صحيفة المثقف

نص وحوار مع الاديب الحبيب أرزيق ونصه "الصبي والملاك" / ميادة ابو شنب

mayada aboshanab2alhbib erzayqالمثقف تستضيف، ضمن برنامج نص وحوار، الاديب القدير الحبيب أرزيق لتحاوره حول نصه:"الصبي والملاك"، فأهلاً ومرحباً به.

 


 

الحبيب أرزيق قاص وشاعر له حضور دائم ومميّز في صحيفة المثقف

 

ميادة ابو شنب: الاديب الحبيب أرزيق بعد أن قرأت نصك "الصبي والملاك" وجدته إصطفاف صور من "ألبوم" الطفولة، التقطتها بكل ابعادها الاجتماعية والنفسية ونقلتها لنا بلغة شعرية باذخة وهي أحدى سمات نتاجك الادبي، ما دفعني إلى إختياره لباب نص وحوار في المثقف ومحاورته من خلال بعض الأسئلة، تاركين الفرصة للقراء الكرام لطرح المزيد منها وإغناء الحوار بمداخلاتهم.

أهلاً وسهلاً بالاديب الحبيب أرزيق في المثقف، في باب نص وحوار.

 

الحبيب أرزيق: أهلا وسهلا بك أستاذتي الكريمة ميادة ابو شنب، طبت وطاب وقتك بكل خير.

دعيني أولا أعبر عن سعادتي العارمة لأنه ولأول مرة في حياتي أدخل في حوار أدبي فني وهذا حدث مهم يجعلني أحس كأنني ولدت من جديد.. والفضل يعود للذائقة الأدبية التي تتمتعين بها أستاذتي الكريمة ميادة  ولتوجيهات الشعراء والأدباء والقراء ببيت المثقف الذي كان ملاذا لي ومدرسة تعلمت فيها الكثير.. ومن خلال هذا المنبر أشكر كل العاملين على دعم ثقافة الحوار ورفع ذائقة الأدب إلى مراتب أحسن فأحسن بهذا البيت الدافئ الذي تعرفت عليه من خلال الابحار بالصدفة ورب صدفة أجمل من ميعاد كما يقول المثل المغربي.

 

س1: ميادة ابو شنب: "نقِفُ على أعْتابِ الدِّيار زُرافاتٍ ونَصْدحُ بما علَّمنا الفقيهُ"............... أخَذْنا ما تيسر من صَاحبة الدار"

إن العادات والتقاليد جزء من الحياة الاجتماعية التي نُـقلت عبر الاجيال وتداولتها الشعوب مع بعض التعديلات كي تتلاءم هذه العادات مع البيئة الجديدة، وغالباً ما يغفل الناس عن تاريخ هذه العادات لجهلهم بمساهمة الحضارات القديمة بالمعرفة الإنسانية لتوطيد أواصر المجتمع المدني أو الريفي على حد سواء.

الى اية عادات وتقاليد تراثية تعود هذه العادة- طرق الاطفال لأبواب البيوت - للحصول على ما تيسّر؟ ولماذا تمسّك بها الناس حتى زمن القصة؟

 

ج1: الحبيب أرزيق:كثيرا ما تتطاول بعض الدراسات على مفهوم التقاليد لتخرجها من معناها المدحي إلى معناها القدحي بدعوى الحداثة أو بمعنى تجاوز الماضي بالمرة أو القطيعة معه تماما وهذا أمر يجب أن يعاد فيه كثير من النظر ذلك أن الكثير من أشكال ونماذج السلوك الانساني القديم ثبت حتى الآن دوره الايجابي في دعم المجتمع سواء على المستوى النفسي أو الاجتماعي والأمثلة على ذلك عديدة وعلى رأسها  دور الجدة وأحاجيها التي تدخل في إطار الخرافة  في حين أن المجتمع العربي افتقد هذا العنصر في تركيبة الأسرة_ ويجب أن أذكر كذلك أن الأصل في الحضارة وهو مصطلح انحاز في فهمه إلى المدنية أو قل إلى المدينة وتمظهراتها البراقة وإلى التقدم العمراني والتكنولوجي الذي وصل إليه الانسان في حين أن الحضارة قبل أن تكون مظهرا في الشكل هي في الأصل أخلاق وتعاملات لذلك فحنيني مثلا للماضي هو نوع من الحنين  إلى إشاعة قيم الاخلاق الحميدة وهو ما نفتقده أساسا في حضارتنا لا على مستوى الافراد ولا على مستوى الجماعات...

أعود إلى سؤالك بالتحديد من الناحية التاريخية فإن عادة طرق الأبواب من طرف أطفال صغار لنيل قليل من السكر أو الدقيق ليس لي على وجه التدقيق تفسير موضوعي تاريخي للظاهرة_ هذا من تخصص المؤرخين وهم أدرى مني في رصد هذه الظاهرة  وتأويلها على الوجهة التي يرون_ وأنا إنما تناولتها من جانب التأثير القوي الذي أحدثته في  حياتي هذه الفترة المعشوقة من الطفولة.. فجاء النص من خلالها عبارة عن ترجيع فني وعفوي تدفقت من فجواته اللغة كشلال هو إلى الشعر أميل منه إلى الحكي أو السرد.

ولعل الحياة في الارياف _ في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي  _وفي وقت كانت فيه هذه الاماكن  حافلة برزمة من العادات والتقاليد والنظم الخاضعة لمعايير القبيلة وأشكال العيش البدوي الذي يعتمد على كثير من السلوكيات التي تتسم ببساطة العيش وعتاقة وسائل الانتاج وقلة رواج السيولة النقدية وانعدام وسائل الاتصال _إلا ما كان من مذاييع هنا وهناك _شكلت عاملا رئيسيا في التمسك بالعادات القديمة وبقائها بحيث كانت تشكل جزءا من الثقافة الشعبية  ومكونا من مكونات التراث عموما وسببا في انتشار ظاهرة التعاضد الانساني والتكافل بين الناس والرضى بقلة ذات اليد وما إلى ذلك من أشكال السلوكيات الانسانية الفاضلة ما أعطى فعلا للمجتمع صبغة مثالية تسوده السعادة والطمأنينة.

 لكن من وجهة نظري فإن العادات والتقاليد في العالم الاسلامي عموما هي عادات متشابهة ومن أصول واحدة حتى وإن نزلنا بها إلى أدنى مستوياتها في المحلية والخصوصية _ وأذكر صديقا لي في إحدى الغرف الصوتية على شبكة الانترنيت وهو من المشرق كنا نتجاذب أطراف الحديث حتى بلغ بنا إلى طرق موضوع العادات والتقاليد وكنت واياه نصفها بشكل دقيق حتى وجدت نفسي في دهشة غريبة أمام هذا التشابه في الألعاب الشعبية  والعادات والتقاليد وبعض الأمور المحلية الغارقة في الخصوصية على الرغم من بعد المسافة بين الأقطار.. وهنا أشير إلى أن كثيرا من الكتاب يخشون الدخول في ابداعاتهم في الخصوصيات والمحليات خوفا من ألا يفهمهم الآخرون

وأنا أدعو من هذا المنبر كل المبدعين أن يخوضوا في المحلي بلغة العام وأقصد الفصيح الممتاز لأنهم بذلك  يساهمون  في توطيد  أواصر المشترك بيننا جميعا وهذا يدفع نحو الوحدة والتعاضد ولا شك ..

فكلما استطاع الكاتب أن يوفق بين لسان عربي بديع وتراث ثري بلغة ساحرة وجذابة يستطيع أن يصنع المعجزات في ميدان الأدب عموما..

 

س2: ميادة أبو شنب: تلتقط صورة الطفولة ببانوراما شاملة. الاحياء، الازقة، البيوت، الناس، اللباس، الالواح، النشيد وغيرها.

هل تلوذ الى فضاء الامس البعيد هرباً من قفر حاضرنا الرتيب؟ وعلى اية أغصان من الاحاسيس يتأرجح وجدانك بعد كل جولة في هذا الفضاء؟

 

ج2: الحبيب أرزيق: لا أخفيك .. قريتي الصغيرة تعتبر البوصلة الوحيدة لمعظم كتاباتي لذلك استلهم منها لذات الكتابة فهي العنصر الأبرز لأنها شكلت مرحلة مغرية.. ومهما حاولت مطاردتها بالكلمات لا أقوى على ذلك.. إنها الذاكرة التي تفيض ببراءة الطفولة وعنفوان الشباب. .وأشياء أخرى.. وأكاد أقول لك الشعراء والكتاب وحدهم يحسنون قراءة الماضي بلغتهم الساحرة والعذبة التي تنحاز إلى الحميمي وهي محاولة منهم_ بشكل _أو بآخر لتجاوز معاناة الحاضر الذي غالبا ما يبدو غير متوقع لديهم ..إن الماضي هو ذلك الحضن أو الفردوس الذي لا يمكن الحصول عليه إلا عبر أنفاق الكتابة وتهريب ما يمكن تهريبه من لحظاته المفقودة.. وبالتالي يجد فيه الكتاب _كل الكتاب بدون استثناء _محطة استرخاء لبث شكواهم وتفريغ الفائض من ضغوطات الحاضر وهمومه..

وأنا عندما أعيد قراءة هذا النص بالذات ونصوص أخرى مشابهة أحس بنوع من التحليق الحر في سماء ولا أجمل .. بل يحصل لي في كثير من الأحيان قراءتُه بصوت مرتفع لدرجة أخاطب بها نفسي: ما هذا الذي كتبتَ أيها البهي !! وذلك بنوع من النرجسية المغرقة بالحميمي الجارف..

 

س3: ميادة أبو شنب: تدور احداث القصة في زمن الكتاتيب وتظهر شخصية "الفقيه" كشخصية مرجعية والاكثر أهمية في حياة الصبية.

ماذا في جعبتك من ذكريات لتضيف عن صلاحيات "الفقيه" لتصبح الصورة أكثر وضوحاً عن تأثيره في "صقل" رجال المستقبل؟

 

ج3: الحبيب أرزيق:لعل الترجمة الحقيقية بكل صراحة لشخصية الفقيه في النص هو ذلك التأثير العميق التي تركته  في حياتي  شخصية جدي الذي كان يزاول إماما وفقيها_ كنت  وقتها طفلا  صغيرا_ وكان هو من الليونة واللطف والحنو ما جعل منه شخصية تُنعت بالطيبة والصدق والأمانة وحسن الخلق كان مضربا للمثل في العفة والوقار _وعلى لسان كل أهل القرية_  كان رجلا بسيطا لا يضمن قوت يومه إلا بما يضيفه من أشغال في الحقول.. ومن أروع القصص التي ظلت خالدة في ذاكرتي أنه في يوم من الأيام قام أحد أعمامي الذي كان يشتغل بالأوراش وطلب من رئيسه أن يمده بألواح يجلبها إلى الدار لصناعة  سرير له من خشب.. والحال أن الأخشاب هي للدولة أي لعموم الشعب لكن ما إن علم جدي بأن الألواح ببيتنا حتى أقسمها يمينا غليظة  ألا تبيت تلك الألواح في منزلنا وكنت أسمعه يقول:" أتريدون أن تخلطوا مالنا بالمال الحرام".. القصة عشتها بأم عيني وكلما تذكرتها يقشعر لها جلدي وينتابني نوع من البكاء ..

 

س4: ميادة ابو شنب: "أمام العتبة الموالية كان يقتضي منا الأمر أن نلتحق بالجامع _سيدي الفقيهُ ينتظرنا_له نصيبٌ مما جمعنا وعلينا الطاعة والتقبيل."

كان لرجال الدين هالة من التقوى تبثّ أجواءً روحانية مسالمة، تمنح الصغار والكبار شعوراً بالسكينة والرضا عن الذات، في زمن كانت فيه راحة الضمير هي كل ما يصبو اليه البسطاء، فيطيعون ويكافؤون رجال الدين ويتقاسمون معهم رزقهم رغم تواضعه.

ما مدى تطابق تلك الأجواء مع حاضرنا؟

 

ج4: الحبيب أرزيق:إن عبارة رجال الدين أو رجال السياسة أو.. هي عبارات غريبة في قاموس أهل القرى والبوادي لذلك تظل تلك العبارات تحمل دلالات ما.. لكن التسميات البسيطة والهادئة والتي تبعث على الارتياح أو تأخذ مدلولها من اليومي المتداول تكون أنفع وأجمل وأجدى حتى.. وهذا ما كان حاصلا في القديم قبل أن نسقط في الصراعات الدينية التي لا تخدم الانسان في شيء بل تعمق الطائفية المقيتة وتؤجج العدوانية بين المذاهب وهذا أعطى ولا شك طعما آخر للحياة وصل إلى حد الانتقام والانتقام المضاد كما أدى إلى انعدام الثقة بين افراد المجتمع .. في وقت يسعى فيه الدين أصلا لبناء مجتمع تسوده المودة والعدالة والسلام والسعادة فضلا عن الأخوة والرخاء.

 

س5: ميادة ابو شنب: "تراءتْ لي المرأةُ التي قَبَّلتْ جبيني، كأنها آتيةٌ تأخذني إلى بيتها، فأشارتْ إلي، فإذا أنا في دوامة النائم أرى إلى جَنْبِهَا كأنه حَمامٌ بِرَفِّ ملاكٍ، ثم اختفتْ صُورتُها للتَّوِّ عني، ثم بقيتُ كأني ممسكٌ بروح الملاك، مُعلقٌ إلى السماء وجسمي في التراب."

أثناء النوم تضعف وتتراخى القوى الواعية - التي يطلق عليها فرويد اسم "الرقابة الحلمية"- التي تراقب وتمنع الرغبات اللاشعورية من الظهور بصفة مباشرة وتحتفظ على وضعية المكبوت.

وعندها تنتهز هذه الرغبات الدفينة الفرصة لتتبدى أثناء النوم، لكن يتوجب عليها توخي الحذر، فترتدي ثوب الاحلام لتتخفى عن أنظار "الرقابة الحلمية" حتى يتسنّى لها إختراق ساحة الشعور.

لذلك تظهر في الحلم بشكل غريب واستثنائي وغير منطقي ، يصعب إدراك دلالاته الحقيقية.

ما هي الرغبات اللاشعورية التي ظهرت على شكل ملاك في حلم الصبي؟

ولماذا فسّر "الفقيه" الحلم بـ "ذلك الينبوع الذي لا يسلم انسان من حلاوته"؟

 

ج5: الحبيب أرزيق:إن تحديد المصطلحات ودلالاتها في نص ما يبدو أمرا صعبا للغاية فكلمة ملاك دائما تدل على الطهارة القدسية النقاء تحيل كذلك على عالم علوي مثالي كما أنها أميل إلى الروحاني الصافي والمشرق أيضا كما أن كلمة الملاك في المخيلة هي نور أو ضوء لا يمكن وصفه لذلك يتوق الكتاب والشعراء إلى إضفاء صفة الأنثى على الملاك ايمانا منهم أن المرأة هي مخلوق نوراني أو هكذا يحدث في المخيال.. هذا المقام المثالي للمرأة يخدم من جهة مكانتها المقدسة _رغم ما نشاهده من ممارسات هنا وهناك في هضم لحقوقها_ قلت مكانتها المقدسة في تمثل الرجل عموما.. ومن جهة ثانية فإن لفظة الملاك هي من وحي قاموس الكتابة التي تضفي  إحدى اللمسات الفنية التي تؤثث الفضاء الجمالي للنص.. لا بد أن أشير أننا  في الكتابة او بالأحرى في لغة الكتابة يكون التلميح هو سيد الموقف حتى لا تتعرى الصورة بالكامل لتسقط في  أحضان المباشرة المقيتة والمبتذلة .. ويفقد الوعاء الفني جاذبيته فينكسر..

 

س6: ميادة ابو شنب: ما بين "الايام" لطه حسين و"قوت الارض" لاندريه جيد، ثمّة كتاب سيرة وذكريات طفولة.

من خلال متابعة نصوصك حول الذكريات نلحظ توجّه متفرد بتوثيق الكثير من ملامح الماضي.

هل هناك مشروع للغوص في هذا الضرب من الكتابة حتى إصدار كتاب؟

 

ج6: الحبيب أرزيق:أصعب ما في الوجود هو أن تكتب.. كما أن أجمل ما في الوجود هو أن تكتب أيضا.. لذلك ففي خيالي حلم بكتابة رواية .. رواية تكون متنفسا واسعا لي_ مثل صحراء تماما_ متنفسا لإشفاء غليلي في الكتابة بلم شتات الماضي عبر المرور بالأمكنة والأزمنة الجميلة ورصد الشخصيات الفائتة والفاتنة التي كانت تتسم بالسخاء بالحكمة والبساطة والعفاف.. رواية تحمل رسالة إلى العالم وإلى الانسان أنه في البدء كانت البساطة وأن سعادة الانسان في الرجوع إلى أصله الى الطين  الذي يحمل رمزية الخلق الأول وما يشكله ذلك من دلالات للتواضع الذي أعتبره أسمى شعار للإنسانية..

في كل لحظة أحلم بهذا المشروع أفكر دوما في أن يكون نمط السرد مختلفا حتى لا أجتر أشكال الآخرين..

دعيني أقول أيضا بهذا الصدد إن الكتابة مثلها مثل النار لا يمكن أن تتأجج إلا بوجود الاوكسيجين ويكون بذلك الماضي الذهبي أحد النسائم اللطيفة التي تغذي تلك النار .

 

ميادة أبوشنب: شكراً لك مجدداً القاص والشاعر القدير الحبيب أرزيق وشكراً للحوار الممتع، والآن نترك الباب مفتوحا لمداخلات السيدات والسادة لطرح المزيد من الاسئلة لاثراء الحوار أكثر.

 

الحبيب أرزيق: أشكرك سيدتي الفاضلة وأتمنى أن أكون قد لامست بعضا من مبتغاك بإجابات ملائمة احتراماتي وتقديري

 

 

 

المثقف

نص وحوار

ميادة أبوشنب

 2012/11/29

.............

 

النص:

 

الصبي والملاك / الحبيب ارزيق

 

وإني أنا الصبيُّ أصطحبُ رفاقا، تدفَّقَتْ ألوانُ جَلابيبِهِمْ أسْمالا، تغشى وُجوهَهُمُ الفِطْرة، قال صَغيرُهُمْ_أنا من كنتُ أحجبُ بالقميص لوْحَ الخَتْمِ المُبين تحْتِي،

 مُزَوَّقاً لا أُريهِ لِغَيْرِي ولا لأحدٍ _وإن ألحَّ علي _حتى يأتيَنا بالفتح المُبين، أحرُفهُ ببهاء الستر مستور، مُغمض خلف ثيابي أقيهِ بصدري وأمشي حافيا حتى يُدركنا الحالُ عصْرا، أو نتوسلُ لمن نُصادفُهُ طريقنا فينفَحُنا ببعض ما يَجُوُد به علينا، ذلك هو الفتحُ المبينْ.

ما كان أحمدُ إلا رفيقا يَحْمِلُ قفة القمح، وقفةُ الشعير_نحنُ علينا جميعا _حملُها بالتناوب بيْننا، نقْطعُ مسافةَ ما بين قصْر وقصْر، والقصرُ ليس للملوك وإنما كتلةٌ من الطينِ احتلت مكانا يتصدره القوسُ هو عنوانُ الدخول.

تطايرتُ فَرَحا حين تفرّقْنا نسعى، نقِفُ على أعْتابِ الدِّيار زُرافاتٍ ونَصْدحُ بما علَّمنا الفقيهُ_ ليس نشيدا على نحو ما تعلمناه من المدارس_ ولكنه أحلى، نرددُه واقفين على الأعتاب، "بيضة بيضة لله.باش نزوق لوحي...لوحي عند الطالب والطالب في الجنة، والجنة محلولة حلها مولانا.مولانا مولانا.يا سامع دوعانا.لا تقطع رجانا .في حرمة محمد.محمد واصحابو.في الجنة ينصابو.يا بارئ يا بارئ.يا مفتاح الهواري.والهواري قاري.ترحم من قرانا.سيدنا محمد عليه السلام.يا حجاج بيت الله، اما ريتو رسول الله ؟خليناه يتوضأ باش نقراو حجاب الله.عينينا وعنيكم في الجنة ينصابكم.داك الفاس المذكور في الجنة وعليه النور1"وينتهي اللغط المباح.

أخَذْنا ما تيسر من صَاحبة الدار، عنْدما فتحتْ للتو أشرعةَ الباب، تحملُ طبقا من متاع، كان بُرًّا يشي بلون فاتح، وألحَّتْ علي_أنا الصبيُّ_ أن أستظهر لها الماعون، فما كان مني إلا أن تَلَوْتُ لها بلسان متلكئ، لسان الصبي الذي لا يزال يتهجى الفُرقان، حتى إذا أنهيتُ، أضافت لي قطعة من السكر، وقبَّلتْ جبيني، فاحمر وجهي خجلا إذ لم أعْتَدْ التلاوة أمام النساء، كنت فقط أستظهر لوحي قدام "سيدي"، ومن خجلي أصبح الصبيان يضحكون مني، مِنْ يْوهِما أدركتُ أن التلاوة على النساء شيء عظيم، إذ أخذني السرور لما حكيتُ قصتي للفقيه فانتشر وجهُه بالحبور مثلي، ولم أعلم ما الذي أغبطه من قصتي حتى الآن.

أمام العتبة الأخرى_بالتناوب _ فتحنا أفواهنا تماما كالعصافير الصغيرة باللغط المبين،، ولم تكن تُرجِّعْ أصداءَ أصواتنا إلا أركانُ الزقاق الذي كان ضيقا، غير أننا كنا نفضل الركون إلى الزوايا المعتمة، ونحشر وجوهنا تارات كثيرة في قبب الجلابيب حياء من الكبار، فنخصم الإحراج عنا في ظلمة الأركان.

أمام العتبة الأخرى_بالتناوب أعني_يخرجُ شيخ طاعن في السِّن وعلى جلبابه صُرَّةٌ كبيرة من الشعير، جلس ففتح ناشرا رجليه فانبسطتْ أساريرُ وجوه الصبيان، وقالوا هذا فتح مبين، كَسَانَا مَدْحًا فقال أنتم الصغارُ عصافيرُ الجنة من غيركم تظل أبوابُها مُغلقة،، أمَدَّنَا بأحفان من يديه تاركا من وراءه أصداء بَرَكَةٍ لم تفارقَ ذهني حتى الآن، كلما تذكرت ذاك المكان.

ثم افترقنا، كل فريق ذهب يسعى، حتى إذا اقترب المغيبُ ضربْنا موعدا لا نُخلفه، جنب الدار الكبيرة ذات السور المرتفع، فكنت أوَّلَ من يسبقُ إلى ذلك المكان، كانت الشمسُ قد نشرتْ ألوانا حناوية على صدر الجدار المقابل لجبهة الصبي الصغير_الذي أنا، فلم أتمالكْ صبري إذ غمرني إحساسٌ بابتلاع شُعاعها النوراني الذي دخل حلْقي وأنا أمُدُّ عيني وحلقي معا في اتجاه الغروب فكأني تشَرَّبتُ رائحة الألوان جميعا، تَسَرَّبَتْ لكُلِّ مِفْصَلٍ من جسدي.مرورا بخياشيمي وحتى الدماغ، آنذاك أحسستُ بالارتياح.

أمام العتبة الموالية كان يقتضي منا الأمر أن نلتحق بالجامع _سيدي الفقيهُ ينتظرنا_له نصيبٌ مما جمعنا وعلينا الطاعة والتقبيل.

كنتُ إذا أحْنَيْتُ على يده أقبِّلُها أجدُها نورا من وُضوء.وهو يُرَبِّتُ على رأسِ الصبيِّ الذي يعشق تلاوة القرآن وحفظه.نادى علينا أن اصعدوا إلى سطح المُصلَّى، كان ذلك وقتُ الترتيلِ فقد رحلتْ أشفاقُ الليل من مكانها وخيَّمَ الهدوءُ مع الظلام، لا بد أن أدرك لوْحي، تلمَّستُه من بين ركام من ألواحٍ بِيَدِ المُتبصر، ثم دخلنا في تلاوة الحزب، أما الفقيه فيجلس مُراقبا بعصاه.

كانت أمي عندما أدخل _ليلتها_ تصفُ تلاواتنا بالأصداح الربانية فازدادُ إعجابا بوجهها الصَّبوح، قائلة لي:إن صوتك المتميز يُسمعُ من مسافاتٍ متفردا عن أقرانك، وإذ كانت الألواحُ تظل في الجامع أكواما ولا يُمكنُ حملُها للديار جَرْيًا على العادة، مَكَّنَنِي أبي من لوحٍ ثانٍ وهاج، هو لوحُ الدار، واشترى لي الصَّمغ والصلصال، "..تبدأُ يا بني بطلائها وتمسحُ عليها بالسَّاعَدِ، حتى إذا تيقنتَ أن طبقةً من صلصالٍ قد عمَّتْ كل اللوح، اِذهبْ وانشُرها تشِفُّ تحت شُعاع الشِّمسِ.والقلمُ لك من قَصَبٍ ممتازٍ سأُبْرِيهِ حين أنتهي من تحضير الدواة مع الصمغ."

كان ليلي كلُّهُ حبور، حتى إذا ما نالَنِي غمامُ النومِ، وغطَّيْتُ وجهي عن الظلام تراءتْ لي المرأةُ التي قَبَّلتْ جبيني، كأنها آتيةٌ تأخذني إلى بيتها، فأشارتْ إلي، فإذا أنا في دوامة النائم أرى إلى جَنْبِهَا كأنه حَمامٌ بِرَفِّ ملاكٍ، ثم اختفتْ صُورتُها للتَّوِّ عني، ثم بقيتُ كأني ممسكٌ بروح الملاك، مُعلقٌ إلى السماء وجسمي في التراب، فتعلَّقَ قلبي بروحِ الصُّورة المَلائكيةِ التي تجلتْ لي في تلك الليلة المجيدة، ثم بدأتُ أخْفِقُ بقلبِ نائمٍ، فاشتدَّ علي الحالُ لساعاتٍ بين الحيرة والاغتباط، فقلتُ في نفسي ما عساني فاعلٌ وقد تملَّكَ الحبورُ قلبي، فأسلمتُ أمري لقلبي، فقلتُ يا قلبُ أنتَ أعلمُ بالأمور مِنِّي: لكَ الملاكُ، الملاكُ لكْ..فلم أوَسِّعْ في التفاصيلِ لأني لم أكنْ سيِّدَ نفسي، كانَ الملاكُ في المنام سيدي

حتى إذا جاء صباحُ الغد، فضلتُ أن أكتمَ سِرِّي، لكنَّنِي تضايقتُ من أمري، وقلَّتْ شَهِيَّتِي للدَّرْسِ، وظهرتْ عليَّ علاماتُ الشُّرود، كأن شيئا مَلكنِي، حتى عَلِمَ سِيدي الفقيهُ بحالي،

قال ما بك يا محبوب؟

قلت قِلَّةٌ مِنْ نَوْمٍ يا سيدي

قال أرى من علاماتِ الشُّرودِ والضُّعفِ عليك في التحصيل هذه الأيام، ولم تعُدْ كما سابقُ عَهْدي بك وأنتَ النجيبُ الحبيبْ

قلتُ هيَ أيامٌ وأعودُ إلى عِزِّ مَقامِي

قال ومَا تُخفيهِ عليَّ؟

قلتُ رأيتُ في المنام ملاكًا

قال ملاك!!..

فهَمَّ إلى عَصَاهُ يُريدُ أن يضْربني.

قلتُ رأيتُ ملاكٌا ولستُ نَبِيًّا

قال مُتبسما والحبورُ يَعْمُرُ مُحيَّاهُ:

ذلك ينبوعٌ

لا يسْلُمُ

إنسانٌ منْ حَلاوته،

طأطأتُ ولم يشرحْ لي_سيدي_ بِالمزيدْ..

 

الحبيب ارزيق

...........................

1 أنشودة يرددها الاطفال قديما لجمع المال اثناء عشرية عيد الاضحى والقيام بوليمة تناسب أعمارهم

 

للاطلاع على النص في المثقف

 

الصبي والملاك / الحبيب ارزيق

 

 

 

خاص بالمثقف

 

 

 

تابعنا على الفيس بوك  وفي   تويتر

 

 

 

العودة الى الصفحة الأولى

 

............................

 

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2289 الخميس 29 / 11 / 2012)

 

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم