صحيفة المثقف

ظلّ الريح

رحمن خضير عباسحالما تنتهي من قراءة رواية ظل الريح للروائي الإسباني كارلوس زافون، حتى تشعر بنوع من الهدوء. وكأنك كنتَ تنوءُ بحمل أعباء الرواية ومنعطفاتها، بعد أنْ اودعها الكاتب بين يديك.

ظلّ الريح رواية مكثّفة في لغتها وأفكارها. مزدحمة بتفاصيلها، عميقة بأفكارها، عذبة بأسلوبها، ثريّة برؤاها الفلسفية .

ابطالها ينبعثون من وهم الغياب. أو من الحضور المنسي، ليعيدوا صياغة الأحداث، التي تصل أحيانا إلى حافة الانفجار، وأحيانا أخرى إلى الخمود. في مسار متموج بالاحتمالات، وساكن بلهفة الترقب والانتظار.

فهذا دانيال الصبي ذو العشر سنوات من عمره، والذي يقوده ابوه إلى مقبرة الكتب المنسية. ليختار نسخة يتيمة من كتاب يدعى (ظل الريح) مرميّا بين أكداس الكتب المهملة. ورغم عشوائية الاختيار لعنوان الكتاب ومؤلفه المدعو خوليان كاراكس، ولكن دانيال يجد نفسه مأخوذا ومنبهرا بالكتاب من الوهلة الأولى، وكأن سحر الكلمات جرفته في متاهة من المغامرة الغامضة والتحدي الكبير. وقد باءت محاولات (غستابو) الصديق المقرّب من أبي دانيال بالفشل في إقناعه بالتخلي عن الكتاب . ولكنّ دانيال الصغير رفض كل العروض المغرية، فأصبح ذلك الكتابُ بالنسبة إليه وسيلة لتلمس رحم التجربة الحياتية في توهجها وحدّتِها .

وهاهوَ دانيال يتيه في بحر من الأحداث، ويواجه الكثير من الأسئلة التي تجعله أكبر من حداثة سنّه، فيواجه جملة من الأخطار والاحتمالات التي تجعله صلبا كالحجر، وهو يتقمص روح الكاتب الذي تلاشى عن المشهد، وعن روايته المهددة بالإنقراض. وذلك لأن دانيال سيكتشف، أنّ ثمة شخصا قد اشترى من المكتبات كل النسخ المتبقية من ( ظل الريح) ليقوم بحرقها. وهذا الشخص الغامض يستميت للحصول على النسخة الأخيرة المتبقية عند دانيال ليحرقها .

لذلك يتحول الكتاب بالنسبة إلى دانيال مسألة حياة أو موت. إنّه أوّل تحدي يقف له بالمرصاد، فيحاول المحافظة على الكتاب والبحث عن مؤلفه المدعو خوليان كراكس.

وفي هذا الخضم يلتقي بمحض الصدفة بشحاذ متشرد، والذي يصبح صديقا لدانيال، ومن الشخوص المؤثرة في مجرى النص وهو فيرمين والذي نكتشف أنه كان ضابطا سابقا في النظام الملكي، ومناضلا ضد دكتاتورية فرانكو التي لم تكتف بتجريده من كل شيء، بل ظلت تطارده وتنتقم منه بين الفينة والأخرى، على يد المحقق السيىء الصيت فوميرو.

يشتغل دانيال في مكتبة أبيه، ويلتحق بهما المشرد فيرمين والذي يُفصح عن قدرات كبيرة في العمل. ونكتشف ان هده الشخصية الرثة تمتلك ثقافة واسعة، وحكمة في التعامل مع الظروف المحيطة. مما يترك أثرا على بناء شخصية دانيال الذي يُظهر رجولة وقابلية على مواجهة التحديات. لا سيما وهو يرى بأم عينيه، كيفية تعقب الشرطة السرية لصديقه فيرمين و محاولة تصفيته جسديا بضربه المبرح وإيصاله إلى حافة الموت. ولكنّ فيرمين كان عنيدا وشجاعا، وكان قادرا على تحمل الألم والعذاب والملاحقة. حيث كان متعلقا بالحياة والخمر والنساء، لذلك فكان يواجه القسوة المفرطة. بصبر أسطوري. حيث أنه يدرك كيفية الابحار بين هذه العواصف ليخرج منتصرا.

يتعرّف دانيال على كلارا ابنة أخت جوستابو صديق أبيه. كانت كلارا جميلة ومحبة للقراءة والموسيقى ولكنها عمياء، فيبدأ بزيارتها كل يوم بحجة قراءة الكتب لها. وقد أصبح مُتيّما بها رغم أنّها تكبره بسنوات . ولكنه يجدها قد عشقت أستاذ الموسيقى الذي يعطيها الدروس الخصوصية. وقد ترك موقف رؤيتها بين أحضان غريمه أثرا كبيرا في نفسه. فينسحب منها إلى الأبد. وحينما عادت اليه بعد أن خذلها أستاذ الموسيقى، لم تجد الاستجابة منه لأن ثمة الكثير من المتغيرات التي طرأت على شخصيته.

يستمر دانيال في رحلة البحث عن أثر الكاتب الغامض خوليان كراكس، بمساعدة صديقه فيرمين. ولكن رحلة البحث تتشظى إلى قصص وحكايات من ابعاد مختلفة. وذلك لأنهم كانوا يتقصون تاريخ الكاتب من خلال أشخاص مرّ عليهم أو سكنَ عندهم أو زاملهم، وكان البحث يشبه لعبة الكلمات المتقاطعة. أو كما وصفها البعض على أنها تشبه الدمى الروسية التي تتكرر وتتداخل . فمن خلال احدى النساء نعلم شيئا عن شخصية خوليان حيث كان يعمل عازفا لبيانو في ماخور في برشلونة. وان صاحبة الماخور كانت تتعاطف معه.فتطعمه وتخصص له راتبا وسكنا في نفس الماخور.

ولكننا نكتشف حياة كاراكس بشكل واضح من خلال (نوريا) التي أفاضت الكثير من الماء السحري في الرواية والذي كان يتسرب ببطء. لكنه جعل صورة خوليان كراكس المضببة اكثر وضوحا.حيث أن القصة الرسمية التي تتحدث عن موته في مبارزة التحدي لا صحّة لها، حيث أن القتيل في المبارزة كان شخصا آخر وهو ميغيل المريض واليائس والصديق الحميم لخوليان، والذي كان يبحث عما يشبه طلقة الرحمة لمرض السل الذي جعل جسمه يذوي ويتآكل. وحينما مات ميغيل في المبارزة بدلا من خوليان، أخذ خوليان اوراقه وهويته وبقي يعيش متسترا تحت اسم صديقه. وهكذا المشكلة أن خوليان ميّت وحيّ في آن واحد. وهذه من اكبر المفاجئات في الرواية، التي اتخذت مسارا أشبه بالقصص البوليسية.

من خلال القصص يكتشف دانيال بأنّ خوليان يعود إلى أبيه خورخي الدايا، والذي ينفي صلة الأبوة عن ابنه خوليان. وقد وقع بحب بنت خورخي المسماة (بينيلوب) دون أنْ يعلم أنها شقيقته. مما يعيد إلى الذاكرة بعضا من أسطورة أوديب وعقدته، ولستُ متأكدا من اختيار اسم بنيلوب من قـِبَل الروائي كارلوس، وهل أراد تأكيد عفتها كما ورد في اسطورة الاوذيسة حيث ان بنيلوب انتظرت زوجها اوديسيوس إلى أنْ عاد إليها من الحرب، رافضة كل إغراءات الزواج فاعتبرت رمزا للوفاء.

ولكنّ الروائي كارلوس زافون كان يقطّر معلوماته ببطء، من خلال تشابك الأحداث وتفاعل الأبطال المنسيين والذين يلتقطهم دانيال، وهو في بحثه المُنهِك عن خوليان كراكس وعن اسرار حياته.

ومن خلال ما يترشح لدانيال من معلومات شحيحة، لإكمال اللوحة التي بدت بخطوط ومنحنيات غير واضحة. ولكن تكرار الخطوط. من خلال تداخل الشخوص وذكرياتهم. بيد أنّ مذكرات نوريا هي التي أماطت اللثام عن الكثير من الغموض.

لقد كانت الرواية صورة فنية لآثار الحرب العالمية الثانية على أوروبا، والتي انعكست بعمق على الخراب الروحي والمادي التي أصابها. وقد ركٌز على مدينة بزشلونة التي احتضنت شخوصه وأبطاله. وكانت مدينة مهشمة ومعتمة من خلال الأبنية القديمة التي تسلقها الخراب والنسيان ومن خلال الكنائس والكاتدرائيات البائسة والأسواق القديمة، والأزقة الموحلة. لقد صوٌر لنا العفن الذي يتسرب بين الجدران. والعتمة التي تحيط بمرافق العمل والحياة. وكأنّ هذا الكيان العمراني قد تحوّل إلى جثث متفسخة لقصور مهجورة ومظلمة. ونُصب فنية علاها الصدأ والإهمال والدمار .

لقد كانت الرواية رثاءً حزينا لبرشلونة وماتبقى من جذوتها، التي تحوّلت إلى مقبرة للبشر والحياة. وكأنها مقبرة الكتب المنسية.

وما البحث الذي قام به دانيال الصغير عن خوليان كراكاس، الا تعبير عن عودة الروح إلى برشلونة، من خلال دانيال الذي كبر وهو يشدّ بقوة على كتاب المؤلف المنسي والمغمور والمهدد بحرق ذاكرته الفكرية، ومن خلال اجتثاث مؤلَّفِه اليتيم، عن طريق البحث عن جميع نسخ الكتاب لمحاولة وأده واجتثاثه إلى الأبد .

ولكنّ الروائي لم يتعرض للدوافع والأسباب التي جعلت هذا الشخص (كوبيرت) يحاول حرق كتب خوليان كاراكس ؟ ولكنك حينما تتفحص النص جيدا تجد أن الذي يقوم بحرق كتب خوليان كزاكس. هو خوليان نفسه، الذي تقمص شخصية كوبيرت. وقد كان السبب هو التكفير عن حبه الذي ندم عليه. ولكن كل ذلك يبقى جزءا من لعبة فنية معقدة. قد تكون غير مقنعة وفق سياقات النص.

لذلك فقد فتحَ البابَ لاحتمالات كثيرة. ولكنٌ مسألة حرق الكتب تبقى لغزا. أما دانيال البطل الرئيس، فقد كان يمثّل جيلَ ما بعد الحرب، الذي حاول أن يمنع الخراب الفكري. وأنْ يقف بوجه شيطنة كوبيرت المدمرة. وقسوة فومير التي تعبّر عما اصاب اسبانيا من الحرب الأهلية.

رواية (ظل الريح) للروائي كارلوس زافون، والتي تتحدث عن رواية (ظل الريح) للمؤلف المجهول خوليان كراكس، تمثل أرقى الأساليب الفنية في الرواية، حيث جعل الأحداث والأبطال تدور في متاهة زمانية مُغلقة، وكأننا أمام دمى الماتريوشكا الروسية. التي كلما فتحت دمية وجدت في داخلها دمية مماثلة، حتى جعلنا الكاتب مقتنعين بطبيعة شخوصه وأبطاله. هؤلاء الأبطال الذين نحتهم بتأنٍ ومهارة وجعلهم يتحركون في مساحات النص، وهم يحملون الكثير من القيم والمفاهيم الفلسفية، التي زخرت بها الرواية .

دانيال الذي يبدأ في النص ويرافقه ويكبر معه، يجد نفسه في مواجهة مأزق فكري وحياتي أكبر منه ، وقد ظهر قويّا وضعيفا، مناضلا وتوفيقيا، صلبا ومكسورا.

ولكنه استطاع في النهاية أن يحمل راية ظل الريح ويحافظ على قيمه . يحبّ بصدق وعنف، سواء مع كلارا العمياء والتي خذلته واعتبرته طفلا دون سن العشق، أو حبيبته الصبية (بيا) التي عاشرها وأفتضّ عذريتها مما جعل أباها يبحث عنه لقتله، لان دانيال تجاوز الخط الأحمر بشجاعة. ومع حدة ردود الفعل ولكن النهاية السعيدة لزواجه بها تفقد الرواية بعض جماليتها الفنية .

فيرمين الحكيم والطائش، الشحاذ والأمير، المثقف والسكير، العاشق والمناضل . يتحدى قسوة ما يحيط به، متحملا قسوة الشرطة السرية التي تطارده من أجل تدمير شخصيته ببطء. ولكنه يبقى وفيّا لقيم الإنسان الثوري الذي يجابه وحشية الأنظمة، رغم أنّه لا يملك سوى جسده الواهن.

العميل السري خافيير فوميرو. وهو مخلوق سادي، أقرب للوحش منه للإنسان. يمتلك عقلية وحشية وسلوكا مظلما، وهو يمثل الحثالات البشرية التي تعيش على آلام الآخرين وتعذيبهم وقتلهم.

لقد استطاع الكاتب أنْ يقدم لنا مجموعة من الرؤى الفلسفية من خلال حوارات ناضجة ازدحم بها النص.

ولكنّ رؤيته عن تفاهة الواقع الذي أسس فيه خارطة عمله الروائي، لها أثر ومغزى، يقول :

" لن يُفنى العالم بسبب قنبلة ذرية كما تقول الصحف،

بل بسبب الابتذال والإفراط بالتفاهة والتي تحوّل الواقع إلى نكتة سخيفة"

 

رحمن خضير عباس

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم