صحيفة المثقف

المكابرة على المغامرة.. في أساليب التحول والانشطار السياسي

رائد عبيسلم يكن في خلد السياسيين العراقيين يوماً، مخاطر المغامرة السياسية، وآثارها الاجتماعية السلبية التي تترسخ في أذهان المجتمع، وسيكولوجيته، وتكوينه البنيوي، الذي افتقر بسبب المغامرات السياسية الشخصية الى أبسط مقومات وجوده، ونموه، ونضوجه المعرفي، والفكري، والشخصي، فبقيت شخصية المواطن العراقي تعاني التذبذب في علاقاتها مع نفسها ومع الآخرين، ومع الأنظمة السياسية، والاقتصادية، والتربوية وغيرها، والتي لم تجد فيها ذاتها ولا وجودها، فالبعد الأنطولوجي للمواطن تم تشويهه تماما بل ومسخه ايضا، على شكل ايديولوجي، أو دكتاتور، أو متحزب، يمثل دور السلطة واداتها التي تنفذ كل ما لا يتناسب مع طبيعة تكوينه الشخصي، فعندما نمنح ذواتنا للسلطة، علينا أن نفهم أن التكوين البنيوي سوف يكون خارج إرادتنا، بل يجب أن تكون هذه الذات طيعة بما فيه الكفاية، ومرنة لتشكيلات في المواقف، تنسجم مع رغبة السلطة بذلك وان كان على أساس مبدأ التناقض، أو الازدواجية، أو الكذب، أو النفاق. أما دور السلطة في توفير مستلزمات المسخ، وأدوات الأدلجة، والصناعة السياسية، وطاقة التحول التي تمكن الأفراد - الذين توجه لهم هذه السياسية - من الاستجابة وتوفير قناعتهم بل و خداعهم. بما أن هذه الرغبة تحتاج إلى من يقوم بها كفريق عمل سياسي ينفذ اجندات شخصية وسياسية، تمثل قمة هرم السلطة، وسيكون أمامهم خيار وحيد، وهو تجنيد الناس ايديولوجيا، بمعنى تدجينهم حتى ينقلوا هذه الثقافة السياسية إلى المجتمع بطريقة الوثوقية، والتصديق، والإيمان، والاعتقاد بلك. بمعنى اجراء عملية غسل دماغ جماعية، تنتهي الى تحقيق الاطمئنان عند هرم السلطة بقوة سلطته، واستبداد حكمه، وتطبيع نهجه في مخيلة وواقع الفرد والمجتمع العراقي، بحيث ينتاب اليأس كل من يُريد أن يُغيَر أو يسعى إلى إيجاد تحول في النمط السياسي الذي بدأ يوطد حكمه أو يكون قد نجح في ذلك.

هذا اليأس الاجتماعي انعكس على طبيعة الإرادة السياسية عند المجتمع سلبياً، بحيث لم يعد هناك أي دور سياسي للمجتمع، ممكن أن يعبر به عن الرفض أو المعارضة، أو تجديد النظام السياسي السائد، أو إحداث تغيير في العملية السياسية، أو إتاحة حرية التحزب والتشكيلات السياسية، ورفض سياسة الحزب الواحد، الذي ما زال رمزه يقبع في الوعي الجمعي العراقي، بل وما زال يُحاكيه، ويحلم برجوعه، أو بوجوده، أو إمكانية استعادة التجربة، وهذا سبب رئيسي نراه في اشكالية المغامرات السياسية، او ممكن أن يكون سبب حقيقي لإشكالية التحول السياسي، والانشطار السياسي بين الاحزاب، بما أن المجتمع لم يسع إلى رفض الأحزاب التقليدية الميتة سريريا ً تقريبا ً، والخروج على نهجها في إدارة دفة الحكم، ورفض كل سياساتها الغير محدودة، فان المجتمع بهذا السكوت يساعد على موت نفس الأحزاب التي خضع واستجاب لها وايد سياستها تملقاً أو نفاقاً أو تصديقاً، فعملية التحديث الذاتي والمجتمعي سياسياً، يساعد على ديمومة ونضوج حتى الأحزاب المُعَارض لها، بتدارك بنيتها الحزبية من الانهيار عبر النقد المجتمعي السياسي الذي يساعد بشكل أو بآخر الى انضاج التجربة السياسية بل والحفاظ عليها . فالناقد السياسي يكون بذلك مفيداً بطريقة غير مباشر في وجود الأحزاب ايضاً، فالأحزاب التي نريد موتها يجب علينا أن لا ننقدها، بطريقة تنضجها، وبما أن هذا الامر غير متحقق بشكل واسع في ثقافة المجتمع السياسية، فان الأحزاب السياسية سترتد على نفسها، وتقوم بعملية انفصال وانشقاق وتمرد، وجمود، واستقالات، وانعدام الفاعلية الاجتماعية بل وحتى السياسية، وهناك كثير من الأحزاب لا يسمع لها أي رأي سياسي، أو تدخل في قضية ما، لا من باب الإقصاء فقط، بل لانعدام رؤيتها السياسية اتجاه قضايا البلد، والمجتمع والصالح العام .

وهناك نماذج حتى في حزب البعث الذي أرتد على زملاءه، ووقع بهم قتلا، وتصفية، وسجون، وتهجير، ونفي وغيرها من الممارسات، فالمجتمع لم يكن ناقد لسلط الحزب بالاعتراض على ممارساته، والا لكان قد نقذ هؤلاء من تلك الأفعال القمعية. وهنالك نموذج آخر حزب الدعوة الذي انشق الى داخل، وخارج، وإصلاح، وحركة بشائر، وغيرها من التسميات التي تحاول أن تقف بالحزب على رجليه، ولكنه تهاوى سياسياً في الانتخابات الأخيرة 2018، وقلت فاعليته السياسية.

كذلك الحال مع الأحزاب السنية المتدهورة، والمسارعة على زوالها بواسطة مواقفها السياسية المتذبذبة والتائهة، والتي ينتج عنها يومياً تشكيل سياسي جديد معترضاً على سابقه، والحال متشابه مع المجلس الأعلى وتيار الحكمة، والحال نفسه في التيار الصدري، فضلا عن موت كثير من الأحزاب التي أتت بعناوين مختلفة، ابان مرحلة السقوط ومرحلة التغيير، واليوم ظهر لنا المنبر العراقي كتشكيل سياسي جديد، بأفكار قديمة وعتيقة، محاول أن يرمم الخراب بالخراب، ويعلن عن اصطفافات سياسية جديدة، ذات منحى شخصي، فئوي ضيق، يميل نحو التوريث، والتقريب، والاقصاء والتهميش، لمن ارد المنافسة والمشاركة، وغيرها من المطامع الذاتية التي تتضح من خلال فكرة الاستقلالية إدارياً وقيادياً ومالياً، فكل مثال من هؤلاء يمثل حالة خاصة، ومركزية بسبب تضخم ذواتهم سياسياً، والتي تحاول أن تختزل المجتمع بهذا التمثيل الجزئي، بوهم البطولة السياسية المتخيلة.

فهذا الانشطار السياسي لم يكن ضرورة مرحلة، أو مصلحة بلد، أو مقتضيات وطنية، بل بات مزاجية واضحة من أسبابه الزعل السياسي، الطمع بالقيادة، التقاطع في المنافع، التعارض السياسي، هذا اذا كان بعوامل داخلية، اما اذا كان بعوامل خارجية، فهناك بلدان مجاورة وغير مجاورة، تدفع الأموال من أجل إحداث انشطارات سياسية في الداخل العراقي، لتشتيت القرار، والتأثير على الاستقرار السياسي، واحداث انشقاق جماهيري، وهدر اقتصادي بخيرات البلد، وإيجاد مزاحمة سياسية بين أطراف شخصية متنافسة، من أجل إيجاد صوت لها في الداخل العراقي . فالمجتمع الذي يفهم اللعبة من وراء الاسرار والإصرار في وعلى المكابرة - على ما لا يمثل مصلحة البلد و يصب في خانة التمثيل الشخصي لكل عمل سياسي مرتبط بقرارات خارجية وولاءات – عليه لزوماً أن يكون على وعي عملي كبير بحجم هذه المؤامرات التي تتمثل بتشكيلات سياسية جديدة، تحاول أن تعكس صورة غير تلك الصورة التي شوهتها ملامح المرحلة، ولكن هم متغافلين في الواقع عن السبب الحقيقي وراء هذا الفشل، فهم بهذا التجديد للتشكيلات السياسية أنما يسعون وراء الفشل لا النجاح، ويستبدلون نفس الفحوى بمسميات جدية. فالوعي السياسي يموت بموت هكذا مبادرات فارغة، مع عدم إدراك لقيمة المرحلة التي تحتاج إلى عمق في الرؤى، والتي يجب أن تعكس حقيقة التجربة التي يدعوها في تاريخهم النضالي المزعوم، الفراغ لا ينتج الا الصدى، والقشور لا تبلغ بطالبها إلى اللب، والوضع الراهن يحتاج إلى أصحاب بصيرة سياسية يسعون إلى بناء بلد من خلال بناء وترميم نفوس وعقول وأجسام ابناءه.

 

الدكتور رائد عبيس

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم