صحيفة المثقف

نيلسون مانديلا.. ليس سهلا الطريق الى الحرية (2)

قاسم حسين صالحNo Easy Walk to Freedom

قراءة وتحليل ومقاربة

شخصية مانديلا – مؤشرات من طفولته

استقصى عالم النفس (جينفر) صاحب كتاب (التاثير الهاديء Quite Influence )طفولة مانديلا ليلتقط منها مؤشرات عن شخصيته،  بدأها بمقارنة يتذكرها مانديلا بينه وبين اقرب اصدقائه اسمه جاستس (عادل) ابن رئيس القبيلة: (كنا متضادين- هو انبساطي منفتح وانا انطوائي- هو مرح وانا جدي). وتوصل الى ان استجابات مانديلا للاحداث تنطبق عليها نظرية المحلل النفسي يونك الذي صنف الشخصية الى اربعة انواع: انطوائي مقابل انبساطي، يتعامل بالمشاعر مقابل التعامل بالتفكير..وحكم على شخصية مانديلا بانه انطوائي عاطفي يتعامل بالمشاعر.

واللافت او مايبدو مفارقة ان الانطوائيين مثل مانديلا غالبا ما يكونوا هم افضل القادة،  لأنهم يكونون مصغين جيدين ومتفاعلين جيدين مع اولئك الذين يخفون مشاعرهم. ويصف مانديلا نفسه بان يمتلك قدرة فطرية لفهم مشاعر الاخرين واهتماما قويا بالناس ودافعا اقوى لمساعدة الاخرين.

(بالمناسبة كثير من الممثلين الكوميديين هم انطوائيون،  بينهم الفنان جيم كيري الذي اعترف بانه يتعاطى مضادات الاكتئاب، و الفنان روبن ويلمز الذي كان يعاني من الاكتئاب وفاجأ محبيه بانتحاره عام 2014).

وتفيدنا طفولة مانديلا بأنه عاش نوعين مختلفين من الخبرة:رعاية الاغنام بعمر الخامسة تعلم منها دلالات الفقر وحب الأرض، والعيش بعمر التاسعة في قصر ملك القرية خبر فيه حياة الرفاهية وارستقراطية القصور.

ويذكر مانديلا انه تعلم في قصر ملك القرية (تربل) الذي تولى تربيته ما وظّفه حين اصبح سياسيا..حيث كان هذا الملك يستمع اولا لكل المتحدثين من الجالسين ثم يبدا الكلام، ما يعني سيكولوجيا انه يشعر المقابل بالاحترام ويمنح عقله فرصة استيعاب افكار الآخرين،  مضيفا بأنه تعلّم ان المهمة الرئيسة للقائد ليست في ان يقول للناس ماذا يجب ان يفعلوه بل ان يعرف كيف يحقق صيغة الاجماع باستخدام مهارة فن الاقناع بان يجعل الناس يتوصلون الى ان ما يقوله هو فعلا ما يفكرون به.

ولدينا نظرية في علم النفس تقول (ان الافكار هي التي تحدد الافعال)،  وان المعتقدات هي اقواها. ولك ان تضرب مثلا في تاريخنا السياسي بسلام عادل الذي لم يتخلى عن معتقده برغم قساوة التعذيب..وتلك هي الصفة الأهم في شخصية مانديلا،  فايمانه المطلق بعدالة معتقده منحته صفة اخرى هي القدرة على التحمّل وديمومته التي استمرت 27سنة سجن في اعمال شاقة وحياة قاسية.

وصفة اخرى،  ان المناضل حين يصبح في نظر شعبه بطلا فانه يتماهى نفسيا بهذه البطوله،  ويمنحه التعزيز الايجابي من شعبه والتأييد والاعجاب الدولي ما يدفعه الى تحقيق هدف البطولة ليقوم دماغه بغلق او اماتة الخلية التي تفكر بالتخلي لتنشط وتسيطر على عملياته العقلية الخلية التي تفسر التخلّي بانه خذلان وعار وخزي..وكانت هذه الالية السيكولوجية هي التي اسهمت في ان تجعل من مانديلا رمزا نضاليا وبطلا اسطوريا،  ليشهد بنفسه اقامة تمثال له بارتفاع ثلاثة امتار،  وقيام اليونسكو بتخصيص يوم بأسم نلسون مانديلا، ومنحه جائزة نوبل للسلام..ولهذا فأننا أحببنا مانديلا ..وربما لسبب سيكولوجي خفي، هو أننا نحن العراقيين،  بحاجة اليوم الى مخلّص عراقي يشبه مانديلا!..ونرجو أن لا يكون حالنا حال (غودو الذي يأتي ولا يأتي!).

مواقف..في لقطات

الكتاب مزدحم بمواقف واحداث يصعب عرضها او التعليق عليها بالكامل، ولهذا سنختار منها ما له دلالة خاصة، نبدأها بمقالته:رسالة من مخبأ سرّي في تحليل لدلالاتها السيكولوجية.

في العام 1961استجاب الافارقة في عموم البلاد لدعوة مانديلا ومجلس العمل الوطني للاضراب لمدة ثلاثة ايام..ونجح،  واصفا ما حدث بأنه ما من قوة على الارض يمكن ان توقف الشعب المظطهد المصمم على الحرية.وقد شنت الشرطة حملة تفتيش واسعة عن مانديلا فكتب رسالة من مخبئه السري، جاء فيها:

(لقد اخترت المسار الاكثر صعوبة، والذي ينطوي على المزيد من المخاطر والمشقة اكثر من دخول السجن. اضطررت للابتعاد عن زوجتي واطفالي الاعزاء،  عن والدتي وشقيقاتي. واضطررت لايقاف عملي، والتخلي عن مهنتي، والعيش في فقر وبؤس كما يفعل الكثيرون من ابناء شعبي. ساقاتل الحكومة معكم في كل شبر من اراضينا حتى نحقق النصر، ولن اغادر جنوب افريقيا،  ولن استسلم. الكفاح هو حياتي،  وسأواصل القتال من اجل الحرية حتى آخر ايامي).

في هذا الخطاب دلالتان سيكولوجيتان، الأولى: ان السجين السياسي حين يضع راسه على الوسادة ليلا فانه يحاور نفسه بين الندم على حرمان نفسه من الحياة كالآخرين وبين قناعته بأن ما سجن من اجله ..قضية اختار التضحية عن وعي لتمنحه قيمة معنى وجود الانسان في الحياة..وقد حسمها مانديلا بقرار مطلق.

والثانية: ان الشعب الذي تضطهده حكومة تستفرد بالسلطة والثروة، وتتركه يعاني الفقر والحرمان والشعور المجحف بالحيف..يحتاج الى بطل مخلّص يتوحدون به..وقد وجده الافارقة في شخص مانديلا، وصاغ في رسالته ما يجعلهم على ثقة مطلقة بأن مانديلا هو المخلّص، وانهم ملزمون اخلاقيا بان لا يخذلون من ضحّى من اجلهم، فجعلوا منه رمزا وطنيا يمثل اليقين بأنه رجل الدولة الذي سيحقق لهم الحرية والكرامة وطموحاتهم التي كانت تبدو لكثيرين بأنها من صنف المستحيل.

الثانية:في المحكمة..من متهم الى مفكر واعلامي

عام 1956بدأت محاكمة مانديلا بتهمة الاطاحة بدولة جنوب افريقيا استمرت اربع سنوات ونصف متتالية،  وتركز الاستجواب فيها على الخطابات والمقالات التي كتبها، وابرزها مقاله (ليس سهلا الطريق الى الحرية).وكان مانديلا يجلس في قفص الاتهام طوال اليوم في اختبار صعب لقدرة الانسان على التحمل.ومع انه كان يعرف ان عقوبة الخيانة العظمى هي الاعدام، فانه حوّل المحاكمة الى قضية شعب،  وتولى هو مهمة الدفاع عن نفسه وعن قضية وطنه.ولأن التهمة مستوحاة من الشيوعية الدولية، فان محامي الدفاع يسأله:

- هل اصبحت شيوعيا؟

فيجيبه:

- حسنا لا اعرف ان كنت قد اصبحت شيوعيا.ان كنت تقصد بكلمة "شيوعية" انني انتسب الى الحزب الشيوعي، وتبنيت نظريات ماركس،  ولينين، وستالين، وانجلز الملتزمين بصرامة بمباديء الحزب..بهذا المعنى،  لا،  لم اصبح شيوعيا.

ويسأله:

- هل تعجبك فكرة مجتمع لا طبقي ؟

+ نعم،  الى حد كبير.اعتقد ان الكثير من الشر ينبع من تعدد الطبقات، من استغلال طبقة لبقية الطبقات. ويضيف بأن الامبريالية طافت جميع انحاء العالم،  لاخضاع الناس واستغلالهم،  وجلبت الموت والدمار لملايين الناس.

وبذكاء استثنائي يحول المحاكمة الى وسيلة اعلام لقضية شعبه.يبدأ مانديلا بطلب للقاضي يبدو غريبا (اتقدم بطلب اعفاء سيادتك من هذه القضية!) داعما حجته بقوله بانه في محاكمة سياسية كهذه القائمة على صدام بين طموحات الشعب الافريقي والاقلية البيضاء،  لا يمكن لمحاكم البلاد ان تكون محايدة ونزيهة. انني اشعر بالقمع من جو الهيمنة البيضاء والظلم اللاانساني الممارس علينا.انا بلا ارض،  لأن الاقلية حظيت بنصيب الاسد في بلدي واجبرتني على العيش في مخيمات الفقر المدقع..لقد انهكنا الجوع ودمرنا المرض.

في اليوم الثالث من المحاكمة قدّم مانديلا طلبا يقضي باقالة القاضي، لاتهامه بأنه شوهد يستقل سيارة صغيرة زرقاء اللون من طراز (فولكسفاغن)، وانه جلس في المقعد الامامي برفقة (ديركير) المساعد في الامن القومي الذي شهد ضد مانديلا، وعنصر امني اخر (الامر الذي ولّد لديّ مخاوف من ان العدالة تدار بطريقة سرية).

محاكمة ريفونيا

تعد هذه المحاكمة واحدة من اشهر محاكم التاريخ جرى تسجيلها على اسطوانات تعود إلى ما بين العامين 1963 و1964، في 230 ساعة، ولها يعود الفضل بانها غيرت الطريقة التي كان العالم ينظر بها إلى جنوب إفريقيا.

ما يدهشك ان مانديلا يعترف امام المحكمة (لا انكر انني خططت للتخريب،  وانني احد مؤسسي رمح الامة، " الجناح العسكري للمجلس الوطني الافريقي"،  وانني خضعت اثناء وجودي في الخارج لدورة عسكرية تدريبية، ودرست فن الحرب والثورة).. مبررا بان خمسين عاما من اللاعنف لم تجلب للشعب الافريقي سوى المزيد من التشريعات القمعية.

ويدهشك انه يعلن امام المحكمة (اقر بانني اجريت الدراسات لاعدّ نفسي للدور الذي قد ألعبه اذا ما تحول الصراع الى حرب عصابات). موضحا لأعضاء المحكمة (بانني تبحرت في تفاصيل هذه المسالة باكملها من شرقها الى غربها، وعدت الى كلاسيكيات كلاوزفيتز "جنرال ومؤرخ حربي روسي"، وتناولت افكار من ماوتسي تونغ وتشي غيفارا من جهة وكتابات حرب الانجلو بوير "بين بريطانيا وجمهوريتي البوير 1899-1902" من جهة ثانية). مؤكدا بأنه لم يكن يوما شيوعيا ولكنه يحترم الحزب الشيوعي الافريقي ومتعاون معه بالرغم من قانون حضر التعاون معه.

استمرت محاكمة ريفونيا احد عشر شهرا ويوم، حكم على مانديلا وثمانية من رفاقه بالسجن المؤبد.ولحظة اقتيدوا الى السجن، كانت اللافتات ترفرف بعبارة( لن تقضوا عقوبتكم هذه طالما نحن على قيد الحياة)..ورفع مانديلا ابهامه في اشارة منه على دعمه لابناء شعبه مرددا باعلى صوته ( افريقيا).

 

أ. د. قاسم حسين صالح

مؤسس ورئيس الجمعية النفسية العراقية

..................

* نص المحاضرة التي اقامها نادي المدى للقراءة في كوردستان 20 تموز 2019.(يتبع)

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم