتجربة الداخلية. بالنسبة له، الحوار الحقيقي مع النفس والآخرين هو الطريقة الوحيدة لتجاوز “الصور الذهنية” التي نعيد بها إنتاج ماضينا باستمرار. يقول: “أفكارنا تصنع العالم، ثم نشتكي أننا ضحاياه”. وهذا يشبه من يصنع قناعًا بيده، ثم يخاف من وجهه في المرآة.

بوم دعا إلى تحرر جذري من أنماط التفكير المألوفة، لأن هذه الأنماط نفسها تعيد تشكيل السجن. أراد أن نتحرر من وهم أن “السبب في الخارج”، وأن نعود إلى الداخل، حيث يبدأ كل شيء — من زاوية الرؤية، من اختيار العدسة، من الانتباه.

الباب المفتوح: دعوة للانتباه

حين نُدرك أن وعينا يصنع حدود العالم، فإن كل شيء يصبح قابلًا للتجدد. الانتباه، ببساطة، هو مفتاح الخروج. هو أن تنظر حيث لم تنظر من قبل. أن تُعيد طرح الأسئلة القديمة بطريقة جديدة. أن ترى أن الباب الذي كنت تنتظره أن يُفتح… لم يكن يومًا مغلقًا.

إنه ليس الوعي “الروحي” بالمعنى الشائع، وهو أيضا أساسي  بل الوعي البسيط، القوي، الذي يرى ما هو موجود، لا ما نتخيله. وهنا تبدأ الحرية. ليس بتغيير الخارج، بل بتغيير زاوية النظر إليه.

***

بقلم الكاتب المغربي: يونس الديدي

النقاش حول الذكاء الاصطناعي يدور غالباً حول التحديات التي يمثلها هذا الوافد الجديد، لنا ولمفاهيمنا ونظم معيشتنا. هذا النقاش يتسم بتعبيرات مكررة إلى حد كبير؛ ما يوهم بأننا نتحدث حول موضوع واحد. واقع الأمر أننا نناقش موضوعات تنتمي إلى حقول معرفية متباينة، حتى لو عبَّرنا عنها بكلمات متماثلة. لدي أسئلة ثلاثة، تتناول الانعكاسات الحياتية لانتشار الذكاء الاصطناعي، وتأثيره على التنظيم الاجتماعي والأعراف الناظمة له. لكني سوف أترك هذين لمناسبة أخرى، وأخصص هذه الكتابة للسؤال الثالث الأكثر إثارة للجدل، أي: هل يمكن للذكاء الاصطناعي أن يحتل مكانة الذكاء البشري فيكون بديلاً عنه، جزئياً أو كلياً؟

يهتم غالبية الناس بهذا السؤال؛ لأنه ينطوي على اتهام بأن عقولنا ناقصة. ومحور الجدل هو: هل يمكن للمصنوع أن يتجاوز صانعه، ليس في الإمكانية العامة، بل في الخاصية التي تميز الصانع، أي الخلق والإبداع؟

مناقشة هذا السؤال تبدأ بتعريف العمليات الذهنية، مثل التفكير (التفكيك والربط)، والتعلم (التقليد، المقارنة وإعادة الإنتاج)، والذاكرة (الحفظ والتصنيف والتقعيد والتنميط) وحل المشكلات، ولا سيما اختبار الاحتمالات والنتائج. هذه المناقشة محلها علم النفس المعرفي.

بعد التوصل إلى نتائج شبه رقمية، سنحتاج إلى التعرف على المسارات المتبعة فعلياً في تطوير أنظمة الذكاء الاصطناعي، وأبرزها:

أ- اختبار تورينغ، نسبة إلى عالم الرياضيات والحوسبة البريطاني آلان تورينغ. وهو يركز على اختبار قدرة الآلة على محاكاة الذكاء البشري، ولا سيما في المحادثة والاستذكار، ثم قياس سرعة المحاكاة ومدى مطابقتها. لعل أشهر تطبيقات هذا الاختبار، روبوتات المحادثة المدعومة بالذكاء الاصطناعي.

ب- تعلم الآلة: وتركز على إعادة إنتاج الحلول، من خلال المقارنة والتعرف على الأنماط الرئيسة والفرعية والمفاضلة بينها، إضافة إلى القدرة على البرمجة الذاتية والتكيف مع البيانات الجديدة من دون تدخل بشري مباشر. وبين أشهر الأمثلة على هذا المسار نظام ألفا-زيرو Alpha-Zero الذي طوَّرته شركة تابعة لـ«غوغل»، ونجح في إتقان لعبة الشطرنج خلال أربع ساعات من التعلم الذاتي. ويقال إنه طوَّر أساليب جديدة في اللعب، لم يسبق أن استعملها أبطال اللعبة.

ت- الابتكار وإبداع معلومات جديدة لم تكن معروفة أو مؤكدة سابقاً. وهو يشمل إنتاج محتوى إبداعي، مثل رواية أو شعر أو لوحة فنية أو حل هندسي أو رياضي. وتوجد الآن تطبيقات تنشئ لوحات فنية أو مقاطع فيديو، اعتماداً على نصوص مكتوبة أو محكية. كما أن البروفسور جيوفاني ساجيو، وهو عالم إيطالي، طوَّر تطبيقاً يكشف عن الأمراض، بتحليل صوت المريض، ويقال إن هذا البرنامج نجح في تقديم نتائج مطابقة لنتائج الفحوص السريرية بنسبة عالية جداً، رغم أن توصله للنتائج يستغرق دقائق معدودة.

توضح مسارات التطوير السابقة الذكر، الإطارات الواقعية للنقاش. الخبراء لا يتحدثون عن إمكان مطلق أو استحالة مطلقة، بل عن درجات الإمكان. حين يقولون إن الذكاء الاصطناعي يستطيع تجاوز نظيره البشري، فهم لا يقصدون الإمكانية المطلقة لاستبدال أحدهما بالآخر، بل درجة متقدمة في جانب بعينه. هذا يشبه مثلاً السيارة التي يصنعها الإنسان فتسير أسرع منه. هذا لا يعني أن السيارة بديل عن الإنسان، بل هي قادرة على تجاوز حدوده في مجال بعينه. كذلك الذكاء الاصطناعي الذي برهن فعلياً على إمكانية تجاوز حدود البشر، لكن ليس إلى حد إلغاء دور الإنسان.

يمتاز العقل البشري بالقدرة على اكتشاف مسارات وضروب حياة، ما زالت بعيدة عن حدود الخيال. ولأن الذكاء الاصطناعي ليس - من حيث المبدأ - مجهزاً للتخيل ولا يعتقد أنه قادر على التخيل؛ فإن الوصول إلى تلك المسارات، سيبقى – على الأرجح - حكراً على الإنسان، إلى أن يكشفها ويقدمها للآلة التي نسميها الذكاء الاصطناعي.

***

د. توفيق السيق – كاتب وباحث سعودي

مفهوم المواطن والمواطنة تغير بشكل كبير نتيجة تغير السياقات التاريخية والتطور التكنولوجي خلال العقود الأخيرة حيث شكل التحول الرقمي وتغول راس المال العالمي ممثلا بانتشار العولمة ونظام التفاهة ادى الى ظهور(مواطنين روبوتيين) يتشبهون بأنظمة الذكاء الاصطناعي في تفاعلهم الاجتماعي، رغم ان  أنظمة الذكاء الصناعي، تُستخدم في مجالات عديدة لكنها  خلقت نوعًا جديدًا من التفاعل والسلوك الاجتماعي،من المعروف ان معظم وسائل الإعلام تستخدم التكنولوجيا الرقمية للترويج لثقافة الاستهلاك، مما جعل الأفراد يتبنون هويات مرتبطة بالعلامات التجارية التي أدت  الى إلى تغيير مفهوم المواطن، وتحول النظر إلى الأفراد كشخصيات مستقلة عن الانتماء الجغرافي تنشد العمل في أي بقعة واي مجتمع بدلاً من أعضاء دائمين،مواقع التواصل الاجتماعي و البرمجيات تُجمع البيانات عن الأفراد وتُستخدم لتحديد سلوكهم واحتياجاتهم، هذا يؤدي إلى تشكيل هوية تتحكم فيها روبوتات  الشركات الكبرى، مما خلق نوعًا من (المواطنة الرقمية ) التي تساهم في تفاقم الفجوات الاجتماعية، حيث يتم تهميش الفئات الأقل حظًا في المعرفة التكنولوجية، و يعيد تعريف مفهوم المواطنة ويجعلها مرتبطة بالمكانة الاقتصادية  والاجتماعية تكنولوجيا بشكل زائف، باختصار التكنولوجيا الروبوتية ساهمت في تشكيل (مواطن روبوت) من خلال دمج التكنولوجيا والاقتصاد والثقافة في عملية بناء الهوية ومفهوم المواطنة وتجاوزت المفهوم التقليدي الذي ترسخ في لاوعي المجتمعات.

إعادة تعريف المواطنة

 تعريف المواطنة في ظل التغيرات التكنولوجيا يمكن أن تتم من خلال عدة جوانب، حيث اعتبرت البصمة الرقمية جزءًا أساسيًا من الهوية، هذا يشمل الحق في الخصوصية والأمان وحرية التعبير على المنصات الرقمية ويُفرض على الأفراد والشركات العمل على تحسين المجتمع والبيئة والعمل على تعليم الحقوق والواجبات، وكيفية التنقل داخل  العالم الرقمي وتحمل المسؤولية .كما يشمل هذا تشجيع المشاركة الفعّالة في المجتمع من خلال الفعاليات المحلية والعالمية، مما يعزز الانتماء والانخراط في القضايا الاجتماعية، هذا  يحتم ان تكون الشفافية  واضحة فيما يتعلق بالسياسات التكنولوجية وتأثيراتها على المجتمع، مما يعزز الثقة ويعيد تعريف العلاقة بين المواطن والدولة، باختصار إعادة تعريف المواطنة يتطلب التكيف مع التغيرات الحديثة وتعزيز القيم الإنسانية والاجتماعية في عالم تزداد فيه تأثيرات التكنولوجيا الروبوتية اجتماعيا واقتصاديا.

 المواطن الروبوت

المواطن الروبوت، ككيان يعتمد على منتجات الذكاء الاصطناعي والذكاء الصناعي يمكن أن يُبرمج ليحمل مجموعة من القيم والمخرجات، لكنها تختلف عن القيم الإنسانية التقليدية.  اذ يمكن تصميم الروبوتات لتتبنى قيمًا أخلاقية معينة، مثل العدالة والشفافية، بناءً على برمجة وتوجيهات محددة سلفا، باستخدام خوارزميات تحليلية لتقييم المواقف واتخاذ قرارات تتماشى مع معايير أخلاقية، يمكن للذكاء الصناعي أن يظهر تفضيلات جمالية معينة بناءً على البيانات المدخلة، لكنها لا تمتلك ذوقًا شخصيًا حقيقيًا كما يفعل البشر، كما يمكن برمجة الروبوتات لتكون حساسة للقيم الثقافية والاجتماعية في الاوساط التي تعمل فيها من خلال مدخلات خاصة ومنحازة، ما يجعلها تتفاعل بشكل أكثر حدة، الروبوتات المبرمجة بالذكاء الصناعي لا تمتلك مشاعر أو وعي، لذا فهي تفتقر إلى القيم الأخلاقية الحقيقية التي يمتلكها البشر، مما يحد من قدرتها على فهم السياقات بشكل كامل .المواطن الروبوت  بسبب التغذية البرمجية والمحيط التكنولوجي قد يتحول عن قيمه الانسانية الى كيان روبوتي.

العولمة وازدهارها

العولمة تسهل تبادل التكنولوجيا والابتكارات بين الدول، مما يعزز تطوير الروبوتات والذكاء الاصطناعي، توفر العولمة فرصًا لأسواق جديدة، مما يدفع الشركات للاستثمار في تطوير تقنيات جديدة تلبي احتياجات السوق، تعزز العولمة التعاون بين الدول في مجالات البحث والتطوير، مما يساهم في تحسين تقنيات الروبوتات، العولمة تؤدي أيضا إلى تحول في نماذج العمل، حيث تزداد الحاجة إلى الأتمتة والروبوتات لتلبية الطلب العالمي المتزايد، انتشار الثقافة الرقمية يعزز من دمج الروبوتات في الحياة اليومية، مما يساهم في قبول فكرة المواطنة الروبوتية، تطرح العولمة أيضا تحديات جديدة تتعلق بالمسؤولية والأخلاق في استخدام الروبوتات، مما يدفع النقاشات حول المواطنة الروبوتية إلى الواجهة بذلك، تلعب العولمة دورًا محوريًا في تشكيل وتطوير مفهوم المواطنة الروبوتية وازدهارها.

حقوق الروبوت بدلا من حقوق الإنسان

من خلال سرديات العولمة و نظام التفاهة،  تظهر دعوات لتوسيع مفهوم الحقوق ليشمل الروبوتات، وهو ما يثير العديد من النقاشات و يطرح تساؤلات حول ما إذا كانت الروبوتات تستحق حقوقًا مماثلة لتلك التي يتمتع بها البشر ام لا، نظرًا لافتقارها للوعي والمشاعر قد تظهر تحديات أخلاقية تتعلق بكيفية معاملة الروبوتات، خاصة إذا كانت تُستخدم في وظائف حساسة أو في مجالات مثل الرعاية الصحية، التركيز على حقوق الروبوتات قد يُهمل حقوق الإنسان الأساسية، مما يثير القلق حول الأولويات الاجتماعية، وضع تشريعات جديدة تحدد حقوق  الروبوتات،   يؤدي إلى تعقيدات قانونية،لذا سيكون من الضروري إيجاد توازن بين حقوق الروبوتات وحقوق الإنسان، لضمان عدم تقويض القيم الإنسانية الأساسية ويبقى التركيز على كيفية استخدام التكنولوجيا لخدمة الإنسانية بدلاً من استبدال القيم الإنسانية بقيم الالة، في نظام التفاهة لا يوجد توازنً دقيقً بين الاثنين .

السرديات التاريخية والتطور التكنولوجي

السرديات التاريخية تسلط الضوء على كيفية تطور التكنولوجيا عبر الزمن، من فجر التاريخ مرورا بالثورة الصناعية إلى الثورة الرقمية، الذي مهد الطريق للمواطنة الروبوتية هي الا شارة إلى كيفية تأثير التكنولوجيا على الهياكل الاجتماعية والمفاهيم التقليدية للمواطنة،  كما ساهمت العولمة في دمج ثقافات مختلفة أدت الى تطوير معايير اخلاقية وقيم مرتبطة بالروبوتات رغم ان هذا يشير الى التركيز على النقاشات حول التكنولوجيا والمواطنة لكن قد تسير الأمور الى السطحية وعدم العمق حول المواطنة الروبوتية، ان فهم العلاقة بين العولمة ونظام التفاهة يتطلب تطوير أطر جديدة للتعامل مع القضايا الأخلاقية والاجتماعية المتعلقة  بالسرديات التاريخية والمواطن الروبوت،  تطور الروبوتات يعكس التقدم التكنولوجي عبر العصور، حيث كانت السرديات التاريخية تتناول كيفية تأثير الابتكارات على المجتمعات كما في الأدب الساخر والخيال العلمي، الذي قدّم تصورًا عن الروبوتات منذ عقود، مما أسهم في تشكيل فهمنا الحديث لهذه السرديات، وكيف انعكست المخاوف والتطلعات البشرية، مثل القضايا الأخلاقية المتعلقة بالذكاء الاصطناعي وكيف انعكست التغيرات في القيم الاجتماعية والاقتصادية، السرديات التاريخية ساعدت في تشكيل  رؤية لمجتمعات للمستقبل، مما اثر على السياسات والتشريعات، هذه العلاقة تعكس كيف يمكن أن تكون التكنولوجيا جزءًا من النسيج الاجتماعي والثقافي، مما جعلها موضوعًا غنيًا للدراسة والتحليل، تأثير الخيال العلمي على تصورنا  للروبوتات كبير ومتعدد الأبعاد، الخيال العلمي لا يقتصر فقط على الترفيه، بل يلعب دورًا حاسمًا في تشكيل تصوراتنا واحلامنا وتوجهاتنا نحو مستقبل وتنمية مستدامة، مما يجعلنا نفكر في التأثيرات الاجتماعية والأخلاقية  للتكنولوجيا.

التأثيرات السلبية للمواطنة الروبوتية

 أن  الاعتماد الكامل على التكنولوجيا من خلال تكنولوجيا الروبوت قد يؤدي إلى تآكل الهوية الفردية، حيث يتم التعامل مع الأفراد كأجهزة أو أدوات، الاعتماد المفرط على الروبوتات يقلل من التفاعل البشري، مما يسبب شعورًا بالوحدة والعزلة، قلة التفاعل الاجتماعي تؤدي إلى مشكلات نفسية مثل الاكتئاب والقلق، استخدام الروبوتات في العديد من المجالات الاقتصادية يؤدي إلى تسريح العمالة وتقليل فرص العمل، استعمال الروبوت قد يتجاوز القيم الأخلاقية الإنسانية في خصوصا في الحروب والتجسس، مما يؤدي إلى قرارات غير عادلة أو غير إنسانية كما  تزداد المخاوف من انتهاك الخصوصية وزيادة الرقابة على الأفراد من خلال تكنولوجيا الروبوتات التي تستدعي التفكير الجاد في كيفية دمج التكنولوجيا في حياتنا بطريقة تحافظ على القيم الإنسانية وتزيد من رفاهية الفرد.

***

غالب المسعودي

يحكي الروائي الكولومبي غابرييل غارثيا ماركيز في مذكراته الشخصية أنه سأل جده في الصغر عن معنى كلمة "بحر"، غير أن هذا الأخير لم يعثر على صورة له في قاموسه المهترئ القديم فحاول أن يشرحها له من خلال عبارة تستحق التسجيل، قال " هناك كلمات لا يحتويها القاموس، لأن الناس جميعا تعرف معناها ". ويبدو الأمر كذلك حين نتحدث عن الاضطهاد والتحرر كما ترددا في كتابات المفكر والتربوي البرازيلي باولو فريري (1997-1921)، فللمفردتين معا دلالات خلاقة لا يمكن أن تستشفها من التعريفات المبثوثة في القواميس والمعاجم. وحده باولو فريري من خلال رؤيته الإنسانية والتناقضات التي ضج بها واقعه يمكنه أن يضعك أمام ضراوة القهر المطمور تحت ثقافة الصمت، وآلية تفجيره من الداخل لبلوغ التحرر الفعال.

لم تكن "ريسايف"، مسقط رأس باولو فريري، غير تجل آخر لأحزمة البؤس والقهر المنتشرة في البرازيل مطلع الثلاثينات من القرن الماضي. وأسهمت الأزمة الاقتصادية الشهيرة عام 1929 في تضييق الخناق على أسرة فريري ليختبر بنفسه آلام الجوع والمعاناة,وليعزز مقولاته النظرية فيما بعد بميزة الممارسة العملية والخبرة المستقاة من واقع مجرب. فكان اكتشافه لثقافة الصمت التي يلوذ بها المقهورون مدخلا لتصحيح الوضع التعليمي، لا على صعيد تعليم الكبار فحسب,بل أيضا من خلال إبداع فلسفة تربوية تضع حدا للهيمنة والغزو الثقافي، وتحرض المقهورين على الدخول في حوار ناقد مع العالم، يُسائله تمهيدا لتغييره وتجاوز مقولاته الاستعلائية.

إن ثقافة الصمت كما يعرضها فريري في الفصل الأول من كتابه "تعليم المقهورين"وليدة حالة اللا أنسنة، أي اختلال قدرة الإنسان على ممارسة وجوده على نحو متكامل. وهي ليست حتمية مصيرية بل ظاهرة تاريخية يمكن تجاوزها نحو الأنسنة عبر مسعى التحرر والنضال، مما يفرض التعرف على أسباب القهر وظروفه ليتمكن المقهور من تطوير موقف جديد تتحقق فيه إنسانيته، بمعنى أن يؤدي تفكيك القهر إلى تجسيد الحرية والتأسيس لمقومات الكرامة الإنسانية، لا إلى لعبة تبادل أدوار مقيتة: "إن بعض المقهورين، خلال مرحلة النضال، بدلا من أن يناضلوا من أجل تحقيق حريتهم فإنهم يجنحون إلى ممارسة دور القاهرين وأشباههم. وهذا المظهر في واقعه انعكاس للواقع المتناقض الذي ظلوا يعيشون فيه، فقد حلم هؤلاء بأن يصبحوا رجالا ولكن صورة الرجل ظلت في مخيلتهم هي صورة القاهر" (1). غير أن استعادة الحرية والتوازن النفسي، والانتقال من حال الخضوع إلى التمرد والمجابهة يظل رهينا بتبديد عوائق ثاوية في التكوين النفسي والعقلي للمقهور.  فالخوف من الحرية والاستهانة بالذات ينجم عنهما حالة من التلاؤم والتأقلم مع الوضع السائد، وبالتالي الميل إلى التوافق وتفضيل حياة القطيع على التحرر والإبداع. لذا حرص فريري على التأكيد بأن الأداة الفعالة التي يستهل بها المقهورون مسلسل نضالهم هي تطوير أسلوب تعليمي نقدي يكتشفون من خلاله أنفسهم.

لكن قبل المضي في عرض البدائل التي طرحها فريري لبلوغ أنسنة ممكنة لهذا الواقع غير المتحرر، لابد من الإشارة إلى أن دعوته لم تكن مجتزأة من السياق الاجتماعي والتاريخي لدول أمريكا اللاتينية ككل. فالمنطقة آنذاك كانت مسرحا لتيار لاهوتي جديد، مزج بين معطيات علم اللاهوت ومقولات التحليل الاجتماعي للتبعية والتخلف اللذين تعيشهما أمريكا اللاتينية. إنه لاهوت التحرير الذي أعلن عن ميلاده القس غوستافو غوتييريز في دولة البيرو عام 1968,واضعا بذلك الحجر الأساس للكنيسة الشعبية التي تبنت مفهوم التربية التحررية كما باشره فيما بعد باولو فريري. إذن كان المشهد يعرف نوعا من الحراك الديني والثقافي الذي استوعب آراء فريري وهيأ لها فرص النجاح قبل حدوث الانقلاب العسكري.

ينتج مجتمع القهر نظاما تربويا مكرسا لخدمته والإبقاء عليه، وبالتالي فلا صحة للمقولة السائدة لدى أغلب التربويين حول قدرة التربية على إعادة تشكيل الواقع الاجتماعي وتغيير الأوضاع الراهنة. أما دور المربي أمام وضع كهذا فهو كشف الأساليب التعليمية المعتمدة في التطبيع مع القهر وإبطال مفعولها، ثم استعادة البعد الإنساني للتعليم كمدخل حيوي لاكتساب الحرية. وفي التحليل الموضوعي لعلاقة الأستاذ بالتلميذ يكشف فريري عن خصائص التعليم النابع من فلسفة القهر والعنف. فأسلوب التواصل بين الطرفين داخل فضاء الحجرة الدراسية قائم على شحن العقول بخبرات ميتة تعيد إنتاج الواقع بدل تجاوزه وتغييره، وتحض على الإذعان للهجة المتعالية وادعاء امتلاك الحقيقة والمعرفة من لدن طرف واحد سواء داخل الفصل أو حتى خارجه. إنه أسلوب يكرس الجهل عوض التصدي له، ويؤسس لتعليم قائم على إيداع المعلومات واستردادها وفق دورة لا تنتهي:"هكذا أصبح التعليم ضربا من الإيداع، تحول فيه الطلاب إلى بنوك يقوم الأساتذة فيها بدور المودعين، فلم يعد الأستاذ وسيلة من وسائل المعرفة والاتصال، بل أصبح مصدر بيانات ومودع معلومات ينتظره الطلاب في صبر ليتذكروا ما يقوله ثم يعيدوه. ذلك هو المفهوم البنكي للتعليم. "(2)

في المقابل يدعو باولو فريري إلى تعليم إنساني "ثوري"يحرر التلميذ من التناقض الذي يفرزه التعليم البنكي بين المحتوى التعليمي الجامد وحركية الواقع المستمرة.

تعليم ينمي الملكة النقدية ويولد قلقا مستمرا يحفز الطلاب على التفكير والإبداع، وحل التناقضات التي تحول دون الحرية.

تعليم لا يختزل أداء المعلم في ملء الأواني الفارغة وتعويد الطلاب السلبية والتأقلم، بل يرسم إطارا جديدا لعلاقة بين الطرفين قوامها الحوار والتعلم المستمر والمشاركة في اكتشاف حقائق العالم !

إن التعليم برأي فريري لا يمكن أن يكون محايدا مادام ضرورة إنسانية، وكل ادعاء للحياد هنا لا يخلو من زيف. فإما أن يكون عملية تحرر وتجاوز,وإما عملية أقلمة وتطويع وملاءمة للجيل الناشئ مع الأوضاع القائمة. إننا عندما نخطط ونرسم السياسات التعليمية نكون بصدد أعمال سياسية منطوية على اختيار إيديولوجي سواء كان هذا الاختيار واضحا أو مبهما لا فرق (3). غير أن مجرد الوعي بهذه الحقيقة لن يغير من الأمر شيئا ما لم تتم إعادة الاعتبار لعلاقة الإنسان بالعالم عبر منهج تعليمي محدد وسيلته المثلى:الحوار !

يؤمن فريري بأن الحوار مواجهة سلاحها كلمة صادقة ذات بعدين:الرؤية التي تضفي على الوجود الإنساني قيمة ومعنى، والفعل المحفز على تغيير الواقع. أما الغاية منه فهي التأسيس لعلاقة تضامنية بين الطرفين (المدرس والطالب) تحقق الأنسنة عبر التفكير المبدع، وهو ما يفرض إعادة النظر في الرؤية المتحكمة في بناء الموقف التعليمي "إن الصفة الحوارية للتعليم كمظهر للحرية لا تبدأ حين يقابل المدرس التلميذ في موقف تعليمي، بل تبدأ حين يسأل المدرس نفسه عن القضية التي سيجعلها موضوعا للحوار مع التلميذ"(4). وهذا المنهج الحواري هو قلب العملية التحررية كما تصورها فريري، والذي يُكسب الطالب وعيا نقديا يتسم بالعمق في طرح المشكلات وكشف التناقضات التي يضج بها العالم من حوله، ثم يعمل على خلق حالة حوارية دائمة تنمي ملكات الفضول المعرفي والتساؤل، وتستنهض إمكانيات التغيير والمراجعة.

ليس المنهج الحواري إذن مجرد نقل وتحويل للمعلومات والبيانات ضمن علاقة تسلطية ورأسية غير قابلة للنقاش,وإنما يتعلق الأمر بوضع تعليمي قائم على السعي المشترك بين الطرفين لمعرفة المزيد، وعلى استجاية واعية لتحقيق الحرية. إن هذا النوع من التعليم، يقول فريري، ينطلق من قناعة فحواها أن البرنامج التعليمي لا يكون تعليميا مالم يتخذ من الحوار مع الناس أساسا له. فهو يقدم أسلوب تعليم المقهورين بالطريقة التي يسهم فيها المقهورون أنفسهم وبصورة إيجابية في العملية التعليمية (5).

طور باولو فريري نظرية لتعليم الكبار وظف من خلالها مقولاته حول التربية النقدية مستلهما كلماته الدلالية وتقنياته وتصوراته من بيئة المقهورين ذاتها. وتتضمن نظريته التي أوردها بتفصيل في كتابه "التربية من أجل إثارة الوعي النقدي" الخطوات الإجرائية الآتية :

- دراسة البيئة ورصد الموضوعات الخاصة بالمنطقة.

- حصر وانتقاء الكلمات التوليدية " أو المنتجة كما يسميها فريري" ذات البعد الانفعالي والتي تمكن من تحديد مستويات إدراكهم للواقع وللبناء الاجتماعي والسلطوي من حولهم.

- تنظيم محتوى البرنامج التعليمي انطلاقا من الموضوعات التي تثير احتياجات لدى الأفراد، وإعداد التصنيفات والرموز المراد استخدامها لتناول مشكلة معيشية على سبيل المثال.

- تدشين حوارات فك الرموز عبر حلقات بحث الموضوعات، والتي يشترط فريري أن تتألف من عشرين شخصا كحد أقصى، وأن تستوعب الحلقات عشرة بالمائة من سكان المنطقة موضع الدرس .

- متابعة مكملة للمستفيدين من هذه الحملة التعليمية كي لا يرتدوا مجددا إلى الأمية .

جرى لاحقا تطوير منهجية فريري لتشمل ليس فقط الكبار بل حتى الأطفال اليافعين المتسربين من المدارس.  إذ تم تصميم برامج تثقيف المتسربين وفق منهجيةTCELFER، وهي اختصار ل"الفريرية المتجددة لمحو الأمية من خلال التقنيات المجتمعية". وفي مقابلة أجرتها كاترين دينيس (6)مع جواد قسوس المشرف على برنامج تعزيز ثقافة المتسربين بالأردن، يقدم هذا الأخير مثالا حيا للنتائج الإيجابية التي حققتها هذه المنهجية مع فئة من أطفال الشوارع:

" لقد استخدمنا أسلوب الحوار لتحديد المواضيع التي تهم الطلاب، فعلى سبيل المثال كان موضوع التعرض للحرارة الخارجية أثناء النهار من المواضيع التي حازت على اهتمامهم.  بداية، طلبنا منهم وصف شعورهم إزاء تعرضهم لحرارة الجو ومن ثم ربطنا ملاحظاتهم ببعض المشاكل الصحية مثل الجفاف والحروق الناجمة عن التعرض للشمس التي يمكن أن تسببها الحرارة.  انتقلنا بعدها لتعلم الأجزاء المختلفة من جسم الإنسان وشرح عملية الجفاف وأهمية الماء للجسم وكيفية امتصاصه. فكنا نبدأ، على سبيل المثال، بكلمة "شمس" ومن ثم نكتب كلمات أخرى تبدأ بحرف "ش" وكلمات تبدأ بحرف "م" ثم كلمات تبدأ بحرف "س". وانطلاقا من الكلمات كنا ننتقل إلى الجمل والنصوص البسيطة. فقد أنتجنا نصا يمكن للطلاب قراءته وإعادة كتابته والتعامل معه. وبناء على ذلك تم تصميم الاختبارات، حيث شعر الطلاب لأول مرة بأن الاختبار أمر يمكن اجتيازه لأن المواضيع كانت مألوفة بالنسبة إليهم "(7).

 نجح البرنامج كذلك في إقناع المعلمين المشاركين في هذه الحملة بالتخلي عن أساليب التدريس التقليدية، واعتماد منهجية فريري في فصولهم الدراسية، مما يستدعي تبنيها كأسلوب بيداغوجي في المؤسسات التعليمية.

تطورت تربية المقهورين إلى "تربية الأمل " كما صاغ فريري مقولاتها في أواخر حياته، ملائما موقفه مرة أخرى مع لاهوت التحرر الذي تطور بدوره إلى "لاهوت الحياة". وفي الصياغة الأخيرة بدا فريري أكثر تفاؤلا وثقة بالمستقبل. لقد كان كما وصفه التربوي الأمريكي باتريك كلارك "شعلة مضيئة في ظلام الحتمية الإيديولوجية واليأس والمنظم". 

إن استحضار باولو فريري اليوم، كرؤية إنسانية تنشد نهجا تعليميا أكثر إنصافا وعدالة، لهو أمر يستمد وجاهته من الضغط الذي تمارسه عولمة لا ترحم، ومن القهر الذي لا يكف عن ملاحقتنا وفق أكثر الصيغ تهذيبا ومراوغة.

فهل تفلح منظوماتنا التعليمية اليوم في التمسك بالتعليم كحق إنساني يتصدى للتمييز والاستبعاد, أم سيكون للمذهب النفعي والاقتصادي الضيق كلمته الأخيرة ؟

 ***

حميد بن خيبش

.........................

1- باولو فريري: تعليم المقهورين. دار القلم بيروت. د. ت. ص 28

2- نفس المرجع. ص51

3- د. سعيد إسماعيل علي: فلسفات تربوية معاصرة. المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب. الكويت1995. ص 181

4- باولو فريري. مرجع سابق. ص 71 

5- نفس المرجع. ص 90

6- المديرة الإقليمية للجمعية الألمانية لتعليم الكبار في الشرق الأوسط.

7- كاترين دينيس :تعليم الكبار والتغير الاجتماعي. مؤسسة التعاون الدولي للجمعية الألمانية لتعليم الكبار. الأردن2013. ص76

تأملات في خيانة الوعي لنفسه

لا يُعدُّ فعل الكتابة، في جوهره، إنتاجًا لفظيًا نابعًا عن إرادة حرّة، بقدر ما هو انكشافٌ لوعيٍ مأزومٍ بتكوينه، متورّط بمراجعة ذاته عبر أدواتٍ ليست نابعة منه خالصًا. بل إن الكاتب، في لحظة الكتابة، لا يخطّ سطورًا تعبّر عن ذاته فحسب، بل يُستَخدَم بوصفه أداةً لفكرةٍ تتخطاه، فكرةٍ تكتبه أكثر مما يكتبها.

في مقال سابق ذكرت أن: الفكرة الحقيقية لا تنبع من داخلنا، بل تستدعينا لنتجسّد فيها. فالمقال، حين يُكتب بصدقٍ فلسفي، لا يتولّد من الداخل وحده، وإنما يُكتب من منطقة تماسٍّ بين البنية الثقافية الكامنة، وبين الصدع الكامن في ذات الكاتب؛ ذلك الصدع الذي يسيل من خلاله المعنى بغير استئذان.

الكتابة بوصفها انفعالًا معرفيًّا

ليس الكاتب، كما يُظن، فاعلًا مُطلقًا في عملية الكتابة، بل إن سلطته على النص لا تتجاوز حدود الاستضافة. فهو يستضيف الفكرة، لا يخلقها. ينفعل بها، لا يتحكّم فيها. وهذا ما يجعل المقال، في كثيرٍ من الأحيان، أذكى من كاتبه، وأسبق منه في التكوين.

وقد أشار بول ريكور إلى هذا المعنى حين قال: لسنا نحن من نبدأ بالكلام، بل اللغة هي التي تُجبرنا على النطق من داخلها. فاللغة – بوصفها نسقًا سابقًا على الذات – لا تتيح حرية مطلقة، بل تفرض بنيةَ تعبيرٍ تُملي شروط الإدراك وصياغة المعنى.

خيانة الوعي لذاته: انكشاف لا إرادي

كل فكرة تخرج من الكاتب دون مقاومة، لم تمرّ على وعيه بما يكفي

الخيانة التي نقصدها هنا، لا تشير إلى انحدار أخلاقي، بل إلى مفارقة معرفية، حيث يُنتج الوعي ما لا يُطابق تصوّره السابق عن ذاته. وهذه المفارقة هي التي تُنبّه الكاتب إلى أن وعيه لا يملك سيادةً كاملة على ما يخرج منه.

يقول عبد الجبار الرفاعي: المعرفة الحقيقية لا تُطمئن، بل تربك الوعي وتُقلقه في جذره الأول. وهذه الإرباكات التي تُخلخل بنية الكاتب هي ما يجعل المقال يتجاوز وظيفة الإفصاح إلى موقع الخلخلة والتفكيك وإعادة التشكل.

بين فاعلية الكتابة ولاوعي النص

لو نظرنا إلى لحظة الكتابة من زاوية هيغلية، لأمكننا القول إن الكاتب لا يُنتج النص من عدم، بل يحقّق لحظةً ضمن تطوّر تاريخي ووعي جمعي سابق عليه. فهو ليس فاعلًا في معزل عن البنية، بل متجلٍّ لحركتها، يُكتب بواسطتها، ويذوب في خطابها. ومن هذا المنطلق، يمكن اعتبار المقال ليس تعبيرًا عن الذات، بل أداة لتجاوزها أو حتى فضحها.

في هذا البحث اقول أنا لا أكتب، بل أسمح للفكرة أن تكتبني

الغيرة المعرفية: حين يغار الوعي من نص لم يُولد

ثمّة لحظة شديدة الخصوصية يعيشها كل كاتب: يرى فكرةً تتكوّن على أطراف وعيه، يشعر بوجودها، لكنه لا يمتلك أدوات الإفصاح عنها بعد. إنها الغيرة المعرفية، حين يُدرك الكاتب أن ثمّة نصًّا حقيقيًا ينتظره، نصًّا لم يُولد بعد، لكنه موجود بالقوّة. وهنا، لا يكون الكاتب سوى قارئٍ مؤجَّل لنصّه المستقبلي، قارئٍ يحاول اللحاق بنصّ يتقدّمه، لا يلحقه.

 سلطة النص على الوعي

كل مقال يُكتب بصدقٍ فلسفي، لا يُعدّ امتدادًا لصوت الكاتب، بل اعتراضًا عليه. هو تجلٍّ لفكرةٍ تأخّرت في الظهور، لكنها حين ظهرت، كشفت هشاشة صاحبها.

وأقول في الخاتمه: لا أكتب لأقول ما أعرف، بل لأُجرِّد وعيي مما يظنه عن نفسه. فالكتابة، إذًا، ليست عملاً تعبيرياً، بل خيانة معرفية ضرورية. خيانة تُخرج الكاتب من استقرار الإدراك إلى أزمة التساؤل، ومن الطمأنينة إلى مكاشفةٍ لا تحتمل التراجع.

***

سجاد مصطفى حمود

..................................

هوامش توثيقية

1. بول ريكور، الذات بوصفها آخرًا، ترجمة جورج كتورة، المركز الثقافي العربي.

2. عبد الجبار الرفاعي، الدين والظمأ الأنطولوجي، دار التنوير، بيروت.

3. جورج فيلهلم هيغل، فينومينولوجيا الروح، بترجمات مختلفة.

 

من المعلوم أن مصطلح العصور الوسطى يعني القرون التي عانت فيها أوروبا من التخلف والجهل والسحر والشعوذة.  الكل يتفق مع هذا المضمون ولا خلاف فيه. لكن مما يلاحظ ويجلب الانتباه، هو ظهور أصوات من بعض المثقفين والمفكرين العرب ممن كتبوا وروّجوا لفكرة أن هناك قرون وسطى إسلامية مع ازدياد استعمال مصطلح القروسطية. فما المغزى من هذه الأفكار، وكيف ظهرت، ولماذا هي تزداد انتشاراّ في المجتمع العربي؟ أسئلة كثيرة وعديدة تستحق الإجابة عليها.

تُعرّف القرون الوسطى: بأنها حقبة زمنية امتدت لعشرة قرون، ابتداءً من القرن الخامس الميلادي لغاية القرن الخامس عشر الميلادي. وسميت الوسطى لأنها توسطت عصور التاريخ القديمة، تحديداً من عام 476م (عام سقوط الإمبراطورية الرومانية)، وعصور التاريخ الحديث، تحديداً عام 1453م (عام سقوط القسطنطينية). عانت أوروبا في هذه العصور من شدة الجهل والتخلف والسحر والشعوذة. سميت القرون الخمسة الأولى من القرون الوسطى بالقرون المظلمة، لشدة التخلف والجهل فيها، بينما اعتبرت القرون الخمسة التالية هي القرون الوسطى، لأنها كانت نسبياً أفضل من الفترة الأولى حيث بدأت فيها بوادر وبذور النهضة. وأريد أن أنوّه هنا إلى إن أحداث العصور الوسطى إنما هي خاصة بالشعوب والدول الأوربية حصراً، فهي لا تنطبق على الحضارة الإسلامية ولا على حضارة الصين وشرق آسيا، ولا حضارة الهند أو وسط آسيا أو افريقيا. ففي الوقت الذي كانت فيه أوروبا تغط في سبات عميق من الجهل والتخلف، فيما أصطُلح عليه بالعصور الوسطى، كان باقي أرجاء العالم يعيش عصراً ذهبياً من اشعاع نور الحضارة الإسلامية، متمثلاً في التسامح الديني والتحضّر واكتشاف العلوم التجريبية والتطبيقية (التي يدّعي الأوروبيون أنهم مكتشفوها) مثل علوم الكيمياء والجبر والأرقام والفلك والطب وغيرها. ولا أدرى لماذا يعتقد البعض أن الجهل والتخلف قد غزا العالم في القرون الوسطى ولا يَعتبرون أن العالم كان يعيش عصره الحضاري الذهبي. قد يكون السبب هو أن المؤرخين والمفكرين الأوروبيون اعتبروا أن تاريخهم هذا هو تاريخ العالم كله. ذلك لأن العالم بالنسبة للأوروبيين يتمثل في أوروبا والأوروبيين فقط، فالأوربيون لا يهتمون لغيرهم. وغالباً ما ذهبوا إلى التغاضي ونكران وجود بعض الحضارات غير الأوروبية. والمشكلة في كل هذا أن بعض المثقفين والمؤرخين العرب قبلوا وصدقوا فكرة أن تاريخ العالم يقسّم إلى عصور قديمة ووسطى وحديثة كما وضعه الأوربيون. وقَبِل بعض المفكرين والمؤرخين العرب هذا التاريخ على أنه تاريخ العالم دون تفحص أو تدقيق، بل تصديق أعمى لأقوال الغرب. خذ مثلا كتاب "خلاصة تاريخ العراق" للأب أنستاس الكرملي وهو يقسّم التاريخ العام على أساس التقسيم الأوروبي المذكور أعلاه، ويوجد غيره من المثقفين والمؤرخين في عصرنا الحديث والمعاصر ممن يعترفون بهذا التقسيم ويقبلونه كما هو. يَعرِف جيداً، كل من له معرفة بالتاريخ أن التواريخ المذكورة لتقسيم التاريخ لا تعني شيئاً لغير الأوروبيين كالعرب والفرس والأتراك والصينين والهنود. فلماذا نقبل بهذه المعلومات الزائفة؟

إن هذه النعرة، نعرة التقليد الأعمى للغرب الأوروبي، أخِذتٌ بالانتشار في الفكر والثقافة العربية. وقد سببت لنا مشاكل نحن في غنى عنها. أذكر على سبيل المثال ما كتبه الدكتور زكي نجيب محمود في كتابه "تجديد الفكر العربي". ومعلوم أن الدكتور زكي نجيب محمود يعتبر من كبار المثقفين في العالم العربي ومشهود له بالعلم والمعرفة، وهو من جيل المثقفين الكبار في القرن الماضي. يقول الدكتور زكي في مقدمة كتابه هذا، أنه خلال مسيرته الثقافية، تعلّم أن هناك ثقافة واحدة فقط، ناضجة وكاملة ومتطورة، وهي الثقافة الأوروبية (الغربية)، ولم يَعرف غيرها. دَرَسَها في سنين تحصيله العلمي، ودَرّسّها لتلاميذه، وبَرَع فيها. هو لم يطّلع على الثقافية الإسلامية إلاّ من خلال نصوص مشتتة غير كاملة ومبعثرة، لا تفيد الباحث ولا يصل منها إلى معلومة ثقافية مفيدة. ويقول أيضاً، إن صحوة فكرية اصابته في السنين الأخيرة من عمره جعلته ينفر من ثقافة الفكر الغربي، خصوصاً إذا ما كان صاحب الفكر الغربي هو عدوٌ لنا، فلا خير في ثقافة تأتي من عدو. فقرر أن يستبدلها بثقافة الأهل والأجداد، وأن يستعين بتراث الأقدمين (التراث الإسلامي) ليكون عاملاً من عوامل نهضة الأمة، وأن "يمزج تراث اسلافنا مع عناصر العصر الراهن الذي نعيش فيه لنكون بهذه التركيبة عرباً ومعاصرين في آن واحد.  ثم يتساءل "ولكن كيف يتم ذلك". ويستفسر "ما الذي نأخذه وما الذي نتركه من القيم التي انبثت فيما خلّف لنا الأقدمون؟ وما الذي نأخذه وما الذي نتركه من هذه الثقافة التي تهب علينا ريحها من أوروبا وامريكا، كأنها ريح عاتية؟ ". إن هذا الكلام يمثل دليلاً واضحاً واعترافاً صريحاً لواحد من كبار المثقفين العرب، بأنه لم يدرس التاريخ الإسلامي ولا الثقافة الإسلامية، وأنه فقط متمرس في الثقافة الأوروبية!! فماذا نتوقع من أفكاره تجاه الثقافة العربية الإسلامية. والملاحظ أن الكثير من المفكرين والمثقفين العرب يسيرون على هذا النهج، مؤمنين بأنه الطريق الصحيح لتجديد الفكر العربي، منبهرين بالنهضة الأوروبية إلى درجة أنهم لا يرون غيرها، ويعتبرون أن هذه النهضة هي الوحيدة والأصيلة في التاريخ. وبذلك فهم ينسون أو يتناسون أن الحضارات السابقة نهضت أيضاً من سبات وجهل عميق كانوا يعانون منه قبل أن يتحضروا، فخطوا الخطى ونهضوا النهضة الكبرى وسادوا على العالم. بالتأكيد لا يستطيع أحداً أن ينكر نجاح النهضة الأوروبية وسيادتها وتفوقها على العالم، لكنها ليست بالضرورة النموذج الفريد في التاريخ والذي يجب أن يحتذى به. يمكن أن يُحتذى بها كنموذج ومنهج للنهضة والتقدم لكن ليس بالأسلوب الذي يتبعه البعض المتحمس للغرب بتقليد أعمى لا يفرّق بين ما هو مفيد لمجتمعنا وما هو مضر لنا.

ليست الحضارة الأوربية هي الحضارة الوحيدة التي نهضت في تاريخ البشرية، فكل الحضارات التي سبقتها، وسادت على العالم في زمانها، كانت قد نهضت من حالة سبات وتخلّف عانت منه قبل النهضة. خذ على سبيل المثال الحضارة الإسلامية: كان العرب عند ظهور الإسلام قوم اميين متخلفين، لا حضارة لهم ولا منزلة لهم تذكر بين الحضارات التي سادت العالم في ذلك العصر (الحضارتين الفارسية والرمانية). كانوا مجرد قبائل بدوا رحّل متفرقين ومشتتين. وباعتناقهم الإسلام، في القرن السابع الميلادي، بدأت عندهم بذور النهضة. فاتحدوا وتعلّموا وتثقفوا، وغزوا العالم، واكتشفوا العلوم، وأنشئوا حضارة سادت على العالم. وأتساءل هنا: أليست هذه نهضة تماثل النهضة الأوروبية، مع مراعاة زمان حدوثها؟ وبنفس المقياس يمكن اعتبار كل الحضارات السابقة قد مرّت بمراحل النهضة، كلٌ حسب عصره وزمانه، فالنهضة ليست حكراً على الاوروبيين. لكن المؤرخون والكتّاب الأوروبيون عملوا على طمس وإغفال هذه الحقائق بهدف رفع شأن الحضارة الأوروبية وسطوتها على العالم عن طريق احتكار المكتشفات العلمية والثقافية وحصرها بهم.

المستشرق الألماني توماس باور، أستاذ الدراسات الإسلامية والعربية، نشر كتاباً بعنوان "لماذا لم توجد عصور وسطى إسلامية؟" تُرجمة إلى العربية ونشر بتاريخ 2020. ناقش المؤلف، في كتابه هذا، معنى مصطلح "العصور الوسطى الإسلامية" ومصطلح "القروسطية". بدأ نقاشه بمقارنة واقعية وصحيحة بين حال أوروبا في عصر حاكمها شارلمان (768-814م) التي تمثل فترة العصور الوسطى، وبين حال الحضارة الإسلامية في زمن هارون الرشيد (786-809م) التي تمثل فترة العصر الذهبي، ويشير بهذا المثال إلى التحيّز الواضح في استعمال مصطلح العصور الوسطى، فهم يُعِّدون هارون الرشيد وصلاح الدين من حكّام العصور الوسطى، لكنهم لا يقبلون اعتبار زمن شارلمان حقبة العصر الذهبي. ويقول توماس باور " إن الكثير من علماء الإسلاميات (يقصد الأوروبيون طبعاً) في الواقع ينطلقون من افتراض يبدو طبيعياً بوجود عصور وسطى إسلامية، وإنه من المنطقي استخدام مصطلح العصور الوسطى لوصف الثقافة والادب والعلوم في العالم الإسلامي". هذا الافتراض والترابط انطلق من اعتبار أن فترة العصور الوسطى تُعد أكثر حقبة سيطر فيها الدين على الاطلاق، واعتبروا أن الثقافات الإسلامية دينية بشكل خاص، لذلك فمن الطبيعي وجود عصور وسطى إسلامية!! وإن العصور الوسطى الإسلامية كانت تجسيداً للتعصب الديني. ويؤكد توماس باور إن مثل هذه الفكرة السخيفة عن المجتمعات الإسلامية في فترة ما قبل الحداثة بعيدة تماماً عن الواقع، حيث تميّزت الثقافة الإسلامية وبشكل مدهش بنسبة عالية من التسامح. وفي الوقت الذي طغت صفة العصور الوسطى على تاريخ العالم، بضمنها الحضارة الإسلامية، طُمِست وهُمّشت معالم العصر الذهبي واهملت على الرغم من أن أنوار العصر الذهبي كانت هي المنتشرة في أكثر أرجاء العالم. وصدقها بعض المفكرون والمثقفون العرب وكتبوا بها.

إن مصطلح العصور الوسطى لم يكن بريئاً، فقد استعمل وبكثرة للتشهير بالدول التي يعتبرونها متخلفة، ووصف حالة التخلف والجهل التي تمر بها شعوب العالم الثالث وتحديداً العربية والإسلامية. وقد تحوّل الآن مصطلح القرون الوسطى من كونه يمثل حقبة زمنية معينة مرت بها أوروبا، إلى كونه صفة مخصصة للتخلف والتعصب الديني، وهذا ما يوصف به المجتمع العربي حالياً. فالسعودية والعراق وسورية، مثلاً، تعيش الآن قرونها الوسطى من التخلف وعدم النهضة (كما توصف هذه البلدان حاليا فكرياً وسياسياً وحضارياً)، بينما يتم غض النظر عن واقع أحدثه الأوروبيون هو أن القرن العشرين هو الأكثر دموية في تاريخ العالم. وهكذا يتبين أن وصم بقية العالم بالقروسطية، هو فعل استراتيجي امبريالي غرضه استمرار إعلاء التفسير الغربي للحداثة العالمية على ما عداه من التفسيرات (توماس باور). ويقول توماس أيضاً "هي فكرة تعود إلى هيجل في كتابه "أطلس الفلسفة"، حيث كتب إلمر هولينشتاين: ما يبدو للغرب كقصة تَقَدم، يظهر في الشرق كقصة ركود. ولهذا السبب فإن المصير المحتوم للقارات المتخلفة -من وجهة نظر هيجل- هو أن تتم رعايتها والاشراف عليها من قبل أوروبا". وهذا ما حدث فعلاً عندما وضع العراق والشام تحت الانتداب البريطاني والفرنسي بعد الحرب العالمية الأولى من خلال انشاء عصبة الأمم وعلى أساس أن هذه الدول التي تحررت من سيطرة الدولة العثمانية عاجزة عن إدارة الدولة بسب تخلفها، لذلك يتم تكليف دول متحضرة للإشراف عليها وتعليمهم أساليب إدارة الدولة الحديثة.

أمّا مصطلح القروسطية فهو غريب ودخيل على الثقافة العربية، ظهر فيها حديثاً. ويبدو لغوياً أنه نتج عن دمج كلمتي القرون وكلمة الوسطى، لسهولة الاستعمال. إلا أن المعنى أعم واشمل، فقد أصبح لا يُستعمل لوصف فترة زمنية (حقبة القرون الوسطى)، وإنما يستعمل للتعبير عن حالة التخلف والجهل التي تعيشها المجتمعات المتخلفة. وعندما توصف المجتمعات بالقروسطية فإن ذلك يعني إنها ذات سلطة قمعية استبدادية، متخلفة لا تواكب روح العصر. لذلك فإن المصطلح أصبح غالباً ما يستعمل لوصف المجتمعات العربية والإسلامية. فعلى سبيل المثال، وصَفَ د. صادق جلال العظم بعض الممارسات الدينية المتشددة بأنها تعكس "عقلية قروسطية"، في إشارة إلى تحكيم نصوص دينية بتفسير جامد ومتسلط بعيداً عن العقلانية الحديثة. وكذلك قال محمد عابد الجابري في كتاب "المثقف العربي همومه وعطاؤه" عندما طُلب منه أن يكتب مقال عن "المثقفون في الحضارة العربية الإسلامية" فكتب ما يلي "كيف يمكن الحديث عن المثقفين في حضارة تنتمي إلى الماضي، إلى القرون الوسطى، في حين أن مقولة المثقفين حديثة"، وكأنه لا يعرف أن حقبة القرون الوسطى تستعمل حصرياً لوصف تخلّف الأوربيين، وإن عصر الحضارة العربية كان عصراً ذهبياً. وهناك امثلة كثيرة أخرى مشابهة لا يتسع المجال لذكرها.

والحقيقة، فقد نجح الأوربيين في إلصاق تهمة القرون الوسطى والقروسطية بالمجتمعات المتخلفة وتحديداً العربية منها. ونجحوا أيضاً في النأي بحضارتهم الأوروبية عن وصفها بالقرون الوسطى والقروسطية على أساس انها مرّت بنهضة متواصلة ليس فيها تخلف، بعكس الحضارة الإسلامية التي عانت وما زالت تعاني من التخلف، فانحصر مفهوم القروسطية بالمجتمعات المتخلفة فقط ولا يستعمل لوصف المجتمع الغربي المتحضر. ومما يؤسف له أن هذا المصطلح كثر استعماله عند المفكرين العرب. يذكر توماس باور في كتابه المذكور أعلاه مثال على استعمال مصطلح القروسطية "إن وصم كل من أفغانستان والعراق بالقروسطية قد ساعدت بالتأكيد على جعل التدخل الأمريكي فيهما أكثر قبولاً".

ولا يفوتني أن أذكر هنا كتاب "تاريخ ضائع، التراث الخالد لعلماء الإسلام ومفكريه وفنانيه" من تأليف مايكل هاملتون مورجان، وهو دبلوماسي امريكي وكاتب ومحلل سياسي. نشر الكتاب عام 2007. اختار المؤلف لكتابه اسم "تاريخ ضائع" (وهو يقصد التاريخ الحضاري الإسلامي المغيّب)، ليوضّح كيف تم تهميش وطمس ونسيان انجازات الحضارة الإسلامية بالكامل في السرديات الأوروبية لتاريخ العلم والثقافة، لكي ينسب الأوروبيون لأنفسهم فقط تلك الاكتشافات العلمية، ويتعمدوا انكار جهود غيرهم في تطور العلوم والمعرفة. يركز الكتاب على فكرة أن الغرب مَدين للحضارة الإسلامية بقدر كبير من التقدّم والتطوّر الفكري والعلمي، ويستعرض أحوال العصور الذهبية الإسلامية، وكيف كانت منارة عالمية للعلم والمعرفة في الوقت الذي كانت أوروبا تعيش ظلاماً دامساً. ويشرح تأثير العلوم الإسلامية على النهضة الأوروبية، مثل ابن سينا وكتابه "القانون في الطب"، والرازي وكتابه "الحاوي في الطب"، ودور الخوارزمي في اكتشاف الأرقام والصفر وعلم الجبر، وجابر ابن حيان وابن الهيثم في الكيمياء والبصريات. يقول المؤلف في مقدمة الكتاب "معظم الأمريكيون بما فيهم الأمريكيون المسلمون، وحتى عدد كبير من المسلمين حول العالم، لا يعرفون سوى قشور التاريخ الإسلامي أي " إنهم كانوا عظماء في يوم من الأيام وإنهم اخترعوا علم الحساب ثم سقطوا في مستنقعات التأخر". كما إن معظم الغربيين قد تلقنوا أن جذور المجد الغربي تعود إلى أيام الرومان والاغريق، وأنه بعد سبات ألف عام في مجاهل عصور الظلام حدثت المعجزة واستيقظت أوروبا لتعيد صلاتها بأصولها الرومانية والاغريقية. أما الاسهامات الفكرية للعرب والفرس والهنود والصينيين فقد اختزلت واقتصرت على الحواشي المتناثرة هنا وهناك".

والرسالة من هذا المقال: إلى المثقفين العرب المبهورين بالنهضة الأوربية بشدة، إلى درجة أن ابصارهم غَفلت عن مساوئ ومضار النهضة الأوروبية وكأنها غير موجودة، والتي لا تناسب المجتمع الشرقي.  وأذكّرهم بتجربة النهضة اليابانية الناجحة، التي تزامنت مع النهضة العربية في مصر في عهد محمد على باشا الكبير والتي تعثّرت مسيرتها ولم تعطي ثمارها بعد. ومن الأسباب المهمة في نجاح التجربة اليابانية هو اهتمام وتركيز العلماء والمفكرين اليابانيين على فهم العلوم والتقدم التكنولوجي والسياسي، والابتعاد عن عادات واعراف وثقافة المجتمع الغربي، التي لا تناسب مجتمعهم، واعتزاز اليابانيون بتاريخهم وتراثهم واعرافهم السائدة في مجتمعهم، وبذلك لم يحدثوا فجوة كبيرة في عقول وثقافة مجتمعهم كما حصل ويحصل في مجتمعنا.

***

د. صائب المختار

 

دراسة في البلاغة السلطوية والظلم المعرفي

الملخص: تهدف هذه الدراسة إلى تحليل ظاهرة "الكتابة الشريرة" باعتبارها ممارسة معرفية وسردية تُسهم في تبرير العنف الرمزي والمادي، وإعادة إنتاج أشكال من الهيمنة باسم الجمال أو العقلانية أو الموضوعية. تستند الدراسة إلى المنهج النقدي التحليلي، من خلال تفكيك العلاقة بين اللغة والسلطة، والوقوف عند نماذج من الكتّاب الذين وظّفوا النصوص كوسائط للهيمنة، أو غطاءً أيديولوجيًا لشرٍّ مؤسّس. وتُسائل الدراسة التواطؤ البلاغي الذي يُرتكب حين تُجمَّل البشاعة، ويُعاد تأثيث الجريمة بلغةٍ تخدّر الضمير وتُغيّب الحقيقة. تنتهي الدراسة إلى ضرورة بلورة وعي نقدي أخلاقي في مواجهة التضليل السردي، عبر بناء بلاغة مضادّة تفضح استراتيجيات الهيمنة وتقاوم سرديات الطمس.

الكلمات المفتاحية: الكتابة الشريرة، الشر المعرفي، الظلم السردي، البلاغة السلطوية، التضليل.

المقدمة: لطالما اعتُبرت الكتابة فعلًا تنويريًا، وسلوكًا أخلاقيًا يروم كشف الحقيقة وتحرير الوعي. غير أن التاريخ الإنساني، بما فيه من تقاطعات عنف وإيديولوجيا، أفرز ممارسات كتابية لا تُنير، بل تُعتم؛ لا تُحرّر، بل تُقنّن القمع.

من هنا، تنبع إشكالية هذه الدراسة من سؤال جوهري:

هل يمكن أن تكون الكتابة ذاتها فعلًا شريرًا؟ وهل يمكن للنص أن يتحول إلى أداة لتجميل الظلم، وتبرير الاستبداد، وإعادة إنتاج الهيمنة؟

أولًا: الإطار النظري - الشر المعرفي والظلم السردي

الشر المعرفي (Epistemic Evil): يعني استخدام المعرفة أو اللغة لتشويه الحقيقة أو إخفائها أو إعادة صياغتها ضمن أنساق تُخدِم مشاريع قمعية. تشير ميراندا فريكر (2007) إلى أن "الظلم المعرفي" يحدث حين يُنزع عن الأفراد أو الجماعات حقهم في أن يكونوا مصادر معرفية موثوقة، بما يعنيه ذلك من تقزيم لخبراتهم وتزييف لوجودهم داخل النظام المعرفي السائد.

البلاغة السلطوية: يرى ميشيل فوكو (1972) أن السلطة لا تُمارس فقط عبر العنف، بل من خلال الخطاب، أي عبر تنظيم المعرفة وترسيخ نسقها. الخطاب إذن ليس بريئًا، بل حقل صراع على المعاني، تُحسم فيه المعركة لصالح من يمتلك القدرة على تسمية العالم.

ثانيًا: نماذج للكتابة الشريرة والكتّاب الأشرار

جوزيف جوبلز – دعاية القتل: لم يكن جوبلز مجرّد وزير في النظام النازي، بل كاتبًا رئيسيًا في صناعة السردية الفاشية. استخدم الخطب والمقالات والملصقات لتحويل الإبادة إلى عدالة، والكراهية إلى فضيلة، عبر لغة متقنة الإخراج، مشحونة بالعاطفة الزائفة.

آين راند – العقلانية الأنانية: أسست راند فلسفة تمجّد الفرد على حساب الجماعة، وقد تحوّلت هذه الفلسفة إلى مرجعية أيديولوجية للنيوليبرالية التي تبرر سحق الضعفاء باسم الكفاءة. تُستخدم كتاباتها كذخيرة فكرية لتسويغ اقتصاد لا يرحم، ومجتمع يُقصي من لا يملك.

الخطاب الاستشراقي – سردية الهيمنة: كشف إدوارد سعيد (1978) كيف أن النصوص الغربية عن الشرق لم تكن توصيفات ثقافية، بل مشاريع بلاغية للهيمنة، حيث يُعاد تشكيل "الآخر" ضمن مخيال استعماري يروم السيطرة، والتبرير الأخلاقي للغزو.

ثالثًا: الجمال كغطاء للشر - حالة "لوليتا" تُعد رواية "لوليتا" لنابوكوف مثالًا صادمًا على كيفية استخدام البلاغة لتغطية الفعل الإجرامي. ففي حين يروي الراوي قصة اعتداء جنسي، تُقدَّم للقارئ بلغة شاعرية آسرة. وهنا يُطرح سؤال أخلاقي: هل يُغفَر الفعل لأن النص جميل؟ وهل يتحول الجمال إلى قناع يخفي القبح الأخلاقي؟

رابعًا: الكتابة الشريرة في العصر الرقمي لم تعد الكتابة حكرًا على النخبة، بل أصبحت أداةً يومية ضمن فضاء رقمي تحكمه الخوارزميات. الخطاب الكراهوي اليوم يُنتَج عبر نصوص رقمية قصيرة، ومُضلِّلة، تحشد الجماهير ضد المختلف، وتُعيد إنتاج العنف الرمزي بأسلوب جديد. تُصبح البلاغة هنا أداةً للخداع، لا للبيان.

خامسًا: المقاومة – نحو بلاغة مضادة يُبرز جورج أورويل أن قول الحقيقة في زمن الكذب فعل مقاوم. غير أن المقاومة لا تكون فقط بكشف التضليل، بل بتفكيك منطقه من الداخل، وبتقديم سرديات بديلة تُعيد للمخفي حقّه في الظهور، وللصامت حقّه في الكلام.

الخاتمة: الكتابة ليست فعلاً بريئًا، بل ممارسة ذات حمولة أخلاقية ومعرفية هائلة. من يكتب يملك القدرة على إعادة تشكيل الوعي والذاكرة. ومن هنا، فإن السؤال الحقيقي الذي يجب أن يُطرح دائمًا: من يكتب؟ ولماذا؟ وبأي خطاب؟ ولمن؟

إننا بحاجة إلى نقد جذري للكتابة، لا بوصفها شكلاً أدبيًا فحسب، بل باعتبارها بنية قوة ومجال صراع بين المعنى والتضليل، بين التسمية والكتمان، بين الحضور والتغييب.

***

أ. مجيدة محمدي / الجمهورية التونسية

..............................

المراجع:

فريكر، ميراندا. (2007). الظلم المعرفي: السلطة وأخلاقيات المعرفة. مطبعة جامعة أكسفورد.

فوكو، ميشيل. (1972). أركيولوجيا المعرفة. كتب بانثيون.

بيرنز، جينيفر. (2009). إلهة السوق: آين راند واليمين الأمريكي. مطبعة جامعة أكسفورد.

سعيد، إدوارد. (1978). الاستشراق. كتب بانثيون.

أبل، ألفريد. (1991). لوليتا المشروحة. كتب فينتاج.

أورويل، جورج. (1949). 1984. سيكر وواربرغ.

مجلس حقوق الإنسان، الأمم المتحدة. (2018). تقرير بعثة تقصي الحقائق الدولية المستقلة بشأن ميانمار.

إن الحديث عن النقد يقتضي الإشارة إلى الثقافة بوصفها القاعدة التي تمنح النقد أهميته، وعلينا أن نفرق بين معنى النقد والانتقاد، فالأول يرتبط بالموضوع ويرجع إلى المنهج العلمي، أما الثاني شخصي ويعتمد على العادات والتقاليد الاجتماعية.

كما أن الثقافة نسبية ومتفاوتة بين المجتمعات، بل حتى داخل المجتمع الواحد، وبما أن النقد مرتبط بها من خلال الأفراد، فإن وجهات النظر النقدية تتعدد بتعددهم، فالثقافة هي التي تمنح النقد هويته، اي بمعنى تحدده بمحددات السلطة، وتبرز أدواته في مناقشة الأمور الحياتية والعلمية.

فقد نجد مجتمعاً موهوماً بالنقد لكنه غير منتج، مستهلك للأفكار لا للسلع فقط، مجتمعاً متصنع للفكرة غير محي لها. يسعى إلى إيجاد ثغرة في الموضوع المعروض للنقد، يهدم ولا يبني، يشخصن ولا يشخص. والجيد في النقد ان الكل يخضع للفحص، ولا يقدس الأفكار، غير أن توجيه النقد للذات يعد تجاوزا للنقد إلى الانتقاد، باعتبار ان فعل الذات شأن خاص بالإنسان، أما ما يطرحه من أفكار فهي تؤثر على الفرد والمجتمع. وبذلك فالنقد نوعين: سلبي خاضع لمحددات الثقافة والسلطة، أما الإيجابي هو الذي يتجاوز الثقافة ويفكر فيما وراءها.

كما أن الفيلسوف او العالم أو المبدع، أو الفنان هو في الأصل إنسان له مشاعر وحاجات ورغبات، ويمتلك من الأمراض النفسية ما يمتلكه اي إنسان عادي، ألا إن الفرق بينهما في استثمار تلك المواقف الحياتية والرغبات النفسية، فالأول: اي المفكر يبحث عن إنتاج صورة راقية لنفسه، أما الثاني: اي الإنسان العادي يبحث عن ما يستهلك نفسه، فالأول ينال الاحترام بين الناس، لأنه مارس النقد على ذاته وبحث عنها في ذاته، فأبدع صورته من خلال افكاره، أما الثاني فقد ذاته، وأخذ يبحث عن ذاته في الأشياء. ومن هنا يمكن أن نستشعر الفرق بين المبدع والمجرم. بين المغترب والتائه. بين سعي الإنسان ومسعاه.

ويمكن أن نجد في تعريف الثقافة، كما عرفها الفيلسوف الفرنسي أندريه لالاند بانها " ميزة شخص متعلم، وكان قد طور بهذا التعلم ذوقه، حسه النقدي وحكمه، تربية يترتب عليها توليد هذه الميزة ".

فثقافة النقد ترجع لنوعية البيئة التي تنشأ فيها، ونوعية الثقافة السائدة، اي سلطة تفرض نفسها على محركات الثقافة وتفكير المجتمع، سواء كانت سلطة الدين، أو الأعراف والتقاليد الاجتماعية، أو السلطة السياسية، أو سلطة العقل، وبهذا يمكن تحديد نوعية النقد السائد للموضوعات الفكرية والإبداعية. فكل نقد لا يخلو من الذاتية، لكنه يتجاوزها اذا اعتمد منهج العلمي.

أما نقد الثقافة فهو يقوم على التفكير ما وراء الثقافة، ولا يخضع لأي غرض أو سلطة دينية أو سياسية أو ثقافية أو نفعية، وهذا لا يتحقق إلا في الفلسفة التي تبحث عن الحقيقة لذاتها، لا لمصلحة ما.

فجل الفلاسفة الذين مثلوا انعطافات كبيرة في تاريخ الفكر الإنساني، وليس في مجتمعاتهم فقط، لأنهم فكروا خارج الصندوق، وخارج البيئة التي نشأوا فيها، إذ ان نمو وعي الأفراد لا ينفصل عن الثقافة التي تربوا في كنفها. ويمكن أن تجد امثله كثيرة على من فكروا خارج صندوق عصرهم وثقافتهم، بدءاً من السفسطائيين، إلى كوبر نيكوس، وفردريك ونيتشه، وماركس، وفرويد. فكل منهم وجد ضالته في نقد الثقافة السائدة آنذاك، من خلال تقديم قراءة مغايرة لما موجود في عصره فكوبر نيكوس رفض النظرة السائدة عن مركزية الأرض، وماركس قدم لنا النقد الاجتماعي، ونيتشه نقد الثقافة الغربية ورفض الفكر التقليدي، وفرويد قدم لنا النقد النفسي. إذ أخضع المتبنيات الثقافية للمجتمع والافراد إلى التحليل النفسي.

وعندما يخضع اي عمل أدبي أو فني أو فكري للتحليل النفسي، فإنه يفسر من حيث تأثير اللاشعور على إبداع الموضوع، اي يتم تناول أفكار المفكر واعماله، لا حياته الشخصية في تحليل شخصيته، وعلى هذا، يجب أن نفرق بين النقد العلمي والفضيحة في فهم الأفكار ومبدعيها.

***

كاظم لفتة جبر

 

لا شك في أن التطور المتسارع للحوسبة والذكاء الاصطناعي مكن البشر من محاكاة العديد من العمليات في الهندسة والتصميم والفيزياء. ويعتبر الكثيرون أن مسألة محاكاة الحياة مرهونة بتوفر قدرات الحوسبة الكافية في السنوات القادمة. فقد تستطيع الخوارزميات يوما اذا ما اعطيت الخوارزميات بيانات كافية عن حياة شخص ما وحمضه النووي ان تحاكي أنماط سلوكه وتتوقع أي قرار يتخذه. وقد تكون الحياة مجرد ترميز جيني سيفكّ عاجلاً أو اجلاً.

لكن هذا التصور يغفل تمامًا طبيعة الحياة نفسها. فالأنظمة الحية تختلف اختلافا جوهريا عن أنظمة تحكمها الخوارزميات والمعادلات الرقمية. فالأنظمة الحية ليست أنظمة معقدة فحسب، بل ناشئة وسياقية، تبنى خصائصها عبر السياق والتفاعلات متعددة المستويات. الحياة لا تسير في بخط سببي مستقيم، بل عبر حلقات ردود الفعل وشبكات من التفاعلات التي تنتج خصائص غير قابلة للاختزال إلى مكوناتها. ولهذا، فمن حيث المبدأ، يغدو محاكاة الحياة عبر المنهج الرياضي او عبر الذكاء الاصطناعي أمرا مستبعدا من حيث المبدأ.

ما وراء السببية الخطية

في العلوم الكلاسيكية، اعتمد العلماء على السببية الخطية. الأجزاء الأصغر تؤدي إلى تغييرات على مستوى الأجزاء الأكبر وهكذا بشكل تصاعدي. بهذا يصبح السبب والنتيجة يسيران بخط مستقيم لا رجعة فيه. مثال واضح على ذلك في الفيزياء الكلاسيكية حيث أن وجود عدد معين من الذرات داخل الجسم ونسبة تباعدها عن بعضها تؤثر على شكل وحجم الجسم ذاتها. لا يفترض أن تؤثر البنية الكلية للجسم على ذراته من خلال هذا النموذج. والسببية الخطية تجعلنا قادرين على توقع النتيجة إذا عرفنا كل المتغيرات على مستوى الأجزاء.

رغم نجاح هذا النموذج بشكل عام في الفيزياء. إلا أن تطبيقه في علم الأحياء يبدو صعبًا. أثبتت مختلف الابحاث العلمية ان البنى الاعلى تنظيمًا قادرة على التأثير على النشاطات الجزيئية او الخلوية. فقد يؤثر غذاء الانسان او حالته النفسية على عمل بعض انواع الخلايا وعلى نظم التحكم بالجينات. هذا ما يعرف بالسببية من الاعلى الى الاسفل، فالسببية هنا تعمل بالاتجاهين. عمل السببية بهذا الشكل يعقد كثيرا قدرتنا على تنبؤ النتيجة اذا عرفنا كافة التفاصيل عن الأجزاء.

الخصائص الناشئة

السببية الخطية تجعل توقع النتيجة من خلال معرفة الاجزاء امرا حتميا. لأن الاجزاء تتبع نظما وقواعد فيزيائية واضحة تجعل خطوتها القادمة محكومة بالرياضيات وتجعل محاكاتها أسهل.

أما في الكائنات الحية، فيختلف الأمر جذريًّا. المدخلات نفسها قد تؤدي الى نتائج مختلفة، فالنتائج تعتمد على السياق، والمرحلة، والمحيط. ومن هنا نصل الى ما يسمى بالخصائص الناشئة. أي الصفات التي تظهر عند مستوى أعلى من التنظيم ,لا يمكن اختزالها او استنتاجها من العناصر المكونة وحدها. لعل الوعي البشري هو افضل مثال على هذا، فعصبون واحد بمفرده او شبكة واحدة، لا يمكنها توليد الوعي. أبعد من ذلك، فان عرفنا جميع المعلومات عن العصبونات والعوامل المحيطة بها فنحن لا نستطيع ان نفسر الوعي، إذ أن الوعي ظاهرة ناشئة لا تنشأ الا عندما تتفاعل شبكة العصبونات بأكملها مع المعطيات الحسية والتغيرات الهرمونية.

وهذا يعيدنا الى السببية الخطية التي تسقط هنا حيث انا معرفتنا بالمدخلات، لا تضمن توقع النتيجة التي ليست مرتبة سببيا بالمعنى التقليدي.

الحتمية لا تعني القدرة على التنبؤ

إن كل ما سبق قد يوهمنا بأن الكائنات الحية ليست حتمية. أي أنها لا تتبع قواعد الفيزياء التي تعتبر حتمية. ففي حالة الخصائص الناشئة، قد تظهر وكأنها ظاهرة سحرية أو غامضة تنشأ من دون أسباب أولية.

إلا أن هذا غير صحيح. يستطيع النظام ان يكون حتميا من دون ان يكون متوقعا بسبب تعقيده البنيوي او الحساسية للظروف الابتدائية.

في الفيزياء، يشتهر هذا في نظرية الفوضى، كما في حال الطقس. أما في البيولوجيا، فالتحدي اعمق: على الرغم من أنها تعتمد قواعد الفيزياء الحتمية ذاتها لكن الأنظمة تعتمد على عوامل كثيرة جدًا تجعل توقعها مستحيلًا. أن التفاعلات الكيميائية الّتي تجري في الجسم تتأثر بالحرارة والضغط والملوحة والخلايا تتأثر باشارات تتداولها فيما بينها وكذلك الأنسجة. ومن شأن تغيير على مستوى النسيج أن يعود ويؤثر على التفاعلات الكيميائية التي هي كانت المصدر بعد الجينات. اذا فالنظام نظام بالغ التعقيد يعتمد على طبقات متعددة من المعلومات والتغيرات المتشابكة التي من المستحيل أن يتم توقعها وإن عرفنا القواعد الحتمية التي تقودها.

الحياة غير القابلة على التوقع

اذا فبسبب الخصائص الناشئة والسببية من اعلى الى اسفل والحتمية غير المتوقعة تتحول الحياة الى معضلة للرياضيات تتجاوز طرق الحساب التقليدي. الأنظمة الحية هي شبكة ديناميكية يؤثر كل على كل في كنف قواعد الفيزياء. الحياة تعتمد على الفيزياء والكيمياء إلا أنها تتفرد بشكل أكثر وضوحًا بالخصائص الناشئة واشكال السببية المختلفة.

إن الحياة تشبه القصيدة التي لا تفهم الا عندما تعاش، وليس آلة تعمل على قواعد سببية حتمية. هذا يدفعنا لأن نراجع مفاهيمنا الاساسية لمعنى الوجود الحي ومعناه الفلسفي والتجريبي. ويجعلنا نفكر مجددا بصلتنا نحن بالعالم المحيط وعلاقتنا مع الموجودات الأخرى.

***

فضل فقيه – باحث

...........................

قراءات إضافية:

Noble, D. The Music of Life: Biology Beyond Genes. Oxford Univ. Press (2006).

في عالم يُعاد فيه تعريف المعرفة بوصفها إجراءً وظيفيًّا لا تجربة وجودية، يصبح الحديث عن العلاقة بالكتاب حديثًا عن التيه أو الفقد، عن ذلك الوميض الذي كان يشعل فينا رغبة السؤال قبل أن تختنق في ركام المناهج والألقاب. لقد صارت القراءة طقسًا بيروقراطيًّا لا يستبطن القلق، من هنا، تنفتح هذه المقالة المتواضعة على مشاهد صغيرة، لكنها ناطقة، تكشف وهن العلاقة المعاصرة بالمعرفة، وتُعيد مساءلة حضور الكتاب في وجداننا الثقافي، لا كشيءٍ ماديّ، بل كعنوان لضمور المعنى.

في أحد أروقة سوق الحويش، كنت برفقة صديقي د. حيدر حسن الأسدي، نتبادل الحديث عن الكتب والمطبوعات بين رفوف مكتبةٍ قديمةٍ، إذ اعتدنا أن نجد بين عناوينها ما يحرّض فينا دهشة السؤال. جلسنا مع صاحب المكتبة نتسامر، حتى أسرّ إلينا بقصة أثارت في ذهني شعورًا بالدهشة والاغتراب: قال إنّ أحد الأشخاص مرّ عليه ذات يوم، وطلب قائمة طويلة من الكتب ليشتريها، لكنه اشترط شرطًا غريبًا؛ أن يتعهّد صاحب المكتبة بشرائها منه بعد عامين. سألته مذهولًا عن سبب ذلك الشرط، فأجابني بجمود لا يخلو من سخرية مبطّنة: "سأكمل دراسة الماجستير، وعندها لن أحتاج إلى الكتب."

كانت كلماته كالفاجعة، تثير الشفقة قبل السخرية، تذكّرك بأن الخراب المعرفي ليس فرضية بل واقع، وأن العلاقة بالكتاب لم تعد تعني المعرفة، بل هي طقس مؤقت تُؤدّى لاستيفاء متطلبات البيروقراطية الأكاديمية. لقد صار الكتاب عبورًا اضطراريًا، لا شغفًا، ومجرد أداة في مشروع النسيان المنظّم.

هذا المعنى ذاته لامسه قبل مدة وجيزة الكاتب علي وجيه في عبارته الجارحة: "أكثرُ الشعراء والأكاديميين والأدباء لا يقرؤون." عبارة أثارت ضجة في الوسط الثقافي، لكنها ككل الحقائق التي تُقال بصراحة، كانت مؤلمة لأنها صحيحة. لم تكن مبالغته خطأ، بل كانت مقاربة جريئة لحقيقة ساطعة: إننا نعيش زمن الشهادات المعلّقة على الجدران، والعناوين والألقاب لا زمن العقول المشغولة بالسؤال.

ومن المشاهد التي حفرت أثرها في ذاكرتي، ذلك الحديث العابر مع صديقٍ جمعتني به أمنيات مشتركة. أخبرني ذات يوم بعزمه على بيع مكتبته، فسألته مستغربًا عن الدافع وراء ذلك وقد خلتُه يهمّ بترميمها أو استبدالها بأخرى أكثر رحابة. فأجابني ببرودٍ: "لقد أنهيتُ الدكتوراه، ولم أعد أجد في القراءة ضرورة؛ صارت الكتب عبئًا يثقل كاهلي."

كانت كلماته إعلان صريح عن موت الرغبة في المعرفة لحظة انتزاع الشهادة، كأن الغاية لم تكن إِلَّا غلافًا ينتهي دوره عند استيفاء المتطلبات الأكاديمية.

في سنوات اشتغالي ومتابعتي لمسار الدراسات العليا، ترسّخت لديّ قناعة مريرة: تسعون في المئة من أولئك الذين سيصبحون أساتذة لا يقرأون إِلَّا ما خُطّ لهم في كتبهم المقرّرة، ولا يفكّرون إلَّا ضمن جدران صندوق مغلق، إذ تأخذ المعلومة شكلها النهائي دون أن تُسائل أو تُختبر، وكأن المعرفة ليست إِلَّا تمرينًا على التلقين، لا تجربةً مع اللامحدود.

الفيلسوف الماركسي جورج لوكاش ألمح إلى مفهوم "التشييء" (Reification) في كتابه (التاريخ والوعي الطبقي) إذ تتحول الأفكار والرموز الثقافية إلى أشياء مادية جامدة تفقد معناها الإنسانيَّ العميق. الكتب هنا لم تعد جسورًا إلى التأمل الحر، بل سلعًا تملأ الرفوف أو تُباع وتُشترى، مجرد ديكور مؤقت.

وأذكر أني قرأتُ للشيخ حيدر حبّ الله حكاية رواها له أحد أصدقائه من أصحاب المكتبات، مضمونها أن رجلًا دخل عليه يومًا وطلب شراء خمسة كتب "باللون الأزرق". فسأله: تقصد أي كتب؟ فأجاب: لا يهم، المهم أن تكون بالأزرق. فاستغرب الرجل وقال: لم أفهم قصدك. فرد الزبون بهدوء: أريد فقط أن أملأ بها فراغًا في مكتبتي، ليكتمل تناغم الألوان مع الستائر.

في تلك اللحظة، لا تعود الحكاية مجرد طُرفة، بل تتحوّل إلى مرآة تكشف هشاشة المعنى في زمن التشييء، حين يتحوّل الكتاب من حاوية للمعرفة إلى أداة زينة، ومن محرّض على القلق والتساؤل إلى قطعة أثاث. إنها اللحظة التي تدرك فيها عمق ما قصده ماكس هوركهايمر حين أشار إلى "عصر العقل الأداتي"، إذ يُفصل الشكل عن المضمون، ويُختزل الوعي إلى لون، والفكر إلى ديكور.

في مقابل هذا الخراب المعرفي، يقف عبد الجبار الرفاعي كاحتفاء نابض بالحياة؛ يتحدث ببهجة تشبه إيقاع الموسيقى، عن شغفه بالكتابة وولعه الذي لا ينطفئ، وعن تجربته المتقدة بين الصفحات، وعن مكتبته التي تبدو كعالمٍ قائم بذاته. هناك، عند عتبات حديثه، تنبثق شلالات من الجمال، كأنك تعبر إلى فردوس من المعنى، إلى لغة ثانية؛ لغة تستنشق فيها الحروف حياة، وتصير الكلمات جسورًا نحو فضاءات لا حدود لها.

تتجلّى صورة أخرى مترعة بالجمال في حضرة أستاذي د. عبد الأمير زاهد؛ ذلك الذي لم تسرقه مشاغل المنتدى الوطني لأبحاث الفكر والثقافة، ولا إكراهات الجامعة وإدارتها من عناق الكتاب والتأمل،- كما شغلت البعض وأوضاعتهم في زحمة الظهور الزائف- إذ ظلت القراءة عنده كيقين ملازم، لا تنفصل عنه كما لا ينفصل الدفء عن النار. سألته يومًا: "هل سرقتك الإدارة من شغفك بالقراءة ومتابعتك الفكرية؟" فأجابني بثقة العارف: "كلا، لأن جوهر حياتي قائم على القراءة والتفكير، أما العمل الإداري فلم يكن يومًا سوى حاشية عابرة على متن وجودي."

ثمة صورة أخرى، لا تقلّ دلالة عن سابقاتها، نقلًا عن لحظةٍ عابرة لكنها مشبعة بالمعنى: كنت قد نشرتُ في أحد الأيام تنويهًا عن كتاب جاكلين الشابي "ربّ القبائل"، مشيرًا إلى أنه عمل يستحق القراءة، ويستحق التأمّل، ويستحق النقد أيضًا. لم تمضِ سوى دقائق معدودات، حتى تلقيت رسالة من المفكّر العراقي ماجد الغرباوي، يطلب فيها نسخة من الكتاب، حتى وإن كانت بصيغة PDF.

ما كان لهذا التفاعل أن يمرّ مرورًا عابرًا؛ فهو يعكس شغفًا حيًّا لا تنطفئ جذوته، رغم أن صاحبه قد تجاوز السبعين من عمره، ومقيمٌ على بُعد آلاف الأميال، في أستراليا. من لا يعرف الغرباوي، فليعلم أنه من أهم المفكرين العرب- نتاجًا وتحديثًا-، ومن القلائل الذين لا تزال فيهم حرارة السؤال حيّة، أولئك الذين لم يتقاعدوا من التفكير، ولم يتخلّوا عن الملاحقة اليومية لما يصدر، لا بدافع الاستعراض، بل بوصفها نمط وجود، ونبضًا دائمًا للفكر.

هنا، تتجلّى المفارقة: في وقتٍ يتنصّل فيه بعض الشباب من الكتاب بعد أن يظفروا بشهادة، يقف الغرباوي كنموذج مغاير، يثبت أن الفكر ليس محطة عابرة في العمر، بل هو العمر ذاته حين يُعاش بوعي.

***

د. حيدر شوكان سعيد.

جامعة بابل- قسم الفقه وأصوله.

في زمن تتكاثر فيه دعوات الصدام وتضيق فيه مساحات التفاهم، تبرز الحاجة إلى خطاب ديني يتأسس على الرحمة، ويحتفي بالتعدد، ويتفاعل مع العصر بدل أن يعاديه. وفي هذا السياق، تمثّل أطروحات المفكر العراقي عبد الجبار الرفاعي أحد أبرز المشاريع المعاصرة التي تسعى إلى إرساء لبنات خطاب ديني جديد، قادر على تعزيز التعايش بين الأديان والثقافات، وتغذية روح الحوار في مجتمعات مأزومة بالهويات المتنازعة.

يضع الرفاعي "الرحمة" في صلب مشروعه الفكري، ويرى فيها جوهر الدين وغايته الكبرى. هذه الرؤية ليست مجرد دعوة أخلاقية، بل تشكّل مدخلاً تأويليًا لفهم النصوص الدينية والانفتاح على تنوع التجارب الإنسانية. فالخطاب الديني، في تصوره، لا يُفترض أن يكون أداة للفرز العقائدي، ولا منصة لتكفير المختلف، بل جسراً للتواصل وتبادل المعنى بين البشر، أياً كانت معتقداتهم.

يتجلى هذا التوجه في دعوته إلى تأسيس "علم كلام جديد"، يتجاوز النسق التقليدي الذي تبلور في سياقات جدلية دفاعية، وتحول إلى أداة لتعزيز الانغلاق المذهبي والخصومة مع الآخر. وبدلاً من ذلك، ينادي بعلم كلام يستند إلى القيم الكونية والكرامة الإنسانية، ويستوعب التحولات الاجتماعية والفكرية التي يشهدها عالم اليوم.

الرفاعي ليس وحيدًا في هذه الرؤية؛ فعديد المفكرين العرب يلتقون معه في إعادة التفكير في العلاقة بين الدين والإنسان. محمد أركون، مثلاً، دعا إلى تحرير الفكر الإسلامي من سلطة التقليد، من خلال مقاربة نقدية تأويلية تأخذ بالاعتبار التعدد التاريخي والدلالي للنصوص. أما نصر حامد أبو زيد، فقد شدد على ضرورة فهم النص الديني في سياقه، بوصفه خطابًا متغيرًا لا نصًا خارج الزمان والمكان. وإذا كانت مقاربة طه عبد الرحمن الأخلاقية تنطلق من أسس ميتافيزيقية، فإنها تلتقي مع الرفاعي في الدعوة إلى تحصين الخطاب الديني من التوظيفات الإقصائية والسلطوية.

يتميّز خطاب عبد الجبار الرفاعي بأنه لا يكتفي بالنقد، بل يقترح بدائل فكرية تأسيسية: تدينٌ يقوم على الوعي الحر، لا على التلقين، وعلى الانفتاح الروحي لا على الانغلاق العقائدي. إنّه يدعو إلى أن يُفهم الدين كتجربة أنطولوجية داخلية، يعيشها الإنسان في بحثه عن المعنى والسلام، لا كمنظومة جاهزة من الأوامر والنواهي التي تفترض السيطرة على الآخر.

هذه الرؤية تكتسب راهنيتها في ظل التوترات الهوياتية التي تعيشها المجتمعات العربية، حيث يُستدعى الدين غالبًا في سياقات صراع لا في فضاءات تفاهم. لذا فإن مشروع الرفاعي يقدّم نموذجًا عمليًا لتفكيك خطاب الكراهية، من خلال إعادة بناء العلاقة مع النصوص، وتحويل القيم الدينية إلى قوة ناعمة تبني الجسور بدل أن تهدمها.

لقد أوجد الرفاعي لنفسه موقعًا متقدماً في ساحة الفكر الإسلامي المعاصر، لا بوصفه ناقدًا للتقليد فحسب، بل باعتباره صانعًا لرؤية جديدة، تُعلي من شأن الإنسان، وتمنح التعدد حقه في الوجود. إن التعايش، في رؤيته، ليس مجرّد تعايش سلبي خاضع للاضطرار، بل هو اختيار فكري وروحي يتجذر في وعي ديني رحيم وإنساني.

مشروع الرفاعي يحاور الغرب لا ليهاجمه أو ينكر منجزه، بل ليتفاعل معه ويستفيد منه، ويؤسس لمجال ديني منفتح لا يتوجس من الآخر المختلف دينيًا أو ثقافيًا. وفي عالم تسوده صراعات الهويات، تصبح هذه الرؤية ضرورة لا ترفًا. وما يميز هذا المشروع هو أنه لا يتوجه للنخب الفكرية فقط، بل يسعى إلى التأثير في المجال العام، عبر كتاباته ومؤلفاته ومشاركاته في الحوارات العابرة للثقافات، ما يجعله من بين الأصوات القليلة التي استطاعت أن تحوّل الفكر إلى أداة للمصالحة وبناء جسور الثقة.

إن الحاجة إلى أمثال عبد الجبار الرفاعي اليوم ليست فكرية فحسب، بل وجودية أيضًا؛ لأنه يقدم طرحًا يعيد الثقة في قدرة الدين على أن يكون عاملًا للسلام، لا عنصرًا في معادلة الصدام. وحين نعيد اكتشاف الدين في بعده الإنساني والروحي، نصبح أقدر على خلق فضاء مشترك يتسع للجميع

***

د. هدى لحكيم بناني- دكتوراه في الفكر الاسلامي والعقيدة و الحوار.

تلعب العادات والتقاليد الاجتماعية المتوارثة دورًا محوريًا في تشكيل السلوك السياسي في المجتمعات العربية، إذ تشكّل هذه العادات جزءًا من البنية الثقافية العميقة التي تحدد أنماط التفكير والتفاعل الاجتماعي والسياسي للأفراد، وكما أشار عالم الاجتماع الفرنسي بيير بورديو، فإن "الهابيتوس" أو "العادة المتجذرة" تساهم في إعادة إنتاج نفس الأنماط السلوكية ضمن الحقول الاجتماعية المختلفة، ومنها الحقل السياسي، حيث يُكتسب السلوك السياسي من خلال التنشئة الاجتماعية التي تبدأ في الأسرة وتمتد إلى الجماعة والقبيلة والدولة.

في هذا السياق، تمثل العادات الاجتماعية في المجتمعات العربية، لا سيما في دول مثل العراق وسوريا وتونس وليبيا، مرجعية أساسية في بناء الهوية والانتماء، فقد شهدت هذه الدول تحولات سياسية جذرية خلال العقدين الأخيرين، أظهرت مدى تغلغل البنى الاجتماعية التقليدية في المجال السياسي، فعلى سبيل المثال، ما زالت الثقافة القبلية والعشائرية تشكل إطارًا مرجعيًا للفرد في مواقفه السياسية، حيث يُقدَّم الانتماء للعشيرة أو الطائفة على الانتماء للدولة أو الحزب، وتُبنى التحالفات السياسية أحيانًا على أساس قرابة الدم أكثر من القناعات الأيديولوجية.

من الجانب الإيجابي، تساهم هذه العادات في تعزيز قيم التضامن والتكافل الاجتماعي، وهي عناصر ضرورية لبناء شبكات اجتماعية قادرة على التحرك الجماعي، خاصة في فترات الأزمات والتحولات، فقد بينت النظريات الاجتماعية، مثل نظرية رأس المال الاجتماعي لـ “روبرت بوتنام"، أن المجتمعات التي تتمتع بروابط اجتماعية قوية تكون أكثر قدرة على المشاركة المدنية والسياسية، وهذا ما لوحظ خلال بدايات الحراك التونسي أو الانتفاضة السورية، حيث لعبت الروابط العائلية والمجتمعية دورًا في تحفيز المشاركة السياسية والمقاومة الشعبية.

إلا أن هذه العادات لا تخلو من جوانب سلبية، خصوصًا عندما تتحول إلى أدوات تعزز الانغلاق والتمييز، فالنزعة نحو الولاءات الضيقة للعشيرة أو الطائفة أو الجهة الجغرافية تعيق تشكّل دولة المواطنة، إذ تضعف من فكرة الانتماء العام للمجتمع السياسي الموحد، وقد تجلت هذه الإشكالية في التجربة العراقية بعد 2003، حيث عرقلت المحاصصة الطائفية والعشائرية بناء نظام سياسي متماسك، بل ساهمت في تفكيك الدولة إلى كيانات متنازعة، وينطبق الأمر ذاته على ليبيا، حيث أدى انهيار النظام المركزي إلى بروز كيانات محلية قبلية ومناطقية أعاقت توحيد السلطة.

كذلك، فإن بعض القيم الاجتماعية التقليدية، تفرز ثقافة سياسية تقوم على الطاعة أكثر من المساءلة، وهذا ما يجعل من الصعب ترسيخ تقاليد ديمقراطية تقوم على النقد والمحاسبة، فالعديد من المواطنين في العالم العربي، بسبب التنشئة الاجتماعية، لا يرون في الحاكم موظفًا عامًا يمكن تقييم أدائه، بل شخصية أبوية ذات شرعية تقليدية، مما ينعكس على ضعف المشاركة السياسية الفعالة وتدني ثقة الأفراد بالمؤسسات الرسمية.

مع ذلك، بدأت تظهر ملامح تحول اجتماعي في بعض المجتمعات، وخصوصًا بين فئات الشباب، فقد ساهمت التكنولوجيا الحديثة، وخصوصًا وسائل التواصل الاجتماعي، في تفكيك بعض البنى الاجتماعية التقليدية وإعادة تشكيل قيم جديدة ترتكز على المشاركة والمساواة والحرية الفردية، وتُظهر الدراسات الحديثة أن الأجيال الجديدة في دول مثل تونس والمغرب ولبنان باتت أكثر انخراطًا في النقاشات السياسية وأكثر استعدادًا لتجاوز الانقسامات التقليدية على أساس العائلة أو الطائفة.

إن فهم السلوك السياسي في العالم العربي يتطلب إدراكًا عميقًا لتأثير العوامل الاجتماعية والثقافية، وليس فقط السياسية والاقتصادية، فكما تؤكد المقاربة الثقافية في علم الاجتماع السياسي، لا يمكن تحليل الحراك السياسي دون الأخذ بعين الاعتبار "الثقافة السياسية" التي تُشكّل الوعي الجمعي وتوجهات الأفراد، ومن هنا، فإن أي مشروع إصلاحي أو تحولي حقيقي في العالم العربي ينبغي أن يتعامل مع العادات الاجتماعية لا كعقبة فقط، بل كمورد قابل لإعادة التوظيف بما يخدم بناء الدولة الحديثة، فبدلاً من السعي لقطع العلاقة مع الماضي، يمكن العمل على تجديد هذه العادات وتطويرها لتصبح داعمًا لمفاهيم المواطنة والعدالة والشفافية، وذلك من خلال إصلاح منظومات التعليم والإعلام والتنشئة السياسية، بما يعزز الانتماء الوطني ويضعف الولاءات الضيقة، بهذه الطريقة، يمكن تحويل العادات الاجتماعية من قيد يكبّل التقدم السياسي إلى رافعة تُسهم في إنجاحه.

***

كفاح محمود

 

تُعد الفنون الشعبية من أهم العناصر التي تُسهم في تشكيل الهُوية الوطنية لدى الشعوب، حيث تعكس القيم والتقاليد والعادات التي تميّز كل مجتمع عن غيره. فالفنون الشعبية، بما تشمل من موسيقى ورقص وحِرف يدوية وأدب شفاهي، ليست مجرد مظاهر جمالية، بل هي سجلّ ثقافي يحمل في طياته التأريخ والهُوية والتجربة المشتركة للأجيال. الى جانب دورها المحلي، تعد أداة مهمة في تعريف العالم بالهُوية الوطنية للشعوب. فالمهرجانات الدولية، والمعارض الثقافية، والأفلام الوثائقية، تساهم في تقديم صورة مميزة عن ثقافة الدولة، مما يعزز مكانتها عالمياً.

إن الفنون الشعبية بمختلف أشكالها، تعد مكوناً أساسياً في نسيج الُهُوية الوطنية، حيث تعكس العادات والتقاليد والتراث الثقافي الذي يُميز كل شعب عن غيره. فهي ليست مجرد تعبيرات فنية، بل أدوات قوية لنقل القيم والثقافة من جيل الى آخر، وترسيخ الشعور بالإنتماء والوحدة الوطنية. كونها تعمل على تعزيز مشاعرالفخر والإنتماء لدى الأفراد، إذ تعكس القصص والتجارب المشتركة التي توحد أفراد المجتمع الواحد. فمثلاً، الأغاني التراثية تروي أحداثاً تأريخية وتجسد النضال الوطني والحماسة، مما يربط الأجيال الحديثة بتأريخها ويجعلها أكثر وعياً بجذورها الثقافية. كما هي تُعتبروسيلة حيّة لنقل المعرفة والقيم الثقافية عبر الزمن.

 فالروايات الشفاهية، والأمثال الشعبية، والأغاني التقليدية، تحمل في طياتها حِكّماً وتجارب إنسانية تعكس روح المجتمع وتجاربه. كما أن الحِرف اليدوية، والفنون البصرية، تُمثل سجّلاً حقيقياً لأساليب الحياة والمهارات التي تطورت على مرّ العصور.

ففي ظل العولمة، بات من السهل أن تتأثر الثقافات المحلية بالأنماط العالمية، مما قد يؤدي الى إندثار بعض الفنون التقليدية. لذا، تلعب الفنون الشعبية دوراً حاسماً في الحفاظ على التقاليد الثقافية من خلال إعادة إحيائها ودمجها في السياقات الحديثة، مثل إستخدامها في الموسيقى المعاصرة، أو توظيفها في الفنون الرقمية ووسائل الإعلام الجديدة.

وبحكم التغيرات السريعة في عصر العولمة، تزداد أهمية الفنون الشعبية في الحفاظ على الهُوية الوطنية، إذ تساعد على مواجهة التحديات التي تُهدد الذاكرة الجمعية للشعوب، مثل التأثيرات الثقافية الخارجية والإندماج في نماذج ثقافية عالمية قد تؤدي الى تآكل الهُويات المحلية. فالفنون الشعبية، تساعد في تعزيز الشعور بالإنتماء الى الوطن من خلال المحافظة على التراث الثقافي الذي يجمع أبناء المجتمع تحت هُوية واحدة.

كما تلعب دوراً كبيراً في نقل الموروث الثقافي من جيل الى آخر، مما يضمن إستمرار القيم والتقاليد عبّر الزمن. فمن خلال مشاركة الفنون الشعبية في المناسبات الوطنية والاحتفالات، يتم تعزيز الروابط بين أفراد المجتمع، بغض النظر عن الفروقات الاجتماعية أو الجغرافية أو القومية أو العرقية أو الدينية. فهية وسيلة فعّالة لتعريف العالم بالثقافة الوطنية، حيث تُستخدم في المهرجانات والعروض الدولية لإبراز الطابع الفريد لكل مجتمع. فضلاُ عن ذلك، فالفنون الشعبية تُسهم في إثراء الفنون المعاصرة، حيث يعتمد الفنانون على العناصرالتقليدية في إبداع أشكال من الفنون تُعبر عن الُهُوية الوطنية بروح عصرية.

أشكال الفنون الشعبية وأثرها على الهُوية الوطنية

تعكس الموسيقى الشعبية والموشحات والأغاني التقليدية روح المجتمع وتُعبّر عن مشاعره وتجاربه. فمن أغاني العمل الى الأغاني الوطنية، تحمل الكلمات والألحان معاني عميقة تروي حكايات الأجداد وتجسد الأحداث التأريخية. كذلك ترتبط الرقصات الشعبية بالمناسبات الإجتماعية والدينية، مثل الدبكة في بلاد الشام، ورقصة (الجوبي) في جنوب وغرب العراق ورقصات الكرد في كردستان العراق، والعراضة في دول الخليج العربي، والفلامنكو في بلاد الإسبان، ورقصة السامبا في البرازيل. وهي تعبيرات جسدية ترمز الى الوحدة والتعاون، كما إنها وسيلة لنقل القيم الثقافية للأجيال اللاحقة.

كما تُعد الحِرف اليدوية والفنون التقليدية من الصناعات التقليدية، مثل النسيج وصناعة الفخار والخزف والنحت، جزءاً مهماً من الهُوية الوطنية، حيث تحمل هذه الأعمال الفنية أنماطاً وزخارف تعكس خصائص كل منطقة. وفي عصر التكنولوجيا، يتم إعادة إحياء هذه الحِرف من خلال دمجها في التصاميم الحديثة، مما يساعدعلى إستمرارها.

ويشكل الأدب الشفاهي، كالحكايات الشعبية والأساطير، سجلاً ثقافياً هاماً يحمل الحكمة والقيم المجتمعية. وتُعد هذه الحكايات مصدر إلهام للأدب المكتوب والمسرح والسينما، حيث يتم إعادة تقديمها بطرق حديثة تلائم العصر الحالي. ومن الجدير بالذكر، فأن للأزياء التقليدية لها أشكالها وألوانها وعمق دلالتها، وتعكس عمق تأريخ البلدان مما كانت ترتبط به من أزياء، التي تشير الى  هُوية كل مجتمع، وتُعبر عن بيئته وثقافته. وقد أصبحت اليوم مصدر إلهام لمصممي الأزياء، حيث يتم دمجها في الموضة الحديثة للحفاظ على التراث وإبرازه عالمياً.

الفنون الشعبية في العصر الحديث: التحديات والفرص

مع تطور التكنولوجيا، يواجه التراث الشعبي تحديات كبيرة مثل العزوف عن الفنون التقليدية، وتأثير الثقافات الأخرى، والإندثار التدريجي لبعض الممارسات. ومع ذلك، توفر التكنولوجيا فرصاً جديدة للحفاظ على هذا التراث ونشره عالمياً، وذلك من خلال الرقمنة والتوثيق الإلكتروني، حيث يمكن توثيق الأغاني والحكايات والرقصات الشعبية عبر المنصات الرقمية، مما يضمن الحفاظ عليها للأجيال القادمة. كما يمكن لوسائل التواصل الإجتماعي أن تأخذ دورها، حيث أصبحت منصات مثل اليوتيوب والإنستغرام والتيك توك، وسائل فعالة لنشر الفنون الشعبية وتعريف الشباب بها بأسلوب حديث. بالإضافة الى ذلك، بأمكان الدمج مع الفنون الحديثة، حيث يتم دمج العناصر التراثية مع الموسيقى الحديثة، والفنون الرقمية، والأزياء العصرية، مما يسهم في إبقاء الفنون الشعبية حيّة وقابلة للتطور.

تُعد الفنون الشعبية عنصراً أساسياً في بناء الهُوية الوطنية والحفاظ على التراث الثقافي للشعوب. فهي ليست مجرد مظاهر إحتفالية، بل لغة حيّة تعكس القيم والمعتقدات والتأريخ المشترك. وفي ظلّ تحديات العصر الحديث، تظّل مسؤولية الحفاظ على هذا التراث مسؤولية مشتركة بين الأفراد والمؤسسات الثقافية والحكومات. ومن خلال دمج الفنون الشعبية في مجالات جديدة، مثل التكنولوجيا والإعلام، يمكن إستمرار هذا الإرث الثقافي للأجيال القادمة، وتعزيز حضور الهُوية الوطنية في المشهد العالمي.

الفنون الشعبية ليست مجرد جزء من الماضي، بل هي أساس متين يساعد في تشكيل المستقبل الثقافي للأمم. من خلال الحفاظ عليها وتعزيزها، تحافظ الشعوب على هُويتها الوطنية وتساهم في تقوية أواصر الوحدة بين أفرادها، مما يجعلها ركيزة أساسية في بناء المجتمعات القوية والمستدامة.

***

د. عصام البرّام - القاهرة

الإرادة الحرة في مواجهة المعنى يفتح آفاقًا واسعة للنقاش والتفكير العميق في طبيعة الوجود والاختيار ويشير إلى قدرة الأنسان على اتخاذ قرارات مستقلة، حتى في ظل الضغوط التاريخية والاجتماعية، الإرادة الحرة تواجه صعوبات عندما تتداخل مع السرديات السائدة، مما يحد من الخيارات المتاحة، يسعى الأفراد والمجتمعات إلى فهم حياتهم وتجاربهم من خلال السرديات التي يمكن أن تعزز من الشعور بالمعنى أو تُحبطه، خاصة عندما تتعارض مع الإرادة الحرة، الإرادة الحرة تعني القدرة على اتخاذ قرارات مستقلة دون ضغط خارجي، تتشكل من خلال التجارب الشخصية والبيئة الاجتماعية، حيث يتعلم الأفراد اتخاذ قرارات مبنية على قيمهم ومعتقداتهم، الإرادة الحرة تعني أيضًا تحمل الأفراد مسؤولية قراراتهم وأفعالهم، ما يعزز الشعور بالإرادة الحرة القدرة على تقييم الخيارات المتاحة وفهم العواقب، وتتشكل من خلال الوعي الذاتي والتجارب التي تعزز من القدرة على تحدي الوضع الراهن، الإرادة الحرة تساهم في البحث عن المعنى في الحياة، حيث يسعى الأفراد لتحديد أهدافهم وقيمهم وتتأثر بالعوامل الثقافية والدينية، مما يعزز من فهم الأفراد لذاتهم ودورهم في العالم تتفاعل فيه التجارب الشخصية، التعليم، البيئة الاجتماعية، والثقافية. هذا التفاعل يساعد الأفراد على تطوير شعور قوي بالقدرة على اتخاذ قرارات مستقلة.

اختلافات الفهم

هناك اختلافات كبيرة في فهم الإرادة الحرة، مثلا في الثقافة الغربية، تركز على الاستقلالية والاختيار الشخصي، حيث يُعتبر الأفراد مسؤولين عن قراراتهم، في الثقافات الشرق اوسطية، تعطي أهمية أكبر للعلاقات الاجتماعية والالتزامات العائلية، حيث تُعتبر القرارات مرتبطة بشكل أكبر بالمجموعة، يُعتبر أن القدر يلعب دورًا كبيرًا في حياة الأفراد، مما يؤثر على مفهوم الإرادة الحرة، في ثقافات أخرى تُعتبر الإرادة الحرة مطلقة، مما يعزز من فكرة الاختيار الشخصي الكامل، نتيجة ذلك تكون الأنظمة القانونية  تعكس فهمًا مختلفًا للإرادة الحرة، حيث تُعزز بعض القوانين الحقوق الفردية بينما تحدها أخرى، مما يؤثر على مفهوم الإرادة الحرة، تجارب الشعوب عبر التاريخ، مثل الاستعمار أو الحروب، تؤثر على فهمهم للإرادة الحرة وتؤثر على قدرتهم على اتخاذ القرارات، فهم الإرادة الحرة يتأثر بشكل كبير بالعوامل الثقافية، مما يؤدي إلى تباين واسع في كيفية رؤية الأفراد لخياراتهم وقراراتهم في سياقات مختلفة، السرديات التاريخية تمثل جزءا من المدخلات الرئيسية لتشكيل فهم مجتمعي للإرادة الحرة وبالتالي توثر في ماهية الهوية.

السرديات التاريخية وماهية الهوية

السرديات التاريخية تعزز من الذاكرة الجماعية، مما يساعد في تشكيل الهوية الثقافية والانتماء، الأحداث التاريخية تُستخدم كرموز تعبر عن القيم والمعتقدات التي تحدد الهوية، الأحداث الكبرى مثل الحروب والثورات، تترك آثارًا عميقة على الهوية، حيث تُشكل فهم الأفراد لمكانتهم في العالم، الانتماء إلى مجموعة معينة يمكن أن يتأثر بالسرديات التاريخية، الأفراد الذين يتبنون إرادة حرة قد يتحدون السرديات التاريخية المفروضة، مما يساهم في إعادة تشكيل الهوية، القدرة على إعادة تفسير الأحداث التاريخية يمكن أن تؤدي إلى تشكيل هويات جديدة، وجود سرديات تاريخية متنوعة يعزز من التعدد في الهوية، حيث يمكن للأفراد اختيار الأبعاد التي تعكس تجاربهم الشخصية، التفاعل بين سرديات مختلفة يمكن أن يؤدي إلى فهم أعمق وأكثر شمولية للهوية، السرديات التاريخية تتغير مع الزمن استجابة للتغيرات الاجتماعية والسياسية، مما يؤثر على الهوية المعاصرة وبالتالي تكون الهوية غير ثابتة، لذا تلعب السرديات دورًا في تشكيل الهوية وفق سياقات جديدة، رغم ان السرديات التاريخية تشكل جزءًا أساسيًا من الهوية، حيث تساهم في تشكيل الذاكرة الجماعية والرموز الثقافية، الا انها لا تتيح للأفراد فرصًة لتحديها وإعادة تفسيرها كونها قد تم انتاجها وتشكلها في زمن سابق.

 الهوية المستقلة

بناء هوية مستقلة تمامًا عن السرديات التاريخية يعد أمرًا صعبًا، لكن ليس مستحيلًا. السرديات التاريخية تشكل جزءًا من الثقافة التي ينتمي إليها الفرد، مما يصعب فصل الهوية عنها، الأفراد يتأثرون بالذاكرة الجماعية، مما يعزز من ارتباط هويتهم بهذه السرديات، الأفراد الذين يمتلكون وعيًا نقديًا يمكنهم تحدي السرديات السائدة وإعادة تشكيل هويتهم بناءً على تجاربهم الخاصة، تجارب الحياة الفردية يمكن أن تلعب دورًا كبيرًا في بناء هوية جديدة، الأفراد الذين يسعون لتحرير أنفسهم من القيود الاجتماعية والتاريخية يمكنهم بناء هويات تتجاوز السرديات السائدة ويمتلكون القدرة على إعادة تفسير الأحداث والتجارب التي يمكن أن تؤدي إلى تشكيل هوية جديدة، حتى مع الجهود الكبيرة في تشكيل الهوية الجديدة، تبقى بعض التأثيرات التاريخية قائمة، مما يجعل من الصعب تحقيق استقلالية تامة، بناء هوية مستقلة يجب أن يتوازن مع الانتماء إلى المجتمع والثقافة من خلاله يمكن للفرد أن يسعى لبناء هوية مستقلة، لكن التحديات المرتبطة بالسرديات التاريخية تجعل ذلك أمرًا معقدًا. يتطلب الأمر وعيًا نقديًا وتجارب متنوعة وستظل التأثيرات جزءًا من النسيج الهوياتي للفرد.

بناء المعنى والسرديات التاريخية

بناء معنى بالاعتماد على السرديات التاريخية دون استخدام حرية الاختيار يعد أمرًا معقدًا، يمكن أن توفر السرديات التاريخية إطارًا ميتافيزيقيا لفهم العالم، مما يساهم في بناء معاني متعلقة بالهوية والانتماء، تعتمد بعض المجتمعات على السرديات لتحديد القيم والمبادئ، مما يمكن أن يخلق معاني قائمة على التقليد، يمكن للأفراد قبول السرديات التاريخية دون استخدام الإرادة الحرة، مما يؤدي إلى بناء معاني قد لا تعكس اختياراتهم الشخصية، الأفراد يشعرون بالضغط لقبول سرديات وهمية، مما يجعلهم يبنون معاني تتماشى مع السرديات السائدة التي يمكن أن تؤدي  إلى تشكيل هوية جماعية مغيبة المعنى، حيث يتبنى الأفراد المعاني المرتبطة بتلك الهوية دون ممارسة حرية الاختيار، الأحداث التاريخية المشتركة يمكن أن تخلق إطارًا للمعنى الذي يتقاسمه الأفراد والذي يؤدي إلى فقدان الإبداع والتفكير النقدي، مما يحد من قدرة الأفراد على تطوير معاني جديدة، في هذه الحالة يتجاهل الأفراد تجاربهم الشخصية الفريدة، مما يؤثر سلبًا على فهمهم للمعنى لان ذلك يتطلب قبولًا غير نقدي لهذه السرديات، مما قد يحد من استخدام حرية الاختيار. التوازن بين الاستفادة من السرديات التاريخية كإطار شكلي واستخدام الإرادة الحرة يعد أمرًا ضروريًا لبناء معانٍ غنية ومعبرة.

حرية الارادة والاجتهادات الفلسفية

حرية الإرادة موضوع مثير للجدل، هناك آراء متنوعة حول وجودها. بعض الفلاسفة، مثل سبينوزا ولوكريس، يرون أن كل شيء يخضع لقوانين طبيعية، مما يعني أن الإرادة الحرة غير موجودة، فيلسوف مثل جان بول سارتر يؤكد على وجود الإرادة الحرة، حيث يُعتبر الأفراد مسؤولين عن خياراتهم، الكثير من الناس يشعرون بأن لديهم القدرة على اتخاذ قرارات مستقلة، وهذا الشعور يمكن أن يكون دافعًا قويًا للتصرف، التجارب الشخصية تؤثر على فهم الأفراد للإرادة الحرة، مما يجعلها موضوعًا معقدًا، بينما يشعر الأفراد بأن لديهم حرية الإرادة، فإن العوامل الخارجية مثل القوانين والأعراف تؤثر على اختياراتهم، البعض يمكن أن يبحث عن نوع من التوازن بين حرية الإرادة والقيود التي يفرضها المجتمع . بينما هناك آراء تدعم وجودها وأخرى تنكر ذلك، يبقى النقاش مفتوحًا حول طبيعتها وتأثيرها، السرديات التاريخية تجعل الأفراد أكثر قبولًا للاستسلام، حتى مع وجود إرادة حرة، من خلال التأثير على الهوية، الضغوط الاجتماعية، وتفسير التجارب. هذا التفاعل مع السرديات يمكن أن يحد من خيارات الأفراد ويؤثر على قدرتهم على المقاومة، تتداخل حرية الإرادة مع مفهوم المعنى، حيث إن القدرة على اتخاذ القرارات تؤثر بشكل كبير على كيفية فهم الأفراد لمعاني حياتهم. إذا كانت حرية الإرادة موجودة، فإنها تعطي الأفراد القدرة على تشكيل معانيهم الخاصة إما إذا كانت الأحداث التاريخية تُعتبر حتمية، قد يُنظر إلى قرارات الأفراد كجزء من مسار تاريخي لا يمكن تغييره وبهذا تتناقض السرديات التاريخية مع مفهوم الإرادة الحرة، مما يدفع الأفراد لإعادة التفكير في معانيهم الشخصية، فحرية الإرادة تعني تحمل المسؤولية عن الأفعال، تتطلب تعزيز الوعي بأن السرديات التاريخية ليست حقائق ثابتة، بل يمكن إعادة تفسيرها. هذا يساعد الأفراد على أن يصبحوا أكثر وعيًا بأثر اختياراتهم من خلال هذا التفاعل ويمكن أن نجد طرقًا جديدة لفهم معاني الحياة، مما يعزز من حرية الإرادة بدلاً من تقييدها.

***

غالب المسعودي – باحث عراقي

السعادة من المفاهيم التي لم يُقال الكلمة الأخيرة في تعريفها، سواء من المنظور الفلسفي أو النفسي، فلا تزال محل جدال وإشكالية لم يتم التوصل إلي تعريف نهائي لها، وذلك يرجع إلي نسبيتها وتَغُيرها، وقد كتب وتحدث عن السعادة العديد من الفلاسفة وعلماء النفس، ولكننا فضلنا في هذا المقال تعريف السعادة كما يراها سقراط، ذلك الفيلسوف اليوناني الذي غير وظيفة الفلسفة في عصره، وحولها من النظر إلي السماء وما وراء الطبيعة، إلي الأرض وما وراء الإنسان والبحث في فضائل الإنسان، ومعرفة ماهيات الخير والشر والسعادة .

فالفلسفة بشكل عام هي محاولة تبسيط كل معقد وليست العكس، ولهذا جاءت فلسفة سقراط فلسفة خصبة قائمة علي منهج التوليد، عن طريق إثارة العقول بالأسئلة، فهي فلسفة تساؤلية والسؤال هو أصل التفلسف والمعرفة .

ما هو معني السعادة لديك؟

بهذا السؤال أخذ فيلسوفنا يجوب شوارع أثينا يستفز ويسخر من إدعاء البعض الحكمة والمعرفة، فلم يكن هدفه التقليل من شأن الآخرين ولكن كان الهدف هو كشف جهل الإنسان بحقيقة الأشياء، فهو نفسه قال “أعلم إني لا أعلم شيئ”رغم معرفته الواسعة التي جعلته يُلقب فيما بعد بأبو المعرفة .

ما هو الرد علي سؤال السعادة السُقراطي؟

كانت الإجابة نسبية فالكل يري السعادة بزاوية مختلفة، فكان رد البعض بأن السعادة في المال، والآخر قال بأن السعادة في الأسرة والزوجة الصالحة، والبعض قال بأنها في السلطة والشهرة .

أختلفت مفاهيم السعادة، وجاء رد سقراط التساؤلي في محاولته لصك معني للسعادة شامل، قائلاً إذا كانت السعادة كذلك في المال او السلطة او الممتلكات، هل ستكون سعيداً ومعك المال والسلطة والشهرة وتشعر بالألم ؟بهذا تكون سعادة ناقصة فقد رأي فيلسوفنا بأن السعادة التي ينشدها معاصريه مادية بحتة وغير حقيقية، كلها تنصب علي تركيز الإنسان علي تحقيق اللذة المادية وحب التملك، بينما هي عكس ذلك، فيمكن أن يحوز الإنسان علي الكثير من الممتلكات ولا يشعر بالسعادة  الحقيقية ويتألم .

إذن السعادة السُقراطية الحاقة هي بداخلنا وبتحقيق الفضيلة والإعتدال . وبإسقاط السعادة السقراطية في عالمنا المعاصر، نجد هيمنة رأس المال واللغة الأكثر إنتشاراً هي لغة النقود، ولهث الإنسان وراء الإمتلاك، ولكن هل توجد لديهم السعادة الحقيقية ؟

من وجهة نظرنا نحن نمثل دور السعادة علي مسرح مزيف مسرح الحياة شديد التلون و التغير، فكم من رجل غني لديه من المال الوفير، ولكنه لا يستطيع شراء السعادة فهي ليست للبيع، وكم من فقير ولكنه لديه من القناعة والرضا والإعتدال ما مكنه من أن تصبح السعادة أنيسته، وللأسف في الأوساط الشعبية وبالأخص الريفية دائما ما نوصف الرجل الغني مادياً بأنه مبسوط، ولكن تلك نظرة ناقصة، فهناك من الأغنياء ما يعكر صفوهم وينغص حياتهم في الواقع المعيش، فقبل ان يتم صياغة بؤس الأغنياء في صورة دراما تجسدها الأفلام والمسلسلات كانت واقعاً ملموساً فهي ليست في المال ولا الجاه .

فالسعادة الحقيقية في داخلنا، طالما ظل الإنسان يبحث عنها في الخارج سيظل يدور في دائرة مُفرغة ولن يجد سعادته، الحقيقية إلا في داخل نفسه ورضاه عنها وإعتداله، بهذا تتحقق السعادة رغم إنها سعادة مؤقتة.

ولهذا جاءت فلسفة سقراط إنسانية خالصة، تحثُ علي أن نعرف نفسنا بنفسنا، دعوة للتأمل والتدبر في نفوسنا كبداية لفهمها وبالتالي معرفة السعادة، عن طريق تحقيق الفضيلة والإعتدال والرضا بما نملكه، وليس بالحصول علي ما لانملكه .

***

محمد أبو العباس الدسوقي

 

لا يزال العقل الديني العربي في القرن الواحد والعشرين واقعاً في المأزق نفسه الذي مرّ به في القرن العشرين عندما تمكنت الآلة من التطور، وظهر الحاسوب كإختراع متقدم. فقد كان على العقل الديني العربي حينها ان يعمل على تطوير وتحديث ثقافته الفكرية كي يبني على مرحلة التطور العلمي تلك مباني عدّة تذهب به الى مزيد من الإستعداد لإستيعاب المرتقب من تطور العلم والتقنية، ذلك التطور الذي وصل الى إختراع الموبايل والإنترنت وشيوع استخدام تطبيقاتها في بدايات القرن الجديد، وهو ماضٍ بإتجاه تقنيات الذكاء الإصطناعي. كان من المفروض ان يعمل العقل الديني العربي منذ ذلك الوقت على النهوض بالفكر الديني بما لا يجعله مستخدماً للتقنية في إعادة انتاج الأفكار والطروحات الكلاسيكية دون التعمق في استنباط إستفهامات مرتقبة يفرضها واقع الإستخدام التقني في الحياة العامة، يضاف الى ذلك ما يمكن توقعه من ميول نفسية وانطباعات جديدة يطبعها حضور الآلة المتطورة في حياة الناس ما قد ينعكس سلباً على الإنطباع المألوف في علاقة الفرد بالدين وفي حاجته اليه.

 لا يشير الواقع الى وجود هكذا تجديد، أو هكذا نهضة، أو هكذا تطور في آلية تفكير العقل الديني، دلالة ان الأجيال التي أخذت تعاني من مشاكل إجتماعية ومشاكل شخصية افرزتها استخدامات التطور التقني، ومع ان العقل الديني موجود وسط هذه المشاكل الثقافية والاجتماعية، لكنه.

لم يظهر قدرة عالية على تدارك هكذا نتائج سلبية في المجتمع.

ربما بسبب الادوات والوسائل التقليدية التي يستخدمها العقل الديني في التعاطي مع المتغيرات الجديدة، تلك الأدوات والوسائل التي لم تعد قادرة على الصمود أمام الأدوات الجاذبة الأخاذة التي يجدها الفرد العربي المسلم اليوم في وسائل التواصل الإجتماعي وفي صفحات ومواقع الانترنت، وفي الأجهزة الرقمية والاجهزة الذكية.

فأمام انبهار المستخدم العربي بما يحققه العقل العلمي الغربي، لجأ العقل الديني العربي الى إسناد الريادة في هذا التطور العلمي الى القرآن الكريم عبر ربط نوع المنجز العلمي الغربي بنص قرآني.

 ان ربط الإنجاز العلمي في الغرب بالإعجاز العلمي في القرآن، يكشف في اعتقادي عن ضعف قدرة العقل الديني العربي على مواكبة ما يترتب على الإنجاز العلمي الغربي، وهذا ناتج عن قلق تشهده طبيعة تفكير العقل الديني بسبب إدراكه لضعف قوة جاذبيته للمتلقي العربي أمام تنامي قوة الجذب التي يعيشها الفرد العربي مع ما يصله من منجز علمي غربي،  فهناك مثلاً جهود لبعض الخطباء في التعريف والتذكير بقدرة الإمام علي عليه السلام العلمية في حل مسائل رياضية وفيزيائية صعبة جداً في عصره، فضلاً عن احاديثه عليه السلام عن آخر الزمان، منها انه اخبر بما سيأتي من أيام يسمع فيها الرجل صوت أخيه من مكان بعيد ويراه :

(يأتي زمان يسمع ويرى من في المشرق في المغرب ومن في المغرب في المشرق). اكتفى العقل الديني العربي بذكر هذه الأقوال لجذب القارئ والمستمع الى الدين من خلال الإشادة بعلم الإمام وعظمة إدراكه في قراءة المستقبل، وكان على العقل الديني ان يتخذ من هذه القاعدة الرصينة والتراث الإسلامي الضخم منطلقاً لتوسيع مدارك التفكير العقلي بما يوسع حضور الدين في النشاط الثقافي للعقل العربي، حتى إذا ما وصل الى القرن الواحد والعشرين كان على درجة من الوعي لا يقع معها في الحيرة التي هو فيها اليوم .

تواجه الثقافة العربية المعاصرة انتقادات كثيرة يوجهها العقل المعاصر لتاريخ الثقافة العربية، فكثير من الكتابات والآراء والكتب تنتقد الواقع العربي ومآلات الحالة الإجتماعية والثقافية والسياسية والدينية للفرد وللمجتمع من دون ان تقابلها أفكار ورؤى وبحوث توازي ذلك النقد.

هذا اللاتناسب بين النقد الهدّام والنقد البناء أخذ ينعكس على النضج النفسي للفرد العربي الذي أصبح مقتنعاً بأنه يعيش في مجتمع متأخر، وان هذا التأخر بات صفة ملازمة لطبيعة المجتمع العربي المعاصر، وانه من الصعب عليه ان ينهض بأمره من دون مساعدة قوة خارجية. وبات مدركاً الى حد ما ان هذه القوة الخارجية لن تقدم له يد العون من دون ان تطالبه بمقابل. وكثيراً ما يأتي هذا المقابل على حساب الموارد الطبيعية والموارد البشرية، وعلى حساب الهوية الدينية، في الأحوال كلها فإن الفرد العربي المسلم يعيش حالة من القلق النفسي المزمن ثقافياً. على الرغم من وجود مفكرين عرب وفلاسفة وعلماء، يتعذر انعاش الواقع. لقد بحث العقل في اكثر الأحيان عمّا يرضي المزاج النفسي لصاحبه، لذلك تتباين الآراء حول حدث واحد، فمنهم من يراه صحيحاً، ومنهم من يراه عكس ذلك. إلا الذين اوتوا نصيباً من العلم، فأولئك يقولون آمنّا، وهذا الإيمان يحملهم على قول الصدق والتثبت من الحقيقة، لذلك أكد العليم الحكيم سبحانه وتعالى في القرآن الكريم على استمرارية حفظه لكلماته التامات، كي تكون هي المعيار والمرجع الذي نقيّم به رؤانا وتصوراتنا وقناعاتنا وافكارنا وقراراتنا، في زمان تستخدم فيه كثير من انظمة حكم العالم العربي ثلاثية: التجهيل، والتدجيل، والتدجين.

كانت صعوبة مهمة الأنبياء في إيصال رسالة السماء الى الناس تكمن في كيفية تأهيل الوعي الذاتي عند كل شخص لتقبل الطرح الجديد لمفاهيم غير جديدة مثل الإله، العدالة، العبادة، وغيرها. فما من مجتمع إلا وله دين كما يقول التاريخ. أو هو يبحث له عن دين، وسواء أكان ذلك الدين سماوياً أم وضعياً، فإن اجنداته كانت تتحدث عن إله وعن عدالة، وهذه المفاهيم تحتاج الى وعي ذاتي يتحرك بصاحبه لاستقبال الدعوات الجديدة التي جاء بها الأنبياء.

لأن كثيرين على مرّ السنين كانوا قد شكلوا وعيهم على اساس انماط حياتهم اليومية، لذلك كانوا يواجهون فكرة الإله الواحد برغم انهم كانوا يعبدون إلهاً أو آلهة متعددة، فليست القضية قضية عدد بقدر ما هي قضية حاجة، فحاجتهم الى استبدال إلههم أو آلهتهم لم يكن لها ضرورة، لأن اوضاعهم الحياتية كانت ماضية بشكل مقنع ومرضي بالنسبة لهم. فهم يزرعون ويحصدون ويبنون ويتزوجون ويبيعون ويشترون.، لذلك عزفوا عن اتباع الأنبياء. وعندما وجدوا الأنبياء مصرين على دعوتهم الى التوحيد، واجهوهم، حرصاً منهم على خط حياتهم من ان ينحرف بعيداً بهم عما يطمئنون اليه، خصوصاً وان الطرح الجديد الذي يقدمه الأنبياء يقوم على نمط حياتي مختلف عن انماط حياتهم. من هنا جاء استغراب الأقوام من دين يساوي بين السيد والعبد، ويرى في اموال الأغنياء حق للفقراء، وهي طروحات تهدد نظام حياتهم وتقلب الموازين التي مضت عليها مجتمعاتهم سنين طويلة.

قد يمثل عصرنا الحالي اخطر مرحلة تاريخية يمر بها الوعي الإنساني. سبب ذلك ان تطور المعرفة والصناعة ودخول الشعوب عصر التقنية الرقمية والأجهزة الذكية جعل مفهوم الحرية الشخصية يتحرك في جو من القلق الثقافي والإضطراب الإجتماعي والفوضى السياسية والمشاكل الإقتصادية، مما اثر في فهم العدالة الإجتماعية . لذلك أخذ بعضهم يتوجه الى قبول فكرة الخروج من الدين من داخل دائرة الدين كظاهرة اجتماعية. فهو خروج لا بمعنى التمرد العلني او الرفض الظاهري او الإلحاد، بقدر ما هو لا تقيد بالتزام النص التشريعي. فمثلاً في مجتمعاتنا العربية الإسلامية يدرك الجميع ان الدين هو الإسلام. وان الشريعة المحمدية هي السبيل السليم لتحقيق العدالة الإجتماعية ولحياة آمنة. وفي الوقت ذاته يذهب كثير من الناس الى ان ذلك لم يعد ممكناً على ارض الواقع إلا بمشقة واضحة، ومع ذلك بقي الدين في حساباتهم يمثل الإطار العام لحركة الحياة. اما تفاصيل المشهد الإجتماعي ففيها الوان كثيرة غير محببة لعامة الناس، ولا حتى للمعنيين بالدور الرسالي للانسان في الحياة، فنرى في تفاصيل حياة كثير من الناس غياباً واضحاً لتفاصيل الدين، بل لعله خروج غير مباشر من الدين. هنا تبرز قضية الغربة التي تناولها الحديث النبوي الشريف (بدأ هذا الدين غريباً وسيعود غريباً فطوبى للغرباء) وهو حديث صحيح ذكره غير مصدر من مصادر التاريخ المعتمدة. من المقبول ان يبدأ الدين غريباً، فكيف سيعود غريباً وقد تجاوزت أفواج الداخلين في دين الله مليار نسمة حول العالم؟

ان المشكلة في اعتقادي تكمن في الكيفية التي لم يتم فيها إيصال الفكر الناضج الذي انتجته عقول الأنبياء في جو الوحي الى المتلقين من الأجيال، ممن يتباينون في معدلات نضجهم النفسي والعقلي، إذ لم يكتب للمجتمع العربي خلال التاريخ ان يمر بمرحلة غير قلقة يتحقق فيها ارتفاع لمعدلات النضج النفسي والعقلي بمناسيب متساوية.

بمرور الوقت وبدخول الإقتصاد كعامل قوي فاعل في تحريك تفاصيل الحياة اليومية تعقدت الأمور أكثر، لأن المال يشغل العقل بالارقام والانفعالات التي ينتج عنها اهتمام بالغ بالذات والفردية وبالأنانية، حيث يتم تجاوز معنى الصالح الى معنى المصلحة، هذا المفهوم الذي يحتمل الخاص والعام، في حين ان مفهوم الصالح له وجه واحد، لا يحتمل الخاص والعام. لذا كان الإهمال أو الإغفال مصير كثير من القيم والمثل العليا والمبادئ السامية في الجانب العملي، في حين بقيت تحظى بالتعظيم والتقدير وربما بالتقديس في الجانب النظري. سبب ذلك هو قلة النضج النفسي الذي تسبب في تكوين فهم جزئي، غير مكتمل أو غير ناضج، ودخول الزمن كعنصر أساس في حركة التطور العلمي في العالم، كان له دور مؤثر في إنتقال النضج الجزئي الى مراحل متقدمة من الوعي الجزئي، فكثير من الناس هم من أصحاب وعي جزئي كان يفترض بهم تنميته في ظروف نمو صالحة للوصول الى الوعي الكلي او الوعي الناضج او الوعي الجمعي. لكن الوقت مرَّ من بينهم حتى وجدوا انفسهم أمام واقع علمي عالمي متطور مذهل، جعل في متناول ايديهم تقنيات رقمية جبارة وجذابة، وآلات ذكية متفوقة.

هنا لم يعد بالإمكان تدارك ذلك الوعي الجزئي والنضج الجزئي للنفس وللعقل، لكن بالإمكان ان يكون ذلك الوعي الجزئي، هو كل الوعي الموجود. وفي ضوء ذلك ستأخذ المفاهيم الكبيرة التي نادى بها أنبياء الله معاني جديدة. فالحق مقدّس، والعدالة مطلب حق، لكن آليات الوصول الى هذه المعاني الكبيرة عملياً لم يعد سهلاً، لذلك تخللت هذه المفاهيم الكبيرة تطبيقات خطيرة نتج عنها غياب حقيقي مخيف لهكذا مفاهيم، مما حمل بعض الناس على ان يفرّوا من الدين وهم في داخل دائرته الإجتماعية التي يتعامل فيها بعض الناس مع المسجد كمكان آمن، ومع الصلاة كطقس بدني تلقائي، ومع المصحف كمصدر مجرب لدفع البلاء وجلب الرزق وطرد الشر.واصبحت الأنانية غير منفصلة عن الإنسانية في جو المصلحة العامة والخاصة، فصرنا نقيم مهرجانات واحتفالات كبيرة على شرف أسماء تاريخية وشخصيات كان لها دورها البارز في رسالة الإنسانية والدعوة الى الأخلاق والمثل العليا، وصرنا نقيم نصباً تذكارية لشخصيات تاريخية وأدبية وفنية وسياسية وعلمية، ونذكر سيرهم في كتبنا وبحوثنا وفي مناهج الدراسة، وصرنا نطلق اسماءهم على مشاريع سكنية وشوارع ومشاريع خدمية واماكن عامة وخاصة، لكن ليس هناك حضور جوهري لآثار هذه الأسماء والشخصيات النزيهة والمستقيمة في تعديل الإنحراف الذي يأخذنا اليه الواقع. الأمر الذي ترك في أذهان البسطاء من قليلي المعرفة والوعي، قلقاً نفسياً وثقافياً، سببه استقامة الجوهر وانحراف المظهر، خصوصاً ان حاملي القيم والمبادئ هذه الأيام، هم أقل وعياً بالذات الإنسانية من سابقيهم، وهنا تبرز مشكلة كبيرة تواجهها الثقافة العربية المعاصرة، وهي ان الأفكار العظيمة انتقلت الى أذهان لم تكن قد بلغت بعد مرحلة الإستعداد الكافي للتفكير بمستوى عظمة هذه الأفكار، أوانها لم تعد قادرة على الإستعداد للوصول الى هذا المستوى من التفكير العميق بعد ان سرق العصر الجديد اوقاتهم واودعها في بنك الإستهلاك الخدمي المعاشي.

الواقع الإجتماعي والثقافي العربي يمضي في اتجاه حصر منظومة رسائل ووصايا وحكم وقيم انبياء الله والمصلحين، في مرحلة الماضي او الجانب النظري الروحي للخبرة والمعرفة الانسانية، أما الجانب العملي المادي فمرهون بيد متغيرات مرحلية ومحلية وعالمية، تمضي بالفهم الى أفكار جديدة تؤثر فيها أدوات العصر بحيث لا تجعلها تتجاوز الماضي ولا ترى انها تسيئ الى حضوره عندما تضعه على الرف.

سعادة الانسان مرتبطة بفهمه للحب. والحب مرتبط بفهم العدالة. والعدالة مفهوم اختلط معناه بين العقل الديني والعقل السياسي، وهذا ما جعل مجتمعاتنا تفتقر الى الحب الحقيقي.

يقول ج. ب. شيشولم (ان الخطر الحقيقي الوحيد الذي يتهدد الإنسان هو الإنسان نفسه. والسبب في ذلك انه يعجز عن استخدام تفكيره الذي بلغ درجة رفيعة من التطور استخداماً فعالاً. وذلك نتيجة لمخاوفه وتحيزاته وتعصبه لآرائه وللكراهية القائمة على غير أساس والتفاني الذي لا يقل عنها بعداً من العقل، وكلها اعراض للمرض النفسي الذي يدل على اخفاقه في تحقيق النضج الانفعالي والصحة العقلية) (1).

***

د. عدي عدنان البلداوي

...........................

(1) كتاب العقل الناضج - ص133 - اوفر ستريت.

تسبر هذه الدراسة أغوار الآليات التي تتشكل عبرها الأفكار في وعي الإنسان، مقدمة قراءة نقدية محكمة لمسار يجعل من التفكير الفردي امتدادًا لتراكمات اجتماعية وثقافية، لا نبعًا أصيلًا للذات. يعمد البحث إلى تحرّي المفاهيم بدقة متناهية، مستندًا إلى شروط التكوين العقلي في بيئات يهيمن عليها سلطة رمزية صارمة، معتمداً على إرث فكري عراقي وتأملات الباحث.

المقدّمة

لا يتراءى كل ما نعتقده صادرًا عن وعينا، ولا تعد كل قناعة نحملها دليلًا قاطعًا على حرية فكرية مستقلة. الإنسان في مجتمعاتنا ذات الطابع التقليدي لا يُبنى كمفكر حر مستقل، بل يُصاغ بوصفه كائنًا وظيفيًا يعيد إنتاج ما يُلقن إليه من قيم وأفكار مغلوبة على أمرها. ولذلك يبرز السؤال المحوري: أين تكمن حدود مسؤوليتنا تجاه الأفكار التي نؤمن بها؟ وهل التفكير ممارسة نخوضها بحرية، أم هو نتاج حتمي لبيئات اجتماعية وثقافية تربوية مُحكمة؟

تسعى هذه الورقة إلى معالجات هذه القضية من منطلق تحليلي جاد، يوازن بين قوة الطرح ووضوح الإفهام، متجنبًا الزخرفة اللغوية التي قد تشوش المعنى. فنحن أمام مسألة عميقة ذات طبقات متداخلة تتطلب تشخيصًا متينًا لطبيعة الوعي وكيفية تشكله، بعيدًا عن التبسيط والتجريد السطحي.

أولًا: سلطة التنشئة وبنية التلقين

تبدأ السلطوية المعرفية تأثيرها منذ الطفولة، حيث يُفرض على الطفل ثنائيات قطعية كالصح والخطأ، الخير والشر، الحلال والحرام، التي لا تستند إلى تجربة نقدية ذاتية بل إلى سلطة خطابية محكمة. يعبر الفيلسوف علي الوردي عن هذا الواقع بقوله إن الإنسان في مجتمعاتنا يُربى على التسليم أكثر مما يُحفز على النقد والتمحيص.

وعليه، لا ينخرط الفرد في فضاء التفكير الحر إلا بعد أن يتعرّض لمنظومة من القيم والضوابط التي تحيط به، فتُحدد له ما يجوز له التفكير فيه وما يُمنع. وهكذا تتحول الأفكار إلى ممتلكات جماعية تُتداول بين الأفراد دون مساءلة عميقة أو مراجعة واعية.

ثانيًا: المؤسسات ودورها في قولبة الوعي

المؤسسات ليست هياكل إدارية فحسب، بل هي أطر تعيد تشكيل المعنى وتوزع السلطة الرمزية، تشمل الأسرة والمدرسة والمسجد ووسائل الإعلام. هذه المؤسسات غالبًا ما تفرز خطابات لا تشجع على التفكير المستقل بقدر ما تدعو إلى الامتثال والانصياع لما هو معتمد ومقبول.

يؤكد الباحث عبد الجبار الرفاعي أن مجتمعاتنا لا تزال محصورة داخل أنساق فكرية مغلقة، تحجب عن الإنسان فرصة امتلاك فكر شخصي مستقل، وتفرض عليه ما ينبغي أن يكون عليه. ومن هنا أقول: السؤال الحقيقي ليس لماذا تفكر بهذه الطريقة، بل من الذي منحك الإذن لتفكر بهذه الطريقة؟

ثالثًا: الرأي الشخصي كخدعة معرفية

لا يُصبح الرأي شخصيًا إلا إذا خضع للتحليل النقدي الداخلي والجدل المنهجي الصارم. أما في سياقاتنا الاجتماعية، فإن ما يُدعى آراء غالبًا ما تكون ناتجة عن انفعالات، تقليد، أو قبول اجتماعي غير مدروس. الرأي الذي لم يُمرر عبر مشفى الشك والتحليل لا يمكن اعتباره أصيلًا أو محل ثقة.

لقد كتبتُ في مناسبة أخرى أن الأفكار التي لا تكتسب صلابتها عبر الجدل والتمحيص تظل هشة مهما ألبست من قناعات.

رابعًا: التفكير من موقع الاستقلال لا الرفض

التفكير ليس فقط رفضًا للطاعة، بل هو رفض للتقليد الأعمى والقبول السطحي. لكنه لا يحض على رفض كل شيء بلا تمحيص، بل يدعو إلى الفحص والتأويل العميق. سقراط نفسه بيّن ذلك بجلاء حين قال إن الحياة التي لا تخضع للمراجعة والتحقيق لا تستحق أن تُعاش.

هنا يتجلى جوهر التفكير الحقيقي، الذي لا يقتصر على كونه فعلًا ذهنيًا صرفًا، بل هو فعل تحليلي يعيد صياغة العلاقة بين الإنسان والمعنى والمعتقد.

خامسًا: الاستقلال المفهومي وتبعاته

لا يتحقق الاستقلال الفكري بمجرد معارضة السائد، بل حين يتحرر العقل من الخضوع اللاواعي للموروث الثقافي والاجتماعي. صاغ المفكر كارل بوبر هذا المفهوم بدقة حين بين أن الحرية الحقيقية ليست في الإيمان بما تشاء، بل في القدرة على الرفض بعد الفهم الواعي.

ومن تجربتي الشخصية أؤكد أن امتلاك الفكر الحقيقي يعني المرور بتجارب متعددة من الرفض، التأسيس، الشك، ثم الفهم العميق.

الخاتمة والناتج

لم يكن الهدف من هذه الورقة التشكيك في كل ما نحمله من أفكار، بل لفت الانتباه إلى أننا في أغلب الأحيان نعيش داخل أفكار الآخرين لا أفكارنا. فالتفكير الحقيقي لا يتجسد في إعلان الرأي فقط، بل في مساءلة الرأي ذاته عن أصله وأسبابه.

فهل تساءلت يومًا: هل فكرك حقًا لك؟ أم أنه مجرد انعكاس لمنظومة تعتقد أنك حر فيها؟.

***

سجاد مصطفى حمود

 

يعمل العقل كما يعمل الفرن، والخبز الموجود فيه هو الإنتاج، والنار التي تطيّب الخبز هي القراءة الدائمة هي الوقود. إذا توقفت القراءة توقف الإنتاج، وكلما أعطيت العقل زاده من القراءة والتأمل أعطاك زادك من الإنتاج، ما رأيت آلة تعمل بغير ملل كما الفرن قدر ما يعمل العقل بوقود القراءة والتأمل.

العقل كالفرن البلدى قبل ظهور الصناعات الحديثة. لا يمكن أن يشتغل إلا بأكوام الوقود الدائم، ووقود العقل القراءة والتأمل والاستبصار كلما شحنته بالقراءة وتأملت المقروء واستبصرته جيداً، ومضت الأفكار في رحم العقل كما يومض الخبز تحت لهيب النار المشتعلة من وقود الفرن، ولا يمكن لكاتب أن يكتب كتابة جيدة بغير قراءة وتأمل واستبصار.

 أما القراءة فعرفناها، وأما التأمل فموقوف عليه معلوم، فماذا عساه يكون هذا الاستبصار؟

الاستبصار: هو أعلى المراحل في العملية الإبداعية كالرغيف الساخن تسحبه من القرن بعد استوائه هو الكتابة الإبداعية المنفردة بعد القراءة التي كانت مرحلة أولى، وبعد التأمل الذي يأتي كمرحلة ثانية: فالذي يشعل الوقود ليجعل منه ناراً ملتهبة هو التأمل، لكن لا القراءة وحدها ولا التأمل وحده يكفيان لتمام العملية الإبداعية كما لا يكفى الوقود بلا اشتعال، ولا يكفى الوقود مع الاشتعال أيضاً وليس في الفرن دقيق معجون ليصير خبرا شهيا.

إلى هنا ولم تصل بعد إلى حالة الاستبصار هذه.

العجيب في الأمر أن حالة الاستبصار خارجة عن العقل تماماً كما يكون رغيف الخبز خارج عن الفرن مع أن هذه الحالة الاستبصارية نتيجة لمراحل سابقة، ولكنها في ذاتها مفارقة لها بمقدار ما يفارق رغيف الخبز ما خرج عنه من وراء مراحل سبقت وجوده وأنشأت تكوينه وشاركت صورته النهائية.

الاستبصار بالنسبة للعقل كرغيف الخبز بالنسبة للفرن: شكل نهائي تجسده الكتابة الإبداعية في مراحلها الأخيرة تماماً كما تجسد عملية الإعداد من وقود واشتعال ومادة هي الدقيق المعجون، رغيف الخبز هذا الذي بين يديك.

فما يخرج من العقل هو الكتابة، كما يخرج عن الفرن الرغيف، لكن ليست كل الأرغفة التي تخرج عن الفرن صالحة للاستخدام الآدمي فها هو رغيف محروق، وهذا آخر زابل تالف هزيل ردئ، وذاك ضخم عجينه مخلوط بعشب الأرض ولوثة الهفاف المتطاير في الهواء، وعلة هذا كله هو فارق الصناعة بين جيدة ورديئة والاستبصار في الكتابة هو الذي يقوم مقام الصناعة في الفرن، فإذا وجد الاستبصار وجدت الكتابة الإبداعية، وإذا لم يوجد فقدت الكتابة الجيدة وأصبحت كرغيف فاسد محروق لا يصلح للغذاء.

أما عن كنه الاستبصار: فالخيال عالمه العظيم وفلكه الذي يسبح فيه ويخلق ما لم يكن مخلوقاً، مع تعدد الصور المعرفية والمرائى الوجودية عليه، لذلك كانت كل إبداعات أهل الله من العارفين هي استبصار يجند ذائقة البصيرة ويوظفها توظيفاً يرتد إلى حالة العارف، ويعلو فوق حدود العقل المحدود، ويأخذ بالتجربة والمعاناة، وهي تشمل الوعى العالي بما يتكاتف فيه العقل مع الروح فلا العقل وحده يكفى ولا الحس وحده يكفى ما لم يكن الإدراك الأعلى وهو إدراك البصيرة الذواقة أسمى في تلك التجربة الفياضة بذوق المعاناة العارفون يقولون من ذاق عرف.

 وليس من ذوق خارج نطاق التجربة، والتجربة في هذه الحالة هي التي تقودك ولست أنت القائد ولن تكون التجربة هي التي تفعل، ولست أنت الفاعل ولن تكون هنا يكون التخلى عجباً من أعاجيب القدرة: أعنى التخلى عن وهم تمثل في الوعى المحفوظ دوماً بالأنانية، واستبداله بمحيط السلامة النفسية بداية حين تتحلى بمجموعة قيم علوية تعتقدها وتدين لها بكل الولاء، وشيئاً فشيئاً تصبح عادة التحلى طبعاً لا يقبل الانفطام، ولا التخلى عنه بحال. بقاءك مرهون بعقيدتك في هذه الحالة ما في ذلك شك، وتقدمك موقوف على الولاء كل الولاء لما تدين مما عساك تحليت به في السابق وتزكيت.

لأبي العباس المرسى إشارة يقول فيها: إن لله عباداً محق أفعالهم بأفعاله، وأوصافهم بأوصافه، وذاتهم بذاته وحملهم من أسراره ما يعجز عامة الأولياء عن سماعه.. لأنهم صاروا بالحق بعد التجربة مع الله، ولكونهم بالحق في كل قول ذي صدق مع عمق كلام هو لا يحتاج إلى تذويق بل إلى تذوق؛ لأنه يخرج عن أسباب الإيمان والتقوى.

***

د. مجدي إبراهيم

 

في السرديات التاريخية كل خطوة نخطوها تفتح لنا أبوابًا جديدة في متاهة الجهل، هناك فجوة هائلة بين التواصل والفهم، انها تكشف لنا عن الواقع الحقيقي وهي فكرة الوجود كمتاهة متعددة الطبقات، حيث كل طبقة تمثل واقعاً مختلفاً من خلال طبيعة الزمن والوجود، تبدأ بسؤال ملغز...هل الزمن وهم أم حقيقة مطلقة...؟ نحن نتراوح في الواقع بين الوجود والعدم لذا علينا أن نعيش اللحظة بدلاً من مطاردة الزمن الذي يتسرب بين أيدينا ونحن نطارده لكن المعضلة هي ان هناك الزمن النفسي الذي يختلف عن الزمن الفيزيائي ايهما غير قابل للتسرب مما يشير الى ان السرديات التاريخية يمكن أن تكون انزلاقا في العدم إذا لم تُعالج بشكل نقدي. تُروى الأحداث التاريخية أحيانا بطريقة تتجاهل الحقائق من خلال الزمن الفيزيائي، أو تعزز روايات معينة على حساب أخرى من خلال الزمن النفسي، مما يؤدي إلى تشويه الفهم العام للتاريخ. عبارة كل خطوة نخطوها تفتح لنا أبوابًا جديدة من الجهل تعكس رؤية عميقة حول السرديات التاريخية. مما يجعل الفهم الكامل صعبًا، السرديات التاريخية غالبًا ما تكون متأثرة بالانحيازات، مما يخلق طبقات من المعلومات المغلوطة مع مرور الزمن، تتغير الآراء حول الأحداث التاريخية، مما يجعل المعرفة غير ثابتة، النسيان الانتقائيحيثبعض الحقائق تُهمل لصالح سرديات معينة، مما يؤدي إلى فجوات معرفية، السرديات التاريخية تتطلب فحصًا دقيقًا ووعيًا بالتعقيدات، وإلا فقد نغرق في دوامة من الجهل رغم محاولاتنا فهم الماضي.

فجوة بين التواصل والفهم

الفجوة بين التواصل والفهم في السرديات التاريخية تطرح اتساؤلات عميقة حول أهمية وجودنا ومعناه. يمكن أن يتواصل الناس حول أحداث تاريخية، لكن الفهم العميق يتطلب تحليلًا نقديًا وتجربة شخصية، السرديات تشكل هويتنا وتوجهاتنا، ولكن إذا كانت هذه السرديات مشوهة، فإن ذلك يؤثر على فهمنا لذواتنا، الفجوة تُبرز ضرورة البحث عن المعني، مما يمنح وجودنا هدفًا أعمق، الفهم الصحيح للتاريخ يساعدنا على تجنب تكرار الأخطاء، مما يعزز أهمية وجودنا وصناعة مستقبل أفضل، تتطلب الفجوة بين التواصل والفهم وعيًا نقديًا واهتمامًا بتاريخنا، مما يمنح وجودنا قيمة ومعنى في السياق الأوسع .

فكرة الوجود كمتاهة من الطبقات

فكرة الوجود كمتاهة من الطبقات في السرديات التاريخية تعكس تعقيد التجارب الإنسانية. الطبقات الاجتماعيةكل طبقة تمثل وجهات نظر مختلفة، مما يؤدي إلى تعددية في الروايات التاريخية، الأحداث التاريخية تتأثر بالسياقات الزمنية والاجتماعية، مما يخلق طبقات من الفهم كل طبقة تحتفظ بذاكرة خاصة بها، مما يؤدي إلى تباين في كيفية تذكر الأحداث وتفسيرها، الطبقات المختلفة تتفاعل وتتنازع، مما يشير الى تعقيد السرد التاريخي، كل طبقة تبحث عن معنى وجودها، مما يضيف عمقًا للتجربة الإنسانية، تُظهر هذه المتاهة كيف أن السرديات التاريخية ليست تطور تاريخي خطي، بل تتكون من طبقات متعددة تعكس تجارب وتفسيرات متنوعة.

دور السلطة في تشكيل الطبقات السردية

السلطة يمكن أن تحدد ما يُعتبر تاريخًا رسميًا، مما يؤثر على كيفية سرد الأحداث، من يملك الموارد المالية والثقافية يحدد أيضًا من يتم تمثيله في السرديات التاريخية المناهج الدراسية غالبًا ما تُصاغ وفقًا لرؤية السلطة، مما يؤثر على فهم الأجيال الجديدة للتاريخ، تفرض السلطة رقابة على المعلومات، مما يؤدي إلى تهميش روايات معينة، تُستخدم الأساطير والتقاليد لتعزيز شرعية السلطة، مما يؤثر على كيفية فهم الناس لتاريخهم، السلطة تلعب دورًا في تشكيل الهويات الجماعية، مما يخلق طبقات من السرديات تختلف باختلاف المجموعات.

الزمن في السرديات التاريخية

فكرة الزمن في السرديات التاريخية يمثل موضوعًا معقدًا يتأرجح بين كونه وهمًا أو حقيقة مطلقة. من ناحية يُنظر إلى الزمن كعنصر ثابت يقيس الأحداث والتغيرات، مما يعطي إحساسًا بالاستمرارية في الذاكرة الجماعية، من ناحية أخرى فهمنا للزمن، يخلق وهمًا يتعلق بمدى تأثير الأحداث الماضية على الحاضر، الأحداث التاريخية تتكرر في أنماط معينة، مما يعكس تغيرا في تأثير الزمن على التطورات الإنسانية، الفلاسفة مثل هايدغر وبيرغسون تناولوا الزمن كمسألة وجودية، مما يضيف عمقًا لفهمنا للزمن في السرديات التاريخية وهو مفهوم معقد يجمع بين جوانب ملموسة وذاتية، ما يجعله موضوعًا يستحق التأمل والنقاش. هناك زمنان يتناوبان احساسنا بالزمن، الزمن النفسي يمثل كيف نشعر بالوقت، وقد يختلف عن الزمن الموضوعي، مما يجعلنا نشعر بالضغط أو الفقدان، التركيز على الحاضر من خلال الزمن النفسي يعزز الوعي الذاتي ويساعد في تقليل القلق حول المستقبل أو الندم على الماضي، عيش اللحظة يعزز التجارب الحياتية، مما يجعلها أكثر عمقًا وثراءً، التأمل يساعد في تعزيز الوعي اللحظي وتقليل مشاعر المطاردة ويساعد على التحرر من قيود الزمن النفسي، مما يسمح بتجربة الحياة بشكل كامل، التركيز على الحاضر بدلاً من مطاردة الزمن يُعزز الرفاهية النفسية ويساعدنا على تقدير اللحظات الحياتية.

الزمن النفسي يختلف عن الزمن الفيزيائي

الزمن الفيزيائي يقاس بالثواني والدقائق والساعات، وهو ثابت وموضوعي، يتدفق بشكل خطي دون تغيير هو تجربة فردية تتعلق بكيفية إدراكنا للوقت. يمكن أن يبدو الزمن أسرع أو أبطأ بناءً على المشاعر والتجارب، يعتمد الزمن الفيزيائي على تسلسل الأحداث، لكنه يتأثر بشدة بالزمن النفسي، حيث تترك الأحداث أثرًا مختلفًا في الذاكرة، الأحداث التاريخية تُروى بشكل مختلف اعتمادًا على كيفية تأثيرها على الأفراد والمجتمعات، في أوقات مختلفة الزمن النفسي يُساعد في تشكيل كيفية فهمنا للأحداث التاريخية، حيث نبحث عن المعنى في تجاربنا الشخصية، الزمن النفسي والفيزيائي يتداخلان في السرديات التاريخية، مما يُعزز أهمية فهم كلا الجانبين لتقدير التجارب الإنسانية بشكل كامل.

دور الدين في تشكيل إدراك الزمن النفسي

الأديان تقدم رؤى مختلفة عن الزمن، مثل الزمن الخالد أو الدائري، مما يؤثر على كيفية فهم الأفراد لتجاربهم الزمنية، السرديات الدينية تساهم في تشكيل الذاكرة الجماعية، مما يعزز من إدراك الزمن كجزء من تاريخ مشترك، الدين يلعب دورًا محوريًا في تشكيل إدراك الزمن النفسي، مما يُعزز من أهمية السياقات الروحية في فهم السرد التاريخي، مفاهيم الزمن الديني تختلف بشكل كبير بين الثقافات، العديد من الأديان تميز بين الزمن المقدس والزمن العادي، مما يؤثر على كيفية إدراك الأفراد للوقت، يُنظر إلى الزمن كوسيلة لتحقيق أهداف روحية، مما يؤثر على كيفية عيش الأفراد للحظة الحالية تختلف مفاهيم الزمن الديني بين الثقافات، مما يعكس تنوع التجارب الإنسانية والفهم الروحي للوقت.

الانزلاق في العدم والسرديات التاريخية

نظام التفاهة يعد من الظواهر المعاصرة التي تؤثر في المجتمعات، خاصة تلك التي تعتمد على السرديات التاريخية والزمن المقدس. حيث تسيطر المظاهر السطحية على النقاشات العامة، مما يؤدي إلى إغفال القضايا الجوهرية التي تؤثر على المجتمع. تساهم التفاهة في فقدان المعنى والعمق في الحياة اليومية، مما يجعل الأفراد يشعرون بالانفصال والقلق، تروج وسائل الإعلام لنمط حياة مستند إلى الاستهلاك، مما يشتت الانتباه عن القضايا التاريخية والسياسية المهمة، في المجمل يعكس نظام التفاهة أزمة في القيم والمعرفة، ويهدد بإنهاء الروابط التاريخية التي تشكل هوية الشعوب هذا يمكن أن يتجلى في الأزمات الوجودية التي يواجهها الأفراد والمجتمعات، يتطلب ضرورة إعادة التفكير في السرديات التاريخية لتجنب الانزلاق في العدم، مما قد يؤدي إلى اكتشاف زوايا جديدة يمكن أن تُعبرتجارب جديدة من خلال البحث عن قصص اخرى تُثري السرد التاريخي في أوقات الأزمات والتي تعكس التحديات والواقع المرير، مما يُمكن المجتمعات من إيجاد معنى في الفوضى، و يُنتج سرديات جديدة تعكس الروح الإنسانية يمكن أن تُعيد المجتمعات استلهام دروس الماضي للتعامل مع الانزلاق في العدم، وانتاج سرديات جديدة تعكس قوة الصمود، هكذا يمكن أن يُصبح الانزلاق في العدم مصدر إلهام لإعادة بناء الهويات والتاريخ.

***

غالب المسعودي

ما هو الإنسان؟ ما حقيقته؟ من أين وإلى أين؟ أسئلة لا يُجيبُ عنها الذين هَجَروا يقظة الوعي وَغَطّوا في نَوْمَة الجّهل على فراش الإيمان الزائف؛ أسئلة لا يُجاب عنها إلا بأحْرُفٍ مِن نورِ الأرواح المُحبّة، والأنفس المُطمئنة التي هربت من ظلمات المظاهر والقشور نحو نور الجوهر وحقيقة المعنى، ومن لَعِق الألسن إلى صفاء القلوب التي صَدَقَت فبَلَغَت الحقيقة وتربَّعت على عرش اليقين؛ أسئلة لا يُجاب عنها بلقلقة المترفين بل بصلاة العاشقين. 

خَلَقَ اللهُ تعالى الإنسانَ لحكمة بالغة وأصلٍ مكنون لا يفقهه إلا العارفون؛ لم يخْلقْهُ اللهُ ليكون رقمًا في سجلات الحياة الدنيا، بل جوهر ذو معنى، ومحور تطوف حوله وتسجد له باقي المخلوقات؛ وأمانة يجب أن تؤدّى، هو سرّ الله الأعظم، قال تعالى:  ﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ﴾.

شاءَ اللهُ تعالى أنْ ينفخَ في هذا الطّين مِنْ روحِهِ ليغرز فيه بذرة الإنسان وليثمر نورًا وبصيرة وَلِيَجِدَ طَريقَهُ واضحًا جليًا نحو مراتب القرب الإلهي. خَلَقهُ لا أن يتمتّع ويأكل كما تأكل الأنعام، بل أن يكون مرآة لأسماء الله وصفاته؛ أنْ يكونَ له قلبٌ سليم لا يسكنه إلا الله تعالى، قال تعالى: ﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا﴾.

ولأجل أنْ يَعملَ العامِلون وَيَفيقَ النائمون، شاء الله تعالى أن يبعث الأنبياء والمرسلين، وينزل الكتب السماوية، ويجعل للبشريّة شريعة ومنهجًا توقظ فيهم نور الوعي الإنساني؛ أنزل القرآن ليرتوي منه العطاشى، وجعل الأنبياء والأوصياء أبوابًا يلجأ إليها المتحيرون ويطرقها القاصدون.

ولأجل أن تطوى مراتب التكامل الإيماني وَيَصِلَ المؤمنُ إلى مقامات القرب وَيَستشعر الذوبان في المبدأ الأول، وَيَعيش نَعيم فيوضات الحضور الأزلي بالمستوى الذي يذوب فيه حتى كأنه لا يرى في الوجود شيئًا سوى الله تعالى، عَلَيه أولًا أن يطوي مراتب التكامل الإنساني، لكي يُبيض صفحة القلب ويُطهّر النّفس من كل دَرَن، فما القلب إلا ذلك الاحساس الذي تحرّكه وتقوده إنسانيّة الإنسان.

والجنّة التي أعدّها الله تعالى لا تفتح أبوابها إلا لمن بلغ أعلى مقامات التكامل الإنساني، فالإنسانُ وحدَهُ مَنْ لَدَيه القُدرة على استشعار الألم، وهنا لا أقصد بالألم العضوي، فذلك ما تستشعره البهائم كذلك، وإنّما أَلَم الفَقْد الإلهي؛ حينما يكون قد خرج عن جادّة الحق.

إنَّ الرسالات السماويّة جاءت للتزكية والتطهير من الرّواسب الحيوانية، وأنَّ الإنسانَ لا يكون إنسانًا حتى يَطْمِسَ النَّفس عن علائق الأنا، وَيَرفَعَ الحُجُب عن عَين القلب، وَيَفتح بَصائر الصدق، ويسّير على صراط السلام، ويُحلّق بجناحي العفو والإيثار.

لا يكون الإنسانُ إنسانًا، حتى يرفع شعلة الحُب، ويكون مَظْهَرًا لأسماءِ اللهِ ومُزهِرًا لصفاته؛ فمن أحبّ عن وعي وصدق فقد عَرَف، ومن عَرَف بَلَغ، ومن بَلَغ صدَّق ومن صدَّق عَمِلَ بمعرفة واخلاص، وَمَن عَمَل نَجا.

هكذا هو الدين، إنَّه الحبّ، فَعَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ فِي حَدِيثٍ لَهُ قَالَ: يَا زِيَادُ وَيْحَكَ وهَلِ اَلدِّينُ إِلاَّ اَلْحُبُّ؟ أَ لاَ تَرَى إِلَى قَوْلِ اَللَّهِ: «إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اَللّٰهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اَللّٰهُ ويَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ»  أَ ولاَ تَرَوْنَ قَوْلَ اَللَّهِ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ «حَبَّبَ إِلَيْكُمُ اَلْإِيمٰانَ وزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ»  وقَالَ: يُحِبُّونَ مَنْ هٰاجَرَ إِلَيْهِمْ  وقَالَ: اَلدِّينُ هُوَ اَلْحُبُّ، واَلْحُبُّ هُوَ اَلدِّينُ.

إنَّ الأوامر السماوية لا تدعوك لأن تُشهر سيفك لتنتصر على عدوّك إلا بعد أن تطوي مشوار انتصارك على نفسك الأمارة. فجهاد النَفس هو المسير الأطول، والصراع الأعظم الذي لا يتوقف حتى يوقظ فيك شعلة الحبّ. فالحبّ ليس انفعالاً عابرًا أو نزوة سرعان ما تخبو، بل مقامٌ روحيّ، يبدأ ولا ينتهي.

إنَّ الحبَّ عندما يضرب أطنابه ويخيّم على النّفس يعيد هيكلة الإنسان من الأساس، ليكون حينها مظهرًا لأسم الله "الودود"، فلا يرى الغضب إلا ضعف والكره والبغض إلا صفات مَرَضيّة تحتاج إلى علاج، قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَٰنُ وُدًّا﴾.

إنَّ مَنْ لَبِسَ رِداء الحُبّ صار طبيبًا لا حاكمًا، يُحزنه ويبكيه أن يرى عدوه في ضلال، يشهر سيفه في وجهه. أهلُ الحُبّ قَد ذاقوا طَعْمَ الجنان وَعاشوا نعيمها قبل أن يموتوا.

بالحُبّ والسلام يَبلُغُ المؤمنُ أعلى المَراتب الإنسانية فَيَكون حينها مُستحقًا لَقَب الإنسان، فَلا تَليق بالإنسانِ إلّا الجِنان، فَقَد طَوَى المَراتب، وَتَسَلّق في سلّم التكامل، وَعَرَج من الطين نحو الأنوار الأحديّة.

***

بقلم: د. أكرم جلال

أفرز الذكاء الاصطناعي التوليدي الكثير من البرامج والتطبيقات، التي أتاحت للمستخدمين ترويج أنواع الخدع والأكاذيب عبر الصور والفيديوهات والأصوات المركبة، التي تهدف إلى الإساءة والمساس بخصوصيات وسمعة الناس العاديين، أو المشاهير، لأهداف متنوعة شخصية، أو اجتماعية، أو سياسية. وتزداد مثل هذه الاستخدامات عادة أثناء احتدام النزاعات والمجادلات والمنافسات الانتخابية، مما يستوجب التيقظ والانتباه والحذر الشديد في تداولها وترويحها على نطاق واسع. وإذا كانت بعض التقنيات الخادعة يتم كشفها بسهولة لدى عامة الناس من دون عناء لسذاجتها ولا منطقيتها وضعف فبركتها، إلا أن الخطورة تكمن في تلك الأعمال بالغة الدقة، التي تطلق عليها تسمية التزييف العميق Deep fakes التي تظهر الخدع وكأنها حقيقة لا شك فيها، سواء كانت على شكل فيديوهات أو أصوات، يتم فيها استبدال وجوه الأشخاص أو تعبيراتهم بوجوه وتعبيرات أخرى، أو حتى تقليد أصوات لأشخاص ينطقون بكلمات أو أحاديث أو تصريحات لم ينطقوا بها أبداً، ما تشكِّل تحدياً يمكن أن يؤدي إلى عواقب خطيرة على الصعيد الشخصي والمجتمعي.

قد يرى البعض أن الحد من استخدام تقنيات التزييف العميق، أو مراقبتها، وربما حجبها إن اقتضى الأمر، يمكن أن يمس بحرية التعبير، أو يحدُ من الحريات الشخصية في استخدام تطبيقات الذكاء الاصطناعي وتقنياته المتاحة أمام الجميع، غير أن دولة تُحسب في مقدمة الدول التي تتبنى مفاهيم الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان مثل الولايات المتحدة الأميركية، لجأت إلى سن قانون اتحادي يُجرم نشر الصور الإباحية والحميمية، على الانترنت دون موافقة أصحابها، بما في ذلك الصور وغيرها، التي يتم انشاؤها بواسطة الذكاء الاصطناعي عبر تقنية التزييف العميق. بل إن القانون الذي وقعه الرئيس الاميركي مؤخراً يلزم منصات التواصل الاجتماعي بإزالة تلك الصور في غضون 48 ساعة عند طلب الضحايا.

***

د. طه جزّاع – كاتب وأكاديمي

 

ضمن رصدِ خصائص المثقّفين، كنّا قد أوردنا في مؤلَّف سابق "العقل الإسلامي.. عوائق التحرّر وتحدّيات الانبعاث" (2011) أصنافا ثلاثة من "المثقّفين" حاضرة بوفرة في قطاع الثقافة العربية أطلقنا عليها نعوت: النّائم، والسّائم، والهائم. نستعيد توصيفاتها وملامحها بإيجاز في هذا المقال لصلتها بحديثنا عن الفكر المستقيل. يُعتبَر الصّنف النّائم الأعلى نسبة بين الأصناف الثلاثة. فقد كانت المؤسّسات التّربوية والتعليمية الناشئة مع بداية الاستقلال، في حاجّة ماسّة إلى كوادر محلّية مما حثَّ على دمج عناصر واهِنة، يشحذ السواد الأعظم منها وَهْمُ التغيير الحالم، فتحوّلت وظيفة التعليم معهم إلى حرفة ميكانيكية. والصّنف الثاني، وهو صنف المثقّف السائم، فقد انعكس الواقع السياسي الاجتماعي المأزوم على ذهنية كثيرين سلبًا، الأمر الذي خلص على إثره المثقّف إلى أنّ دوره في إصلاح تلك البنية الاجتماعية الثقافية متعذّر ومنعدم. وأمّا الصّنف الثّالث، وهو الهائم: إذ جرّاء التشتّت الهائل الذي لحق الشريحة المثقّفة، وقعت فئة من بينهم رهينةَ العبث واللاّيقين، مما حوّل منتهى إدراكها إلى انسداد تاريخي، تجلّى في ترديد مقولات موت الفلسفة، وموت الشعر، ونهاية الكاتب، ونهاية التاريخ، وغيرها من القوالب البائسة. وتقبّلها العقل المنفعِل وحاكاها، محدِّثا النفس بالانخراط في حركة الفكر العالمية، والحقيقة أنه لم ينخرط سوى باستهلاك موبقاتها.

فمع الفكر المستقيل يغدو تغييب التفكير تقليدا جاريا العمل به، وإن خلّف ضررًا فادحًا بتحوّل مروياته، وحكاياته، وأخباره، وأمثاله، إلى ما هو مألوف ومعتاد بين الناس. ولا يتوقّف تعطيل التفكير عند حدود الأفراد، بل يمتدّ ليشمل جموعا واسعة تجد أريحية في استحضاره والحفاظ عليه. يتأمّل المرء فئات متعلّمة لدينا، في مجالات الطبّ والهندسة والتقنيات، مَثَّل التفكير العلمي، والاختبار التجريبي، والتمحيص العقلي، ديدنَ انشغالاتها، غير أن تلك الفئات المهمّة في مجتمعاتنا بمجرّد عودتها إلى مهدها الأوّل، نقصد حاضنة المجتمع، إلّا وتتخلّى عن ذلك الطابع المعرفي الذي حصّلته طيلة مشوارها التعليمي وتكوينها الدراسي. لذلك لا تفرّق في كثير من الأحيان بين المتعلّم وغير المتعلّم، وبين الدارس والأمّي، في النهل من معين الخرافة والأسطورة والركون سويا إلى اللامعقول واللامنطق. فهل هي سطوة التفكير الخرافي التي تثقل الوعي الجمعي وتحُول دون إرساء رؤية سويّة أم هو الانفصام في الشخصية الذي نعاني منه وآثاره الفاعلة والعميقة؟

ولكن لنشرّح الظاهرة ونتمعّن في أبعادها: ما الذي تعنيه استقالة التفكير؟ قد تكون الاستقالة في جوهرها إقالة، يجري بمقتضاها إفقاد المرء قدرات التفكير، من خلال سلبه أدوات النقد والتحليل والتركيب والاستنباط والاستنتاج، وكلّها مدارج لبلوغ مراقي التمكين الذهني. إذ نلاحظ في كثير من البرامج التعليمية المعتمَدة في المستويات الجامعية وما قبل الجامعية، غياب المنزع العملي وفقدان روح التجديد وضمور المراجَعات، وهو ما يحوّل مؤسّساتنا التعليمية والتكوينية إلى مراكز تأهيل للبطالة بدل أن تكون منصّات انطلاق حقيقية نحو الإبداع والابتكار. فعملية سلب العقل مقدراته تشبه عملية الإخصاء في علم الأحياء وما تخلّفه من انحباس.

وضمن السياقين التعليمي والمعرفي تغدو الاستقالة الذهنية حفاظا على السائد وموالاة للثبات، والأدهى أنّ الاستقالة لا تقف عند حدود الجمود النظري، بل تؤثّر في عناصر مادية يُفترَض أن تشهد تحوّلا بفعل التقادم. ولا تعني استقالة التفكير سلبية الحضور الذهني وتواري الفاعلية فحسب، ولكن تلك الاستقالة غالبا ما تفسح المجال إلى بديل غرائزي أو سحري أو أسطوري يقوم مقام التفكير العقلي، لتغدو عملية الاستقالة استعاضة ببديل سلبي.

ولكن استقالة التفكير تظلّ بالأساس حالة من القناعة النفسية الذهنية، أساسها الاستمراء لما هو جمعي في تفسير الظواهر والوقائع وإن تَبيّن بطلانها. وبالتالي هي انسجام مع مخزون أفيوني، شبه مخدِّر، يستمدّ المرء منه أقواله وأحكامه ويقينياته، ويجد يسرًا في استحضاره، بفعل شيوعه بين أطياف واسعة من الناس. وهذه المعادلة تحكم العديد كلّما جرى التطرّق إلى مواضيع في الدين والدنيا، وبشأن الممات والحياة، وبشأن الشرق والغرب، وبشأن الأنا والآخر، وغيرها من الثنائيات. ومن ثَمَّ يتساءل الناظر أين يتوارى المخزون المعرفي بأشكاله المتنوّعة، العلمية والعقلية والمنطقية الذي يتلقّاه المرء طيلة فترة تكوينه؟ ولِمَ لا يحافظ على حضوره ويشهد تطوّرات في مراحل لاحقة يُفتَرض فيها أنّ المرء قد بات مقتدرًا بمفرده على إنمائه وقد تربّت فيه ثقافة الانفتاح وتقاليد المراجَعة؟ ينبغي أن نقرّ أنّ انفصاما عميقا يجثم على مجتمعاتنا، جرّاء غياب إيتيقا المعرفة. ذلك أنّ نظرتنا هي نظرة ظرفية ومباشرة للأشياء دون تنزيلها ضمن إطارها الصائب مما يولّد ثنائية مقيتة لدينا. إذ لا معنى للعلوم والمعارف والفلسفة والمنطق، التي هي بالنهاية وسائل، ما لم تربّ في المرء نشدان التحرّر. ولكن أن تتحوّل تلك المعارف/ الوسائل، التي هي بالحقيقة قدرات، إلى أدوات للتبرير وليّ عنق الحقائق، فإنّنا حينها نغرق في ثقافة مغشوشة تحتاج إلى عملية ترميم هائلة.

وكما يلوح بيّنا، تجد استقالة التفكير دعائمها في خمول النظر ووهن المدارك. ليس بالمعنى الذي يتحدّث عنه المفكران الإيطاليان جانّي فاتّيمو وبيار آلدو روفاتي عن "الفكر الضعيف" في مقابل "الفكر العتيد". لعمري ذلك سياق آخر تناولا فيه انغلاق الفلسفة داخل براديغمات محدّدة، وركونها إلى استعادة المقولات الكلاسيكية واستحضارها في زمن ما بعد حداثي. وقد كان فاتّيمو وروفاتي يصفان تحولا أخلاقيا عكسيا من "الفكر العتيد" إلى "الفكر الضعيف"، أي من الفكر الكلاسيكي إلى الفكر المابعد حداثي.

ولعلّ الإشكال الأبرز لدينا أن يتّخذ الفكر المستقيل من حصن المقدّس والعرف والمألوف هيكلا وملجأ، ولذلك كلّما توجّهت سهام النقد إليه لاذ واحتمى بما هو أثير لدى شقّ واسع من الناس. ولذا وجب فرز ما هو أصيل عمّا هو دخيل، وما هو جوهري عمّا هو عرضي، وهنا مهمّة الفلسفة، وعلم الاجتماع، والأنثروبولوجيا، والفكر النقدي، أي العلوم الإنسانية والاجتماعية عامة، لإعادة تصحيح المقولات وبيان الفروقات بين الحقول. إذ عادة ما نلحظ استحواذ الفكر المستقيل على المقولات الأثيرة في المخيال الجمعي وتوظيفها لتبرير مسلكه وإقرار منطقه. والحال أنّ خمول الفكر وغياب النقد مولّدان للشرّ، كما تذهب إلى ذلك المفكّرة حنة أرندت.

إذ كما نلاحظ تجتاح حياتنا عوائد جديدة: في متابعة الأخبار، وفي مواكبة الأحداث، وفي استمداد المعلومة، تحثّ على الخمول الذهني والكسل المعرفي. ووفرة ورود الأشياء على الذهن من العالم الافتراضي، وعبر مختلف الوسائط، ليست حافزا للتأمّل والتروّي في ما يجري، بل مدعاة لنسيان ما يجري ومحو اللاحق السابق من حيز التفكّر والتذكّر. ولإن يمتاز الزمن الحالي بتدفّق المعلومة وقربها ويسر الوصول إليها، فإنّه زمن الاستقالة الذهنية الموسَّعة أيضا. والإشكال في ما نعانيه، ليس في وفرة المعلومة، بل في غياب بيداغوجيا التعامل مع المعلومة. إذ كثيرا ما يرد على مسامعنا: سمعت اليوم كذا، ورأيت اليوم كذا، وتابعت اليوم كذا، ولكن يندر أن نسمع حديثا رصينا عن تمحيص ما يُسمَع ويُرى ويُتابَع. وبالتالي نحن أمام حاجة إلى تربية جديدة للتعامل مع هذا الفيض الجارف من الأخبار والمعلومات والمشاهد كي لا يتحول المرء إلى آلة فاقدة للأنسة، ولا نقول فاقدة للذكاء، وقد شُحنت الآلات أيضا بذكاء اصطناعي بعد أن كانت خاوية.

***

د. عزالدّين عناية

سعدت بلقاء المفكر العراقي الدكتور عبد الجبار الرفاعي في بغداد. الجلوس معه يمنحك زخماً لفهم الواقع من دون قيود الماضي التي تكبلك وتمنعك من الانطلاق إلى المستقبل. الرفاعي كان متخصصاً في الزراعة، ثم التحق بالحوزة العلمية في النجف، حيث بلغ مراحل عليا في الدراسة الدينية، قبل أن ينتقل إلى حوزة قم، وأكمل دراسته لعلوم الدين حتى بلوغه مرحلة الاجتهاد. إلى جانب ذلك، حصل على شهادة الدكتوراه في الفلسفة الإسلامية، وقدم مؤلفات وبحوثاً رصينة، أصبحت مادة لعشرات من أطروحات الدكتوراه ورسائل الماجستير في جامعات عربية وأجنبية.

يمتاز الرفاعي بتواضعه، رغم عمق فكره، وبمواصلته للبحث العلمي رغم ضغوط الحياة. كما يتميز بجرأته في تقديم أطروحات جديدة في فلسفة الدين وعلم الكلام الجديد. لا يكتفي بالنقد، بل يطرح بدائل واضحة ومؤسسة. فعندما ينتقد علم الكلام الموروث، يقدم مشروع "علم الكلام الجديد"، وحين ينتقد المناهج القديمة لقراءة النصوص الدينية يقدم رؤية بديلة لتفسيرها، وحين ينتقد التقديس المفرط المانع للتفكير، يتخذ المنهج الأكاديمي، ويقدم بحوثاً موثقة تمكن القارئ من تتبع مصادرها وفهم آليات تفكيرها ومساءلتها. الأفكار الحية هي التي تقبل التخطئة، بينما الأفكار المكبلة تنتهي إلى التقديس غير القابل للنقاش. فكر الرفاعي يجمع بين العمق الأكاديمي والاستيعاب للتراث والجرأة النقدية، مع تركيزه على إعادة تعريف الدين كقوة إيجابية تعزز الإنسانية والكرامة والحرية والمساواة. وقد تميزت أطروحاته بتجديد رؤيتنا للدين وتفكيك الخطابات المغلقة. يرى الرفاعي أن علم الكلام التقليدي بات عاجزاً عن مواكبة تحولات العصر، واحتياجات المسلم الروحية والأخلاقية والجمالية، ولذلك يدعو إلى "علم كلام جديد" يتفاعل مع الفلسفة الحديثة والعلوم الإنسانية، ويعيد قراءة النصوص الدينية برؤية إنسانية، تستلهم معطيات الفلسفة وعلوم الإنسان والمجتمع.

يشدد الرفاعي على ضرورة الفصل بين الدين ونظم وإدارة الدولة، معتبراً أن الخلط بينهما يشوه روح الدين الأصيلة، ويحول الدين إلى أداة للصراع، ويفسد الدين والدولة. الدين، في نظره، ليس مجرد عقيدة أو طقوس، بل حاجة وجودية عميقة، مرتبطة ببحث الإنسان عن المعنى والخلاص الروحي. ويحذر من تحول الدين إلى أيديولوجيا مغلقة تصادر العقل وتقمع حرية التفكير، ويدعو إلى فهمه بوصفه منظومة من القيم الروحية والأخلاقية والجمالية. ينتقد الرفاعي بشدة الهويات المغلقة، الدينية والعقائدية والطائفية والعنصرية، التي ترفض الحوار وتكرس العنف والتطرف، ويدعو إلى هويات منفتحة قائمة على "الصيرورة والتشكل المتواصل للهوية"، بدلاً من الجمود والانغلاق. ويؤكد على أن "أوهام الهوية والخصوصية" عطلت المجتمعات الإسلامية عن مواكبة العصر. كما يؤكد على ضرورة إعادة قراءة التراث الديني بمناهج نقدية، تحفظ جوهره الروحي والأخلاقي والجمالي، وينتقد القراءات الحرفية للنصوص التي تفضي إلى "لاهوت قشري" يفتقر إلى العمق. ويرى أن القيمة المركزية في الدين هي المحبة والرحمة وحماية الكرامة والحرية، ويندد بالخطابات الدينية التي تروج للعنف والتعصب، داعياً إلى تدين يعزز التعايش والسلم الاجتماعي.

***

د. منصور الجمري

كاتب من البحرين، رئيس التحرير السابق لصحيفة الوسط الصادرة في البحرين لمدة 14 سنة.

اطَّلعتُ هذه الأيام على مقالة للأديبة العراقية المعروفة لطفية الدليمي، تقترح خطاً مختلفاً للنقاش الدائر حول الذكاء الاصطناعي، وما ينطوي عليه من فرص وتحديات. والمقال بذاته يكشف عن الشعور العام بالقلق تجاه هذا الوافد الجديد، القلق الذي ينتاب مفكرين كثيرين جداً في شرق العالم وغربه، بمن فيهم أولئك الذين ساهموا أو يساهمون فعلياً في تطوير منصات الذكاء الاصطناعي وتطبيقاته.

هذا القلق هو الذي دفع مفكرين بارزين مثل هنري كيسنجر ونعوم تشومسكي إلى مناقشة الموضوع، رغم أنهم تجاوزوا -لو اعتمدنا منطق العمل- سن التقاعد، وما عاد مطلوباً منهم الاهتمام بغير صحتهم الشخصية.

في يونيو (حزيران) 2023 نشرت صحيفة «نيويورك تايمز» مقالاً عنوانه «التهديد الحقيقي الذي يمثله الذكاء ‏‏الاصطناعي» بقلم إفغيني موروزوف، وهو باحث تخصص في دراسة الانعكاسات السياسية والاجتماعية ‏‏للتقنية. أثار المقال اهتماماً واسعاً، وغذَّى جدلاً محتدماً بالفعل، بين الباحثين وزعماء المجتمع المدني، حول التأثير المتوقع ‏‏لتطبيقات الذكاء الاصطناعي على نظم المعيشة. قبل ذلك بنصف عام، في نوفمبر (تشرين الثاني) 2022، كانت منصة «‏‏ChatGPT-4‏» الشهيرة قد أُتيحت لعامة الناس. ونعلم أن كل اختراع جديد، يتاح ‏‏للجمهور، فإنه سوف يتطور خلال فترة وجيزة إلى نسخ أكثر قوة وعمقاً. لدى الجمهور العام قدرة غريبة على تجاوز العقبات التي تواجه المتخصصين والمحترفين. هذا أمر يعرفه الباحثون تماماً.

‏‏القدرات الفائقة التي كشفت عنها تلك المنصة، وجَّهت الانتباه إلى النهايات التي يمكن أن تبلغها ‏الأنظمة الذكية، خلال سنوات قليلة. حتى إن بعضهم حذَّرنا من واقع شبيه لما شاهدناه في فيلم «المصفوفة»، (ماتريكس)، الذي يعرض وضعاً افتراضياً عن نضج كامل للأنظمة ‏‏الذكية، بلغ حد استعباد البشر وتحويلهم إلى بطاريات تمدها بالطاقة.‏

وذكَّرنا موروزوف بأن المخاطر التي يجري الحديث عنها، ليست توهمات ولا مخاوف تنتاب عجائز خائفين من التغيير، ففي مايو (أيار) من نفس العام 2023 صدر بيان وقَّعه 300 من كبار الباحثين ومديري الشركات العاملة في مجال التقنية، ينبّه إلى المخاطر الوجودية التي ربما تنجم عن التوسع المنفلت في تطبيقات الذكاء الاصطناعي.

بالعودة إلى ما بدأنا به، فقد اقترحت الأستاذة لطفية مقاربةً تركِّز على العلاقة بين الكفاية المعيشية والميول السلمية عند البشر. لتوضيح الفكرة، دعْنا نبدأ بالسؤال الآتي: هل نتوقع أن يساعد الذكاء الاصطناعي على ازدهار الاقتصاد ومصادر المعيشة أم العكس؟ غالبية الناس سيأخذون الجانب الإيجابي، ويستذكرون النمو الهائل للاقتصاد، بعد تطور نظم المعلومات والاتصالات الإلكترونية، رغم ما رافقها من مخاوف بشأن خسارة الناس وظائفهم. نعلم اليوم أن سرعة التواصل بين الناس هي سر الازدهار والتوسع. الازدهار يوفر فرص عمل جديدة وموارد غير معروفة، ويعزز رغبة البشر في التفاهم والتعاون، الأمر الذي يقلل من النزاعات والحروب.

هذا هو الوجه الإيجابي الذي تقترح الأستاذة الدليمي الانطلاق منه في مناقشة الموضوع. هذا يُحيلنا -بطبيعة الحال- إلى سؤال ضروري: ما دام الناس جميعاً عارفين بما سيأتي مع الذكاء الاصطناعي من ازدهار، فلماذا نراهم أكثر قلقاً؟

اعتقادي الشخصي أن السبب الوحيد للقلق هو معرفة الجميع أن السرعة الفائقة للأنظمة الجديدة لا تسمح لهم بالسيطرة على أفعالها، سواء كانت مقصودة أم كانت بالخطأ. في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي صدمت سيارة ذاتية القيادة شخصاً فمات، مع أنها مصمَّمة كي لا تفعل ذلك. هذا خطأ بالتأكيد. لكن مَن يستطيع استدراك الخطأ قبل أن يُفضي إلى كارثة؟

يشير الباحثون إلى عاملَين يجعلان الاحتمالات السلبية أكثر إثارةً للقلق، أولهما هو التغذية - البرمجة المنحازة، التي لا يمكن تلافيها على أي حال، والآخر هو عجز الآلة الذكية عن التعامل مع الفروق الفردية، التي نعدها أساسية في التعامل مع البشر المتنوعين.

لكن هذا موضوع يحتاج إلى حديث مبسوط، آمل أن نعود إليه في وقت لاحق.

***

د. توفيق السيف – كاتب وباحث سعودي

 

كثيرا ما يطرح سؤال الخوف، كرابط اجتماعي عاطفي، في حدود التجربة الإنسانية، أو القلق الكينوني؟

ولم يكن مستساغا أن تُبكَّر ثقافة الخوف، من منظور أخلاقيات الإعلام، كنتاج لتداعيات الشعور بالهزيمة النفسية، أو الاهتزاز السلوكي الطبيعي. لكن القيمة الحقيقية لهذا الشعور المتوتر والبدهي، خصوصا في حقل خطير كالإعلام، يعي القيمة الحقيقية لاستقبال المعلومات (المعرفة)، وتأثيراتها في المجتمع والقيمة، سيكون لها نصَب وفير من اللامعنى، مقابل ما تفرزه الوضعيات السلوكية للأفراد والجماعات من تعذيب وتنافر عقلي، فيما يسميه إيكتيتوس ب"الاستجابة لبكاء الروح" أو "محاولة لفهم أنفسنا وتحريرها من قبضة مخاوفنا وأحزاننا".

ومكمن الخوف من/ في الإعلام، ليس في ذاته بالضبط، بل في فهمنا لطبيعة وجوده وقدرته على تشكيل الحواجز والخلفيات التي تؤطر تخيلاتنا السلبية تجاه قضايانا المصيرية. إذ غالبا ما تنكفئ فكرة قراءة الواقع انطلاقا من معابر ترديدات الاعلام وآلياته المتحولة، مع ما يحمله الآن من توجسات واحتدادات في قدرته على التأثير في الوعي الاجتماعي والثقافي، ما يجعل من "فعل التجارب" منزلة أشد قسوة من خوف التجارب عينها.

وكما أن للقيمة المعرفية في نسق الاعلام، أبنية ومبادئ تقوم عليها، فإن أوعية هذا النسق تظل قريبة من ترصدات السلطة وعيونها السارحة المفتوحة، توفر هامش التمدد والانصراف إلى مواجهة الأعباء المعيشية، بغير قليل من التبصر والمكابدة واستنفار الظروف والتحرر من وهم الانهيار المفاجئ.

على أن انتصار الخوف بإزاء طفرة الإعلام، لا يمكن أن يمنحنا شجاعة كافية لتبديد نظرتنا المدركة لحجم التقائية الرغبة في الاكتشاف أو التعلق المطبع مع العوالم اللايقينية، أو حتى التعايش مع عشوائيتها العذبة. فالخوف من صناعة الاشكال النافرة من داخل الاعلام الجديد، في شكله المبتوت في "البروبجندا" و"تحريف الأخبار" و"نشر التفاهة".. إلخ، هو تأكيد فلسفي لمتاهة "الذعر اللاأخلاقي" وتكريس قيمة التخلص من "القدوة" و"التعلم من دروس الحياة". يقول سينيكا :"ما يجعل الأمور تبدو مخيفة عما هي في الحقيقة، هي أنها غير مألوفة بالنسبة لنا، ولعل التأمل المتواصل، سيضمن لك إذا أصبح عادة لديك، أنه لا تجدك الصعاب حديث عهد بها".

إن المنظورات القابعة في وثن الإعلام اليوم، هي في حدها المجازي تنطق أحولا ومفارقات وتناقضات جمة، ما يعني أن تتحول المنظومة من علامة مجتمعية ذات عمق ثقافي هوياتي رمزي، إلى مفرزة مشرعة لحاجات الرأي العام، الذي لا يخصص وجهته، وسط تزايد نفوذ السلط الاجتماعية في وسائل التواصل السريعة، إلى ما يشبه الحفر العالقة في مستنقعات القوى النافذة والباطشة، والتي وصفها دافيد ديسلير ب"المكنسة التي تعيق أرضية الانطلاق"، في إشارة إلى استحواذها على القواعد المؤسسة لوجودها الحتمي، حابلها ونابلها، فتفرز بكشطها المعولم كل الدوافع والارتهانات التي تقوم عليها سلطتها، بما في ذلك مظاهر التحشيد واللعب على الحبال.

إن الخوف من/ في الإعلام، هو إذن نبت مختلط من القلق والغضب. القلق الذي هو حق في دورة حركة التفكير. والغضب الذي هو انفعال قد لا يعدل حجم اعتقادنا بما هو أفضل. أما ما يصير في حكم تقديم الاعلام، كفزاعة لتفكيك المجتمع أو التأثير على قيمه وأنماطه السلوكية والثقافية والاجتماعية، فأمر يخالف الوظيفة أو الرسالة التي وضع لأجلها. إذ إن قيمة الإعلام تكمن في نهضته بالإنسان، كرافعة لبث المعرفة، وتحويلها إلى إيتيقا، تعمل على تجسير الرؤى وامتلاك الجرأة والشجاعة لقول الحقيقة، وتأويل الشكوك إلى أرضيات نقاش وتبصر وتمحيص وبحث مستميت عن المعنى. كل ذلك، يكون وفق حركات متنوعة ونوعية، تكبح الاختراقات المتكالبة الفجة، وتضمن اكتساب الصلابة والنجاعة الأخلاقية، دون اضطراب أو غموض.

إنها حالة تدعونا إلى إزاحة التباس "تمجيد الخوف" وتطويع أسلوب نظرتنا تجاه إعلام لا يحمل في رصيده الاعتباري، أي قبح أو صراخ مبيت؟.

***

د. مصطفى غَلــــمَــان

الثقافة الرثة: الثقافة الرثة، تشير إلى التدهور في القيم والمعايير الثقافية نتيجة العوامل الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. تعكس الثقافة الرثة فقدان الهوية والترابط الاجتماعي، وغالبًا ما تكون مصحوبة بانتشار العنف والفساد، السرديات التاريخية يمكن أن تُستخدم كمرجعية لفهم الثقافة الرثة، حيث تحكي القصص عن الأحداث التي أدت إلى تدهور القيم الثقافية. من خلال تحليل هذه السرديات، يمكن فهم الأسباب الجذرية للتغيرات الثقافية والاجتماعية.

السرديات التاريخية وانتاج ثقافة رثة

السرديات التاريخية قد تُستخدم لتبرير أعمال العنف أو الاستغلال، مما يؤدي إلى تشويه الحقائق وتعزيز الانقسامات، السرديات التي تركز على الفروق العرقية أو الثقافية تُعزز التمييز، مما يؤدي إلى فقدان الهوية المشتركة والترابط الاجتماعي، سرديات الحروب والأزمات تعيد إحياء الذكريات المؤلمة، مما يخلق شعورًا مستمرًا باليأس والإحباط الاجتماعي، تركيز بعض السرديات على الفشل والفساد يؤدي إلى فقدان الأمل في التغيير، مما يعزز من الثقافة الرثة خصوصا إذا كانت تُدرّس بشكل مُحَرَّف أو مُبَسَّط، فإنها تساهم في تشكيل ثقافة سلبية، وتؤثر على القيم والمبادئ في الأجيال الجديدة، بعض السرديات تُستخدم كأداة لتحقيق مكاسب سياسية، مما يعزز الانقسامات بدلاً من تعزيز الوحدة، تتداخل هذه العوامل لتخلق بيئة ثقافية رثة، حيث يصبح من الصعب استعادة القيم الإنسانية الأساسية والترابط الاجتماعي كون السرديات التاريخية تتشكل من خلال تجارب المجتمعات وتاريخها وهي تعكس الرؤى والمعتقدات التي تتبناها، مما يساهم في تشكيل الثقافة، الأحداث التاريخية مثل الحروب والأزمات، تُنتج سرديات تعبّر عن المعاناة والظلم، تلك السرديات تشكل الذاكرة الجماعية، مما يؤثر على القيم والسلوكيات الثقافية، السرديات التي تركز على الانقسامات، مثل العنصرية أو الطائفية تعيد إنتاج ثقافة رثة، حيث تصبح هذه القيم جزءًا من الهوية الثقافية من خلال سرد الأحداث بشكل منحاز، التركيز على المعاناة يمكن أن يؤدي إلى إحباط وفقدان الأمل، السرديات التاريخية تلعب دورًا في بناء الهوية الجماعية، عندما تركز على الصراعات والتجارب السلبية، فإنها تؤدي إلى تعزيز مشاعر العزلة والانقسام، تظهر هذه العلاقة العضوية أن السرديات ليست مجرد روايات، بل هي أدوات قوية تُشكل الثقافة وتؤثر على القيم المجتمعية، مما قد يؤدي إلى إنتاج ثقافة رثة.

بنية النص في السرديات التاريخية

بنية النص في السرديات التاريخية تلعب دورًا مهمًا في تأمين ديمومتها الثقافية، اذ يتم اختيار أحداث معينة تُروى بشكل يبرز المعاناة أو الظلم، مما يعزز مشاعر الإحباط والانقسام، استخدام لغة خطابية شعبوية تعبر عن الكراهية أو التمييز يمكن أن يُعزز من شعور الانقسام، ويجعل الثقافة الرثة جزءًا لا يتجزأ من الهوية، سرد الأحداث بشكل يُركز على الماضي الأليم دون تقديم أمل مستقبلي يُعزز من مشاعر العجز وغياب الأفق، تقديم شخصيات تمثل الضحايا كجلادين بطريقة يمكن ان تعزز الثقافة الرثة، و تعزز الانقسامات و الجراح في الذاكرة الجمعيّة، تكرار السرديات السلبية عبر الأجيال يُسهم في ديمومة الثقافة الرثة، حيث تصبح هذه السرديات جزءًا من التعليم والتنشئة. ت بنية النص في السرديات التاريخية تظهر كيف يمكن استخدامها كأداة لضمان ديمومة ثقافة رثة، من خلال تعزيز الانقسامات وإعادة إنتاج القيم السلبية في المجتمعات.

التعاضد الرأسمالي والسرديات التاريخية

الرأسمالية تساهم في تركيز الثروة والسلطة في يد قلة، مما يعزز سرديات تبرر الفوارق الاجتماعية والاقتصادية، تساهم الشركات في تشكيل سرديات ثقافية تروج لقيم الاستهلاك والنجاح الفردي، مما يؤدي إلى ثقافة سطحية ومادية كما ان التركيز على سرديات تاريخية تهمش التجارب الجماعية، مما يؤدي إلى فقدان الوعي بالعدالة الاجتماعية، تستخدم الرأسمالية الهويات الثقافية لتعزيز الاستهلاك، مما يساهم في تعزيز ثقافة رثة قائمة على التميز والتفاخر تتعاون الرأسمالية مع الأنظمة السياسية الهشة لتعزيز سرديات تدعم السياسات التي تنفع النخب، مما يعزز ثقافة التسلط والتهميش، تتداخل الرأسمالية والسرديات التاريخية الوهمية في إنتاج ثقافة رثة، مما يؤدي إلى أنظمة اجتماعية واقتصادية وسياسية تفتقر إلى العمق والقيم الإنسانية.

تحديد الثقافة الرثة

تحديد (الثقافة الرثة) يتطلب فهم مكوناتها والعوامل التي ساهمت في تشكيلها بدقة. الثقافة الرثة تشير إلى تدهور القيم الاجتماعية والأخلاقية، حيث تصبح القيم التقليدية مثل الاحترام والتعاون أقل أهمية، تتميز بثقافة استهلاكية تروج للاستهلاك المفرط، مما يؤدي إلى تآكل الروابط الاجتماعية والإنسانية، تعكس الثقافة الرثة فقدان الهوية الجماعية، حيث تتراجع التقاليد والممارسات الثقافية الأصلية كما تساهم في تعزيز الانقسامات بين الطبقات الاجتماعية، مما يؤدي إلى تفشي مشاعر الكراهية والتوتر وتساهم في تقليل المشاركة الفعالة في العمليات السياسية والاجتماعية، مما يعزز من حالة اللامبالاة، وتعتمد على سرديات تروج للظلم والفشل، مما يعزز الإحباط وفقدان الأمل يمكن تحديد (الثقافة الرثة) كظاهرة تعبر عن تدهور القيم الإنسانية والاجتماعية، مما يؤدي إلى مجتمع يفتقر إلى الترابط والعمق الثقافي.

الثقافة الرثة والفقر

الفقر يمكن أن يؤدي إلى تدهور القيم الأساسية مثل التعاون والتضامن، مما يعزز من ثقافة رثة، الفئات الفقيرة غالبًا ما تُهمش في المجتمع، مما يؤدي إلى فقدان الهوية والانتماء، وهو ما يساهم في تعزيز الثقافة الرثة، في بعض الحالات قد تلجأ المجتمعات الفقيرة إلى ثقافة استهلاكية سطحية كوسيلة للهروب من واقعها، مما يعزز من الثقافة الرثة، الفقر يؤثر سلبًا على الوصول إلى التعليم الجيد، مما يساهم في استمرار الثقافة الرثة، نقص التفكير النقدي يرتبط غالبًا بسرديات تاريخية تعزز الإحباط والفشل من خلال المعاناة الاقتصادية للفقراء، مما يعزز من حالة الثقافة الرثة، تظهر هذه العلاقة أن الفقر يمكن أن يكون عاملًا مساهمًا في إنتاج الثقافة الرثة، حيث تعزز ظروف الفقر من تدهور القيم الاجتماعية والانتماء والوصول الى الموارد.

العناصر السلبية في الثقافة الرثة

ان دراسة النصوص، الفنون، والعادات الثقافية بعناية، مع التركيز على الرسائل والقيم التي تحملها الثقافة الرثة يساهم في فهم السياق التاريخي الذي نشأت فيه هذه الثقافة، ان تحديد العوامل التي أثرت فيها من خلال إجراء حوارات مع أفراد المجتمع لفهم كيف يقيمون عناصر الثقافة الرثة، مما يسهم في إعادة تقييم الثقافة الرثة بشكل فعّال. تتضمن العناصر السلبية في الثقافة الرثة عدة جوانب تؤثر سلبًا على المجتمع والفرد. منها اتباع العادات والتقاليد دون فهم أو نقد، مما يؤدي إلى فقدان الهوية الثقافية ظهور أفكار مسبقة تدعم التمييز ضد فئات معينة، مما يُعزز من الانقسام الاجتماعي، ضعف القدرة على التفكير النقدي يؤدي إلى قبول المعلومات دون تمحيص، مما يضر بالوعي المجتمعي، التركيز على المظاهر المادية والمكانة الاجتماعية على حساب القيم الإنسانية والأخلاقية، عدم احترام الثقافات الأخرى أو الاستهزاء بها، مما يؤدي إلى عدم التفاهم وتعزيز النزاعات، عرض نماذج سلبية تعزز من السلوكيات غير المرغوب فيها، مثل العنف أو السلوك غير الأخلاقي وعدم تشجيع الابتكار والتفكير الجديد، مما يعيق التقدم والتطور الثقافي.

المثقف الفعال والمثاقفة

المثقف الفعال هو الشخص الذي يمتلك القدرة على التأثير في مجتمعه من خلال أفكاره ومبادئه. يتميز بقدرته على النقد والتفكير المستقل، مما يجعله قادراً على مواجهة التحديات الثقافية والاجتماعية، المتثاقف يشير إلى المثقف الذي يتبنى الثقافة الرثة، أي الثقافة التي تفتقر إلى العمق الفكري وتكون سطحية في معالجتها للقضايا. هذا النوع من المتثاقفين يميل إلى تبرير الأفكار السطحية أو التقليدية بدلاً من التحدي والنقد يقوم المتثاقف بتقديم مبررات للثقافة الرثة، مما يسهل قبولها في المجتمع. يستخدم أدوات الخطاب لتقديم هذه الثقافة على أنها مقبولة أو حتى ضرورية، يسهم في تشكيل وعي الأجيال الجديدة من خلال نقل أفكار ثقافية ضعيفة، مما يؤدي إلى تدني مستوى التفكير النقدي، يساهم في الحفاظ على الوضع الراهن من خلال تعزيز الأفكار التقليدية، مما يمنع التقدم والتغيير الإيجابي، إن دور المثقف الفعال في مواجهة الثقافة الرثة يتطلب التصدي من خلال الوعي والتفكير النقدي، مما يسهم في بناء مجتمع ثقافي متطور يعكس تنوع الأفكار ويعزز من الوعي الاجتماعي،

الثقافة الرثة في المجتمعات الشرق -اوسطية

تتمثل الثقافة الرثة في المجتمعات الشرق أوسطية من خلال انتشار الأساطير والخرافات التي لا تستند إلى حقائق علمية، مثل الاعتقادات في الجن، الحسد، أو الطقوس الشعبية، تمسك بعض الأفراد بأفكار تقليدية جامدة ترفض التغيير، مثل النظرة إلى دور المرأة في المجتمع أو القضايا الاجتماعية الأخرى، وجود برامج ترفيهية تركز على المحتوى السطحي، مثل برامج "التك توك" التي تروج للفضائح والشائعات بدلاً من القضايا الجادة، استخدام لغة عامية أو مصطلحات غير دقيقة تفتقر إلى العمق الفكري في النقاشات العامة، انتشار كتب ومؤلفات تفتقر إلى الإبداع والعمق، تروج لأفكار غير نقدية أو تشجع على الفكر المغلق، التقبل السريع للأفكار دون تمحيص أو نقد، مما يؤدي إلى تكرار الآراء السلبية أو التوجهات غير البناءة، تتطلب مواجهة الثقافة الرثة في المجتمعات الشرق اوسطية تعزيز التفكير النقدي والوعي الثقافي من خلال التعليم والنقاشات المفتوحة.

التحديات

تواجه المثقفين عدة تحديات في دورهم لمواجهة الثقافة الرثة، يواجه المثقفون ضغوطًا من الحكومات أو المؤسسات التي تفرض رقابة على الأفكار والمحتوى الثقافي، في بعض الأحيان تكون هناك قلة اهتمام من الجمهور بالقضايا الثقافية، مما يقلل من تأثير المثقفين تسيطر وسائل الإعلام الاجتماعية على المشهد الثقافي، مما يجعل من الصعب على المثقفين إيصال أفكارهم بفعالية، كما ان استعمال الرسميين الأسلوب الخطابي الذي تحمله الثقافة الرثة يساعد في ترسيخها لدى الجمهور العام.

***

غالب المسعودي

تعتبر فرضية الزمكان السوبر خلاّق أنَّ الزمكانات هي البُنَى الأساسية للكون. ولكن ما يوجد في الكون عبارة عن طاقة وكتلة. من هنا، القانون الفيزيائي ضمن فرضية الزمكان السوبر خلاّق هو التالي: الزمكان = الطاقة × الكتلة. هذا يعني أنَّ الزمكان يساوي الطاقة مضروبة رياضياً بالكتلة. لفرضية الزمكان السوبر خلاّق فضائل معرفية عديدة تشير إلى صدقها منها نجاحها في تفسير نشوء الجُسيمات الافتراضية وتَكوُّن الثقوب السوداء.

الكون هندسة الزمكان

بالنسبة إلى فرضية الزمكان السوبر خلاّق، الكون يتكوّن من بُنَى أساسية هي الزمكانات التي على ضوئها تتشكّل الجُسيمات ما دون الذرية والقوى الطبيعية. باختلاف هندسات الزمكان تولد جُسيمات ما دون ذرية مختلفة وقوى طبيعية متنوّعة. بكلامٍ آخر، الجُسيمات ما دون الذرية كالإلكترون والفوتون والقوى الطبيعية كقوة الجاذبية ليست سوى هندسات زمكانية مختلفة. مثل ذلك أنَّ الجاذبية ليست سوى انحناء الزمكان. هكذا تختزل فرضية الزمكان السوبر خلاّق القوى الطبيعية والجُسيمات ما دون الذرية إلى هندسات زمكانية. على ضوء هذه الاعتبارات، الكون هندسات زمكانية.

إن كان الكون هندسة زمكانية وعلماً بأنَّ الزمكان مجرّد، فحينئذٍ الكون أيضاً مجرّد رغم تجلّيه المادي. من هنا، الكون مثالي مجرّد ومادي في آن مما يفسّر لماذا تنجح النظريات العلمية المثالية والمادية في تفسير الكون رغم الاختلاف فيما بينها كنجاح النظرية العلمية التي تفسِّر الكون على أنه معلومات مجرّدة ونجاح النظرية العلمية التي تفسِّر الكون على أنه يتكوّن من ذرات مادية. فالكون مجرّد بمجردية الزمكانات التي يتكوّن منها والكون مادي أيضاً من جراء أنَّ الاختلاف في هندسات الزمكان يؤدي إلى وجود قوى طبيعية وجُسيمات ما دون ذرية مادية كما تؤكِّد فرضية الزمكان السوبر خلاّق.

قدرة تفسيرية ناجحة

الزمكان جمع الزمان والمكان. والزمكان سوبر خلاّق لأنه أصل الجُسيمات ما دون الذرية والقوى الطبيعية. بكلامٍ آخر، الزمكانات سوبر خلاّقة لأنها فعّالة في إنتاج الجُسيمات ما دون الذرية والقوى الطبيعية. فحين تختلف هندسات الزمكان، تختلف بذلك الجُسيمات والقوى الطبيعية. وتمتلك فرضية الزمكان السوبر خلاّق قدرة تفسيرية ناجحة مما يدلّ على صدقها. فبما أنَّ القوى الطبيعية والجُسيمات ما دون الذرية ليست سوى هندسات زمكانية مختلفة كما تؤكِّد فرضية الزمكان السوبر خلاّق، إذن من الطبيعي أن تكون الجاذبية ليست سوى انحناء الزمكان كما يقول أينشتاين. هكذا تنجح فرضية الزمكان السوبر خلاّق في تفسير لماذا الجاذبية ليست سوى هندسة زمكانية مفادها في نظرية أينشتاين العلمية أنها انحناء الزمكان. وعلى ضوء هذا النجاح تكتسب فرضية الزمكان السوبر خلاّق صدقها.

هندسات الزمكان والأكوان المختلفة

هندسة الوجود بهندسات رياضية مختلفة تؤدي إلى نشوء أكوان مختلفة. فإن تغيّرت الهندسة الرياضية لعالَمنا فحينئذٍ سوف يتغيّر عالَمنا ويصبح حائزاً على حقائق وقوانين طبيعية مختلفة عما يسود في عالَمنا الحالي. وهذا لأنَّ الكون يعتمد في تكوّنه على الرياضيات الهندسية السائدة فيه. وبهذا، اختلاف هندسة الكون يحتِّم اختلاف الكون وبذلك الهندسات المتنوّعة للكون تؤدي إلى وجود أكوان مختلفة في حقائقها وأحداثها وقوانينها الطبيعية [1]. الآن، فرضية الزمكان السوبرخلاّق تنجح في التعبير عن الحقيقة العلمية السابقة. بما أنَّ، بالنسبة إلى فرضية الزمكان السوبر خلاّق، القوى الطبيعية والجُسيمات ما دون الذرية المتنوّعة ليست سوى هندسات زمكانية مختلفة، إذن مع اختلاف هندسة الزمكان تنشأ قوى طبيعية وجُسيمات مختلفة. وبذلك مع اختلاف هندسة الزمكان تولد أكوان مختلفة مما يتضمن أنَّ الهندسات الرياضية المختلفة تؤدي إلى أكوان مختلفة. هكذا فرضية الزمكان السوبر خلاّق تنجح في التعبير عن الحقيقة العلمية السابقة مما يدلّ على أنها فرضية صادقة.

الجُسيمات الافتراضية

الجُسيمات الافتراضية، ضمن نظرية ميكانيكا الكمّ العلمية، هي جُسيمات تولد من العدم ومن ثمّ تختفي وتستمر صيرورة ولادتها من العدم واختفائها [2]. وفرضية الزمكان السوبر خلاّق تنجح في تفسير وجود الجُسيمات الافتراضية مما يشير إلى صدق هذه الفرضية. فبما أنَّ، بالنسبة إلى فرضية الزمكان السوبر خلاّق، الزمكان = الطاقة × الكتلة، إذن لا يوجد زمكان بلا طاقة وكتلة. وبذلك الزمكان الفارغ لا بدّ من أن يحتوي على جُسيمات ذات طاقة وكتلة كالجُسيمات الافتراضية لكي يراعي قانون عدم وجود زمكان بلا طاقة وكتلة. لذلك توجد الجُسيمات الافتراضية التي تولد من العدم وتتلاشى لتولد من جديد. هكذا تنجح فرضية الزمكان السوبر خلاّق في تفسير نشوء الجُسيمات الافتراضية.

نشوء الكون والخلق المستمر

تنجح فرضية الزمكان السوبر خلاّق أيضاً في تفسير نشوء الكون. فبما أنَّ الزمكان = الطاقة × الكتلة بينما كلّ ما في الكون يتكوّن من طاقة وكتلة، إذن بمجرّد أن يوجد الزمكان يوجد الكون وبذلك ينشأ الكون من الزمكان. هكذا تنجح هذه الفرضية في تفسير نشوء الكون. ومن المنطلق نفسه، الطاقة والكتلة وصفاتهما ليست سوى أبعاد للزمكان. فبمجرّد أن يوجد الزمكان توجد الطاقة والكتلة فيولد الكون. ولكن إن كان بمجرّد أن يوجد الزمكان، وإن كان فارغاً، توجد الطاقة والكتلة فيولد الكون، فحينئذٍ الكون يولد تماماً كما تولد الجُسيمات الافتراضية التي تنشأ من العدم ومن ثمّ بسرعة هائلة تفنى وكأنها لم تكن لتنشأ من جديد وتفنى. من هنا، يتصرّف الكون وكأنه جُسيم افتراضي مما يتضمن أنَّ الكون ينشأ ويفنى في أقل من ثانية لينشأ ويفنى من جديد في صيرورة دائمة. هذا هو خلق الكون المستمر. فالكون يُخلَق ويزول في أقل من ثانية ليُخلَق من جديد ويزول في أقل من ثانية في صيرورة مستمرة. كلّ هذا يرينا أنَّ فرضية الزمكان السوبر خلاّق تتضمن الخلق المستمر للكون. وبذلك لا يوجد الكون سوى في صيرورة خلق مستمرة.

الثقوب السوداء

تتصف الثقوب السوداء بابتلاع المعلومات وزوال القوانين الطبيعية فيها وأيّ شيء يدخل في الثقب الأسود يتلاشى. فالثقوب السوداء متصفة بغياب المعلومات [3]. وتنجح فرضية الزمكان السوبر خلاّق في تفسير تَكوُّن الثقوب السوداء. فبما أنَّ، من منظور فرضية الزمكان السوبر خلاّق، الزمكان = الطاقة × الكتلة، إذن حين يزول الزمكان تزول الطاقة والكتلة مما يتضمن زوال المعلومات فزوال القوانين الطبيعية وكلّ ما يدخل في الثقب الأسود فيتكوّن حينها الثقب الأسود. من هنا، تتكوّن الثقوب السوداء من جراء زوال الزمكان الذي يتضمن زوال الطاقة والكتلة فغياب المعلومات كافة. فحين لا يُنتِج الكونُ الزمكانَ، تغيب الطاقة والكتلة فتزول المعلومات ويولد الثقب الأسود. هكذا تنجح فرضية الزمكان السوبر خلاّق في تفسير تَكوُّن الثقوب السوداء مما يُرجِّح صدقها.

فرضية علمية

بما أنَّ، بالنسبة إلى فرضية الزمكان السوبر خلاّق، الزمكان = الطاقة × الكتلة، إذن إذا وُجِد زمكان بلا أن توجد فيه طاقة وكتلة فحينها فرضية الزمكان السوبر خلاّق فرضية كاذبة. وبذلك من الممكن اختبار فرضية الزمكان السوبر خلاّق وقانونها الفيزيائي القائل بأنَّ الزمكان يساوي الطاقة مضروبة رياضياً بالكتلة مما يجعلها فرضية علمية على ضوء أنها قابلة للاختبار. لكن من المُرجَّح أنه لا يوجد زمكان بلا طاقة وكتلة مما يشير إلى صدق فرضية الزمكان السوبر خلاّق وقانونها القائل بأنَّ الزمكان = الطاقة × الكتلة. ولا يوجد زمكان بلا طاقة وكتلة لأنَّ في الزمكانات الفارغة تولد الجُسيمات الافتراضية ذات الطاقة والكتلة ومن ثمّ تختفي وتستمر صيرورة ولادتها واختفائها مما يدلّ على عدم وجود زمكان بلا طاقة وكتلة. وجود الجُسيمات الافتراضية في الزمكانات الفارغة دليل على استحالة وجود زمكان بلا طاقة وكتلة تماماً كما تتنبأ بذلك فرضية الزمكان السوبر خلاّق من جراء تأكيدها على أنَّ الزمكان = الطاقة × الكتلة.

***

حسن عجمي

......................

المراجع

[1] Shing-Tung Yau and Steve Nadis: The Shape of Inner Space. 2010. Basic Books.

[2] Gordon Kane: “Are Virtual Particles Really Constantly Popping in and out of Existence? Or Are They Merely a Mathematical Bookkeeping Device for Quantum Mechanics?” Scientific American, October 9, 2006.

[3] Leonard Susskind (Author) and James Lindesay (Contributor): An Introduction to Black Holes, Information and the String Theory Revolution: The Holographic Universe. 2004. World Scientific Publishing Company.

وصلت عبقرية الفيلسوف الألماني (فريدريك نيتشه) إلى إمكانية وضع الإله على طاولة التشريح، أياً كان نوع الإله، ومن بين ما ناقش، الثنائية اليونانية الشهيرة (أبولو وديونيزيوس)، وهما مبدآن مجدهما الفن الاغريقي من قبل، ديونيزيوس إله الحياة الصاخبة واللذة الجياشة المفعمة بالقوة، إله الرقص والموسيقى، أما أبولو، فهو إله التأمل، إله التصوير والنحت والشعر. وما يميز ديونيزيوس عن أبولو، هو أن الأول يستطيع أن يتجاوز الصراعات والمعتركات التي تعرقل مسيرة الحياة. وإن عبقرية ديونيزيوس وأبولو قد أبدعت في عالم الفن، وهما أول شاهد في اليونان على النواة الجديدة التي أدى تطورها فيما بعد إلى نشوء فن التراجيديا والدراما.

يحاول (نيتشه) أن يقدم خدمة كبيرة لعلم الجمال، وذلك حين يتوصل إلى إدراك يقيني بأن الفن يستمد مقومات نموه المستمر من الثنائية المتمثلة في أبولو وديونيزيوس. ويؤكد على أننا مدينون، بالنسبة لإلهي أبولو وديونيزيوس، بمعرفتنا أن هناك تعارضاً هائلاً في العالم الإغريقي فيما يتعلق بالجذور والأهداف، بين الفن الأبولي في النحت، وبين فن الموسيقى الديونيزي اللا بصري. وهذان الاتجاهان، النحت والموسيقى، بحسب قول نيتشه، متعارضان ونقيضان، فهما لا يلتقيان إلا عند عبارة (الفن).

ومن أجل فهم أفضل لهاتين النزعتين، يقترح (نيتشه) أن يمثلهما كعالمين مستقلين هما الرؤيا (الحلم) والتسمم، ويذهب إلى أن الوهم الجميل في عوالم الحلم، هو الشرط الذي يبرر وجود الفنون البصرية بأنواعها، كما يبرر قسماً كبيراً من الشعر، ولكن حتى عندما يأتي هذا الحلم إلينا مصحوباً بكثير من الشدة، فإننا نبقى ندرك أن هذا مجرد وهم. هذه هي التجربة البصرية والأبولية، فهي، مع شدتها وتأثيرها، إلا أننا سرعان ما نتيقن أن ذلك ما هو إلا وهماً. ويؤكد (نيتشه) على أن بمكاننا أن نصف أبولو باعتباره صورة إلهية رائعة لمفهوم الفردانية، بينما تميز السعادة والحكمة والجمال حديثة لنا عن الوهم، بفعل حركاته ونظراته. وإذا أضفنا هذا الرعب النشوة المباركة التي تنهض، إذا ما دفعنا هذا التشظي ذاته لمبدأ الفردانية، من صميم الإنسان، من حقيقة الطبيعة في الواقع، فسيسعفنا الحظ في الحصول على قبس من الطبيعة الديونيزوسية، يمكن أن نستنتجه مباشرة من مناظرته مع حالة التسمم (الخدر). فتحت تأثير الجرعة المخدرة التي كان يتناولها كل الرجال والمجتمعات البدائية، أو مع المجيء القوي للربيع الذي يخترق بمرحه الطبيعة كلها، تتنبه هذه الدوافع الديونيزوسية، وما إن تزداد قوة حتى تصبح النزعة الذاتية نسياناً للذات. ومن هنا، قسم (نيتشه) الإنسان حيال ما تقدم إلى نوعين، أما كفنان أبولي حالم، أو كفنان ديونيزي نشوان.

يعتقد (نيتشه) أن أي شيء يطفو على السطح في الجانب الأبولي من التراجيديا اليونانية، أي الحوار، يبدو بسيطاً وشفافاً وجميلاً. والحوار هو صورة اليوناني الهيليني الذي تتكشف طبيعته من خلال الرقص، لأن أعظم مظاهر القوة يمكن أن يتبدى في الرقص، وإن خانته لدانة الجسد وروعة الحركة. ويؤكد على أن ديونيزيوس كان البطل الدرامي الوحيد، ويمكن القول بنفس هذه اليقينية أنه حتى زمان (يوروبيدس) بقي ديونيزيوس البطل التراجيدي، وإن جميع الشخصيات المشهورة في المسرح اليوناني، كانت عبارة عن أقنعة تحجب خلفها البطل الحقيقي: ديونيزيوس. ويذهب (نيتشه) إلى أن هناك فكرة تقول: أن الألوهية التي كانت محتجبة خلف كل هذه الأقنعة هي السبب الأساسي وراء المثالية النموذجية لهذه الشخصيات المشهورة التي كثيراً ما أثارت الدهشة.

والفن الديونزيوسي بشكلٍ عام، يريد منّا أن نقتنع بالمتعة الخالدة للوجود، ولكن بشرط أن نسعى لتأمين هذه المتعة فيما وراء الظاهرات وليس في الظاهرات ذاتها، فالفن الديونزيوسي يريدنا أن نعترف بأن كل ما يحدث في الوجود يجب أن يكون معداً لمواجهة مصير مأساوي ما، وهو ما يجبرنا على أن نتأمل في الأحداث المرعبة لوجود الفرد، لكن دون أن نتجمد خوفاً، وما أن نتحد بالمتعة الهائلة في الكون، ونشعر بأبدية هذه المتعة في النشوة الديونيزوسية، حتى تبدأ وخزات الألم الجارف تخرق جلودنا... وعلى الرغم من كل هذه الآلام والمخاوف تحملنا السعادة على جناحيها لأننا موجودون في الحياة، ليس كأفراد، بل كأصغر وحدات منفردة حية، نجلس متحدين مع هذه المتعة المبدعة.

***

د. حيدر عبد السادة جودة

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم