صحيفة المثقف

دار المعلمين الريفيّة.. نقف على أطلالها خاشعين منصتين

جمال العتابيهل يمكننا إستعادة صورة من الماضي، لتمسح بعض عثراتنا وإخفاقاتنا وخطايانا؟ أم انها ستكون ذاكرة للألم وحده؟ إذ نعيش مرحلة الفشل التربوي الآن، الصورة التي نستعيدها تشكلت منذ ثلاثينيات القرن المنصرم، كانت مشروعاً للعمل والأمل وتجاريب التربية الرصينة، دار المعلمين الريفية، لايمكن فصلها عن تاريخ العراق السياسي، وإذا كانت دار المعلمين العالية علامة في تاريخ الدراسات الأكاديمية والثقافية، فأن الريفية ستدرس في حدود تاريخها، كحضور متميز لجيل من التربويين الرواد في العراق، ومع ان النظرة العابرة لايمكن ان تستقصي كل أبعاد التجربة، كما انها لاتستطيع ان تقع على حرارة الإخلاص التي تشعّ منها، الا انها تستطيع ان تؤكد حقيقة واحدة، وهي ان خريجي الدار ارادوا التعبير عنها بقدر واف من الوفاء في إمتلاك المهارات، وقدر أوفى من المعرفة في ميادين التعليم .

كنت في مراحل الدراسة جميعها، أعود لأبي في حل إشكالات عديدة في اللغة، والإعراب والبلاغة، أوشرح مفردة أوقصيدة، فيأتيني الجواب شافياً وافياً من الوالد المعلم، وهوأحد خريجي دار المعلمين الريفية منذ أوائل أربعينيات القرن الماضي .

وطالما تساءلت مع نفسي، من أين لك كل هذا القدر من المعرفة يا أبي ؟ في النحو والصرف، كيف تسنى لك ان تنصرف للفن بكل طاقتك ؟ترسم وتمشق الحرف ؟ علمتنا فنون الخط العربي وجماليات اللون، كيف تمكنت من التحنيط ؟ وصنع المجسمات من الجبس والخشب ؟ كيف خلقت مسرحاَ من طاولة كرة المنضدة ؟ في مدرسة ريفية من طين، في قرية (سويج شجر)، التي لم تر النور بعد؟ وأيقظت الأحاسيس الخامدة في الطين، وذكّرت تلامذتك بجماليات الصلصال، ووصلت بفريق من الطلبة الحفاة الى نيل (الكاس) في لعبة الكرة الطائرة، وفزت على مدارس ريف (لواء المنتفك). فضلاً عن كل هذا، فهناك معاني أخرى ألّفت مصادر وعيك الفكري والسياسي، وإنحيازك لليسار فكراً وإنتماءً، منذ ذلك التاريخ .

اسم دار المعلمين الريفية يدل على موقعها في أطراف بغداد، في موقع الرستمية، خلف جدرانها نخيل سامقة، وساحاتها تخرج منها فاكهة خضراء، ونهر ديالى يلفها من الجنوب فأخصب أراضيها،طيورها تروي حكايا تلامذتها القادمين من ريف العراق الذي يتضور بؤساً من الفقر، فإنمحت آثار مفاتنه .

أو يمكن أن نفصل بين اللؤلؤة وضوئها الباهر؟نتساءل : بين الدار (التجربة)، والضوء تلك النخبة من الأساتذة العراقيين، أو الوافدين من بلاد الشام ومصر، الذين أودعوا أماناتهم في جيل من الطلبة وفق مناهج دراسية رصينة في مختلف حقول المعرفة والفن والرياضة .ترى من كان يمنح هذه التجربة روحها الجميلة ؟ لتظفر في النهاية بمجدها التربوي، الذي أسهمت الدولة العراقية في صنعه منذ بداية تأسيسه، إن إستعادة هذه التجربة يذكرنا بمساحة مجهولة مازالت مستكينة في أعماقنا، على شكل ومضات أصبحت في طيات النسيان، لتظل أنظارنا معلقة بالمختزن والموروث منها .

ان الباعث نفسه يغرينا بالتأمل في المجلة الدورية التي تصدرها الدار بإنتظام، وهي تتضمن مقالات ودراسات مهمة لأساتذة كبار، كما تنشر المجلة صور خريجيها، وفعالياتها، ونشاطاتها المتعددة، فتحيل المجلة الى عمل عقلي يدرك أسرار العالم .ومرة إثر اخرى بالسؤال، من أين للدار كل هذه الإمكانات والقدرات المالية والبشرية لتنهض بهذا الدور الريادي التربوي؟ الذي تنبعث منه أشعة الحكمة .

من المؤسف القول اننا وجدنا صعوبة بالغة في العثور على أي مصدر أو وثيقة، يمكن ان تقدم للباحث مادة مهمة،يمكن إعتمادها في الكتابة عن تاريخ هذه المؤسسة، فلا وزارة التربية ولا الدوائر المرتبطة تحتفظ بما يغني البحث، بإستثناء عدد واحد أو عددين من مجلة الدار الصادرة في أوائل الأربعينيات من القرن الماضي، متوفرين في دار الكتب والوثائق ببغداد،وعدا ذلك، فلا أثر يعيد المنابت الحقيقية في بستان المعرفة، سوى المدرسة الريفية الإبتدائية في مدينة الحرية، التي كانت مدرسة لتطبيقات طلبة الدار، والتي ماتزال تحمل نفس الإسم .

ليس في مقدورنا النفاذ الى أعماق تاريخ التعليم في العراق، وقد أدركه النسيان من طول ما بعُد ونأى، وإذا بدت لنا تلك الذكرى من وراء شفيف ضباب السنين، وردية قليلا، شاحبة بعض الشيء أحياناً، فذلك يعني ان إستذكارها اليوم أصبح صعب المنال،ثم يأتي عصر رمادي، ينتزع العطر من دار المعلمين الريفية، وتظل أبنيتها خاوية تنتظر المواعيد، وكأنها نبضة حياة عابرة .

 

جمال العتّابي

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم