صحيفة المثقف

آليات البوح المسكون بالاغتراب الروحي (2)

احمد الشيخاويلعل ما أثرى التجربة الشعرية لدى المبدعة ريم الخش، كونها واحدة من الأسماء المهجرية المترنمة بالصوت الحداثي، في نبض انتمائه للغتنا الأصيلة، وبمعزل عن ادعاءات الإحتقان بإفرازات اليومي، والإغتراف من مفرداته، دون تنقيح وإعادة إنتاج المعنى داخل أفلاكه.

فهي وإن عانقت مثل هذا المذهب، لا تفوّت عليها فرص بعث القشيب في قواميس لغة الضاد، كي تضخّ في شرايينه دماء جديدة، تستجيب لذائقة وفكر جيل تبدّل بالكامل.

من هذه الزاوية يمكن قراءة الأبعاد النفسية والمعرفية والفنية لذات كابدت معنى النفي، بحيث باتت في موقع البرزخية الذي يجب أن تراعي الانتساب الحضاري والإنساني الحداثي من جهة،وثقافة الذود عن الذاكرة العربية الغنية بالأمجاد والبطولات، من جهة ثانية.

علما أن خلق مثل هذه الموازنة،إنما يتم ضمن حدود خطاب نيوكلاسيكي صارخ بالمعاني الإنسانية،وتيمات المنظومة الأخلاقية النبيلة.

نتبين تلك المعالم، منذ بدايات ريم الشعرية، ونؤكد أنها ما كانت لتجد ذاتها في الكتابة العروضية لولا إمكاناتها الإبداعية الهائلة، وعمق ثقافتها ووعي بالوضع العربي الراهن، والأمة تعيش انحطاطا وانكسارا على أصعدة عديدة، أهمها الأخلاق والقيم.

لم يعد مقبولا، التغريد من أبراج عادية، كما كان الأمر سابقا، غير أن الفارق الوحيد بين الأمس واليوم، أن الأمس صنعه العقل العربي والرهان على الهوية الثقافية عموما، أما يومنا هذا فقد أنهكته اللاعقلانية والدونية الثقافية، إلاّ فيما يرتبط بالمنفلت من مخالب هذه الحالة المزرية.

الإشراقات المتناثر على امتداد الخارطة الإبداعية العربية في الفكر والفلسفة والأدب والشعر والفن وغير ذلك من مظاهر الخلق والابتكارات الوالجة في رؤية موسوعية وهوية إنسانية لامة وشاملة.

لمجموعة من الإعتبارات، يعتبر الشعر معنيا بنظير هذه التحديات التي قد تنتج خلاص الإنسان والعالم، وبالتالي، خلع رداء رمزيته، وهو إشكال منوط بمنسوب تعاملنا معه، إذ التغيير يجب أن يبدأ من عقولنا، صوب الوظائف الشعرية التي يأتي الجمال،في طليعتها.

من هنا ونحن نقلّب صفحات ريم، الشاعرة الثائرة، وقد لمّحت في العديد من محطات بوحها المزخرف بحس الإنتماء والإخلاص لقضايا العروبة المقدسة والكبرى، إلى إبداع التصعلك النبيل، وليس يخفى علينا تطور هذا المفهوم تاريخيا، مذ ولادته كتيار مناهض لغطرسة الزعامات والسلطوية وتكريس واقع الطبقية والفوارق الإجتماعية، إلى غير ذلك من أنمطا تفقير الكائن جسدا وعقلا وروحا.

تقول: [ أمدُّ له حبل النجاةِ فيُشنقُ

                        فؤادٌ على حبلِ الغرام معلَّق    

فؤادٌ إذا صافحته خُلتَ أنّـــــــــــــــه

               أتى من حكايا الجنّ عفريتٌ أزرقُ

***

نديٌ على جبر القلوبِ معوَّد

                    نديمٌ كما الخمرُ اللذيذُ المعتَّـــــــــق

هطولٌ على البحر الخفيف بغيمه

                       طروبٌ ومنه اللحن عذْبٌ مشوقُ

وما كلّ أنغام القصيد عشقتها

                    ولكنه البحرُ الطويلُ المنمقُ

***

مشيتُ على البحر الخفيف مغامرا

                  أشقُ عباب الشعر فيه أهرطقُ

على كتفي نامت عصافير لحنه

                وطارت على حقل القصيد تُحلقُ

وأسرجتُ فيه الروح حتى حسبتها

                  مصابيح في درب القصيد تُعلَّق

***

وما كلّ ما يروي القصيدة مرقرقُ

              سوى نبعة من عمق روحك تُطلقُ

تُضاحك في المرآة ظلّ قصيدة

                    وكم ظنَّت المرآةُ أنك أحمقُ .'.' ](1).

كأنه تبرير للكتابة المسرفة في بحر الخفيف، من قبل شاعرتنا، إنها عاشقته، حدا ألهمها زخم هذه الإسقاطات التي تهدف من خلالها وعبرها إلى معالجة راهن الذل العربي، مع الإحتفاظ بمسافة كافية ومصقولة ما بين كامل هذا، وفسيفساء صور البوح المكلوم المتزمّل بمعاني الحياة وألوانها .

إنها طاقة إيجابية، تنبذ الصوت الإنهزامي، وتشمخ بعنفوان نرجسية مبدعتها، كضرب من

كفر بالنزعة التشاؤمية على رغم ما يدوّنه ويقوله لسان حال الأمة.

لوحة معبّرة تختزل جملة من الإسقاطات، ملتزمة بالمحاول التالية:

 1 ــ البنية الإيقاعية

لعل إيقاع بحر الخفيف، يلائم مغامرات التنفيس عن ذات مغتربة إلى هذا الحدّ، مطعونة بمكابدات الإنتماء، والتمزّق ما بين ضفّتين.

إن طعن الأوطان العربية، بعولمة متوحشة، عمقت صفحات من التراجيديا والسوداوية والدموية والإضطراب، اقتضى نفسا إبداعيا مضادا، يصون كوات الأمل، وبيق على الحظوظ في الحياة والدور الحضاري.

خاصة وأن الخطاب الشعري وهو يتغلّف بهذه التيمات، غالبا ما ينبثق من خلفية تساءل وهم الأجيال، وتعاود تقويم ثقافة اتهام الأجيال، ورفع الكلفة عن مواطن اليوم،ككائن أخجلته مرياه.

تنتفض هذه الشعرية في أفق إنساني، يعتقد بالمنطق السيزيفي، ويحرض على رهان الإستفادة من أخطاء التاريخ.

كما أنه يشير، بشكل أو بآخر إلى أن التاريخ، إنما يكتبه المنتصر، بحد السيف.

في هذا الشعر قوة تؤمن بالقوة، وتناهض الضعف بمختلف أشكاله.

وهي قوة لا يمكن أن يمثل لها وقودا سوى الحب، بمفهوم واسع.

نطالع لها أيضا هذا الطقس:

[ بأنَّة الناي ليلُ العشقِ مخترقُ

                       لا أبعدَ الله من في حبّهم صدقوا

لا أتعب الله قلبا من عذوبته

                        شهد يسيل على أرواح من عشقوا

كل المشاعر أطيافٌ مؤلفةٌ

                      لا يسطع الحبُ إلا حين تُمتشقُ

الحب ليس أحاديا بنزعته

                       أبعاده اتّسعت رؤيا وتتسقُ

يا طفليَ الحلو يا الأغلى على كبدي

                        يا غيم مهجة شوقٍ فيَ يندلقُ

لا أوجع الله أرواحا مؤلفةً

                      نورٌ بمنبعها والنجمَ تلتحقُ

***

شر النفوس صغارٌ في توجّسهم

                           بلا اتساع رؤى سُحْبٌ ولا ودَقُ ](2).

صحيح أنها لن تداوي كامل هذه الأحقاد، وتقضي على القطبية، عدا ثقافة الحب، المنبغي إشاعتها والتسويق لها، باعتبارها المنفذ الوحيد إلى مستقبل متوازن يقبل التعدد العرقي والألسني والعقدي والإيديولوجي حتى.

إنها تجربة وإن تلوّنت ببحور الشعر الأخرى، تتكئ بشكل أساسي على الخفيف، لانسجام تفعيلته مع المناخ السائد في فوضويته واضطراباته وحاجته إلى معالجات متعقّلة ورصينة وغير متسرّعة.

لذلك نجد ريم تمدح هذا البحر بالذات، محاولة استفزاز المتلقي بسائر تجليات مغامرتها الشعرية الجميلة هذه، وكأنه لا تريد أن تترك ثغرة دون ترعها، وإن كان تمة من خروق تركيبية ووزنية ودلالية، فهي للضرورة ليس أكثر، ومما يقتضيه السياق وتفرضه الأنساق، دون أدنى شك.

إن هذه الدورة الوجودية والتي ترعى متاهات الإنخراط في خطاب صوفي صرف، يبعت سيرة الحلاج، ويشرع كتاب فلسفته الحياتية على مشراعيه، لتنم عن حنكة إبداعية، وذكاء،من شأنه تعرية الواقع بشعرية محمولة على نبض الإنساني، ومدغدغة بدواله.

تقول:

[ وكانت تدورُ تدورُ عصاه

                وكانت بأرض الوغى قاطعه

وكان يرتل عمقا هواه

                وكنت بقلبي أرى طالعه

ويضحك مني فؤاد حباه

                   ويبكي به ثورتي اليافعة ](3).

من هنا تأخذ القصيدة معنى الصلاة، وتتلبس روحها في تغيير الكائن والحياة.

تجليات الحلاج، عبر تكثيفات صور الخطاب الصوفي، تدفع بالتفشي في اتجاهات تناهض منطق العبودية ومشهدية الجور، وتنتصر لإنسانيتنا المهدورة.

بلغة تفكيكية لا تقبل الجاهز، بل تنقّحه وتنفخ فيه روحا جديدة، تتحقق لها هذه الأغراض.

2 - البنية المعجمية

واضح أن في خضم هذه الشعرية، غير وارد تماما التقيد بعنصر ألسني محدد،ما تترتب عنه مثل هذا الزئبقية والحربائية واللعب الحذر بقواعد لغوية خرقا وتركيبا، حدا يضعنا في حيرة إزاء السياقات النصية،وما يمارس عليها من تقاطعات وملمح للتكاملية، ما بين العناصر التاريخية والنفسية والسياسية.

[شهي أن تسافر بك سكرتك الإبداعية خارج الحدود والأشكال، وأن يكون مرعى ومرتع أناملك المغدق عليها من كلّ صنوف الفضول الوجودي، المطلق الموغل والمتسربل بغواية المستحيل، بحيث تطارد ذاتك،مختزلا فيك ما يتطلّع إليه الآخر، بلا ضغائن أو حزا زايات أو حقد دفين، أعني أن تفتح قلبك بالكامل،وألاّ تشوّه مراياك وتخدشها بعمر للسلبية والنكوصية والنقصان، أو تهشّمها عبر اصطدامات همجية بمحطّات خاملة،  لا يعانق أفانينها غير الحب، في عظمته ومغناطيسيته وعنفه،كبلبل غرّيد،لنوتته معنى واحدا لا غير، وجدّ قريب: أوطاننا من الفطرة السليمة أن تكون هكذا،تتنفّس عشق المشترك الإنساني.

وأشهى من ذلك بكثير، لما تغذي ذلك الإبداع، خلفية نون النسوة،مضاعفة ذلكم الرّشق بما نسمّيه حبّا،على عنفه الشديد، أحيانا، والقابل لأن نعيشه، إذا ما انتصرنا لإنسانيتنا على أنانيتنا المغرضة والمريضة.

كذلك هي الشاعرة السورية الجميلة،ريم سليمان الخش، في ديدنها المتوهّج بثورة الهامس،المنخطف ببياض الأحجية والزمن والمكان، البياض الذي يقول كل شيء.

تقول معارضة الحجاج في تأليهه لموسم قطاف الرؤوس، كونها تستفتي قلبها في كل قصيدة تقولها، فهي،بالتالي،تعطي دون مقابل، هكذا بملامح طفولية،وبلا مبالاة](4).

نطالع قولها :

[ جئت للدهر ومضة من ذكاءٍ

                سطعتْ بالرؤى ومدّتْ طريقا

كنت للقلب طفله ليس أغلى

                     منك (للروح )طفلها المرموقا

***

وكأني وضعته لحن حبٍ

                     وكـــأني بروحه الموسيقا

***

ليس إلاك ومضةٌ بارتقاء

                     تــــــــــــتبنى طريقها الموثوقا

شعلة القلب نجمه مستنير

                      دام فــــــــي الأفق مشرقا وطليقا

جلّ همي عروبة فيك تحكي

                   وسمو لا يقبل التعويـــــــــــــــــقا

مجد قومي أريده في نهوضٍ

                          جلّ همي رُقينا أن يفيقا ] (5).

تراوح ريم في شعريتها مابين درجات السهل الممتنع، والغموض المقبول، مع أنها أحيينا، تزيغ عن المعنى الذي تريده.

مع ذلك، لاتشوش على تجربتها التعقيدات التي توقع في فخاخ الحشو والزوائد.

بحيث تتحكم في رسم خطاب مبطن بروح التصوف، واليقينيات الرؤيوية الموسوعية والاستشرافية، على نحو يعكس ذكائها واشتغالاتها الذهنية الكبيرة.

تقول:

[أُشعلتْ في الضلوع شعلة حقٍ

                 فأضاءت وقلبها المسؤولُ

رفضت أن تكمّ صوت صهيلٍ

                في رباها وجرحها إذْ يسيلُ

حلوة الروح طيبها بعضُ سحرٍ

                     كمرايا ونورها مصقولُ

***

شعّ في الذهن ربّها في خشوع

            ومناها سماحةٌ والقبولُ ] (6).

تنفرد الشاعرة السورية ريم سليمان الخش، بخصوصية معينة، عن شواعر جيلها، وبعدّها صوتا مهجريا بدّل أو بالأحرى جدد في مفاهيم الأنثوي.

وهي تقنية تعتمدها في المزج بين ما هو رومانسي صاف قائم على إعادة إنتاج مفردات معجمية على صلة بالذاكرة والتراث، والهمّ الإنساني، قفزا فوق جرح اللحظة والحضور الإيديولوجي القاهر، بدرجة أولى.

إنها تملك جرأة خوض هذه الثورة الإبداعية الرصينة والمتعقّلة، من داخل أفلاك القصيدة التي كتبت مفاهيمها تاريخ المجد الأدبي العربي بماء من ذهب.

تمرد عاقل يؤثث كامل خرائط هذه النيوكلاسيكية التي تؤهلها لتخفيف الاصطدام بواقع الاغتراب وويلاته.

[ تضرب الشاعرة السورية ريم سليمان الخش، كما سبق وأشرت في إحدى مقالاتي السابقة، من قلب القصيدة المقفاة، معتقدة بقوة القلب،في زمن استبدّ الجنس البشري،فيه،بكل هذا الجنون، جورا على ذواتهم بالأساس.

تجابه الجلد الإيديولوجي،وتقلب  الطاولة على عصاباته، تضاجع القصيدة،نكاية في حفنة اللصوص والقتلة ](7).

إنها كتابة انقلابية، تمسرح المواقف من الذات والعالم والحياة، تفيض بكامل هذا الجمال، في محاولة لصناعة تواز مابين الإستطيقي والإبستمولوجي، على شاكلة تورط الذات الشاعرة بما يشبه بانورما تنهل مما يمكنه ان يشغل عقل كائن التقنية الجائرة.

مثلما نقرأ لها كذلك، في موضع آخر من مناسبات الدندنة، الدالة على ضمنية الجوانب الرسالية التي يبصمها عمق الصعلة ونبلها:

[على قلبك المطعون تبكي جداولٌ

                      ويجهشُ غيمٌ في عذابك يَشرِقُ

مُلئنا جراحا يا حبيبي كأننا

                        فريسة صيادٍ تفرُّ ويلــــــــحقُ

تفرّ ولكن يفضحُ النزفُ أمرّها

                       ولا يتركُ الصيادُ روحا ويشفقُ.'

تركنا على فيه الزمان نزيفنا

                   خمورا مـــــــــــــع الآلام فيه تُعتقُ

سأكسر كأسي يا حبيبي لعلّني

                     على شذر الحزن المهشم أعتقُ

***

تُثيرُ الليالي المطبقات صواعقي

                     فأرعدُ في بهو الإباء وأطبقُ

وأصرخُ من فوق الصليب مبشّرا

                        فإني اخضرار الدرب إني المحلِّق](8).

هناك صيغة مبالغة ، تستسقى دوالها  من عتبة الديوان، حلاج بعشق مذبح، ففضلا عن أنه عشق منح شرف الإنتساب إلى الحلاج، زعيم الصوفية، فهو مذبّح، على وزن مفعّل.

إذ أن حاجة العالم لزراعة محبة وتعشق، في لا محدوديته، حسب ما قد يسعف في إنجاد المتبقي من إنسانية أتى عليها خراب كوني جارف، يقبع ضرورة آنية وأولوية لا تقبل التسويف أو التأجيل.

[جملة من المعاني الغريبة جدا، تخاتل في دفقها، وقد فرضها السياق التاريخي،قبل أي اعتبار آخر، تحرّضنا على أن نهتف ضدا في واقعنا العابث،نعاند بمقولة:هو الشعر وكفى.

وعدل ما نلتذ معسول هذا الفنّ الأبدي الساحر، وكيف أنه يلوّن جوارحنا،في عمق الحاجة إلى إدمانه، ويطرّزها بلعنته والتي هي جزء من فسيفساء والجة في تشكيلها، لعنتنا الوجودية،عدْله، نجترّ مرارة أن نطبع عالمنا البريء تماما،بكامل هذه البهيمية والشيطنة والآثام.

كذلك هو قلب القصيدة،مرآة صافية للذات التي تبدعها، يسبّح بانفتاح سرمدي،ومقامر،غير آبه للجلادين والذبّاحين في صمّ آذانهم وفقئ أعينهم، إلاّ عن صوت أنانيتهم وعربدتهم وساديتهم،وعجنهم للحظة،مع أن الكل مشترك فيها، بأحلامهم النشاز المفتقرة إلى أبسط صكوك الشرعية.

هذه هي فلسفة الغاويين،عموما، تأخذ منهم الحياة، ولا تعطيهم، يتركون لها ما تحقنهم به،كأقصى ما يسوم الوجع، وتختمر المعاناة، لأن مصيرهم هو من اختارهم.

لذلك هم يتجلّون في غيابهم ويغيبون في حضورهم، ينرسمون لقصائدهم،مع أن تكلفة ذلك باهظة للغاية، كونها تسرقهم من الحياة وتسرق الحياة منهم.](9).

تتناغم طقوسيات استحضار سيرة الحلاج، وتوسل فلسفته الحياتية والوجودية، مع منظومة ما يبدع أغراض التجربة في أقصى مستوياتها الإنسانية.

إنها رمزية الفداء، وما تحيل عليه هذه القيمة، وتترجمه من معاني، توقظ الحسّ الهوياتي وتبقيه متوهجا.

كله، يفيد النضال في شقيه الإبداعي والحياتي، كما يصرّح بفلسفة الانجذاب إلى المنبت، وأسر ذكرياته.

إنها مرايا الطفولة، تعاود الظهور في الذات المبدع، كي تزوذها بالدين الفطري، وتغدق عليها من معسول ما تقطر لها من نعرات البديهية ووازع النواميس التي ترعى ذبالة الملائكية في أعماق الكائن،وما يمتد عنها من نورانية تدعو إلى المقاومة والنضال ضد جميع أشكال هدم المركزية الإنسانية في هذا الكون الفسيح جدا.

تقول :

[عبثا يعاود شكّه لا يفترُ

                    طعن الأحبة رغبةٌ تتضورُ

عبثا يقيم على الدماء صروحه

                   ودم الوفاء مقدسٌ لا يُهدرُ

قد سن في طلب الدماء خناجرا

                      هل للخصام تعقل وتبصرُ؟

إن المحبة رحمة لا تنتهي

                    مهج الأحبة كنزه إذْ يفقــــــرُ

***

قل للقصيدة إن بحرك مؤلمٌ

                       سبعون موتا والخضم الأحمر] (10).

حتى القصيدة، وهي تتيح للذات امتصاص أزمتها، أو بالأحرى تصريفها، وتحويلها إلى ثمرات،ولحظات إيجابية، تكون لها، أي القصيدة، أعراض جانبية، تماما كما الدواء، أي هذا الألم والذي هو من نوع آخر.

بمعنى ما، نحن ندحض ألما بألم، ونقاوم معاناة بأخرى، وندرء أزمة بأزمة يذيلها عطش ما إلى كتابة مغايرة ومختلفة تجب ما قبلها.

هكذا وبذاكرة مثقوبة جدا، نمرر مواقفنا، ونحن نحاول الإفلات مما قد يسومنا به مثل هذا الإغتراب مضاعفا .

[كذلك هو حال القصيدة النضالية،وهي ترتقي بالأنثى إلى فوقية بلا عقد،عبرها، نلفي الذات الشاعرة،تغازل عالم الثلة الناجية،ممن استحقوا لقب الرجولة،بامتياز.

هؤلاء الذين يصفهم القلب خاشعا، حييا، متعثّرا بفيض محبته،ودونهم طوفان الشعر وقيامته، يقصف البقية الفاسدة المفسدة،وكيف أن هذا العالم اصطبغ دما،جراء أخطائهم وتماديهم في الغي والحماقات.

وكذلك هي ريم،في صوت فرادتها، لم نزل ننهل بمعيتها،من كل معنى يوبّخ عالم اللصوص والقتلة، في معنى أن ترسم قصائد الحب، وإن في أقصى صور عنه، وطنا لتصافح القلوب](11).

3 - بنية الدال الشعري

إن ما يجعل التجربة الشعرية للسورية ريم الخش، بهذه القيمة، لهو روح الشعرية ومدى تغليب العناصر البصرية فيها، علما أن الجوانب السمعية، إنما ترسمها خارطة الإنتساب  ــ إبداعيا" إلى العوالم الخليلية.

تعتني الشاعرة بالصور كثيرا،ما يكون له أثرا بالغا على العملية التواصلية، وتوجها يعنى بالذائقة الفنية وينشغل بهموم الإرتقاء بها.

فمنظومة الإنزياحات التي يسجلها الفعل الإبداعي، في هذه التجربة، نجده دالا على إتيان الكتابة من باب الجدية والمسؤولية والإلتزام، لا الاستسهال أو النظم والإرتجالية، كما سبق وأشرنا إلى ذلك.

لأن رصد الواقع بذهنية تراعي كم المواصفات،وترعى خرائطية الإبداع الشعري، بكامل هذه التقنيات في خطوط تماس مع الوعي بدور النيوكلاسيكية في صناعة المنشود، من ابتكار في المفردات والمعاني، حتّى في ظل التعاطي المستفيض مع العابر والهامشي ونثار اليومي.

لأن المحرك الحقيقي في هذه الممارسة، بشكل أساسي، هو الإبداع لغايات إنسانية كبيرة،ومن أجل أهداف سامية، تحكمها رؤية بناء الإنسان والأجيال، ومناشدة محطات خلاص الكائن والعالم.

وفوق ذلك مثل هذا الإلتياع بالكتابة العروضية، وأوجه الإخلاص إليها،واعتبارها أسلوب حياة،وأكثر.

تستحق هذه الشاعرة أن يُلتفت إلى نتاجها الشعري، في ضوء الخطوط العريضة المشار إليها، سلفا، فضلا عن المزيد من تأويلات شعريتها المسكونة بالحس الإنساني، وسلّمية القول الشعري، بحيث تنطلق من الحالة الخاصة،مرورا بالمحلية، كي تفتح امتدادا للهواجس والإنشغالات الإنسانية.

تقول:

 [و وددتُ لو أني ألاطفه

                       زهرٌ ونحلي حطّ يرشفه

و وددتُ لو نحلي يتوه به

                            للسابع المجهول يقذفه

ورغبتُ لو يبقى بكوّته

                            للبرزخ المعسولِ يخطفه

حيث الأقاحي فُتّحت ولها

                       وعلى المروج الخضر ــ مدنفُه

قد عانق الرّيحانَ في دعةٍ

                      وزنابقٌ في العشب تهتفــــــــه

لو أنّ مجرى النهر يجرفه

                        عشقا وللأعماق يلقفـــــــــــه

لا يشتهي إلا البقاء به

                  لا شيء إلا العشق يعرفــــــــــــه

لو أنّ وهج الثغر يـــــــــــــحرقه

                         ولهان لا يُخفى تطرّفـــــــــــــه

كــــــــــــفراشة تُكوى ذؤابتها

                          فتصيحُ : أحلى الحب أعنفـــــــــه](12).

إسهاب في التصوير الفني، يُعطي الشعرية، عمقا في المعنى وموسوعية في الرؤى، وفي الأخير يدثرها بغلاف إنساني، هو صلب الهوية التي تذود عن ريم، في مجمل كتاباتها المنتصر لشتى ألوان الذات المغتربة،والحياة، وهذا الكون التي تنسفه التقنية، وتغييب الخطاب العقلي الراجح، القادر على بذر ثقافة للسلام والتعايش والتلاقح.

دوما ما تكون النواة، تيمة الحب، لأنه هو الأصل، وما عداه فروع.

الملاحظ أن هناك تصالح كبير مع العنصر الطبيعي، الذي هو جزر من المعادلة الإنسانية والكونية، وهناك استثمار جيد من حيث توظيف معجم الأصالة،والمخزون الذاكراتي، على نحو ضاغط باتجاهات اشتراكية، تمقت مناقب الإقصاء والتهميش، وتدين الفوارق الألسنية والعقدية والإيديولوجية، مقابل تبني فلسفة روحية تجعل من ضمن أولوياتها، الهوية الإنسانية المشتركة، مراما وجوديا، فيه من خلاص العالم والإنسان والطبيعة، الشيء الكثير.

ومع أن الخطاب يطغى عليه الحس الحماسي، النهضوي والتقدمي، إلاّ أنه لايقطع مع التراث والذاكرة، بقدر ما يبعث مخزونهما، ويبتر له معمارية ودوالية،طرحه، في أحايين كثيرة جدا، وبذلك،يمكننا القول أن الشاعرة، أفلحت في توصيل رسائل إبداعية في رحم

إنساني، متمرد على حالات التردي والتقهقر السائد، عبر تفجير سلسلة من الأسئلة الوجودية والفلسفية، على نحو خفيض، عاقل النبرة، متّزن.

[ما الذي تريده شاعرة حالمة من وطن مطعون،  تدكّ قلاعه و تهدر دماء أهله و تنسف معالمه في كل وقت وحين ..؟ سوى جرّ المخيلة إلى توليدات بلاغية تستعير فلتات الذات من نوبات الحلم في تصوير فني بديع و مدغدغ لحواس التلقي، يفيض عن أوجاع الإنسان ليرقى إلى علياء التهكّم من أيادي الهدم والفوضى ومجانية الموت.

لينرسم التعبير عن الذات خارج الزمن،متشبعا بالمرجعيات التي يمليها ضمير المحاسبة،وجملة آبقة من الاستنطاقات التي تصب انتهاء وترفد في معين ما ينتصف للانتماء المطموس ويرنو إلى لملمة الهوية المشروخة.

بحيثُ على الدوام، بؤرة التدويرات الشعرية،تختزل في إضفاء الهالة والقداسة على الوطن، مهما جار في شخص مردة هم في النهاية من كرتون،وأشبه برغوة فوقية وفقاعات ما تلبث تضمحل وتتفكك صولتها وتزول.

هكذا يبدأ الخطاب خفيضا هامسا،لينفجر كقنبلة مدوية أخيرا،مشحونا بأوجاع المعنى ومعاني الوجع،زارعا صوت النخوة والكبرياء والإباء في شتى أرجاء الصمت والتواطؤ والبياض.

إنه وجع بنكهة الأنوثة إذ يوبّخ عالم الفرجة،ويطعن في تراكمات أ يديولوجيات الصياغة السلبية لكائن الهامش لمشاهد الذائب في خيبة ومرارة وتغضّب المكتفي بالفرجة إن طواعية أو إكراها.

وتستمرّ الشاعرة السورية المتألقة ريم الخش،متأبطة لتجارب المستجدات الميدانية وإفرازات الخبرة الحياتية، كما مستأنسة بعوالم الكوميديا الساخرة،ومطوّرة أساليب نضالها،ومتبنية لثورة الشرفاء،عزاؤها في ذلك، الحرف الناري غير المهادن،وبساطة وبراءة الورق، ولون المحاججة المكشوفة والعارية والكافرة بفلسفة الأقنعة.

وإذن... لنحاول فض بكارة هذه المستملحات المقتبسة من التجربة الغضة والثرية لشاعرتنا، قصد الوقوف عند كمّ زاه من الميكانيزمات المترجمة لطاقة دفينة مزلزلة وملغية للحدود بين الأصوات لدى الجنسين حال تعلق المسألة بشعرية الكلاسيكيات الحديثة الرافلة بالمحطات الطوباوية في مساءلة الهوية بمعزل عما قد يشوه المعنى الرّسالي ويبعث على تثاقل التراكيب ويطال الخيط الناظم للأنساق في إقحام فلكلوري لموضوعة العشق عبر تنويعات وجدانية محتفية بالطبيعة والجمال وباعتماد إيقاعات كريستالية موغلة في البعد القيميّ والصوفي للإنسان. ] (13).

كما نطالع للشاعرة قولها، كذلك :

 [ تائهٌ خانني انكسارُ المرايا

                          فاقد الوزن مثقلٌ بالمنايا

لست أدري حقيقة أيّ وجه

                       يرتديني مشككا في خُطايا

أيّ جَدٍّ مكبّلٍ في عروقي

                    في اصطراع مع الوجود أنايا

وذنوبي بلعنة تقتفيني

                          ليس إلايَ متْعبٌ في البرايا    

موجع الروح نازفٌ منذ دهر

                          خانني الوجه لم يعدْ في المرايا

غاب عني وظلّه في انحدارٍ

                            طينُ ذاتي مصدعٌ في الحكايا

أنطقُ الضاد خائفا من زماني

                            ووجودي ملغّمٌ بالرزايا

واتهامي بصمتي كان طعنا

                        كـــــــــــــاتهامٍ لمريمٍ بالخطايا

  بيدَ أني على الدوام صبورٌ

                              صادق العهد حاملٌ للوصايا

سوف أحيا بعزّة النور أنجو

                          إنّ ربي مُخلّصي ـــ من أسايا

سوف أمضي ــ بوجهي الكان سمحا

                          أهب الحب مُخْلِصٌ في النوايا ] (14).

 بهذا يمكن استيعاب هذه الشعرية المغرقة في ملامسة الصميم الإنساني،والطاعنة بقوة الأنثوي،وهي تنشج مثل هذه الصياغات المارقة عن ما هو منمط ومألوف، كي تصدم بأجواء الغرائبية، مثلما تبصم أبجدياتها، الروح المغتربة. 

 

احمد الشيخاوي - شاعر وناقد مغربي

..............................

هوامش:              

(1) قصيدة " وكم ظنّت المرآة أنّك أحمق"،صفحة 10/11، ديوان " حلاج بعشق مذبّح".

(2) مقتطف من قصيدة " لا أبعد الله من في حبهم صدقوا"، صفحة 43، ديوان " حلاج بعشق مذبح".

*(3) مقتطف من قصيدة " وصلّت مع الضحكة التاسعة " صفحة 9، ديوان " حلاج بعشق مذبّح".

*(4) مقتطف من مقالة "معنى أن ترسم بقصائد الحب وطنا"، احمد الشيخاوي، جريدة النهار اللبنانية عدد5تشرين الثاني.

*(5) مقتطف من قصيدة " وكأني بروحه الموسيقى"، صفحة 32/33، ديوان " حلاج بعشق مذبح". 

*(6) مقتطف من قصيدة" صنت نفسي " صفحة 58،ديوان " حلاج بعشق مذبح".

*(7) مقتطف من مقالة " معنى أن ترسم بقصائد الحب وطنا "، احمد الشيخاوي، جريدة النهار اللبنانية عدد5تشرين الثاني.

*(8)مقتطف من قصيدة " وإني انقلاب في الفصول وثورة "، صفحة 67/68،ديوان" حلاج بعشق مذبّح".

*(9) مقتطف من مقالة " معنى أن ترسم بقصائد الحب وطنا "، احمد الشيخاوي، جريدة النهار اللبنانية عدد5تشرين الثاني.

*(10) مقتطف من قصيدة " ويشقّ قلبي بدرها المتكوّر"،صفحة98، ديوان " حلاج بعشق مذبح".

*(11) مقتطف من مقالة " معنى أن ترسم بقصائد الحب وطنا "، احمد الشيخاوي، جريدة النهار اللبنانية عدد5تشرين الثاني.

*(12) قصيدة " أحلى الحب أعنفه"،ديوان " سأزرع الأرض آلافا من القبل"، صفحة5، السكرية، طبعة 2019.

*(13) مقتطف من مقالة " الشاعرة السورية ريم الخش في دوامة أسئلة الإنتماء "، أحمد الشيخاوي، الزمان اللندنية.

*(14) مقتطف من قصيدة " أنطق الضاد خائفا من زماني"، صفحة 11/12،ديوان " سأزرع الأرض آلافا من القبل"، السكرية، طبعة2018.

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم