صحيفة المثقف

سوبر نوفا

انمار رحمة اللهيتلفّعُ حارسُ المدرسة بشماغه، ثم يهمّ بتشغيل سخّان الشاي الكهربائي، تحضراً منه لليلة أخرى، يبات فيها في غرفته القابعة عند زاوية المدرسة. جولتان تفقديتان له، الأولى بعد خروج التلاميذ، ينتقل بين الصفوف متأكداً من إغلاق أزرار الكهرباء، وحول سياج المدرسة ليستقر بعدها قليلاً عند ناصية الشارع، يمط الحديث مع جاره البقال.. وجولة أخرى قبل أن يدخل إلى غرفته ليلاً، يتأكد فيها من خلو الساحة وما يحيط بالصفوف من ممرات ثم الحديقة.. يرد على أهله حين يقترحون عليه الحذر في عمله:

" من يسرق مدرسة ؟! لا شيء فيها سوى الكتب والرحلات.. أربعون سنة وأنا حارس ولم أر غير القطط في حديقتها تموء وتتكاثر"

يُقرِّبُ طرفَ الكوب من شفته، يرشف الشاي ويضع الكوب مرة أخرى على الأرض، باحثاً عن علبة السجائر خاصته. الريح تزمجر خارج الغرفة، تحركُ الأشجارَ بعنف، وأبواب بعض الصفوف الخالية من الأقفال بدأت تلطم بصوت ارتطام معدني شديد. ينزعج الحارس من هذه الأصوات، ثم يقرر النهوض ودفع (رَحْلة) ووضعها على طرف كل باب بعد فتحه على مصرعيه وحجزه.. يبدأ بأبواب الطابق الأرضي ثم أبواب الطابق العلوي ، يصعد إليه متجهاً إلى الجانب الشمالي منه، ينهي المهمة ثم يعود إلى الجانب الآخر المقابل، يمر على الأبواب ويدفعها بكفه الواحد تلو الآخر متأكداً.. يتسمر في مكانه حين يرى ضوءاً نافذاً من الفتحة أسفل باب الصف الأخير. يستعيد في ذاكرته ويتمتم " عجيب.. كيف لم أطفئ زر النور هنا". يدفع الباب بكفه فيفيض نورٌ مشع من جوف الصف، يكاد الحارس أن لا يرى كفه من شدة النور وسطوعه. ومع النور الساطع يستمع إلى ضحكات وهمهمات ودوي، ثم نقرات منتظمة على الرحلة وصوت جهوري لرجل يهتف " يكفي هذا... اصمتوا قليلاً.. لنبدأ الدرس."

***

يخفت النور شيئاً فشيئاً بعد نفاذ الحارس في سمكه الضوئي، واضعاً كفه فوق جبهته كمن يحتمي من سطوع شمس في ظهيرة لاهبة. يهتف بصوت فضحه ارتعاش شديد" من هنا..؟ ماذا يحدث..؟! ما هذا الضوء وكيف دختلم؟!". التلاميذ يجلسون بشكل مرتب، تلاميذ ضوئيون، عيونهم يتسرب منها بريق مشع، وشعورهم تتماوج كشعلات نيران متقدة. حقائب وكتب ضوئية، وأصوات ضحكاتهم حين سمعوا تلك الكلمات من الحارس كانت ذات صدى يتكرر ثم يذوب في فضاء الصف.. يهتف الحارس بصوت عال" يجب اخبار المدير. يجب إخبار دائرة التربية.. ماذا تفعلون هنا في هذه الساعة، وما هذا الضوء.. يا ربي .. أنا أحلم أم ماذا ؟!.. عليّ النزول والاتصال بالمدير والشرطة فوراً". يلهث الحارس بعد جملته الأخيرة، وزاد لهاثه حين وضع الرجل الضوئي كفه على كتف الحارس وخاطبه بصوت صدوي رخيم" اهدأ... أبا جابر.. إلا تذكرني؟!". ارتعشت ساقا الحارس وهو يطالع وجه الرجل.. ثم خرجت الكلمات من فم الحارس متقطعة بحشرجة " من..؟ أستاذ زكي.. رحماك ياربي.. استغفر الله.. أعوذ بالله.. أستاذ زكي..؟!! ماذا تفعل هنا". ضحك المعلم وضحك التلاميذ و ردَّ الرجل على الحارس "على رسلك أبا جابر.. أنا هنا في درسي.. هؤلاء تلاميذي إلا تذكر؟.. يخاطب الحارسُ المعلم قائلاً " ولكنك متوفي .. أنا بنفسي حضرت مجلس عزائك قبل ثلاث سنوات!!.

***

بعد منتصف الليل.. نتجمع هنا دائماً ( يقول المعلم)

أنتم من الجن .. أنتم أرواح.. دخيلك يا ربي.. أعوذ بالله.. غادروا المكان.. بسم الله الرحمن الرحيم، أعوذ بالله من... ( يصرخ الحارس مغمضاً عينيه)

يضحك التلاميذ..

***

يجلس الحارس على الأرض، يتلمّس ساقيه اللتين خارت قوتهما. يطالع بفم متيبس المشهد أمامه، ويطالع المعلم (أستاذ زكي) الذي يلوّح للتلاميذ ثم يمسك كتاباً يسيل منه رذاذ ضوئي ذهبي. يترك الحارس المعلم ويظل يطالع التلاميذ لبرهة ثم ينفجر متسائلاً:

- أستاذ زكي.. هل هؤلاء التلاميذ أرواح مثلك؟

يبتسم المعلم ويجيب :

- نعم بلا شك.. هؤلاء كلهم تلاميذ أنا درستهم في هذه المدرسة، لقد توفينا جميعاً. سأجعلهم يعرفون أنفسهم أمامك.. لا بأس.. أنت ضيفنا هذه الليلة.

يشعر الحارس بالراحة، بعد أن وضع كفه على صدره قائلاً

- على رسلكم معي.. صدري يؤلمني.. قلبي يكاد يتوقف

يهون عليه المعلم ثم يقف متوسطاً الصف ويشير إلى التلاميذ قائلاً:

- من اليمين.. كل تلميذ يعرّف نفسه ويعود إلى رحلته

يطير أول تلميذ جالس على اليمين، محلقاً في فضاء الصف ناثراً رذاذا ذهبياً، قائلاً:

أنا عدنان.. توفيت في حادث سير

التالي ( يهتف المعلم):

أنا سمير.. توفيت بمرض عضال

أنا معتز.. توفيت في القصف

أنا أحمد.. غرقت في النهر..

أنا أمين .. توفيت في انفجار مفخخة..

أنا... أنا... أنا...

ينتهي التلاميذ من تعريف هوياتهم ..

يشكرهم المعلم..

يضع الحارس شماغه على وجهه وينحب..

***

يستأذن المعلم من الحارس" لقد أنتهى درسنا الليلة" يقول ثم يطلب من التلاميذ تجهيز حقائبهم الساطعة، والخروج بانتظام من باب الصف.. " إلى أين ..؟!" يهتف الحارس فيرد عليه المعلم( أستاذ زكي): " إلى المنزل... هناك.. في ( سوبر نوفا) ويشير بأصبعه صوب السماء ذات النجوم المتلألئة ليلتها.. يطير التلاميذ سرباً الواحد تلو الآخر، ثم يشكر المعلم الحارس ويودعه خارجاً من الصف محلقاً وراء تلاميذه، فتحل العتمة في الصف. يخرج الحارس ناظراً إلى الأرواح المحلقة صوب النجوم.. في اليوم التالي تتوالى التلاميذ إلى المدرسة أفواجاً كعادة الدوام الرسمي الصباحي، يتجمهر التلاميذ في ساحة المدرسة، يقف المعلمون بوجوه جامدة. يُقرأ النشيد كما هي العادة ثم ينصرف الجميع إلى صفوفهم. يطالع الحارس وجوه تلاميذ الصباح، ويتذكر مشهد ليلة البارحة. مسترجعاً مشهد تحليق زملائهم المتوفين صوب النجوم. يتأفف ويشبك كفيه وراء ظهره ويغادر صوب المنزل بعد أن سلم المدرسة للإدارة كما هو المعتاد.. يتمتم مع نفسه أثناء سيره" لن أخبر أحداً بما جرى حتى أهلي.. سيقولون عني مجنوناً خرفاً.. أفضل خيار عندي هو الصمت".

***

يشغل الحارس ( أبو جابر) سخان الشاي، ويضع سيجارة في فمه، متشوقاً إلى رؤية المعلم وتلاميذه مرة أخرى.

" إن لم يأتوا الليلة سيتأكد لي أن ما رأيته البارحة كان وهماً" ( يخاطب نفسه).

ينتصف الليل فيخرج الحارس من غرفته ليطالع المدرسة التي تغط في عتمتها. يصعد السلم المؤدي إلى الطابع العلوي، يقترب من باب الصف الأخير فيرى ضوءاً يتسرب من أسفله فيبتسم..

***

( بعد مرور سنة)

يغني التلاميذ الضوئيون نشيداً بمساعدة الأستاذ زكي. يُفتح الباب عليهم فيدخل الحارس (أبو جابر) فيتوقف الحضور عن الغناء مرحبين بأصوات متفرقة به. يضحك الحارس ويخاطب المعلم " أنا انتظركم أستاذ زكي.. متى تنتهون؟". يرد عليه المعلم " لم يبق لدينا الكثير.. نشيد الذكريات حفظناه وصرت أختبرهم به.. أنت ماذا فعلت؟". يجيب الحارس وعلى وجهه ابتسامة عريضة" أنا ذهبت إلى غرفتي وطالعت أغراضي.. أخذت جولة حول المدرسة، لم يكن الأمر كما في السابق، لقد كنتُ سابقاً أنهي عملي بدقة، أما الآن...!". ضحك المعلم وقال لأبي جابر الحارس " لا بأس.. أنت الآن أكثر راحة من ذي قبل.. سننتهي وشيكاً ونرحل".. ينهي المعلم درسه ويطلب من تلاميذه أن ينتظموا طيراناً في الفضاء. يطير التلاميذ فرحين صوب (سوبر نوفا)..

ينده المعلم على الحارس " ها... أبا جابر.. هل حان وقت الرحيل أم ماذا؟".

يردُّ الحارس متمتماً " نعم بلا شك... هيا بنا.. كنت فقط أتأكد من المدرسة.. اللعين الحارس الجديد لا يبات فيها مثلي سابقاً"

يربت المعلم على كتف الحارس، فيتساقط رذاذ ضوئي مذهب من كتفه، ثم يطير الاثنان صوب السماء.

 

أنمار رحمة الله

........................

* سوبر نوفا: حدث فلكي يحدث خلال المراحل الأخيرة لحياة نجم ضخم، حيث يحدث انفجار نجمي هائل يقذف فيهِ النجم بغلافهِ في الفضاء عند نهاية عمره، ويؤدي ذلك إلى تكون سديم ينشأ، يكوّن غلافاً من رذاذ ضوئي في الفضاء شديد البريق.

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم